في الأربعة فالصنف الواحد من المدخر المقتات، وقد قيل: الصنف الواحد المدخر وإن لم يكن مقتاتا، ومن شرط الادخار عندهم أن يكون في الأكثر، وقال بعض أصحابه: الربا في الصنف المدخر وإن كان نادر الادخار. وأما العلة عندهم في منع التفاضل في الذهب والفضة فهو الصنف الواحد أيضا مع كونهما رءوسا للأثمان وقيما للمتلفات، وهذه العلة هي التي تعرف عندهم بالقاصرة؛ لأنها ليست موجودة عندهم في غير الذهب والفضة.
وأما علة منع النساء عند المالكية في الأربعة المنصوص عليها فهو الطعم والادخار دون اتفاق الصنف، ولذلك إذا اختلفت أصنافها جاز عندهم التفاضل دون النسيئة، ولذلك يجوز التفاضل عندهم في المطعومات التي ليست مدخرة، أعني في الصنف الواحد منها، ولا يجوز النساء، أما جواز التفاضل؛ فلكونها ليست مدخرة، وقد قيل: إن الادخار شرط في تحريم التفاضل في الصنف الواحد، وأما منع النساء فيها؛ فلكونها مطعومة مدخرة، وقد قلنا: إن الطعم بإطلاق علة لمنع النساء في المطعومات.
وأما الشافعية فعلة منع التفاضل عندهم في هذه الأربعة هو الطعم فقط مع اتفاق الصنف الواحد، وأما علة النساء فالطعم دون اعتبار الصنف مثل قول مالك، وأما الحنفية فعلة منع التفاضل عندهم في الستة واحدة، وهو الكيل أو الوزن مع اتفاق الصنف، وعلة النساء فيها اختلاف الصنف ما عدا النحاس والذهب، فإن الإجماع انعقد على أنه يجوز فيها النساء، ووافق الشافعي مالكا(47/25)
في علة منع التفاضل والنساء في الذهب والفضة، أعني أن كونهما رءوسا للأثمان، وقيما للمتلفات، هو عندهم علة منع النسيئة إذا اختلف الصنف، فإذا اتفقا منع التفاضل، والحنفية تعتبر في المكيل قدرا يتأتى فيه الكيل، وسيأتي أحكام الدنانير والدراهم بما يخصها في كتاب الصرف، وأما هاهنا فالمقصود هو تبيين مذاهب الفقهاء في علل الربا المطلق في هذه الأشياء، وذكر عمدة دليل كل فريق منهم.
فنقول: إن الذين قصروا صنفي الربا على هذه الأصناف الستة فهم أحد صنفين: إما قوم نفوا القياس في الشرع، أعني: استنباط العلل من الألفاظ وهم: الظاهرية، وإما قوم نفوا قياس الشبه، وذلك أن جميع من ألحق المسكوت هاهنا بالمنطوق به، فإنما ألحقه بقياس الشبه لا بقياس العلة، إلا ما حكي عن ابن الماجشون أنه اعتبر في ذلك المالية وقال: علة منع الربا إنما هي حياطة الأموال، يريد منع العين.
وأما القاضي أبو بكر الباقلاني فلما كان قياس الشبه عنده ضعيفا، وكان لقياس المعنى عنده أقوى منه اعتبر في هذا الموضع قياس المعنى؛ إذ لم يتأت له قياس علة، فألحق الزبيب فقط بهذه الأصناف الأربعة؛ لأنه زعم أنه في معنى التمر، ولكل واحد من هؤلاء- أعني من القائسين- دليل في استنباط الشبه الذي اعتبره في إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من هذه الأربعة، أما الشافعية فإنهم قالوا في ثبيت علتهم الشبهية: إن الحكم إذا علق باسم مشتق دل على أن ذلك المعنى الذي اشتق منه الاسم هو علة الحكم، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 38(47/26)
فلما علق الحكم بالاسم المشتق، وهو السارق، علم أن الحكم متعلق بنفس السرقة. قالوا: وإذا كان هذا هكذا، وكان قد جاء في حديث سعيد بن عبد الله أنه قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الطعام بالطعام مثلا بمثل (1) » . فمن البين أن الطعم هو الذي علق به الحكم.
وأما المالكية فإنها زادت على الطعم إما صفة واحدة وهو الادخار على ما في الموطأ، وإما صفتين وهو الادخار والاقتيات على ما اختاره البغداديون، وتمسكت في استنباط هذه العلة بأنه لو كان المقصود الطعم وحده لا كتفي بالتنبيه على ذلك بالنص على واحد من تلك الأربعة الأصناف المذكورة، فلما ذكر منها عددا علم أنه قصد بكل واحد منها التنبيه على ما في معناه، وهي كلها يجمعها الاقتيات والادخار.
أما البر والشعير فنبه بهما على أصناف الحبوب المدخرة، ونبه بالتمر على جميع أنواع الحلاوات المدخرة كالسكر والعسل والزبيب، ونبه بالملح على جميع التوابل المدخرة لإصلاح الطعام، وأيضا فإنهم قالوا: لما كان معقول المعنى في الربا إنما هو أن لا يغبن بعض الناس بعضا، وأن تحفظ أموالهم، فواجب أن يكون ذلك في أصول المعايش وهي الأقوات.
وأما الحنفية فعمدتهم في اعتبار المكيل والموزون أنه صلى الله عليه وسلم لما علق التحليل باتفاق الصنف واتفاق القدر،
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .(47/27)
وعلق التحريم باتفاق الصنف واختلاف القدر في قوله صلى الله عليه وسلم لعامله بخيبر من حديث أبي سعيد وغيره: «إلا كيلا بكيل يدا بيد (1) » ، رأوا أن التقدير - أعني الكيل أو الوزن - هو المؤثر في الحكم كتأثير الصنف، وربما احتجوا بأحاديث ليست مشهورة، فيها تنبيه قوي على اعتبار الكيل أو الوزن.
منها أنهم رووا في بعض الأحاديث المتضمنة المسميات المنصوص عليها في حديث عبادة زيادة، وهي كذلك ما يكال ويوزن، وفي بعضها وكذلك المكيال والميزان هذا نص لو صحت الأحاديث، ولكن إذا تؤمل الأمر من طريق المعنى ظهر -والله أكلم- أن علتهم أولى العلل، وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا إنما هو لمكان الغبن الكثير الذي فيه.
وأن العدل في المعاملات هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات جعل الدينار والدرهم لتقويمها، أعني تقديرها، ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات، أعني غير الموزونة والمكيلة، العدل فيها إنما هو في وجود النسبة، أعني أن تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه نسبة قيمة الشيء الآخر إلى جنسه، مثال ذلك أن العدل إذا باع إنسان فرسا بثياب هو أن تكون نسبة قيمة الفرس إلى الأفراس هي نسبة قيمة ذلك الثوب إلى الثياب، فإن كان ذلك الفرس قيمته خمسون فيجب أن تكون تلك الثياب قيمتها خمسون، فليكن مثلا الذي يساوي هذا القدر عددها هو عشرة أثواب، فإن اختلاف هذه المبيعات بعضها ببعض في العدد واجب في المعاملة العدالة، أعني أن يكون عديل فرس
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (3/81) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(47/28)
عشرة أثواب في المثل.
وأما الأشياء المكيلة الموزونة فلما كانت ليست تختلف كل الاختلاف، وكانت منافعها متقاربة ولم تكن حاجة ضرورية لمن كان عنده منها صنف أن يستبدله بذلك الصنف بعينه إلا على جهة الصنف، كان العدل في هذه إنما هو بوجود التساوي في الكيل أو الوزن إذا كانت لا تتفاوت في المنافع، وأيضا فإن منع التفاضل في هذه الأشياء يوجب أن لا يقع فيها تعامل؛ لكون منافعها غير مختلفة، والتعامل إنما يضطر إليه في المنافع المختلفة، فإذا منع التفاضل في هذه الأشياء، أعني: المكيلة والموزونة، علتان: إحداهما: وجود العدل فيها، والثانية: منع المعاملة إذ كانت المعاملة بها من باب الصرف، وأما الدينار والدرهم فعلة المنع فيها أظهر؛ إذ كانت هذه ليس المقصود منها الربح، وإنما المقصود بها تقدير الأشياء التي لها منافع ضرورية.
وروى مالك عن سعيد بن المسيب أنه كان يعتبر في علة الربا في هذه الأصناف الكيل والطعم، وهو معنى جيد؛ لكون الطعم ضروريا في أقوات الناس، فإنه يشبه أن يكون حفظ العين وحفظ الصرف فيما هو قوت أهم منه فيما ليس هو قوتا، وقد روي عن بعض التابعين أنه اعتبر في الربا الأجناس التي تجب فيها الزكاة، وعن بعضهم الانتفاع مطلقا، أعني المالية، وهو مذهب ابن الماجشون.(47/29)
الفصل الثاني
في معرفة الأشياء التي يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النساء
فيجب من هذا أن تكون علة امتناع النسيئة في الربويات هي الطعم عند مالك والشافعي، وأما في غير الربويات مما ليس بمطعوم، فإن علة منع النسيئة فيه عند مالك هو الصنف الواحد المتفق المنافع مع التفاضل، وليس عند الشافعي نسيئة في غير الربويات، وأما أبو حنيفة فعلة منع النساء عنده هو الكيل في الربويات وفي غير الربويات، الصنف الواحد متفاضلا كان أو غير متفاضل، وقد يظهر من ابن القاسم عن مالك أنه يمنع النسيئة في هذه؛ لأنه عنده من باب السلف الذي يجر منفعة.
الفصل الثالث
في معرفة ما يجوز فيه الأمران جميعا
وأما ما يجوز فيه الأمران جميعا، أعني التفاضل والنساء، فما لم يكن ربويا عند الشافعي، وأما عند مالك فما لم يكن ربويا ولا كان صنفا واحدا متماثلا أو صنفا واحدا بإطلاق على مذهب أبي حنيفة، ومالك يعتبر في الصنف المؤثر في التفاضل في(47/30)
الربويات، وفي النساء في غير الربويات اتفاق المنافع واختلافها، فإذا اختلفت جعلها صنفين وإن كان الاسم واحدا، وأبو حنيفة يعتبر الاسم وكذلك الشافعي، وإن كان ليس الصنف عنده مؤثرا إلا في الربويات فقط، أعني أنه يمنع التفاضل فيه، وليس هو عنده علة للنساء أصلا، فهذا هو تحصيل مذاهب هؤلاء الفقهاء الثلاثة في هذه الفصول الثلاث، فأما الأشياء التي لا يجوز فيها النسيئة فإنها قسمان: منها ما لا يجوز فيها التفاضل، وقد تقدم ذكرها، ومنها ما يجوز فيها التفاضل.
فأما الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل: فعلة امتناع النسيئة فيها هو الطعم عند مالك، وعند الشافعي الطعم فقط، وعند أبي حنيفة مطعومات الكيل والوزن، فإذا اقترن بالطعم اتفاق الصنف حرم التفاضل عند الشافعي، وإذا اقترن وصف ثالث وهو الادخار حرم التفاضل عند مالك، وإذا اختلف الصنف جاز التفاضل وحرمت النسيئة.
وأما الأشياء التي ليس يحرم التفاضل فيها عند مالك، فإنها صنفان: إما مطعومة، وإما غير مطعومة، فأما المطعومة فالنساء عنده لا يجوز فيها، وعلة المنع الطعم، وأما غير المطعومة فإنه لا يجوز فيها النساء عنده فيما اتفقت منافعه مع التفاضل، فلا يجوز عنده شاة واحدة بشاتين إلى أجل إلا أن تكون إحداهما حلوبة والأخرى أكولة، هذا هو المشهور عنه، وقد قيل: إنه يعتبر اتفاق المنافع دون التفاضل، فعلى هذا لا يجوز عنده شاة حلوبة بشاة حلوبة إلى أجل، فأما إذا اختلفت المنافع فالتفاضل والنسيئة عنده جائزان وإن كان الصنف واحدا، وقيل:(47/31)
يعتبر اتفاق الأسماء مع اتفاق المنافع، والأشهر أن لا يعتبر، وقد قيل: يعتبر، وأما أبو حنيفة فالمعتبر عنده في منع النساء ما عدا التي لا يجوز عنده فيها التفاضل، هو اتفاق الصنف اتفقت المنافع أو اختلفت، فلا يجوز عنده شاة بشاة ولا بشاتين نسيئة، وإن اختلفت منافعها.
وأما الشافعي فكل ما لا يجوز التفاضل عنده في الصنف الواحد يجوز فيه النساء، فيجيز شاة بشاتين نسيئة ونقدا، وكذلك شاة بشاة، ودليل الشافعي حديث عمرو بن العاص: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ في قلائص الصدقة البعير بالبعيرين إلى الصدقة (1) » ، قالوا: فهذا التفاضل في الجنس الواحد مع النساء.
وأما الحنفية فاحتجت بحديث الحسن عن سمرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان (2) » ، قالوا: وهذا يدل على تأثير الجنس على الانفراد في النسيئة، وأما مالك فعمدته في مراعاة منع النساء عند اتفاق الأغراض سد الذريعة، وذلك أنه لا فائدة في ذلك، إلا أن يكون من باب سلف يجر نفعا وهو محرم، وقد قيل عنه أنه أصل بنفسه، وقد قيل عن الكوفيين أنه لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، اختلف الجنس أو اتفق، على ظاهر حديث سمرة، فكأن الشافعي ذهب مذهب الترجيح؛ لحديث عمرو بن العاص، والحنفية لحديث سمرة مع التأويل له؛ لأن ظاهره يقتضي أن لا يجوز الحيوان بالحيوان نسيئة، اتفق الجنس أو اختلف، وكأن مالكا ذهب مذهب الجمع،
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3357) ، مسند أحمد بن حنبل (2/171) .
(2) سنن الترمذي كتاب البيوع (1237) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4620) ، سنن أبو داود البيوع (3356) ، سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2270) ، مسند أحمد بن حنبل (5/19) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2564) .(47/32)
فحمل حديث سمرة على اتفاق الأغراض، وحديث عمرو بن العاص على اختلافها، وسماع الحسن من سمرة مختلف فيه، ولكن صححه الترمذي، ويشهد لمالك ما رواه الترمذي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحيوان اثنان بواحد، لا يصلح نساء، ولا بأس به يدا بيد (1) » ، وقال ابن المنذر: «ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى عبدا بعبدين أسودين، واشترى جارية بسبعة أرؤس (2) » .
وعلى هذا الحديث يكون بيع الحيوان بالحيوان يشبه أن يكون أصلا بنفسه، لا من قبل سد ذريعة.
واختلفوا فيما لا يجوز بيعه نساء، هل من شرطه التقابض في المجلس قبل الافتراق في سائر الربويات بعد اتفاقهم في اشتراط ذلك في المصارفة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تبيعوا منها غائبا بناجز (3) » ، فمن شرط فيها التقابض في المجلس شبهها بالصرف، ومن لم يشترط ذلك قال: إن القبض قبل التفرق ليس شرطا في البيوع إلا ما قام الدليل عليه، ولما قام الدليل على الصرف فقط بقيت سائر الربويات على الأصل.
__________
(1) سنن الترمذي كتاب البيوع (1238) ، سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2271) ، مسند أحمد بن حنبل (3/382) .
(2) صحيح مسلم النكاح (1365) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2997) ، سنن ابن ماجه التجارات (2272) ، مسند أحمد بن حنبل (3/246) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(47/33)
وقال أيضا في البداية:
كتاب السلم
وفي هذا الكتاب ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في محله وشروطه.
الباب الثاني: فيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه السلم، وما يعرض في ذلك من الإقالة والتعجيل والتأخير.
الباب الثالث: في اختلافهم في السلم.
الباب الأول:
أما محله فإنهم أجمعوا على جوازه في كل ما يكال أو يوزن؛ لما ثبت من حديث ابن عباس المشهور، قال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلمون في التمر السنتين والثلاث، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أسلف فليسلف في ثمن معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (1) » ، واتفقوا على امتناعه فيما لا يثبت في الذمة، وهي الدور والعقار.
وأما سائر ذلك من العروض والحيوان، فاختلفوا فيها، فمنع ذلك داود وطائفة من أهل الظاهر؛ مصيرا إلى ظاهر هذا الحديث، والجمهور على أنه جائز في العروض التي تنضبط بالصفة والعدد، واختلفوا من ذلك فيما ينضبط مما لا ينضبط بالصفة، فمن ذلك الحيوان والرقيق، فذهب مالك والشافعي والأوزاعي
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2239) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .(47/34)
والليث إلى أن السلم فيهما جائز، وهو قول ابن عمر من الصحابة، وقال أبو حنيفة والثوري وأهل العراق: لا يجوز السلم في الحيوان، وهو قول ابن مسعود، وعن عمر في ذلك قولان، وعمدة أهل العراق في ذلك ما روي عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السلف في الحيوان» ، وهذا الحديث ضعيف عند الفريق الأول، وربما احتجوا أيضا بنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة.
وعمدة من أجاز السلم في الحيوان ما روي عن ابن عمر: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفذت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلاص الصدقة، فأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة (1) » . وحديث أبي رافع أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا. قالوا: وهذا كله يدل على ثبوته في الذمة.
فسبب اختلافهم شيئان: أحدهما: تعارض الآثار في هذا المعنى، والثاني: تردد الحيوان بين أن يضبط بالصفة أو لا يضبط، فمن نظر إلى تباين الحيوان في الخلق والصفات، وبخاصة صفات النفس، قال: لا تنضبط، ومن نظر إلى تشابهها قال: تنضبط، ومنها اختلافهم في البيض والدر وغير ذلك، فلم يجز أبو حنيفة السلم في البيض، وأجازه مالك بالعدد، وكذلك في اللحم أجازه مالك والشافعي، ومنعه أبو حنيفة، وكذلك السلم في الرءوس والأكارع أجازه مالك، ومنعه أبو حنيفة، واختلف في ذلك قول الشافعي، وكذلك السلم في الدر والفصوص أجازه مالك ومنعه الشافعي، وقصدنا من هذه المسائل إنما هو الأصول الضابطة
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3357) ، مسند أحمد بن حنبل (2/171) .(47/35)
للشريعة لا إحصاء الفروع؛ لأن ذلك غير منحصر.
وأما شروطه: فمنها مجمع عليها، ومنها مختلف فيها. فأما المجمع عليها فهي ستة:
منها: أن يكون الثمن والمثمون مما يجوز فيه النساء، وامتناعه فيما لا يجوز فيه النساء، وذلك إما اتفاق المنافع على ما يراه مالك رحمه الله، وإما اتفاق الجنس على ما يراه أبو حنيفة، وإما اعتبار الطعم مع الجنس على ما يراه الشافعي في علة النساء.
ومنها: أن يكون مقدرا إما بالكيل أو الوزن أو العدد إن كان مما شأنه أن يلحقه التقدير، أو منضبطا بالصفة إن كان المقصود منه الصفة.
ومنها: أن يكون موجودا عند حلول الأجل.
ومنها: أن يكون الثمن غير مؤجل أجلا بعيدا؛ لئلا يكون من باب الكالئ بالكالئ، هذا في الجملة.
واختلفوا في اشتراط اليومين والثلاثة في تأخير نقد الثمن بعد اتفاقهم على أنه لا يجوز في المدة الكثيرة ولا مطلقا، فأجاز مالك اشتراط تأخير اليومين والثلاثة، وكذلك أجاز تأخيره بلا شرط، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن من شرطه التقابض في المجلس، كالصرف فهذه ستة متفق عليها.
واختلفوا في أربعة: أحدها: الأجل، هل هو شرط فيه أم لا؟ والثاني: هل من شرطه أن يكون جنس المسلم فيه موجودا(47/36)
في حال عقد السلم أم لا؟ والثالث: اشتراط مكان دفع المسلم فيه، والرابع: أن يكون الثمن مقدرا إما مكيلا، وإما موزونا، وإما معدودا، وأن لا يكون جزافا.
فأما الأجل، فإن أبا حنيفة هو عنده شرط بلا خلاف عنه في ذلك.
وأما مالك فالظاهر من مذهبه والمشهور عنه أنه من شرط السلم، وقد قيل أنه يتخرج من بعض الروايات عنه جواز السلم الحال.
وأما اللخمي فإنه فصل الأمر في ذلك فقال: إن السلم في المذهب يكون على ضربين: سلم حال، وهو الذي يكون ممن شأنه بيع تلك السلعة، وسلم مؤجل، وهو الذي يكون ممن ليس من شأنه بيع تلك السلعة.
وعمدة من اشترط الأجل شيئان: ظاهر حديث ابن عباس، والثاني: أنه إذا لم يشترط فيه الأجل كان من باب بيع ما ليس عند البائع المنهي عنه.
وعمدة الشافعي أنه إذا جاز مع الأجل، فهو حالا أجوز؛ لأنه أقل غررا، وربما استدلت الشافعية بما روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى جملا من أعرابي بوسق تمر، فلما دخل البيت لم يجد التمر، فاستقرض النبي صلى الله عليه وسلم تمرا وأعطاه إياه» . قالوا: فهذا هو شراء حال بتمر في الذمة.
وللمالكية من طريق المعنى أن السلم إنما جوز لموضع(47/37)
الارتفاق، ولأن المسلف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاص المسلم فيه، والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة، وإذا لم يشترط الأجل زال هذا المعنى.
واختلفوا في الأجل في موضعين: أحدهما: هل يقدر بغير الأيام والشهور مثل الجذاذ والقطاف والحصاد والموسم؟
والثاني: في مقداره من الأيام، وتحصيل مذهب مالك في مقداره من الأيام أن المسلم فيه على ضربين: ضرب يقتضى بالبلد المسلم فيه، وضرب يقتضى بغير البلد الذي وقع فيه السلم، فإن اقتضاه في البلد المسلم فيه، فقال ابن القاسم: إن المعتبر في ذلك أجل تختلف فيه الأسواق، وذلك خمسة عشر يوما أو نحوها.
وروى ابن وهب عن مالك أنه يجوز لليومين والثلاثة، وقال ابن عبد الحكم: لا بأس به إلى اليوم الواحد، وأما ما يقتضى ببلد آخر فإن الأجل عندهم هو قطع المسافة التي بين البلدين قلت أو كثرت، وقال أبو حنيفة: لا يكون أقل من ثلاثة أيام، فمن جعل الأجل شرطا غير معلل، اشترط منه أقل ما ينطلق عليه الاسم، ومن جعله شرطا معللا باختلاف الأسواق اشترط من الأيام ما تختلف فيه الأسواق غالبا، وأما الأجل إلى الجذاذ والحصاد وما أشبه ذلك، فأجازه مالك، ومنعه أبو حنيفة والشافعي.
وأما اختلافهم في هل من شرط السلم أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حين عقد السلم؟ فإن مالكا والشافعي وأحمد وإسحاق وأبا ثور لم يشترطوا ذلك، وقالوا: يجوز السلم في غير وقت إبانه، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري(47/38)
والأوزاعي: لا يجوز السلم إلا في إبان الشيء المسلم فيه.
فحجة من لم يشترط الإبان ما ورد في حديث ابن عباس أن الناس كانوا يسلمون في التمر السنتين والثلاث، فأقروا ذلك ولم ينهوا عنه.
وعمدة الحنفية ما روي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسلموا في النخل حتى يبدو صلاحها (1) » . وكأنهم رأوا أن الغرر يكون فيه أكثر إذا لم يكن موجودا في حال العقد، وكأنه يشبه بيع ما لم يخلق أكثر، وإن كان ذلك معينا وهذا في الذمة، وبهذا فارق السلم بيع ما لم يخلق.
وأما الشرط الثالث: وهو مكان القبض، فإن أبا حنيفة اشترطه تشبيها بالزمان، ولم يشترطه غيره وهم الأكثر، وقال القاضي أبو محمد: الأفضل اشتراطه، وقال ابن المواز: ليس يحتاج إلى ذلك.
وأما الشرط الرابع: وهو أن يكون الثمن مقدرا مكيلا أو موزونا أو معدودا أو مذروعا لا جزافا. فاشترط ذلك أبو حنيفة، ولم يشترط الشافعي ولا صاحبا أبي حنيفة أبو يوسف ومحمد، قالوا: وليس يحفظ عن مالك في ذلك نص إلا أنه يجوز عنده بيع الجزاف إلا فيما يعظم الغرر فيه على ما تقدم من مذهبه، وينبغي أن تعلم أن التقدير في السلم يكون بالوزن فيما يمكن فيه الوزن، وبالكيل فيما يمكن فيه الكيل، وبالذرع فيما يمكن فيه الذرع، وبالعدد فيما يمكن فيه العدد، وإن لم يمكن فيه أحد هذه
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1486) ، صحيح مسلم البيوع (1534) ، سنن الترمذي البيوع (1300) ، سنن النسائي البيوع (4549) ، سنن أبو داود البيوع (3367) ، سنن ابن ماجه التجارات (2214) ، مسند أحمد بن حنبل (2/123) ، موطأ مالك البيوع (1303) ، سنن الدارمي البيوع (2555) .(47/39)
التقديرات، انضبط بالصفات المقصودة من الجنس، مع ذكر الجنس إن كان أنواعا مختلفة، أو مع تركه إن كان نوعا واحدا، ولم يختلفوا أن السلم لا يكون إلا في الذمة، وأنه لا يكون في معين، وأجاز مالك السلم في قرية معينة إذا كانت مأمونة، وكأنه رآها مثل الذمة.(47/40)
الباب الثاني
وفي هذا الباب فروع كثيرة لكن نذكر منها المشهور
مسألة: اختلف العلماء فيمن أسلم في شيء من الثمر، فلما حل الأجل تعذر تسليمه حتى عدم ذلك المسلم فيه، وخرج زمانه، فقال الجمهور: إذا وقع ذلك كان المسلم بالخيار بين أن يأخذ الثمن أو يصبر إلى العام القابل، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن القاسم، وحجتهم أن العقد وقع على موصوف في الذمة فهو باق على أصله، وليس من شرط جوازه أن يكون من ثمار هذه السنة، وإنما هو شيء شرطه المسلم، فهو في ذلك بالخيار، وقال أشهب من أصحاب مالك: ينفسخ السلم ضرورة، ولا يجوز التأخير، وكأنه رآه من باب الكالئ بالكالئ، وقال سحنون: ليمس له أخذ الثمن، وإنما له أن يصبر إلى القابل، واضطرب قول مالك في هذا، والمعتمد عليه في هذه المسألة ما رواه أبو حنيفة والشافعي وابن القاسم، وهو الذي اختاره أبو بكر الطرطوشي، والكالئ بالكالئ المنهي عنه إنما هو المقصود لا الذي يدخل اضطرارا.(47/40)
مسألة: اختلف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه قبل قبضه، فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا، وهم القائلون بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق، وتمسك أحمد وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه في غيره (1) » .
وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين:
أحدهما: إذا كان المسلم فيه طعاما، وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترط في بيعه القبض هو الطعام على ما جاء علية النص في الحديث.
والثاني: إذا لم يكن المسلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم مالا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله، مثل أن يكون المسلم فيه عرضا، والثمن عرضا مخالفا له، فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئا من جنس ذلك العرض الذي هو الثمن، وذلك أن هذا يدخله إما سلف وزيادة إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال السلم، وإما ضمان وسلف إن كان مثله أو أقل، وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما، لم يجز أن يأخذ فيه طعاما آخر أكثر منه، لا من جنسه ولا من غير جنسه، فإن كان مثل طعامه في الجنس والكيل والصفة فيما حكاه عبد الوهاب جاز؛ لأنه يحمله على العروض، وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .(47/41)
الطعام المسلم فيه طعاما من صفته، وإن كان أقل جودة؛ لأنه عنده من باب البدل في الدنانير والإحسان، مثل أن يكون له عليه قمح، فيأخذ بمكيلته شعيرا، وهذا كله من شرطه عند مالك أن يتأخر القبض؛ لأنه يدخله الدين بالدين، وإن كان رأس مال السلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه، جاز ما لم يكن أكثر منه، ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة، إذا كان مثله أو أقل، وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال المسلم.
وأما بيع السلم من غير المسلم إليه، فيجوز بكل شيء يجوز به التبايع ما لم يكن طعاما؛ لأنه يدخله بيع الطعام قبل قبضه.
وأما الإقالة فمن شرطها عند مالك أن لا يدخلها زيادة ولا نقصان، فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع، ودخلها ما يدخل البيوع، أعنى أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال مثل أن يتذرع إلى بيع وسلف، أو إلى ضع وتعجل، أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه. مثال في ذلك في دخول بيع وسلف به إذا حل الأجل، فأقاله على أن أخذ البعض وأقال من البعض، فإنه لا يجوز عنده؛ فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف، وذلك جائز عند الشافعي وأبي حنيفة؛ لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع.
مسألة: اختلف العلماء في الشراء برأس مال السلم من المسلم إليه شيئا بعد الإقالة بما لا يجوز قبل الإقالة، فمن العلماء من لم يجزه أصلا، ورأى أن الإقالة ذريعة إلى أن يجوز من ذلك(47/42)
ما لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه ومالك وأصحابه إلا أن عند أبي حنيفة لا يجوز على الإطلاق، إذ كان لا يجوز عنده بيع المسلم فيه قبل القبض على الإطلاق، ومالك يمنع ذلك في المواضع التي يمنع بيع المسلم فيه قبل القبض على ما فصلناه قبل هذا من مذهبه، ومن العلماء من أجازه، وبه قال الشافعي والثوري، وحجتهم أن بالإقالة قد ملك رأس ماله، فإذا ملكه جاز له أن يشتري به ما أحب، والظن الرديء بالمسلمين غير جائز، قال: وأما حديث أبي سعيد فإنه إنما وقع النهي فيه قبل الإقالة.
مسألة: اختلفوا إذا ندم المبتاع في السلم فقال للبائع: أقلني وأنظرك بالثمن الذي دفعت إليك، فقال مالك وطائفة: ذلك لا يجوز، وقال قوم: يجوز، واعتل مالك في ذلك مخافة أن يكون المشتري لما حل له الطعام على البائع أخره عنه على أن يقيله، فكان ذلك من باب بيع الطعام إلى أجل قبل أن يستوفى، وقوم اعتلوا لمنع ذلك بأنه باب فسخ الدين بالدين، والذين رأوه جائزا رأوا أنه من باب المعروف والإحسان الذي أمر الله تعالى به. قال رسول صلى الله عليه وسلم: «من أقال مسلما صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة، ومن أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (1) » .
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3460) ، سنن ابن ماجه التجارات (2199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .(47/43)
ب- وقال ابن قدامة - رحمه الله- في المغني:
باب الربا والصرف
الربا في اللغة: هو الزيادة. قال الله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (1) ، وقال: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (2) ، أي: أكثر عددا، يقال: أربى فلان على فلان إذا زاد عليه.
وهو في الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة. وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) ، وما بعدها من الآيات.
وأما السنة: فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات. قيل: يا رسول الله ما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات (4) » . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه، (5) » متفق عليهما في أخبار سوى هذين كثيرة، وأجمعت الأمة على أن الربا محرم.
__________
(1) سورة الحج الآية 5
(2) سورة النحل الآية 92
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .
(5) صحيح مسلم المساقاة (1597، 1598) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .(47/44)
(فصل) والربا على ضربين: ربا الفضل، وربا النسيئة. وأجمع أهل العلم على تحريمهما. وقد كان في ربا الفضل اختلاف بين الصحابة. فحكي عن ابن عباس، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، وابن الزبير، أنهم قالوا: إنما الربا في النسيئة؛ لقوله عليه السلام: «لا ربا إلا في النسيئة (1) » رواه البخاري.
والمشهور من ذلك قول ابن عباس، ثم إنه رجع إلى قول الجماعة، وروى ذلك الأثرم بإسناده، وقاله الترمذي، وابن المنذر وغيرهم، وقال سعيد بإسناده عن أبي صالح قال: (صحبت ابن عباس حتى مات، فوالله ما رجع عن الصرف) ، وعن سعيد بن جبير قال: (سألت ابن عباس قبل موته بعشرين ليلة عن الصرف؟ فلم ير به بأسا. وكان يأمر به) ، والصحيح قول الجمهور؛ لحديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبا بناجز (2) » .
وروى أبو سعيد أيضا قال: «جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا يا بلال؟ قال: كان عندنا تمر رديء فبعت صاعين بصاع؛ ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوه. عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إن أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به (3) » متفق عليهما. قال الترمذي على حديث أبي سعيد: العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ربا إلا في النسيئة (4) » محمول على
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(3) صحيح البخاري الوكالة (2312) ، صحيح مسلم المساقاة (1594) ، مسند أحمد بن حنبل (3/67) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(47/45)
الجنسين.
(مسألة:) قال أبو القاسم رحمه الله: (وكل ما كيل أو وزن من سائر الأشياء فلا يجوز التفاضل فيه إذا كان جنسا واحدا) .
قوله: (من سائر الأشياء) يعني من جميعها، وضع سائر موضع جميع تجوزا، وموضعها الأصلي لباقي الشيء، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الربا أحاديث كثيرة، ومن أتمها ما روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والشعير بالشعير مثلا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد (1) » رواه مسلم. فهذه الأعيان المنصوص عليها يثبت الربا فيها بالنص والإجماع.
واختلف أهل العلم فيما سواها، فحكي عن طاوس وقتادة: أنهما قصرا الربا عليها، وقالا: لا يجري في غيرهما، وبه قال داود ونفاة القياس، وقالوا: ما عداها على أصل الإباحة؛ لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (2) ، واتفق القائلون بالقياس على أن ثبوت الربا فيها بعلة، وأنه يثبت في كل ما وجدت فيه علتها؛ لأن
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) سورة البقرة الآية 275(47/46)
القياس دليل شرعي، فيجب استخراج علة هذا الحكم إثباته في كل موضع وجدت علته فيه. وقول الله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ، يقتضي تحريم كل زيادة؛ إذ الربا في اللغة: الزيادة، إلا ما أجمعنا على تخصيصه، وهذا يعارض ما ذكروه.
ثم اتفق أهل العلم على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد، إلا سعيد بن جبير فإنه قال: كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا، كالحنطة بالشعير، والتمر بالزبيب، والذرة بالدخن؛ لأنهما يتقارب نفعهما فجريا مجرى نوعي جنس واحد، وهذا يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم (2) » ، فلا يعول عليه. ثم يبطل بالذهب بالفضة، فإنه يجوز التفاضل فيهما مع تقاربهما.
واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما.
فروي عن أحمد في ذلك ثلاث روايات، أشهرهن: أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزون جنس، وعلة الأعيان الأربعة مكيل جنس، نقلها عن أحمد الجماعة، وذكرها الخرقي وابن أبي موسى وأكثر الأصحاب. وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي.
فعلى هذه الرواية يجري- في الربا- كل مكيل أو موزون
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(47/47)
بجنسه مطعوما كان أو غير مطعوم، كالحبوب والأشنان والنورة والقطن والصوف والكتان والورس والحناء والعصفر والحديد والنحاس ونحو ذلك، ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن؛ لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء. - وهو الربا- فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أريت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل؟ فقال: لا بأس إذا كان يدا بيد (1) » رواه الإمام أحمد في المسند عن ابن حبان عن أبيه عن ابن عمر.
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا، وما كيل مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا» رواه الدارقطني، ورواه عن ابن صاعد، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أحمد بن محمد بن أيوب، عن أبي بكر بن عياش، عن الربيع، عن صبيح، عن الحسن عن عبادة وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال: لم يروه عن أبي بكر هكذا غير محمد بن أحمد بن أيوب، وخالفه غيره فرواه بلفظ آخر، وعن عمار أنه قال: (العبد خير من العبدين، والثوب خير من الثوبين، فما كان يدا بيد فلا بأس به، إنما الربا في النساء إلا ما كيل أو وزن) ، ولأن قضية البيع المساواة، والمؤثر في تحقيقها الكيل والوزن والجنس، فإن الوزن أو الكيل يسوي بينهما صورة، والجنس يسوي بينهما معنى، فكانا علة، ووجدنا الزيادة في الكيل محرمة دون الزيادة في الطعم بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة فإنه جائز إذا
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1585) .(47/48)
تساويا في الكيل.
والرواية الثانية: أن العلة في الأثمان الثمنية، وفيما عداها كونه مطعوم جنس، فيختص بالمطعومات ويخرج منه ما عداها.
قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة، ونحو هذا قال الشافعي. فإنه قال: العلة الطعم، والجنس شرط، والعلة في الذهب والفضة: جوهرية الثمنية غالبا فيختص بالذهب والفضة؛ لما روى معمر بن عبد الله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل (1) » رواه مسلم، ولأن الطعم وصف شرف إذ به قوام الأبدان، والثمنية وصف شرف إذ بها قوام الأموال، فيقتضي التعليل بهما؛ ولأنه لو كان العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلامهما في الموزونات؛ لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النساء.
والرواية الثالثة: العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلا أو موزونا. فلا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالتفاح والرمان والخوخ والبطيخ والكمثرى، والأترج والسفرجل والأجاص والخيار والجوز والبيض، ولا فيما ليس بمطعوم كالزعفران والأشنان والحديد والرصاص ونحوه، ويروى ذلك عن سعيد بن المسيب، وهو قديم قولي الشافعي؛ لما روي عن سعيد بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا إلا فيما كيل أو وزن مما يؤكل أو يشرب» أخرجه الدارقطني، وقال: الصحيح إنه من قول سعيد، ومن رفعه فقد وهم.
ولأن لكل
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .(47/49)
واحد من هذه الأوصاف أثرا، والحكم مقرون بجميعها في المنصوص عليه، فلا يجوز حذفه، ولأن الكيل والوزن والجنس لا يقتضي وجوب المماثلة، وإنما أثره في تحقيقها في العلة ما يقتضي ثبوت الحكم لا ما تحقق شرطه، والطعم بمجرده لا تتحقق المماثلة به؛ لعدم المعيار الشرعي فيه، وإنما تجب المماثلة في المعيار الشرعي وهو الكيل والوزن؛ ولهذا وجبت المساواة في المكيل كيلا وفي الموزون وزنا، فوجب أن يكون الطعم معتبرا في المكيل والموزون دون غيرهما، والأحاديث الواردة في هذا الباب يجب الجمع بينها، وتقييد كل واحد منها بالآخر.
فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل يتقيد بما فيه معيار شرعي، وهو الكيل والوزن، ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين يتقيد بالمطعوم المنهي عن التفاضل فيه.
وقال مالك: (العلة القوت أو ما يصلح به القوت من جنس واحد من المدخرات) .
وقال ربيعة: (يجري الربا فيما تجب فيه الزكاة دون غيره) .
وقال ابن سيرين: (الجنس الواحد علة) ، وهذا القول لا يصح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل: «لا بأس به إذا كان يدا بيد (1) » ، وروي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع عبدا بعبدين (2) » رواه أبو داود والترمذي وقال: هو حديث حسن صحيح.
وقول مالك ينتقض بالحطب والإدام يستصلح به القوت
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2061) ، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4575) ، مسند أحمد بن حنبل (4/372) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1602) ، سنن الترمذي البيوع (1239) ، سنن النسائي البيوع (4621) ، سنن أبو داود البيوع (3358) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2869) ، مسند أحمد بن حنبل (3/350) .(47/50)
ولا ربا فيه عنده، وتعليل ربيعة ينعكس بالملح والعكس لازم عند اتحاد العلة.
والحاصل: أن ما اجتمع فيه الكيل والوزن والطعم من جنس واحد ففيه الربا رواية واحدة، كالأرز والدخن والذرة والقطنيات، والدهن والخل واللبن واللحم ونحوه، وهذا قول أكثر أهل العلم، قال ابن المنذر: هذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث، سوى قتادة فإنه بلغني أنه شذ عن جماعة الناس فقصر تحريم التفاضل على الستة الأشياء، وما انعدم فيه الكيل والوزن والطعم واختلف جنسه فلا ربا فيه رواية واحدة، وهو قول أكثر أهل العلم، كالتين والنوى والقت والماء والطين الأرمني، فإنه يؤكل دواء فيكون موزونا مأكولا، فهو إذا من القسم الأول، وما عداه إنما يؤكل سفها فجرى مجرى الرمل والحصاة.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: «لا تأكلي الطين، فإنه يصفر اللون» ، وما وجد فيه الطعم وحده أو الكيل أو الوزن من جنس واحد ففيه روايتان، واختلف أهل العلم فيه.
والأولى إن شاء الله تعالى حله؛ إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به، ولا معنى يقوي التمسك به، وهي مع ضعفها يعارض بعضها بعضا، فوجب اطراحها، أو الجمع بينها والرجوع إلى أصل الحل الذي يقتضيه الكتاب والسنة والاعتبار.
ولا فرق في المطعومات بين ما يؤكل قوتا كالأرز والذرة والدخن، أو أدما كالقطنيات واللبن واللحم، أو تفكها كالثمار، أو تداويا كالأهليلج والسقمونيا، فإن الكل في باب الربا واحد.(47/51)
(فصل) وقوله: (ما كيل أو وزن) أي: ما كان جنسه مكيلا أو موزونا، وإن لم يتأت فيه كيل ولا وزن؛ إما لقلته كالحبة والحبتين والحفنة والحفنتين وما دون الأرزة من الذهب والفضة، أو لكثرته كالزبرة العظيمة، فإنه لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلا بمثل، ويحرم التفاضل فيه، وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وابن المنذر، ورخص أبو حنيفة في بيع الحفنة بالحفنتين والحبة بالحبتين، وسائر المكيل الذي لا يتأتى كيله، ووافق في الموزون. واحتج بأن العلة الكيل ولم يوجد في اليسير.
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «التمر بالتمر مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، من زاد أو ازداد فقد أربى (1) » ، ولأن ما جرى الربا في كثيره جرى في قليله كالموزون.
(فصل) ولا يجوز بيع تمرة بتمرة، ولا حفنة بحفنة، وهذا قول الثوري، ولا أعلمه منصوصا عليه، ولكنه قياس قولهم؛ لأن ما أصله الكيل لا تجري المماثلة في غيره.
(فصل) فأما ما لا وزن للصناعة فيه، كمعمول الحديد والرصاص والنحاس والقطن والكتان والصوف والإبريسم، فالمنصوص عن أحمد في الثياب والأكسية أنه لا يجري فيها الربا. فإنه قال: لا بأس بالثوب بالثوبين والكساء بالكساءين، وهذا قول أكثر أهل العلم، وقال: لا يباع الفلس بالفلسين ولا السكين بالسكينين، ولا إبرة بإبرتين أصله الوزن، ونقل القاضي حكم إحدى المسألتين إلى الأخرى، فجعل فيهما جميعا
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(47/52)
روايتين:
إحداهما: لا يجري في الجميع، وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم؛ لأنه ليس بموزون ولا مكيل. وهذا هو الصحيح؛ إذ لا معنى لثبوت الحكم مع انتفاء العلة، وعدم النقص والإجماع فيه.
والثانية: يجري الربا في الجميع. اختارها ابن عقيل؛ لأن أصله الوزن، فلا يخرج بالصناعة عنه كالخبز، وذكر أن اختيار القاضي: أن ما كان يقصد وزنه بعد عمله كالأسطال ففيه الربا وما لا فلا.
(فصل) ويجري الربا في لحم الطير، وعن أبي يوسف: لا يجرى فيه؛ لأنه يباع بغير وزن. ولنا: أنه لحم فجرى فيه الربا كسائر اللحمان، وقوله: لا يوزن، قلنا: هو من جنس ما يوزن. ويقصد ثقله، وتختلف قيمته بثقله وخفته، فأشبه ما يباع من الخبز بالعدد.
(فصل) والجيد والرديء والتبر والمضروب والصحيح والمكسور سواء في جواز البيع مع التماثل وتحريمه مع التفاضل، وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة والشافعي. وحكي عن مالك جواز بيع المضروب بقيمته من جنسه، وأنكر أصحابه ذلك ونفوه عنه، وحكى بعض أصحابنا عن أحمد رواية: لا يجوز بيع الصحاح بالمكسرة، ولأن للصناعة قيمة، بدليل حالة الإتلاف فيصير كأنه ضم قيمة الصناعة إلى الذهب.(47/53)
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل (1) » ، وعن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها (2) » رواه أبو داود، وروى مسلم عن أبي الأشعث: أن معاوية أمر ببيع آنية من فضة في أعطيات الناس فبلغ عبادة فقال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى (3) » .
وروى الأثرم عن عطاء بن يسار أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل، (4) » ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فذكر له ذلك، فكتب عمر إلى معاوية: لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل وزنا بوزن) ، ولأنهما تساويا في الوزن. فلا يؤثر اختلافهما في القيمة، كالجيد والرديء، فأما إن قال لصائغ: صغ لي خاتما وزنه درهم وأعطيك مثل وزنه وأجرتك درهما. فليس ذلك ببيع درهم بدرهمين، وقال أصحابنا: للصائغ أخذ الدرهمين؛ أحدهما في مقابلة الخاتم، والثاني أجرة له.
(فصل) وكل ما حرم فيه التفاضل حرم فيه النساء بغير خلاف نعلمه، ويحرم التفرق قبل القبض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عينا بعين (5) » ، وقوله: «يدا بيد (6) » ، ولأن تحريم النساء آكد، ولذلك
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، مسند أحمد بن حنبل (3/58) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4560) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(4) سنن النسائي البيوع (4572) ، مسند أحمد بن حنبل (6/448) ، موطأ مالك البيوع (1327) .
(5) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(6) صحيح البخاري البيوع (2061) ، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4575) ، مسند أحمد بن حنبل (4/372) .(47/54)
جرى فيه الجنسين المختلفين فإذا حرم التفاضل فالنساء أولى بالتحريم.
(مسألة) قال: (وما كان من جنسين فجائز التفاضل فيه يدا بيد، ولا يجوز نسيئة) .
لا خلاف في جواز التفاضل في الجنسين نعلمه، إلا عن سعيد بن جبير أنه قال: ما يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز التفاضل فيهما، وهذا يرده قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالشعير كيف شئتم يدا بيد (1) » ، وفي لفظ: «إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (2) » رواه مسلم وأبو داود، ولأنهما جنسان فجاز التفاضل فيهما كما لو تباعدت منافعهما، ولا خلاف في إباحة التفاضل في الذهب بالفضة مع تقارب منافعهما.
فأما النساء فكل جنسين يجري فيهما الربا بعلة واحدة، كالمكيل بالمكيل، والموزون بالموزون، والمطعوم بالمطعوم عند من يعلل به، فإنه يحرم بيع أحدهما بالآخر نساء بغير خلاف نعلمه، وذلك لقوله عليه السلام: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد (3) » ، وفي لفظ: «لا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد، وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يدا بيد، وأما النسيئة فلا (4) » رواه أبو داود. إلا أن يكون أحد العوضين ثمنا والآخر مثمنا، فإنه يجوز النساء بينهما بغير خلاف؛ لأن الشرع أرخص في السلم
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) .(47/55)
والأصل في رأس المال الدراهم والدنانير. فلو حرم النساء هاهنا لانسد باب السلم في الموزونات في الغالب.
فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون مثل بيع اللحم بالبر ففيهما روايتان:
إحداهما: يحرم النساء فيهما، وهو الذي ذكره الخرقي هاهنا؛ لأنهما مالان من أموال الربا، فحرم النساء فيهما كالمكيل بالمكيل.
والثانية: يجوز النساء فيهما، وهو قول النخعي؛ لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي علة ربا الفضل. فجاز النساء فيهما كالثياب بالحيوان.
(فصل) وإذا باع شيئا من مال الربا بغير جنسه وعلة ربا الفضل فيهما واحدة، لم يجز التفرق قبل القبض، فإن فعلا بطل العقد. وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يشترط التقابض فيهما كغير أموال الربا، وكبيع ذلك بأحد النقدين.
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء يدا بيد (1) » رواه مسلم.
وقال عليه السلام: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد (2) » وروى مالك بن أوس بن الحدثان: (أنه التمس صرفا بمائة دينار قال: فدعاني طلحة بن عبد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني، فأخذ يقلبها في يديه، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة. وعمر يسمع
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) .(47/56)
ذلك. فقال: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء (1) » متفق عليه. والمراد به القبض، بدليل أن المراد به ذلك في الذهب والفضة، وبهذا فسره عمر به، ولأنهما مالان من أموال الربا علتهما واحدة، فحرم التفرق فيهما قبل القبض كالذهب بالفضة.
فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون عند من يعلل بهما، فقال أبو الخطاب: يجوز التفرق فيهما قبل القبض رواية واحدة؛ لأن علتهما مختلفة، فجاز التفرق قبل القبض كالثمن بالثمن، وبهذا قال الشافعي، إلا أنه لا يتصور عنده ذلك إلا في بيع الأثمان بغيرها، ويحتمل كلام الخرقي وجوب التقابض على كل حال؛ لقوله: «يدا بيد (2) » .
(مسأله) قال: (وما كان مما لا يكال ولا يوزن فجائز التفاضل فيه يدا بيد، ولا يجوز نسيئة) اختلفت الرواية في تحريم النساء في غير الميكل والموزون على أربع روايات:
إحداهن: لا يحرم النساء في شيء من ذلك، سواء بيع بجنسه أو بغيره متساويا أو متفاضلا، إلا على قولنا: إن العلة الطعم؛ فيحرم النساء في المطعوم ولا يحرم في غيره، وهذا مذهب الشافعي.
واختار القاضي هذه الرواية؛ لما روى أبو داود عن
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2134) ، صحيح مسلم المساقاة (1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243) ، سنن النسائي البيوع (4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2061) ، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4575) ، مسند أحمد بن حنبل (4/372) .(47/57)
عبد الله بن عمرو: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة (1) » رواه أبو داود.
وروى سعيد في سننه عن أبي معشر عن صالح بن كيسان عن الحسن بن محمد: (أن عليا باع بعيرا له يقال له: عصيفير بأربعة أبعرة إلى أجل) ولأنهما مالان لا يجري فيهما ربا الفضل. فجاز النساء فيهما كالعرض بالدينار، ولأن النساء أحد نوعي الربا. فلم يجز في الأموال كلها كالنوع الآخر.
والرواية الثانية: يحرم النساء في كل مال بيع بجنسه، كالحيوان بالحيوان والثياب بالثياب، ولا يحرم في غير ذلك، وهذا مذهب أبي حنيفة. وممن كره بيع الحيوان بالحيوان نساء ابن الحنفية وعبد الله بن عمير وعطاء وعكرمة بن خالد وابن سيرين والثوري.
وروي ذلك عن عمار وابن عمر؛ لما روى سمرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة (2) » قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ولأن الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل؛ فحرم النساء كالكيل والوزن.
والثالثة: لا يحرم النساء إلا فيما بيع بجنسه متفاضلا. فأما مع التماثل فلا؛ لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحيوان اثنين بواحد لا يصلح نساء ولا بأس به يدا بيد (3) » قال الترمذي: هذا حديث حسن، وروى ابن عمر: «أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل. فقال: لا
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3357) ، مسند أحمد بن حنبل (2/171) .
(2) سنن الترمذي كتاب البيوع (1237) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4620) ، سنن أبو داود البيوع (3356) ، سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2270) ، مسند أحمد بن حنبل (5/19) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2564) .
(3) سنن الترمذي كتاب البيوع (1238) ، سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2271) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) .(47/58)
بأس إذا كان يدا بيد (1) » من المسند، وهذا يدل على إباحة النساء مع التماثل بمفهومه.
والرابعة: يحرم النساء في كل مال بيع بمال آخر، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه، وهذا ظاهر كلام الخرقي، ويحتمل أنه أراد الرواية الثالثة؛ لأنه بيع عرض بعرض، فحرم النساء بينهما كالجنسين من أموال الربا.
قال القاضي: فعلى هذا لو باع عرضا بعرض ومع أحدهما دراهم؛ العروض نقدا، والدراهم نسيئة جاز، وإن كانت الدراهم نقدا والعروض نسيئة لم يجز؛ لأنه يفضي إلى النسيئة في العروض. وهذه الرواية ضعيفة جدا؛ لأنه إثبات حكم يخالف الأصل بغير نص ولا إجماع ولا قياس صحيح.
فإن في المحل المجمع عليه أو المنصوص عليه أوصافا لها أثر في تحريم الفضل، فلا يجوز حذفها عن درجة الاعتبار. وما هذا سبيله لا يجوز إثبات الحكم فيه، وإن لم يخالف أصلا فكيف يثبت مع مخالفة الأصل في حل البيع؟
وأصح الروايات: هي الأولى؛ لموافقتها الأصل، والأحاديث المخالفة لها، قال أبو عبد الله: ليس فيها حديث يعتمد عليه، ويعجبني أن يتوقاه وذكر له حديث ابن عباس وابن عمر في هذا فقال: هما مرسلان. وحديث سمرة يرويه الحسن عن سمرة. قال الأثرم: قال أبو عبد الله: لا يصح سماع الحسن من سمرة. وحديث جابر قال أبو عبد الله: هذا حجاج زاد فيه (نساء) وليث
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/109) .(47/59)
ابن سعد سمعه من أبي الزبير، ولا يذكر فيه (نساء) ، وحجاج هذا هو حجاج بن أرطأة، قال يعقوب بن شيبة: هو واهي الحديث وهو صدوق.
وإن كان أحد المبيعين مما لا ربا فيه، والآخر فيه ربا كالمكيل بالمعدود ففيه روايتان:
إحداهما: يحرم النساء فيها.
والثانية: لا يحرم. كما لو باع معدودا بمعدود من غير جنسه.(47/60)
ثم قال:
(فصل) وإن باع شيئا فيه الربا بعضه ببعض، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه، كمد ودرهم بمد ودرهم أو بمدين أو بدرهمين، أو باع شيئا محلى بجنس حليته فهذه المسألة تسمى (مسألة مد عجوة) والمذهب أنه لا يجوز ذلك. نص على ذلك أحمد في مواضع كثيرة، وذكره قدماء الأصحاب.
قال ابن أبي موسى في السيف المحلى والمنطقة والمراكب المحلاة بجنس ما عليها: لا يجوز قولا واحدا، وروي هذا عن سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وشريح وابن سيرين، وبه قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور، وعن أحمد رواية أخرى تدل على أنه يجوز، بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه. فإن مهنا نقل عن أحمد في أن بيع الزبد باللبن يجوز إذا كان الزبد المنفرد أكثر من الزبد الذي(47/60)
في اللبن، وروى حرب قال: قلت لأحمد: دفعت دينارا كوفيا ودرهما، وأخذت دينارا شاميا وزنهما سواء، لكن الكوفي أوضع؟
قال: لا يجوز إلا أن ينقص الدينار فيعطيه بحسابه فضة، وكذلك روى عنه محمد بن أبي حرب الجرجرائي، وروى الميموني أنه سأله: لا يشتري السيف والمنطقة حتى يفصلها؟ فقال: لا يشتريها حتى يفصلها إلا أن هذا أهون من ذلك؛ لأنه قد يشتري أحد النوعين بالآخر يفصله وفيه غير النوع الذي يشتري به، فإذا كان من فضل الثمن إلا أن من ذهب إلى ظاهر القلادة لا يشتريه حتى يفصله. قيل له: فما تقول أنت؟ قال: هذا موضع نظر.
وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن الدراهم المسيبية بعضها صفر وبعضها فضة بالدراهم؟ قال: لا أقول فيه شيئا. قال أبو بكر: روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خمسة عشر نفسا كلهم اتفقوا على أنه لا يجوز حتى يفصل إلا الميموني، ونقل مهنا كلاما آخر، وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: يجوز.
هذا كله إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو كان مع كل واحد منهما من غير جنسه.
وقال الحسن: لا بأس ببيع السيف المحلى بالفضة بالدراهم. وبه قال الشعبي والنخعي، واحتج من أجاز ذلك بأن العقد إذا أمكن حمله على الصحة لم يحمل على الفساد؛ لأنه لو اشترى لحمها من قصاب جاز مع احتمال كونه ميتة، ولكن وجب حمله على أنه مذكى تصحيحا للعقد، ولو اشترى من إنسان شيئا جاز مع احتمال كونه غير ملكه، ولا إذن له في بيعه تصحيحا للعقد(47/61)
أيضا، وقد أمكن التصحيح هاهنا بجعل الجنس في مقابلة غير الجنس، أو جعل غير الجنس في مقابلة الزائد على المثل.
ولنا: ما روى فضالة بن عبيد قال: «أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب وخرز، ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة دنانير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، حتى تميز بينهما. قال: فرده حتى ميز بينهما (1) » رواه أبو داود، وفي لفظ رواية مسلم قال: «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، تم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب وزنا بوزن (2) » ، ولأن العقد إذا جمع عوضين مختلفي الجنس، وجب أن ينقسم أحدهما على الآخر على قدر قيمة الآخر في نفسه، فإذا اختلفت القيمة اختلف ما يأخذه من العوض.
بيانه: أنه إذا أشترى عبدين قيمة أحدهما مثل نصف قيمة الآخر بعشرة، كان ثمن أحدهما ثلثي العشرة والآخر ثلثها، فلو رد أحدهما بعيب رده بقسطه من الثمن، ولذلك إذا اشترى شقصا وسيف بثمن أخذ الشفيع الشقص بقسطه من الثمن، فإذا فعلنا هذا فيمن باع درهما ومدا قيمته درهمان بمدين قيمتهما ثلاثة حصل الدرهم في مقابلة ثلثي مد، والمد الذي مع الدرهم في مقابلة مد وثلث فهذا إذا تفاوتت القيم، ومع التساوي يجهل ذلك؛ لأن التقويم ظن وتخمين، والجهل بالتساوي كالعلم بعدمه في باب الربا؛ ولذلك لم يجز بيع صبرة بصبرة بالظن والخرص.
وقولهم: يجب تصحيح العقد ليس كذلك، بل يحمل على ما يقتضيه من صحة وفساد، ولذلك لو باع بثمن وأطلق، وفي البلاد
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .(47/62)
نقود، بطل ولم يحمل على نقد أقرب البلاد إليه، أما إذا اشترى من إنسان شيئا فإنه يصح؛ لأن الظاهر أنه ملكه؛ لأن اليد دليل الملك، وإذا باع لحما فالظاهر أنه مذكى؛ لأن المسلم في الظاهر لا يبيع الميتة.
(فصل) فأما إن باع نوعين من مختلفي القيمة من جنس بنوع واحد من ذلك الجنس، كدينار مغربي ودينار سابوري بدينارين مغربيين، أو دينار صحيح ودينار قراضة بدينارين صحيحين، أو قراضتين أو حنطة حمراء وسمراء ببيضاء، أو تمرا برنيا ومعقليا بإبراحيمي فإنه يصح.
قال أبو بكر: وأومأ إليه أحمد، واختار القاضي أبو يعلى أن الحكم فيها كالتي قبلها، وهو مذهب مالك والشافعي؛ لأن العقد يقتضي انقسام الثمن على عوضه على حسب اختلافه في قيمته كما ذكرنا، وروي عن أحمد منع ذلك في النقد وتجويزه في الثمن. نقله أحمد بن القاسم؛ لأن الأنواع في غير الأثمان يكثر اختلاطها، ويشق تمييزها، فعفي عنها بخلاف الأثمان.
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل (1) » . . . الحديث، وهذا يدل على إباحة البيع عند وجود المماثلة المراعاة، وهي المماثلة في الموزون وزنا، وفي المكيل كيلا، ولأن الجودة ساقطة في باب الربويات فيما قوبل بجنسه، فيما لو اتحد النوع في كل واحد من الطرفين، فكذلك إذا اختلفا. واختلاف القيمة ينبني على الجودة والرداءة؛ لأنه باع ذهبا
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، مسند أحمد بن حنبل (3/58) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(47/63)
بذهب متساويا في الوزن، فصح كما لو اتفق النوع، وإنما يقسم العوض على المعوض فيما يشتمل على جنسين، أو في غير الربويات بدليل ما لو باع نوعا بنوع يشتمل على جيد ورديء.
(فصل) وإن باع ما فيه الربا بغير جنسه ومعه من جنس ما بيع به إلا أنه غير مقصود، كدار مموه سقفها بالذهب، جاز لا أعلم فيه خلافا، وكذلك لو باع دارا بدار مموه سقف كل واحدة منهما بذهب أو فضة جاز؛ لأن ما فيه الربا غير مقصود بالبيع، فوجوده كعدمه، وكذلك لو اشترى عبدا له مال، فاشترط ماله وهو من جنس الثمن جاز، إذا كان المال غير مقصود، ولو اشترى عبدا بعبد واشترط كل واحد منهما مال العبد الذي اشتراه جاز، إذا لم يكن ماله مقصودا؛ لأنه غير مقصود بالبيع فأشبه التمويه في السقف، ولذلك لا تشترط رؤيته في صحة البيع ولا لزومه، وإن باع شاة ذات لبن بلبن، أو عليها صوف بصوف، أو باع لبونا بلبون وذات صوف بمثلها، ففيه وجهان:
أحدهما: الجواز، اختاره ابن حامد، وهو قول أبي حنيفة، وسواء كانت الشاة حية أو مذكاة؛ لأن ما فيه الربا غير مقصود، فلم يمنع كالدار المموه سقفها.
الثاني: المنع، وهو مذهب الشافعي؛ لأنه باع مال الربا بأصله الذي فيه منه، أشبه الحيوان باللحم، والفرق بينهما: أن اللحم في الحيوان مقصود بخلاف اللبن، ولو كانت الشاة محلوبة اللبن جاز بيعها بمثلها وباللبن وجها واحدا؛ لأن اللبن لا أثر له،(47/64)
ولا يقابله شيء من الثمن، فأشبه الملح في الشيرج والخبز والجبن، وحبات الشعير في الحنطة، ولا نعلم فيه أيضا خلافا، وكذلك لو كان اللبن المنفرد من غير جنس لبن الشاة جاز بكل حال.
ولو باع نخلة عليها تمر بتمر أو بنخلة عليها تمر، ففيه أيضا وجهان:
أحدهما: الجواز، اختاره أبو بكر؛ لأن التمر غير مقصود بالبيع.
والثاني: لا يجور، ووجه الوجهين ما ذكرناه في المسألة قبلها.
واختار القاضي أنه لا يجوز، وفرق بينهما وبين الشاة ذات اللبن، بكون التمرة يصح إفرادها في البيع، وهي معلومة بخلاف اللبن في الشاة، وهذا الفرق غير مؤثر، فإن ما يمنع إذا جاز إفراده يمنع وإن لم يجز إفراده، كالسيف المحلى يباع بجنس حليته، وما لا يمنع لا يمنع، وإن جاز إفراده كمال العبد.
(فصل) وإن باع جنسا فيه الربا بجنسه ومع كل واحد من غير جنسه غير مقصود فذلك ينقسم أقساما.
أحدها: أن يكون غير المقصود يسيرا، لا يؤثر في كيل ولا وزن، كالملح فيما يعمل فيه، وحبات الشعير في الحنطة، فلا يمنع؛ لأنه يسير لا يخل بالتماثل، وكذلك لو وجد في أحدهما دون الآخر لم يمنع لذلك، ولو باع ذلك بجنس غير المقصود(47/65)
الذي معه. مثل أن يبيع الخبز بالملح جاز؛ لأن وجود ذلك كعدمه.
الثاني: أن يكون غير المقصود كثيرا إلا أنه لمصلحة المقصود، كالماء في خل التمر والزبيب ودبس التمر، فهذا يجوز بيع الشيء منه بمثله، وينزل خلطه منزلة رطوبته؛ لكونه من مصلحته فلا يمنع من بيعه بما يماثله كالرطب بالرطب، ولا يجوز بيعه بما ليس فيه خلط كبيع خل العنب بخل الزبيب؛ لإفضائه إلى التفاضل، فجرى مجرى بيع التمر بالرطب، ومنع الشافعي ذلك كله إلا بيع الشيرج بالشيرج؛ لكون الماء لا يظهر في الشيرج.
الثالث: أن يكون غير المقصود كثيرا وليس من مصلحته، كاللبن المشوب بالماء، والأثمان المغشوشة بغيرها، فلا يجوز بيع بعضها ببعض؛ لأن خلطه ليس من مصلحته، وهو يخل بالتماثل المقصود فيه، وإن باع بجنس غير المقصود كبيع الدينار المغشوش بالفضة بالدراهم، احتمل الجواز؛ لأنه يبيعه بجنس غير مقصود فيه، فأشبه بيع اللبن بشاة فيها لبن، ويحتمل المنع بناء على الوجه الآخر في الأصل، وإن باع دينارا مغشوشا بمثله والغش فيهما متفاوت أو غير معلوم المقدار لم يجز؛ لأنه يخل بالتماثل المقصود، وإن علم التساوي في الذهب والغش الذي فيهما خرج على الوجهين، أولاهما: الجواز؛ لأنهما تماثلا في المقصود وفي غيره، ولا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة؛ لكون الغش غير مقصود فكأنه لا قيمة له.(47/66)
(فصل) ولو دفع إليه درهما، فقال: أعطني بنصف هذا الدرهم نصف درهم، وبنصفه فلوسا، أو حاجة أخرى جاز؛ لأنه اشترى نصفا بنصف، وهما متساويان فصح، كما لو دفع إليه درهمين، وقال: بعني بهذا الدرهم فلوسا وأعطني بالآخر نصفين، وإن قال: أعطني بهذا الدرهم نصفا وفلوسا جاز أيضا؛ لأن معناه ذلك، ولأن ذلك لا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة؛ فإن قيمة النصف الذي في الدرهم كقيمة النصف الذي مع الفلوس يقينا، وقيمة الفلوس كقيمة النصف الآخر سواء.
(فصل) وما كان مشتملا على جنسين بأصل الخلقة، كالتمر الذي اشتمل على النوى وما عليه، والحيوان المشتمل على لحم وشحم وغيره، وأشباه ذلك، فهذا إذا قوبل بمثله جاز بيعه به، ولا نظر إلى ما فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز بيع التمر بالتمر والحيوان بالحيوان، وقد علم اشتمالها على ما فيهما، ولو باع ذلك بنوع غير مقصود فيه، كبيع التمر الذي فيه النوى بالنوى. ففيه عن أحمد روايتان، قد ذكرناهما فيما مضى، فأما العسل قبل تصفيته، فقال أصحابنا: لا يجوز بيع بعضه ببعض؛ لاشتماله على عسل وشمع، وذلك بفعل النحل فأشبه السيف المحلى.
(فصل) ويحرم الربا في دار الحرب كتحريمه في دار الإسلام، وبه قال مالك والأوزاعي وأبو يوسف والشافعي وإسحاق، وقال أبو حنيفة: لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب. وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب: لا ربا(47/67)
بينهما؛ لما روى مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب» ، ولأن أموالهم مباحة، وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام فما لم يكن كذلك كان مباحا.
ولنا: قول الله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ، وقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (3) ، وعموم الأخبار يقتضي تحريم التفاضل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من زاد أو ازداد فقد أربى (4) » عام، وكذلك سائر الأحاديث، ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار الحرب كالربا بين المسلمين، وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة، وانعقد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به، وهو مع ذلك مرسل محتمل.
ويحتمل أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ربا (5) » النهي عن الربا كقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (6) ، وما ذكروه من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام فإن ماله
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(5) صحيح البخاري النكاح (5109) ، صحيح مسلم النكاح (1408) ، سنن الترمذي النكاح (1126) ، سنن النسائي النكاح (3291) ، سنن أبو داود النكاح (2065) ، سنن ابن ماجه النكاح (1929) ، مسند أحمد بن حنبل (2/489) ، موطأ مالك النكاح (1129) ، سنن الدارمي النكاح (2178) .
(6) سورة البقرة الآية 197(47/68)
مباح إلا فيما حظره الأمان، ويمكن حمله بين المسلمين على هبة التفاضل. وهو محرم بالإجماع فكذا هاهنا. . . .)
ثم قال:(47/69)
(فصل) إذا علم المصطرفان قدر العوضين جاز أن يتبايعا بغير وزن، وكذلك لو أخبر أحدهما الآخر بوزن ما معه فصدقه، فإذا باع دينارا بدينار كذلك وافترقا، فوجد أحدهما ما قبضه ناقصا بطل الصرف؛ لأنهما تبايعا ذهبا بذهب تفاضلا، فإن وجد أحدهما فيما قبضه زيادة على الدينار نظرت في العقد، فإن كان قال: بعتك هذا الدينار بهذا فالعقد باطل؛ لأنه باع ذهبا بذهب متفاضلا، وإن قال: بعتك دينارا بدينار ثم تقابضا، كان الزائد في يد القابض مشاعا مضمونا لمالكه؛ لأنه قبضه على أنه عوض، ولم يفسد العقدة؛ لأنه إنما باع دينارا بمثله، وإنما وقع القبض للزيادة على المعقود عليه، فإن أراد دفع عوض الزائد جاز، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه، لأنه معاوضة مبتدأة، وإن أراد أحدهما الفسخ فله ذلك، لأن آخذ الزائد وجد المبيع مختلطا بغيره معيبا بعيب الشركة، ودافعه لا يلزمه أخذ عوضه، إلا أن يكون في المجلس فيرد الزائد ويدفع بدله، ولو كان لرجل على رجل عشرة دنانير، فوفاه عشرة عددا فوجدها أحد عشر، كان هذا الدينار الزائد في يد القابض مشاعا مضمونا لمالكه؛ لأنه قبضه على أنه عوض عن ماله، فكان مضمونا بهذا القبض، ولمالكه التصرف فيه كيف شاء.(47/69)
(فصل) والدراهم والدنانير تتعين بالتعيين في النقد، بمعنى أنه يثبت الملك بالعقد فيما عيناه، ويتعين عوضا فيه، فلا يجوز إبداله، وإن خرج مغصوبا بطل العقد، وبهذا قال مالك، والشافعي، وعن أحمد أنها لا تتعين بالعقد، فيجوز إبدالها، ولا يبطل العقد بخروجها مغصوبة، وهذا مذهب أبو حنيفة؛ لأنه يجوز إطلاقها قبل العقد فلا تتعين بالتعيين فيه كالمكيال والصنجة.
ولنا: أنه عوض في عقد فيتعين بالتعيين كسائر الأعواض، ولأنه أحد العوضين فيتعين بالتعيين كالآخر، ويفارق ما ذكروه فإنه ليس بعوض، وإنما يراد لتقدير العقود عليه، وتعريف قدره، ولا يثبت فيها الملك بحال بخلاف مسألتنا.
(مسألة) قال: (وإذا تبايعا ذلك بغير عينه فوجد أحدهما فيما اشتراه عيبا؛ فله البدل إذا كان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه، كالوضوح في الذهب والسواد في الفضة) .
يعني اصطرفا في الذمة نحو أن يقول: بعتك دينارا مصريا بعشرة دراهم. فيقول الآخر: قبلت. فيصح البيع سواء كانت الدراهم والدنانير عندهما أو لم يكونا إذا تقابضا قبل الافتراق؛ بأن يستقرضا أو غير ذلك، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي.
وحكي عن مالك: لا يجوز الصرف، إلا أن تكون العينان حاضرتين، وعنه: لا يجوز حتى تظهر إحدى العينين وتعين.
وعن زفر مثله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا غائبا منها بناجز (1) » ، ولأنه إذا لم
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (3/51) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(47/70)
يعين أحد العوضين كان بيع دين بدين وهو غير جائز.
ولنا: أنهما تقابضا في المجلس فصح، كما لو كانا حاضرين، والحديث يراد به أن لا يباع عاجل بآجل، أو مقبوض بغير مقبوض؛ بدليل ما لو عين أحدهما فإنه يصح، وإن كان الآخر غائبا والقبض في المجلس جرى مجرى القبض حالة العقد، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «عينا بعين، يدا بيد (1) » ، والقبض يجري في المجلس كذا التعين.
فإذا ثبت هذا فلا بد من تعيينهما بالتقابض في المجلس، ومتى تقابضا فوجد أحدهما بما قبضة عيبا قبل التفرق فله المطالبة بالبدل، سواء كان العيب من جنسه أو من غير جنسه؛ لأن العقد وقع على مطلق لا عيب فيه، فله المطالبة بما وقع عليه العقد كالمسلم فيه، وإن رضيه بعيبه والعيب من جنسه جاز، كما لو رضي بالمسلم فيه معيبا، وإن اختار أخذ الأرش فإن كان العوضان من جنس واحد لم يجز؛ لإفضائه إلى التفاضل فيما يشترط فيه التماثل، وإن كانا من جنسين جاز، فأما إن تقابضا وافترقا ثم وجد العيب من جنسه، فله إبداله في إحدى الروايتين، اختارها الخلال والخرقي، وروي ذلك عن الحسن وقتادة، فقد قال أبو يوسف ومحمد وهو أحد قولي الشافعي: لأن ما جاز إبداله قبل التفرق جاز بعده كالمسلم فيه.
والرواية الثانية: ليس له ذلك، وهو قول أبي بكر، ومذهب أبي حنيفة، والقول الثاني للشافعي؛ لأنه يقبضه بعد التفرق، ولا
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(47/71)
يجوز ذلك في الصرف، ومن صار إلى الرواية الأولى قال: قبض الأول صح به العقد، وقبض الثاني يدل على الأول، ويشترط أن يأخذ البدل في مجلس العقد، فإن تفرقا من غير قبض بطل العقد، وإن وجد البعض رديئا فرده فعلى الرواية الأولى له البدل، وعلى الثانية يبطل في المردود، وهل يصح فيما لم يرد؟ على وجهين، بناء على تفريق الصفقة، ولا فرق بين كون المبيع من جنس أو من جنسين.
وقال مالك: إن وجد درهما زيفا فرضي به جاز، وإن رده انتقض الصرف في دينار، وإن رد أحد عشر درهما انتقض الصرف في دينارين، وكلما زاد على دينار انتقض الصرف في دينار آخر.
ولنا: أن ما لا عيب فيه لم يرد، فلم ينتقض الصرف فيما يقابله، كسائر العوض. وإن اختار واجد العيب الفسخ، فعلى قولنا: له البدل، ليس له الفسخ إذا أبدل له؛ لأنه يمكنه أخذ حقه غير معيب، وعلى الرواية الأخرى له الفسخ، أو الإمساك في الجميع؛ لأنه تعذر عليه الوصول إلى ما عقد عليه مع إبقاء العقد. فإن اختار أخذ أرش العيب بعد التفرق، لم يكن له ذلك؛ لأنه عوض يقبضه بعد التفرق عن الصرف، إلا على الرواية الأخرى.
(فصل) ومن شرط المصارفة في الذمة: أن يكون العوضان معلومين، إما بصفة يتميزان بها، وإما أن يكون للبلد نقد معلوم أو غالب فينصرف الإطلاق إليه. ولو قال: بعتك(47/72)
دينارا مصريا بعشرين درهما من نقد عشرة بدينار. لم يصح، إلا أن لا يكون في البلد نقد عشرة بدينار، إلا نوع واحد، فتنصرف تلك الصفة إليه، وكذلك الحكم في البيع.
(فصل) إذا كان لرجل في ذمة رجل ذهب وللآخر عليه دراهم، فاصطرفا بما في ذمتهما لم يصح، وبهذا قال الليث والشافعي، وحكى ابن عبد البر عن مالك وأبي حنيفة جوازه؛ لأن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة؛ ولذلك جاز أن يشتري الدراهم بدنانير من غير تعيين.
ولنا: أنه بيع دين بدين، ولا يجوز ذلك بالإجماع. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز.
وقال أحمد: إنما هو إجماع، وقد روى أبو عبيد في "الغريب" أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، وفسره بالدين بالدين، إلا أن الأثرم روى عن أحمد أنه سئل أيصح في هذا حديث؟ قال: لا.
وإنما صح الصرف بغير تعيين بشرط أن يتقابضا في المجلس، فجرى القبض والتعيين في المجلس مجرى وجوده حالة العقد، ولو كان لرجل على رجل دنانير فقضاه دراهم شيئا بعد شيء نظرت، فإن كان يعطيه كل درهم بحسابه من الدينار صح. نص عليه أحمد. وإن لم يفعل ذلك ثم تحاسبا بعد ذلك فصارفه بها وقت المحاسبة لم يجز، نص عليه أيضا؛ لأن الدنانير دين والدراهم صارت دينا فيصير بيع دين بدين.
وإن قبض(47/73)
أحدهما من الآخر ما له عليه ثم صارفه بعين وذمة صح، وإذا أعطاه الدراهم شيئا بعد شيء، ولم يقضه ذلك وقت دفعها إليه، ثم أحضرها وقوماها، فإنه يحتسب بقيمتها يوم القضاء لا يوم دفعها إليه؛ لأنها قبل ذلك لم تصر في ملكه إنما هي وديعة في يده، فإن تلفت أو نقصت فهي من ضمان مالكها، ويحتمل أن تكون من ضمان القابض لها إذا قبضها بنية الاستيفاء؛ لأنها مقبوضة على أنها عوض ووفاء، والمقبوض في عقد فاسد كالمقبوض في العقد الصحيح فيما يرجع إلى الضمان وعدمه.
ولو كان لرجل عند صيرفي دنانير فأخذ منه دراهم إدرارا؛ لتكون هذه بهذه لم يكن كذلك، بل كان كل واحد منهما في ذمة من قبضه، فإذا أراد التصارف أحضر أحدهما واصطرفا بعين وذمة.
(فصل) ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر، ويكون صرفا بعين وذمة في قول أكثر أهل العلم، ومنع منه ابن عباس وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة، وروي ذلك عن ابن مسعود؛ لأن القبض شرط وقد تخلف.
ولنا: ما روى أبو داود والأثرم في سننهما عن ابن عمر قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر(47/74)
يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء (1) » ، قال أحمد: إنما يقضيه إياها بالسعر. لم يختلفوا أنه يقضيه إياها بالسعر إلا ما قال أصحاب الرأي، إنه يقضيه مكانها ذهبا على التراضي؛ لأنه بيع في الحال فجاز ما تراضيا عليه إذا اختلف الجنس، كما لو كان العوض عرضا.
ووجه الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا بأس أن تأخذها بسعر يومها (2) » ، وروي عن ابن عمر أن بكر بن عبد الله المزني ومسروقا العجلي سألاه عن كري لهما له عليهما دراهم، وليس معهما إلا دنانير. فقال ابن عمر: أعطوه بسعر السوق، ولأن هذا جرى مجرى القضاء فقيد بالمثل كما لو قضاه من الجنس.
والتماثل هاهنا من حيث القيمة؛ لتعذر التماثل من حيث الصورة. قيل لأبي عبد الله: فإن أهل السوق يتغابنون بينهم بالدانق في الدينار وما أشبهه؟ فقال: إذا كان مما يتغابن الناس به فسهل فيه ما لم يكن حيلة، ويزاد شيئا كثيرا.
(فصل) فإن كان المقضي الذي في الذمة مؤجلا فقد توقف أحمد فيه. وقال القاضي: يحتمل وجهين:
أحدهما: المنع، وهو قول مالك ومشهور قولي الشافعي؛ لأن ما في الذمة لا يستحق قبضه، فكان القبض ناجزا في أحدهما، والناجز يأخذ قسطا من الثمن.
والآخر: الجواز، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه ثابت في الذمة بمنزلة المقبوض فكأنه رضي بتعجيل المؤجل، والصحيح الجواز
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .(47/75)
إذا قضاه بسعر يومها، ولم يجعل للمقضي فضلا؛ لأجل تأجيل ما في الذمة؛ لأنه إذا لم ينقصه عن سعرها شيئا فقد رضي بتعجيل ما في الذمة بغير عوض، فأشبه ما لو قضاه من جنس الدين، ولم يستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن عمر حين سأله، ولو افترق الحال لسأل واستفصل.(47/76)
(فصل) قال أحمد: ولو كان لرجل على رجل عشرة دراهم فدفع إليه دينارا، فقال: استوف حقك منه، فاستوفاه بعد يومين جاز، ولو كان عليه دنانير فوكل غريمه في بيع داره، واستيفاء حقه من ثمنها، فباعها بدراهم لم يجز أن يأخذ منها قدر حقه؛ لأنه لم يأذن له في مصارفة نفسه، ولأنه متهم، ولو باع جارية بدنانير فأخذ بها دراهم، فردت الجارية بعيب أو إقالة، لم يكن للمشتري إلا الدنانير؛ لأنه الثمن الذي وقع عليه العقد، وإنما أخذ الدراهم بعقد صرف مستأنف. نص أحمد على هذه المسائل.
(فصل) إذا كان عليه دين مؤجل، فقال لغريمه: ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته، لم يجز. كرهه زيد بن ثابت وابن عمر والمقداد وسعيد بن المسيب وسالم والحسن وحماد والحكم والشافعي ومالك والثوري وهشيم وابن علية وإسحاق وأبو حنيفة. وقال المقداد لرجلين فعلا ذلك: كلاكما قد آذن بحرب من الله ورسوله، وروي عن ابن عباس: أنه لم ير به بأسا. وروي ذلك عن النخعي وأبي ثورة؛ لأنه آخذ لبعض حقه تارك لبعضه، فجاز كما لو كان الدين حالا.
وقال الخرقي: لا بأس(47/76)
أن يعجل المكاتب لسيده، ويضع عنه بعض كتابته.
ولنا: أنه بيع الحلول فلم يجز، كما لو زاده الذي له الدين، فقالت له: أعطيك عشرة دراهم وتعجل لي المائة التي عليك. فأما المكاتب فإن معاملته مع سيده، وهو يبيع بعض ماله ببعض، فدخلت المسامحة فيه، ولأنه سبب للعتق، فسومح فيه بخلاف غيره. . . .) .
ثم قال:
مسألة قال: (ومتى انصرف المتصارفان قبل التقابض فلا بيع بينهما) .
الصرف: بيع الأثمان بعضها ببعض؛ والقبض في المجلس شرط لصحته بغير خلاف. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد. والأصل فيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء (1) » ، وقوله عليه السلام: «بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد (2) » «ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورق دينا، (3) » ونهى أن يباع غائب منها بناجز، كلها أحاديث صحاح.
ويجزئ القبض في المجلس وإن طال، ولو تماشيا مصطحبين إلى منزل أحدهما، أو إلى الصراف فتقابضا عنده جاز. وبهذا قال الشافعي. وقال مالك: لا خير في ذلك؛ لأنهما فارقا مجلسهما.
ولنا: أنهما لم يفترقا قبل التقابض، فأشبه ما لو كانا في
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2134) ، صحيح مسلم المساقاة (1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243) ، سنن النسائي البيوع (4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2181) ، مسند أحمد بن حنبل (4/289) .(47/77)
سفينة تسير بهما، أو راكبين على دابة واحدة تمشي بهما، وقد دل على ذلك حديث أبي برزة الأسلمي في قوله للذين مشيا إليه من جانب العسكر: (وما أراكما افترقتما) . وإن تفرقا قبل التقابض بطل الصرف لفوات شرطه. وإن قبض البعض، ثم افترقا بطل فيما لم يقبض، وفيما يقابله من العوض.
وهل يصح في المقبوض؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة ولو وكل أحدهما وكيلا في القبض، فقبض الوكيل قبل تفرقهما جاز، وقام قبض وكيله مقام قبضه، سواء فارق الوكيل المجلس قبل القبض أو لم يفارقه. وإن افترقا قبل قبض الوكيل بطل؛ لأن القبض في المجلس شرط وقد فات، وإن تخايرا قبل القبض في المجلس لم يبطل العقد بذلك؛ لأنهما لم يفترقا قبل القبض، ويحتمل أن يبطل إذا قلنا بلزوم العقد، وهو مذهب الشافعي؛ لأن العقد لم يبق فيه خيار قبل القبض، أشبه ما لو افترقا.
والصحيح الأول؛ فإن الشرط التقابض في المجلس وقد وجد، واشتراط التقابض قبل اللزوم تحكم بغير دليل، ثم يبطل بما إذا تخايرا قبل الصرف ثم اصطرفا، فإن الصرف يقع لازما صحيحا قبل القبض، ثم يشترط القبض في المجلس.
(فصل) ولو صارف رجلا دينارا بعشرة دراهم، وليس معه إلا خمسة دراهم، لم يجز أن يتفرقا قبل قبض العشرة كلها، فإن قبض الخمسة وافترقا بطل الصرف في نصف الدينار.
وهل يبطل(47/78)
فيما يقابل الخمسة المقبوضة؟ على وجهين: بناء على تفريق الصفقة. وإن أراد التخلص فسخا الصرف في النصف الذي ليس معه عوضه، أو يفسخان العقد كله، ثم يشتري منه نصف الدينار بخمسة ويدفعها إليه، ثم يأخذ الدينار كله، فيكون ما اشتراه منه له، وما بقي أمانة في يده، ثم يفترقان، ثم إذا صارفه بعد ذلك بالباقي له من الدينار، أو اشترى به منه شيئا، أو جعله سلما في شيء، أو وهبه له جاز، وكذلك إن وكله فيه.
ولو اشترى فضة بدينار ونصف ودفع إلى البائع دينارين، وقال: أنت وكيلي في نصف الدينار الزائد صح، ولو صارفه عشرة دراهم بدينار فأعطاه أكثر من دينار؛ ليزن له حقه في وقت آخر جاز، وإن طال ويكون الزائد أمانة في يده لا شيء عليه في تلفه. نص أحمد على أكثر هذه المسائل.
فإن لم يكن مع أحدهما إلا خمسة دراهم، فاشترى بها نصف دينار، وقبض دينارا كاملا ودفع إليه الدراهم، ثم اقترضها منه فاشترى بها النصف الباقي، أو اشترى الدينار منه بعشرة ابتداء، ودفع إليه الخمسة ثم اقترضها منه، ودفعها إليه عوضا عن النصف الآخر على غير وجه الحيلة، فلا بأس.
(فصل) وإذا باع مدي تمر رديء بدرهم، ثم اشترى بالدرهم تمرا جنيبا، أو اشترى من رجل دينارا صحيحا بدراهم وتقابضاها، ثم اشترى منه بالدراهم قراضة من غير مواطأة ولا حيلة، فلا بأس به.(47/79)
قال ابن أبي موسى: لا يجوز إلا أن يمضي إلى غيره ليبتاع منه، فلا يستقيم له فيجوز أن يرجع إلى البائع فيبتاع منه.
وقال أحمد في رواية الأثرم: يبيعها من غيره أحب إلي.
قلت له: فإن لم يعلمه أنه يريد أن يبيعها منه؟ فقال: يبيعها من غيره فهو أطيب لنفسه وأحرى أن يستوفي الذهب منه، فإنه إذا ردها إليه لعله أن لا يوفيه الذهب، ولا يحكم الوزن ولا يستقصي، يقول: هي ترجع إليه.
قيل لأبي عبد الله: فذهب ليشتري الدراهم بالذهب الذي أخذه منه من غيره فلم يجدها، فرجع إليه، فقال: إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره فنعم.
فظاهر أن هذا على وجه الاستحباب لا الإيجاب، ولعل أحمد إنما أراد اجتناب المواطأة على هذا، ولهذا قال: إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره فنعم. وقال مالك: إن فعل ذلك مرة جاز، وإن فعله أكثر من مرة لم يجز؛ لأنه يضارع الربا.
ولنا: ما روى أبو سعيد قال: «جاء بلال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمر برني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء فبعت صاعين بصاع؛ ليطعم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أوه عين الربا لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به (1) » .
وروى أيضا أبو سعيد وأبو هريرة «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا على خيبر، فجاءه بتمر جنيب فقال - صلى الله عليه وسلم -: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله. إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تفعل،
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2312) ، صحيح مسلم المساقاة (1594) ، مسند أحمد بن حنبل (3/67) .(47/80)
بع التمر بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبا (1) » متفق عليهما.
ولم يأمره أن يبيعه من غير من يشتري منه، ولو كان ذلك محرما لبينه له وعرفه إياه، ولأنه باع الجنس بغيره من غير شرط ولا مواطأة، فجاز كما لو باعه من غيره، ولأن ما جاز من البياعات مرة جاز على الإطلاق، كسائر البياعات، فأما إن تواطأ على ذلك لم يجز وكان حيلة محرمة. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز ما لم يكن مشروطا في العقد.
ولنا: أنه إذا كان عن مواطأة كان حيلة، والحيل محرمة على ما سنذكره.
(فصل) والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقدا مباحا يريد به محرما، مخادعة وتوسلا إلى فعل ما حرم الله، واستباحة محظوراته، أو إسقاط واجب أو دفع حق ونحو ذلك.
قاله أيوب السختياني: إنهم ليخادعون الله كأنما يخادعون صبيا، لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل علي.
فمن ذلك: ما لو كان مع رجل عشرة صحاح، ومع الآخر خمسة عشرة مكسرة، فاقترض كل واحد منهما ما مع صاحبه، ثم تباريا توصلا إلى بيع الصحاح بالمكسر متفاضلا، أو باعه الصحاح بمثلها من المكسرة، ثم وهبه الخمسة الزائدة، أو اشترى منه بها أوقية صابون أو نحوها ما يأخذه بأقل من قيمته، أو اشترى منه بعشرة إلا حبة من الصحيح مثلها من المكسرة، ثم اشترى منه
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، موطأ مالك البيوع (1314) .(47/81)
بالحبة الباقية ثوبا قيمته خمسة دنانير.
وهكذا لو أقرضه شيئا أو باعه سلعة بأكثر من قيمتها، أو اشترى منه سلعة بأقل من قيمتها توصلا إلى أخذ عوض عن القرض، فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم.
وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: ذلك كله وأشباهه جائز، إذا لم يكن مشروطا في العقد. وقال بعض أصحاب الشافعي: يكره أن يدخلا في البيع على ذلك؛ لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد يكره أن يدخلا عليه.
ولنا: أن الله تعالى عذب أمة بحيلة احتالوها، فمسخهم قردة، وسماهم معتدين، وجعل ذلك نكالا وموعظة للمتقين؛ ليتعظوا بهم ويمتنعوا من مثل أفعالهم، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (1) ، أي: لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فروي أنهم كانوا ينصبون شباكهم للحيتان يوم الجمعة، ويتركونها إلى يوم الأحد، ومنهم من كان يحفر حفائر ويجعل إليها مجاري فيفتحها يوم الجمعة، فإذا جاء السمك يوم السبت جرى مع الماء في المجاري، فيقع في الحفائر فيدعها إلى يوم الأحد، ثم يأخذها ويقول: ما اصطدت يوم السبت ولا اعتديت فيه.
فهذه حيلة. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين وهو لا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 138(47/82)
يأمن أن يسبق فليس بقمار (1) » رواه أبو داود وغيره، فجعله قمارا مع إدخاله الفرس الثالث؛ لكونه لا يمنع معنى القمار. وهو كون كل واحد من المتسابقين لا ينفك عن كونه آخذا أو مأخوذا منه، وإنما دخل صورة تحيلا على إباحة المحرم، وسائر الحيل مثل ذلك، ولأن الله تعالى إنما حرم المحرمات؛ لمفسدتها والضرر الحاصل منها.
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2579) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2876) ، مسند أحمد بن حنبل (2/505) .(47/83)
رابعا: لما رأى مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الحادية والعشرين إعداد بحث في موضوع البورصة يشتمل على ما تيسرت معرفته من صور البورصة، كتب سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إلى معالي محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي بالرياض، يطلب منه وصفا كاملا لأسواق المضاربات في الأسواق العالمية؛ ليكون إعداد البحث في بيان الحكم الشرعي تطبيقا للأدلة الشرعية على ما سيرد من صور الموضوع رسميا، فجاء إلى سماحته تفصيل الموضوع من معاليه، وفيما يلي نصه مع تعليق اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عليه:
المضاربة في السلع التجارية وأسواق البورصة الدولية
تستخدم كلمة (المضاربة) في المناقشات الإسلامية في الوقت الحاضر للدلالة على أنواع مختلفة من النشاطات الاقتصادية، فمن جهة تستخدم للدلالة على مشاركة يقوم صاحب رأس المال فيها بتقديم التمويل المالي، ويقوم المضارب بأعمال التنظيم والإدارة، ويتم تقسيم الربح بين الشريكين وفق نسب متفق عليها بينهما، ويتحمل صاحب المال الخسارة لوحده.
ومن جهة ثانية (1) تستخدم كلمة (مضاربة) للدلالة على
__________
(1) هذه المضاربة هي موضوع البحث، وسيأتي الكلام على حكمها تعليقا على ما سيوضح من تصوير أنواعها.(47/84)
الصفقات التي تبرم في أسواق السلع التجارية وأسواق البورصة العالمية كما سيوضح في هذه الدراسة.
وهي صفقات يمكن اعتبارها من نوع المقامرة البحتة في بعض الحالات، كما يمكن اعتبارها ذات فائدة لدعم النشاط الاقتصادي في حالات أخرى.
المضاربة:
لقد أثار نشاط المضاربة جدلا كبيرا حتى في البلدان الغربية بسبب صلته الوثيقة بالقمار، وبالرغم من أن المضاربة تعتبر نشاطا مشروعا في الغرب، إلا أن هناك عددا من الكتاب الذين يعتبرون (المضاربة) مرادفا للقمار، ويعتقدون أن المضاربة تتحمل مسئولية عدم الاستقرار في أسعار السلع التجارية وأسعار الصرف للعملات الرئيسية وأسعار البورصة.
وبناء عليه فقد وضعت الحكومات والبنوك المركزية والجهات المسئولة عن أسواق السلع قواعد تنظيمية؛ لتنظيم عمل أسواق المضاربة للحيلولة دون تلاعب الأفراد والفئات بأسعار السلع، وذلك لحماية جمهور المستهلكين من مضار ذلك، وكانت هذه القواعد التنظيمية محدودة الفائدة، ويتم مزاولة المضاربة في الأسواق الآجلة للسلع التجارية، والأسواق الآجلة للعملات(47/85)
الأجنبية وفي أسواق الأسهم (1) .
الأسواق الآجلة:
تتم المضاربة في عدد كبير من السلع في الأسواق الآجلة، نورد فيما يلي قائمة ببعضها، وهذه القائمة ليست شاملة، بل لإعطاء فكرة عن أنواع السلع في تلك الأسواق.
المواد الغذائية:
1 - الحبوب والقمح والذرة والشوفان والشعير.
2 - الدهون والزيوت وفول الصويا وزيت الصويا وزيت القطن.
3 - المواشي والدواجن بمختلف أنواعها ومنتجاتها وأعلافها.
4 - مواد غذائية أخرى كالبطاط والسكر والبن والبيض المبرد ووجبات فول الصويا والسمك ودبس السكر.
مواد أولية صناعية:
القطن والصوف المجزوزو، والخشب باختلاف أنواعه والمطاط.
معادن أساسية:
البلاتين والنحاس والقصدير والزئبق.
معادن ثمينة:
الذهب والفضة.
__________
(1) هذه الأنواع سيأتي تصويرها في نص الأصل وبيان حكمها تعليقا.(47/86)
العملات الأجنبية:
الدولار والجنيه الإسترليني، والعملات الرئيسية الأخرى.
ولإعطاء فكرة واضحة عما تنطوي عليه المضاربة في الأسواق الآجلة، ومدى الفرق بينها وبين القمار لو كان مناك فرق، فمن المهم التعرف على أوجه الخلاف المتميزة بين أسواق السلع النقدية (الفورية) والأسواق الآجلة.
1 - الأسواق النقدية (أو الفورية) : يتم في هذه الحالة تنفيذ العقد بتسليم السلع مقابل قيمتها، غير أنه يمكن عندئذ أن يتم تسليم السلعة في هذه الحالة في تاريخ محدد يتفق عليه بموجب العقد في حال كون الصفقات كبيرة مثلا، أو أن المسافة التي تفصل بين البائع والمشتري بعيدة، أو أن الزمن الذي تستغرقه عملية الإنتاج طويلة؛ ولذلك فقد تكون هناك فترة زمنية بين موعد إبرام العقد وموعد تسليم البضاعة أو تسديد قيمتها، إلا أن الصفقة تصبح ملزمة للطرفين بمجرد توقيع العقد، وفي مثل هذه الصفقات ليس هناك مجال (للخيار) على الإطلاق حتى ولو لم تتم عملية التبادل الفعلي بصورة فورية(47/87)
وتعرف الأسواق النقدية أيضا بالأسواق (الفورية) ؛ لذا فمن صفات هذه الأسواق:
1 - أن القصد من العقد التسليم الفعلي للبضاعة مقابل الثمن.
2 - يمكن أن يتم تسليم البضاعة وتسديد قيمتها إما فورا أو في موعد لاحق، وبهذه الحالة يتم تحديد تاريخ محدد في العقد للتسليم.
3 - يمكن أن يتم تسديد القيمة حالا مقابل استلام البضاعة مستقبلا حسب الاتفاق بين البائع والمشتري.
4 - نادرا ما يتم تسديد قيمة السلع بالكامل قبل تسليمها، وعادة يقوم المشتري بتسديد جزء من قيمة البضاعة كدفعة مقدمة عند توقيع العقد.
5 - عادة لا يطلب من البائع دفع ضمانة، إلا أنه في بعض العقود يطلب منه أن يقدم ضمانة نسبة معينة من قيمة البضاعة؛ لضمان تنفيذ شروط العقد بالكامل.
6 - إذا تعذر على أحد الطرفين تنفيذ التزاماته التعاقدية، فيحق(47/88)
للطرف الآخر المطالبة بالتعويض عن الأضرار الناجمة.(47/89)
2 - الأسواق الآجلة:
خلافا للأسواق النقدية التي سبق ذكرها فقد نشأت أسواق أخرى تسمى الأسواق الآجلة، وفي هذه الأسواق يمكن للمنتج من صاحب مصنع أو مقاول أو مزارع أو تاجر ممن يتوقع حصيلة معينة مستقبلا، أو يتوقع حاجته لسلعة معينة مستقبلا أن يتعاقد على بيع أو شراء تلك السلعة أو الحصيلة بثمن معلوم حالا (أي: حال معرفته بحاجته أو حصيلته، والذي يسبق عادة وقت تحصيل الإنتاج أو تحقيق الحاجة الفعلية بزمن) .
وهو بذلك يتأكد من دخله أو من تكلفته مستقبلا، ويتجنب مخاطر تذبذب أسعار هذه السلع بين الوقت الحاضر وبين وقت التسليم أو الاستلام الفعلي للسلعة أو الحصيلة، ويزعم مؤيدوا هذه الأسواق أنها تمكن هؤلاء المنتجين أو أصحاب الحاجة من تجنب مخاطر تقلبات الأسعار.
وقد نتج عن ذلك تطور سوق للاتجار في تلك المخاطر بواسطة فئة هم المضاربون، وعملية اتجارهم في مخاطر تقلبات الأسعار يمكن تسميتها بالمضاربة، كما نشأت عمليات مختلفة من العقود، متفرعة عن مبدأ تجنب مخاطر تذبذب الأسعار، يقوم بها المنتجون وأصحاب الحاجة لحماية أنفسهم مستقبلا تسمى التغطية الاحتياطية.(47/89)
التغطية الاحتياطية:
وهي عبارة عن عملية التعاقد على بيع أو شراء بضاعة أو سلعة معينة مستقبلا؛ لتغطية التزام قائم على الشخص المتعاقد بالنسبة لهذه البضاعة معروف الآن وملتزم به من الشراء أو البيع بالسعر الحالي، ويراد بهذا العقد تحاشي التذبذب المحتمل في الأسعار بين الوقت الحاضر - وقت الالتزام - والمستقبل - وقت التسليم أو الاستلام -.
فالتاجر أو المنتج يعتمد في أعماله على هامش ربح بسيط لكي يكون منافسا، وأي تحرك غير متوقع في أسعار المواد الخام والسلع التي يتعامل بها تصنيعا أو تجارة أو توريدا يمكن أن يؤدي إلى خسارة فادحة، وهو يفضل الحد من هذه المخاطر بتغطية التزاماته الحالية بعقود مستقبلية، والمثال التالي سيوضح كيف تساعد التغطية الاحتياطية هذه:
تعاقد صاحب مطحنة دقيق مع صاحب مخبز في شهر يوليو على أن يورد له كمية 5000 كيس من الدقيق، يسلمها له في شهر ديسمبر، ولكي تنتج المطحنة هذه الكمية من الدقيق تحتاج إلى 25 ألف مكيال من القمح، والمطحنة لكي تنتج هذه الكمية(47/90)
لتسليمها في شهر ديسمبر لن تحتاج للقمح إلا في شهر نوفمبر، ولكن في شهر يوليو عند التعاقد لا يعلم صاحب المطحنة عما سيكون عليه سعر القمح في شهر نوفمبر عندما يحتاج لشراء القمح؛ ولذلك فهو:
1 - إما أن يوقع عقده مع صاحب المخبز على توريد الكمية، ويتم تحديد السعر في شهر نوفمبر (عندما يعرف تكلفة القمح عليه) ، وهذا يناسب صاحب المطحنة، ولكنه لن يناسب صاحب المخبز الذي يرغب الدخول في عقود توريد خبز لعملاء كبار كمدارس أو مستشفيات أو مراكز تغذية، وبالتالي يحتاج لمعرفة التكلفة عليه من الآن.
2 - أو أن يقوم صاحب المطحنة بشراء القمح من الآن بالسعر الحالي، ويحسب هذا السعر في تحديد قيمة الدقيق، ولكن هذا سيتطلب تجميد رأس مال كبير لفترة طويلة، علاوة على تعريض القمح للتلف من فترة التخزين الطويلة. كما سيتطلب توفير مستودعات كبيرة لتخزين حاجة شهر نوفمبر والأشهر التي قبلها إذا أراد صاحب المطحنة أن يشتري الآن لكل عقد يتعاقد عليه في المستقبل، وكل ذلك يزيد في التكلفة أيضا.
3 - أن لا يتعاقد صاحب المطحنة من الآن ويؤجل التعاقد إلى(47/91)
شهر نوفمبر، ولكن ذلك سيوجد حالة من عدم الاستقرار لكل من المطحنة والمخبز والعمال لديهما، كما أن المخبز لن يستطيع التعاقد مع عملائه من كبار المستهلكين لمنتجاته، بينما يفضل كل منهم أن يعرف خطته لفترة ستة أشهر أو عام؛ بحيث يخطط مشترياته وتوظيفاته وحاجته من المعدات وغيرها على أساسه.
4 - أو أن يوقع العقد ويحدد السعر من الآن، ولا يقوم بشراء القمح إلا في شهر نوفمبر وفي هذه الحالة إن انخفض سعر القمح فسيكسب مكاسب كبيرة، وإن ارتفع سعره عما احتسبه فسيخسر خسائر كبيرة قد تؤدي لإفلاسه.
إن جميع هذه البدائل الأربعة صعبة ومكلفة، وفي حال وجود الأسواق الآجلة وعقود التغطية الاحتياطية، فباستطاعة صاحب المطحنة حماية نفسه من المخاطر، وذلك أن يقوم بالاستجابة لحاجة المخبز، وتوقيع عقد بيع الطحين من الآن، وتحديد السعر حسب التكلفة الحالية (أي حسب أسعار القمح السائدة حالا مضافا إليها تكلفة التغطية الاحتياطية) ، ثم يقوم بالتغطية الاحتياطية، وذلك يعني أنه بتكلفة بسيطة لا تزيد عما يتوقع أن يتغير به السعر خلال الفترة يشتري عقد شراء من السوق(47/92)
الآجلة لشهر ديسمبر بنفس الكمية، وفي شهر نوفمبر وقت حاجة القمح - يشتري من السوق الحالة حاجته من القمح، ويبيع عقد ديسمبر الآجل، فإذا كان عندها سعر القمح قد ارتفع بريال واحد للمكيال، تكون قد زادت تكلفة القمح عليه 25 ألف ريال عما احتسبه في تكاليفه، ولكنه أيضا يكون عقد ديسمبر قد ارتفعت قيمته؛ لارتفاع سعر القمح بقيمة مماثلة، وبالتالي فخسارته هنا يغطيها مكسبه في عقد الآجل، والعكس بالعكس لو انخفض سعر القمح فما يكسبه نتيجة انخفاض التكلفة، يخسره نتيجة انخفاض قيمة عقد الآجل، وبهذه الحالة يؤمن صاحب المطحنة وضعه من مخاطر الذبذبة في سعر القمح.
ويلاحظ أن العقد الآجل هنا يختلف عما لو قام صاحب المطحنة بشراء حاجته من القمح، بحيث تسلم له في شهر نوفمبر، فمثل هذا العقد يمكن أن يتم في السوق الفورية، ولكنه يتطلب دفعة مقدمة عالية، وبالتالي فهو يحتاج إلى رأس مال أكثر مما تحتاجه عقود التغطية الاحتياطية.
وفي المثال أعلاه فإن صاحب المطحنة يحاول أن يحمي نفسه من تذبذب السعر، ويحملها على المضارب الذي باعه العقد الآجل، حيث يؤمل المضارب أن يحصل على أرباح عالية، وفي سبيلها فهو مستعد لتحمل المخاطر، ودور المضارب هنا هو التجارة في تلك المخاطر فقط، فهو ليس منتجا للقمح أو متاجرا(47/93)
فيه، وإنما هو مضارب يتاجر في احتمالات تذبذب الأسعار حسب توقعاته عن اتجاهات الأسعار، فإذا صدقت توقعاته حقق مكاسب عالية، وإذا لم تتحقق فإن خسائره عالية أيضا.
وفي هذه العقود لا يحتاج المضارب إلا إلى رأس مال منخفض جدا مقارنة بما يحتاجه المتاجر في نفس البضاعة، فالمضارب في هذه العقود يحتاج لدفع هامش ضمان، يحدد بناء على ما يتوقع من مجال تذبذب سعر السلعة في تلك الفترة، ويتراوح بين 5 % إلى 10 % من قيمة السلعة المتعامل بها، فعلى سبيل المثال إذا قام مضارب بشراء كميات كبيرة من القمح عندما يكون سعر المكيال 12. 5 ريالا فقيمة 25 ألف مكيال من القمح 312. 500 ريالا، فإذا كانت نسبة هامش الضمان الذي يتوجب عليه دفعه عند التعاقد 10 % فلن يدفع أكثر من 31. 250 ريالا.
فإذا ارتفع سعر القمح بريال وربع للمكيال الواحد أي 10 % فسيحقق ربحا مقداره 13. 250 ريالا، أي: نسبة 100 % من الهامش الذي دفعه، وهو رأس ماله المستثمر في هذه العملية، بينما لو قام بشراء القمح مقابل سداد كامل قيمته، وبعد ارتفاع القيمة قام ببيعه، فسيحقق نفس الربح إلا أن استثماره كان عشرة أضعاف السابق، أي: (321. 550 ريالا) ، وبالتالي فإن ربحه لا يتجاوز 10 % من رأس ماله، غير أنه لو انخفضت الأسعار بنفس النسبة في حال الشراء بالهامش لكانت خسارته كامل رأس ماله؛ لذلك تتسم(47/94)
المضاربة بدرجة من المخاطرة تفوق كثيرا المخاطر التي تنطوي عليها التجارة الحقيقية.
ويمكن تطبيق نفس المثال على أي سلعة خلاف القمح من السلع التي يتم التعامل بها في أسواق السلع، والمذكورة في بداية البحث.
المضاربة:
إن الفرق الرئيسي بين أسواق البيع العاجل (الفورية) والأسواق الآجلة ليس عامل الزمن، فالتسليم في الأسواق الآجلة يمكن أن يكون في الشهر الحالي، بينما التسليم في الأسواق الفورية يمكن أن يتفق عليه لوقت لاحق.
ومن قواعد الأسواق الآجلة أن السلعة بينما هي معروفة ومحددة الأوصاف والنوعية، إلا أنها ليست حسب عينة محددة، وبالتالي فقد تختلف درجة النوعية ضمن حدود معينة دون الخروج عن تعريفها وأوصافها المحددة في قواعد السوق، كما أن من قواعد السوق أن يكون التسليم بالشهر، أي: لشهر يناير أو يوليو أو ديسمبر مثلا، وليس بتاريخ معين من الشهر، وعليه فللبائع الحق في تحديد التاريخ من الشهر، والنوعية المعينة التي يريد تسليمها وفاء بالعقد، ويلتزم المشتري بالاستلام ما دامت(47/95)
تنطبق شروط السوق، أما في الأسواق الفورية فإن المشتري يتعاقد على شراء السلعة حسب المواصفات، وبالشروط التي يعينها ويحدد درجة النوعية ومواصفاتها، بل وحسب عينة محددة إن شاء، كما يحدد تاريخ التسليم المرغوب فيه.
والفروقات الرئيسية بين الأسواق الفورية والآجلة هي:
1 - الغرض من العقد:
لعل الفرق الرئيسي بين الأسواق الآجلة والفورية يكمن في المضاربة، ففي الأسواق الفورية فإن نية المشتري والبائع هي التسليم والاستلام، وهو الغرض من العقد، بينما في الأسواق الآجلة فمع أنه - نظاما وتعاقديا - يحق للبائع تسليم السلعة فعلا في أي موعد من الشهر المحدد في العقد، ويلتزم المشتري بالاستلام وتسليم كامل القيمة (كما أنه يحق للمشتري المطالبة بالاستلام، ويلتزم البائع بالتسليم) إلا أنه لا توجد نية لدى أي منهما للتسليم والاستلام عند إبرام العقد، وليس التسليم والاستلام هو الغرض من العقد، ولا يحدث التسليم والاستلام في السوق الآجلة إلا في حالات نادرة، ويتم تصفية 99 % تقريبا من العقود بعقود تعويضية مقابلة (أي تصفية عقود البيع بعقود شراء معاكسة) (1) . والعكس بالعكس.
ومن قواعد السوق أنه إذا كان لدى الشخص عقدان
__________
(1) انظر التعليق على ما جاء في هامش عنوان الأسواق النقدية أو (الفورية) ص 87، 88.(47/96)
متعاكسان (بيع وشراء) لنفس السلعة وبنفس الأجل تتم المقاصة بينهما وتصفيتهما، وتتم التسوية بتسديد الفرق بين العقدين، فإن كان سعر الشراء أقل من سعر البيع حقق ربحا، وإن كان أكثر تحمل خسارة تحسم من الهامش الذي دفعه، فإن لم يكف الهامش طولب بالباقي، وعليه فقد يحقق المتعامل ربحا أو خسارة دون أن يتم التسليم أو الاستلام الفعلي للسلعة أو كامل القيمة.
2 - دور الدفعة المقدمة (الهامش)
الفرق الثاني بين العقد في السوق الفوري والعقد الآجل يكمن في دور الهامش أو الدفعة المقدمة.
ففي كلا العقدين يطلب من المشتري دفع هامش أو دفعة مقدمة (إن لم يكن كامل القيمة في حال العقد الفوري) إلا أن نوع الهامش ودوره مختلف، ففي العقد الفوري يكون الهامش أكثر، تقريبا 25 % من قيمة العقد على الأقل، على أن يسدد الباقي عند استلام البضاعة، وقد يطلب منه ضمان بنكي يغطي باقي القيمة.
أو يحسب الباقي كقرض بذمة المشتري، أما في العقد الآجل فإن الهامش أقل كثيرا 5 % تقريبا، ويطلب من المشتري ومن البائع (ويحدد حسب التذبذب المتوقع في سعر السلعة) ، ودور الهامش هنا لتغطية الخسارة المحتملة فيما لو انخفض سعر السلعة، وعند حدوث الانخفاض فقد تطلب هيئة المقاصة ضمانات إضافية، ويجب الاستجابة لطلبها خلال مدة ساعة من(47/97)
استلام إشعار المطالبة.
فالمشتري في السوق الفورية عند تعاقده يتوقع، ويكون مستعدا للدفع الكامل لقيمة السلعة، بينما في السوق الآجلة يمكن أن يتعاقد ولا يكون لديه أكثر من الهامش، ولا ينوي أو يستعد بتوفير باقي القيمة.
3 - الكاسب أحد المتعاقدين أو كلاهما:
والفرق الثالث بين السوقين أنه في السوق الفوري يمكن أن يكسب البائع، ويكسب المشتري عند بيعه السلعة عند ارتفاع سعرها، أو يمكن أن يخسر كلاهما لو انخفض سعر السلعة واستمر في الانخفاض، أما في الأسواق الآجلة فلا يحقق الربح فيها إلا فريق واحد حيث يتكبد الفريق الآخر الخسارة، حسب اتجاهات الأسعار، وبالتالي فهي كعملية الرهان.
4 - صفقات الخيار:
والفرق الرابع وجود صفقات خيار يتاجر بها في الأسواق الآجلة، وهذا عادة يتم في الأسواق المالية للأسهم والسندات، وسيتم شرح ذلك فيما بعد، ولا يوجد صفقات خيار في الأسواق الفورية.(47/98)
المتعاملون في الأسواق الآجلة:
وتجدر ملاحظة أنه بينما نشأت هذه الأسواق (الآجلة) بسبب الرغبة في التغطية الاحتياطية من قبل أصحاب الحاجات من بائعين ومشترين، إلا أنها تطورت ليدخلها أطراف آخرون، وواضح أنه لا يمكن لهذه الأسواق أن تدوم لولا وجود فئات أخرى من المستثمرين الذين يرغبون الاستثمار في المضاربة، وهم فئة المضاربين الذين يرغبون المخاطرة بأموالهم وتعريضها للخسارة العالية في سبيل تحقيق أرباح كبيرة.
ويمكن تصوير العمليات في هذه الأسواق بأنها: فصل عوامل المخاطرة في تقلبات الأسعار من عمليات الصناعة والتجارة والمقاولات والزراعة مثلا، وعرضها: أي عوامل المخاطرة للاتجار بها، (أو المضاربة عليها) ، ويعمد للاتجار - أو المضاربة - في هذه العوامل فئة من المستثمرين يرغبون المخاطرة برأس مالهم؛ طمعا في تحقيق مكاسب عالية، والكاسبون في هذه المضاربات هم الفئة التي يتحقق حدسهم في توقع اتجاه الأسعار، إما بمحض الصدفة أو بما لديهم من أبحاث، أو معرفة بالأسواق ومقدرة على تحليل تلك الاتجاهات بدقة أفضل من غيرهم.
ولذا فالمتعاملون في هذه الأسواق الآجلة هم فئات مختلفة من أصحاب الحاجة التي يقصدونها؛ لتحقيق تغطية احتياطية لالتزاماتهم بيعا أو شراء، ومن المستثمرين الذين يرغبون استثمار أموالهم بالاتجار في هذه المخاطر، وهو كما هو واضح تعريض(47/99)
لهذه الاستثمارات لمخاطر عالية.
المضاربة. والقمار:
هل المضاربة نوع من القمار؟ بما أن المضارب إنما يستثمر أمواله بتعريضها للخسارة العالية في سبيل تحقيق أرباح عالية لو صدق حدسه، فكأنما هو يراهن على اتجاه الأسعار، لقد ناقش الاقتصاديون هذا السؤال منذ مدة طويلة ولم ينته النقاش، فالبعض يرى أنهما متشابهان من عدة أوجه، فكلاهما يعتمد تحقيق نتائج في المستقبل المجهول، وكلاهما ينطوي على مخاطر الخسارة الكبيرة؛ بغية تحقيق الأرباح الكبيرة (1) ، بينما يرى البعض الآخر أن هناك فرقا، فبينما يعتمد القمار على خلق مخاطر لا وجود لها بدون القمار، تعتمد المضاربة على افتراض وجود مخاطر تجارية في عالم الواقع (2) ، وأن سوق المضاربة تخدم غرضا اقتصاديا؛ إذ تساعد ذوي الحاجة على تغطية المخاطر في أعمالهم بإتاحة الفرصة لهم، بعزل هذه المخاطر وعرضها للبيع في سوق المضاربة، كما حصل لصاحب المطحنة في المثال السابق.
__________
(1) هذا هو الذي يشهد له الواقع.
(2) كلاهما يعتمد إيقاع نفسه في مخاطر، ويخوض غمارها؛ طمعا في الكسب من غير وجهه الشرعي.(47/100)
الأسواق الآجلة للعملات الأجنبية
كما سبق ذكره في بداية البحث فهناك أيضا أسواق فورية وآجلة للمتاجرة بالعملات الأجنبية، ويتم التسليم بالنسبة للعقود الفورية حسب المتبع دوليا بعد يومين من إبرام العقد، وهذان اليومان ضروريان بسبب فارق الوقت بين المراكز المالية المختلفة؛ وليكون هناك وقت كاف لتنفيذ العقد؛ بإرسال خطابات التلكس وتنفيذ الإشعارات بإجراء القيودات المختلفة.
أما في السوق الآجلة فيتم تسليم العملات الأجنبية في موعد لاحق يتم تحديده في العقد، ويدعى تاريخ التسليم، سواء في العقود الفورية أو الآجلة، بموعد الاستحقاق والتسليم يتم عادة بتسجيل المبلغ المتفق عليه بالعملة المتفق عليها في حساب المشتري.
وقد نشأت الحاجة للأسواق الآجلة في العملات الأجنبية بسبب التداخل والترابط والتعقيد الذي أصبح عليه الاقتصاد والأعمال التجارية في العالم.
فالمقاول مثلا يتعاقد على تنفيذ عملية بناء في بلد كالسعودية، وتدفع قيمة العقد له بالريال، ولكنه لتنفيذ العقد يتحمل مصاريف قيمة مشتروات أو أجور يضطر لدفع بعضها(47/101)
بعملات أجنبية، ونظرا لوجود فارق زمني بين وقت تقدير تكاليفه وتوقيع العقد، ووقت استلام كامل القيمة بعد إنجاز العمل، فإنه قد يتعرض لخسارة لو تغيرت قيمة العملات الأجنبية خلال هذه الفترة.
وللتوضيح: لنفترض أن مقاولا تعاقد لإنشاء بناء بمبلغ 340 مليون ريال في وقت كان سعر صرف الريال 40 ر 3 ريالا للدولار الأمريكي، وأن العقد يستغرق تنفيذه 12 شهرا، ولنفترض للتبسيط أن القيمة تدفع على دفعتين 20% عند توقيع العقد، والباقي 80% بعد انتهاء العمل، كما نفرض أن المقاول عند احتساب تكلفته للمناقصة على المشروع قدر أن جزءا من تكاليفه قيمته 60 ميلون دولار سيدفعه بالدولار، وأعد ترتيبه بحيث يدفعه بعد انتهاء المشروع، واستلام 80% من قيمة العقد، وأدخل في حساباته هذا الجزء بسعر الصرف السائد عند توقيع العقد، أي: ما يساوي 204 مليون ريالا (60 × 3. 40= 204) .
فإذا تغير سعر صرف الدولار بالريال خلال العام تغيرت تكلفة هذه الـ 60 مليون دولارا، عندما يستلم باقي قيمة العقد، ويقوم بشراء الدولارات، فلو تغير سعر الصرف من 3. 40 ريالا للدولار إلى 3. 44 فستزيد عليه تكلفة الدولارات من 204 مليون إلى 206. 4 مليون ريالا.
لذا فمع أن المقاول قد يكون دقيقا ومجتهدا وناجحا في عمله، إلا أنه قد يتعرض لخسارة بسبب خارج عن سيطرته وعن مجال عمله، وللتغلب على مثل هذه الخسائر فهو يستطيع شراء مبلغ 60 مليون دولارا من السوق الآجلة بحيث يستلمها بعد عام(47/102)
من الآن بسعر الصرف الحالي، مضافا إليه العمولة التي يتقاضاها البائع، والبائع هنا قد لا تكون لديه الدولارات في ذلك الوقت، ولكنه في هذه الأسواق يكون لديه دائما تصورات وتقديرات عن اتجاهات أسعار الصرف المستقبلية - والتي قد تتحقق أو قد لا تتحقق - وبناء على تقديراته فهو يحسب ما يقدر أنه سيكون عليه سعر صرف الدولار بعد عام، ويضيف إليه ربحه بحيث يستطيع وقت التسليم شراء الدولارات من السوق - في حال عدم توفرها لديه - وتسليمها للمشتري دون خسارة.
ومما تحقق في هذه العملية أن المقاول قام بالتغطية الاحتياطية عن تقلبات سعر صرف العملة الأجنبية، وتخلص من تلك المخاطرة بحيث تأكد من تكلفة هذه الدولارات عليه، وتحمل المخاطرة عنه في تقلبات قيمة الدولارات البائع الذي هو عادة ممن يتاجرون بالعملات الأجنبية من البنوك المتخصصة.(47/103)
سوق الأوراق المالية (البورصة)
يشمل سوق الأوراق المالية المتاجرة بأسهم الشركات المساهمة، وسندات القروض التي هي عادة سندات على الحكومات أو على الشركات، وسوف نقصر البحث هنا على المتاجرة بالأسهم في الأسواق الفورية والآجلة، والمضاربة بها.
توفر سوق الأسهم مجالا يساعد - المدخرين على استثمار مدخراتهم في أصول (هي الأسهم) ، يمكن تحويلها إلى سيولة نقدية بسهولة عند الحاجة، كما يستطيع الفرد المتاجرة بالأسهم، وتحقيق الربح، وذلك بالبيع والشراء في الأوقات التي يراها مناسبة.
ويتوفر للأوراق المالية أسواق فورية وأسواق آجلة:
السوق الفوري للأسهم:
يتم معظم التبادل في الأسواق المالية على أساس التبادل الفوري على أنه قد يتم عقد البيع، ويدفع مشتري الأسهم دفعة مقدمة، وما يتبقى من القيمة يعتبر قرضا بذمة المشتري، يدفع عليه فوائد القروض المماثلة حتى يسدده بدفع نقد من عنده، أو ببيع بعض أسهمه، وتخدم الأسواق المالية كمجال رئيسي(47/104)
للمستثمرين من أفراد ومؤسسات ادخار ومؤسسات استثمارية، ويتم معظم نشاطها في الأسواق الفورية.
الأسواق الآجلة:
قد يتجاوز الفرد عمليات البيع والشراء العادية في حدود ما لديه من رأس مال إلى المضاربة؛ بعقد صفقات كبيرة تفوق حدودها إمكانياته المالية، ويستخدم ما لديه من رأس مال لتغطية الهوامش اللازمة لعقد الصفقات.
لذلك فكما في أسواق السلع هناك أيضا مضاربات في أسواق الأسهم، وقد تعقد صفقات مكشوفة، حيث يقوم المضارب بالتعاقد لبيع عدد من الأسهم بسعر محدد مستقبلا وهو لا يملك الأسهم، أو التعاقد لشرائها مستقبلا، وهو لا يملك القيمة، وإنما توقعا في أن يتغير سعر تلك الأسهم لصالحه فيقوم بشرائها عند وقت التسليم وتسليمها إن كان بائعا، أو بالاقتراض لدفع القيمة إن كان مشتريا، إن لم يقم ببيعها قبل استلامها، ويستفيد من فرق السعر كربح، ويعرف البائعون في هذا المثال بالمضاربين على انخفاض أسعار الأسهم، والمشترون بالمضاربين على ارتفاعها.
ويطلب من المضارب في كلا الحالتين دفع دفعة نقدية مقدمة كهامش؛ ضمانا للوفاء بالعقد، ونسبة الضمان في أسواق الأسهم أعلى بكثير منها في أسواق السلع(47/105)
الآجلة (1) .
عقود الخيار:
كذلك تطورت في الأسواق الآجلة عقود تسمى عقود خيارات بحق البيع أو حق الشراء عند سعر معين، ويتاجر بها المضاربون، وبموجب هذه العقود يشتري المضارب حق الخيار لشراء عدد محدد من أسهم شركة معينة مثلا عند سعر معين، هو السعر الحالي خلال مدة معينة، أو يشتري حق بيع عدد محدد من أسهم شركة معينة عند سعر معين هو السعر الحالي، ويدفع مقابل أي من هذين العقدين ثمنا هو قيمة هذا الحق، فإذا ارتفعت أسهم الشركة الأولى، وتجاوزت السعر الحالي مضافا إليه ما دفعه قيمة حق الخيار للشراء، أصبح من مصلحته شراؤها بالسعر المحدد في العقد وتحقيق ربح، وكذلك إذا انخفضت أسعار أسهم الشركة الثانية بما تزيد عما دفعه قيمة حق الخيار في البيع، أصبح من مصلحته بيعها بالسعر المتفق عليه، وتوفير خسارة إن كانت الأسهم لديه، أو شراؤها من السوق بالسعر المنخفض، وبيعها بسعر العقد، وتحقيق ربح.
وبموجب هذه العقود يدفع المشتري قيمة هذا الخيار مبلغا يتفق عليه، وهو عادة ثمن منخفض يتحدد حسب توقعات احتمالات ارتفاع أسعار الأسهم في حال حق الشراء أو انخفاضها في حال حق البيع، فكلما زادت الاحتمالات ارتفعت القيمة،
__________
(1) في ذلك ما في الذي قبله من الربا.(47/106)
وتتم المتاجرة في هذه العقود من قبل الأشخاص الذين يأملون في الاستفادة من حركة أسعار الأسهم؛ بتحقيق عائد كبير قد يصل إلى أضعاف استثماراتهم.
ويوضح المثال التالي هذه العمليات:
لنفترض أن سعر أسهم شركة ما (شركة الحديد) في السوق حاليا 70 دولارا للسهم، وأنه معروض في السوق حق خيار الشراء 100 سهم بالسعر الحالي خلال 90 يوما مقابل ثمن غير قابل للاسترجاع قدره 4 دولارات للسهم، فإذا ارتفع سعر سهم هذه الشركة خلال فترة ألـ 90 يوما إلى 76 دولارا مثلا، فيصبح ربح المشتري كالتالي:
قيمة الأسهم الحالية إذا باعها بسعر السوق (76 × 100= 7600) يخصم منها: تكلفة شراء حق الخيار (4 × 100- 400) دولار + تكلفة شراء الأسهم (70 × 100= 7000) = إجمالي التكلفة 7400. صافي الربح = 200.(47/107)
وبالتالي فقد استثمر المضارب هنا مبلغ 400 دولار هي ما دفعه قيمة حق الخيار في الشراء، وحقق ربحا قدره 200 دولار أي: 50% من استثماراته خلال 90 يوما.
ويلاحظ هنا أن الثمن الذي دفعه وقدره 4 دولارات للسهم غير قابل للاسترجاع، كذلك فإن الشخص هنا يستطيع عند ارتفاع سعر السهم إلى 76 دولارا أن لا يشتري الأسهم إذا كانت لا تتوفر لديه القيمة كاملة، بل أن يبيع حق الخيار هذا حيث وقتها ستبلغ قيمة حق الخيار 6 دولارات (1) ، وتوجد في أسواق الأسهم الكبيرة المنظمة تسهيلات كافية، ومتعاملون كثيرون، تمكنه من تنفيذ ذلك بسهولة، وكذلك يلاحظ أن خسارة المضارب في المثال السابق محدودة بالـ 400 دولار، حيث إن لم ترتفع أسعار أسهم الشركة فهو وحده له الخيار، وبالتالي يستطيع تجنب تنفيذ الشراء وقبول خسارة ألـ 400 دولار (2) .
وبالمقارنة فإنه لو قام بالشراء الفوري لهذا العدد من الأسهم لتحقيق الربح فسيحتاج إلى رأس مال قدره 7000 دولار، وإن باعها بعد ارتفاع أسعارها بـ 7600 فسيكون ربحه 600 دولار، أي: حوالي 9% كعائد على رأس ماله المستثمر، وهو أقل مما لو استثمر في حق الخيار.
وقد ساعدت المضاربة في أسواق الأسهم في تزايد حدة
__________
(1) في ذلك بيع أربعة دولارات قيمة حق الخيار أولا بستة دولارات حقه ثانيا.
(2) هذه الخسارة نتيجة المخاطرة بما دفعه المشتري مقابل حق الخيار.(47/108)
تقلبات الأسعار بسبب الشراء المفرط، عندما يتوقع ارتفاع الأسعار، أو البيع بسبب توقع انخفاض الأسعار، وغالبا ما يحدث هذا استجابة إلى ما يروج من شائعات، والتي تروج عن قصد أحيانا من قبل المتلاعبين بالأسعار، أو المطلعين على أسرار الشركات، وتزيد حدة المضاربة كلما توفرت السيولة المالية (1) .
وهكذا فإن سوق الأسهم هي مزيج من العقود الفورية، وهي الغالبية وعمليات المضاربة، ويتعامل في العقود الفورية عادة المستثمرون الحقيقيون؛ حيث يقومون بتسديد كامل قيمة الأسهم عند شرائها، وهدفهم هو تحقيق دخل من الأرباح الموزعة لتلك الأسهم، إضافة إلى ما يتحقق من ربح نتيجة ارتفاع قيمة الأسهم، ويمكن تمييز المستثمرين الحقيقين عن المضاربين بأن المستثمرين الحقيقيين يتعاملون بالعقود الفورية، بتسليم كامل القيمة واستلام الأسهم عند الشراء، وأن هدفهم عند الشراء الاحتفاظ بالأسهم لأجل طويل.
بينما يمكن وصف المضاربين بأنهم عند التعاقد لا ينوون تسليم كامل القيمة، والاستلام وإنما المضاربة على تغير أسعار الأسهم، وأن عقودهم قصيرة الأجل (2) .
__________
(1) هذا مثار الضرر الفاحش ومكمن المخاطرة البالغة.
(2) في هذه المضاربة بيع دين بدين وربا النساء وشدة الغرر والمخاطرة.(47/109)
ملاحظات ختامية:
لقد أصبحت مختلف الأعمال التجارية في الوقت الحاضر أمرا في غاية التعقيد، فعملية الإنتاج تستغرق وقتا طويلا تتطلب التزامات متشعبة، كما أن المسافات بين البائع والمشتري قد تكون شاسعة، ومع ذلك يمكنهم التفاوض والاتفاق بفضل وسائل الاتصال الحديثة، كما أن حجم الصفقات التجارية تضخمت وارتفعت قيمتها، وإضافة لتقلبات أسعار السلع التجارية والمواد الأولية فهناك تقلبات أخرى في أسعار صرف العملات الأجنبية بشكل كبير ومفاجئ أحيانا؛ لذلك فإن المخاطر في تعاطي الأعمال التجارية بمختلف أنواعها قد تزايدت بشكل كبير لجميع أطراف العقود، بحيث تدفع صاحب العمل المتمكن من عمله مع اجتهاده وخبرته ومقدرته (من مزارع أو مصنع أو مقاول أو تاجر) إلى الإفلاس لأسباب خارجة عن مجال تحكمه لوجود مخاطر لا يستطيع تحملها (1) .
لذلك نشأت الحاجة لدى أطراف العقود من بائعين ومشترين على السواء لحماية أنفسهم من تلك المخاطر المفاجئة، والتي تخرج عن مجال أعمالهم ومهاراتهم؛ ولهذا الغرض تم تطوير وسائل مختلفة لتأمين هذه الحماية، بينها عمليات التغطية الاحتياطية للعقود الآجلة في العملات الأجنبية، وواضح أنه لتحقيق هذه الحماية من المخاطر لا بد من توفر أطراف قابلة
__________
(1) هذا مكمن المخاطرة ومنشأ المقامرة.(47/110)
لتحمل هذه المخاطر غير العادية في سبيل تحقيق أرباح عالية، وقد أثيرت تساؤلات عن سلامة هذه الوسائل، وللإجابة على هذه التساؤلات تبرز الأسئلة التالية:
1 - ما هي الشروط الواجب توافرها في العقود الفورية لتصبح سليمة؟ هل يتوجب التسليم والاستلام فورا؟ مع العلم أنه في الوقت الحاضر لا يتم الاستلام والتسليم إلا في حالات قليلة جدا، ونظرا لتطور وسائل الدفع الحديثة، وهل هناك مجال لقبول فترة تأجير في التسليم أو الاستلام دون التأثير على انعقاد العقد وقوة التزام الطرفين به، ووجوب تنفيذه.
2 - هل يجب اجتماع البائع والمشتري في مجلس واحد؛ ليصبح العقد صحيحا؟ مع العلم أنه بفضل الله ثم وسائل الاتصال الحديثة يمكن أن يتم التفاهم كاملا، بل وتبادل التأكيدات مكتوبة بالتلكس، وإتمام الاتفاق مع وجود مسافة كبيرة بين طرفي العقد.(47/111)
3 - ما هي الشروط الواجب توافرها في العقود الآجلة بمختلف أنواعها لتصبح سليمة وملزمة؟
4 - هل يجب توفر النية لدى أي من البائع والمشتري للاستلام أو التسليم الفعلي للسلعة المتعاقد عليها؛ ليصبح العقد سليما (1) ؟
5 - هل يمكن للبائع أو المشتري مقايضة عقد بيع بعقد شراء معاكس (لنفس السلعة والكمية) قبل حلول الأجل؟ وهذه واحدة من الخصائص الرئيسية للأسواق الآجلة في الغرب.
6 - إذا أمكن تحديد وصف السلعة المشتراة بشكل كاف فهل من المتوجب لسلامة العقد وإلزاميته أن يتم دفع القيمة كاملة مقدما في عقد شراء يتم تسليم السلعة فيه في وقت محدد مستقبلا؟ هل يجوز للمشتري أن يدفع فقط جزءا من القيمة؟ أو لا يدفع شيئا من القيمة عند توقيع العقد؟ ومعروف أنه في جميع العقود إلا ما ندر في عالم الأعمال في الوقت الحاضر لا يتم دفع كامل القيمة مقدمة.
__________
(1) يجب تحقق التسليم والاستلام في مجلس العقد فيما ورد فيه نص بالتعجيل كالصرف ورأس مال السلم.(47/112)
7 - هل يجوز التعامل بالتغطية الاحتياطية كما تم شرحها؟ وإذا جاز ذلك فهل يجوز بالتالي الاستثمار بالمضاربة في هذه العقود؟ مع العلم أنه يتعذر وجود أحدهما دون الآخر (1) .
8 - إذا تعاقد الآن مصدر على بيع سلعة معينة بحيث يستلم القيمة بعملة أجنبية (دولارات) بعد ثلاثة أشهر من الآن. فهل يجوز له التعاقد من الآن على بيع تلك الدولارات التي سوف يستلمها؛ ليحمي نفسه من تقلبات أسعار تلك العملة الأجنبية؟ مع العلم أنه إذا جازت تلك التغطية (الاحتياطية) فلن تتم ما لم يوجد شخص آخر - من بنك أو غيره - قابل لأن يشتري تلك المخاطرة (أو يتحملها مقابل ثمن) .
9 - وعكس الحالة السابقة إذا تعاقد مستورد على شراء سلعة بحيث يدفع قيمتها بعد ثلاثة أشهر بعملة أجنبية.
فهل يجوز له من الآن التعاقد على شراء حاجته من تلك العملة الأجنبية بالسعر الذي يتفق عليه الآن، بحيث
__________
(1) تقدم ما فيه بالتعليق ص 90 والتعليق ص 91.(47/113)
يتم استلام العملة الأجنبية بعد ثلاثة أشهر؟ .
10 - تحت أي شروط يستطيع شخص أن يتعاقد على بيع سلعة لا يملكها الآن، ولكنه يؤمل في توفرها لديه عند وقت التسليم، إما بإنتاجها أو تصنيعها أو شرائها من السوق (1) ؟
11 - وإلى أي مدى يمكن اعتبار أعراف جديدة يتعارف عليها المتعاملون في الأسواق، وقواعد ملزمة لمن يرغب التعامل معهم يتوجب عليه الالتزام بتنفيذها، وتعويضهم عما يسببه لهم من ضرر بسبب عدم التزامه بها إن تصرفوا على أساس عدم توقعهم لإخلاله بما تعارفوا على الالتزام به (2) .
كما تجدر الإشارة قبل الختام إلى أن من الاعتبارات التي يجب ملاحظتها أن هذه الأسواق الاستثمارية متوفرة في الدول الغربية، ومن المهم ملاحظة أن الاستثمار فيها يتم بنقل الأموال من البلاد التي يسكنها المستثمر إلى البلاد التي تقع بها تلك الأسواق، وعلاوة على أن البلاد التي يسكنها المستثمر أكثر حاجة لتلك الأموال وأولى بها فقد تكون النتيجة بالنسبة لمواطني البلدان
__________
(1) يشترط لذلك شروط السلم الجائز شرعا.
(2) يعتبر من الأعراف ما لا يتنافى مع نصوص الشرع ومقاصده.(47/114)
الإسلامية نقل مدخرات المسلمين واستثمارها في بلاد غير إسلامية.(47/115)
يتبع ما تقدم كتاب قدمه الدكتور إبراهيم كامل، ومعه محضر موقع عليه من علي عبد القادر ومحمد خاطر وإبراهيم كامل.
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فإن مؤسسة دار المال الإسلامي، وقد قامت لمحاربة الربا في أنحاء الأمة الإسلامية، وأفاء الله عليها الخير وحقق لها النجاح، فانتشرت شركاتها ومصارفها في الأقطار الإسلامية، ولما كانت المؤسسة تقوم باستثماراتها وأعمالها الاقتصادية طبق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، وتحت إشراف هيئة الرقابة الشرعية للدار المكونة من كبار علماء المسلمين وفقهائهم، ولما كانت المؤسسة - وهي تقوم بنشاطها في أنحاء الأمة الإسلامية - يهمها استطلاع رأي السادة كبار العلماء في شتى الأقطار فيما تقوم به(47/115)
من أعمال؛ لذلك يسعدني أن أعرض عليكم ما نقوم به ونسير عليه بشأن أسواق الصرف العالمية برجاء إفادتنا برأيكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
النائب التنفيذي لرئيس مجلس مشرفي دار المال الإسلامي
دكتور \ إبراهيم كامل
التاريخ: 12 صفر 1403هـ
الموافق 27 نوفمبر 1982 م(47/116)
محضر اجتماع
اجتمعت اللجنة التنفيذية لهيئة الرقابة الشرعية لدار المال الإسلامي في يوم الأربعاء أول سبتمبر 1982، واطلعت الهيئة على مذكرة أسواق العملة (الأسواق العالمية للصرف) المقدمة إليها من السيد الأستاذ الدكتور إبراهيم كامل، النائب التنفيذي لرئيس مجلس إدارة دار المال الإسلامي، وأوضح سيادته للهيئة أن هذه المذكرة الخاصة بالأسواق هي صورة طبق الأصل مترجمة رسميا، وقد روجعت من الخبراء المختصين.
وبعد دراسة هذه المذكرة في عدة اجتماعات سابقة تبين للهيئة: (أن ما جاء في مقدمة مذكرة الأسواق وفي أسواق العملة المعاصرة وما ورد بها من العوامل الناتجة من تقلبات سعر الصرف، وما أوضحته المذكرة من وظائف المال التاريخية، ووسيلة التبادل والمعايير النمطية للمدفوعات، وغير ذلك مما هو واضح بالمذكرة عن دور البنوك المركزية والمؤسسات النقدية، مما يدل بجلاء على أن هذه البنوك وتلك المؤسسات تقوم في إصدارها واستعمالها للنقد وتبادله على أساس ربوي ناتج عما تضفيه هذه البنوك والحكومات من عمليات، تارة ترفع بها قيمة النقد، وتتذرع بها تحت عنوان السياسات المالية أو الضريبية، وتارة تخفضه بما تصدره من نقود أو أذونات على الخزانة وغير ذلك، وهي أعمال تخرج النقد عن وظيفته الحقيقية؛ إذ هو معيار(47/117)
لتقدير قيم الأشياء على حقيقتها حتى لا تبخس الناس أشياءهم.
هذا وما تفعله البنوك والمؤسسات المالية - على نحو ما أوضحنا - جعل معيار الفائدة الربوية ارتفاعا وانخفاضا هو المؤشر لقيمة النقود في مختلف البلدان، وبالتالي تتغير أسعار الصرف تبعا لذلك) .
وإذا كان الأمر كذلك فلا مناص من الخروج من هذا التعامل الربوي الذي يقلل من قيمة العملة، أو يرفعها افتعالا دون مبرر، لا مناص من تغيير هذا العمل وأسلوبه، إلا باتفاق الأمة الإسلامية على نقد موحد توضع قواعد إصداره وتداوله على أساس أحكام الشريعة الغراء، فلا يرتبط بهذه العوامل التي تفتعلها البنوك المركزية والحكومات في العالم.
لما كان الأمر كذلك فإن الهيئة تهيب بالمسئولين عن دار المال الإسلامي إلى اتخاذ خطوات في هذا المجال؛ ليتحقق ما تبتغيه الأمة الإسلامية من وحدة كاملة، يربطها الإسلام بعزته، ونقدها الموحد، واقتصادها القوي.
أما من ناحية ما أوضحته المذكرة عما تقوم به دار المال من عمليات الصرف للنقد في الأسواق العالمية، فهي أمثلة في مجموعها لا تخرج عن كونها عمليات صرف للعملات المختلفة بغيرها من العملات بالأسعار السائدة المعلنة في الأسواق العالمية(47/118)
يدا بيد، وقد سبق للهيئة أن وافقت على ذلك في المضاربات التي أصدرتها الشركة الإسلامية للاستثمار، وهذا أمر مطلوب في الأثمان عند اختلاف الأنواع «إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد (1) » ، كما أن باقي الأمثلة بالنسبة للأثمان أيضا لا تخرج عن كونها وعدا أو تعهدا باتفاق على عمليه صرف بسعر محدد، وقد تأجل التسليم فيه ولم يدفع أي ثمن أو عربون، وفي الموعد المحدد تم البيع يدا بيد، ولا شيء في ذلك شرعا، فقد قرر بعض الفقهاء أن الوعد ملزم، فجرت التعهدات على أساس ذلك بإلزامها، ثم تم البيع بشروطه الشرعية يدا بيد) ، وهذا النهج هو ما يتفق مع طبيعة العملات المختلفة كأثمان، أما ما يتجه إليه البعض من أنه يمكن معاملتها كسلع فهو أمر لا يتفق مع طبيعة النقود، وذلك لأن النقد معيار لقيم الأشياء، فالنظرة الحقيقية إليه هي نظرة الثمنية.
هذا (فضلا عن أن ما كان يخشاه الفقهاء حين التأجيل في الصرف بين الأطراف من وجود شبهة للربا تنتج عن التأخير، هي شبهة منتفية بالنسبة للمؤسسات الإسلامية في أسواق الصرف العالمية؛ لما يقوم عليه السوق من إعلان الأسعار المحددة للعملات في شتى الأنحاء، وما يقوم عليه السوق أيضا من قواعد
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(47/119)
في الارتباطات، يلتزم الأطراف بتنفيذها. الأمر الذي يقضي على كل الشبهات بالنسبة للعملات التي ذكرناها.
ومع هذا كله فقد التزمت المؤسسة بما رأته هيئة الرقابة الشرعية من الأخذ بالاحتياط الكامل، فكان الصرف بالبيع والشراء المتوازيين في الحال يدا بيد، وكانت هناك أيضا التعهدات والوعود أولا على نحو ما ذكر، ثم تمام البيع الكامل بعدها بشروطه الشرعية يدا بيد) .
تم القسم الثاني ويليه القسم الثالث في العدد (48)(47/120)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية(47/121)
فتوى رقم 493
س: شخص وجد في المسجد مصحفا فيه تسمية لسورة الإسراء غير التسمية التي يعرفها، وهو تسميتها بسورة بني إسرائيل، ويسأل عن صحة هذه التسمية؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: تسمية سورة الإسراء بسورة بني إسرائيل تسمية صحيحة ومعتبرة لدى أهل العلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(47/122)
من الفتوى رقم 7380
السؤال الأول: تفسير الآية في سورة الإسراء {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} (1) هل هي خاصة
__________
(1) سورة الإسراء الآية 5(47/122)
بالمؤمنين أم هي عامة؟ وهل وقعت أم لم تقع؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أخبر الله تعالى بني إسرائيل وبين لهم في الكتاب الذي أنزله إليهم أنهم سيفسدون في الأرض، ويتجبرون فيها، ويطغون على الناس مرتين، فإذا وقعت الإفسادة الأولى منهم سلط الله عليهم جندا من خلقه شديدي البأس، ذوي قوة وعدة وجبروت فتغلبوا عليهم وتملكوا بلادهم، وجاسوا خلال ديارهم، وساروا بين بيوتهم؛ عقوبة لهم على طغيانهم، وكان ذلك من الله تعالى قضاء مبرما عدلا من الله وحكمة، حتى إذا تاب بنو إسرائيل وأنابوا إلى الله، جعل الله سبحانه الكرة لهم على هؤلاء الجبارين، وأدالهم ونصرهم على عدوهم، واستردوا منهم بلادهم، وأمدهم بأموال وبنين، وجعلهم أكثر نفيرا؛ جزاء لهم على توبتهم وإحسانهم، رحمة من الله وفضلا، فمن أحسن فله الإحسان، ومن أساء فعليها.
فإذا جاء وعد الآخرة فوقعت منهم الإفسادة الثانية طغيانا وتجبرا؛ سلط الله عليهم من يسومونهم سوء العذاب، ويدخلون مسجد بيت المقدس كما دخلوه أول مرة، ويدمروا ما شاء الله أن يدمروه، جزاء وفاقا بطغيانهم وإفسادهم في الأرض، وعدلا منه تعالى وحكمة، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (1) ، ثم أخبرهم سبحانه بأنهم إن عادوا إلى الإفساد
__________
(1) سورة فصلت الآية 46(47/123)
جازاهم من جنس صنيعهم، وزيادة في الفائدة ننصح لك بقراءة تفسير ابن كثير - رحمه الله - للآيات المذكورة من سورة الإسراء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(47/124)
من الفتوى رقم 6395
السؤال الثاني: في سورة الإسراء الآية رقم 58 قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} (1) ، هل يقصد الله بالآية الأقوام السابقين أم الوقت الحالي أم كل القرى في كل الأوقات؟ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الآية تعم السابقين واللاحقين ممن يرتكبون ما يوجب الهلاك، فالمعنى والله أعلم: وإن من قرية ظالمة، يوضح ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2) ، وقوله:
__________
(1) سورة الإسراء الآية 58
(2) سورة الإسراء الآية 15(47/124)
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} (1) الآيات، وقوله تعالى بعد خبره عن إهلاكه بعض من سبق من الظالمين: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} (2) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 11
(2) سورة هود الآية 83(47/125)
فتوى رقم 4932
س: لاحظنا في كتاب " أوضح التفاسير " لابن الخطيب في سورة الكهف في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (1) نأمل إفادتنا عن صحة ما كتبه المؤلف في التعليق على قوله: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (2) ؟
__________
(1) سورة الكهف الآية 21
(2) سورة الكهف الآية 21(47/125)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره على قوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} (1) حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: أنهم المسلمون منهم، والثاني: أهل الشرك منهم، فالله أعلم، والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » يحذر ما فعلوا، اهـ.
والصواب أنهم مذمومون بذلك؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) » ، ولما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما ذكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتاها في الحبشة، وما فيها من الصور، فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (4) » ، وفي صحيح مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (5) » ، والأحاديث في ذلك كثيرة.
ومما تقدم يتضح للسائل أن ما ذكره ابن الخطيب في تفسيره "أوضح المسالك" من تجويز اتخاذ المساجد على القبور
__________
(1) سورة الكهف الآية 21
(2) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(4) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .
(5) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(47/126)
خطأ عظيم مخالف لما دلت عليه الأحاديث المذكورة وغيرها، ولما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتابعيهم بإحسان من تحريم اتخاذ المساجد على القبور والبناء عليها؛ لما في ذلك من التشبه باليهود والنصارى ومن سلك مسلكهم، ولأن ذلك وسيلة من وسائل الشرك الأكبر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(47/127)
من الفتوى رقم 9880
السؤال الثامن: ما هو التفسير الصحيح لقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (1) ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: التفسير الصحيح لذلك هو أن الله تعالى ذكره يقول
__________
(1) سورة الكهف الآية 29(47/127)
لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: وقل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا، واتبعوا أهواءهم: يا أيها الناس هذا الذي أتلوه عليكم هو الحق الذي أنزل علي من ربكم وإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدي من يشاء منكم للرشاد فيؤمن، ويضل من يشاء عن الهدى فيكفر، ليس إلي من ذلك شيء، ولست بطارد من أجل هواكم أحدا ممن كان للحق متبعا، وبالله وبما أنزل علي مؤمنا، فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا، فإنكم إن كفرتم فقد أعد الله لكم على كفركم به نارا أحاط بكم سرادقها، وإن آمنتم به وعملتم بطاعته فإن لكم ما وصف سبحانه لأهل طاعته، وليس المراد من هذا إباحة الله تعالى الكفر لمن شاء والإيمان لمن شاء، وإنما تهديد ووعيد، وقد دل على هذا ما ذكره تعالى بعد في ختام هذه الآية من توعدهم بالعذاب الشديد، وما جاء في الآيتين بعدها من تبشير المؤمنين بجنات النعيم.
ارجع إلى تفسير الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله - لهذه الآية والآيتين بعدها من سورة الكهف، أو تفسير ابن كثير لها وفيهما الكفاية.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(47/128)
فتوى رقم 1349
س: يتضمن أن المستفتي يذكر أنه يقرأ القرآن من سورة الفاتحة إلى آخر سورة الإسراء وهو في عافية، فإذا بدأ في قراءة سورة الكهف مرض وأغمي عليه، فلا يفيق إلا بعد سبع ساعات تقريبا، وإذا أفاق قرأ سورة مريم حتى سورة الناس ولا يصيبه شيء إلا من قراءة سورة الكهف، فلذا ترك قراءتها مدة ثلاث سنوات، ويسأل هل عليه في هجرها إثم أو يجوز له أن يتركها؟ وكيف يحل مشكلته؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: القرآن كلام الله تعالى، فيه الهدى والنور والشفاء لما في الصدور، من قرأه بإخلاص وتدبر آياته، وعمل بما فيه من أحكام؛ آتاه الله بصيرة في دينه وقوة في يقينه، ودفع عنه كيد الشياطين، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ نفسه عند النوم بقراءة السور الثلاث: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} (2) و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (3) يقرؤهن ثلاث مرات، وينفث في كفيه عقب كل مرة، ويمسح بهما وجهه وما استطاع من جسده، وشرع لأمته قراءة آية الكرسي عندما يأخذ المسلم مضجعه؛ ليكون ذلك حفظا له من الشيطان حتى يصبح، وأقر من رقى بالفاتحة لديغا
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الفلق الآية 1
(3) سورة الناس الآية 1(47/129)
من زعماء الكفار وكان في هذا شفاؤه، وشرع لأمته الرقية بالقرآن عموما، وبالجملة فالقرآن كله خير وبركة وشفاء، ولا يأتي الخير بالشر كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يؤتى الإنسان من قبله إما من عدم إخلاصه أو سوء تطبيقه، وعلى هذا فما ذكره السائل من إصابته بمرض أو غشي عند تلاوة سورة الكهف، إما وهم فعليه أن يتقي الله ويدع الأوهام، وإما حقيقة فهو مس من سفهاء الجن، ونزغ من الشيطان يكيد به لقارئ القرآن عموما ولقارئ سورة منه، ليحمله على ترك قراءته - أو ترك قراءة السورة التي أصابه عند تلاوتها، فإذا ترك قراءة السور مثلا فقد غلبه الشيطان وظفر منه ببغيته، وزاد في الكيد له حتى يستولي عليه، ويكون من إخوان الشياطين الذين يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون، وطريق الخلاص من ذلك الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم بإخلاص وصدق، لهجة في اللجأ إلى الله والفزع إليه ليحصنه من الشياطين، وبذلك يكون من المتقين لا من إخوان الشياطين، وقد أرشدنا الله إلى ذلك في عموم قوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (2) {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} (3) فعليك أيها السائل أن تستعيذ بالله من الشيطان عند بدء قراءة القرآن عموما مع إخلاص وضراعة قلب وصدق في الالتجاء إلى الله، ولا تهجر سورة الكهف ولا غيرها لما أصابك، فإن في مخالفة الشيطان وما يلقيه في القلب من وهن ووساوس
__________
(1) سورة الأعراف الآية 200
(2) سورة الأعراف الآية 201
(3) سورة الأعراف الآية 202(47/130)
وأوهام كبتا له وإحباطا لكيده، وأبشر بأن الله معك فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(47/131)
من الفتوى رقم 7918
السؤال الثاني: ما تفسير قوله تعالى في سورة مريم: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (1) ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الورود في الآية الكريمة هو المرور على الصراط المنصوب على متن جهنم، فقد دلت الأحاديث والآثار الكثيرة على أن الصراط ينصب على جهنم، ويمر الناس عليه على قدر أعمالهم.
__________
(1) سورة مريم الآية 71(47/131)
ونوصيك بمراجعة تفسير ابن كثير في ذلك لمزيد من الفائدة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(47/132)
من الفتوى رقم 9414
السؤال الثالث عشر: ما معنى الآية التالية: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (1) ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذه الآية فيها بيان من الله تعالى بورود النار للبر والفاجر، ثم ينجي الله المؤمنين الذين اتقوا الشرك، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يموت لأحد من المؤمنين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم (2) » يعني بذلك قوله سبحانه في
__________
(1) سورة مريم الآية 71
(2) صحيح البخاري العلم (102) ، صحيح مسلم كتاب البر والصلة والآداب (2632) ، سنن الترمذي الجنائز (1060) ، سنن النسائي الجنائز (1875) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1603) ، مسند أحمد بن حنبل (2/473) ، موطأ مالك الجنائز (554) .(47/132)
سورة مريم: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} (1) {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} (2) إلى أن قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (3) وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة مريم الآية 68
(2) سورة مريم الآية 69
(3) سورة مريم الآية 71(47/133)
من الفتوى رقم 3164
السؤال الأول: ما معنى قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (1) {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (2) ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يبين الله تعالى لعباده أنه لا أحد من الناس برا كان أم فاجرا إلا سيمر على الصراط المضروب على متن جهنم، وإن هذا
__________
(1) سورة مريم الآية 71
(2) سورة مريم الآية 72(47/133)
المرور علمه الله تعالى وكتبه وأوجبه على نفسه؛ عدلا منه تعالى وحكمة وفضلا منه ورحمة، فكان أمرا مقضيا قضاء لازما لا محيد عنه ولا مفر منه، ثم ينجي الله من عذاب النار من اتقاه أيام الدنيا، ففعل ما أمره الله به من الطاعات، واجتنب ما نهاه عنه من المعاصي والسيئات، ويترك الظالمين في جهنم مكدسين جثيا، جزاء وفاقا بما كفروا بآيات الله وكانوا بها يستهزءون.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(47/134)
من الفتوى رقم 4395
السؤال الثالث: ما معنى قوله تعالى: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} (1) ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: معناه أن الله سبحانه يغيث من استغاث به ممن أراده بشر من المخلوقات، ويمنعه ممن أراده بسوء إذا شاء، ولا أحد من
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 88(47/134)
الخلق يستطيع أن يمنع أحدا أراده الله بسوء فينجيه من بأس الله وعقابه، ونظيره قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة يونس الآية 107(47/135)
من الفتوى رقم 9811
السؤال الأول فقرة (ج) : هل كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم براءة عائشة من حادث الإفك قبل نزول الوحي كما قال أحدهم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم براءة عائشة رضي الله عنها قبل نزول الوحي عليه ببراءتها، ولو كان يعلم براءتها لما حار في(47/135)
أمرها، ولا سأل عن حالها الصحابة رجالا ونساء. . . إلخ.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(47/136)
من الفتوى رقم 6167
السؤال الرابع: روى الإمام أحمد عن أم سلمة أنها قالت: «. . . دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندها مخنث، وعندها عبد الله بن أبي أمية - يعني أخاها - والمخنث يقول: يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فسمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا يدخلن هذا عليك (1) » تفسير ابن كثير ج 2 سورة النور - (258) ما معنى: "فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان "؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
__________
(1) رواه أحمد 6 \ 290، والبخاري برقم 4324 و 5235، 4887، ومسلم برقم 2180 ورقم 2181(47/136)
ج: معنى ذلك أن هذه المرأة سمينة، وبسبب هذه السمنه نشأ في بطنها أربع عكن - أي طيات - فإذا رآها إنسان وهي مقبلة رأى أربع طيات في بطنها، وإذا أدبرت رأى من خلفها أطراف الطيات الأربع؛ عن اليمين أربع، وعن اليسار أربع، فكان مجموع المرئي من الخلف ثمان طيات.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(47/137)
من الفتوى رقم 4802
السؤال الثاني: ما معنى {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} (1) ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: المراد بغير أولي الإربة: من يتبع أهل البيت لطعام ونحوه، ولا حاجة له في النساء؛ لكونه عنينا أو معترضا أو أبله
__________
(1) سورة النور الآية 31(47/137)
ضعيف العقل لا ينتبه إلى ما يثير الشهوة من زينة أو جمال، أو رجلا كبير السن أضعفه الكبر حتى صار لا هم له في النساء، ونحو ذلك ممن ذهبت حاجتهم إلى النساء؛ لعلة ما من العلل، فأمن جانبهم ولم تخش منهم الفتنة، فللنساء أن يبدين لهم من الزينة ما يجوز لهن أن يبدينها لمحارمهن المذكورين في الآية، ومن في حكمهم من النساء والأطفال الصغار الذين لم يبلغوا مبلغا من الإدراك أن يعرفوا عورات النساء ويتأثروا بها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(47/138)
من الفتوى رقم 8763
س: من هم عباد الرحمن وعبيد الرحمن؟ وما الحكم فيمن يلقي كلمات دينية في طابور المدرسة، وينقلها من بعض الكتب ثم يلقيها على الطلاب، هل يثاب على ذلك؟ وما منزلته إذا كان يقول ذلك لا رياء ولا تظاهرا، ولكنه يخشى أن يكون من الثلاثة الذين تسعر بهم النار؟(47/138)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: عباد الرحمن وعبيد الرحمن هم المسلمون الموحدون الملتزمون لشرائع الإسلام، وصفات أولئك مذكورة في آخر سورة الفرقان ابتداء من قول الله سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (1) إلى قوله جل شأنه: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} (2) {خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (3) .
ثانيا: اختيار كلمة طيبة من أي كتاب وإلقاؤها على شكل موعظة في مدرسة أو أي اجتماع، ويقصد عظة الناس وتعليمهم لا شيء فيه، بل هو حسن إذا كان القصد منه وجه الله سبحانه، وبذلك لا يكون من الثلاثة المتوعدين في الحديث الشريف بالنار.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الفرقان الآية 63
(2) سورة الفرقان الآية 75
(3) سورة الفرقان الآية 76(47/139)
من الفتوى رقم 9878
السؤال الأول: ما تفسير قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (1) ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: معنى الجملة: ولكن الله يوفق من يشاء إلى الخير دون غيره من عباده حتى الأنبياء، وإنما إليهم هداية الإرشاد والبلاغ كما قال سبحانه يخاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (2) وهذه هي هداية التوفيق والرضا بالحق، أما هداية البلاغ والإرشاد فهي المذكورة بقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) في آخر سورة الشورى.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة القصص الآية 56
(2) سورة القصص الآية 56
(3) سورة الشورى الآية 52(47/140)
فتوى رقم 8556
س: أستفسر عن معنى الآية الكريمة: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (1) وجزاكم الله خيرا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: معنى ذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام لما ساعد المرأتين في سقي غنمهما، وانصرفتا إلى أهلهما، وتولى هو إلى الظل، وأحس بالحاجة دعا ربه أن يقضي حاجته فقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (2) أي: ارزقني ما يسد حاجتي من طعام أو غيره، فيسر الله أمره وجاءته إحدى المرأتين وقالت له: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا. . . إلى آخره.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة القصص الآية 24
(2) سورة القصص الآية 24(47/141)
من الفتوى رقم 9136
السؤال الثاني: قال الله تعالى في سورة العنكبوت: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (1) ما معناها، أفيدونا أفادكم الله وعفا عنكم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا جزء من الآية التي ضرب الله سبحانه فيها مثلا لاتخاذ المشركين آلهة دون الله، يدعونها ويتعلقون بها، ويرجونها عند الشدائد، ويتوسلون بها، فبين أن من يتعلق بهذه الآلهة الضعيفة كمن يتعلق ببيت العنكبوت في ضعفه ووهنه، وأنها لا تغني من استعان بها شيئا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 41(47/142)
من الفتوى رقم 145
السؤال الرابع: ما سبب اختلاف ألوان عباد الله من أحمر إلى أبيض إلى أسود إلى غير ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: اختلاف ألوان عباد الله من أبيض إلى أسود إلى أصفر إلى غير ذلك من الألوان آية من آيات الله تبارك وتعالى، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (1) ، فهذا الاختلاف في الألوان من البياض والسواد والحمرة والشكل في الخلق مما لا يكاد يوجد إلا ومعه فارق، وليس هذا الاختلاف من فعل المنطقة، ولا من فعل الأبوين، فلا بد من فاعل ينسب له هذا التدبير فعلم أنه هو الله تبارك وتعالى.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) سورة الروم الآية 22(47/143)
فتوى رقم 7517
س: عندنا مسألة نريد تفسيرها لنا على أحسن التفاسير؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (1) ، وتلك المسألة يقول الله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكِمْ} (2) إلى آخر الآية؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
ج: يقول ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: وقو تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} (3) نهى أن يقال بعد هذا: زيد بن محمد، أي: لم يكن أباه، وإن كان قد تبناه فإنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم، فإنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها، فماتوا صغارا، وولد له صلى الله عليه وعلى آله وسلم إبراهيم من مارية القبطية، فمات أيضا رضيعا، وكان له - صلى الله عليه وسلم - من خديجة أربع بنات: زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهن أجمعين، فمات في حياته - صلى الله عليه وسلم - ثلاث، وتأخرت فاطمة رضي الله عنها حتى أصيبت به - صلى الله عليه وسلم -، ثم ماتت بعده بستة أشهر، وقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (4) ،
__________
(1) سورة النحل الآية 43
(2) سورة الأحزاب الآية 40
(3) سورة الأحزاب الآية 40
(4) سورة الأحزاب الآية 40(47/144)
كقوله عز وجل: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (1) فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة، فإن كل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر الأزدي حدثنا زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارا فأحسنها وأكملها، وترك فيها موضع لبنة لم يضعها، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه، ويقولون: لو تم موضع هذه اللبنة فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة (2) » رواه الترمذي عن بندار عن أبي عامر العقدي به، وقال: حسن صحيح، وذكر بعد ذلك عدة أحاديث في الموضوع، وبإمكانك أيضا مراجعة تفسير ابن جرير والقرطبي ونحوهما إذا رغبت في التوسع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 124
(2) أحمد 5 \ 117 و 3 \ 361، والبخاري برقم 3535 و3534، والترمذي برقم 3617.(47/145)
فتوى رقم 11456
س: هل ثبت بالسنة الصحيحة تلاوة هذه السور يوميا (يس - الدخان - الواقعة - الملك) ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
ج: إننا لا نعلم في السنة ما يدل على قراءة السور المذكورة في السؤال يوميا، لكن المشروع للمسلم الإكثار من قراءة القرآن جميعه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(47/146)
من الفتوى رقم 4802
السؤال الرابع: قال تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (1) أرجو تفسير هذه الآية تفسيرا واضحا؟
__________
(1) سورة يس الآية 70(47/146)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (1) {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (2) ، ومعنى الآيتين أن الكفار لما اتهموا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه شاعر وقالوا: إن القرآن شعر رد الله مقالتهم بأنه ما علم نبيه الشعر ولا أوحاه إليه، وبين سبحانه أنه لا ينبغي له أن يكون شاعرا، ولا يليق به ذلك؛ لأنه الصادق الأمين وإمام المهتدين، جاء أمته بالحق والهدى والنور، أما الشعراء فهم في كل واد يهيمون، وأتباعهم هم الغاوون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فشتان بينه وبين الشعراء في الأخلاق والطباع، ثم بين تعالى أن ما أوحاه إليه ليس شعرا، بل لا نسب بينه وبين الشعر في أسلوبه ونظمه ولا في معناه، صدقا وهداية وموعظة، وذكرى لمن ألقى إليه سمعه وفتح له قلبه، فكان له نورا ورشادا وفوزا وسعادة، فقال سبحانه: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} (3) {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} (4) الآية، أي: لينذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن كل من كان حيا من الإنس والجن، ويخوفه عواقب الإعراض عن الإيمان به، {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} (5) أي: كلمة العذاب على من كفر بالله وبرسوله، وما جاء في القرآن الكريم، وفي هاتين الآيتين رد على الكفار في اتهامهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه شاعر، وزعمهم أن القرآن شعر، وبيان لعلو قدره - صلى الله عليه وسلم - وقدر
__________
(1) سورة يس الآية 69
(2) سورة يس الآية 70
(3) سورة يس الآية 69
(4) سورة يس الآية 70
(5) سورة يس الآية 70(47/147)
القرآن، وبيان لعموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - إلى الثقلين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(47/148)
من الفتوى رقم 10806
السؤال الثالث: ما الحكمة في أمر الله إبراهيم بذبح ابنه قرة عينه إسماعيل؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أمره بذبحه؛ ابتلاء وامتحانا له في إخلاصه العبودية والمحبة لربه، وليرفعه عنده تعالى درجات إذا وفى، وقد وفى عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (1) الآية.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 124(47/148)
فتوى رقم 4797
س: شخص اعتنق الإسلام عام 1974م وهو متزوج، ويريد أن يعرف من الذي أمر الله تعالى خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبحه، أهو ولده إسماعيل أم ولده إسحاق عليهما الصلاة والسلام؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إن من سنة الله تعالى أن يبتلي عباده؛ ليميز الخبيث من الطيب، ويرفع من شاء من أنبيائه وأوليائه ما شاء، وليمحص الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وممن تابع الله تعالى عليهم الابتلاء خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فكان مثال الكمال في الوفاء في جميع ما ابتلاه ربه به، قال الله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (1) ، وأثنى عليه تعالى بقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} (2) .
وكان مما ابتلاه الله به أن أراه في المنام أنه يذبح ولده، ورؤيا الأنبياء حق، فعزم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام على تحقيق رؤياه؛ امتثالا لأمر ربه ووفاء له، وعرض ذلك على ابنه فاستجاب له، فلما أسلما وجههما لله، وبذل إبراهيم ما في وسعه
__________
(1) سورة البقرة الآية 124
(2) سورة النجم الآية 37(47/149)
من أسباب الذبح العادية، أكرمه الله وولده، وفدى الذبيح بذبح عظيم، وخلد لخليله ثناء عاطرا مدى الدهر، وبشره بإسحاق نبيا من الصالحين، وبارك عليه وعلى إسحاق عليهما السلام، قال الله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} (1) {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (2) {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (3) {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (4) {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} (5) {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} (6) {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (7) {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} (8) {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (9) {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} (10) {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (11) {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (12) {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} (13) {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (14) {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (15) .
هذا صفوة ما يتصل بشأن الذبيح من قصة أبيه إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان للخليل ولدان إسماعيل وإسحاق، فأيهما كان الذبيح إسماعيل أم إسحاق عليهما السلام؟ لم يرد في ذلك نص صحيح بتسميته أو تعيينه بوجه ما يقطع النزاع، ولذا اختلف أهل السير والتاريخ والتفسير في تعيينه، فقال جماعة منهم: إنه إسماعيل؛ لأنه هو الذي ولد له بعد ذهابه عن قومه إلى الشام، وكان وحيده إذ ذاك، وهو الذي كان بمكة، وهي مكان الواقعة، وقد وصفه الله بالحلم والصبر، أضف إلى أن قصة الذبيح
__________
(1) سورة الصافات الآية 99
(2) سورة الصافات الآية 100
(3) سورة الصافات الآية 101
(4) سورة الصافات الآية 102
(5) سورة الصافات الآية 103
(6) سورة الصافات الآية 104
(7) سورة الصافات الآية 105
(8) سورة الصافات الآية 106
(9) سورة الصافات الآية 107
(10) سورة الصافات الآية 108
(11) سورة الصافات الآية 109
(12) سورة الصافات الآية 110
(13) سورة الصافات الآية 111
(14) سورة الصافات الآية 112
(15) سورة الصافات الآية 113(47/150)
قد بدأت بالبشرى بغلام حليم، وختمت بالبشرى بإسحاق، فكان غير الذبيح الذي بدأت به القصة، والراجح أنه إسماعيل؛ لما تقدم من الأدلة.
وقال كثير من أهل الديانات والسير والتاريخ: إنه إسحاق؛ لأنه هو الذي بشر به إبراهيم وسارة بعد اعتزال إبراهيم أباه وقومه كما في سورة مريم وهود والحجر والذاريات، فليكن هو المراد بالغلام الحليم المبشر به في سورة الصافات، وإذن يكون هو الذبيح.
والخطب في ذلك سهل؛ إذ المسألة اجتهادية في أمر معرفته غير ضرورية، ولا يترتب على الجهل بها خطر في العقيدة، ولا أثر لها في حياة الناس العملية، فأي ابني إبراهيم كان الذبيح كان فيه وفي أبيه العبرة، وبهما تكون القدوة في الصبر على البلاء وإيثار طاعة الله تعالى، ولو كان في ذلك ذهاب أحب شيء إلى الإنسان حتى النفس، ولا يشين ذلك من لم يكن الذبيح، ولا ينقص من قدره كما لم ينقص كثيرا من الأنبياء والمرسلين أنهم لم يحصل لهم مثل ذلك، فالمزية بعينها تدل على الفضيلة، لكنها لا تدل على الأفضلية.
وإنما خاض في ذلك جماعة من الباحثين بدافع حب الاستطلاع، وشهوة حب البحث، ولم يكن في الموضوع نص صحيح صريح كما تقدم، فاختلفوا عن اجتهاد وحسن نية أو عن عصبية وسوء طوية.(47/151)
والصواب أنه إسماعيل كما تقدم؛ لأنه الأظهر من الآيات القرآنية ولا سيما الآيات من سورة الصافات التي سبق ذكرها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(47/152)
فتوى رقم 3400
س: حدثنا خالد بن مخلد ثنا مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة، تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه: قل إن شاء الله. فلم يقل. فلم تحمل إلا واحدا ساقطا أحد شقيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو قالها لجاهدوا في سبيل الله (1) » . قال شعيب وابن أبي الزناد: وتسعين وهو أصح.
قد روي هذا الحديث بطرق متعددة، وإسناده كله صحيح وجيد، وعدد الأزواج فيه مختلف (ستون، سبعون، تسع وتسعون،
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، المجلد الأول الجزء 13، الصفحة 486 مطبوعة الدلهي، باب (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) .(47/152)
مائة) ، ولا ريب في صحة هذا الحديث باعتبار الرواة والإسناد، ولكن مفهوم الحديث خلاف للعقل والشعور صريحا، ومفهومه يعلن ويجهر أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال هكذا كما نقل الراوي، بل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من أباطيل وخرافات اليهود مثالا، وفهم الراوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله بيانا واقعيا؛ لأن كل إنسان إن حاسب في نفسه فوضح عليه أن فرض عدد الأزواج ستون، إن باشرهن سليمان عليه السلام في ساعة 6 أزواج باشرهن كل الليل بغير توقف متواليا عشر ساعات فهل هذا ممكن عقلا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: الحديث المضطرب هو الذي روي من طرق مختلفة متساوية في القوة، ولم يمكنه الجمع بينها، أما إن كان بعضها أقوى أو أمكن الجمع فلا اضطراب، وعلى هذا فلا يعتبر الاختلاف في عدد النساء في الحديث المسئول عنه اضطرابا يرد به الحديث؛ لأمرين:
الأول: رجحان الرواية التي ذكر فيها أن عددهن تسعون، فقد قال البخاري في صحيحه: قال شعيب وأبو الزناد: تسعين، وهو أصح (1) .
الثاني: إمكان الجمع بين هذه الروايات، وقد ذهب إلى ذلك ابن حجر - رحمه الله - في كتابته على هذا الحديث في الباب
__________
(1) البخاري برقم 3424، ومسلم برقم 1654.(47/153)
الذي ذكرته في السؤال، قال رحمه الله: (فمحصل الروايات: ستون، وسبعون، وتسعون، وتسع وتسعون، ومائة، والجمع بينها أن الستين كن حرائر، وما زاد عليهن كن سرائر وبالعكس، وأما السبعون فللمبالغة، وأما التسعون والمائة فكن ما دون المائة وفوق التسعين، فمن قال: تسعون ألغى الكسر ومن قال: مائة جبره، ومن ثم وقع التردد في رواية جعفر) اهـ (1) بنصه.
ثانيا: دعوى مخالفة هذا الحديث للعقل الصريح دعوى باطلة؛ لبنائها على قياس الناس بعضهم على بعض في الصحة، وقوة البدن، والقدرة على الجماع، وسرعة الإنزال وبطئه، وهو قياس فاسد لشهادة الواقع بتفاوتهن فيما ذكر وفي غيره، وخاصة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالنسبة لغيرهم، فقد أوتوا من قوة البدن والقدرة على الجماع مع كمال العفة وضبط النفس، وكبح جماح الشهوة ما لم يؤت غيرهم، فكانت العفة وصيانة الفرج عن قضاء الوطر في الحرام مع القدرة على الجماع وقوة دواعيه معجزة لهم عليهم الصلاة والسلام، وكان من السهل على أحدهم أن يطأ عشر نسوة في ساعة، ومائة امرأة في عشر ساعات أو أقل؛ لتحقق الاختصاص بالقوة، وإمكان الإنزال في خمس دقائق أو أقل منها، وقد ذكر ابن حجر - رحمه الله تعالى - نحوا من هذا في شرح هذا الحديث، وبيان ما يستنبط منه.
قال: (وفيه ما خص به الأنبياء من القوة على الجماع
__________
(1) فتح الباري 6 \ 460.(47/154)
الدال ذلك على صحة البنية، وقوة الفحولية، وكمال الرجولية، مع ما هم فيه من الاشتغال بالعبادة والعلوم، وقد وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك أبلغ المعجزة؛ لأنه مع اشتغاله بعبادة ربه وعلومه ومعالجة الخلق كان متقللا من المآكل والمشارب المقتضية لضعف البدن على كثرة الجماع، ومع ذلك فكان يطوف على نسائه في ليلة بغسل واحد وهن إحدى عشرة امرأة، وقد تقدم في كتاب الغسل ويقال: إن كل من اتقى الله فشهوته أشد؛ لأن الذي لا يتقي يتفرج بالنظر ونحوه) .
ثالثا: إنه قد ثبت أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أنصح الخلق لأمته، وأنه أوتي جوامع الكلام والبلاغ المبين، وكمال الفصاحة في التعبير، فلم يكن ليلبس على أمته في كلامه عن غش وخديعة، ولا ليعمي في قوله لعي في لسانه أو عجز عن البيان، ولم يكن راوي هذا الحديث عنه - وهو عربي قح - ليخفى عليه ما حكاه صلى الله عليه وسلم صريحا عن نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام من قوله: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة، تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله، وأنه لم يقل: إن شاء الله، وتأكيد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «لو قالها لجاهدوا في سبيل الله فرسانا ولم يحنث (1) » .
فمن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك على أنه مثال من أباطيل اليهود وخرافاتهم، وأن الصحابي توهم أنه صلى الله عليه وسلم ذكره بيانا لواقع وخبرا عن حقيقة، من زعم ذلك فقد اتبع هواه ووهمه الكاذب، وحرف معنى الحديث المقصود منه، وطعن في الصحابي، وظن برسول الله صلى الله عليه وسلم الظنون؛
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3424) ، صحيح مسلم الأيمان (1654) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1532) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3831) .(47/155)
اتباعا لخياله الخاطئ في الحكم بمخالفة معنى هذا الحديث الصريح للعقل (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) انظر تفسير محمد الأمين الشنقيطي (أضواء البيان) ج 7 \ 24.(47/156)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
س 1: مما يشاع بين طلاب العلم وخاصة في الكليات والمؤسسات العلمية قولهم: العلم ذهب مع أهله، وأنه لا يوجد أحد يتعلم في المؤسسات العلمية إلا من أجل الشهادات والدنيا، فبماذا يرد عليهم؟ وما الحكم إذا اجتمع قصد الدنيا والشهادة مع نية طلب العلم لنفع نفسه ومجتمعه؟
ج 1: هذا الكلام ليس بصحيح، ولا ينبغي أن يقال هذا الكلام وأمثاله، ومن قال: هلك الناس فهو أهلكهم.
ولكن ينبغي التشجيع والتحريض على طلب العلم، والتفرغ لذلك، والصبر والمصابرة على ذلك، وحسن الظن بطلبة العلم، إلا من علم منه خلاف ذلك.
ولما حضرت المنية معاذا - فيما يذكر - أوصى من حوله بطلب العلم، وقال: (إن العلم والإيمان، مكانهما، من أرادهما وجدهما) يعني: مكانهما في كتاب الله العظيم، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الأمين. . وإنما العالم يقبض بعلمه. . فالعلم يقبض بموت(47/157)
العلماء، لكن لا تزال - بحمد الله - طائفة على الحق منصورة.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا (1) » رواه البخاري في صحيحه.
وهذا هو الذي يخاف منه، يخاف أن يتقدم للإفتاء والتعليم الجهلة، فيضلون ويضلون، وهذا الكلام الذي يقال: ذهب العلم، ولم يبق إلا كذا وكذا، يخشى منه التثبيط لبعض الناس، وإن كان الحازم والبصير لا يثبطه ذلك، بل يدفعه إلى طلب العلم، حتى يسد الثغرة.
والفاهم المخلص، والصادق البصير بمثل هذا الكلام لا يثبطه ذلك، بل يتقدم ويجتهد، ويثابر ويتعلم ويسارع، لشدة الحاجة للعلم، وليسد الثغرة التي زعمها هؤلاء القائلون: إنه لم يبق أحد، والحاصل أنه وإن نقص العلم، وذهب أكثر أهله، فإنه - ولله الحمد - لا تزال طائفة على الحق منصورة. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله (2) » .
فعلينا أن نجتهد في طلب العلم، وأن نشجع عليه، وأن نحرص على سد الثغرة، والقيام بالواجب في مصرنا وغيره، عملا
__________
(1) صحيح البخاري العلم (100) ، صحيح مسلم العلم (2673) ، سنن الترمذي العلم (2652) ، سنن ابن ماجه المقدمة (52) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) ، سنن الدارمي المقدمة (239) .
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) .(47/158)
بالأدلة الشرعية المرغبة في ذلك، وحرصا على نفع المسلمين، وتعليمهم، كما ينبغي أن نشجع على الإخلاص، والصدق في طلب العلم.
من أراد الشهادة ليتقوى بها على تبليغ العلم، والدعوة إلى الخير، فقد أحسن في ذلك، وإن أراد المال ليتقوى به، فلا بأس أن يدرس، ليتعلم وينال الشهادة، التي يستعين بها على نشر العلم، وأن يقبل الناس منه هذا العلم، وأن يأخذ المال الذي يعينه على ذلك، فإنه لولا الله سبحانه ثم المال، لم يستطع الكثير من الناس التعلم وتبليغ الدعوة، فالمال يساعد المسلم على طلب العلم، وعلى قضاء حاجته، وعلى تبليغه للناس.
ولما ولي عمر رضي الله عنه أعمالا، أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها مالا، قال: أعطه من هو أفقر مني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خذه فتموله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال، وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا، فلا تتبعه نفسك (1) » خرجه مسلم في صحيحه.
وأعطى النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم، ورغبهم حتى دخلوا في دين الله أفواجا، ولو كان حراما لم يعطهم، بل أعطاهم قبل الفتح وبعده.
وفي يوم الفتح أعطى بعض الناس على مائة من الإبل، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، عليه الصلاة والسلام؛ ترغيبا في الإسلام ودعوة إليه.
وقد جعل الله سبحانه للمؤلفة قلوبهم حقا في الزكاة،
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7164) ، صحيح مسلم الزكاة (1045) ، سنن النسائي كتاب الزكاة (2605) ، سنن أبو داود الزكاة (1647) ، مسند أحمد بن حنبل (1/17) ، سنن الدارمي الزكاة (1647) .(47/159)
وجعل في بيت المال حقا لهم ولغيرهم من المدرسين والقضاة، وغيرهم من المسلمين، والله ولي التوفيق.(47/160)
س 2: لقد ظهر بين الشباب ظاهرة، ألا وهي أنهم يقولون: لا نتبع شيئا من المذاهب الأربعة، بل نجتهد مثلهم، ونعمل مثلما عملوا، ولا نرجع إلى اجتهادهم، فما رأيكم في هذا؟ وما نصيحتك لهؤلاء؟
ج 2: هذا الكلام قد يستنكر بالنسبة لبعض الناس، ولكن معناه في الحقيقة لمن تأهل صحيح، فلا يجب على الناس أن يقلدوا أحدا، ومن قال: إنه يجب تقليد الأئمة الأربعة، فقد غلط؛ إذ لا يجب تقليدهم، ولكن يستعان بكلامهم، وكلام غيرهم من أئمة العلم، وينظر في كتبهم - رحمهم الله -، وما ذكروا من أدلة، ويستفيد من ذلك طالب العالم الموفق.
أما القاصر فإنه ليس أهلا لأن يجتهد، وإنما عليه أن يسأل أهل الفقه، ويتفقه في الدين، ويعمل بما يرشدونه إليه، حتى يتأهل، ويفهم الطريق التي سلكها العلماء، ويعرف الأحاديث الصحيحة والضعيفة، والوسائل لذلك في مصطلح الحديث، ومعرفة أصول الفقه، وما قرره العلماء في ذلك، حتى يستفيد من هذه الأشياء، ويستطيع الترجيح فيما تنازع فيه الناس، أما ما أجمع عليه العلماء فأمره ظاهر، وليس لأحد مخالفته، وإنما النظر لأهل العلم فيما تنازع فيه العلماء.
والواجب في ذلك رد مسائل النزاع إلى الله ورسوله، كما(47/160)
قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) ، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) .
أما أن يجتهد وهو لا يستطيع ذلك، فهذا من الأغلاط الكبيرة، ولكن يسعى بالهمة العالية، في طلب العلم، ويجتهد ويتبصر، ويسلك مسالك أهل العلم.
فهذه هي طرق العلم في دراسة الحديث وأصوله، والفقه وأصوله، واللغة العربية وقواعدها، والسيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي.
فيستعين بهذه الأمور، على ترجيح الراجح في مسائل الخلاف، مع الترحم على أهل العلم، ومع السير على منهجهم الطيب، والاستعانة بكلامهم وكتبهم الطيبة، وما أوضحوه من أدلة وبراهين، في تأييد ما ذهبوا إليه، وتزييف ما ردوه.
وبذلك يوفق طالب العلم لمعرفة الحق، إذا أخلص لله، وبذل وسعه في طلب الحق، ولم يتكبر. . والله سبحانه ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10(47/161)
س 3: ينفر كثير من طلبة العلم من المناصب الدينية. . فما هو السبب؟ وهل من نصيحة للحضور؟ كما يلاحظ أن كثيرا من الطلبة في كليات الشريعة، يبحث بشتى الطرق(47/161)
للتخلص من القضاء، فما نصيحة فضيلتكم لهم؟
ج 3: المناصب الدينية من القضاء والتعليم والفتوى والخطابة، مناصب شريفة ومهمة، والمسلمون في أشد الحاجة إليها، وإذا تخلى عنها العلماء، تولاها الجهال، فضلوا وأضلوا.
فالواجب على من دعت الحاجة إليه من أهل العلم والفقه في الدين، أن يمتثل؛ لأن هذه الأمور من القضاء والتدريس والخطابة والدعوة إلى الله، وأشباه ذلك من فروض الكفايات، فإذا تعينت على أحد من المؤهلين، وجبت عليه، ولم يجز له الاعتذار منها، والامتناع.
ثم لو قدر أن هناك من يظهر أنه يكفي، وأنها لا تجب عليه هذه المسألة، فينبغي له أن ينظر الأصلح، كما ذكر الله سبحانه عن يوسف عليه الصلاة والسلام، أنه قال لملك مصر: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (1) ، لما رأى المصلحة في توليه ذلك، طلب الولاية، وهو نبي ورسول كريم، والأنبياء هم أفضل الناس، طلبها للإصلاح: يصلح أهل مصر، ويدعوهم إلى الحق.
فطالب العلم، إذا رأى المصلحة في ذلك، طلب الوظيفة ورضي بها: قضائية أو تدريسا، أو وزارة أو غير ذلك، على أن يكون قصده الإصلاح والخير، وليس قصده الدنيا، وإنما يقصد
__________
(1) سورة يوسف الآية 55(47/162)
وجه الله، وحسن المآب في الآخرة، وأن ينفع الناس، في دينهم أولا، ثم في دنياهم، ولا يرضى أن يتولى المناصب الجهال والفساق، فإذا دعي إلى منصب صالح يرى نفسه أهلا له، وأن فيه قوة عليه، فليجب إلى ذلك، وليحسن النية، وليبذل وسعه في ذلك، ولا يقل: أخشى كذا، وأخشى كذا.
ومع النية الصالحة، والصدق في العمل، يوفق العبد، ويعان على ذلك، إذا أصلح الله نيته، وبذل وسعه في الخير، وفقه الله.
ومن هذا الباب حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي أنه قال «يا رسول الله: اجعلني إمام قومي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذنا، لا يأخذ على أذانه أجرا (1) » رواه الإمام أحمد وأهل السنن، بإسناد صحيح.
فطلب رضي الله عنه إمامة قومه للمصلحة الشرعية، ولتوجيههم للخير، وتعليمهم وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، مثلما فعل يوسف عليه الصلاة والسلام.
قال العلماء: إنما نهي عن طلب الإمرة والولاية، إذا لم تدع الحاجة إلى ذلك؛ لأنه خطر، كما جاء في الحديث: النهي عن ذلك، لكن متى دعت الحاجة والمصلحة الشرعية إلى طلبها جاز ذلك، لقصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وحديث عثمان رضي الله عنه المذكور.
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (468) ، سنن الترمذي الصلاة (209) ، سنن النسائي الأذان (672) ، سنن أبو داود الصلاة (531) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (987) ، مسند أحمد بن حنبل (4/21) .(47/163)
س 4: من أكبر المشكلات التي يعاني منها طالب العلم(47/163)
مشكلة انصراف المجتمع عنه، وعن علمه، فهو لا يشعر بمكانه المناسب له في المجتمع؛ لأن المجتمع المادي في هذا العصر لا يقيس الأشخاص إلا بمقدار الكسب المادي الحاصل من أي عمل، فما هو العلاج في نظر فضيلتكم؟
وكيف يعمل طالب العلم، هل يكون في مجتمع خاص يستطيع أن يتعلم ويعيش فيه، أم ماذا يصنع؟ أرجو أن تقدموا لنا النصيحة التي استفدتموها عن شيوخكم، واستفادها شيوخكم عن شيوخهم؟
ج 4: هذا الذي قاله السائل ليس بصحيح، ولكن الصحيح أن العلم يقدم أهل العلم، ويرفع أهله، في كل مجتمع. . فلو ذهب إلى أمريكا أو إنجلترا أو فرنسا أو أي مكان لرفعه علمه بين الأقليات الإسلامية، وبين من يدعوهم إلى الله على بصيرة، من نفس المشركين؛ لأنهم سينقادون إلى الحق إذا عرفوه بأدلته الواضحة، وبأخلاق أهله الكريمة، فالإسلام هو دين الفطرة، وهو دين العدالة والأخلاق، ودين القوة، ودين النشاط، ودين المواساة، ودين كل فضيلة.
فطالب العلم الذي يسير على بصيرة، يعرف الأدلة الشرعية، ويعرف أحكام الإسلام، ويعمل بها، مرفوع الرأس أينما كان، ومحترم أينما حل، ولا سيما بين جماعته وأهل بلده، إذا عرفوا منه العلم والنصح، والصدق وعدم العجلة، التي ليس لها ما يبررها، بل يكون طبيبا حكيما، يدعو إلى الله بالحكمة(47/164)
والرفق.
فهذا مرفوع الرأس، ومحترم أينما كان: في قرية أو قبيلة، أو غير ذلك إذا كان متخلقا بالعلم، قولا وعملا، مبتعدا عن أخلاق الفساق والمجرمين.
فإن هذا وأمثاله محبوب عند الله، وعند عباده الصالحين، ما دام يعلم ويعمل، وينصح إخوانه، ويعطف عليهم، ويحرص على نفعهم بعلمه، وأخلاقه وماله وجاهه، كما فعل الأنبياء والصالحون.
والقول بأن طالب العلم، لا محل له في المجتمع، ولا يلتفت إليه، قول في عمومه باطل غير موافق للواقع كما بينا.
فطالب العلم البصير بدينه الناصح لله ولعباده مرفوع الرأس، ومحترم أينما كان: في الطائرة وفي القطار، وفي البر والبحر، وفي أي مكان إذا أخلص لله، وأظهر العلم والدعوة إلى الله، وأحسن إلى الناس، بالرفق والكلام الطيب، فله البشرى والعاقبة الحميدة، والثناء الحسن من المجتمع، والأجر العظيم من الله - عز وجل - كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (1) ، وكما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2) ، وقال جل وعلا، يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (3) ،
__________
(1) سورة يوسف الآية 90
(2) سورة العنكبوت الآية 69
(3) سورة هود الآية 49(47/165)
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ثم لو قدر أن بعض الدعاة إلى الله، لم يحصل مطلوبه، بل أوذي وامتحن، أليس له قدوة في الرسل، الذين أوذوا وامتحنوا، وأهانهم الناس، بل قتلوا بعضهم. فلطالب العلم أسوة فيهم، عليهم الصلاة والسلام، وفي تحملهم وصبرهم.
ولو فرضنا أن طالب العلم ما وجد الاحترام بين الناس، فإن ذلك لا يضره؛ لأنه لم يطلب العلم لهذا، وإنما طلب العلم لإنقاذ نفسه من الجهالة، ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فإن قبلوا منه، ورفعوا مكانته فالحمد لله، وإلا فهو على خير، ولو قتلوه أو أهانوه، فله أسوة بالرسل عليهم الصلاة والسلام، وبخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أوذي وأخرج من بلاده مكة إلى المدينة.
فالداعي إلى الله سبحانه، الصادق المخلص، له البشرى بالخير والعزة والكرامة، وحسن العاقبة، إذا سلك الطريق السوي، وكان على خلق عظيم وهدى، وسيرة حميدة، من غير عنف ولا شدة، ولا دخول فيما لا يعنيه، فإنه على خير عظيم، كما حصل للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولخاتمهم وأفضلهم، وإمام الدعاة والمجاهدين، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ما حصل للتابعين لهم بإحسان. . والله ولي التوفيق.(47/166)
س5: نجد في هذا الزمان فجوة، بين العلماء وبين طلاب العلم، وعموم المجتمع، وهذه الفجوة تعتبر مشكلة من المشكلات. . فما هي الحلول التي تراها لهذه المشكلة؟
ج 5: الفجوة تنشأ عن انحراف الطالب، أو انحراف العالم الذي ينسب إلى العلم، فإذا كان الطالب رديئا في الصلاة، أو يتظاهر بالمعاصي، أو بالعجلة والشدة، كرهه العلماء، وكرهه الأخيار، فلم يفرحوا بطلبه. وكذلك العالم الفاسق، والعالم المعرض، يكرهه الطلبة الطيبون والمجتهدون، في الدعوة إلى الخير، الراغبون في الأجر، فيكون بينهم فجوة، أما العلماء الصالحون والطلاب الصالحون، فليس بينهم فجوة أبدا، بل بينهم التعاون الصادق في كل خير.
ولكن الفجوة بينما المنحرف الذي يدعي العلم، وهو مع الفساق والمدخنين، ومع شراب الخمر، ومع المنحرفين عن الصلاة، وأشباه ذلك، فمن يحب هذا، ومن يقبل منه، وهذه أخلاقه، فهو يحتاج إلى دعوة ونصيحة، وعناية وصبر ومصابرة، حتى يستقيم.
فالفجوة جاءت من جهته هو، هو الذي بعد بأقواله وأعماله عن أهل العلم، وسيرتهم الحميدة، والعالم الذي لا يمثل علمه بالتقوى والسيرة الحميدة، بل هو مع الخرافيين، ومع عباد القبور، ومع الخمارين، ومع أشباههم ليس بعالم، ولا يستحق(47/167)
التقدير، بل يستحق أن يجفوه أهل العلم النافع، والطلبة الصالحون، حتى يرجع إلى الحق، ويستقيم مع أهل الحق.
ولا شك أن طلبة العلم يمقتونه، ولا يفرحون بقربه لسوء سيرته، بل تسرهم الفجوة التي تكون بينهم وبينه، لعدم الفائدة منه، ولضرره على المجتمع، وعلى طلبة العلم، فهو بحاجة إلى أن يدعى إلى الله، وينصح، حتى ينفعه علمه، وحتى ينفع الناس أيضا.
والواجب على الجميع التعاون على البر والتقوى، بصدق وإخلاص، والاستقامة على أمر الله، والحرص على ما يبعد الشحناء، وما يضيق الفجوة بينهم، وذلك بالعلم النافع والعمل الصالح، والسيرة الحميدة، والصبر على ذلك. والله الموفق.(47/168)
س 6: ما معنى قولك حفظك الله: (على طالب العلم أن يجتهد) ، وهل كل واحد منا مهيأ لذلك؟ وما موقفنا من مذاهب الأئمة الأربعة التي انتشرت في البلاد، وببن العباد، وقلدها الكثير في كل مكان وزمان؟
ج 6: على طالب العلم أن يجتهد حسب طاقته: المبتدئ يجتهد في الاستمرار في طلب العلم، ويحرص على أن يكون أهلا للترجيح في المسائل الخلافية، وعلى طالب العلم المتأهل الذي رزقه الله العلم، وتخرج من الدراسات العليا، ونظر في الكتب، وعرف أقوال الناس، أن يجتهد في ترجيح الراجح،(47/168)
وتزييف الزائف، بالأدلة الشرعية، والصبر والمطالعة.
فالعلم ليس بالسهل، العلم يحتاج إلى صبر ومصابرة، ومراجعة الأحاديث التي تتعلق بموضوع البحث، فقد تمكث أياما كثيرة ما وجدت الحديث الذي تريد، أو ما قدرت على تكوين رأي فيه من جهة صحته أو ضعفه.
وهكذا مراجعة كلام أهل العلم، وترجيح الراجح، يحتاج إلى صبر، ونظر في الأدلة، فالاجتهاد معناه: بذل الجهد في تحصيل العلم والترقي فيه، حتى يكون من أهله العارفين بالأحكام الشرعية، ومواقف أهل العلم في المسائل الخلافية، وأن تقف في ذلك موقف الناصح والمحب لهم، المترضي عنهم، الذي يعرف أقدارهم وما يبذلون من جهود في تحصيل العلم ونشره بين الناس، والاستفادة من كلامهم وعلومهم، وعدم سبهم وكراهتهم، أو إظهار الانتقاد على سبيل التنقص لهم، وعدم الفائدة منهم، وما أشبه ذلك.
فطالب العلم، يعرف قدر من قبله، وما ألفوا وما جمعوا، نصحهم لله ولعباده، ويستفيد من كلامهم، وليس معناه أن يقلدهم في الحق والباطل، بل يعرف الحق بدليله. . قال مالك رحمه الله: (ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الشافعي رحمه الله: (أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من(47/169)
الناس) .
وقال رحمه الله: (إذا قلت قولا يخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاضربوا بقولي الحائط) .
وهكذا قال أحمد وأبو حنيفة معنى ما قاله مالك والشافعي رحم الله الجميع.
وهكذا قال غيرهم من الأئمة كلهم نصحوا الناس، وأوصوهم باتباع الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، وألا يقدم على قول الله ورسوله قول أحد من الناس، بل يجب أن يقدم قول الله، وقول رسوله، وما أجمع عليه سلف الأمة، على من خالف ذلك.
هذا هو موقف العلماء المعتبرين، وهذا هو موقف طالب العلم منهم، حتى ينشأ على أخلاقهم، في تقديم قول الله، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وترجيح الراجح بالأدلة، واحترام العلماء ومعرفة أقدارهم، والترضي عنهم والترحم عليهم.
أما علماء السوء من الجهمية والمعتزلة وأشباههم، فهؤلاء يجب أن يمقتوا، ويبغضوا في الله، وأن يحذر الناس من شرهم وأعمالهم القبيحة، وعقائدهم الباطلة، نصحا لله ولعباده، وعملا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله الموفق.(47/170)
س 7: ما رأي فضيلتكم في هذه العبارة التي تتردد على ألسنة كثير من طلبة العلم، وهي: من كان شيخه كتابه، ضل(47/170)
عن صوابه؟
ج 7: المعروف: أن من كان شيخه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه. . هذه هي العبارة التي نعرفها.
وهذا صحيح: أن من لم يدرس على أهل العلم، ولم يأخذ عنهم، ولا عرف الطرق التي سلكوها في طلب العلم، فإنه يخطئ كثيرا، ويلتبس عليه الحق بالباطل، لعدم معرفته بالأدلة الشرعية، والأحوال المرعية، التي درج عليها أهل العلم، وحققوها وعملوا بها.
أما كون خطئه أكثر، فهذا محل نظر، لكن على كل حال أخطاؤه كثير؛ لكونه لم يدرس على أهل العلم، ولم يستفد منهم، ولم يعرف الأصول التي ساروا عليها، فهو يخطئ كثيرا، ولا يميز بين الخطأ والصواب، في الكتب المخطوطة والمطبوعة.
وقد يقع الخطأ في الكتاب، ولكن ليست عنده الدراية والتمييز، فيظنه صوابا، فيفتي بتحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، لعدم بصيرته؛ لأنه قد وقع له خطأ في كتاب مثلا: لا يجوز كذا وكذا، بينما الصواب أنه يجوز كذا وكذا، فجاءت لا زائدة، أو عكسه: يجوز كذا وكذا، والصواب: ولا يجوز، فسقطت لا في الطبع أو الخط، فهذا خطأ عظيم.
وكذلك قد يجد عبارة: ويصح كذا وكذا، والصواب: ولا يصح كذا وكذا، فيختلط الأمر عليه، لعدم بصيرته، ولعدم علمه،(47/171)
فلا يعرف الخطأ الذي وقع في الكتاب، وما أشبه ذلك.(47/172)
س 8: إذا سئل شخص عن مسألة فأفتى فيها، وبعد مدة تبين له أن ما أفتى به غير صحيح، فماذا عليه أن يفعل؟
ج 8: عليه أن يرجع إلى الصواب، ويفتي بالحق، ويقول: أخطأت، كما قال عمر: (الحق قديم) فعليه أن يرجع إلى الصواب، ويفتي بالحق، ويقول: أخطأت في المسألة الأولى: أفتيت بكذا وكذا، ثم اتضح لي أنها خطأ، - والصواب كذا وكذا. ولا بأس عليه في ذلك، بل هذا هو الواجب عليه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو رأس المفتين، لما سأله الناس عن التلقيح، وهو تأبير النخل، قال: «ما أظنه يضره لو ترك» ، ثم أخبروه بأنه يضره. فقال: «إنما أخبرتكم عن رأيي، والرأي يخطئ ويصيب، أما ما أحدثكم به عن الله، فإني لن أكذب على الله (1) » ، وأمرهم أن يرجعوا إلى التلقيح.
كذلك عمر رضي الله عنه، أفتى بإسقاط الإخوة في مسألة المشركة، ثم أفتى بالتشريك بناء على ما ترجح لديه في ذلك.
فالرجوع إلى ما يعتقد العالم أنه الصواب والحق، أمر معروف، وهو طريق أهل العلم والإيمان، ولا حرج في ذلك، ولا نقص بل ذلك يدل على فضله، وقوة إيمانه، حيث رجع إلى الصواب، وترك الخطأ.
ولو قال بعض الناس، أو بعض الجهلة: إن هذا عيب،
__________
(1) صحيح مسلم الفضائل (2361) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2470) ، مسند أحمد بن حنبل (1/162) .(47/172)
فهذا ليس بشيء، الصواب أنه فضل، وأنه منقبة وليس بنقص.(47/173)
س 9: أنا طالب علم، كثيرا ما توجه إلي المسائل عن أمر من الأمور، سواء في العبادة أو غيرها، فأعرف الإجابة جيدا، إما عن سماع أحد المشايخ، أو في الفتاوى، ولكن يصعب علي استحضار الدليل الصحيح، فقد يصعب علي ترجيحه، فبماذا توجهون طلبة العلم في ذلك؟
ج 9: لا تفت إلا على بصيرة، وأرشدهم إلى غيرك، ممن تظن في البلد أنه خير منك، وأعلم بالحق، وإلا فقل: أمهلوني حتى أراجع الأدلة، وانظر في المسألة، فإذا اطمأننت إلى الصواب بالأدلة، فأفتهم بما ظهر لك من الحق.
وأوصي المدرسين لأجل هذا السؤال وغيره: أن يعنوا بتوجيه الطلبة إلى هذا الأمر العظيم، وأن يحثوهم على التثبت في الأمور، وعدم العجلة في الفتوى، والجزم في المسائل إلا على بصيرة، وأن يكونوا قدوة لهم في ذلك بالتوقف عما يشكل، والوعد بالنظر فيه بعد يوم أو يومين، أو في الدرس الآتي، حتى يتعود الطالب ذلك من الأستاذ، بعدم العجلة في الفتوى والحكم، إلا بعد التثبت والوقوف على الدليل، والطمأنينة إلى أن الحق ما يقوله الأستاذ، ولا حرج أن يؤجل إلى وقت آخر، حتى يراجع الدليل، وحتى يراجع كلام أهل العلم في ذلك.
فقد أفتى مالك في مسائل قليلة، ورد مسائل كثيرة، قال فيها: لا أدري. وهكذا غيره من أهل العلم.(47/173)
فطالب العلم من مناقبه أن لا يجعل، وأن يقول: لا أدري فيما يجهل.
والمدرسون عليهم واجب عظيم، بأن يكونوا قدوة صالحة، في أخلاقهم وأعمالهم للطلبة، ومن الأخلاق الكريمة أن يعود الطالب كلمة لا أدري، وتأجيل المسائل حتى يفهم دليلها، وحتى يعرف حكمها، مع التحذير من الفتوى بغير علم، والجرأة عليها. . والله ولي التوفيق.(47/174)
درجة حديث الصدوق ومن في مرتبته
د. عبد العزيز بن سعد التخيفي (1)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه وأتباعهم بإحسان. . وبعد:
فإن من الألفاظ التي ترد على ألسنة الأئمة النقاد قولهم عن الراوي: صدوق.
وظاهر هذه الكلمة أن الموصوف بها متصف بالصدق في قوله، وورودها بصيغة المبالغة مشعر بتمام ضبطه لما يحدث به.
وإذا كان حال هذا الراوي على هذا الوصف، فهل هذا مستفاد من أصل هذه الكلمة واستعمال الشارع لها في خطابه، أو من حيث الاصطلاح السائر بين أهل العلم من المحدثين؟
في هذا البحث سأتحدث عن هذه المسألة من خلال النقاط التالية:
أولا: بيان المراد من كلمة صدوق من حيث اللغة، ومن حيث ورود استعمالها في القرآن الكريم والسنة النبوية.
__________
(1) الأستاذ المساعد بقسم السنة وعلومها في كلية أصول الدين بجامعة الإمام.(47/175)
ثانيا: موضع كلمة صدوق وما في حكمها ضمن مراتب التعديل.
ثالثا: قول أهل العلم في الاحتجاج بحديث الصدوق ومن كان في درجته.
رابعا: بيان القول الراجح في هذه المسألة.
خامسا: نتيجة هذا البحث.
سادسا: ملحق حول قولهم عن الراوي: (صدوق له أوهام) . أو (صدوق يهم) .
أولا: من المعروف لغة أن الصدق ضد الكذب (1) وقد ورد في القرآن الكريم استعمال مادة " صدق " في مواضع عدة بمثل هذه الصيغ: صدق، وصادق، والصديق، ومصدق.
كما في قوله تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (2) ، وفي سورة مريم قوله سبحانه وتعالى عن إسماعيل عليه السلام: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (3) .
وجاء وصف يوسف عليه السلام بالصديق: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} (4) ، وأخبر سبحانه وتعالى عن
__________
(1) القاموس المحيط، مادة صدق 3 \ 52.
(2) سورة الصافات الآية 37
(3) سورة مريم الآية 54
(4) سورة يوسف الآية 46(47/176)
عيسى عليه السلام بقوله: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} (1) .
وأما صيغة صدوق بخصوصها فلم أقف عليها في القرآن الكريم.
وأما في السنة النبوية فقد ورد استعمال مادة صدق في نصوص كثيرة، منها ما ورد في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال: سمعت الصادق المصدوق يقول: «هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش (2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أثبت أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدان (3) » .
وفي حديث أبي سعيد الخدري - مرفوعا -: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء (4) » .
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: «قيل يا رسول الله: أي الناس أفضل؟ قال: كل مخموم القلب صدوق اللسان (5) » . وقد فسر قوله: "مخموم القلب" بأنه النقي التقي الذي سلمت طويته من الضغائن والإحن.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 50
(2) صحيح البخاري 13 \ 9 (7058) .
(3) صحيح البخاري 7 \ 22 (3675) .
(4) رواه الترمذي 3 \ 515 (1209) وقال: حديث حسن، وفي الزوائد إسناده صحيح رجاله ثقات.
(5) رواه ابن ماجه 2 \ 1409 (4216)(47/177)
وقد قال الراغب الأصبهاني: (الصدق مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معا، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقا تاما) (1) ا. هـ.
وهذا يدل على أنه إذا وصف الشخص بأنه صادق في قوله، فيلزم من ذلك أن يكون حافظا لحديثه.
فإذا وصف بذلك على سبيل المبالغة (صدوق) أفاد ذلك قوة حفظه لما يخبر به.
__________
(1) تاج العروس، مادة '' صدق'' 6 \ 404.(47/178)
ثانيا: اتفق المصنفون في مراتب الجرح والتعديل - فيما رأيته من المصادر والمراجع - على أن عبارة (صدوق) وما يمثلها من ألفاظ التعديل، ثم تنوع اجتهادهم في موضعها في سلم ألفاظ التعديل.
فعلى سبيل المثال نجد أن الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم جعلها في المرتبة الثانية من مراتب التعديل.
وأما الحافظ الذهبي - في كتابه [ميزان الاعتدال] ، وكذلك الحافظ زين الدين العراقي في كتابه [التبصرة] فقد جعلاها في المرتبة الثالثة.
وحيث إن الحافظ ابن حجر في كتابه " التقريب " قد ضم إلى مراتب التعديل طبقة الصحابة فقد جعل أهل هذه الدرجة في المرتبة الرابعة.(47/178)
وقد أضاف الحافظ السخاوي إلى مراتب الجرح والتعديل كثيرا من الألفاظ، وبذلك وضع حديث الصدوق في المرتبة الخامسة.(47/179)
ثالثا: اتضح بما تقدم أن لفظ صدوق من ألفاظ التعديل، فالموصوف بها عدل في نفسه.
لكن اختلف قول أهل العلم في الاحتجاج بحديثه، فبعضهم يرى أن حديثه حجة، وبعضهم يرى أن حديثه يكتب وينظر فيه لمعرفة هل حفظ هذا الحديث بخصوصه فيحتج به، أو لم يحفظه فلا يحتج به؟
فمثلا الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه [الجرح والتعديل] قال: (وجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى:
1 - فإذا قيل للواحد: إنه ثقة، أو متقن ثبت، فهو ممن يحتج بحديثه.
2 - وإذا قيل له: صدوق، أو محله الصدق، أو لا بأس به فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه) اهـ (1) .
__________
(1) الجرح والتعديل 2 \ 37.(47/179)
وأما الإمام الحافظ أبو عمرو بن الصلاح فقد وافق ابن أبي حاتم في شأن حديث الصدوق من حيث إنه يكتب حديثه وينظر فيه.
قال ابن الصلاح في مقدمته: (بيان الألفاظ المستعملة من أهل هذا الشأن في الجرح والتعديل، وقد رتبها أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتابه الجرح والتعديل فأجاد وأحسن، ونحن نرتبها كذلك) .
ثم أورد ما تقدم ذكره عن ابن أبي حاتم، ثم قال في تعليل عدم الاحتجاج بحديث الصدوق ومن في حكمه: (لأن هذه العبارات لا تشعر بشريطة الضبط، فينظر في حديثه، ويختبر حتى يعرف ضبطه) (1) ا. هـ.
وقد تابع ابن الصلاح فيما ذهب إليه طائفة من الحفاظ المصنفين في علوم الحديث مثل: النووي وزين الدين العراقي والسخاوي والسيوطي.
وذهب طائفة من الأئمة الحفاظ كالذهبي وابن حجر إلى الاحتجاج بحديث الصدوق ومن كان في حكمه.
ففي خطبة كتاب [ميزان الاعتدال] قال الحافظ الذهبي: (أعلى الرواة المقبولين: ثقة حجة، وثبت حافظ، ثم ثقة، ثم
__________
(1) علوم الحديث، ص 110.(47/180)
صدوق، ولا بأس به، وليس به بأس) (1) ا. هـ.
وفى بيان الحافظ ابن حجر للحديث الشاذ ذكر أن المحدثين يفسرونه بمخالفة الثقة من هو أوثق منه.
ثم قال: (والشاذ راويه ثقة أو صدوق) (2) .
وكذلك فإن الأستاذ العلامة أحمد بن محمد شاكر قد أخذ بهذا القول، حيث إنه ذكر أن حديث الصدوق ومن في حكمه صحيح من الدرجة الثانية (3) .
__________
(1) الميزان 1 \ 4.
(2) نزهة النظر، ص: 36.
(3) الباعث الحثيث، ص 106.(47/181)
رابعا: القول الراجح في هذه المسألة:
القول الراجح لدي في هذه المسألة أن حديث الصدوق حجة؛ لأدلة من أهمها:
الدليل الأول: أن لفظ صدوق من حيث اللغة يطلق على من تحقق فيه أمران:
أحدهما: أن يكون صادقا فيما يخبر به، بمعنى أنه حافظ لما يحدث به.
الثاني: أن يكون خبره مطابقا لاعتقاده، وإلا كان كاذبا فيما يقول، وإن كان خبره في نفسه حقا.(47/181)
وذلك مثل المنافق الذي يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فهذا الخبر حق في نفسه، لكنه كاذب في قوله؛ لأنه لا يعتقد ذلك بقلبه.
وتقدم قول الراغب الأصبهاني: (الصدق مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معا) .
بل إنه بمقارنة لفظة (صدوق) مع لفظة (ثقة) نجد أن مادة (وثق) لم تأت في القرآن الكريم بمعنى الصدق في القول، أو التثبت في نقل الأخبار.
بل أكثر ورودها بمعنى: العهد.
كما في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ} (1) ، وقوله تعالى: {حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ} (2) .
وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (3) .
وورد استعمال (وثق) في بعض المواضع بمعنى ما يوثق به الشيء من حبل ونحوه، كما في قوله تعالى: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} (4) ، وقوله تعالى: {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} (5) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 7
(2) سورة يوسف الآية 66
(3) سورة البقرة الآية 83
(4) سورة محمد الآية 4
(5) سورة الفجر الآية 26(47/182)
وبالجملة فإن مادة (صدق) وما يشتق منها أكثر استعمالا في خطاب الشارع من (وثق) .
بل إن لفظة (صدوق) أقوى دلالة على غاية التثبت في القول من صيغة (ثقة) وذلك من حيث اللغة، ومن حيث استعمال الشارع.
لكن المحدثين في اصطلاحهم أكثروا من استعمال لفظة (ثقة) وجعلوها لقبا للراوي الذي بلغ مرتبة عالية من الضبط والإتقان.
الدليل الثاني: ما نسب إلى الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم من أنه لا يرى أن حديث الصدوق حجة، قول يحتاج إلى شيء من الإيضاح.
وذلك أنه ذكر مراتب الجرح والتعديل في ثلاثة مواضع من كتابه.
الموضع الأول والثاني في المجلد الأول الذي هو مقدمة لكتابه.
والموضع الثالث في خطبة الكتاب نفسه في أول المجلد الثاني.
وتقسيم ابن أبي حاتم لمراتب التعديل في الموضع الأول، وكذلك الثاني أكثر وضوحا في بيان مراده.(47/183)
حيث إنه جعل من يقبل حديثهم على أربع مراتب الأولى والثانية والثالثة لمن يحتج بحديثهم، والرابعة لمن يقبل حديثهم في الفضائل.
والمرتبة الأولى في هذا الموضع وكذلك في الموضع الثاني للأئمة الحفاظ الأثبات.
والمرتبة الثانية للحفاظ الثقات، ثم قال عن المرتبة الثالثة: (الصدوق في روايته، الورع في دينه، الثبت الذي يهم أحيانا، وقد قبله الجهابذة النقاد، فهذا يحتج بحديثه أيضا) (1) .
وقال عن المرتبة الرابعة: (الصدوق الورع المغفل، الغالب عليه الوهم والخطأ والسهو والغلط، فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام) (2) .
والحاصل أن ابن أبي حاتم جعل حديث الصدوق في هذين الموضعين على قسمين:
القسم الأول: الصدوق في روايته الورع في دينه الذي يهم أحيانا، فهذا يحتج بحديثه.
القسم الثاني: الصدوق المغفل، الغالب عليه الوهم والخطأ.
__________
(1) الجرح والتعديل (المقدمة) 6:1.
(2) الموضع نفسه.(47/184)
فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب، ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام.
فإذا كان حديث الصدوق الموصوف بأنه مغفل الغالب عليه الوهم والخطأ، فإنه يكتب من حديثه في الفضائل ولا يحتج به.
فما حكم حديث الصدوق الذي ليس كذلك، أو الذي يهم أحيانا بحيث لم يكثر الوهم في حديثه، ولم يكن غالبا عليه؟
ظاهر كلام ابن أبي حاتم في هذا الموضع الأول من مقدمة كتابه، وكذلك في الموضع الثاني من المقدمة: أنه يحتج بحديثه.
وبمقارنة ذلك بقوله في الموضع الثالث، الذي هو في صدر المجلد الثاني: (وإذا قيل: إنه صدوق. . . فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه) (1) . نجد هذه العبارة مجملة، وكأنه فعل ذلك لما تقدم من تفصيل وبيان ضمن المقدمة.
بمعنى أنه ينظر في حديثه لمعرفة حال الراوي: هل هو صدوق يهم أحيانا بحيث لم يكثر الوهم في حديثه ولم يغلب عليه؟ فحديثه محتج به. أو هو صدوق مغفل، الغالب عليه الوهم والخطأ فلا يحتج به.
الدليل الثالث: قال الحافظ أبو أحمد بن عدي في خطبة كتابه [الكامل في الضعفاء] : (وذاكر في كتابي هذا كل من ذكر
__________
(1) الجرح والتعديل 2 \ 73.(47/185)
بضرب من الضعف، ومن اختلف فيه فجرحه البعض وعدله البعض. . . ولا يبقى من الرواة الذين لم أذكرهم إلا من هو ثقة أو صدوق) (1) ا. هـ.
فدل ذلك على أن حديث الصدوق محتج به عنده؛ لأنه لم يثبت في حقه ما يرد به حديثه.
الدليل الرابع: الراوي العدل في نفسه الذي لم يفحش غلطه محتج به في الصحيح، ومن وصف بأنه " صدوق " لم يقل أحد - فيما وقفت عليه من قول أهل العلم - إنه ممن فحش غلطه.
وقد بين الإمام مسلم في مقدمة صحيحه الطبقة الأولى المحتج بهم في الصحيح بأنهم:
(. . . أهل استقامة في الحديث وإتقان لما نقلوا، لم يوجد في رواياتهم اختلاف شديد ولا تخليط فاحش) (2) .
أقول: من كان في مرتبة " صدوق " فإنه لم يوصف بالاختلاف الشديد في حديثه أو التخليط الفاحش.
وإنما هو عدل خف ضبطه قليلا عن درجة الثقة التام الضبط.
__________
(1) الكامل في الضعفاء 1 \ 15 ـ 16.
(2) صحيح مسلم (المقدمة) : 1 \ 5.(47/186)
وهذه بعض الأمثلة ممن احتج بهم الشيخان ممن وصف بأنه "صدوق":
1 - بكر بن وائل بن داود التيمي الكوفي، احتج به مسلم، وقد قال عنه الذهبي: " صدوق " (1) .
2 - ثابت بن محمد الكوفي العابد، احتج به البخاري، وقال عنه الذهبي: " صدوق " (2) .
3 - حفص بن عبد الله السلمي، احتج به البخاري، وقال عنه ابن حجر: " صدوق ".
الدليل الخامس: قال الإمام البخاري في كتابه الجامع الصحيح: (كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام) (3) .
قال ابن حجر في [فتح الباري] : المراد بالإجازة - جواز العمل به، والقول بأنه حجة (4) . اهـ.
__________
(1) الكاشف: 1 \ 163، وفي الميزان 1 \ 348 \ 1 احتج به مسلم.
(2) الكاشف:1 \ 172، وقال عنه الذهبي في الميزان 1 \ 366 \ 1 احتج به البخاري.
(3) الجامع الصحيح للبخاري 13 \ 231.
(4) فتح الباري 13 \ 233.(47/187)
وبما تقدم يتضح أن الراجح أن حديث الراوي الصدوق حجة، وأن الحافظ أبا عمرو بن الصلاح - رحمه الله تعالى - حصل منه في مقدمته في علوم الحديث أمران أراهما جديرين بالملاحظة:
الأول: أنه نقل مراتب التعديل عند ابن أبي حاتم من موضع واحد من كتابه، وهو خطبة الكتاب، وترك إيراد ما ذكره في الموضعين الآخرين، وهما في المجلد الأول، الذي هو مقدمة لكتابه الجرح والتعديل، مع أن قول ابن أبي حاتم في المقدمة أكثر وضوحا وتفصيلا، خاصة فيما يتعلق بحديث الصدوق.
الثاني: أن أبا عمرو بن الصلاح جعل ما نقله عن ابن أبي حاتم - في خطبة كتاب [الجرح والتعديل] ، في عدم الاحتجاج بحديث الصدوق ومن في حكمه - هو قول أئمة هذا الشأن، بمعنى أنه قول الأئمة من المحدثين.
وكانت النتيجة أن من جاء بعد ابن الصلاح من المصنفين في علوم الحديث اعتمدوا - غالبا - على مقدمته، وتابعوه في الأغلب فيما ذهب إليه، ومن ذلك قوله في حكم الصدوق.
وأما الحافظ الذهبي فهو من أهل الاستقراء التام في معرفة الرجال، وله باع طويل في معرفة أحوال الرواة، وكذلك الحافظ ابن حجر فقد ظهر لهما من مناهج الأئمة المحدثين، وطرائقهم في التوثيق والتجريح ما قد يكون خفي على غيرهما؛ لذا ذهبا مذهب(47/188)
جمهور الأئمة الحفاظ في الاحتجاج بمن كان من مرتبة الصدوق.
ولما وقف الحافظ عماد الدين ابن كثير على ما نقله ابن الصلاح عن ابن أبي حاتم، ورآه خلاف ما كان عليه الأئمة الحفاظ من المتقدمين جعله اجتهادا خاصا بابن أبي حاتم، قال ابن كثير: (وثم اصطلاحات لأشخاص ينبغي الوقوف عليها، ومن ذلك أن البخاري إذا قال في الرجل: سكتوا عنه، أو فيه نظر فإنه يكون في أدنى المنازل وأردئها عنده. وقال ابن أبي حاتم: إذا قيل: صدوق أو محله الصدق أو لا بأس به، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه) (1) ا. هـ.
__________
(1) اختصار علوم الحديث ـ بشرحه (الباعث الحثيث) ، ص 105 - 106.(47/189)
خامسا: نتيجة هذا البحث:
خلاصة القول في هذه المسألة: أنه إذا كان الحديث الصحيح يشترط في راويه أن يكون ثقة، وهو العدل الضابط، فإن الراوي العدل الذي خف ضبطه قليلا عن ضبط الثقة، وهو الصدوق ومن في حكمه في المرتبة التي تلي الصحيح، وهي الحسن لذاته. ومن ادعى على الراوي الموصوف بأنه " صدوق " بالوهم في شيء من مروياته فعليه الدليل؛ لأن الغالب عليه من حيث الحفظ أنه ضابط لحديثه.
وما اختاره الشيخان - أو أحدهما - من أحاديث أهل هذه المرتبة، وأخرجاه في الصحيح على جهة الاحتجاج به فذلك(47/189)
صحيح، ومشعر أنه تبين لهما أن الراوي حافظ لذلك الحديث ضابط له، وإخراج ذلك المروي في الكتاب المسمى بـ " الجامع الصحيح " معلم بذلك، ومؤيد بتلقي الأمة لكتابيهما بالقبول.
وإذا حكم أحد الأئمة الحفاظ كأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، والدارقطني، على شيء من حديث راو " صدوق " بأنه صحيح، فذلك محمول على أنه ثبت لديه بالطرائق المعتبرة أن ذلك الحديث صحيح، فالذي أراه أن الأصل اعتماد قوله، ولا يترك حكمه إلا ببرهان معتبر.(47/190)
سادسا: قولهم عن الراوي: (صدوق له أوهام) أو (صدوق يهم) .
من المعلوم أن الوهم جائز على الإنسان، ولا يقدح بالوهم اليسير في ضبط الراوي؛ لأنه لا يسلم أحد من ذلك.
فإذا كان ما يقع في حديث الراوي من السهو والخطأ ليس كثيرا، فإن ذلك لا يمنع من قبول خبره والاحتجاج بحديثه في قول جمهور الأئمة الحفاظ.
وإذا كثر الخطأ في حديث الراوي لكن لم يغلب على رواياته فإن جمهور الأئمة الحفاظ يحتجون بحديثه أيضا، والمراد أنهم يحتجون بما تبين لهم أنه حفظه من حديثه، ويجتنبون ما علموا أنه غلط فيه.(47/190)
وأما من كان الغالب على حديثه الخطأ ولم يتهم بالكذب، وكان مرضيا في عدالته فهذا يكتب من حديثه في الفضائل، ومثله يتقوى حديثه بالمتابعات، ويرتقي إلى درجة الحسن لغيره.
وقد ينتقي بعض الجهابذة الحفاظ مثل البخاري ومسلم والترمذي بعض الأحاديث من مرويات هؤلاء، فيخرجونها في الصحاح، أو يحكمون بصحتها.
وهؤلاء الأئمة وأمثالهم لا يمكن رد قولهم في مثل هذه الأحوال إلا ببرهان معتبر، وقد وردت صيغة (صدوق له أوهام) أو (صدوق يهم) في كلام الأئمة الحفاظ في عدد من التراجم، لكن استعمالهم لمثل هذه الصيغ لم يكن كثيرا، وإنما أكثر من استعمال هاتين الصيغتين الحافظ ابن حجر في كتابه [التقريب] .
وقد تبين لي من خلال دراسة أحوال الراوة الذين وصفهم ابن حجر بذلك أن معظمهم محتج بحديثهم. وقد سمعت فضيلة والدنا وشيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله ونفعنا بعلمه - وقد سئل عمن قال عنه ابن حجر: صدوق له أوهام أو صدوق يهم - فذكر ما حاصله أن حديث هؤلاء محتج به.
أقول: لذلك فالظاهر لدي أن القيد في قوله: (صدوق له أوهام) أو (صدوق يهم) قيد يستعمله ابن حجر في مواضع(47/191)
كثيرة لبيان الواقع، وهو أنه ما من راو موثق إلا وله بعض الأوهام.
وقد يستفاد من وصف الراوي الصدوق بأنه "يهم" أن له أوهاما متعددة، كما تشعر بذلك صيغة الفعل المضارع "يهم"، لكن هذه الأوهام ليست غالبة على حديثه، وإلا لانحط الراوي إلى رتبة دون هذه، مثل ضعيف أو سيئ الحفظ.
والله أعلم(47/192)
الإنكار في مسائل الخلاف
للدكتور عبد الله بن عبد المحسن بن منصور الطريقي
الحمد لله الذي جعل الدين شرعة ومنهاجا، وأصلي وأسلم على محمد وآله وصحبه، وبعد:
فإن الخلاف أمر حتمي في حياة الأمة، إما لاختلاف الملل والنحل أو لاختلاف الأسس التي تستنبط في ضوئها الأحكام، أو لتفاوت المدارك العلمية في استظهار الحق ومعرفته.
لذا هل كل خلاف معتبر من الناحية الشرعية؟ وهل يستوجب الإنكار على القائل به؟
ولإيضاح ذلك قمت بإعداد هذه الدراسة التي أسميتها "الإنكار في مسائل الخلاف"، وهي تتكون من مقدمة وبابين:
أما المقدمة: ففي أن الخلاف أمر طبيعي في حياة المسلمين، وبيان الحكمة من خفاء الحكم.
أما الباب الأول: ففي حقيقة الخلاف، وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: في معنى الخلاف.
الفصل الثاني: في الفرق بين الخلاف والمخالفة.(47/193)
الفصل الثالث: في أسباب الخلاف، وبعض الأمثلة لذلك.
الفصل الرابع: في كلام الأئمة في ترك قولهم اتباعا للحق.
الفصل الخامس: مخالفة التلاميذ لأئمتهم اتباعا للحق.
أما الباب الثاني: ففي حكم الإنكار في المسائل الخلافية، وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: في الإنكار على أهل الأهواء والبدع، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في الإنكار على أهل البدع.
المطلب الثاني: في الإنكار على من يخالف لهوا في نفسه، أو إرضاء لغيره.
الفصل الثاني: في الإنكار على من يأخذ بالقول المرجوح أو الضعيف.
الفصل الثالث: في الإنكار على من يأخذ بأخف القولين.
الفصل الرابع: في الإنكار على المجتهدين أو على مقلديهم في الفروع، وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في الإنكار على من اجتهد أو قلد وخالف نصا أو إجماعا أو قاعدة شرعية.
المطلب الثاني: في الإنكار على من اجتهد أو قلد وأخذ بقول لم يخالف به دليلا أو قاعدة شرعية.
الفصل الخامس: في موقف المحتسب من حمل الناس على وجه من أوجه الخلاف وفيه مطلبان:(47/194)
المطلب الأول: في حمل المحتسب الناس على وجه ضعيف وإلزام الناس به.
المطلب الثاني: في موقف المحتسب من حمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف.
الفصل السادس: في النتائج المترتبة على مخالفة المنهج الصحيح في الإنكار.
مقدمة في أن الخلاف أمر طبيعي في حياة المسلمين، وبيان الحكمة من خفاء الحكم:
الخلاف بين العلماء ظاهرة طبيعية اقتضتها دلالة الأدلة الشرعية؛ لأن أكثر النصوص ظنية في دلالتها، أو في ثبوت بعضها، أو في عدم اعتبار دلالة البعض الآخر منها، أو لخفاء الدليل على بعض العلماء دون البعض الآخر.
والخلاف فيه مجال للإبداع في معرفة كيفية استنباط الأحكام الشرعية، وفيه تدريب على مواجهة ما يجد من مشكلات الحياة المختلفة، أو ما يتغير من أحكام بنيت على عرف أو مصلحة شرعية، فكلما تغير العرف أو انتفت المصلحة، أو جدت مصلحة شرعية أخرى مغايرة للمصلحة الأولى استلزم تغيير الحكم تبعا لذلك.
والعلماء يتفاوتون بتقدير تلك المصالح، ومدى إدراكهم للحاجة المقتضية لذلك، مما لا يخالف نصا أو إجماعا أو قاعدة شرعية.(47/195)
والاختلاف الناشئ عن الاستنباط الشرعي، جاءت نتائجه رحمة بالأمة وتوسعة عليها، وإلا لما أقره صلى الله عليه وسلم للجيش الذي ذهب لبني قريظة، والخلاف وجد في الأحكام الشرعية، مع أن الحق -تبارك وتعالى- قد وعد بحفظ هذا الدين، ولا مخلف لوعده سبحانه.
قال المناوي: (اختلافهم توسعة على الناس بجعل المذاهب كشرائع متعددة، بعث النبي صلى الله عليه وسلم بكلها؛ لئلا تضيق بهم الأمور من إضافة الحق الذي فرضه الله تعالى على المجتهدين دون غيرهم، ولم يكلفوا ما لا طاقة لهم به؛ توسعة في شريعتهم السمحة، فاختلاف المذاهب نعمة كبيرة، وفضيلة جسيمة، خصت بها هذه الأمة) (1) .
والتوسعة ليست على المجتهد عند استنباطه للحكم؛ لأنه مكلف باتباع الحق لا التيسير على نفسه.
وما ورد من النهي عن الاختلاف بقوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (2) ، وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3) ، فالمفسرون ذكروا أن الخلاف المنهي عنه هو الاختلاف على الرسل، فلو خالف إمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قوله مردود عليه.
__________
(1) فيض القدير ج 1 ص 209، وانظر شرح السنة للبغوي 1 \ 229، 230.
(2) سورة آل عمران الآية 105
(3) سورة آل عمران الآية 103(47/196)
قال الذهبي: (وبين الأئمة اختلاف كبير في الفروع وبعض الأصول، وللقليل منهم غلطات وزلقات، ومفردات منكرة، وإنما أمرنا باتباع أكثرهم صوابا، ونجزم بأن غرضهم ليس إلا اتباع الكتاب والسنة، وكل ما خالفوا فيه لقياس أو تأويل. وإذا رأيت فقيها خالف حديثا أو رد حديثا أو حرف معناه فلا تبادر لتغليطه، فقد قال علي لمن قال له: أتظن أن طلحة والزبير كانا على باطل؟ يا هذا: إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله.
وما زال الاختلاف بين الأئمة واقعا في الفروع وبعض الأصول مع اتفاق الكل على تعظيم البارئ جل جلاله، وأنه ليس كمثله شيء، وأن ما شرعه رسوله حق، وأن كتابهم واحد، ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة، وإنما وضعت المناظرة لكشف الحق، وإفادة العالم الأذكى لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف) (1) .
عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر (2) »
يقول الشافعي: (وقد حكم الحاكمان في أمر واحد برد
__________
(1) فيض القدير، ج 1 ص 210.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، فتح الباري ج 13 ص 318، وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ، صحيح مسلم بشرح النووي 12 ص 13.(47/197)
وقبول، وهذا اختلاف ولكن كل قد فعل ما عليه) (1) .
قال القرطبي: (وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زال الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متآلفون) (2) .
وقال أحمد بن حفص السعدي -شيخ ابن عدي -: (سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا) (3) .
وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يكثر من قول: (اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له، ويقول: من جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب) (4) .
فالإمام أحمد وأبو حنيفة وغيرهم لم تضق صدورهم بمعارضة مخالفيهم، أو جعل ذلك سببا في التقليل من شأنهم، بل أشادوا بهم واتسعت صدورهم لخلافهم، لحسن مقاصدهم ومقاصد من خالفهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن مشروعية التكبير والتهليل: (فشرع تكريره كما شرع تكرير تكبير الأذان وهو في
__________
(1) الرسالة للإمام الشافعي، مسألة رقم 1407 ص 494.
(2) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي ج 4 ص 194.
(3) انظر سير أعلام النبلاء، ج 11 ص 370.
(4) انظر تاريخ بغداد، ج 13 ص 352.(47/198)
كل مرة مشفوع وكل المأثور حسن. ومن الناس من يثلثه أول مرة، ويشفعه ثاني مرة، وطائفة من الناس تعمل بهذا.
وقاعدتنا في هذا الباب أصح القواعد، أن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شيء من ذلك، بل يشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع صلاة الخوف، وفي نوعي الأذان الترجيع وتركه، ونوعي الإقامة شفعها وإفرادها، وكما قلنا في أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتاحات، وأنواع الاستعاذات، وأنواع القراءات، وأنواع تكبيرات العيد الزوائد. . . قال: وإنما يكون هذا تارة، وهذا تارة) (1) .
الحكمة من خفاء الحكم:
قال الله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (2) ، فما يوجد في الأسواق من الطعام والثياب قد يكون في نفس الأمر مغصوبا، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كله حلالا لا إثم عليه فيه بحال، بخلاف ما إذا علم، فخفاء العلم بما يوجب الشدة قد يكون رحمة، كما أن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة، كما أن رفع الشك قد يكون رحمة، وقد يكون عقوبة، والرخصة رحمة، وقد يكون مكروه النفس أنفع كما في الجهاد. قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} (3) (4)
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 24، ص 242.
(2) سورة المائدة الآية 101
(3) سورة البقرة الآية 216
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 14 ص 159.(47/199)
ومن ثم فإن في استنباط الحكم الخفي وفي استظهاره فوائد عظيمة منها: أن صلاحية أحكام الشريعة لكل زمان ومكان، وشمول أحكامها لما يستجد من متطلبات المسائل الحادثة حق، وأن المستنبط للأحكام هم حملة هذا العلم من العلماء وفق ضوابط معينة حددت لهم في عصور الإسلام المفضلة.(47/200)
الباب الأول
في حقيقة الخلاف
وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: في معنى الخلاف:
الخلاف: المضادة، وقد خالفه مخالفة وخلافا، وفي المثل: إنما أنت خلاف الضبع الراكب، أي تخالف خلاف الضبع؛ لأن الضبع إذا رأت الراكب هربت منه.
ويقال: خلف فلان بعقبي إذا فارقه على أمر فصنع شيئا آخر (1) .
وتخالف القوم واختلفوا إذا ذهب كل واحد إلى خلاف ما
__________
(1) لسان العرب، مادة خلف.(47/200)
ذهب إليه الآخر وهو ضد الاتفاق (1) .
(والاختلاف والمخالفة: أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو قوله.
والخلاف أعم من الضد؛ لأن كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين.
ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يقتضي التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} (2)) (3) .
قال المناوي: (الاختلاف: افتعال من الخلف وهو ما يقع من افتراق بعد اجتماع في أمر من الأمور) (4)
__________
(1) المصباح المنير، مادة خلف.
(2) سورة مريم الآية 37
(3) المفردات في غريب القرآن، مادة خلف. وبصائر ذوي التمييز، مادة خلف ج 2 ص 562.
(4) فيض القدير، ج 1ص 209.(47/201)
الفصل الثاني: في الفرق بين الخلاف والمخالفة:
(أصل المادة واحد وهو خلف. والخلاف كما سبق المضادة، والتخاليف الألوان المختلفة. وخالفه إلى الشيء: عصاه إليه أو قصده بعد ما نهاه عنه.
قال تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} (1)) (2) .
__________
(1) سورة هود الآية 88
(2) لسان العرب، مادة خلف.(47/201)
إذن هما كلمتان تستعمل كل منهما في محل الأخرى، غير أن المتتبع يجد أن كلمة خالف تستعمل في حالة العصيان الواقع عن قصد كمن يخالف الأوامر، قال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (1) ، ولم يقل سبحانه: يختلفون في أمره، أما كلمة اختلف فتكون في حالة المغايرة في الفهم الواقع من تفاوت وجهات النظر، وعليه قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} (2) ، ولم يقل سبحانه: خالفوا فيه.
ومنه قوله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} (3) ، فجعله عز وجل اختلافا لا مخالفة.
وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} (4) ، ولم يقل سبحانه: تخالفون فيه.
وابن نوح عليه السلام خالف نوحا لما قال له فيما يحكيه تعالى عنه إذ قال لابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} (5) {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي} (6) ، فكان مخالفا.
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) سورة النحل الآية 64
(3) سورة البقرة الآية 213
(4) سورة الزخرف الآية 63
(5) سورة هود الآية 42
(6) سورة هود الآية 43(47/202)
أما سليمان وداود عليهما السلام في قضية الحرث، فكان ما بينهما اختلافا وليس مخالفة، قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (1) .
ومن نتيجة هذا الفرق بين الخلاف والمخالفة نجزم - بما لا يدع مجالا للشك - بأن الأئمة في مناهجهم العلمية وأساليب عرضهم لن يخالفوا نصا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اقتداء منهم بسيرة الخلفاء الراشدين والصحابة أجمعين.
وهم بهذا لم يختلفوا ليخالف بعضهم بعضا، أو يخطئ بعضهم بعضا، إنما اختلفوا في سبيل الوصول إلى الحق، وتحقيق مقاصد الشرع بما يتوصلون إليه من فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخاصة في مواطن الاحتمال ومسائل الاجتهاد والاستدلال (2) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وليعلم أنه ليس لأحد من الأئمة المقبولين عند الأمة - قبولا عاما - يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق أو جليل، فإنهم متفقون اتفاقا يقينا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم) (3)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 79
(2) انظر موقف الأمة من اختلاف الأئمة، للشيخ عطية سالم ص 16.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 232.(47/203)
الفصل الثالث: أسباب الخلاف وبعض الأمثلة لذلك:
أوضحنا آنفا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بأن الأئمة المقبولين عند الأمة لا يمكن لهم مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سننه، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه فلا بد له من عذر في تركه.
وذكر رحمه الله أن الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
الثاني: عدم اعتقاده إيراد تلك المسألة بذلك القول.
الثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وفرع رحمه الله هذه الأسباب إلى أسباب عدة:
السبب الأول: أن لا يكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالما بموجبه، بل اكتفى بظاهر آية أو حديث آخر، أو بموجب قياس، أو موجب استصحاب.
ومن الأمثلة على ذلك خفاء الحكم على أبي بكر في ميراث الجدة، وعلى عمر رضي الله عنه في سنة الاستئذان. وخفاء الحكم إذا نزل الطاعون ببلد (1) .
__________
(1) أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فتح الباري 10 \ 179.(47/204)
ولا يقولن قائل: الأحاديث قد دونت وجمعت، فخفاؤها والحال هذه بعيد؛ لأن هذه الدواوين المشهورة في السنن إنما جمعت بعد انقراض الأئمة المتبوعين، ومع هذا فلا يجوز أن يدعى انحصار حديث رسول صلى الله عليه وسلم في دواوين معينة، ثم لو فرض انحصار حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس كل ما في الكتب يعلمه العالم، ولا يكاد ذلك يحصل لأحد، بل قد يكون عند الرجل الدواوين الكثيرة وهو لا يحيط بما فيها، بل الذين كانوا قبل جمع هذه الدواوين أعلم بالسنة من المتأخرين بكثير؛ لأن كثيرا مما بلغهم وصح عندهم قد لا يبلغنا إلا عن مجهول، أو بإسناد منقطع، أو لا يبلغنا بالكلية، فكانت دواوينهم صدورهم التي تحوي أضعاف ما في الدواوين، وهذا أمر لا يشك فيه من علم القضية.
السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده؛ إما لأن محدثه أو محدث محدثه أو غيره من رجال الإسناد مجهولون عنده، أو متهمون أو سيئو الحفظ، وإما لأنه لم يبلغه مسندا بل منقطعا.
وقد يروى عند غيره بإسناد ثقات متصل مع معرفة المجهول عنده، أو قد يكون رواه غير أولئك المجروحين عنده، وقد يكون لفظ الحديث غير مضبوط عنده وعند غيره مضبوطا.
والخلاصة: أن الأحاديث قد تبلغ كثيرا من العلماء من طرق ضعيفة، وقد بلغت غيرهم من طرق صحيحة غير تلك الطرق(47/205)
فتكون حجة من هذا الوجه.
السبب الثالث: اعتقاد ضعف الحديث باجتهاد قد خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر، سواء كان الصواب معه أو مع غيره أو معهما عند من يقول: كل مجتهد مصيب؛ وذلك لما يلي:
1 - أن يعتقد أحدهما ضعف المحدث، والآخر يوثقه؛ لأن معرفة الرجال علم واسع، ثم إنه قد يكون الصواب مع من يعتقد ضعفه، لاطلاعه على سبب جارح، وقد يكون الصواب مع الآخر لمعرفة أن ذلك السبب غير جارح، وهذا النوع بابه واسع ورد فيه الاختلاف بين العلماء مثل سائر العلوم.
2 - أن لا يعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حدث عنه وغيره يعتقد أنه سمعه.
3 - أن يكون للمحدث حالان: حال استقامة، وحال اضطراب، مثل أن يختلط أو تحترق كتبه، فأحاديثه في الحال الأولى صحيحة، وفي الحال الثانية ضعيفة، فلا يدرى ذلك الحديث من أي النوعين؟ وقد علم غيره أنه مما حدث به في حال الاستقامة.
4 - أن يكون المحدث قد نسي ذلك الحديث فلم يذكره فيما بعد، أو أنكر أن يكون حدثه، معتقدا أن هذا علة توجب ترك الحديث، ويرى غيره أن هذا مما يصح الاستدلال به.
5 - أن كثيرا من الحجازيين يرون عدم الاحتجاج بحديث أي(47/206)
عراقي أو شامي إن لم يكن له أصل بالحجاز؛ لأن أهل الحجاز ضبطوا السنة فلم يشذ عنهم منها شيء، وأن أحاديث العراقيين قد وقع فيها اضطراب أوجب التوقف فيها.
السبب الرابع: اشترطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطا يخالفه فيها غيره، مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة، واشترط بعضهم أن يكون المحدث فقيها إذا خالف في الحكم قواعد القياس، واشترط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان فيما تعم به البلوى.
السبب الخامس: أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه، وهذا يرد في الكتاب والسنة، ومثل هذا ما فعله عمر حينما أمر الناس بتحديد المهور، فردت عليه امرأة بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} (1) ، فرجع عمر إلى قولها، لنسيانه للآية (2) .
السبب السادس: عدم معرفته بدلالة الحديث: إما لكون اللفظ الذي في الحديث غريبا عنده مثل لفظ: إغلاق في حديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا طلاق ولا عتاق في إغلاق (3) »
__________
(1) سورة النساء الآية 20
(2) الحديث أخرجه سعيد بن منصور في سننه ج 1 ص 195، وعبد الرزاق في مصنفه، ج 6 ص 18.
(3) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، نيل الأوطار ج 6 ص 264. انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 332 فما بعدها بتصرف.(47/207)
فعلماء الغريب فسروه: بالإكراه، وقيل: الجنون، وقيل: الغضب، وقيل: التضييق.
فبعض العلماء قال: لا يصح طلاق المكره. وقال بعضهم: بوقوعه، والاختلاف في ذلك لاحتمال اللفظ أكثر من معنى (1) .
وإما لكون معناه في لغته وعرفه غير معناه في لغة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يحمله على ما يفهمه في لغته، بناء على أن الأصل بقاء اللغة.
ولقد سمع بعضهم آثارا في الرخصة في النبيذ (2) ، فظنوه بعض أنواع المسكر؛ لأنه لغتهم، وإنما هو ما ينبذ لتحلية الماء قبل أن يشتد، فإنه جاء مفسرا في أحاديث كثيرة صحيحة (3) .
وإما لكون اللفظ مشتركا أو مجملا أو مترددا بين حقيقة ومجاز، فيحمله على الأقرب عنده، وإن كان المراد هو الآخر (4) ، كلفظ القرء يطلق عند العرب ويراد به الحيض، ويطلق ويراد به الطهر، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر (5) .
وإما لكون الدلالة من النص خفية، فإن جهات دلالات الأقوال متسعة جدا، يتفاوت الناس في إدراكها، وفهم وجوه
__________
(1) انظر المنهاج في ترتيب الحجاج ص 95، ونيل الأوطار 6 \ 265.
(2) انظر الأحاديث الواردة في ذلك في نيل الأوطار 8 \ 212.
(3) انظر الأحاديث الواردة في ذلك في نيل الأوطار 8 \ 215، 211.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية 20 \ 244.
(5) انظر بداية المجتهد 2 \ 89، وانظر لسان العرب، مادة قرأ.(47/208)
الكلام، ثم قد يعرفها الرجل من حيث العموم ولا يتفطن؛ لكون هذا المعنى داخلا في ذلك العام، ثم قد يتفطن له ثم ينساه، ثم إن الرجل قد يغلط فيفهم من الكلام ما لا تحتمله اللغة العربية.
السبب السابع: اعتقاده أن الأدلة في الحديث يصح الاستدلال بها لمعارضة تلك الدلالة للأصول المعتبرة عنده، سواء كانت في نفس الأمر صوابا أو خطأ، مثل أن يعتقد أن العام المخصوص ليس بحجة، وأن المفهوم ليس بحجة، أو أن الأمر المجرد لا يقتضي الوجوب أو لا يقتضي الفور، أو أن المعرف باللام لا عموم له.
السبب الثامن: اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة مثل معارضته العام بالخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، أو الحقيقة بما يدل على المجاز.
وهذا باب واسع فإن تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم.
السبب التاسع: اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه، أو تأويله إن كان قابلا للتأويل بما يصلح أن يكون معارضا بالاتفاق.
وبعض العلماء يرى تمسكه بالقول؛ لعدم علمه بالمخالف، مع أن ظاهر الأدلة يقتضي خلافه، لكن لا يمكن للعالم أن يبتدئ قولا لم يعلم به قائلا مع علمه أن الناس قد قالوا خلافه، مثل أن(47/209)
يقول: لا أعلم أحدا أجاز شهادة العبد، وقبولها محفوظ عن علي وأنس وشريح وغيرهم، وبقولهم: لا أعلم أحدا أوجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وإيجابها محفوظ عن أبي جعفر الباقر.
السبب العاشر: معارضته بما يدل على ضعفه، أو نسخه، أو تأويله، مما لا يعتقده غيره، أو أن جنسه معارض، وقد لا يكون في الحقيقة معارضا راجحا كمعارضة كثير من الكوفيين الحديث الصحيح بظاهر القرآن، واعتقادهم أن ظاهر القرآن من العموم ونحوه مقدم على نص الحديث، لهذا ردوا حديث الشاهد واليمين (1) ، وإن كان غيرهم يعلم أن ليس في ظاهر القرآن ما يمنع الحكم بشاهد ويمين.
ومن ذلك دفع الخبر الذي فيه تخصيص لعموم الكتاب، أو تقييد لمطلقه، أو فيه زيادة عليه، وكمعارضة طائفة من المدنيين الحديث الصحيح بعمل أهل المدينة على اعتبار أن إجماعهم حجة مقدمة على الخبر، كمخالفة أحاديث خيار المجلس بناء على هذا الأصل (2) .
قال أحمد بن حنبل: (بلغ ابن أبي ذئب أن مالكا لم يأخذ بحديث: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (3) » فقال: (يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه) .
__________
(1) انظر الأحاديث الواردة في ذلك في نيل الأوطار 8 \ 318.
(2) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 245 فما بعدها بتصرف، وانظر فتح الباري ج4 ص 330.
(3) انظر الأحاديث الواردة في ذلك في نيل الأوطار ج 5 ص 208،(47/210)
ثم قال أحمد: (هو أورع وأقول بالحق من مالك) .
قال الذهبي: (لو كان ورعا كما ينبغي لما قال هذا الكلام القبيح في حق إمام عظيم، فمالك لم يعمل بظاهر الحديث؛ لأنه رآه منسوخا.
وقيل: عمل به وحمل قوله: «حتى يتفرقا (1) » على التلفظ بالإيجاب والقبول، فمالك في هذا الحديث، وفي كل حديث، له أجر ولا بد، فإن أصاب، ازداد أجرا آخر، وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية وبكل حال فكلام الأقران بعضهم في بعض لا يعول على كثير منه، فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه، ولا ضعف العلماء ابن أبي ذئب بمقالته هذه، بل هما عالما المدينة في زمانهما رضي الله عنهما، ولم يسندها الإمام أحمد فلعلها لم تصح) (2) .
يقول ابن تيمية: (وفي كثير من الأحاديث يجوز أن يكون للعالم حجة في ترك العمل بالحديث لم نطلع نحن عليها، فإن مدارك العلم واسعة، ولم نطلع نحن على جميع ما في بواطن العلماء، والعالم قد يبدي حجته وقد لا يبديها، وإذا أبداها فقد تبلغنا وقد لا تبلغ، وإذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه وقد لا ندركه، سواء كانت الحجة صوابا في نفس الأمر أم لا، لكن نحن
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2079) ، صحيح مسلم البيوع (1532) ، سنن الترمذي البيوع (1246) ، سنن النسائي البيوع (4464) ، سنن أبو داود البيوع (3459) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2547) .
(2) انظر سير أعلام النبلاء ج 7 ص 142، والقصة واردة في طبقات الحنابلة ج 1 ص 251، وتاريخ بغداد 2 \ 302.(47/211)
وإن جوزنا هذا فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة من أهل العلم، إلى قول آخر قاله عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجة، وإن كان أعلم، إذ تطرق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية، فإن الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عباده بخلاف رأي العالم.
والدليل الشرعي يمتنع عن أن يكون خطأ إذا لم يعارضه دليل آخر، ورأي العالم ليس كذلك، ولو كان العمل بهذا التجويز جائزا لما بقي في أيدينا شيء من الأدلة التي يجوز فيها مثل هذا، لكن الغرض أنه في نفسه قد يكون معذورا في تركه له، ونحن معذورون في تركنا لهذا الترك (1) .
وفي ضوء ما تقرر من أسباب الخلاف فإن العلماء معذورون في تفاوت استنباطهم للأحكام، فلكل إمام عذره، فإن اجتهد فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر، وفضل الله واسع، ومن استحق الأجر فلا يصح التشنيع عليه وتجهيله، فحسبه إخلاص قصده وحسن سريرته.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، 20 \ 250.(47/212)
الفصل الرابع: في كلام الأئمة في ترك قولهم اتباعا للحق:
الصحابة بعضهم لبعض أكفاء في موارد النزاع، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان(47/212)
بعضهم قد يكون أعلم في مواضع أخر.
وقد ترك الناس قول عمر وابن مسعود في مسألة تيمم الجنب، وأخذوا بقول من هو دونهما كأبي موسى الأشعري وغيره لما احتج بالكتاب والسنة (1) .
وتركوا قول عمر في دية الأصابع، وأخذوا بقول معاوية؛ لما كان معه من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هذه وهذه سواء. . . (2) »
وقد كان بعض الناس يناظر ابن عباس في المتعة (3) ، فقال له: قال أبو بكر وعمر، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقولون قال أبو بكر وعمر؟
وكذلك ابن عمر لما سألوه عنها فأمر بها فعارضوه بقول عمر، فبين لهم أن عمر لم يرد ما يقولونه فألحوا عليه، فقال لهم: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع أم أمر عمر؟ مع علم الناس أن أبا بكر وعمر أعلم ممن هو فوق ابن عمر وابن عباس (4) .
والأئمة كذلك أكفاء في موارد النزاع، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) من حديث أخرجه البخاري، فتح الباري ج 1 ص 456، 443.
(2) القول عن عمر أخرجه ابن أبي شيبة من رواية سعيد بن المسيب، والحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم عند البخاري، فتح الباري ج 12 ص 225، 226
(3) أي متعة الحج.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 215.(47/213)
قال أبو حنيفة: (هذا رأيي وهذا أحسن ما رأيت، فمن جاء برأي خير منه قبلناه) (1) .
روى الخطيب البغدادي بمسنده عن الحسن بن زياد اللؤلئي قال: سمعت أبا حنيفة يقول: (قولنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا) (2) .
ومالك يقول: (إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة) (3) ، وقد اشتهر عنه أنه كان لا يتعجل بالفتيا.
سأل رجل مالكا عن مسألة - وذكر أنه أرسل فيه من مسيرة ستة أشهر من المغرب - فقال له: أخبر الذي أرسلك أنه لا علم لي بها، قال: ومن يعلمها؟ قال: من علمه الله.
وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب، فقال: ما أدري ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا، ولا سمعنا أحدا من أشياخنا تكلم فيها، ولكن تعود. فلما كان من الغد جاء وقد حمل ثقله على بغله يقوده، فقال: مسألتي؟ فقال: ما أدري ما هي؟ فقال الرجل: يا أبا عبد الله، تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك، فقال مالك غير مستوحش: إذا
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 211.
(2) انظر تاريخ بغداد، ج 13 ص 352.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 211.(47/214)
رجعت فأخبرهم أني لا أحسن.
وسأله آخر فلم يجبه، فقال له: يا أبا عبد الله أجبني. فقال: ويحك تريد أن تجعلني حجة بينك وبين الله فأحتاج أنا أولا أن أنظر كيف خلاصي ثم أخلصك.
وسئل من العراق عن أربعين مسألة، فما أجاب منها إلا في خمس (1) .
والشافعي يقول: (إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط، وإذا رأيت الحجة موضوعة على الطريق فهي قولي) (2) .
وروي عنه أنه قال: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا قولي) (3) .
وقال: (إذا صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقلت أنا قولا فأنا راجع عن قولي، وقائل بذلك الحديث) .
وقال: (إذا رويت حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أذهب إليه فاعلموا أن عقلي قد ذهب) (4) .
وقال: (أما أن نخالف حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتا عنه فأرجو أن لا يؤخذ ذلك علينا إن شاء الله) (5) .
__________
(1) انظر الموافقات للشاطبي، ج 4 ص 286- 288، وترتيب المدارك ج 1 ص 145 فما بعدها.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 211، والمجموع، ج 1 ص 108، وإعلام الموقعين 4 \ 233.
(3) المجموع، ج 1 ص 108، وإعلام الموقعين ج 4 ص 233.
(4) انظر إعلام الموقعين، ج 4 ص 233.
(5) انظر الرسالة، مسألة رقم 598 ص 219.(47/215)
والإمام أحمد كان يقول: (لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري، وتعلموا كما تعلمنا) .
وقال: (لا تقلد دينك الرجال فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا) .
وقال: (من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال) (1) .
وقال: (وأن يجعل قول كل أحد وفعله أبدا تبعا لكتاب الله وسنة رسوله) (2) .
قال أبو داود: (قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فخذ به، ثم التابعي بعد، الرجل فيه مخير) (3) .
وعن الحكم بن عتيبة قال: (ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم) .
وروي عن مجاهد مثله (4) .
يقول ابن تيمية: (وليس لأحد أن يخرج عن شيء مما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الشرع الذي يجب على ولاة الأمر إلزام
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 211، 212، 226، وإعلام الموقعين ج 2 ص 201.
(2) الرسالة، مسألة رقم 539 ص 198.
(3) إعلام الموقعين، ج 2 ص 200.
(4) جامع بيان العلم وفضله، ص 359.(47/216)
الناس به، ويجب على المجاهدين الجهاد عليه، ويجب على كل واحد اتباعه ونصره) (1) .
(ولا يجب على عالم أن يقلد عالما من علماء المسلمين، أو أن يقلد حاكما لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به ورسوله، بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء، بل له أن يستفتي من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكما، ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله، واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدا كافرا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة) (2) .
يقول ابن القيم: (. . . وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم، ولا يجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بأحد من الأئمة الأربعة بإجماع الأمة، كما لا يجب على العالم أن يتقيد بحديث أهل بلده، أو غيره من البلاد، بل إذا صح الحديث وجب عليه العمل به حجازيا كان، أو عراقيا، أو شاميا، أو مصريا، أو يمنيا) (3) .
أما انتقال الإنسان من قول إلى قول؛ لأجل ما تبين له من الحق فهو محمود فيه، بخلاف إصراره على قول لا حجة معه عليه، وترك القول الذي وضحت حجته (4) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 372.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 372.
(3) إعلام الموقعين، ج 4 ص 263.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 213، 214.(47/217)
هؤلاء هم أعلام الأمة بعد علماء القرن الأول، رأوا الحق فيما ظهر لهم فاتبعوه وقالوا به، ولاحتمال كون الحق مع غيرهم لم يلزموا الناس بأخذ أقوالهم، ولم يجعلوا قولهم حجة، بل الحجة في اتباع الدليل الصحيح الموجب لترك أقوالهم إن خالفته.
لقد زهدوا في أقوالهم للحق، واتسمت صدورهم لقبوله، ورغبوا في خلاص أنفسهم من آثار الفتوى قبل أن يفتوا الناس بما لم يعلموا صحته أو لم يظهر لهم الحق فيه.(47/218)
الفصل الخامس: مخالفة التلاميذ لأئمتهم اتباعا للحق:
حينما يقلد هؤلاء الأئمة إنما يقلدون اتباعا للحق، وحينما يظهر خلافه فسرعان ما نجد تلامذتهم يتبعون الحق.
وأورد مثالا لذلك: المناظرة التي جرت بين الإمام مالك بن أنس مع أبي يوسف صاحب أبي حنيفة؛ لما سأله عن الصاع والمد، فأمر مالك أهل المدينة بإحضار صيعانهم، وذكروا له أن إسنادها عن أسلافهم، فقال مالك لأبي يوسف: أترى هؤلاء يكذبون؟ قال: لا والله ما يكذبون، قال مالك: فأنا حررت هذه الصيعان فوجدتها خمسة أرطال وثلثا بأرطالكم يا أهل العراق، فقال أبو يوسف: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.
وسأله عن الخضراوات، فقال: هذه مباقيل أهل(47/218)
المدينة (1) لم يؤخذ منها صدقة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر ولا عمر رضي الله عنهما، يعني وهي تنبت فيها الخضراوات.
وسأله عن الأحباس فقال: هذا حبس فلان وهذا حبس فلان يذكر لبيان الصحابة، فقال أبو يوسف: في كل منهما قد رجعت يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت.
وأبو يوسف ومحمد وافقا بقية الفقهاء، في أنه ليس في الخضراوات صدقة؛ كمذهب مالك، والشافعي، وأحمد، وفي أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة كمذهب هؤلاء، وأن الوقف عنده لازم كمذهب هؤلاء (2) وقد اشتهر عن الإمام زفر مخالفة أئمة المذهب الحنفي في بعض المسائل (3) .
وأصحاب الإمام الشافعي خالفوه في مسألة التثويب، واشتراط التحليل من الإحرام بعذر المرض وغيرها.
وممن حكي عنه أنه أفتى بالحديث وخالف الشافعي أبو يعقوب البويطى، وأبو القاسم الداركي.
نص عليه أبو الحسن الكيا الطبري في كتابه: " أصول الفقه "، وممن أثر عنهم اتباع الحديث ومخالفة المذهب أبو بكر
__________
(1) أي مزارع أهل المدينة التي تنبت البقل، انظر لسان العرب، مادة بقل.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 306، وانظر ترتيب المدارك، 1 \ 224.
(3) انظر الإمام زفر بن الهذيل، للدكتور عبد الستار حامد، ص 339 طبع سنة 1402 هـ ببغداد.(47/219)
البيهقي وآخرون، وكان جماعة من متقدمي الشافعية إذا رأوا مسألة فيها حديث، ومذهب الشافعي خلافه عملوا بالحديث، وأفتوا به قائلين: مذهب الشافعي ما وافق الحديث (1) .
لقد تعلم هؤلاء التلاميذ في مدارس العلماء الكبار، وعلم الله قصد سرائرهم، وصدق توجههم، فجعل لهم القبول.
لقد تعلم التلاميذ على يديهم، وأخذوا منهم العلم الحق الذي يقصدون به وجه الله، ولقد كانوا قدوة صالحة في كيفية اتباع الحق أينما كان، وإن خالفوا في ذلك إمامهم، حتى قالوا: ولو رأى صاحبي ما رأيت لرجع كما رجعت عملا واتباعا للسنة.
__________
(1) المجموع للنووي، ج 1 ص 108.(47/220)
الباب الثاني
في حكم الإنكار في المسائل الخلافية
وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: في الإنكار على أهل الأهواء والبدع
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في الإنكار على أهل البدع:
البدعة في اللغة: مأخوذة من بدع الشيء يبدعه بدعا(47/220)
وابتدعه: أي أنشأه وبدأه، وفي كسر الباء تعني: الحدث وما ابتدع من الدين بعد الإكمال (1) .
والبدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعا تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم في حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثوابا فقال: «من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها (2) » ، وقال في ضده: «ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها (3) » ، وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم (4) .
وقال العلماء: البدعة خمسة أقسام: واجبة، ومندوبة، ومحرمة، ومكروهة، ومباحة.
فمن الواجبة: نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعة، والاشتغال بكتب النحو، وحفظ غريب الكتاب والسنة.
__________
(1) انظر لسان العرب، مادة بدع.
(2) الحديث أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، صحيح مسلم بشرح النووي ج 16 ص 226، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، سنن ابن ماجه ج اص 74، وأخرجه أحمد في مسنده ج 4 ص 361، 362.
(3) الحديث أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله في كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، صحيح مسلم بشرح النووي ج 16 ص 226، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، سنن ابن ماجه ج اص 74، وأخرجه أحمد في مسنده ج 4 ص 361، 362.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، مادة بدع(47/221)
والبدعة المندوبة: تشمل تصنيف كتب العلم، وبناء المدارس، والربط في سبيل الله، وغير ذلك من الإحسان الذي لم يعهد في الصدر الأول.
والبدعة المحرمة: ما ذهب إليه القدرية والجبرية والمرجئة والمجسمة، والتوسل إلى الله بالأموات، وطلب الدعاء منهم، وكذا اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها، وإيقاد السرج والمصابيح عليها، ونذر الذبائح لها، وإنارتها، والطواف بها، واستلامها.
أما البدعة المكروهة: فكزخرفة المساجد، وتزويق المصاحف، والمصافحة باليد بعد السلام من الصلاة ونحو ذلك.
أما البدعة المباحة: فهي التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن.
وما نحن بصدده هنا فهي البدع المحرمة، سواء ما كان منها يؤدي إلى الكفر، كدعاء غير الله من الأنبياء والصالحين، والاستغاثة بهم، وطلب تفريج الكربات وقضاء الحاجات منهم، وهذه أعظم بدعة كيد بها للإسلام وأهله، أو ما يخشى على صاحبها من الوقوع في الكفر، كالتوسل إلى الله بجاه الأولياء والصالحين والتبرك بهم.
وكذلك البدع الأخرى التي لا تتنافى مع التوحيد لكنها من(47/222)
المحرمات، كالاجتماع على التكبير والتهليل والتسبيح ونحو ذلك، وكأن يخترع أذكارا وأدعية وعبادات وصلوات وصياما، واتخاذ السبحة أثناء التسبيح لغير حاجة، والاحتفال بليلة النصف من شعبان، وليلة المولد النبوي، وغير ذلك مما لم يرد في ثبوت التعبد فيه أي دليل شرعي معتبر الدلالة، فقد ورد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «. . . وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (1) » ، ففي هذا الحديث دلالة على أن البدع المخالفة للشرع من الضلالات التي يجب اجتنابها؛ إذ لا يصح إحداث عبادة في الدين لم يشرعها الله تعالى، ولم يأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم أو يفعلها مما هو شرع لأمته، ومن أحدث خلاف ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تأسوا بسنته فهو رد على صاحبه، فعن عائشة رضي لله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
قال أهل العربية: الرد هنا بمعنى المردود. ومعناه فهو باطل غير معتد به.
وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فإنه صريح في رد كل البدع والمخترعات.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الجمعة، باب خطبته صلى الله عليه وسلم في الجمعة، صحيح مسلم بشرح النووي ج 6 ص 153، وأخرجه أبو داود في كتاب السنة، باب في لزوم السنة، عون المعبود ج 12 ص 360.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، صحيح مسلم بشرح النووي ج 12 ص 16، وأخرجه أحمد في مسنده ج 6 ص 256.(47/223)
قال النووي: هذا الحديث مما ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكرات وإشاعة الاستدلال به (1) .
وقال الطرقي: هذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع؛ لأن الدليل يتركب من مقدمتين، والمطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديث مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي أو نفيه؛ لأن منطوقه مقدمة كلية في كل دليل ناف لحكم، مثل أن يقال في الوضوء بماء نجس: هذا ليس من أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو مردود، فهذا العمل مردود.
فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، وإنما يقع النزاع في الأولى.
ومفهومه أن من عمل عملا عليه أمر الشرع فهو صحيح، مثل أن يقال في الوضوء بالنية: هذا عليه أمر الشرع، وكل ما كان عليه أمر الشرع فهو صحيح.
فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث، والأولى فيها النزاع، فلو اتفق أن يوجد حديث يكون مقدمة أولى في إثبات كل حكم شرعي ونفيه لاستقل الحديثان بجميع أدلة الشرع، ولكن هذا الثاني لا يوجد، فإذن حديث: " من عمل عملا" نصف أدلة الشرع، والله أعلم (2) .
وفي ضوء ما سبق فإن الإنكار على المبتدعة يعد من الأمور
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 12 ص 16.
(2) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري، ج 5 ص 303.(47/224)
المشروعة، سواء أكانت البدعة في الأصول أم في الفروع ما دامت مخالفة لما ورد في الشرع، ولم يكن عليها عمل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قرر علماء الأمة وجوب الإنكار على المبتدعة في دين الله.
يقول السبكي: ولا شك في أن الاختلاف في الأصول ضلال وسبب كل فساد كما أشار القرآن إليه (1) .
ومن خالف في الأصول من غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعتد بمخالفته (2) ، وينبغي الإنكار عليه، كمن يعتقد أن رتبة الولاية أعظم من رتبة النبوة.
وصرح الغزالي بأن قتل مدعي ذلك أحب إليه من قتل مائة كافر؛ لأن ضرر هذا في الدين أعظم (3) .
وقال محمد بن إسماعيل الجعفي البخاري: نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت قوما أضل في كفرهم من الجهمية، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم.
وقال: ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي، أم صليت خلف اليهود والنصارى، وروي عن جماعة من السلف تكفير من قال بخلق القرآن؛ منهم مالك، وابن عيينة وابن
__________
(1) انظر فيض القدير، ج 1 ص 209.
(2) انظر بعض المسائل التي اختلف عليها بعض الصحابة في الأصول، مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 24، ص 172.
(3) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 4 ص 72 / 1، 173.(47/225)
المبارك، والليث بن سعد.
وناظر الشافعي حفص الفرد، وكان الشافعي - رضي الله عنه - يسميه حفص المنفرد، فقال حفص: القرآن مخلوق، فقال الشافعي: كفرت بالله العظيم.
وأجاز الشافعي شهادة أهل البدع، والصلاة خلفهم مع الكراهية على الإطلاق، فهذا القول منه دليل على أنه إن أطلق على بعضهم اسم الكفر في موضع أراد به كفرا دون كفر.
ومنهم من حمل قول من قال بالتكفير من السلف على مبتدع يأتي في بدعته ما يخرج به عن الإسلام، وكان أبو سليمان الخطابي لا يكفر أهل الأهواء الذين تأولوا فأخطئوا.
وقال الشيخ الإمام: وهذا الهجران، والتبري، والمعاداة، في أهل البدع المخالفين في الأصول (1) .
ونص الإمام أحمد رحمه الله على المنع من النظر في كتب أهل الكلام والبدع المضلة وقراءتها وروايتها.
وقال: أبو عبد الله في أهل الكلام: (لا تجالسهم ولا تكلم أحدا منهم) .
وقال: لا أحب لأحد أن يجالسهم، ولا يخالطهم، ولا يأنس بهم.
قال الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد،
__________
(1) شرح السنة للبغوي، ج 1 ص 227 - 230.(47/226)
ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام (1) .
روى أبو المظفر السمعاني في كتابه "الانتصار لأهل الحديث " (2) عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس من أمتي أهل البدع (3) »
قال ابن خويز منداد: أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم هو من أهل الأهواء والبدع أشعريا كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبدا، ويهجر ويؤدب على بدعته، فإن تمادى عليها أستتيب منها (4) .
صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه هجر كعب بن مالك وصاحبيه - رضي الله عنهم - (5) ، لما تخلفوا عن غزوة تبوك، وظهرت معصيتهم، وأمر - صلى الله عليه وسلم - بهجرهم حتى أمرهم باعتزال أزواجهم من غير طلاق خمسين ليلة، إلى أن نزلت توبتهم من السماء.
وكذلك أمر عمر - رضي الله عنه - المسلمين بهجر صبيغ بن عسل التميمي لما رآه من الذين يتبعون ما تشابه من الكتاب إلى أن مضى عليه حول، وتبين صدقه في التوبة، فأذن عمر للناس
__________
(1) انظر الآداب الشرعية، لابن مفلح ج 1 ص 199، 200.
(2) الكتاب مخطوط في طهران ولم يطبع بعد.
(3) انظر الآداب الشرعية، لابن مفلح ج 1 ص 201.
(4) انظر جامع بيان العلم وفضله، ص 366.
(5) أخرجه البخاري عن كعب بن مالك، فتح الباري ج 8 ص 113، والبغوي في شرح السنة، 1 \ 224.(47/227)
بمجالسته (1) .
فبهذا ونحوه رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع، الداعين إليها، والمظهرين للكبائر، فأما من كان مستترا بمعصية أو مسرا لبدعة غير مكفرة، فإن هذا لا يهجر، إنما يهجر الداعي إلى البدعة، إذ الهجر نوع من العقوبة، وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولا أو عملا، وأما من أظهر لنا خيرا فإنا نقبل علانيته ونكل سريرته إلى الله تعالى، فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله.
لهذا كان الإمام أحمد ومن كان قبله وبعده من الأئمة كمالك وغيره لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة، ولا يجالسونه بخلاف الساكت (2) .
هذا وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن افتراق هذه الأمة، وظهور أهل الأهواء والبدع فيهم، وحكم النجاة لمن اتبع سنته وسنة أصحابه -رضي الله عنهم -، فعلى المرء المسلم إذا رأى رجلا يتعاطى شيئا من الأهواء والبدع معتقدا، أو يتهاون بشيء من السنن أن يهجره، ويتبرأ منه، ويتركه حيا وميتا، فلا يسلم عليه إذا لقيه، ولا يجيبه إذا ابتدأ إلى أن يترك بدعته، ويراجع الحق.
والنهي عن الهجران فوق الثلاث فيما يقع بين الرجلين من
__________
(1) أخرجه الدارمي عن نافع، سنن الدارمي ج 11 ص 55.
(2) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 24 ص 174، 175.(47/228)
التقصير في حقوق الصحبة والعشرة دون ما كان ذلك في حق الدين فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة إلى أن يتوبوا، بدليل هجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين تخلفوا حتى تابوا (1) لما خاف عليهم من النفاق.
قال ابن عمر في أهل القدر: أخبرهم أني بريء منهم، وأنهم مني براء (2) .
وفي ضوء ما سبق فإن الإنكار على أهل البدع يكون واجبا على من قدر عليه.
المطلب الثاني: في الإنكار على من يخالف لهوى في نفسه أو إرضاء لغيره:
الخلاف الناشئ عن هوى مضل ليرضي غيره، أو ليحمد من الناس، وينال الغلبة على أقرانه عند الحكام، أو الظهور بمظهر العالم المستوعب للحياة ومشكلاتها عند وسائل الإعلام لا عن تحري قصد الشارع والالتفات إلى الأمر والنهي، أو التخيير فهو خلاف باطل إطلاقا؛ لأن العمل لا بد له من حامل يحمل عليه، وداع يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية الشارع مدخل فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك فهو باطل إطلاقا.
روى الإمام مالك في الموطأ (3) عن عبد الله بن مسعود
__________
(1) انظر شرح السنة للبغوي، ج 1 ص 224.
(2) انظر شرح السنة للبغوي، ج 1 ص 227، 228.
(3) انفرد به الإمام مالك، ورواه في جامع الصلاة رقم 418 عن يحيى بن سعيد وهو منقطع.(47/229)
- رضي الله عنه -: إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تحفظ فيه حدود القرآن، وتضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون فيه الصلاة، ويقصرون فيه الخطبة، يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تحفظ فيه حروف القرآن، وتضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة، ويقصرون الصلاة، يبدءون فيه أهواءهم قبل أعمالهم (1) .
حكى الخطابي في مسألة شراب البتع (2) عن بعض الناس "أنه قال: إن الناس لما اختلفوا في الأشربة وأجمعوا على تحريم العنب واختلفوا فيما سواه حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه.
وقال: وهذا خطأ فاحش، وقد أمر الله المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله.
وقال: ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة؛ لأن الأمة قد اختلفت فيها.
قال: وليس الاختلاف حجة، وبيان السنة حجة على المختلفين من الأولين والآخرين.
قال الشاطبي: والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه، أو يجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه، فهو قد أخذ
__________
(1) انظر الموافقات، ج 2 ص 173.
(2) ورد حديث في البتع عند البخاري ومسلم، انظر جامع العلوم والحكم، ص 366.(47/230)
القول وسيلة إلى اتباع هواه، لا وسيلة إلى تقواه، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه.
ومن هذا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال وعدم التحجر على رأي واحد. . . وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل، أو الراجح عند أهل النظر والذي عليه أكثر المسلمين. ويقول له: لقد حجرت واسعا، وملت بالناس إلى الحرج، وما في الدين من حرج، وما أشبه ذلك. وهذا القول خطأ كله وجهل بما وضعت له الشريعة (1) .
والخلاف على هذا النحو يؤدي إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها.
وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع للهوى وفي ذلك مخالفة للشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء. فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع. ولذلك سميت البدع ضلالات.
وجاء أن كل بدعة ضلالة؛ لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب، ودخول الأهواء في الأعمال خفي، فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع. وما ذكر منها في كتب الفقهاء إنما للرد عليها وبيان فسادها مثلما فعلوا مع
__________
(1) الموافقات، ج 4 ص 141، 142.(47/231)
أقوال اليهود والنصارى (1) .
ولا يجوز للمفتي أن يتساهل في الفتوى، ومن عرف بذلك لم يجز أن يستفتى. وكذلك الحاكم ولا فرق بين المفتي والحاكم إلا أن المفتي مخبر، والحاكم ملزم، والتساهل قد يكون بأن لا يتثبت ويسرع بالفتوى أو الحكم قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة، والإبطاء عجز ومنقصة، وذلك جهل، فلأن يبطئ ولا يخطئ أجمل به من أن يعجل فيضل ويضل.
وقد يكون تساهله وانحلاله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو المكروهة. والتمسك بالشبه طلبا للترخص على من يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره.
قال ابن الصلاح: ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه (2) .
وقال القرافي: لا ينبغي للمفتي إذا كان في المسألة قولان أحدهما فيه تشدد والآخر فيه تخفيف أن يفتي العامة بالتشديد والخواص من ولاة الأمور بالتخفيف، وذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين، وذلك دليل فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق (3) .
__________
(1) الموافقات، ج 4 ص 222.
(2) تبصرة الحكام، ج 1 ص 52.
(3) انظر تبصرة الحكام، ج 1 ص 52.(47/232)
ويشمل الذم من ينتقل من قول إلى قول لمجرد عادة أو اتباع هوى (1) .
ولا ينبغي أن يلتفت إلى قول من يقول بالتخيير بين الأقوال، فهي مقالة ضعيفة لا يعتد بها (2) ؛ لأن السماح الجاري بالحنيفية السمحة مقيد بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها.
إن تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى (3) ، قال تعالى: {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (4) ، وقال سبحانه وتعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (5) ، وقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (6) إلى غير ذلك من الآيات الذامة لاتباع الهوى.
قال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله (7) .
__________
(1) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية ج 20 ص 214.
(2) تبصرة الحكام ج 1 ص 48.
(3) انظر المرافقات ج 4 ص 145.
(4) سورة النساء الآية 135
(5) سورة ص الآية 26
(6) سورة الكهف الآية 28
(7) انظر الأحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، ج 6 ص 317، وجامع بيان العلم وفضله، ص 360.(47/233)
وقال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج عن الإسلام (1) .
وذكر ابن عبد البر إجماع العلماء على عدم حل تتبع الرخص، ويفسق المتتبع عند الإمام أحمد (2) .
واتباع الدليلين من غير ترجيح أدى إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال، اتباعا لغرضه وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق (3) .
وقد نص الإمام أحمد - رحمه الله - على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا وحراما ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه، كأن يكون طالبا لشفعة الجوار فيعتقد أنها حق له ثم إذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقد أنها ليست ثابتة، أو مثل من يعتقد إذا كان أخا مع جد أن الإخوة تقاسم الجد، فإذا صار جدا مع أخ اعتقد أن الجد لا يقاسم الإخوة.
وإذا كان له عدو يفعل بعض الأمور المختلف فيها، كشرب النبيذ المختلف فيه، ولعب الشطرنج، وحضور السماع، رأى
__________
(1) انظر سير أعلام النبلاء، ج 7 ص 125.
(2) انظر جامع بيان العلم وفضله، ص 360، والإنصاف، ج 11 ص 196.
(3) انظر الموافقات، ج 4 ص 135.(47/234)
هجره والإنكار عليه. أما إذا فعل ذلك صديقه فيرى أن ذلك من مسائل الاجتهاد التي لا تنكر.
ومن اعتقد حل الشيء، وحرمته، ووجوبه، وسقوطه، بحسب هواه. فهو مذموم مجروح خارج عن العدالة (1) .
وليس للمقلد أن يتخير في الخلاف، كما إذا اختلف المجتهدون على قولين فيختار أتبعهما لهواه؛ لأنه لو جاز تحكيم التشهي والمصالح الشخصية في مثل هذا لجاز للحاكم، وهو باطل بالإجماع (2) .
والعلماء - عليهم رحمة الله - يرون أن اتباع الهوى في الحكم والفتيا حرام بالإجماع (3) .
وفي ضوء ما تقرر فإن من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فإنه يعامل بما يعامل به أهل البدع (4) ؛ من وجوب الإنكار عليهم، وهجرهم، وتأديبهم بما يكفل زجرهم، وتبصيرهم بسوء ما يقولون به أو يفعلون.
__________
(1) انظر الآداب الشرعية، لابن مفلح، ج 1 ص 163.
(2) انظر الموافقات، ج 4 ص 133.
(3) انظر تبصرة الحكام، ج 1 ص 53.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 214.(47/235)
الفصل الثاني: في الإنكار على من يأخذ بالقول المرجوح أو الضعيف:
وما ضعف فيه الخلاف لا يحل أن يقال به في الأحكام الشرعية ولا يحل للمقلد أن يعمل به.
وقد ذم شيخ الإسلام ابن تيمية المنحرفين عن منهج الأئمة، وذكر من انحرافهم أن يكون عن الإمام في المسألة اختلاف فيتمسكوا بالقول المرجوح أو أنهم يحملون قولا له ليوافق شبهتهم (1) .
ومثل لذلك بتنازع العلماء في ولد الزنا هل يعتق بالملك؟ على قولين للعلماء في مذهب أبي حنيفة وأحمد. . . .
ومثل هذه المسألة الضعيفة ليس لأحد أن يحكيها عن إمام من أئمة المسلمين: لا على وجه القدح فيه، ولا على وجه المتابعة له فيها، فإن ذلك ضرب من الطعن في الأئمة واتباع الأقوال الضعيفة، وبمثل ذلك صار وزير التتر يلقي الفتنة بين مذاهب أهل السنة حتى يدعوهم إلى الخروج عن السنة والجماعة، ويوقعهم في مذاهب الرافضة وأهل الإلحاد (2) .
والأخذ بالقول الضعيف في بعض المسائل يؤدي إلى ارتكاب محظور فمثلا ربا النقد الخلاف فيه ضعيف، وهو ذريعة
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 185.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 32 ص 137.(47/236)
إلى ربا النساء المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة فإنه ذريعة إلى الزنا. وذكر عن إسحاق بن شاقلا أنه ذكر أن المتعة هي الزنا صراحة.
وعن ابن بطة قال: لا يفسخ نكاح حكم به قاض إن كان قد تأول فيه تأويلا، إلا أن يكون قضى لرجل بعقد متعة، أو طلق ثلاثا في لفظ واحد وحكم بالمراجعة من غير زوج، فحكمه مردود وعلى فاعله العقوبة والنكال.
والمنصوص عن أحمد الإنكار على اللاعب بالشطرنج.
وتأوله القاضي على من لعب بها بغير اجتهاد أو تقليد سائغ، وفيه نظر فإن النصوص عنه أنه لم يحد شارب النبيذ المختلف فيه، وإقامة الحد أبلغ مراتب الإنكار مع أنه لا يفسق عنده بذلك، فدل على أنه ينكر كل مختلف فيه ضعف الخلاف فيه لدلالة السنة على تحريمه، ولا يخرج فاعله المتأول من العدالة بذلك.
وكذلك نص أحمد على الإنكار على من لا يتم صلاته ولا يقيم صلبه من الركوع والسجود مع وجود الاختلاف في وجوب ذلك (1) .
وفي ضوء ما سبق فإن من أخذ بقول ضعيف في أي مسألة من المسائل المتعلقة بالأحكام الشرعية فإنه يجب الإنكار عليه بالطريقة التي تناسب حال الفعل وما تؤدي إلى تحقيق الغرض من الإنكار
__________
(1) انظر جامع العلوم والحكم، ص 284.(47/237)
الفصل الثالث: في الإنكار على من يأخذ بأخف القولين:
الأخذ بأخف القولين مسألة أصولية. وللعلماء فيها قولان: قيل يأخذ بأثقلهما وقيل بأخفهما.
واستدل من قال بالأخذ بالأخف. بالنص والمعقول؛ أما النص فقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) ، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر ولا ضرار (3) » ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة (4) » وكل ذلك ينافي الشرع الثقيل.
أما المعقول فإن الله تعالى كريم غني، والعبد محتاج فقير، وإذا وقع التعارض بين هذين الجانبين: كان التحامل على جانب الكريم الغني أولى منه على جانب المحتاج الفقير (5) .
وأجاب الشاطبي عن ذلك: أن السماح الوارد في الحنيفية السمحة جاء مقيدا بما هو جار على أصولها، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة الحج الآية 78
(3) أخرجه مالك مرسلا \ شرح الزرقاني 4 \ 3، وأحمد \ الفتح الرباني 15 \ 110، وابن ماجه عن عبادة بن الصامت، وفي الزوائد إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع \ سنن ابن ماجه 2 \ 874.
(4) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه، ج 7 ص 209.
(5) انظر المحصول في علم أصول الفقه، ج 2 ق 3 ص 214.
(6) انظر الموافقات، ج 4 ص 145.(47/238)
والقول بهذا مؤداه إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة، ولذلك سميت تكليفا من الكلفة وهي المشقة، فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل لزم ذلك في الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف وهذا محال (1) .
قلت: الأصل وجود دلالة للقولين، ومن ثم فاتباع أحدهما اتباع للدليل، فإن ترجح أحدهما وجب الأخذ به، وإن تساوى الأمران في الدلالة فكما يقول ابن القيم: (يعمل عند اختلاف الطريقين أو الطبيبين أو المشيرين (2) ، فإن كان مقلدا اتبع أفقههما وأورعهما) .
أما المجتهد فيقول القرافي: (إذا تعارضت الأدلة عند المجتهد أو تساوت وعجز عن الترجيح، هل يتساقطان، أو يختار واحدا منهم يفتي به؟ قولان للعلماء: فعلى القول الأول بأنه يختار أحدهما يفتي به له أن يختار أحدهما يحكم به مع أنه ليس أرجح عنده بطريق الأولى؛ لأن الفتيا شرع عام على المكلفين إلى قيام الساعة، والحكم يختص بالوقائع الجزئية، فإذا جاز الاختيار في الشراع العامة فأولى أن يجوز في الأمور الجزئية الخاصة، وهذا مقتضى الفقه والقواعد، وعلى هذا يتصور الحكم بالراجح وغير
__________
(1) انظر الموافقات ج 4 ص 149.
(2) انظر إعلام الموقعين، ج 4 ص 264.(47/239)
الراجح وليس اتباعا للهوى، بل ذلك بعد بذل الجهد والعجز عن الترجيح وحصول التساوي، وأما الفتيا والحكم بما هو مرجوح فخلاف الإجماع (1) .
ومن ثم فإن الاختيار الحاصل لا لكون أحدهما أخف إنما لتساوي الأدلة وعدم إمكانية ترجيح أحدهما على الآخر. ومن أخذ بذلك فلا إنك عليه.
وأما من اختار الأخف لهواه أو إرضاء لغيره فينكر عليه بخلاف من اختاره لمصالح شرعية معتبرة.
__________
(1) انظر تبصرة الحكام، ج 1 ص 53.(47/240)
الفصل الرابع: في الإنكار على المجتهدين أو على مقلديهم في الفروع.
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: في الإنكار على من اجتهد - أو قلد - وخالف نصا، أو إجماعا، أو قاعدة شرعية:
يجب الإنكار على من خالف ما هو مقطوع به في الشريعة (1) ، أو أطلق الحكم فيما ليس بمطلق أو عمم فيما هو خاص (2) أو أن يكون ظاهره الخلاف وليس في الحقيقة كذلك (3) ، أو أن يقول
__________
(1) انظر الموافقات للشاطبي، ج 4 ص 214.
(2) انظر الموافقات للشاطبي، ج 1 ص 80.
(3) انظر الموافقات للشاطبي، ج 4 ص 214.(47/240)
الإمام قولا ثم يرجع عنه في قول ثان بناء على تغير الاجتهاد والرجوع عما أفتى به إلى خلافه، فمثل هذا لا يصح أن يعتد به خلافا في المسألة؛ لأن رجوع الإمام عن القول الأول إلى القول الثاني إطراح منه للأول ونسخ له بالثاني (1) .
ويقول ابن تيمية: (نعم من خالف الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة، أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافا لا يعذر فيه فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع) (2) .
وقال ابن رجب: والمنكر الذي يجب عليه إنكاره ما كان مجمعا عليه (3) .
وقال ابن القيم: فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا شائعا وجب إنكاره اتفاقا (4) .
قال الشنقيطي: واعلم أنه لا يحكم على الأمر بأنه منكر إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع المسلمين (5) .
يقول الشاطبي: إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ولا الأخذ بها تقليدا له؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة
__________
(1) انظر الموافقات للشاطبي، ج 4 ص 217.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، 4 \ 172.
(3) انظر جامع العلوم والحكم، ص 284، انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج 2 ص 23.
(4) إعلام الموقعين، 3 \ 288.
(5) انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ج 2 ص 174.(47/241)
للشرع ولذلك عدت زلة، فلو كانت معتدا بها لما جعلت لها هذه الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها، كما لا ينبغي أن ينسب صاحبها إلى التقصير، ولا أن يشنع عليه بها، ولا ينتقص من أجلها، أو يعتقد فيه الإقدام على المخالفة بحتا، فإن هذا كله خلاف ما تقتضيه رتبته في الدين (1) .
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة. قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال. أخاف عليهم من زلة العالم، ومن حكم جائر، ومن هوى متبع (2) »
وعن عمر: ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة مضلون.
وعن أبي الدرداء: مما أخشى عليكم زلة العالم، أو جدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق وعلى القرآن منار كمنار الطريق.
وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كثيرا: إياكم وزيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة
__________
(1) الموافقات، ج 4 ص 170.
(2) رواه البزار، والطبراني عن طريق كثير بن عبد الله وهو واه، وقد حسنها الترمذي في مواضع فأنكر عليه، واحتج بها ابن خزيمة في صحيحه هامش الموافقات 4 \ 169.(47/242)
الضلالة. وقد يقول المنافق الحق فتلقوا الحق عمن جاء به، فإن على الحق نورا. قالوا: كيف زيغة الحكيم؟ قال: هي كلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه؟ فاحذروا زيغته ولا تصدنكم عنه، فإنه يوشك أن يفي، وأن يراجع الحق.
وقال ابن عباس: ويل للأتباع من عثرات العالم. قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه، ثم يجد من هو أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فيترك قوله ثم يمضي الأتباع (1) .
ويلحق بذلك من التزم مذهبا وخالفه بلا دليل ولا تقليد سائغ.
حكي عن الشيخ تقي الدين: أن من التزم مذهبا معينا وخالف ذلك من غير عذر شرعي يبيح له ما فعله فإنه يكون متبعا لهواه عاملا بغير اجتهاد ولا تقليد فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي وهذا منكر (2) .
قلت: وفي ضوء ما سبق فإن ما خالف - ولو باجتهاد أو تقليد - نصا أو إجماعا أو قاعدة شرعية فإنه يجب الإنكار عليه لمخالفته ما هو حق بغير مسوغ شرعي على أن يسبق الإنكار تبيان الخطأ بالأدلة الشرعية التي يجب قبولها.
يقول ابن تيمية: (وليس لأحد أن يحكم على عالم بإجماع المسلمين، بل يبين أنه قد أخطأ، فإن بين له بالأدلة الشرعية التي
__________
(1) الموافقات للشاطبي، ج4 ص 168، 169.
(2) انظر الآداب الشرعية، ج1 ص 163(47/243)
يجب قبولها أنه قد أخطأ وظهر خطؤه للناس ولم يرجع، بل أصر على إظهار ما يخالف الكتاب والسنة والدعاء إلى ذلك وجب أن يمنع من ذلك ويعاقب إن لم يمتنع، أما إذا لم يبين له ذلك بالأدلة الشرعية لم تجز عقوبته باتفاق المسلمين، ولا منعه من ذلك القول ولا الحكم عليه بأنه لا يقوله إذا كان يقول: إن هذا هو الذي دل عليه الكتاب والسنة، كما قاله فلان وفلان من علماء المسلمين، فهذا إذا اجتهد فأخطأ لم يحكم عليه إلا بالكتاب والسنة، والمنازع له يتكلم بلا علم) (1) .
المطلب الثاني: في الإنكار على من اجتهد أو قلد وأخذ بقول لم يخالف به دليلا أو قاعدة شرعية:
سبق إيضاح أن الإنكار واجب على أهل الأهواء والبدع، وأنه ينبغي الإنكار على من أخذ بقول مرجوح أو ضعيف، على أن يتم الإنكار بالطريقة التي تحقق الغرض، وأن لا إنكار على من اختار أحد قولين تساوت الأدلة عند المجتهد في تقرير حكمهما، وأن الإنكار واجب على من خالف نصا أو قاعدة شرعية. أما عدا تلك الحالات فما الحكم في الإنكار على القائل بأحد قولي مسألة خلافية، وقوله له اعتبار في الدلالة لكنه مرجوح في نظر المنكر راجح في نظر المنكر عليه، لهذا لا بد من الأخذ في الاعتبار أهمية احترام العلماء وإنزالهم منازلهم اللائقة بهم، وأن لا يجعل من المخالفة سببا في أذيتهم أو انتقاصهم، بل الواجب الحث
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص 382(47/244)
على إكرامهم وتعظيم حرماتهم. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (1) ، وقال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (2) ، وقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (3) ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (4) ، وثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله - عز وجل - قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب (5) » ، وروى الخطيب البغدادي عن الشافعي وأبي حنيفة - رضي الله عنهما - قالا: (إن لم يكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولي) وفي كلام الشافعي: (الفقهاء العاملون) .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (من آذى فقيها فقد آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن آذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد آذى الله عز وجل) .
وقال الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر - رحمه الله -: اعلم
__________
(1) سورة الحج الآية 32
(2) سورة الحج الآية 30
(3) سورة الحجر الآية 88
(4) سورة الأحزاب الآية 58
(5) أخرجه في كتاب الرقاق باب التواضع \ صحيح البخاري 7 \ 190، وأخرج أحمد نحوه في مسنده ج6 ص256.(47/245)
يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته، وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته، أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أسرار منتقصهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب، بلاه الله قبل موته بموت القلب، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) (2) .
ومن ثم فإن ما ورد من أقوالهم القائمة على دلالة شرعية معتبرة يجب احترامها واحترام القائل بها دون انتقاصه أو التقليل من شأنه. ومن هذا شأنه هل ينكر عليه؟ .
للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه لا ينكر عليه، وهو قول جمهور العلماء.
القول الثاني: أنه ينكر على المقلد دون المجتهد.
القول الثالث: أنه ينكر على كل من أخذ بقول مخالف.
ولإيضاح تلك الأقوال أورد فيما يلي نصوص العلماء في ذلك:
نص أصحاب القول الأول القائل بعدم الإنكار عليه:
(يقول النووي: أما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثير من
__________
(1) سورة النور الآية 63
(2) انظر المجموع ج1 ص46.(47/246)
المحققين أو أكثرهم (1) .
وروي أن أبا جعفر المنصور وهو بمكة قال لمالك: اجعل العلم يا أبا عبد الله علما واحدا. قال: فقلت له: (يا أمير المؤمنين إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في البلاد فأفتى كل في مصره بما رآه (2) .
وقال عمر بن عبد العزيز: ما يسرني أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة.
وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه.
ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه (3) .
يقول سفيان الثوري: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه (4) .
__________
(1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص23.
(2) انظر ترتيب المدارك، ج1 ص192.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 30 ص79، 80.
(4) انظر حلية الأولياء، ج6 ص368، والفقيه والمتفقه، ج2 ص69.(47/247)
وقال: ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحدا من إخواني أن يأخذ به (1) .
قال ابن رجب الحنبلي: فأما المختلف فيه فمن أصحابنا من قال: لا يجب إنكاره على من فعله مجتهدا أو مقلدا لمجتهد تقليدا سائغا (2) .
وقال مهنا: سمعت أحمد يقول: من أراد أن يشرب هذا النبيذ يتبع فيه شرب من شربه فليشربه لوحده (3) .
سئل ابن تيمية عمن يقلد بعض العلماء في مسائل الاجتهاد فهل ينكر عليه أم يهجر، وكذلك من يعمل بأحد القولين؟ فأجاب: الحمد لله. مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه، وإذا كان في المسألة قولان، فإن كان الإنسان يظهر له رجحان أحد القولين عمل به، وإلا قلد بعض العلماء الذين يعتمد عليهم في بيان أرجح القولين (4) .
وقد يقول كثير من علماء المسلمين أهل العلم والدين من الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين، كالأئمة الأربعة وغيرهم أقوالا باجتهادهم فهذه يسوغ القول بها، ولا يجب على كل مسلم
__________
(1) انظر الفقيه والمتفقه، ج2 ص69.
(2) انظر جامع العلوم والحكم، ص284.
(3) انظر الآداب الشرعية، ج1 ص166.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج20 ص207.(47/248)
أن يلتزم إلا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا شرع دخل فيه التأويل والاجتهاد، وقد يكون في نفس الأمر موافقا للشرع المنزل فيكون لصاحبه أجران، وقد لا يكون موافقا له، لكن لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فإذا اتقى العبد الله ما استطاع آجره الله على ذلك وغفر له خطأه، وما كان هكذا لم يكن لأحد أن يذمه، ولا أن يعيبه، ولا يعاقبه، ولكن إذا عرف الحق بخلاف قوله لم يجز ترك الحق الذي بعث الله به رسوله لقول أحد من الخلق، وذلك هو الشرع المنزل من عند الله وهو الكتاب والسنة (1) .
نصوص أصحاب القول الثاني القائل بأنه ينكر على المقلد دون المجتهد:
وعن أحمد رواية ثالثة: لا ينكر على المجتهد، بل على المقلد.
قال إسحاق بن إبراهيم عن الإمام أحمد أنه سئل عن الصلاة في جلود الثعالب؟ قال: إذا كان متأولا أرجو أن لا يكون به بأس، وإن كان جاهلا ينهى ويقال له: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عنها (2) .
نص أصحاب القول الثالث المائل بأنه ينكر على من أخذ بقول مخالف:
وفي رواية الميموني في الرجل يمر بالقوم وهم يلعبون
__________
(1) فتاوى ابن تيمية، ج35، ص366، 367.
(2) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح، ج1، ص167.(47/249)
بالشطرنج ينهاهم ويعظهم.
وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن رجل مر بقوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا، فأخذ الشطرنج فرمى به، فقال: قد أحسن، وقال في رواية أبي طالب في من يمر بالقوم يلعبون الشطرنج يقلبها عليهم إلا أن يغطوها ويستروها.
وصلى أحمد يوما إلى جنب رجل لا يتم ركوعه ولا سجوده فقال: يا هذا أقم صلبك، وأحسن صلاتك.
وقال المروذي: قلت لأبي عبد الله دخلت على رجل وكان أبو عبد الله بعث بي إليه بشيء فأتى بمكحلة رأسها مفضض فقطعتها، فأعجبه ذلك وتبسم، وأنكر على صاحبها.
وجاء في الأحكام السلطانية لأبي يعلى: المجاهرة بإظهار النبيذ كالخمر، وليس في إراقته غرم (1) .
وذكر ابن الجوزي أنه ينكر على من يسيء في صلاته بترك الطمأنينة في الركوع والسجود مع أنها من مسائل الخلاف.
وقال الشيخ عبد القادر: يجب أن يأمره ويعظه.
وذكر أيضا المنكرات في غمس اليد والأواني النجسة في المياه القليلة قال: فإن فعل ذلك مالكي لم ينكر عليه، بل يتلطف به ويقول له: يمكنك أن لا تؤذيني بتفويت الطهارة
__________
(1) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح، ج1 ص167(47/250)
علي (1) .
وجاء: وله كسر آلة اللهو وصور الخيال ودف الصنوج وشق وعاء الخمر وكسر دنه إن تعذر الإنكار بدون. وقيل مطلقا (2) .
الأدلة:
استدلال أصحاب القول الثالث بما يلي:
لم أجد لهؤلاء دليلا، وقد حمل القاضي وابن عقيل من الحنابلة رواية الميموني على أن الفاعل ليس من أهل الاجتهاد ولا هو مقلد لمن يرى ذلك (3) .
وما ورد من إنكار الإمام أحمد على من استعمل رأس المكحلة المفضض فقد يكون باعتبار أن الرجل ممن يعتقد تحريم جميع أواني الفضة والذهب وأنه متهاون باستعمال المكحلة. ويقال مثل هذا في الشطرنج ونحوه من الأمور المختلف فيها بين العلماء (4) .
أدلة القول الثاني القائل بأنه ينكر على المقلد دون المجتهد:
لم أجد لهؤلاء دليلا، ولعل تفريقهم بين المتأول والجاهل
__________
(1) الآداب الشرعية، ج 1 ص 168.
(2) الآداب الشرعية، ج1 ص195.
(3) الآداب الشرعية، ج1 ص167.
(4) انظر هامش المرجع السابق.(47/251)
باعتبار أن المتأول تأول وفق اعتبار شرعي، أما الجاهل فلا يحل له العمل بما عنده ومن ثم فينكر عليه وإن كان مقلدا تقليدا سائغا فلا ينكر عليه (1) .
أدلة أصحاب القول الأول القائل بعدم الإنكار على المجتهد:
استدلوا بما يلي:
1 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «لما حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده. فقال عمر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن وحسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتابا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قوموا (2) »
ففي تركه - صلى الله عليه وسلم - الإنكار على عمر دليل على استصوابه (3) مما يسوغ معه تعدد آراء المجتهدين، كما في هذا الحديث على اعتقاد أن ما صدر منه - صلى الله عليه وسلم - من غير قصد
__________
(1) انظر الآداب الشرعية، ج1 ص164.
(2) أخرجه مسلم \ صحيح مسلم بشرح النووي، ج11 ص 95.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، ج11 ص 91.(47/252)
جازم (1) .
2 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -. قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة (2) » ، فأدرك بعضهم العصر في الطريق. فقال بعضهم: لا نصلي العصر حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحدا منهم (3) .
فعدم تعنيفه - صلى الله عليه وسلم - على اجتهادهم دلالة على عدم الإنكار عند الاختلاف السائغ في الشرع.
3 - إن من أصول أهل السنة والجماعة أن من تولى بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالخلفاء الراشدين وغيرهم لا يجب أن ينفرد واحد منهم بعلم لا يعلمه غيره، بل علم الدين الذي سنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشترك المسلمون في معرفته. ولهذا كان الخلفاء يسألون الصحابة في بعض الأمور. هل عندكم علم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كسؤال أبي بكر عن ميراث الجدة ووجد العلم عند محمد بن مسلمة (4) ، وكذلك عمر لما سأل عن الجنين إذا قتل فأخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بغرة عبد أو أمة (5) ،
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، ج11 ص92.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه 5 \ 48، وأخرجه مسلم \ صحيح مسلم بشرح النووي، ج12 ص97.
(3) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج24 ص173.
(4) سبق تخريجه في الفصل الثالث السبب الأول.
(5) أخرجه البخاري في صحيحه \ فتح الباري 12 \ 247، ومسلم \ صحيح مسلم بشرح النووي، 11 \ 179.(47/253)
وقوله: امرأة أصابت ورجل أخطأ (1) ، وكان في مسائل النزاع يرى رأيا، ويرى علي بن أبي طالب رأيا، ويرى عبد الله بن مسعود رأيا، ويرى زيد بن ثابت رأيا فلم يلزم أحدا أن يأخذ بقوله، وقال للرجل: لو كنت أردك إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لفعلت، ولكني أردك إلى رأيي والرأي مشترك فلم ينقض ما قال علي وزيد، بل كل منهم يفتي بقوله وعمر - رضي الله عنه - إمام الأمة كلها، وأعلمهم وأدينهم، وأفضلهم (2) .
4 - إن اجتهاد العلماء في الأحكام كاجتهاد المستدلين على جهة الكعبة فإذا صلى أربعة أنفس كل واحد منهم بطائفة إلى أربع جهات لاعتقادهم أن القبلة هناك فإن صلاة الأربعة صحيحة والذي صلى إلى جهة الكعبة واحد وهو المصيب الذي له أجران (3) مما يدل على أنه لا ينكر على أي منهم.
الترجيح:
مما سبق يظهر لي أن الراجح في ذلك هو عدم الإنكار على المخالف في مسائل الخلاف وفق ما ذكر.
__________
(1) سبق تخريجه في الفصل الثالث. السبب الخامس.
(2) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 234، 238، ج 35 ص 384، 385.
(3) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 224.(47/254)
قال أحمد في رواية المروذي: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يشدد عليهم.
وقال ابن مفلح: ولا إنكار فيما يسوغ فيه خلاف من الفروع على من اجتهد فيه أو قلد مجتهدا فيه، مثل شرب يسير النبيذ والتزوج بغير ولي، وبأكل متروك التسمية (1) .
قال الشنقيطي: وأما إن كان من مسائل الاجتهاد فيما لا نص فيه فلا يحكم على أحد من المجتهدين بأنه مرتكب منكرا، فالمصيب منهم مأجور بإصابته، والمخطئ منهم معذور (2) .
ولكن يندب الخروج من الخلاف بالإنكار باللسان على جهة النصيحة، وأن يكون برفق (3) ، وهذا هو مقتضى ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية من الكلام فيه بالحجج العلمية فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه (4) ، والصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يتناظرون في المسألة الواحدة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين، ولا يقصدون إلا الخير ولم يبدع بعضهم بعضا (5)
__________
(1) . انظر الآداب الشرعية، ج 1ص 166.
(2) انظر أضواء البيان، ج 2 ص 274.
(3) انظر الآداب الشرعية، ج1 ص 170.
(4) مجموع فتاوى ابن تميمة، ج 30 ص 79، 80.
(5) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 24 ص 172.(47/255)
الفصل الخامس: في موقف المحتسب من حمل الناس على وجه من أوجه الخلاف:
المراد بالمحتسب هنا هو الإمام والأمور المتعلقة بالإمام متعلقة بنوابه. فأمر الحاكم الذي هو نائب الإمام فيه كأمر الإمام، وما جاز للإمام التصرف فيه جاز لنائبه فيما أنابه فيه (1) .
وهذا الفصل فيه مطلبان:
المطلب الأولى: في حمل المحتسب الناس على وجه ضعيف وإلزام الناس به.
سبق أن أوضحت وجوب الإنكار على من أخذ بقول ضعيف أو مرجوح (2) . لكن هل للإمام أن يلزم الناس بهذا القول؟
في بداية الإجابة على ذلك ينبغي أن نعلم أن أمر الإمام ونائبه يعد في منزلة الحكم، والحكم قضاء، والقاضي ليس له أن يقضي إلا بالشرع الوارد في الكتاب والسنة، ولا يستلزم القضاء أن يكون شرعا، لأن القاضي العادل يصيب تارة ويخطئ أخرى، ولو حكم الحاكم لشخص بخلاف الحق في الباطن لم يجز له أخذه ولو كان الحاكم سيد الأولين والآخرين، كما في الصحيحين عن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 30 ص 407.
(2) (2) انظر الفصل الثاني من هذا البحث.(47/256)
من النار (1) » (2)
والحق تبارك وتعالى فرض على الولاة اتباع الشرع الذي هو الكتاب والسنة، ومقتضى هذا أن يتحرى في اتباع الحق، ومن ثم فلا يحل له أن يحكم بأن السفر إلى غير المساجد الثلاثة مشروع مستحب يثاب فاعله، وأن من قال: أنه لا يستحب، يؤذى ويعاقب، أو يحبس، والحكم بمثل هذا باطل بإجماع المسلمين، ولا يحل لمن عرف دين الإسلام أن يتبع هذا القول، ولا لولي الأمر أن ينفذه (3) ، وكذا الأمر إن اختار المحتسب قولا ضعيفا مرجوحا لا يعتد به لم يجز للناس طاعته وإن أيده بذلك بعض العلماء.
فقد رأى الشيخ عبد الله القلقيلي (4) : إن ولي الأمر إذا أخذ بقول ضعيف لزم الناس الأخذ به على وجه الحتم.
وقد رد عليه سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - مد الله في عمره - فقال: وأما قول المفتي: وإذا قررت الدولة ذلك يكون العمل به لازما. . فهذا في غاية السقوط، بل هو ظاهر البطلان؛ لأن الحكومة إنما تطاع بالمعروف لا فيما يضر الأمة، ويخالف الشرع المطهر.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات باب من أقام البينة بعد اليمين \ صحيح البخاري ج 3 ص 162، وأخرجه مسلم في كتاب الأقضية باب أن حكم الحاكم لا يغير الباطن، صحيح مسلم بشرح النووي، ج 2 ص 4.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 376.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 378.
(4) مفتي الأردن آنذاك.(47/257)
يؤيد هذا قوله تعالى {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (1) .
فمع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر إلا بالمعروف، إلا أن الله تعالى أراد إعلام الأمة وإرشادها إلى أن طاعة ولاة الأمور إنما تكون في المعروف (2) .
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث علي - رضي الله عنه - أنه قال: «إنما الطاعة في المعروف (3) »
وفي رواية لمسلم (4) ، وأحمد (5) : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف» .
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة (6) »
والأخذ بقول ضعيف مع وجود ما هو أقوى منه معصية لله تعالى.
جاء عن ابن فرحون المالكي، وابن عابدين الحنفي: أن
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 12
(2) انظر مجلة الحج، مجلد 19 عدد 2 في 16 شعبان 1384 هـ ص 76.
(3) أخرجه البخاري \ فتح الباري 13 \ 122، ومسلم \ صحيح مسلم بشرح النووي، ج 12 ص 227.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي، ج 12 عدد 257.
(5) انظر الفتح الرباني، ج 14 ص 45.
(6) أخرجه البخاري \ فتح الباري، 6 \ 115، و 13 \ 121، وأخرجه مسلم \ صحيح مسلم بشرح النووي، 12 \ 226.(47/258)
الحكم والفتيا بما هو مرجوح خلاف الإجماع (1) ، وما كان خلاف الإجماع فهو باطل لا يحل الأخذ به ولا إلزام الناس به، بل الأولى إنكاره.
قال أبو يعلى: وأما ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته فلا مدخل في إنكاره إلا أن يكون مما ضعف فيه الخلاف وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه، كربا النقد فالخلاف فيه ضعيف وهو ذريعة إلى ربا النساء المتفق على تحريمه، وكنكاح المتعة، ربما صار ذريعة إلى استباحة الزنا، فيدخل في إنكاره كحكم ولايته (2) .
وقال الماوردي: وفي معنى المعاملات إن لم تكن منها عقود المناكح المحرمة ينكرها إن اتفق العلماء على حظرها، ولا يتعرض لإنكارها إن اختلف الفقهاء فيها إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه (3) .
ومن ثم فلا يحل للمحتسب أن يحمل الناس على قول ظهر ضعفه.
المطلب الثاني: في موقف المحتسب من حمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف:
للعلماء في ذلك قولان:
__________
(1) انظر تبصرة الحكام، ج1 ص53، وانظر حاشية ابن عابدين، ج5 ص408.
(2) انظر الأحكام السلطانية، لأبي يعلى ص297.
(3) انظر الأحكام للماوردي، ص253.(47/259)
القول الأول ليس للمحتسب أن يحمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف.
القول الثاني: له أن يحمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف.
وفيما يلي أعرض أقوال العلماء في ذلك.
أقوال أصحاب القول الأول:
قال الماوردي: فأما المتعلق بحقوق الله عز وجل. . . وإن كانوا عددا اختلف في انعقاد الجمعة بهم. . الحالة الثالثة أن يرى القوم انعقاد الجمعة بهم ولا يراه المحتسب فلا يجوز له أن يعارضهم فيها. . ولا يجوز أن ينهاهم عنها ويمنعهم مما يرونه فرضا عليهم (1) .
وقال: ولكن لو كانت الجماعات في بلد قد اتفق أهله على تأخير صلواتهم إلى آخره، والمحتسب يرى فضل تعجيلها فهل له أن يأمرهم بالتعجيل؟ على وجهين.
وقال: فأما الأذان والقنوت في الصلوات إذا خالف فيه رأي المحتسب فلا اعتراض له فيه بأمر ولا نهي.
ونص أيضا في مثل ذلك على الاقتصار على مسح أقل الرأس أو العفو على قدر الدرهم من النجاسات فلا اعتراض له في شيء من ذلك بأمر ولا نهي (2) .
__________
(1) انظر الأحكام السلطانية، ص243.
(2) الأحكام السلطانية، ص245.(47/260)
وقال الشاطبي: ولا ينقض حكم الحاكم لمصلحة الفصل في الخصومات وإن أدى إلى الحكم بما ليس بمشروع ولو كان حكمه خطأ، إلا إذا خالف إجماعا أو نصا أو قاعدة شرعية (1) .
قال الماوردي: واختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي هل يجوز له أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا؟
على وجهين. . والوجه الثاني ليس له أن يحمل الناس على رأيه واجتهاده ولا أن يقودهم إلى مذهبه لتسويغ الاجتهاد للكافة وفيما اختلف فيه (2) .
قال النووي: والأصح أنه لا يغيره. . ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم - رضي الله عنهم أجمعين -. وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا (3) .
يقول ابن تيمية: (. . . لا يقل أحد إنه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكما، فإن هذا ينقلب فقد يصير الآخر حاكما فيحكم بأن قوله هو الصواب، فهذا لا يمكن أن يكون كل واحد من القولين المتضادين يلزم جميع المسلمين اتباعه (4) .
__________
(1) انظر الموافقات، ج 1 ص 237.
(2) انظر الأحكام السلطانية، ص 241.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص24.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص 379، 380.(47/261)
وقال: وأما من يقول: إن الذي قلته هو قولي أو قول طائفة من العلماء المسلمين، وقد قلته اجتهادا أو تقليدا، فهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته ولو كان قد أخطأ خطأ مخالفا للكتاب والسنة، ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين، فإنه ما منهم من أحد إلا وله أقوال اجتهد فيها أو قلد فيها وهو مخطئ فيها، فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق، والله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) ، ويقول سبحانه: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (2)) (3) .
ويقول: فكيف يسوغ لولاة الأمر أن يمكنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه، هذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها، فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا (4) .
وسئل عمن ولي أمر المسلمين ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان فهل يجوز له منع الناس؟ .
فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا هو في معنى ذلك (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 378.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 380.
(5) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 20 ص 79.(47/262)
وقال: ولا يجب على عالم من علماء المسلمين أن يقلد حاكما لا في قليل ولا في كثير إذا كان قد عرف ما أمر الله به رسوله، بل لا يجب على آحاد العامة تقليد الحاكم في شيء، بل له أن يستفتي من يجوز له استفتاؤه وإن لم يكن حاكما (1) .
قال أبو يعلى: وأما ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته فلا مدخل في إنكاره إلا أن يكون مما ضعف الخلاف فيه (2) .
أقوال أصحاب القول الثاني القائل بأن للمحتسب أن يحمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف:
قال الماوردي: واختلف الفقهاء من أصحاب الشافعي هل يجوز له أن يحمل الناس فيما ينكره من الأمور التي اختلف الفقهاء فيها على رأيه واجتهاده أم لا؟
على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أن يحمل ذلك على رأيه واجتهاده (3) .
حكي أن أبا سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي تقلد حسبة بغداد في أيام المقتدر فأزال سوق الدادي ومنع منها، وقال: لا يصلح إلا للنبيذ المحرم، وأقر سوق اللعب ولم يمنع منها.
وأما المجاهرة بإظهار النبيذ؛ فعند أبي حنيفة: أنه من
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج35 ص372.
(2) الأحكام السلطانية، ص297.
(3) الأحكام السلطانية، ص 241.(47/263)
الأموال التي يقر المسلمين عليها فيمتنع من إراقته ومن التأديب على إظهاره، وعند الشافعي: أنه ليس بمال كالخمر وليس في إراقته غرم، فيعتبر والي الحسبة بشواهد الحال فيه، فينهى فيه عن المجاهرة ويزجر عليها إن كان لمعاقرة، ولا يريقه عليه إلا أن يأمره بإراقته حاكم من أهل الاجتهاد (1) .
قال مهنا: سمعت الإمام أحمد يقول: من أراد أن يشرب هذا النبيذ يتبع فيه شرب من شربه فليشربه وحده (2) أي لا يجاهر بشربه.
وأما المجاهرة بإظهار الملاهي المحرمة فعلى المحتسب أن يفصله حتى تصير خشبا لتزول عن حكم الملاهي ويؤدب على المجاهرة بها، ولا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهي (3) .
فأما المتعلق بحقوق الله - عز وجل - فضربان: أحدهما: يلزم الأمر به في الجماعة دون الانفراد كترك الجمعة في وطن مسكون. . أو أن يرى المحتسب انعقاد الجمعة بعدد لا يراه القوم، فهذا مما في استمرار تركه تعطيل الجمعة مع تطاول الزمان وبعده وكثرة العدد وزيادته، فهل للمحتسب أن يأمرهم بإقامتها اعتبارا بهذا المعنى أم لا؟ .
على وجهين لأصحاب الشافعي - رضي الله عنه -: أحدهما: وهو مقتضى قول أبي سعيد الإصطخري أنه يجوز أن يأمرهم
__________
(1) الأحكام السلطانية، ص 251.
(2) انظر الآداب الشرعية، ج1 ص 166.
(3) الأحكام السلطانية، ص 251.(47/264)
بإقامتها اعتبارا بالمصلحة لئلا ينشأ الصغير على تركها فيظن أنها تسقط مع زيادة العدد كما تسقط بنقصانه.
فقد راعى زياد مثل هذا في صلاة الناس في جامعي البصرة والكوفة، فإنهم كانوا إذا صلوا في صحنه فرفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب، فأمر بإلقاء الحصى في صحن المسجد الجامع، وقال: لست آمن أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة (1) .
قال ابن القيم: ومن ذلك: أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع من اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفرح، ومجامع الرجال (2) .
وقال مالك: أرى أن يتقدم إلى الصناع في قعود النساء إليهم، ولا تترك الشابة تجلس إلى الصناع، وأما المتجالة والخادم الدون، ومن لا يتهم على القعود عنده، فلا بأس بذلك، وهو كله صواب (3) .
وفي مواهب الجليل: ولا يمنعن من الخروج والمشي في حوائجهن ولو كن معتدات، وإلى المسجد، وإنما يمنعن من التبرج والتكشف والتطيب للخروج والتزين، بل يخرجن وهن منتقبات، ولا يخفقن في المشي في الطرقات، بل يلصقن
__________
(1) الأحكام السلطانية، ص 243، 244.
(2) انظر الطرق الحكمية، ص 280.
(3) انظر مواهب الجليل، ج 3 ص 405.(47/265)
بالجدران (1) .
يقول ابن القيم: فالإمام مسئول عن ذلك، والفتنة به عظيمة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (2) »
ويجب عليه منع النساء من الخروج متزينات متجملات، ومنعهن من الثياب التي يكن بها كاسيات عاريات، كالثياب الضيقة والرقاق، ومنعهن من حديث الرجال في الطرقات، ومنع الرجال من ذلك.
وإن رأى ولي الأمر أن يفسد على المرأة - إذا تجملت وتزينت وخرجت - ثيابها بحبر ونحوه فقد رخص في ذلك بعض الفقهاء وأصاب. وهذا من أدنى عقوبتهن المالية.
وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها ولا سيما إذا خرجت متجملة، بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية، والله سائل ولي الأمر عن ذلك، وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - النساء من المشي في طريق الرجال، والاختلاط بهم في الطريق، فعلى ولي الأمر أن يقتدي به في ذلك.
وقال الخلال في جامعه: أخبرني محمد بن يحيى
__________
(1) مواهب الجليل، ج 3 ص 405.
(2) أخرجه الترمذي عن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح \ الجامع الصحيح، ج 5 ص 103.(47/266)
الكحال: أنه قال لأبي عبد الله: أرى الرجل السوء مع المرأة؟ قال: صح به.
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المرأة إذا تطيبت وخرجت من بيتها فهي زانية (1) .
وتمنع المرأة إذا أصابت بخورا أن تشهد عشاء الآخر في المسجد، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المرأة إذا خرجت استشرفها الشيطان (2) »
ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة، واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة.
فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا، بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال، والمشي بينهم متبرجات متجملات، ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من فساد الدنيا - والرعية - قبل الدين لكانوا أشد شيء منعا لذلك (3) .
__________
(1) أخرج نحوه الترمذي عن أبي موسى قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح \ الجامع الصحيح، ج 5 ص 106.
(2) أخرجه الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب \ الجامع الصحيح، ج 3 ص 476، قال الهيثمي: رجاله موثقون \ فيض القدير، ج 6 ص 267.
(3) انظر الطرق الحكمية، ص 280، 281.(47/267)
وإن دعا الإمام العامة إلى شيء وأشكل عليهم لزمهم سؤال العلماء فإن أفتوا بوجوبه قاموا به، وإن أخبروا بتحريمه امتنعوا عنه، وإن قالوا هو مختلف فيه، وقال الإمام يجب، لزمهم طاعته كما تجب طاعته في الحكم (1) .
الترجيح:
فيما مضى من عرض أقوال العلماء في موقف المحتسب من حمل الناس على وجه مشتهر من أوجه الخلاف، فإنه يظهر لي أنه لا يحل للمحتسب أن يلزم الناس بقول يراه ولا يراه غيره من العلماء أو من يقلدهم إلا إن كانت مآلات الأخذ بالقول أو الفعل المخالف تؤدي إلى مفاسد محظورة أو إماتة سنة معلومة، أو معصية يتحقق بها إثم.
والنظر في مآلات الأفعال من مقاصد إلى شرع، سواء أكانت الأفعال موافقة أم مخالفة.
وفي نظري أن المحتسب المنكر في مسائل الخلاف لا بد أن يكون مجتهدا ولو في المسألة المختلف فيها حتى يتمكن من معرفة الخلاف أو لا، ثم الحكم على الأفعال الصادرة من المكلفين وما تؤول إليه، ومن ثم يقرر الإقدام أو الإحجام.
أما الإقدام دون نظر في ذلك فقد يؤدي إلى مفسدة تساوي ما طلبه أو تزيد عليه، سواء أكانت المفسدة عاجلة أم آجلة، وقد يكون الإحجام عن الاحتساب في ذلك سبب كل
__________
(1) . انظر الآداب الشرعية، ج1 ص 62.(47/268)
بلية (1) .
لهذا فإن إنكار المحتسب - المجتهد - في مسائل الخلاف أمر يحتاج معه إلى علم وذكاء وفطنة ومعرفة حال الفعل وحال الفاعل، والزمان، والمكان، ومدى انتشار الفعل وندرته، والطريقة المناسبة لإنكاره، والطريق الأنسب لتقبل الناس للإنكار. فهو بهذا أشبه بالطبيب يتلمس العلة ويتخذ من الوسائل اللازمة لمعرفتها ثم يصف الدواء اللازم لها، ولا ينبغي لأي محتسب - غير مجتهد - أن يقرر ما يشاء عند مخالفة الناس لما يراه، ولهم فيما يفعلون حجة، والحكم قد يخفى عليه، والحق تبارك وتعالى لم يرض بحكم واحد بين الزوجين، إذا خيف الشقاق بينهما؛ فإنه لا يعلم أيهما الظالم وليس بينهما بينة، بل أمر بحكمين، غير متهمين، حكم من أهل الرجل وحكم من أهل المرأة، كما قال تعالي: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (2) .
ففي هذه الآية لما اشتبه الحق لم يجعل الله الحكم لواحد وهو في قضية معينة بين زوجين، ولو حكم حاكم واحد بين زوجين في أمر ظاهر لم ينفذ حكمه باتفاق المسلمين، فكيف بأمور الدين والعبادات التي يشترك فيها جميع المسلمين، وقد اشتبهت على كثير من الناس.
__________
(1) انظر الموافقات، ج 4 ص 194 بتصرف.
(2) سورة النساء الآية 35(47/269)
وولي الأمر إن لم يعرف ما جاء بالكتاب والسنة ولم يمكنه أن يعلم، ترك المسلمين على ما هم عليه، كل يعبد الله حسب اجتهاده، وليس له أن يلزم أحدا بقبول قول غيره وإن كان حاكما (1) .
وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال للرجل: (لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفعلت، ولكني أردك إلى رأيي والرأي مشترك فلم ينقض ما قال علي وزيد) (2) .
أما الإنكار على الأفعال التي تؤول إلى مفاسد أو مآثم فقد فعله صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك ما يلي:
1 - عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين، قال: وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر (3) .
ولمسلم عن علي في قصة الوليد بن عقبة أن عثمان أمر عليا بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر: اجلده، فجلده فلما بلغ أربعين قال: أمسك جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سنة وهذا أحب إلي (4) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 386.
(2) انظر الحديث رقم 3 من أدلة أصحاب القول الأول من المطلب الثاني الفصل الرابع.
(3) متفق عليه \ انظر سبل السلام شرح بلوغ المرام، ج 4 ص 36.
(4) انظر سبل السلام، ج 4 ص 39.(47/270)
2 - روى طاوس عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (1) .
وفي رواية عن طاوس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن طلاق الثلاث على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر واحدة، قال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم (2) .
يقول ابن تيمية: فلما كان زمن عمر حدث من بعضهم ذنوب أوجبت اجتهاد الإمام في نوع من التشديد عليهم؛ كمنعهم من متعة الحج، وكإيقاع الثلاث إذا قالوها بكلمة، وكتغليظ العقوبة في الخمر (3) .
وخلاصة ما مضى: فإنه لا يحل للمحتسب الإنكار على قول في مسألة خلافية مشتهرة وحمل الناس على غيره إلا إن كان الأخذ بالقول أو الفعل المخالف يؤول إلى مفسدة محظورة، أو إماتة سنة معلومة، أو معصية يتحقق بها إثم. والله أعلم.
__________
(1) أخرجه أحمد ومسلم \ نيل الأوطار، ج 6 ص 258.
(2) أخرجها مسلم \ نيل الأوطار ج 6 ص 258.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 14 ص 158.(47/271)
الفصل السادس: في النتائج المترتبة على مخالفة المنهج الصحيح في الإنكار:
التزم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالطاعة المطلقة لله بقولهم: (سمعنا وأطعنا) وكان يطيع بعضهم بعضا، فها هو عمر ينقاد لأبي عبيدة ما لا ينقاد لغيره، وخفي عليهم بعض مسائل الفرائض وغيرها حتى تنازعوا فيها وهم مؤتلفون، كل منهم يقر الآخر على اجتهاده.
فلما كان في آخر خلافة عثمان زاد التغير والتوسع في الدنيا، وحدثت أنواع من الأعمال لم تكن على عهد عمر فحصل من بعض القلوب التنافر حتى قتل عثمان فصاروا في فتنة عظيمة، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (1) ، فالفتنة إذا جاءت عمت الظالم والساكت عن نهي هذا الظالم وصار ذلك سببا لمنعهم كثير من الطيبات، وصاروا يختصمون في متعة الحج ونحوها مما لم تكن فيه خصومة على عهد عمر، فطائفة تمنع المتعة مطلقا كابن الزبير، وطائفة تمنع الفسخ كبني أمية وأكثر الناس، وصاروا يعاقبون من تمتع، وطائفة أخرى توجب المتعة، وكل منهم لا يقصد مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل خفي عليهم الحكم، وكان ذلك سبب ما حدث من الذنوب (2) قال ابن العربي: فلما رفع الميزان. . . . أخذ الله القلوب
__________
(1) سورة الأنفال الآية 25
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 14 ص 157.(47/272)
عن الألفة ونشر جناحا من التقاطع، حتى سوى جناحين بقتل عثمان، فطار في الآفاق، واتصل الهرج إلى يوم المساق، وصارت الخلائق عزين في كل واد من العصبية يهيمون، فمنهم بكرية، وعمرية، وعثمانية، وعلوية، وعباسية، كل تزعم أن الحق معها وفي صاحبها، والباقي ظلوم غشوم، مقتر من الخير عديم. وليس ذلك بمذهب، ولا فيه مقالة، إنما هو حماقات وجهالات، أو سائس للضلالات، حتى تضمحل الشريعة، وتهزأ الملحدة من الله، ويلهو بهم الشيطان ويلعب، وقد سار بهم في غير مسار، ولا مذهب (1) ، ومن النتائج المترتبة على هذا المنهج الوقوع في الإثم وحرمان الناس من العلماء سواء عن طريق استعداء السلطة عليهم بتصيد زلاتهم، أو تحريف أقوالهم أو تأويلها لينال الحاكم منهم، أو من طريق التقليل من شأنهم ومن علمهم الذي يحملونه.
وهذا المنهج يوجد الهجران والقطيعة بين العلماء، بل وبين الناس بعضهم مع بعض؛ لأنهم متبعون لهذا أو ذاك.
وأمة الإسلام بحاجة إلى تآلف العلماء ونصرتهم للحق؛ لأن هذا العصر عصر غربة للإسلام، لقلة العلم، والعلماء بالسنة والكتاب، ولغلبة الجهل، وكثرة الشرور، والمعاصي، وأنواع الكفر، والضلال، والإلحاد، وعصر هذا شأنه فإن الأمة بحاجة إلى تكثير سواد العلماء لا قلتهم، وبحاجة إلى أن لا نعين
__________
(1) انظر العواصم من القواصم، ص 246.(47/273)
الشيطان عليهم كما روي ذلك عن سلمان الفارسي (1) .
يقول ابن تيمية: وإذا ألزم ولاة الأمر الناس على ما لم يعرفوا حكمه ولم يمكنهم معرفته فإن البأس سيقع بينهم، وهذا من أعظم أسباب تغير الدول كما قد جرى مثل هذا مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا (2) ، ويقول: فكيف يسوغ لولاة الأمر أن يمكنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض، وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه. هذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا (3) .
ومن نتائج الجهل بالإنكار الصحيح تشكيك الناس بالدين الصحيح والهرج فيما لا علم لهم به، فيكثر المفتون بغير علم، ويكثر المنكرون عن جهل، فيتحول الناس إلى فعل العادات الجارية لا العبادات المشروعة، ويحصل بذلك غلبة الجهل وقلة الدين.
نسأل الله العفو والعافية، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) انظر الموافقات للشاطبي، ج 4 ص 169.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 388.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 35 ص 380.(47/274)
المصلحة عند الحنابلة
للشيخ \ سعد بن ناصر الشثري (1)
مقدمة:
الحمد لله الذي شرع للعباد ما ينفعهم في دنياهم وعند المعاد، أحمده على إكمال دينه وإتمام نعمته، ورضاه الإسلام لنا دينا، وأشهد أن لا إله إلا الله، أخبر أنه لو اتبع الحق أهواء من في السماوات والأرض لفسدتا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المبعوث بالملة الحنيفية السمحة، صلى الله عليه وعلى أصحابه وأتباعه وسلم تسليما كثيرا، وبعد:
فقد رأيت الحاجة لبحث المصلحة عند الحنابلة لتضارب النقل عنهم في ذلك وعدم ضبط مذهبهم فيها، فلاقى ذلك رغبة ملحة في نفسي، لأن المصلحة مما تضاربت أقوال الناس فيه، وهو باب دخل علينا منه في العصر خفافيش عطلت النصوص، وحاولت هدم الشريعة كلها نظرا لما يزعمونه من المصالح، ولأنهم وجدوا كلمة متشابهة عند الطوفي فطاروا بها فرحا وتركوا أقوال الأئمة من العلماء لأن مقالة الطوفي - وهو من الحنابلة - توافق أهواءهم، فخالفوا النصوص الكثيرة الناهية عن اتباع الهوى
__________
(1) المحاضر بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.(47/275)
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (1) ، {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} (2) .
فهذا المنهج منهج ضال يخالف منهج أهل الإيمان الذين يستمعون جميع الأقوال ثم يقارنون بينها ويتبعون أحسنها، فكانوا بذلك هم أولو الألباب وأصحاب الإيمان فلله درهم.
وقد جعلت هذا البحث من مقدمة وتمهيد عن تعريف المصلحة لغة واصطلاحا وفصلين:
الفصل الأول: في تتبع آراء الحنابلة في المصلحة:
المبحث الأول: آراء متقدمي الحنابلة: الإمام أحمد وابن عقيل وابن قدامة وابن برهان والمجد.
المبحث الثاني: آراء متوسطي الحنابلة: شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن النجار والطوفي.
المبحث الثالث: آراء متأخري الحنابلة: ابن بدران والدكتور التركي والربيعة والدريويش والمنصور.
الفصل الثاني: في حكم المصلحة عند الحنابلة:
المبحث الأول: في المعتبرة.
المبحث الثاني: في الملغاة.
المبحث الثالث: في المرسلة.
__________
(1) سورة القصص الآية 50
(2) سورة الكهف الآية 28(47/276)
وخاتمة في خلاصة القول في هذه المسالة.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقني للحق وأن يلهمني الصواب بفضله ومنه.
تمهيد في تعريف المصلحة لغة واصطلاحا:
المبحث الأول: تعريف المصلحة لغة:
المصلحة واحدة المصالح مأخوذة من الصلاح ضد الفساد، والاستصلاح نقيض الاستفساد (1) .
المبحث الثاني: تعريف المصلحة اصطلاحا:
اختلفت تعاريف العلماء للمصلحة بناء على مراد كل واحد منهم، وذلك على أقسام:
الأول: من أراد تعريف المصلحة مطلقا مثل ابن قدامة حيث قال: المصلحة هي جلب المنفعة ودفع المضرة (2) .
وقال د. التركي: المصلحة الوصف الذي يكون في ترتيب الحكم عليه جلب منفعة للناس أو درء مفسدة عنهم (3) وهو أدق من الأول.
وقال د. الربيعة: المصلحة في الاصطلاح: المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ونفوسهم وعقولهم
__________
(1) الصحاح: مادة '' صلح '' 1 \ 383 - 384، القاموس المحيط 1 \ 243.
(2) روضة الناظر، ص 169.
(3) أصول مذهب الإمام أحمد، ص 413.(47/277)
ونسلهم ومالهم ودفع ما يفوت هذه الأصول أو يخل بها (1) . فهذا حصر للمصلحة في هذه الجوانب وهي لا تنحصر فيها.
الثاني: من أراد تعريف المصالح المرسلة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: المصالح المرسلة: هو أن يرى المجتهد أن هذا الفعل يجلب منفعة راجحة وليس في الشرع ما ينفيه (2) وهذا تعريف جيد.
وقال د. المنصور: هي الأوصاف التي تلائم تصرفات الشارع ومقاصده ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشرع بالاعتبار والإلغاء ويحصل من ربط الحكم بها جلب مصلحة أو دفع مفسدة عن الناس (3) .
الثالث: من أراد تعريف الاستصلاح قال الدكتور عبد العزيز الربيعة: هو استنباط الحكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع بناء على مراعاة مصلحة مرسلة (4)
__________
(1) الأدلة المختلف فيها، ص 190.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 11 \ 342.
(3) أصول الفقه وابن تيمية، 1 \ 452.
(4) الأدلة المختلف فيها، 221.(47/278)
الفصل الأول: تتبع آراء الحنابلة في المصلحة:
المبحث الأول: آراء متقدمي الحنابلة:
1 - الإمام أحمد:
قال ابن دقيق العيد: الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحا(47/278)
على غيره من الفقهاء في هذا النوع - المصالح المرسلة - ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيحا في الاستعمال لهما على غيرهما (1) .
وقال القرافي: هي عند التحقيق في جميع المذاهب لأنهم يقيسون ويفرقون بالمناسبات ولا يطلبون شاهدا بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك (2) .
ابن القيم رحمه الله حين عد أصول مذهب أحمد في أول كتابه: " إعلام الموقعين " لم يذكر المصالح المرسلة منها.
وكثير من المتأخرين ينسب للإمام أحمد القول بالمصالح المرسلة، لأنه حكم على قضايا كثيرة بأحكام معينة، وهذه الأحكام توافق المصلحة، فمن هنا فالإمام يقول باعتبار المصالح، وهذا ليس بصحيح لأن الإمام أحمد لم ينص على أن موجب الحكم هو المصلحة، ثم هذه القضايا بعضها ورد في أحاديث، وبعضها يشمله عموم النصوص، وبعضها ورد عن الصحابة، فالإمام أخذ هذه الأحكام من ذلك.
ولنضرب لذلك مثلا: أنهم قالوا: بأن الإمام أحمد قال بتغليظ الحد على من شرب الخمر في نهار رمضان لحرمة الشهر، وقالوا: إن هذا عمل بالمصلحة المرسلة وليس كذلك بل هذا وارد عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - (3) ، ومثله قتل الجماعة
__________
(1) أصول مذهب أحمد، ص 422.
(2) المذكرة، للشنقيطي، ص 170.
(3) أخرجه الطحاوي، '' مشكل الآثار ''، 3 \ 168.(47/279)
بالواحد، قالوا: هو بناء على المصلحة المرسلة وليس كذلك، بل لأنه قول صحابي ومن أصول أحمد العمل بقول الصحابي ما لم يكن نص ولا اختلاف بين الصحابة، بل حكي ذلك إجماعا للصحابة (1) .
2 - أبو الوفاء ابن عقيل:
نقل ابن القيم عن ابن عقيل في الفنون أنه قال: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الحزم، ولا يخلو من القول به إمام، فقال الشافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع. . فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول. فإن أردت بقولك إلا ما وافق الشرع أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت لا سياسة إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن، ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف، فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة (2) .
3 - أبو محمد ابن قدامة المقدسي:
ذكر ابن قدامة في كتابه روضة الناظر بعض الأدلة المختلف فيها وذكر من ضمنها الاستصلاح وهو اتباع المصلحة، وجعلها
__________
(1) المغني، 1 \ 490.
(2) الطرق الحكمية، ص 13.(47/280)
ثلاثة أنواع: معتبر بالشرع وهذا هو القياس، وما شهد الشرع ببطلانه وهذا لا خلاف في بطلانه لمخالفته للنص.
وما لم يشهد له الشرع بإبطال ولا اعتبار معين، وهو ثلاثة أنواع: ما يقع في مرتبة الحاجيات، وما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية حسن المناهج في العبادات والمعاملات، فهذان الضربان لا نعلم خلافا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل.
والضرب الثالث: ما يقع في رتبة الضروريات، وهي ما عرف من الشارع الالتفات إليها، فذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن هذه المصلحة حجة. . . والصحيح أن ذلك ليس بحجة. . ثم ذهب يستدل لقوله (1) .
لكن قال الطوفي: قال بعض أصحابنا: ليست حجة - يريد المصلحة المرسلة - وإنما قلنا قال بعض أصحابنا ولم أقل أصحابنا لأني رأيت من وقفت على كلامه منهم حتى الشيخ أبا محمد - يعني ابن قدامة - في كتبه؛ إذا استغرقوا في توجيه الأحكام يتمسكون بمناسبات مصلحية يكاد الشخص يجزم بأنها ليست مرادة للشارع، والتمسك بها يشبه التمسك بحبال القمر، فلم أقدم على الجزم على جميعهم بعدم القول بهذه المصلحة خشية أن يكون بعضهم قد قال بها فيكون ذلك تقولا عليهم (2) .
__________
(1) روضة الناظر، ص (169 - 170) .
(2) أصول مذهب الإمام أحمد، ص 424.(47/281)
4 - المجد ابن تيمية:
قال المجد: المصالح المرسلة لا يجوز بناء الأحكام عليها، قاله ابن الباقلاني وجماعة المتكلمين، وهو قول متأخري أصحابنا أهل الأصول والجدل (1) .
5 - أبو الخطاب:
قال المجد: وقد ذكر أبو الخطاب في تقسيم الأدلة الشرعية أن الاستنباط قياس واستدلال، والاستدلال يكون بأمارة وعلة ويكون بشهادة الأصول والاستدلال بالعلة أو الأمارة هو المصالح (2)
__________
(1) المسودة، ص 450.
(2) المسودة، ص451، وبحثت عنه في مظانه من التمهيد فلم أجده.(47/282)
المبحث الثاني: آراء متوسطي الحنابلة:
1 - شيخ الإسلام ابن تيمية:
قال: الطريق السابع المصالح المرسلة. . . فهذه الطريق فيها خلاف مشهور، فالفقهاء يسمونها المصالح المرسلة، ومنهم من يسميها الرأي، وبعضهم يقرب إليها الاستحسان، وقريب منها ذوق الصوفية ووجدهم وإلهاماتهم فإن حاصلها أنهم يجدون في القول والعمل مصلحة في قلوبهم وأديانهم ويذوقون طعم ثمرته، وهذه مصلحة، لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان، وليس كذلك؛ بل المصالح المرسلة في جلب المنافع وفي دفع المضار، وما ذكروه(47/282)
من دفع المضار. . . وجلب المنفعة يكون في الدنيا والدين. . . فمن قصر المصالح على العقوبات التي فيها دفع الفساد عن تلك الأحوال - الخمسة - ليحفظ الجسم فقط فقد قصر.
وهذا فصل عظيم ينبغي الاهتمام به، فإن من جهته حصل في الدين اضطراب عظيم، وكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل، وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه، وربما قدم على المصالح المرسلة كلاما بخلاف النصوص، وكثير منهم أهمل مصالح يجب اعتبارها شرعا بناء على أن الشرع لم يرد بها، ففوت واجبات ومستحبات، أو وقع في محظورات ومكروهات، وقد يكون الشرع ورد بذلك، وحجة الأول: أن هذه مصلحة والشرع لا يهمل المصالح بل قد دل الكتاب والسنة والإجماع على اعتبارها، وحجة الثاني: أن هذا أمر لم يرد به الشرع نصا ولا قياسا، والقول بالمصالح يشرع من الدين ما لم يأذن به الله غالبا، وهي تشبه من بعض الوجوه مسألة الاستحسان والتحسين العقلي والرأي ونحو ذلك. . . لكن بين هذه فروق.
والقول الجامع: أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة، فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا حدثنا به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك. لكن ما اعتقده العقل مصلحة وإن كان الشرع لم يرد بها فأحد أمرين لازم له: إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر، أو أنه ليس(47/283)
بمصلحة وإن اعتقده مصلحة، لأن المصلحة هي المنفعة الحاصلة أو الغالبة وكثيرا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا ويكون فيه منفعة مرجوحة بالمضرة، كما قال تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1) وكثير مما ابتدعه الناس من العقائد والأعمال من بدع أهل الكلام وأهل التصوف وأهل الرأي وأهل الملك، حسبوه منفعة أو مصلحة نافعا وحقا وصوابا وليس كذلك فإذا كان الإنسان يرى حسنا ما هو سيئ كان استحسانه أو استصلاحه قد يكون من هذا الباب (2) .
فخلاصة كلامه - رحمه الله -: أنه تردد في العمل بالمصلحة المرسلة حتى إنه ليكاد أن يمنعها لأسباب:
1 - أن الله - عز وجل - قد أكمل الدين، والدين من كماله استقصى جميع المصالح.
2 - ما رآه من تصرفات الصوفية الذين اعتمدوا على الإلهامات والأذواق معتبرين ذلك مصلحة لا بد منها فدخل كثير من المغرضين من هذا الباب فشوهوا الإسلام وطمسوا محياه.
3 - ما رآه من الجرأة على العمل بالمصالح بدون تثبت مما أدى إلى فتح باب الفوضى والاضطراب في الدين، حيث رأى كثير من الأمراء والعباد مصالح فاستعملوها - بناء على هذا الأصل - ولم تكن كذلك وقد يكون منها ما هو محظور في
__________
(1) سورة البقرة الآية 219
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 11 \ 342 - 345.(47/284)
الشرع لم يعلموه.
4 - ما رآه من الشبه في بعض الوجوه بقول المعتزلة في التحسين والتقبيح العقلي، وقد يؤدي إلى أن يشرع العبد من الدين ما لم يأذن به الله.
5 - جر القول بالمصالح المرسلة إلى فتح الباب على مصراعيه بدون تقييد بنظام الشرع فجلب كثيرا من البدع في العقائد والأعمال، كما اتخذها كثير من الملوك والحكام سلما وطريقا سهلا يسلكونه في ظلم الناس وإنزال الأذى بهم في أموالهم وأنفسهم (1) .
2 - ابن قيم الجوزية:
قال: إن الشريعة مبناها وأساسها الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ومصالح كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها (2) لكن هذا في المصالح المعتبرة من الشارع لا المرسلة.
وابن القيم حين عد أصول أحمد لم يذكر المصالح المرسلة منها.
3 - نجم الدين الطوفي:
نسب بعض المحدثين للطوفي رسالة في شرح الأربعين
__________
(1) أصول الفقه وابن تيمية، 2 \ 467 - 468.
(2) إعلام الموقعين، 3 \ 14.(47/285)
النووية تكلم في أثنائها على حديث: «لا ضرر ولا ضرار (1) » وقال فيها بتقديم المصلحة على النص بطريق التخصيص والبيان بشرط أن يكون الحكم من أحكام المعاملات أو العادات أو السياسات الدنيوية أو شبهها، لا أن يكون من أحكام العبادات أو المقدرات ونحوها، لأن العبادات حق للشارع خاص به، ولا يمكن معرفة حقه كما وكيفا وزمانا ومكانا إلا من جهته فيأتي به العبد بما رسم له، فأحكام العبادات والمقدرات لا مجال للعقل في فهم معانيها على التفصيل (2) .
4 - ابن النجار الفتوحي:
جعل المصلحة ثلاثة أضرب: معتبر بالشرع، وباطل بالشرع، والثالثة المرسلة حكى فيها الخلاف وأحال على الكلام في المناسبة (3) .
وفي الكلام على المناسب جعله ثلاثة أضرب: أحدها: دنيوي وجعله أقساما: ضروري ومكمله، وحاجي ومكمله، وتحسيني، فجعل المناسب من باب المصالح المرسلة، وقال: وليست هذه المصلحة بحجة، ونقل الخلاف فيها، ودلل على عدم حجيتها. والثاني: أخروي، والثالث: إضافي.
__________
(1) رواه مالك وأحمد والدارقطني والبيهقي بأسانيد لا تخلو من مقال، وسيأتي بحثه بالتفصيل قريبا.
(2) شرح حديث '' لا ضرر ولا ضرار '' ملحق برسالة (المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي) 16 - 46.
(3) شرح الكوكب المنير، 4 \ 432.(47/286)
ثم قسم المناسب إلى أقسام: مؤثر وملائم وغريب، والغريب هو الذي لم يشهد له غير أصله بالاعتبار، قال: والمرسل الغريب ليس حجة عند الجمهور، والمرسل الذي ثبت إلغاؤه مردود بالاتفاق (1)
__________
(1) شرح الكوكب المنير، 4 \ 159 - 181.(47/287)
المبحث الثالث: آراء متأخري الحنابلة في المصلحة:
ا - عبد القادر بن بدران:
قال: (والمختار عندي اعتبار المصالح المرسلة، ولكن الاسترسال فيها وتحقيقها يحتاج إلى نظر سديد وتدقيق، وإني أرى غالب الأحكام في أيامنا التي نحن فيها مسالكة على ذلك الأصل ومهيئة لقبوله سخطنا أم رضينا) . . . إلى أن قال: (من ذلك ما يقوله الحنابلة بالرجوع إلى العرف في القبض والحرز وكل ما لم يرد من الشرع تحديد فيه) (1) .
وجعل العرف في ما لم يرد تحديده في الشرع من باب المصلحة المرسلة ليس بسديد.
2 - الدكتور عبد الله التركي:
عرف أولا المصلحة ثم ذكر أقسامها وحصر الخلاف في المصلحة المرسلة ثم قال: (والخلاصة أن المصالح على القول بها لدى الحنابلة أو غيرهم ليست عملا بالرأي وحده وكل ما أفتى
__________
(1) شرح روضة الناظر '' نزهة الخاطر العاطر ''، 1 \ 416.(47/287)
به الأئمة بناء على المصلحة فإنما هي مصلحة شهد الشرع لجنسها بالاعتبار وذلك اعتبار لها في الجملة) .
قال: (والذي أرجح وأراه أخيرا أن بناء الأحكام على المصلحة ليس مقصورا عليها فقط، بل لا بد أن يكون الشارع اعتبر جنس هذه المصالح فلا يترك تحديد ما هو مصلحة أو مفسدة للبشر فهم لا يستطيعون ذلك استقلالا دون سند من شرع الله، ولو قلنا أن البشر يستطيعون تحديد المصالح والمفاسد ثم يبنون عليها الأحكام وتكون تشريعا في حقهم لأجزنا لهم وضع التشريعات، ثم إن القول بأن هناك مصالح أغفلتها الشريعة طعن في كمالها وشمولها وعمومها وقد دلت الأدلة القاطعة على إكمال الله للدين، وحفظه من التغيير والتبديل، وعليه فإذا كان جنس المصلحة قد اعتبره الشارع جاز بناء الحكم عليها إذا لم يوجد أي دليل آخر مقدم عليها.
ولا يجوز للمسلم أن يتصرف في تشريع ما لم يجعل الله له ذلك الحق، وكثير من الأمور المبنية على المصالح كالسياسة الشرعية والولايات العامة والخاصة والأنظمة كل هذه قد أعطى الله أصحابها حقوقا يتصرفون في دائرتها وإن لم ينص على جزئيات التصرف) (1) .
فخلاصة كلامه: العمل بالمصالح المرسلة بشروط:
1 - عدم معارضة دليل آخر لها.
__________
(1) أصول مذهب الإمام أحمد، (432) وما بعدها.(47/288)
2 - اعتبار الشارع لجنس المصلحة، بمعنى أن تكون ملائمة لتصرفات الشارع.
3 - أن لا يكون للأهواء والشهوات فيها مدخل.
4 - أن يكون القائمون على تحديدها هم أهل الفقه والدين والعلم بالشريعة.
3 - شيخنا الدكتور عبد الرحمن الدريويش:
ذهب - وفقه الله في رسالته - عن المصالح المرسلة إلى: أن المصالح المرسلة محتج بها في الشرع، ومحتج بها عند الأئمة ودلل لذلك.
واشترط لاعتبارها والعمل بها:
1 - أن لا تخالف نصا من الكتاب أو السنة أو إجماعا.
2 - أن تكون ملائمة لتصرفات الشرع.
3 - أن يكودن تحديدها من العلماء.
4 - شيخنا الدكتور عبد العزيز الربيعة:
قسم المصالح المرسلة إلى: ما شهد الشرع باعتباره، وما شهد بإلغائه، وما لم يشهد له باعتبار ولا إلغاء.
فما شهد الشارع باعتباره فهو حجة لا إشكال فيه، وما شهد بإلغائه فليس بحجة اتفاقا، لأن في اعتبارها مخالفة لنصوص الشرع، وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير حدود الشرائع ونصوصها، ومن أمثلة هذا القسم القول بتساوي الأخ وأخته في(47/289)
الميراث، ثم تكلم عن مذهب الطوفي وخرقه الإجماع وأدلته ومناقشتها.
ثم ذكر النوع الثالث من المصلحة، وهو ما لم يشهد له الشرع باعتبار ولا بإلغاء، بل سكتت عنها الشواهد الخاصة في الشرع (أي النصوص المعينة) التي تدل على أحد الأمرين الاعتبار أو الإلغاء، وهو المصلحة المرسلة.
وجعلها نوعين: ما ورد على وفق النص، والملائم لتصرف الشرع. ثم تكلم عن الاستصلاح معناه وأمثلته، ثم تكلم عن حكمه فقال: (اتفقت كلمة العلماء على أنه لا يجوز الاستصلاح في أحكام العبادات؛ لأنها تعبدية، والمقدرات لأنها مثل العبادات كالحدود والكفارات وفروض الإرث. . .
وإنما اختلف العلماء في حكم الاستصلاح فيما عدا أحكام العبادات والمقدرات، وذكر المذهب الأول بالمنع ونسبه للمتأخرين، والمذهب الثاني بناء الأحكام على المصالح بشرطين:
1 - أن تثبت المصلحة بالبحث وإمعان النظر والاستقراء أنها مصلحة حقيقية لا وهمية.
2 - أن تكون المصلحة عامة؛ لأنها مقصودة للشارع بخلاف المصلحة الشخصية. ونسب هذا القول للأئمة الأربعة وغيرهم.(47/290)
والمذهب الثالث للغزالي العمل بها في الضروريات دون الحاجيات والتحسينيات. وحرر مذهبه، ودلل لكل قول وناقش كثيرا من هذه الأدلة) (1) .
ثم قال: (المذهب الراجح هو القول بحجية الاستصلاح سواء كانت المصلحة التي يراد بناء الحكم عليها واقعة في مرتبة الضروريات أم في مرتبة الحاجيات أم في مرتبة التحسينيات، وأن المصلحة المرسلة أصل مستقل برأسه في بناء الأحكام عليها، وهي داخلة ضمن مقاصد الشرع وراجعة إلى حفظ مقصد من مقاصده، وليست راجعة إلى الأصول الاجتهادية الأخرى المتفق عليها بل هي آخذة صفة الاستقلال. . .) .
ثم قال: (بل إن الاستصلاح هو أخصب الطرق التشريعية فيما لا نص فيه، وأكثرها أهمية، إذ فيه المتسع لاستنباط الأحكام التي تقتضيها تطورات الخلق، وفيه الغناء لما يحقق مصالحهم وحاجاتهم. لكنه يحتاج إلى مزيد الاحتياط في توخي المصلحة وشدة الحذر من غلبة الأهواء؛ لأن الأهواء كثيرا ما تزين المفسدة فتراها مصلحة، وكثيرا ما يغتر بما ضرره أكبر من نفعه) (2) .
5 - الدكتور صالح المنصور:
قال: (ونختار. . العمل بالمصلحة المرسلة متى كانت ملائمة لتصرفات الشرع ولم تعارض نصا. . . .، فإن كان ثم
__________
(1) أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، 191 - 257.
(2) أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، 257، 258.(47/291)
معارضة فالمصلحة باطلة ملغاة) .
ثم قال: (ولقد راعى الشارع مبدأ المصالح في تشريع الأحكام وذلك مما يغلب على الظن اعتبار المناسب المرسل فيجب العمل به لأن العمل بالظن واجب، وأيضا فإن المصالح التي ألغاها الشارع نظرا لما تجره من المفاسد قليلة) .
ثم قال: (وإننا نستطيع أن نقول: يكاد العلماء أن يتفقوا على القول بها فهم يقولون برعاية الأحكام الشرعية للمصالح فكل حكم شرعي مربوط بحكمته، وأن الحكمة هي التي دعت إلى تقريره، ومرجع هذه الحكمة إلى جلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم، وهذه الحكمة ظاهرة في أكثر الأحكام خصوصا المعاملات وقد تخفى في بعض العبادات) (1) .
6 - رأي غريب:
ذهب أحد المعاصرين إلى اعتبار المصلحة مطلقا وتقديمها على النصوص بدعوى أن هذا تقديم للنصوص الكلية على النصوص الجزئية (2) .
وهذا صادر من غير المجتهدين، فلا ينظر إليه ولا يعول عليه ولا عبرة به إطلاقا، فإنه ليس لديه آلة هذا الشأن، فإذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل، بل الإجماع منعقد على أن العامي يعصي الله بمخالفة العلماء وأن مخالفة العلماء في حقه
__________
(1) أصول الفقه وابن تيمية، 2 \ 600 - 602.
(2) جريدة الشرق الأوسط، عدد 4035 في 15 \ 12 \ 1989م.(47/292)
حرام (1) فكيف يكون الهدى والإصابة في قول محرم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ذم الرؤساء الجهال الذين يفتون بغير علم فيضلون ويضلون. والأخبار تقتضي إيجاب مراجعة العلماء، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) ، وعلى فرض تعارض النصوص الكلية العامة والنصوص الجزئية الخاصة، فإن ذلك لا يفيد اطراح النصوص الجزئية الخاصة، بل يعمل بها في مكان خصوصها.
__________
(1) إحكام الفصول، 392.
(2) سورة النحل الآية 43(47/293)
الفصل الثاني: حكم المصلحة عند الحنابلة
المبحث الأول: حكم المصلحة المعتبرة:
قال ابن قدامة: (ما شهد الشارع باعتباره فهذا هو القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص أو الإجماع) (1) . اهـ.
وهذا فيه نظر؛ لأن المصالح المعتبرة: المصالح التي تتعلق بأحكام منصوص عليها كحل البيع.
قال الدكتور عبد العزيز الربيعة: (ما شهد الشارع باعتباره فهو حجة لا إشكال في صحته إذ المصلحة في هذا يرجع حاصلها كما يقول الغزالي إلى القياس. . . والدليل قائم باعتباره، فإنه
__________
(1) روضة الناظر، 169.(47/293)
نظر في كيفية استنباط الأحكام من الأصول المثمرة، ومثال ذلك: حفظ العقل فإنه مصلحة اعتبرها الشارع، فرتب عليها تحريم الخمر حفظا له، فيقاس على الخمر في التحريم كل ما أسكر من مشروب أو مأكول حفظا لهذه المصلحة.
وكذلك حفظ النفس فإنه مصلحة اعتبرها الشارع فرتب عليها وجوب القصاص في القتل بالمحدد، وجعل لانضباط ذلك أوصافا وهو أن القتل عمدا عدوانا، فيقاس على القتل بالمحدد في وجوب القصاص القتل بالمثقل بجامع القتل العمد العدوان حفظا لمصلحة حفظ النفس) (1) . اهـ
ومما لا جدال فيه أن المصلحة التي اعتبرها الشارع متفق على اعتبارها.
__________
(1) أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، 191 - 192.(47/294)
المبحث الثاني: المصلحة الملغاة:
ا - آراء الحنابلة فيها:
جميع العلماء على أن ما يتوهم أنه مصلحة إذا كان يخالف الأدلة الشرعية فإن المصلحة لاغية لا عبرة بها، وقد وقع الإجماع على ذلك عدة قرون، فتتابعت العصور على عدم اعتبار ما يظن كونه مصلحة إذا كان يخالف دليلا من الأدلة الشرعية.
وخرق الطوفي هذا الإجماع، فقال بتقديم المصلحة على النصوص من باب التخصيص والبيان، وساق أدلة على مذهبه نسوقها:
أدلة الطوفي:
الدليل الأول: حديث: «لا ضرر ولا ضرار (1) »
__________
(1) هذا الحديث ورد من طرق: (1) حديث ابن عباس رواه عن عكرمة: أولا: داود بن الحصين عن عكرمة: أ - إبراهيم بن إسماعيل عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس. أبو يعلى 4 \ 397، والدارقطني 4 \ 228، وإبراهيم بن إسماعيل هو ابن حبيبة ضعيف وداود ثقة إلا أن روايته عن عكرمة منكرة. ب - من طريق أحمد بن رشدين ثنا روح بن صلاح ثنا سعيد بن أبي أيوب عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس موقوفا عليه. رواه الطبراني 11 \ 228 وفيه أحمد بن رشدين متهم. [في المعجم الكبير] . ثانيا: جابر عن عكرمة عن ابن عباس: أنا معمر عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس: وفيه جابر الجعفي ضعيف، أحمد 1 \ 313، والبيهقي 6 \ 69، والطبراني في الكبير 11 \ 302، وابن ماجه 2 \ 784 برقم (2341) . ثالثا: سماك عن عكرمة: قال الزيلعي في نصب الراية 4 \ 384: وله طريق آخر رواه ابن أبي شيبة حدثنا معاوية بن عمرو ثنا زائدة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا وبحثت عنه في مظانه في المصنف فلم أجده، ورواية سماك عن عكرمة مضطربة. (2) حديث عبادة بن الصامت: رواه عبد الله بن أحمد في مسند والده (5 \ 327) وابن ماجه 2 \ 784 برقم (2340) من طريق فضيل بن سليمان ثنا موسى بن عقبة ثنا إسحاق بن يحيى بن الوليد عن عبادة بن الصامت مرفوعا وفيه إسحاق بن يحيى مجهول الحال، قال في زوائد ابن ماجه؛ منقطع؛ لأن إسحاق بن الوليد قال الترمذي وابن عدي: لم يدرك عبادة بن الصامت. اهـ (3) حديث عائشة - رضي الله عنها -: أ - حديث عمرة: رواه الدارقطني 4 \ 227 بسنده عن الواقدي نا خارجة عن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة مرفوعا. وفيه الواقدي متروك، وشيخه خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت مختلف فيه. حديث القاسم بن محمد وورد من طريقين: الأول: رواه الطبراني في الأوسط 1 \ 192: حدثنا أحمد بن رشدين، قال حدثنا روح بن صلاح قال حدثنا سعيد بن أبي أيوب عن سهل عن القاسم بن محمد عن عائشة مرفوعا. وفيه أحمد بن رشدين قال ابن عدي تركوه (مجمع الزوائد 4 \ 110) وروح بن صلاح ضعيف. الثاني: رواه الطبراني في الأوسط أيضا 2 \ 23: حدثنا أحمد قال حدثنا عمرو بن مالك الراسبي قال حدثنا محمد بن سليمان بن مسمول عن أبي بكر بن أبي سبرة عن نافع بن مالك قال: حدثنا أبو سهيل عن القاسم بن محمد عن عائشة مرفوعا. وأبو بكر بن أبي سبرة ضعيف رمي بالوضع. (4) حديث أبي سعيد الخدري: ورد من طريق عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن حدثني عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. رواه الحاكم 2 \ 57 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي ورواه الدارقطني 4 \ 77 و 4 \ 228 والبيهقي 6 \ 69 وفيه علتان: 1 - ما قاله البيهقي بعد روايته للحديث (6 \ 70) تفرد به عثمان بن محمد بن الدراوردي، وقد أخرجه ابن عبد البر في التمهيد عن أبي علي الحسن بن سليمان الحافظ المعروف بقبيطة، عن عبد الملك بن معاذ النصيبي عن الدراوردي به، لكن عبد الملك هذا لا يعرف له حال ولا يعرف من ذكره، انظر نصب الراية 4 \ 385. 2 - أن الداروردي متكلم في حفظه وقد خالفه الإمام مالك فرواه في الموطأ برقم (1426) عن عمرو بن يحيى المزني عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فخالفه الدراوردي فمخالفة الدراوردي لمالك إما شاذة أو منكرة. (5) حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: رواه الدارقطني 4 \ 228: نا أحمد بن محمد بن زياد نا أبو إسماعيل الترمذي نا أحمد بن يونس نا أبو بكر بن عياش قال أراه قال عن ابن عطاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا. وأعل بأمرين: 1 - قال الزيلعي (4 \ 385) عليه: وأبو بكر بن عياش مختلف فيه. اهـ، وروايته هنا عن غير الشاميين فهي مردودة. 2 - إن في إسناده ابن عطاء يعقوب وهو ضعيف. (6) حديث ثعلبة بن أبي مالك: رواه الطبراني في الكبير 2 \ 86 بسنده عن إسحاق بن إبراهيم مولى مزينة عن صفوان بن سليم عن ثعلبة بن أبي مالك مرفوعا. ورواه أبو نعيم في الحلية 9 \ 76 وفيه إسحاق بن إبراهيم لا يعرف. (7) حديث جابر بن عبد الله: قال الزيلعي 4 \ 386: روى الطبراني في المعجم الأوسط حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل ثنا حبان بن بشر القاضي قال: ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر بن عبد الله مرفوعا. قال في مجمع الزوائد 4 \ 110: وفيه ابن إسحاق وهو ثقة لكنه مدلس. اهـ والحديث رواه أبو داود في المراسيل مرسلا (منقطعا) عن أبي لبابة. (8) حديث أبي لبابة: قال أبو داود في المراسيل ص (207) : عن محمد بن عبد الله القطان عن عبد الرحمن عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن أبي لبابة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: '' فإنه لا ضرر في الإسلام ولا ضرار ''. وذكر فيه قصة له. والحديث منقطع وفي سنده ابن إسحاق. (9) عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه: رواه مالك في الموطأ برقم (1426) باب القضاء في المرافق عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: '' لا ضرر ولا ضرار ''، ورواه عن الشافعي في سنده 2 \ 134 و 2 \ 165 والسند صحيح لكنه منقطع فيحيى لم يدرك أبا أمامة. (انظر نصب الراية 4 \ 384 - 386) وسلسلة الأحاديث الصحيحة 1 \ 443 - 448) .(47/295)
فالضرر والمفاسد منتفية شرعا.(47/296)
ولو كان ذلك الضرر في اتباع النصوص فإن الضرر يزال(47/297)
شرعا، مما يدل على تقديم المصالح على النص، فنفي الضرر والضرار يستلزم رعاية المصلحة، فيجب تقديمها إذن على جميع الأدلة عملا بهذا الحديث.
وأجيب:
أ - بأن الحديث فيه ضعف وأحسن درجاته أن يكون حسنا لغيره، فيكون من أقل درجات الحديث المقبول، فكيف يقدم على جميع الأدلة الشرعية.
ب - أن هذا الحديث خبر آحاد، وغيره من الأدلة متواتر نقلا ومعنى، ولا يقول عاقل بتقديم خبر آحاد على المتواتر.
ج - أن الحديث نفي للضرر والضرار، والضرر هو كل ما عده(47/298)
الشارع كذلك، فالأحكام الشرعية لا ضرر فيها، فلا تعارض بينها وبين الحديث، فكل له مجال يخالف الآخر، إذ الحديث نهي للعباد بطريق النفي عن الإضرار بالغير، كما قال تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} (1) .
د - أن الحديث عام، والأدلة الشرعية الأخرى في مجالها خاصة، وإذا تقابل العام والخاص قدم الخاص فيما يختص به.
هـ - أن هذا الاستدلال مبني على أن المصالح يتصور أن تعارض النصوص وهو خطأ ظاهر.
الدليل الثاني: أن الشرع اهتم بالمصلحة جملة وتفصيلا وبنى عليها الأحكام، فإن أحكام الله معللة بمصلحة العباد، فيجب علينا أن نسير على هذا المنهج فنحكم بالمصالح ولو خالفت النصوص.
وأجيب:
بأن هذا الدليل مبني على تضمن أحكام الشرع للمصالح، وأصل المسألة حكم النصوص التي تعارض المصالح، فالدليل يخالف الدعوى ويبطلها.
الدليل الثالث: قال: من المحال أن يراعي الله - عز وجل - مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية فهي أولى، كيف وهي من مصلحة معاشهم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 233(47/299)
وأجيب:
أ - أن هذا الاستدلال اعتراض على الله في فعله، والله عز وجل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ب - أن مقتضى هذا الدليل تضمن الأحكام الشرعية للمصالح، فإذا كانت الأحكام الشرعية متضمنة للمصالح فكيف يوجد التعارض بينهما.
الدليل الرابع: أن رعاية الشارع للمصلحة محل وفاق، والإجماع محل خلاف، والتمسك بما اتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه.
وأجيب:
أ - أن هذا الاستدلال مبني على الإجماع على المصلحة، وهو يتضمن في نفسه تضعيف دليل الإجماع. وهذا تناقض.
ب - لا تلازم بين القول برعاية المصالح، وبين تقديم رعاية المصالح على الإجماع، فالمسألتان تختلف كل واحدة منهما عن الأخرى، وكل من قال بالمصلحة قدم الإجماع عليها.
ج - أن الخلاف في المصالح قديم معروف، ولا وجه لإنكار هذا الخلاف، فالقائلون بالإجماع وحجيته أكثر من القائلين برعاية المصالح.
د - أن المخالف في الإجماع شذاذ، كالشيعة، وبعض الخوارج(47/300)
والنظام، وهم محجوجون بالأدلة الشرعية الكثيرة الدالة على اعتباره.
هـ - أن الشيعة لا يقولون برعاية المصالح؛ لأنها رأي، والدين لا يقال بالرأي وإنما يتلقى عن المعصوم، والخوارج مختلفون في أمرها، وهم يقولون: إن الحكم إلا لله، ونقل عن النظام جواز اجتماع الأمة على الرأي والقياس، ورعاية المصالح تعتمد على الرأي والقياس، فكيف يقول النظام برعاية المصالح.
وأن المتفق عليه هو رعاية الشارع للمصلحة، والمراد بالبحث هنا هو اتباعنا للمصلحة المخالفة للنصوص الشرعية، وفرق بين رعاية الشارع للمصلحة وبين اتباع المصالح المخالفة للنصوص.
ز - أن الدليل مبني على أن الشارع رعى المصالح، ومعناه: أنه استقصاها فلم يبق شيء منها لم يرعه، فنصوصه راعية للمصالح، فالمصالح والنصوص دائما مجتمعة فكيف يتصور التعارض بين النصوص وما تضمنته من المصالح.
الدليل الخامس: أن النصوص سبب للخلاف في الأحكام، لأن كثيرا منها متعارض والمصلحة سبب للاتفاق؛ لأنها لا تختلف، واتباع ما يؤدي إلى الاتفاق مقدم على ما يؤدي إلى(47/301)
الخلاف إذ الخلاف مذموم شرعا.
وأجيب:
أ - أن النصوص يصدق بعضها بعضا فلا تتعارض، فقد نفى الله عز وجل عنها الاختلاف والتناقض، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (1) .
ب - أن المصالح مختلفة باختلاف الآراء والأهواء والأزمنة والأمكنة، بخلاف النصوص فهي لا تختلف باختلاف ذلك.
ج - أن هذا الاستدلال مبني على دعوى اختلاف النصوص، سواء ما كان في العادات أو العبادات أو المعاملات، فهذا يقضي أن تعطى النصوص كلها نتيجة واحدة من أجل هذا الاختلاف والتعارض، لكننا نراه يفرق بين أحكام المعاملات - فيجعل المصالح أولى من النصوص - وبين العبادات فيجعل النصوص مقدمة على المصالح.
الدليل السادس: أن هناك نصوصا قدمت المصلحة على النصوص، ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بعد الأحزاب: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة (2) » ، فصلى بعضهم قبلها، فقررهم على ذلك إذ فيه تقديم المصلحة
__________
(1) سورة النساء الآية 82
(2) رواه البخاري 7 \ 408 كتاب المغازي: باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب، ومسلم (1770) كتاب الجهاد والسير: باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين.(47/302)
(مصلحة إدراك الوقت) على النص، وحديث: «لولا أن قومك حديثوا عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة (1) » .
وهذا يدل على أن بناءها على قواعد إبراهيم هو الواجب، فتركه لمصلحة الناس. وذكر في ذلك آثارا عن الصحابة.
وأجيب:
أ - أن المصلحة أن الإمام مطاع في كل أوامره، وأن الشرع يقدم على أهواء الناس، ولكنه ترك هذه المصلحة هنا للنصوص.
ب - أن هذه القضايا حصلت في أمور العبادة، والطوفي لا يقول بتقديم المصالح على النصوص في أمور العبادات.
ج - أن المعارضة هنا ليست بين النصوص والمصالح، بل بين النصوص والنصوص، إذ من السنة إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم -.
د - ما ذكر من الآثار ما هي إلا اختلاف في الأفهام، واجتهادات الصحابة منها ما أقروا عليها، ومنها ما لم يقروا عليها، وقول الصحابي إذا خالف النص فلا عبرة به، وهذه المعارضة التي سلكها الصحابة رضوان الله عليهم لم تكن
__________
(1) أخرجه مسلم (1333) كتاب الحج باب نقض الكعبة وبنائها، عن عائشة - رضي الله عنها -(47/303)
من قبيل النظر في المصلحة المجردة عن الدليل، بل إنهم يستندون في ذلك إلى أدلة أخرى، فهذا اجتهاد في النصوص.
تنبيه:
الطوفي بنى رأيه على فرض تضمن بعض النصوص ضررا يعارض مصلحة راجحة، وهذا خطأ وباطل، وعليه فتقديم المصلحة على النص والإجماع محال غير متصور الوقوع، فإن فرض مخالفة المصلحة للكتاب والسنة والإجماع مجرد فرض لا واقع له، ويشهد لذلك أنه لم يقدم لما فرضه مثالا واحدا من الواقع، والأعجب من هذا أن الطوفي نفسه قد مهد لبيان كون هذا محالا إذ ساق الأدلة على أن كتاب الله جاء مهتما بمصالح الخلق متضمنا لها واستدل لذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (2) ، وذكر سبعة وجوه لدلالتها على ذلك (3) .
3 - أدلة الجماهير:
الدليل الأول: أن النصوص الشرعية قد اشتملت على المصالح الراجحة فلا يحتمل أن تعارض المصلحة مطلقا.
__________
(1) سورة يونس الآية 57
(2) سورة يونس الآية 58
(3) أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، ص (127) .(47/304)
الدليل الثاني: لو فتح باب تغيير الأحكام الثابتة بالنصوص استنادا للمصالح، لكان في ذلك اندراس معالم الدين بالكلية، فهذا القول يفتح مجال العبث واللعب بأدلة الشريعة وأحكامها، بحجة المصلحة بل قد يبيح الزنا وبعض المعاملات الربوية وبعض المسكرات، وتوضع القوانين البشرية وتوجد المحرمات ويحارب شرع الله بحجة المصلحة المزعومة، أعاذ الله الأمة الإسلامية من ذلك (1) .
الدليل الثالث: أن النصوص مراعية للمصالح بالإجماع، فلا سبيل لتعارض المصالح مع النصوص.
الدليل الرابع: أن العلماء مجمعون من العصور الأولى إلى عصر الطوفي على أن العبرة بالنصوص، ولا يلتفت لما يتوهم كونه مصلحة ما دامت معارضة للنصوص.
الدليل الخامس: قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (2) فقد أثبت مصالح في الخمر والميسر ومع ذلك فهما محرمان بالاتفاق لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) .
__________
(1) أصول الفقه وابن تيمية، ص (464) .
(2) سورة البقرة الآية 219
(3) سورة المائدة الآية 90(47/305)
المبحث الثالث: المصلحة المرسلة:
1 - تحرير محل النزاع:
أ - نقل كثير من العلماء عدم جواز الاستصلاح في أحكام العبادات، لأنها تعبدية وليس للعقل سبيل إلى إدراك المصلحة الجزئية لكل منها.
وكذا لا يجوز اللاستصلاح في أحكام المقدرات كالحدود والكفارات وفروض الإرث وشهور العدة بعد الموت أو الطلاق، لأنها مثل أحكام العبادات حيث استأثر الشارع بعلم المصلحة فيما حدد به.
واختلف العلماء في بناء الأحكام على المصلحة المرسلة فيما عدا أحكام العبادات والمقدرات.
ب - حكى ابن قدامة في "روضة الناظر" (1) . الاتفاق على عدم جواز بناء الأحكام على المصالح المرسلة في رتبة الحاجيات والتحسينيات، وحصر الخلاف فيما كان في رتبة الضروريات.
ويلاحظ عليه عدم الضابط الدقيق الذي يمكن به
__________
(1) روضة الناظر، ص (169) .(47/306)
معرفة الضروريات من الحاجيات، ثم إن النزاع موجود أيضا في رتبة التحسينيات والحاجيات.
2 - منشأ الخلاف:
قال د. التركي: معظم الغموض في هذه القواعد منشؤه الاكتفاء بالتراجم والمعاقد دون التهذيب بالأمثلة (1) .
وقال د. صالح المنصور: هذا النوع - المصالح المرسلة - لم يذكر له العلماء مثالا صحيحا مطابقا له، بل يكاد يكون متعذرا إذ أن المصالح التي قال بها الأئمة مصالح مشهود لجنسها بالاعتبار، ولا يتصور أن توجد واقعة مسكوت عنها في الشرع، لأنه يلزم منه عدم إكمال الدين والنعمة، وهذا خلاف ما أخبر الله به (2) .
وقال الغزالي: والصحيح أن الاستدلال المرسل في الشرع لا يتصور حتى نتكلم فيه بنفي أو إثبات، إذ الوقائع لا حصر لها وكذا المصالح، وما من مسألة تفرض إلا وفي الشرع دليل عليها إما بالقبول أو بالرد، فإنا نعتقد استحالة خلو واقعة عن حكم الله تعالى (3) .
3 - نوع الخلاف:
قال د. صالح المنصور: في الواقع أن الذين يعتبرونها -
__________
(1) أصول مذهب الإمام أحمد، ص (414) ، وإرشاد الفحول، ص (208) .
(2) أصول الفقه وابن تيمية، ص (459) .
(3) المنخول، ص (395) .(47/307)
المصالح - لا يعتبرونها أصلا قائما بذاته من غير أن يكون دالا على اعتبارها نصوص الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة، فهم في الواقع يعتبرون الأصل النصوص ومقاصد الشريعة، فصار ذلك خلافا لفظيا فحسب (1) .
وقال د. عبد العزيز الربيعة: يرجع اختلاف العلماء في حكم الاحتجاج باللاستصلاح إلى الأسباب الآتية: أنهم لم يحددوا المقصود باعتبار الاستصلاح عند نقلهم الخلاف فيه، فهل المقصود اعتباره أصلا مستقلا من أصول الاجتهاد، أو المقصود اعتباره في جملة دلائل الاجتهاد الأخرى ورده إليها، فمن أنكره أنكر استقلاله، ومن احتج به أراد دخوله في دلائل الاجتهاد الأخرى (2) .
وهذا فيه نظر، فإن من نفى اعتبار المصالح لم يجعلها من جملة دلائل الاجتهاد.
4 - أقوال الحنابلة في المصالح المرسلة:
أ - جمهور متقدمي الحنابلة على عدم جعل المصلحة المرسلة أصلا شرعيا تبنى عليه الأحكام.
ب - وبعض المتقدمين وأكثر المتأخرين على جواز بناء الأحكام
__________
(1) أصول الفقه وابن تيمية، ص (469) .
(2) الأدلة المختلف في الاحتجاج بها(47/308)
الشرعية على المصالح المرسلة.
5 - أدلة اعتبارها:
الدليل الأول: أن بناء الأحكام على المصالح المرسلة فيه تحقيق لمصالح الناس، والأحكام الشرعية إنما شرعت لتحقيق مصالح الناس، فتكون الأحكام المبنية على المصلحة المرسلة شرعية، حيث إن فيها تحقيقا لمصالح الناس، وإذا كانت شرعية فالاستصلاح حجة (1) .
لكن المنازع ينازع في تحقيق المصالح بالاستصلاح، فيقول: إن الشرع بأدلته قد استكمل المصالح وقام بتحصيل جميعها، فلا حاجة لبناء الأحكام على المصالح المرسلة، وهذا يدل على عدم اعتبار الاستصلاح.
الدليل الثاني: أن الشريعة الإسلامية عامة لكل الناس وخاتمة للشرائع كلها، ومستوعبة لمصالح البشر على اختلاف وقائعهم وأمكنتهم وأزمانهم وأحوالهم، ولن يتأتى وصفها بذلك إلا إذا قلنا بأن الاستصلاح حجة.
__________
(1) مصادر التشريع، ص (90) ، أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، ص (237) ، روضة الناظر، ص (170) .(47/309)
وأجيب:
بأن الله - عز وجل - قد بين في كتابه أنه قد أكمل الدين وأتم النعمة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (1) فالشرع قد استكمل المصالح، فالمصالح مستكملة منذ ذلك الحين فلا حاجة بالاستصلاح.
الدليل الثالث: أن المصالح التي بنيت عليها أحكام المعاملات ونحوها معقولة، فقد شرع لنا ما يدرك العقل نفعه وحرم علينا ما يدرك العقل ضرره، فالحادثة التي لا حكم من الشارع فيها يكون حكم المجتهد فيها بناء على ما يدركه عقله فيها من نفع أو ضرر مبنيا على أساس معتبر من الشارع (2) .
وأجيب:
أ - بأن العقل لا يدرك نفع جميع ما شرع الشارع، ولا يدرك قدر جميع ما نهى عنه الشارع، فقد شرع لنا كل أمر فيه مصلحة راجحة، ولو لم يدركها العقل، وحرم علينا كل ما فيه مضرة راجحة ولو لم يدرك العقل ضرره.
ب - أن نظر العقل واستحسانه ليس أساسا معتبرا من الشارع مطلقا.
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، ص (240) ، مصادر التشريع فيما لا نص فيه، ص (91) .(47/310)
الدليل الرابع: إلحاق المصالح المرسلة بالمصالح المعتبرة لوجود المعنى المناسب فيه.
وأجيب:
بأن المصالح المرسلة كما أنها من جنس المصالح المعتبرة، هي أيضا من جنس المصالح الملغاة، فيؤدي إلى كون الوصف الواحد معتبرا ملغيا بالنظر إلى حكم واحد وهو محال.
ونوقش هذا الجواب: بأن ترجيح إلحاق المصالح المرسلة بالمصالح الملغاة على إلحاقها بالمصالح المعتبرة، ترجيح بلا مرجح، والأصل هو اعتبار الأوصاف لا إلغاؤها.
وردت هذه المناقشة: بأن إلحاق المصالح المرسلة بالمعتبرة ترجيح بلا مرجح، ثم الأصل هو الإلغاء للمصالح المرسلة، لأن الأصل في الأشياء أن لا تكون دليلا ولا حجة، فمن قال بخلاف الأصل فقال بكونها حجة طلب منه الدليل، فالأصل هو إلغاء حجية الأمور المستدل بها حتى تثبت حجيتها بالأدلة، والأصل لا يطلب الدليل عليه، فكان الأصل هو إلغاء المصالح المرسلة.
الدليل الخامس: أنه إذا لم يفتح باب الاعتماد على المصالح المرسلة جمد التشريع الإسلامي ووقف عن مسايرة الأزمان والبيئات.
وأجيب:
أ - أن هناك وسائل أخرى سلكتها الشريعة لتنظيم أحوال البشر(47/311)
باختلاف الأزمنة والأمكنة والبيئات، مثل القواعد العامة ووسائل تطبيقها، فيأتي المجتهد فيجتهد في تطبيقها على الوقائع الحادثة.
ب - أن هذا الاستدلال معارض بما هو مثله فيقال: أن بناء الأحكام على المصالح المرسلة، يفتح بابا للطعن في الشريعة بكونها من وضع البشر، وفيها نسبة للشريعة بالنقص.
الدليل السادس: أن الصحابة - رضي الله عنهم - ومنهم الخلفاء الراشدون عملوا بالاستصلاح فيما طرأ لهم من حوادث لم يكن فيها حكم من قبل، وليس لها نظير فتقاس عليه، فحكموا فيها بأحكام مبنية على مصالح لم يقم دليل معين على اعتبارها فدل ذلك على أن الاستصلاح حجة.
ومن تلك القضايا:
أ - جمع أبي بكر - رضي الله عنه - القرآن.، لكن هذا المثال فيه نظر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بكتابة القران وبحفظه، والجمع في مصحف واحد من باب الكتابة والحفظ، فهذا نوع من الحفظ فله أصل معين فلا يصح الاستدلال به هنا.(47/312)
ب - أن عمر جلد شارب الخمر ثمانين.، وهذا إما أنه من باب التعزير والسياسة الشرعية لما رأى الناس عتوا وفسقوا (1) .، أو قياسا على حد القذف، كما ورد عن عبد الرحمن بن عوف إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فأرى أن جلده حد الفرية.
ج - وقف عمر لتنفيذ حد السرقة عام الجماعة (2) .، وهذا قياس على المضطر فله أصله في الشريعة، والحدود تدرأ بالشبهات.
د - ما ورد عن علي - رضي الله عنه - من تضمين الصناع، لكن هذا من باب السياسة الشرعية.
هـ - قتل الجماعة بالواحد (3) .، لكن هذا يدخل ضمن النصوص العامة، كحديث: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يؤدى وإما أن يقاد (4) » . وهذا عام في القاتل الواحد والجماعة، أو من باب قياس الجماعة على الواحد.
الدليل السابع: أنه يلزم من عدم اعتبار المصلحة المرسلة
__________
(1) كما ورد مصرحا به في رواية الشيخين.
(2) رواه عبد الرزاق في المصنف 10 \ 242، وابن أبي شيبة في المصنف 10 \ 27.
(3) أخرجه البخاري، (12 \ 226) كتاب الديات: باب إذا أصاب قوم من رجل. . . من فعل عمر.
(4) أخرجه البخاري، (12 \ 182) ، ومسلم برقم (1355) ، والنسائي 8 \ 38، وأبو داود برقم (5405) .(47/313)
خلو كثير من الحوادث عن الأحكام ضرورة كون النصوص متناهية والحوادث غير متناهية، وعموم الشريعة وخلودها وعدم تفريطها في شيء يأبى ذلك (1) .
وأجيب:
بأن هذا الاستدلال يعارض قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (2) وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (3) . وإن من إعجاز النصوص كونها شملت جميع الأحكام لجميع الوقائع، إما مباشرة أو دلالة واستنباطا، فالحوادث لا يمكن خلوها من الأحكام الشرعية مطلقا.
ثم ذلك لا يستلزم العمل بالمصالح المرسلة لأنه قد يصار إلى البراءة الأصلية فلا حاجة إلى المصالح المرسلة.
6 - أدلة المانعين:
الدليل الأول: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (4) ، وقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (5) .
وجه الاستشهاد:
أ - أن بناء الأحكام على المصالح المرسلة ليس مشروعا لأن
__________
(1) أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها ص 348.
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة الأنعام الآية 38
(4) سورة النساء الآية 59
(5) سورة الشورى الآية 10(47/314)
الاستصلاح ليس كتابا ولا سنة، والآيات حصرت ما يرجع إليه في الكتاب والسنة عند الاختلاف وما كان زائدا عنهما فليس بحجة، وبهذا يتبين أن الاستصلاح ليس بحجة.
ب - أنه في هاتين الآيتين أمرنا برد المتنازع فيه والمختلف عليه إلى الكتاب والسنة. وبرد الاستصلاح إلى الكتاب والسنة لا نجده فيهما.
وأجيب:
بأن الاستصلاح يرجع إلى حفظ مقصود الشارع، فإنها وإن كانت مرسلة عن دليل معين من الشرع على اعتبارها، إلا أنها معتبرة جملة، وبهذا يكون إسناد الأحكام إلى المصالح المرسلة طريقا من طرق الرد المشروعة (1) .
الدليل الثاني: أن الشرع قد استكمل المصالح فرعاها كلها بأحكامه، لأن الدين قد أكمل في العهد النبوي قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (2) . والقول بالاستصلاح يعني: أن هناك مصالح باقية لم يكفلها الشرع، وهذا ينافي ما تقدم من إكمال الدين وإتمام النعمة.
الدليل الثالث: أن الدليل إنما يكون شرعيا إذا جعله الشرع كذلك، وليس هناك في دليل صحيح صريح على جعل الاستصلاح
__________
(1) أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها، ص 345.
(2) سورة المائدة الآية 3(47/315)
حكما شرعيا.
الدليل الرابع: أن الشرع لم يعتبر المصالح المرسلة، فالمصلحة المرسلة ليست مشروعة لعدم اعتبار الشرع لها.
الدليل الخامس: أن المصالح المرسلة مترددة بين المصالح الملغاة والمصالح المعتبرة وليس إلحاقها بأحدهما أولى من الآخر.
وأجيب:
أ - بأن هذه المصلحة وإن كانت مرسلة عن دليل معين من الشارع على اعتبارها، إلا أنها معتبرة منه على سبيل الجملة، فكان إلحاقها بالمعتبر أولى من إلحاقها بالملغي.
ب - أن عدم الاحتجاج بالاستصلاح يعني إلحاق المصالح المرسلة بالمصالح الملغاة، وليس إلحاقها بها أولى من إلحاقها بالمصالح المعتبرة إذ هو ترجيح بلا مرجح.
ورد بأن الأصل عدم كون الأمور المستدل بها أدلة حتى يأتي الدليل الصحيح على كونها أدلة، فمع ترددها بين الاعتبار والإلغاء يصار إلى الأصل وهو عدم حجيتها.
وأيضا أن ترددها بين المصالح الملغاة والمعتبرة يلزمنا بالتوقف فيها ومعنى التوقف فيها عدم استخدامها دليلا.
الدليل السادس: أن في العمل بالمصالح المرسلة مجالا(47/316)
للأهواء والشهوات والأغراض فقد يغلب على المرء هواه فيرى المفسدة مصلحة والمضرة منفعة، فالإنسان مهما كمل لا يأمن أن يغلب هواه عليه وأن يزين له السوء ويجعله حسنا.
الدليل السابع: أن العقل قد تخفى عليه بعض وجوه الضرر والفساد، فالعقل مهما نضج لا يأمن من أن يخفى عليه بعض وجوه النفع والضرر.
الدليل الثامن: أن بناء الحكم على المصالح المرسلة بدون العلم بأن الشارع أثبت الأحكام حفظا لهذه المصلحة وضع للشرع بالرأي وحكم بالعقل المجرد وما كان كذلك فلا يصح التمسك به، فالاستصلاح ليس بحجة.
وكون الشارع اعتبرها بالجملة لا يعني أنه عرف من الشرع المحافظة على ذلك بكل حكم يكون طريقا من طرق المحافظة على المصلحة، فإنه لم يعرف من الشارع المحافظة على الدماء بكل طريق، ولذلك لم يشرع المثلة وإن كانت أبلغ في الردع والزجر، ولم يشرع القتل في السرقة، فإذا ثبت حكما لمصلحة من هذه المصالح لم يعلم أن الشرع حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم، كان وضعا للشرع بالرأي وحكما بالعقل المجرد (1) .
__________
(1) روضة الناظر، ص 170.(47/317)
وأجيب:
أ - بأن الشارع حافظ على كل واحدة من المصالح بالأحكام المناسبة لحفظها، لا بكل حكم يكون طريقا من طرق المحافظة عليها دون نظر للأنسب، والمجتهد في الاستصلاح مأمور ببذل جهده في اختيار الحكم الأنسب لحفظ المصلحة، وهي وظيفة منحها الله إياه وجعل تأديته لها على الوجه المطلوب أمانة في عنقه، فلا نسلبها منه بحجة أنه لم يعرف من الشارع أنه حافظ على كل واحدة من المصالح بكل حكم يكون طريقا من طرق المحافظة عليها.
ب - أن الأحكام المبنية على هذه المصالح من قبيل التعزيرات لا من قبيل الحدود، والتعزيرات لا مانع من تغييرها بتغير البيئات والأحوال والأمكنة والأزمنة حفاظا على المصلحة، أما الحدود فلا تتغير، وإذا كان كذلك بطل ما أثاروه.
الدليل التاسع: أنه لو جاز الاستصلاح لما احتجنا إلى بعثة الرسل.
الدليل العاشر: أن جواز الاستصلاح يترتب عليه مفاسد كثيرة من وضع الشرع بالرأي، ومساواة العامي للعالم في ذلك؛ لأن كل واحد يعرف مصلحته، ونسبة النقص إلى النصوص.
فإذا عملنا بالاستصلاح وجعلناه دليلا شرعيا، فإن مما يدل عليه عدم الاحتجاج بالاستصلاح ذاته لما يترتب عليه من أضرار.(47/318)
وهذا استدلال ضعيف؛ لأنه احتجاج بالاستصلاح على عدم حجيته.
الدليل الحادي عشر: أن القول ببناء الأحكام على المصالح المرسلة حصل منه اضطراب في الدين عظيم، فكثير من الأمراء والعلماء والعباد رأوا مصالح فاستعملوها بناء على هذا الأصل وقد يكون منها ما هو محظور في الشرع ولم يعلموه.
فالقول بالمصالح المرسلة يشرع في الدين ما لم يأذن به الله غالبا. بل إن النصارى إنما ضلوا بجعل المصالح من شرعهم (1) .
الدليل الثاني عشر: أن القول بالاستصلاح يشبه في كثير من الوجوه التحسين العقلي، فالتحسين العقلي قول بأن العقل يدرك الحسن وحده، والحسن هو المصلحة. فالقول بالاستصلاح من جنس قول المعتزلة بالتحسين العقلي.
الدليل الثالث عشر: أن العقول تختلف فبعض العقول تجعل المصلحة في جانب، وعقول أخرى تجعل المصلحة في جانب مناقض له، فأيهما يعتمد والمصالح أمور تقديرية تختلف باختلاف الآراء والعقول والبيئات.
__________
(1) مجموع فتاوى شخ الإسلام ابن تيمية، 11 \ 342.(47/319)
7 - شروط اعتبار المصلحة عند من قال بها:
1 - عدم معارضة دليل أقوى منها من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس.
2 - اعتبار الشارع لجنس المصلحة، فتكون المصلحة المرسلة ملائمة لتصرفات الشرع. وإن لم يكن لها أصلا معينا.
3 - أن يكون المحدد للمصلحة مجتهدا؛ لأن تقدير المصالح من باب الاجتهاد وشروط الاجتهاد لا بد من توفرها فيه.
4 - أن تكون المصلحة حقيقة لا وهمية، ويعرف ذلك بإنعام النظر والبحث والاستقراء.
5 - أن تكون المصلحة عامة لا شخصية.
6 - أن لا يكون للأهواء والشهوات فيها مدخل.
7 - أن لا تكون في العبادات ولا في المقدرات.
قال الذين يحتجون بالمصالح المرسلة: إنه باستكمال المصلحة لهذه الشروط لا يبقى لمن منع الاحتجاج بها دليل صحيح. مما يدل على حجية الاستصلاح.
وهذا فيه نظر من جهتين:
الأولى: أن هناك أدلة للمانعين من الاحتجاج بالمصالح المرسلة لا تزول، كالاستدلال باستكمال الشرع للمصالح،(47/320)
والاستدلال بخفاء وجوه الضرر والصلاح، وشبه الاستصلاح بالتحسين العقلي، واختلاف العقول.
الثاني: أن المانعين للاحتجاج بالاستصلاح يكفيهم التمسك بالأصل، فالأصل عدم حجية ما يستدل به الخصم، حتى يقيم الخصم الدليل الصحيح القوي.
8 - الترجيج:
بالنظر في أدلة الفريقين: وجدت أنه لا حاجة إلى تقرير الاستصلاح دليلا مستقلا، بل يكفي عنه عدة قواعد أخرى صحيحة منها:
أ - ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ب - الوسائل لها أحكام المقاصد.
ج - الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة.
د - تصرف الإمام منوط بالمصلحة. (ومثله أهل الولايات في ولاياتهم) .
هـ - صحة العمل بالقرائن في الأحكام والقضية.
9 - ثمرة الخلاف:
ذكر في: " تخريج الفروع على الأصول " مثال واحد لهذه المسألة (المسألة السادسة من كتاب الجراح) ، وذكر الدكتور مصطفى الخن في: " أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في(47/321)
اختلاف الفقهاء" مثالين، والدكتور مصطفى البغا في: " أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي " ذكر خمسة عشر مسألة ردها إلى الاختلاف في الأخذ بالمصلحة المرسلة، ويمكن رد النزاع في جميع هذه الأمثلة إلى أصول أخر.
هذا ما يبدو لي والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.(47/322)
مفاسد القول بالمجاز
الشيخ \ مصطفى بن عيد الصياصنة.
للقول بالمجاز مفاسد كثيرة، وأخطار عظيمة - في مجال العقيدة وطريقة فهم كتاب الله العزيز - قد لا يفطن إليها، إلا بعد تدقيق النظر، وإعمال بارق الذهن، واهتداء نافذ البصيرة.
فالمجاز، صنعة اعتزالية كلامية محضة، تقوم على أساس صرف الألفاظ العربية عن منطوقها، وتحويل هذا المنطوق عن دلالاته المألوفة المعهودة، عند العرب ولدى رجالات الصدر الأول في الإسلام.
هذا بالإضافة إلى كونه التكأة التي اعتمد عليها لتعطيل صفات الخالق، وإنكار حقائق أقواله وأفعاله سبحانه، ولي عنق مفهوم الإيمان عن دلالته ومعناه، وتشويش دلالات آيات الكتاب الحكيم في أذهان عامة المسلمين.
وسوف نحاول - هنا - الوقوف على أهم هذه المفاسد الناجمة عن القول به، وإقرار وجوده في القرآن الكريم ولغة العرب، منبهين على ما له من أخطار، تركت بصماتها واضحة في مجال النيل من أصول هذا الدين الحنيف، وزعزعة - بل وتحطيم - مرتكزاته المثلى، باعتباره الطاغوت الرديف لطاغوتي:(47/323)
التأويل، وتقديم العقل على النقل والتحاكم إليه، في مجالات العقيدة والتشريع والتفسير والاجتهاد.(47/324)
القول بالمجاز بدعة ضلالة:
فالقول بالمجاز بدعة محدثة واصطلاح حادث، ما عرف إلا بعد القرون الثلاثة الأولى، المشهود لها بالخيرية.
فما نقل عن أحد من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - ولا من التابعين، ولا من تابعيهم بإحسان، أنه قال به، أو أشار إليه.
كما لم يتكلم به أحد من الأئمة المشهورين في العلم؛ كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، أو الليث بن سعد.
بل ولا تكلم به أو التفت إليه أحد من أئمة اللغة؛ كالخليل بن أحمد، وسيبويه، وأبي عمرو بن العلاء، والكسائي، والفراء، وأبي زيد الأنصاري، والأصمعي، وأبي عمرو الشيباني.
وأول من تكلم بلفظ (المجاز) : أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي، المتوفى سنة 210 هـ، صنف كتابا بعنوان: (مجاز القرآن) .، إلا أنه لم يعن به قسيم الحقيقة، وإنما عنى بمجاز الآية: معناها وتفسيرها، على عادة غيره، ممن سمى كتابه في(47/324)
فهم دلالات الكتاب العزيز: (معاني القرآن) ليس غير.
كما ورد استعمال لفظ المجاز، على لسان الإمام أحمد بن حنبل، المتوفى سنة 241 هـ، في كتابه: (الرد على الجهمية والزنادقة) حيث قال - رحمه الله -:
أما قوله - سبحانه - لموسى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} (1) ، فهذا في مجاز اللغة، يقول الرجل للرجل: إنا سنجري عليك رزقك، إنا سنفعل بك كذا.
وأما قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (2) ، فهو جائز في اللغة، يقول الرجل الواحد للرجل: سأجري عليك رزقك، أو سأفعل بك خيرا. .) .
وواضح أن مراد الإمام أحمد، من استعماله لفظ (المجاز) : أن ذلك مما يجوز في اللغة، كأن يقول العظيم الذي له أعوان: إنا فعلنا كذا، وسوف نفعل كيت، لا أنه استعمال اللفظ في غير ما وضع له، وأنه خلاف الحقيقة. . ومما يؤكد مراده هذا، قوله في التعليق على الآية الثانية: (فهو جائز في اللغة) ، فدل ذلك على أنه أراد بـ (المجاز) : الجائز لغة، لا المجاز بمدلوله الاصطلاحي، الذي وضعه المتأخرون، وتعارفوا عليه.
__________
(1) سورة الشعراء الآية 15
(2) سورة طه الآية 46(47/325)
وإن أول من تكلم بالمجاز - بمعناه الاصطلاحي، الذي هو نقيض الحقيقة - المعتزلة والجهمية ومن تبعهم من أهل الكلام، اشتهر القول به عنهم بعد المائة الرابعة للهجرة، وليس من بين من قال به منهم علم من أعلام الإسلام الذين يوثق بهم في فن من فنون الإسلام المختلفة كالتفسير، أو الحديث، أو الفقه، أو علم أصول الفقه، أو اللغة العربية.
فدل! هذا كله: على أن القول بالمجاز، إنما هو بدعة اعتزالية محضة، وصنعة كلامية صرفة، اجتهد في نشرها، والتبشير بها، وتدعيم أصولها، ووضع قواعدها، بعد المائة الرابعة؛ لتحقيق أغراض مستورة، تلتقي في نهايتها، للعمل على زعزعة أصول هذا الدين، والنيل من ثوابته، وصرف الناس عن فهم هذه الأصول وتلكم الثوابت الفهم السليم السديد، مواكبة في ذلك كله لبدعة أخرى، ظهرت هي الأخرى متزامنة معها، موافقة لها، في المصدر والنشأة، والمنهج والغرض، ألا وهي: بدعة التأويل.
هذا. . علما بأنه لو كان في القول بالمجاز والتأويل، أدنى ذرة خير، أو أدق شعرة فضل، لكان صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة أسبق الناس إليه، باعتبارهم السباقين أبدا إلى كل خير وفضل، لا أن يكون سباقا إليه أعلاج علم الكلام، وصيارفة البدع، ومتنطعوا مذهب الاعتزال.(47/326)
تعطيل الصفات:
ثم إن القول بالمجاز قاد إلى القول بتعطيل صفات الخالق سبحانه، إذ ركبه المعطلون، للوصول إلى نفي صفاته - جل وعلا - الواردة في الكتاب والسنة.
فقد جعلوا يد الله ووجهه وساقه واستواءه ونزوله وعلوه وكلامه ونوره ومجيئه. . مجازات، لا تراد بها حقائقها، ثم انطلقوا إلى نفيها، قائلين: إنه لا يد له - سبحانه - ولا ساق، ولا وجه، ولا استواء، ولا نزول، ولا علو.
قالوا: ويدا الله في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) ، وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (2) مجاز، هي بمعنى: النعمة أو القدرة.
ووجهه - جل جلاله - حيث ورد في الكتاب والسنة مجاز: إما على تقدير أنه لفظ زائد، أو أنه بمعنى الذات، ففي قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (3) وقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} (4) {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (5) يكون التقدير: ويبقى ربك، إلا ابتغاء ربه، أو: ويبقى ذات ربك، وابتغاء ذاته.
والرحمن. . الذي هو اسم من أسماء الله سبحانه، قالوا
__________
(1) سورة ص الآية 75
(2) سورة المائدة الآية 64
(3) سورة الرحمن الآية 27
(4) سورة الليل الآية 20
(5) سورة الليل الآية 21(47/327)
عنه: إنه مجاز؛ لأن الرأفة والشفقة والرحمة، إنما هي رقة تعتري القلب، وهي من الكيفيات النفسية، والله منزه عنه ذلك.
يقولون هذا، والله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} (1) ، وهل هناك إلحاد في أسماء الله أعظم من إنكار حقائقها، والتصريح بأنها مجازات!؟
قالوا: والمجيء الوارد في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (2) وقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (3) إنما هو من مجاز الحذف، وتقديره: وجاء أمر ربك.
والاستواء الوارد في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) ، مجاز، بمعنى: استولى، أو بمعنى: قصد وأقبل على خلقه، وليس هو الاستواء الذي بمعنى: استقر؛ لأن الاستواء - بهذا المعنى - لا يكون إلا للمخلوقين.
وأنكروا أن يكون الله نورا، في قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (5) ، وقالوا: هذا مجاز، معناه: منور السماوات والأرض بالنور المخلوق، أو بمعنى: هادي أهل السماوات والأرض، مع العلم أن (النور) اسم من أسماء،
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سورة الفجر الآية 22
(3) سورة البقرة الآية 210
(4) سورة طه الآية 5
(5) سورة النور الآية 35(47/328)
فهو نور وحجابه النور، وهذا ما تدل عليه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الصحيحة الثابتة.
كما وأنكروا صفة الفوقية والعلو للخالق سبحانه في قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (1) ، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (2) ، قائلين: هي مجاز، بمعنى: فوقية الرتبة والقهر، لا بمعنى: الفوقية التي هي علو ذات الشيء.
وفي قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (3) ، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (4) أنكروا أن يكون (كلام الله) بصوت وحرف على الحقيقة، وقالوا: بل هو مجاز، إذ أن الله لا يتكلم بصوت وحرف، وإلا أشبه المخلوقين، بل هو خلق كلاما أسمعه موسى.
أما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ (5) » . .، فقد قالوا: إن النزول المراد
__________
(1) سورة الأنعام الآية 18
(2) سورة النحل الآية 50
(3) سورة النساء الآية 164
(4) سورة يس الآية 82
(5) رواه البخاري (1145) في التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، ومسلم (758) في صلاة المسافرين باب الترغيب في الدعاء والذكر آخر الليل، وأبو داود (1315) في الصلاة باب أي الليل أفضل؟ ، والترمذي (3493) في الدعوات، باب رقم (80) ، ومالك في الموطأ (498) في القرآن، باب ما جاء في الدعاء. كلهم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.(47/329)
هنا: إنما هو نزول أمره سبحانه، لا نزوله هو، لأن لفظ (ينزل) هنا مجاز، لا حقيقة.
وهكذا مضوا في نفي الصفات الثابتة للخالق سبحانه بالوحي، عن طريق القول بالمجاز.
وحجتهم في ذلك كله: أن الألفاظ التي تطلق على الخالق والمخلوق، إنما تكون هي وأفعالها ومصادرها وأسماء الفاعلين والصفات المشتقة منها، حقيقة في حق المخلوق، مجازا في حق الخالق.
ولو أنا طردنا هذا القياس، فإن رب العالمين لا يكون موجودا حقيقة، ولا حيا حقيقة، ولا مريدا حقيقة، أو قادرا أو مالكا على الحقيقة؛ لأن الوجود والحياة والإرادة والقدرة والملك، هي حقائق في حق المخلوقين، فلا تكون إلا مجازات في حق خالق هؤلاء المخلوقين.
وهذا هو عينه المذهب الذي صار إليه جهم بن صفوان، ودرج عليه أصحابه من بعده.
وفي الحق أن كل من يمعن النظر في حقيقة المجاز ومآله، يجد أن هذا القول لازم لكل من ادعى المجاز في شيء من أسماء الله وأفعاله، لزوما لا محيص له عنه بحال.
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - تعليقا على هذا الذي ذهبوا(47/330)
إليه:
(فإذا كان كلام الله وتكليمه وخطابه ونداؤه وقوله وأمره ونهيه ووصيته وعهده وحكمه وإنباؤه وإخباره وشهادته، كل أولئك مجاز، لا حقيقة له، بطلت الحقائق كلها، فإن الحقائق إنما حقت بكلمات تكوينه: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (1) ، فما حقت الحقائق إلا بقوله وفعله سبحانه) (2) .
__________
(1) سورة يونس الآية 82
(2) مختصر الصواعق المرسلة، (2 \ 286) .(47/331)
تحطيم مدلول كلمة التوحيد:
كما وإن القول بالمجاز يؤدي إلى: المساس بمفهوم كلمة التوحيد، والتشكيك في دلالتها، وزعزعة ما ترمي إليه من حقائق ودلالات ومعاني.
قالوا: إن كل عام إذا خص صار مجازا، ولو كان التخصيص بطريق الاستثناء.
وعليه فإن (لا إله إلا الله) مجاز، باعتبارها عموما قد خص بطريق الاستثناء، فهي ليست على حقيقة منطوقها ودلالة لفظها.
وهم بذلك فاقوا - في هذه المسألة - ما ذهب إليه أهل الجاهلية، فإن أولئك قد اعترفوا بالله ربا وخالقا، إلا أنهم رفضوا الإذعان لمدلول: (لا إله) ، فأقروا بوجود آلهة أخرى مع الله،(47/331)
في حين أن هؤلاء جعلوا كلمة التوحيد برمتها محمولة على المجاز.
ومن المعلوم أن من علامات المجاز: صحة نفيه، ونقص درجة دلالته عن درجة دلالة الحقيقة.
ثم إن بعضهم ذهب إلى: أن (محمد رسول الله) مجاز أيضا كيف؟
ذلك أن لفظ (رسول) قيد بطريق الإضافة، وكل مقيد - عندهم - مجاز؛ لأن اللفظ إنما وضع - أصلا - مطلقا لا مقيدا، واستعماله مقيدا استعمال له في غير ما وضع له، كاللفظ العام إذا خص سواء بسواء، فهذا صار - بتخصيصه - مجازا، كما صار هذا - بتقييده - مجازا أيضا.
وبذا توصلوا إلى تحطيم مدلول كلمة التوحيد والاتباع، بشقيها: (لا إله إلا الله) و (محمد رسول الله) .
وكفى بالمجاز فسادا، إيصاله أصحابه والقائلين به إلى هذه الدرجة من التنطع والغلو والانحراف.(47/332)
قصر (الإيمان) على التصديق:
ثم إنهم - عن طريق قولهم بالمجاز - قصروا مفهوم (الإيمان) على التصديق، وأخرجوا من مسماه العمل.
قالوا: فلفظ (الإيمان) يدل على: التصديق حقيقة، وما دلالته على الأعمال إلا بطريق المجاز، وبذلك فرغوا (الإيمان)(47/332)
من محتواه، وخالفوا ما دلت عليه النصوص الصريحة الصحيحة من الكتاب والسنة، وحجتهم في ذلك: أن لفظ (الإيمان) لغة: التصديق، وهو العلم، ومحله القلب، ويؤيده قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (1) أي: بمصدق لنا، فوجب أن يكون الإيمان في الشرع هو الإيمان المعروف في اللغة. وهذا هو مذهب الجهمية وسائر المعتزلة.
والجواب على هذا: إننا لم نسمع عن أحد من أهل اللغة السابقين أنه نقل عن العرب إجماعهم على أن الإيمان إنما هو بمعنى التصديق، بل إن هؤلاء العلماء من أهل اللغة، إنما ينقلون الكلام المسموع من العرب في زمانهم، وما سمعوه من دواوين أشعارهم لا أنهم ينقلون عنهم أنهم قالوا: هذا اللفظ ليس معناه إلا كذا وكذا، ولو قدر - جدلا - أنهم نقلوا عنهم ما يفهم منه، أن الإيمان معناه: التصديق، فإن نقل المسلمين كافة - وبالخبر المتواتر - للقرآن الكريم وكلام المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، لا شك أبلغ من جميع نقولهم، وقد دلت آيات القرآن والأحاديث الشريفة على أن مدلول الإيمان متضمن للعمل:
أ - قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (2) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (3) {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (4) {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (5) {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} (6) {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (7) {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (8) {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (9) {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (10) {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (11) {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (12)
__________
(1) سورة يوسف الآية 17
(2) سورة المؤمنون الآية 1
(3) سورة المؤمنون الآية 2
(4) سورة المؤمنون الآية 3
(5) سورة المؤمنون الآية 4
(6) سورة المؤمنون الآية 5
(7) سورة المؤمنون الآية 6
(8) سورة المؤمنون الآية 7
(9) سورة المؤمنون الآية 8
(10) سورة المؤمنون الآية 9
(11) سورة المؤمنون الآية 10
(12) سورة المؤمنون الآية 11(47/333)
فقد ساق - سبحانه - مجموعة من الأعمال، وجعلها عمدة إيمان المؤمن، ودليل فلاحه في الدارين.
ب - وقال: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (1) ، فنفى الإيمان عن غير هؤلاء، ممن كان إذا ذكر بالقرآن لا يفعل ما فرضه الله عليه، من السجود والتسبيح، واتصافهم بعدم الاستكبار، وهذه كلها أعمال داخلة في صميم مسمى: (الإيمان) .
ج - وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} (2) ، فجعل الجهاد بالمال والنفس من الإيمان.
د - وقال: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (3) ، فجعل من (الإيمان) عدم موادة أهل الكفر والركون إليهم.
هـ - وعن البراء بن عازب قال: (إنه مات على القبلة - قبل
__________
(1) سورة السجدة الآية 15
(2) سورة الحجرات الآية 15
(3) سورة المجادلة الآية 22(47/334)
أن تحول - رجال وقتلوا، فلم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (1) (2) . فقد جعل - سبحانه - الصلاة من الإيمان؛ لأن معنى الآية: وما كان الله ليضيع صلاتكم، التي كنتم تتوجهون فيها إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة إلى مكة المكرمة.
كما وورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة، تفيد أن (العمل) من (الإيمان) :
أ - فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (3) » .
ب - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو لأخيه ما يحب لنفسه (4) » .
ج - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) رواه البخاري (40) في الإيمان، باب الصلاة من الإيمان
(3) رواه مسلم (1 \ 46) في الإيمان، باب شعب الإيمان، وأبو داود (4676) في السنة، باب في رد الإرجاء، والنسائي (8 \ 110) في الإيمان، باب ذكر شعب الإيمان. كلهم عن أبي هريرة.
(4) رواه مسلم (1 \ 49) في الإيمان، بيان تحريم إيذاء الجار، عن أنس بن مالك.(47/335)
مؤمن (1) » .
فجعل - عليه الصلاة والسلام - قول: لا إله إلا الله، وإماطة الأذى، والحياء، ومحبة المسلم والجار، وتجنب الكبائر من الزنا والسرقة وشرب الخمر والنهبى، كل أولئك من الإيمان، وهي جملة أقوال وأعمال.
ومن هنا، كفر الإمام أحمد ووكيع بن الجراح - شيخ الشافعي - من قال: إن الإيمان هو التصديق فقط (2) .
وقد ضرب القائلون بالمجاز بكل هذه الأدلة عرض الحائط، وذهبوا يعتمدون على معاظلات ذهنية باردة، للتدليل على أن الإيمان إنما هو التصديق فقط، وأن العمل لا يدخل في مسماه إلا بطريق المجاز.
قال الأستاذ محمد قطب، موضحا ما لهذه المقولة من آثار في تدعيم خط الانحراف الذي أصاب حياة المسلمين بعد عصر السلف الصالح:
(القول: بأن الإيمان هو: التصديق، وإخراج العمل من مسمى الإيمان، كان من أخطر المزالق التي أدخلتها الفرق على
__________
(1) رواه البخاري، (2475) في المظالم، باب النهبى بغير إذن صاحبه، ومسلم (1 \ 54) في الإيمان، باب لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، واللفظ له، وأبو داود (4689) في السنة، الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه، والترمذي (2627) في الإيمان، ما جاء لا يزني الزاني، والنسائي (8 \ 64) في السارق، تعظيم السرقة. رووه عن أبي هريرة
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، (7 \ 120) .(47/336)
تلك العقيدة الصافية ومفهومها الصحيح.
فقد حدث تدريجيا تقاعس مستمر عن العمل بمقتضى هذا الدين، اكتفاء بأن حقيقة الإيمان مستقرة في القلب، وما دامت هذه الحقيقة مستقرة في القلب، فقد تم الإيمان المطلوب، ولم يعد يضر مع الإيمان شيء.
إن إخراج العمل من مسمى الإيمان في هذا الدين، الذي نزل لينشئ "واقعا" معينا، تحكمه شريعة الله ومنهجه للحياة، أمر مذهل في مجرد تصوره، فضلا عن أن يصدر عن "علماء" معتبرين في تاريخ هذه الأمة. كيف يتصور أمر هذا الدين، حين يكون تصديقا بالقلب وإقرارا باللسان، دون عمل بمقتضى هذا التصديق والإقرار في واقع الحياة.
ألهذا أنزل الله دينه، وأرسل رسوله - صلى الله عليه وسلم -!؟ لمجرد أن يصدق الناس بقلوبهم، ويقروا بألسنتهم، ثم يتركوا واقع الحياة تحكمه الجاهلية، التي لا تصدق بقلبها، ولا تقر بلسانها.
وكيف يغيرون ذلك الواقع الجاهلي بغير "عمل" واقعي إيجابي ملموس مشهود؟ ثم كيف يحافظون على النظام الرباني- بعد إنشائه - من عدوان الجاهلية الدائم، ومحاولتها نقضه؟ كل ذلك يتم بمجرد التصديق بالقلب، والإقرار باللسان! يا لها مهزلة مذهلة حين تلصق بالإسلام. .) .(47/337)
أقول: بل إنها ألف مهزلة مذهلة وباردة، جنت على الإسلام، وحطمت آصل أصوله وأرسى دعائمه.(47/338)
صرف ألفاظ الوحي عن دلالاتها الحقيقية:
والقول بالمجاز يؤدي إلى صرف ألفاظ الوحي بشقيه: الإلهي والنبوي، عن دلالتها الحقيقية التي ما جيء بها إلا لتأدية معانيها عن طريقها.
فقولهم: إن أكثر ألفاظ اللغة مجاز، وكذلك عامة أفعالها: كقام وقعد وانطلق وجاء؛ لأن الفعل يستفاد منه الدلالة على استغراق الجنس، في حين أن الفاعل لا يكون منه تأدية ما يستغرق الفعل.
فمثلا: فعل (قام) يدل على استغراق جنس القيام، والجنس يطلق على جميع الماضي، وجميع الحاضر، وجميع الأمور الكائنات، من كل من وجد منه القيام.
ومعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد - في وقت واحد، ولا في مائة ألف سنة - جميع القيام، الداخل تحت مضمون دلالة الفعل (قام) .
وإذا كان الأمر كذلك، علمت أن (قام زيد) مجاز؛ لأن زيدا هذا - عندما قام - لم يستطع أداء القيام بصورته الاستغراقية المثلى، ولن يستطيع مهما حاول وأجلب، فكان قولنا عنه بأنه(47/338)
(قام) .
وعليه يكون قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} (1) ، وقوله: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (2) ، وقوله: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} (3) ، وقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} (4) ، وغير ذلك من الآيات التي فيها ذكر فعله سبحانه، إنما تكون كلها - بحسب مفهومها - مجازا.
قالوا: (وكذلك أفعال الله سبحانه، نحو: (خلق السماوات والأرض) وما كان مثله، ألا ترى أنه عز اسمه، لم يكن بذلك خلق أفعالنا، ولو كان خالقا حقيقة لا محالة، لكان خالق الكفر والعدوان وغيرهما من أفعالنا، ألا ترى أن قولك: (ضربت عمرا) مجاز؛ لأنك إنما فعلت بعض الضرب، لا جميعه، ألا تراك تقول ذلك، ولعلك إنما ضربت يده، أو أصبعه، أو ناحية من نواحي جسده؛ ولهذا إذا احتاط الإنسان جاء ببدل البعض، وقال: ضربت زيدا رأسه. .) (5) .
قلت: وبذلك تصبح جميع ألفاظ الكتاب العزيز وكلام المصطفى - عليه الصلاة والسلام - مجازات، لا تدل على حقائقها
__________
(1) سورة التوبة الآية 33
(2) سورة البقرة الآية 213
(3) سورة العنكبوت الآية 44
(4) سورة آل عمران الآية 6
(5) هذا الكلام قاله ابن جني، ونقله عنه ابن القيم في ''مختصر الصواعق المرسلة'' (2 \ 76 -77) .(47/339)
بحال، فتصير كلمات الله وكلام نبيه ليس أكثر من تمتمات لا مرادات لها، فنتخلص بالتالي من تكاليفها ونطلق العنان لأنفسنا نفعل ما نشاء، ونقول ما نشاء، ما دام أنه ليس أمامنا ما يلزمنا بفعل أو قول معينين، أو يصرفنا عن شيء من الأفعال والأقوال، فكل الألفاظ مجازات لا دلالة لها، ولا مضمون، ولا محتوى، وبذا نصل إلى تفريغ القرآن والسنة من محتواهما، ونصير منهما مجرد تراتيل وتلاوات تتلى لمجرد التبرك، ليس غير.
قالوا: والتوكيد علامة من علامات المجاز؛ وعليه فإن قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (1) مجاز، بدليل توكيده، ومثله قوله تعالى عن بلقيس ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} (2) ، فهو مجاز، بدليل استخدام التوكيد بـ (كل) ، وهي لم تؤت لحية رجل ولا ذكره.
ومثله قوله أيضا: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (3) فمجاز، فهو سبحانه شيء، وهو مما يستثنيه العقل ببديهته، ولا يحوج إلى التشاغل باستثنائه، فإن الشيء - كائنا ما كان - لا يخلق نفسه (4) .
وقد بلغ بهم الحد في التمحل، أن قالوا: قولك: (قطع الأمير اللص) مجاز؛ لأن القطع قد يكون بأمره لا بيده، فإذا قلت: (قطع الأمير نفسه اللص) رفعت المجاز من جهة
__________
(1) سورة النساء الآية 164
(2) سورة النمل الآية 23
(3) سورة الزمر الآية 62
(4) انظر أقوالهم هذه فيما نقله عنهم ابن القيم في كتابه '' الصواعق المرسلة'' (2 \ 82) .(47/340)
الفاعل، وصرت إلى الحقيقة، ولكن بقي عليك التجويز في مكان آخر، وهو جهة اللص، فإنما قطع منه يده أو رجله لا كله، فإذا احتطت قلت: (قطع الأمير نفسه يد اللص) ، وهذا - أيضا - مجاز، ولكن من جهة أخرى، وهي أن اليد اسم للعضو إلى المنكب، والأمير لم يقطعها كلها، وإنما قطع بعضها، فإذا احتطت قلت: (قطع الأمير نفسه يد اللص ما بين الكوع والأصابع) ، وهذا - أيضا - مجاز، من جهة أنك سميته لصا، وذلك يقتضي استغراق جميع أفراد اللصوصية، وهو محال، باعتبارك أوقعت البعض على الكل، فإن احتطت قلت: (قطع الأمير نفسه يد من وجد منه بعض اللصوصية ما بين الكوع إلى الأصابع) . وهذا مجاز أيضا، من جهة أن الفعل (قطع) دال على جميع أفراد الجنس، وذلك محال أن يقع القطع على جميع أفراد الجنس قاطبة، من لدن آدم - عليه السلام - إلى آخر فرد من أفراد البشرية، إذ هو في الحقيقة واقع على فرد واحد من أفراده، لا عليهم كلهم، فإذا أردت الاحتياط لهذه المسألة، فعليك أن تقول تحديدا: (أوقع الأمير نفسه فردا من أفراد القطع، على يد واحد ممن وجد منه بعض اللصوصية، ما بين الكوع إلى الأصابع) . . وبذا - فقط - تتحول العبارة من حيز المجاز إلى حيز الحقيقة.
فهل بقي سخف أبعد شأوا من هذا السخف!؟ وهل هناك تمحل أبلغ سماجة من مثل هذا التمحل!؟(47/341)
المجاز سلم الباطنية:
ثم إن المجاز - ورديفه التأويل - هو السلم الذي اعتلته الفرق الباطنية، من أجل بلوغ أغراضها، والتكأة التي اعتمدت عليها، لزخرفة أفكارها، وعرضها على الناس بصورة جميلة مستحسنة؛ بغية التدليس عليهم، وبالتالي إيقاعهم في شرك حبائلها الجهنمية الضالة.
قالوا: (لا إله إلا الله. . محمد رسول الله) مجاز، لا يدل على ظاهر لفظه، وإنما هو دليل على الأئمة السبعة، و (لا إله إلا الله) اثنا عشر حرفا، دليل على الحجج الاثني عشر.
وكذا (بسم الله الرحمن الرحيم) تسعة عشر حرفا، هي دليل على سبعة الأئمة، واثني عشر حجة (1) .
قالوا: والقرآن الكريم هو تعبير محمد - صلى الله عليه وسلم - عن المعارف التي فاضت عليه، ومركب من جهته، وقد سمي (كلام الله) مجازا.
وقالوا بإبطال القول بالمعاد والعقاب، وأنكروا الجنة والنار، وما الجنة إلا نعيم الدنيا، وما العذاب إلا اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصوم والحج الجهاد (2) .
ثم انتقلوا إلى التكاليف والمصطلحات الشرعية واليقينية،
__________
(1) انظر: ''بيان مذهب الباطنية وبطلانه''، محمد الحسن الديلمي، ص (41 و43) .
(2) انظر: ''الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة''، ص (396 -397) الطبعة الأولى 1409 هـ.(47/342)
فأعملوا فيها معاول المجاز والتأويل، فغدت رموزا إلى بواطن لا أكثر:
فالجناية مثلا هي مبادرة المستجيب بإفشاء ما ألقي إليه من أسرار.
والغسل: تجديد العهد على فعل ذلك.
والصيام: الإمساك عن كشف الأسرار.
والجهاد: صب اللعنات على الخصوم.
والبعث: الاهتداء إلى مذهبهم الباطن.
والزكاة: بث العلوم لأهل مذهبهم ودينهم، يتزكون بها.
أما ألفاظ القرآن فجميعها مجازات، تخضع لتأولات عقولهم، وتوجهات أهوائهم:
قالوا: (اعلم أن كل ما ورد في كتاب الله - عز وجل -، من ذكر الجنات والأنهار والنخيل والأعناب وجميع الشهوات، هو دال على الأئمة - عليهم السلام -، ثم على الحجج، ثم على اللواحق، ثم على الدعاة، ثم على المستجيبين البلغ، ثم على الأدنى فالأدنى. وما ورد في كتاب الله من الجبت والطاغوت وإبليس وهاروت وماروت ويغوث ويعوق ونسر وود وسواع،(47/343)
فمثلهم وشكلهم على أهل الظاهر - أي السنة والجماعة - ورؤسائهم وعلمائهم بعد أئمتهم الجائرين، المعاندين لأهل الحق، الذين هم أهل الباطن) .
وقالوا في تفسير قوله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (1) : الشمس والقمر: الحسن والحسين (2) .
وفي قوله: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} (3) : أي بظهور الإمام الغائب.
وفي قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (4) الميتة: هي الاعتماد على ظاهر القرآن، دون الالتفات إلى باطنه (5) .
أما المنخنقة: فالذي نقض العهد، وهو المنخنق تحت السكين.
و (الموقوذة) : ما ضرب بعصا الداعي.
و (ما أكل السبع) : ما استزله منافق، أو وقع عليه عذاب من الشيطان، فكشف أمر الله (6) .
__________
(1) سورة الرحمن الآية 5
(2) كتاب '' القرامطة ''، طه الولي، ص (31) ، الطبعة الأول، 1981م، بيروت.
(3) سورة الأعراف الآية 53
(4) سورة المائدة الآية 3
(5) '' القرامطة ''، طه الولي، ص (116) .
(6) ''بيان مذهب الباطنية وبطلانه''، الديلمي، ص (48) .(47/344)
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أتيتم الغائط، فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا وغربوا (1) » .
فقالوا: القبلة مجاز، لا كما تفهم على ظاهر لفظها، إنها رمز للإمام، ومعنى الحديث: أي لا تظهروا ولاية الإمام، ولا تظهروا البراءة منه (2) .
وقد سلكت غلاة الصوفية المسلك نفسه، فأوغلوا في النظرة المجازية إلى عبارات الكتاب الكريم، ومضوا يتعسفون في تأوليها حسب أهوائهم، وبما يتفق وشطحاتهم المعهودة:
ففي قوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ، قال ابن عربي: (هي الحقيقة المحمدية الموصوفة بالاستواء على العرش الرحماني الإلهي) (4) .
وفي قوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} (5) ، قالوا: (أنزل من السماء أنواع الكرامات، فأخذ كل قلب بحظه ونصيبه، فسالت أودية قلوب العلماء وأودية قلوب الصوفية) .
__________
(1) رواه البخاري (394) في الصلاة، باب قبلة أهل المدينة والشام، ومسلم (264) في الطهارة، وأبو داود (9) في الطهارة، والترمذي (8) فيها، والنسائي: (1 \ 21) فيها أيضا.
(2) '' بيان مذهب الباطنية وبطلانه ''، ص (44) .
(3) سورة طه الآية 5
(4) '' الفتوحات المكية ''، ابن عربي، (1 \ 152) .
(5) سورة الرعد الآية 17(47/345)
وغني عن القول أن كل هذه الانحرافات والتجاوزات ما كانت لتكون، لولا انفتاح مجال القول بالمجاز والتأويل والتحاكم إلى الهوى، مشرعة أبوابه على مصراعيها، أمام أصحاب المذاهب الساقطة. . فولجوها من كل جهة وصوب، تملكهم فرحة الاقتدار - بذلك - على لي أعناق النصوص، وتحويلها عن مراداتها الفعلية، وتغمرهم نشوة الوصول إلى التفلت من طوق الأحكام الربانية، وهو الهدف الذي ما برحوا يسعون إليه، بمختلف الوسائل وشتى الطرق والأساليب.(47/346)
نقص درجة المجاز:
وأخيرا: فإن القول بالمجاز، يوهم بنقص درجته عن درجة الحقيقة، لا سيما وإن من علامات المجاز صحة نفيه، وهذا يؤدي إلى توليد شعور جاد، وإحساس صادق وحقيقي - لدى المتلقي - بأن هذه العبارة - والتي قيل بمجازيتها - هي أقل دلالة، وأضعف أداء من العبارة الأخرى، المحمولة كل ألفاظها على الحقيقة.
وإذا نحن طردنا مثل هذا الاعتبار على كلام الله تعالى وكلام نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقعنا في شرك امتهان الوحي، والحط من قدره، والمساس بعظمته وقدسية شأنه، وهو أمر لا يرضاه مسلم، يحرص على براءة ذمته، ويظهر أدنى درجات الأدب(47/346)
والسلوك الإسلاميين، حيال كتاب ربه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
وهكذا فإنه لو لم يكن في القول بالمجاز سوى مفسدة واحدة - من جملة هذه المفاسد التي ذكرنا -، لكفانا ذلك عذرا لرفضه وإنكاره، ورفع لواء محاربته، خاصة وأن قاعدة: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) قاعدة معتبرة في شرعنا، فكيف وليس في المجاز منفعة مرجحة للقول به واحدة!؟ .(47/347)
صفحة فارغة(47/348)
الربا وأنواعه
الشيخ علي بن قاسم الفيفي
الحمد لله القوي المتين، القائل في كتابه المبين: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} (1) ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، محمد وآله وصحبه والتابعين، والسائرين على نهجه إلى يوم الدين.
وبعد: فلقد أوجب الله تعالى على العلماء أن يبينوا للناس ما نزل إليهم من الهدى والنور، وأن يوضحوا لهم ما التبس عليهم من أمر الحلال والحرام، وأخذ عليهم بذلك العهد والميثاق، وكلما تفاقم الأمر، وأحدق الخطر، واشتدت الحاجة إلى البيان، كان التبيين ألزم، والواجب عليهم أعظم، قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (2) ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (4) ، وفي الحديث: «من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار (5) » . رواه
__________
(1) سورة الأعراف الآية 6
(2) سورة آل عمران الآية 187
(3) سورة البقرة الآية 159
(4) سورة البقرة الآية 160
(5) سنن ابن ماجه المقدمة (265) .(47/349)
أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه.
ولا نجاة من سخط الله وأليم عذابه إلا لمن بين ونصح وأمر ونهى ووجه وأرشد وبذل الوسع في بيان حكم الشرع والعمل به في كل طارئ، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (1) {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (2) .
ولما كان الربا من أعظم المحرمات ومن السبع الموبقات، وقد تفشى في الأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر، وانتشر التعامل به في البنوك والمصارف الربوية، واستعيرت له أسماء مختلفة؛ تلبيسا على العامة وإيهاما لهم بخلو بعض تلك المعاملات من الربا، حتى عظم خطره، وتطاير شرره، وكادت هذه المصارف والبنوك أن تقوض الاقتصاد الإسلامي المتحرر من الربا، فرأيت أن من الواجب علي كأي طالب علم يطلب لنفسه النجاة من مغبة السكوت، فحررت هذه النبذة الموجزة عن الربا وأنواعه، والقاعدة الشرعية التي يستطيع القارئ العادي أن يميز بها المعاملة الربوية من غير الربوية ليكون على بينة من أمره، فيجتنب ما حرمه الله عليه من الربا عملا بحديث: «الدين النصيحة. قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (3) » . رواه مسلم، ويطلب الحلال الطيب؛ لأن الضد يعرف بضده.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 164
(2) سورة الأعراف الآية 165
(3) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(47/350)
خطر الربا وتغليظ تحريمه:
جعل الله المال قوام الحياة، وجبلت الأنفس على حبه، والسعي في كسبه، والضن به، واعتبر الدفاع عنه من الحقوق المشروعة للإنسان، كالدفاع عن النفس والعرض ونحوهما من الضرورات الخمس، التي شرعت الحدود، ورفعت البنود لحمايتها، ويعتبر الربا من الاعتداء المغلف على المال، ومن أكل أموال الناس بالباطل، استغلالا لحاجة المحتاج، وكلما اتسعت دائرته عظم خطره، واستشرى ضرره، كما هو الحال في البنوك الربوية؛ لأنه يتجاوز نطاق الفرد إلى امتصاص أموال الأمة وتكبيل اقتصادها، والسيطرة على قدراتها وإمكاناتها، ولذلك نجد النظم الوضعية قد أدركت ضرره من قديم الزمان، فوضعت قوانين بتحريم فاحشه، ولعل أقدم نص في ذلك ما ورد في القانون الفرعوني في عهد بوخوريس من الأسرة 24 (1) حيث نص على تحريم الفاحش منه.
وأما الشرائع السماوية فقال سيد سابق في فقه السنة: إنه محرم في جميع الأديان السماوية، ومنها اليهودية والمسيحية والإسلام. وأورد نصوصا بذلك في العهد القديم منها آية 25 فصل 22 من سفر الخروج، وآية 35 فصل 25 من سفر اللاويين، وآيتا 34، 35 من الفصل 6 من إنجيل لوقا (2) تدل على ذلك، إلا
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية، العدد ''31'' ص 123.
(2) فقه السنة، ج3 ص 130، 131.(47/351)
أن اليهود من بعد موسى - عليه السلام - أجازوه مع غير اليهود ضمن ما أدخلوه فيها من التغيير والتبديل؛ حيث عاب عليهم القرآن الكريم ذلك، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (1) ، وقال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (2) {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (3) .
وقد بقيت القوانين المسيحية تحرم الربا في جميع بلدانها إلى أن جاءت الثورة الفرنسية في عام 1789 بإباحة الفائدة على القروض ثم تتابعت القوانين المبيحة له بنسب تتراوح بين 5-7% (4) غير أنه جاء تحريمه في الإسلام أوضح وأشمل، فوردت نصوص الكتاب والسنة قاطعة الدلالة متظافرة على تحريمه، والتوعد على اقترافه بأشد العقاب، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (5) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (6) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (7) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (8) ،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 75
(2) سورة النساء الآية 160
(3) سورة النساء الآية 161
(4) مجلة البحوث الإسلامية، العدد ''31'' ص 124.
(5) سورة البقرة الآية 275
(6) سورة البقرة الآية 276
(7) سورة البقرة الآية 278
(8) سورة البقرة الآية 279(47/352)
وفي هذه الآيات الكريمات من الوعيد الشديد الذي تشمئز منه القلوب، وتقشعر له الجلود، وما يترتب على متعاطيه من المحق والإيذان بمحاربة الله ورسوله له والخلود في عذاب السعير، نعوذ بالله من سخطه، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) .
ثم أكدت الأحاديث النبوية الأمر وزادته وضوحا وجلاء وبينت عظم اقترافه وما ينتج عنه من العقاب العاجل والآجل، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ ، قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (2) » رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود والنسائي.
وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا الذي رأيته في النهر، قال: أكل الربا (3) » رواه البخاري.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 130
(2) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2085) ، مسند أحمد بن حنبل (5/9) .(47/353)
وعن ابن مسعود - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله آكل الربا وموكله (1) » ، وفي رواية: «وشاهديه وكاتبه (2) » رواه مسلم، والنسائي، وأبو داود، والترمذي وصححه.
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال! : "هم سواء (3) » رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ولا يذيقهم نعيمها: مدمن خمر، وآكل ربا، وآكل مال اليتم بغير حق، والعاق لوالديه (4) » رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنهما - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: «الربا ثلاثة وسبعون بابا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه (5) » رواه الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين، وفي رواية عند البزار وابن ماجه بإسناد صحيح قال: «الربا بضع وسبعون بابا والشرك مثل ذلك (6) » .
وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنية (7) » رواه أحمد والطبراني في الكبير، قال المنذري: ورجاله عند أحمد رجال الصحيح.
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده ليبيتن الناس من أمتي على أشر وبطر
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1597، 1598) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1597) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن النسائي الطلاق (3416) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (1/402) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .
(4) سنن النسائي الأشربة (5672) ، مسند أحمد بن حنبل (2/203) ، سنن الدارمي الأشربة (2093) .
(5) سنن ابن ماجه التجارات (2275) .
(6) سنن ابن ماجه التجارات (2275) .
(7) مسند أحمد بن حنبل (5/225) .(47/354)
ولعب ولهو فيصبحوا قردة وخنازير باستحلالهم المحارم، واتخاذهم القينات، وشربهم الخمر، وأكلهم الربا، ولبسهم الحرير (1) » رواه عبد الله بن الإمام أحمد في الزوائد، وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: «يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب ولهو ولعب، فيصبحوا قد مسخوا قردة وخنازير، وليصيبنهم خسف وقذف حتى يصبح الناس فيقولون خسف الليلة ببني فلان، وخسف الليلة بدار فلان، ولترسلن عليهم حجارة من السماء كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها، وعلى دور، ولترسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عادا على قبائل وعلى دور، بشربهم الخمر ولبسهم الحرير واتخاذهم القينات وأكلهم الربا، وقطيعة الرحم (2) » ، وخصلة نسيها جعفر، رواه أحمد مختصرا واللفظ له، والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وكتب الحديث والفقه والتفسير وغيرها مليئة بالنقول عن كبار العلماء؛ من الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب وغيرهم لا نريد الإطالة بذكرها وفي هذا القدر كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/329) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/259) .(47/355)
ما جناه الاستعمار الأوروبي على المسلمين:
ولذلك فقد ظل المسلمون متمسكين بتعاليم دينهم، مبتعدين عن التعامل بالربا، إلى أن ابتلوا بالانتكاسات المتتالية، ودخلت أكثر بلدانهم تحت الاستعمار الأوربي، باستثناء السعودية والجزء الشمالي من اليمن، فنقلت إليهم تلك الدول المستعمرة(47/355)
النظام البنكي المعتمد على الفوائد الربوية، فدب شيئا فشيئا، حتى سمحت التقنينات المدنية في الدول الإسلامية والعربية بتقاضي فوائد يحددها قانون كل نظام بنسب معينة، إلى أن أصبح التعامل به مستساغا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصار الفرد المسلم مكبلا بتلك النظم والتقنينات يرزح تحت نير البنوك الربوية مغلوبا على أمره لا يجد منها مخلصا، وحيث إن لا مناص للأمة من ذلك إلا بتظافر الجهود من علماء المسلمين وقادتهم ومفكريهم وأهل الحل والعقد فيهم للعمل على تحرير اقتصادهم والعودة بها إلى تحكيم شرع الله في الدقيق والجليل من أمرها، وتطهير بنوكها ومصارفها من الربا، وبحمد الله تعالى فإن المجالات واسعة لتنمية أمواله اواستثمارها عن طريق المضاربات والمشاركات والعقود السليمة من الربا، إذا صحت النية، وصدقت العزيمة، وقد برزت في الأونة الأخيرة بنوك إسلامية، وصارت الأنظار مشرئبة إليها نسأل الله لها وللقائمين عليها التوفيق والنجاح، ولا شك أن الرب الذي أحاط بكل شيء علما، ووسعه رحمة وحكما، لم يحرم شيئا إلا لخبثه وضرره وسوء عاقبته، ووجود البديل الأفضل فيما أحله من الطيبات، قال سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) .
وها أنا سأحاول بفهمي القليل وعلمي الضئيل أن أبين الربا وأنواعه، وما يجري فيه من المعاملات حسب ما استنبطه أهل
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(47/356)
العلم من مصادر التشريع بعبارة ميسرة يفهمها القارئ العادي، فإذا ما عرفها واجتنبها، واقتصر على ما أحل الله له، جعل الله له من أمره يسرا، ورزقه من حيث لا يحتسب، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2) ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) سورة الطلاق الآية 4(47/357)
الربا وأنواعه وما يجري فيه:
الربا لغة: الزيادة.
وشرعا: ثلاثة أنواع:
الأول: ربا الفضل، ويقع فيما اتحد فيه العوضان جنسا وعلة، والمراد بالجنس الصنف الواحد، ويعتبر الذهب صنفا والفضة صنفا، وعملة كل نظام صنفا، والبر صنفا وهكذا بقية أصناف المطعومات، والمراد بالعلة: العلة المسببة للربا التي وقع تحريمه بسببها، وهي النقدية فيما سبب الربا فيه النقدية كالذهب والفضة وما يلحق بهما من العملات النقدية أو النقدية والوزن فيما يتداول منها بالوزن كالذهب والفضة، أو الطعم والكيل في المطعومات كالبر والشعير والتمر والزبيب والملح ونحوها، فإذا اتحد العوضان جنسا وعلة فلا يجوز البيع فيها إلا(47/357)
مثلا بمثل يدا بيد، وإذا لم يحصل التماثل بين العوضين فقد وقع ربا الفضل فالذهب بالذهب لا بد أن يكون وزنا بوزن، وكذلك الفضة بالفضة والعملة السعودية بالعملة السعودية لا بد أن تكون ريالا بريال، والورقة من فئة خمسمائة أو من فئة مائة ونحوها بما يعادلها بالريال من الفئات الأخرى سواء بسواء وإلا وقع ربا الفضل وكذلك سائر العملات، فعملة كل بلد أو نظام جنسا فلا يجوز فيه التفاضل.
وكذلك الحال في المطعومات إذا اتحد العوضان جنسا وعلة؛ كالبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والزبيب بالزبيب والملح بالملح والذرة بالذرة والدخن بالدخن ونحوها، لا يجوز البيع فيها إلا مثلا بمثلى يدا بيد، حتى لو كان جيدا برديء، فلا يجوز فيه التفاضل وإلا وقع ربا الفضل، لاختلال شرط التساوي، ومثله في الحكم مجهول التساوي فلا يجوز بيع قلادة من الذهب والخرز بقدر معلوم من الذهب، ولا قلادة من الفضة والخرز بقدر معلوم من الفضة، لعدم العلم بالتساوي، وكذلك لا يجوز بيع صبرة الطعام من البر أو الشعير أو التمر ونحوها بجنسه مكيلا ولا بيع رطب بيابس كالرطب بالتمر أو الزبيب بالعنب أو ثمرة الحائط بجنسه؛ للجهل بالتساوي لأن مجهول التساوي كمعلوم التفاضل لحديث: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق - والورق: الفضة - إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبا بناجز (1) » متفق عليه. وفي لفظ: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(47/358)
والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء (1) » رواه أحمد والبخاري. وفي لفظ: «ولا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء (2) » رواه أحمد ومسلم، ولحديث: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تفعلوا بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا (3) » راوه البخاري، وما في هذا المعنى من الأحاديث.
ولحديث: «نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم - عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر (4) » رواه مسلم.
ولا بد هنا من التنبيه على مسألة يجهلها كثير من الناس عند شراء الحلي وهي أنه لا يجوز استبدال الرجيع أو الذهب المختلط بغيره أو من عيار أدنى بذهب مصنع أو عيار آخر مقاصة، بل لا بد من بيع الرجيع، أو المختلط بغيره، أو العيار الأدنى بقيمته من غير جنسه، وقبض الثمن ثم شراء المصنع لئلا يقع في ربا الفضل، ولا بد أن يكون يدا بيد حتى لا يقع في ربا النسيئة.
ولحديث فضالة بن عبيد قال: «اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا يباع حتى يفصل (5) » رواه مسلم، والنسائي، وأبو داود والترمذي وصححه. وفي لفظ: «أن النبي- صلى الله عليه وسلم - أتي بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة دنانير فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا حتى تميز
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2176، 2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1584، 1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241، 1241) ، سنن النسائي البيوع (4565، 4565) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (3/50، 3/97) ، موطأ مالك البيوع (1324، 1324) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، مسند أحمد بن حنبل (3/60) ، موطأ مالك البيوع (1314) .
(4) صحيح مسلم البيوع (1530) ، سنن النسائي البيوع (4547) .
(5) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) .(47/359)
بينه وبينه"، فقال: إنما أردت الحجارة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا، حتى تميز بينهما" قال: فرده حتى ميز بينهما (1) » رواه أبو داود.
ولحديث: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة، وهي أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام. نهى عن ذلك كله (2) » متفق عليه.
فتبين من هذه النصوص أن التفاضل في الجنس الواحد ربا، وأن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في وقوع الربا، إلا ما رخص فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم - من بيع العرايا، (فقد رخص في بيع العرية، النخلة أو النخلتين يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها رطبا) متفق عليه.
الثاني: ربا النسيئة: ويقع فيما اتحد فيه العوضان جنسا وعلة: كالأصناف التي يقع فيها ربا الفضل، فإنه إذا لم يحصل التقابض فيها في مجلس العقد، وقع ربا النسيئة أيضا، فلا يجوز بيع شئ منها بجنسه ولا بغير جنسه إذا اتحدت العلة إلا يدا بيد، لما سلف من حديث: «ولا تبيعوا غائبا بناجز (3) » متفق عليه.
ولحديث: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد (4) » رواه أحمد والبخاري.
ولحديث: «الذهب بالورق ربا، إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا، إلا هاء وهاء، والتمر
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2205) ، صحيح مسلم البيوع (1542) ، سنن الترمذي البيوع (1300) ، سنن النسائي البيوع (4549) ، سنن أبو داود البيوع (3368) ، سنن ابن ماجه التجارات (2265) ، مسند أحمد بن حنبل (2/123) ، موطأ مالك كتاب البيوع (1317) ، سنن الدارمي البيوع (2555) .
(3) سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4571) ، مسند أحمد بن حنبل (3/73) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2176، 2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1584، 1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241، 1241) ، سنن النسائي البيوع (4565، 4565) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (3/50، 3/97) ، موطأ مالك البيوع (1324، 1324) .(47/360)
بالتمر ربا، إلا هاء وهاء (1) » متفق عليه، ومعنى هاء وهاء، أي: هاك وهات.
ولحديث: «فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (2) » رواه أحمد ومسلم، وللنسائي وابن ماجه وأبي داود نحوه وفي آخره: «وأمرنا أن نبيع البر بالشعير، والشعير بالبر، يدا بيد كيف شئنا (3) » .
فتبين من هذه النصوص أن بيع الجنس بنظيره جنسا وعلة، يجتمع فيه ربا الفضل عند التفاضل أو عدم العلم بالتساوي وربا النسيئة عند عدم التقابض في المجلس، ويقع فمه ربا النسيئة وحده فيما إذا اختلف العوضان جنسا واتحدا علة، كالذهب بالفضة، والبر بالشعير عند عدم التقابض في المجلس.
وتبين أنه إذا اختلف العوضان جنسا وعلة، كالطعام بالنقد أو العكس أو انتفت علة الربا، كبيع الحيوان بالحيوان، والقماش بالقماش، والإناء بالإناء، والسيارة بالسيارة، والخشب بالخشب، والحديد بالحديد، والنحاس بالنحاس، التي لا يوجد فيها علة الربا التي هي النقدية أو الطعم انتفى الربا بنوعيه، ربا الفضل وربا النسيئة، فيجوز بيع البعير بالبعيرين، والشاة بالشاتين، والمتر القماش بالمترين، والإناء بالإنائين، والسيارة بالسيارتين، أو أقل من ذلك أو أكثر حاضرا أو إلى أجل، لحديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أمره أن يأخذ في قلائص الصدقة البعير بالبعيرين إلى الصدقة (4) » رواه أحمد، وأبو داود،
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2134، 2134) ، صحيح مسلم المساقاة (1586، 1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243، 1243) ، سنن النسائي البيوع (4558، 4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348، 3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253، 2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45، 1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333، 1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578، 2578) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(4) سنن أبو داود البيوع (3357) ، مسند أحمد بن حنبل (2/171) .(47/361)
والحاكم، وقال صحيح على شرط مسلم، ورواه البيهقي وقوى الحافظ إسناده، وقال ابن المنذر: (ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى عبدا بعبدين واشترى جارية بسبعة أرؤس، وهكذا) .
الثالث: ربا القرض، ويقع إذا حصل المقرض على فائدة بسبب القرض، سواء كانت مشروطة أو متعارفا عليها، قلت أو كثرت، كأن يقرضه مائة ألف ريال مقابل مائة وعشرة آلاف ريال عند الأداء أو مقابل أن يهدي له شيئا وقت الأداء أو قبله أو بعده، أو يشتري منه سلعة بأكثر من ثمنها، أو يبيعه سلعة بأقل من ثمنها، أو تحت أي ستار، أو يقدم له خدمة لحديث: «إذا أقرض أحدكم أخاه فأهدى إليه أو حمله على الدابة فلا يركبها، ولا يقبله إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك (1) » رواه ابن ماجه.
وعند البخاري في تاريخه: "إذا أقرض فلا يأخذ هدية"، وأخرج البيهقي عن فضالة موقوفا: «كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا» رواه في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم، ورواه الحارث بن أبي أسامة من حديث علي بلفظ: «أن النبي- صلى الله عليه وسلم - نهى عن قرض جر منفعة» ، وفي رواية: «كل قرض جر منفعة فهو ربا» ، قال الشوكاني: قال عمر بن زيد في المغني: لم يصح فيه شيء، ووهم إمام الحرمين والغزالي فقالا: إنه صحيح. ولا خبرة لهم بهذا الفن، ومعنى هذا الأثر صحيح، لما سبق من الأدلة، ولحديث: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2432) .(47/362)
بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء، فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم (1) » رواه أحمد، وأبو داود ولفظه: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (2) » ، والعينة وسيلة إلى الربا، لأنه يبيع على المحتاج إلى النقد صفقة، مائة كيس بسعر الكيس بمائة وعشرة ريالات إلى أجل ويشتريها منه بسعر الكيس بمائة ريال، أو يبيعه السيارة بمائة ألف ريال إلى أجل، ويشتريها منه بثمانين ألف ريال نقدا، وكأنه باعه المائة الريال نقدا في الصورة الأولى بمائة وعشرة ريالات إلى أجل، وباعه ثمانين ألف ريال نقدا في الصورة الثانية بمائة ألف ريال إلى أجل، والعين التي وقع عليها التعاقد صوريا رجعت له، ومعلوم أن للوسائل حكم الغايات، فالوسيلة إلى الربا ربا، قال ابن القيم في استدلاله على عدم جواز بيع العينة بما روي عن الأوزاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع (3) » ، وقال: هذا الحديث وإن كان مرسلا فإنه صالح للاعتضاد به بالاتفاق.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/28) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2059) ، سنن النسائي البيوع (4454) ، مسند أحمد بن حنبل (2/435) ، سنن الدارمي البيوع (2536) .(47/363)
والخلاصة: تبين مما ذكرت أن ربا الفضل يقع فيما اتحد فيه العوضان جنسا وعلة، وأن مجهول التساوي كمعلوم التفاضل، ويقع ربا النسيئة فيما اتحد فيه العوضان جنسا وعلة، أو علة فقط، وإذا اختلف العوضان جنسا وعلة، أو انتفت علة الربا انتفى الربا، وتبين أن كل قرض جر نفعا فهو ربا، سواء كانت الفائدة أو المنفعة التي يحصل عليها الطرف المقرض مشروطة أو متعارفا(47/363)
عليها، أما إذا قضاه المقترض أفضل مما أخذ منه أو أهدى له هدية وكانت المهاداة بينهما جارية من قبل فلا حرج، لحديث أبي رافع قال: «استلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رجل بكرا، فجاءته إبل الصدقة فقلت: لم أجد في الإبل إلا جملا خيارا رباعيا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعطه إياه فإن خيركم أحسنكم قضاء (1) » رواه أحمد، ومسلم، وأصحاب السنن.
وقال جابر بن عبد الله: «كان لي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حق فقضاني وزادني (2) » رواه أحمد والبخاري ومسلم.
ومما يجب التنبيه عليه أن أكثر المعاملات التي يجري فيها الربا اليوم فيما أعلم هي:
1 - عند استبدال الحلي، فيشتري بائع الذهب من العميل ذهبا رجيعا من عيارات مختلفة أو مطعما بفصوص ولآلىء ونحوها بسعر الجرام ويبيع منه ذهبا مصنعا بسعر الجرام أيضا، وتجري المقاصة بينهما ويدفع الفرق، فيقع بينهما ربا الفضل للجهل بالتساوي، وكذلك ربا النسيئة لعدم التقابض.
وللتخلص من ذلك يجب أن يشتري التاجر الحلي الرجيع من العميل ويدفع له ثمنه نقدا من غير جنسه، ثم يبيع منه الحلي المصنع ويقبض ثمنه منه.
2 - عند حاجة الشخص إلى نقد، فإنه يأتي إلى التاجر فيشتري منه سلعة بزيادة سعر إلى أجل، ثم يبيعها من صاحب
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1600) ، سنن الترمذي البيوع (1318) ، سنن النسائي البيوع (4617) ، سنن أبو داود البيوع (3346) ، سنن ابن ماجه التجارات (2285) ، مسند أحمد بن حنبل (6/390) ، موطأ مالك البيوع (1384) ، سنن الدارمي البيوع (2565) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (443) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (715) ، سنن النسائي البيوع (4590) ، سنن أبو داود البيوع (3347) ، مسند أحمد بن حنبل (3/319) .(47/364)
المحل بسعر أقل نقدا، فيقع بينهما ربا الفضل سواء حصل التقابض بينهما أو لم يحصل، وكأنه باع نقدا حاضرا بنقد مؤجل أكثر منه، وهذه مسألة العينة السالف ذكرها.
أما لو حاز السلعة التي اشتراها منه وباعها من شخص آخر ليس وكيلا للبائع أو متواطئا معه لشرائها له، فلا ربا.
3 - إذا أراد شخص بناء بيت أو فتح محل تجاري مثلا واحتاج إلى نقد فإنه يأتي إلى البنك يأخذ منه مائة ألف ريال قرضا ويرهن منه أرضا أو دارا ويوثقه له إلى أجل، وعند قبض المبلغ يقبض منه ثمانين ألف ريال فقط، ويكون الفرق هو الفائدة التي حصل عليها البنك، وكأنه اشترى مائة ألف ريال إلى أجل بثمانين ألف ريال حالة.
أما ما يقع من بيع التقسيط بسعر أعلى من سعر النقد فليس بربا، ولكنه قد يقع بعض من يتعاطون هذه البيوع في محظور، وهو بيع ما ليس عنده أو بيع السلعة قبل قبضها، وهما من البيوع المنهي عنها لحديث: «إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه (1) » رواه أحمد والبيهقي وابن حبان بإسناد حسن.
ولحديث: «كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه (2) » رواه البخاري ومسلم.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4603) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2187) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(47/365)
ولحديث: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع ربح ما لم يضمن (1) » رواه أصحاب السنن.
هذا ما أردت تبيينه والله أسأل أن ينفع به، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا بمنه وكرمه، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .(47/366)
بيان من هيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه، أما بعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في جلسته الاستثنائية العاشرة المنعقدة في مدينة الطائف يوم السبت 13 \ 2 \ 1417 هـ استعرض حادث التفجير الواقع في مدينة الخبر بالمنطقة الشرقية مساء الثلاثاء 9 \ 2 \ 1417 هـ وما حصل بسبب ذلك من قتل وتدمير وترويع وإصابات لكثير من الناس من المسلمين وغيرهم.
وإن المجلس بعد النظر والدراسة والتأمل قرر بالإجماع ما يلي:
أولا: أن هذا التفجير عمل إجرامي محرم شرعا بإجماع المسلمين، وذلك للأسباب الآتية:
1 - في هذا التفجير هتك لحرمات الإسلام المعلومة منه بالضرورة: هتك لحرمة الأنفس المعصومة، وهتك لحرمة الأموال، وهتك لحرمات الأمن والاستقرار وحياة الناس الآمنين المطمئنين في مساكنهم ومعايشهم، وغدوهم(47/367)
ورواحهم، وهتك للمصالح العامة التي لا غنى للناس في حياتهم عنها. وما أبشع وأعظم جريمة من تجرأ على حرمات الله وظلم عباده وأخاف المسلمين والمقيمين بينهم فويل له ثم ويل له من عذاب الله ونقمته، ومن دعوة تحيط به، نسأل الله أن يكشف ستره، وأن يفضح أمره.
2 - أن النفس المعصومة في حكم شريعة الإسلام، هي كل مسلم، وكل من بينه وبين المسلمين أمان كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (1) وقال سبحانه في حق الذمي الذي له ذمة في حكم قتل الخطأ: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) . فإذا كان الذمي الذي له أمان إذا قتل خطأ فيه الدية والكفارة، فكيف إذا قتل عمدا، فإن الجريمة تكون أعظم، والإثم يكون أكبر، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة (3) » . فلا يجوز التعرض لمستأمن بأذى فضلا عن قتله في مثل هذه الجريمة الكبيرة النكراء، وهذا وعيد شديد لمن قتل معاهدا، وأنه كبيرة من الكبائر المتوعد عليها بعدم دخول القاتل الجنة، نعوذ بالله من الخذلان.
__________
(1) سورة النساء الآية 93
(2) سورة النساء الآية 92
(3) رواه البخاري في الجزية والموادعة برقم 3166.(47/368)
3 - أن هذا العمل الإجرامي يتضمن أنواعا من المحرمات في الإسلام بالضرورة من غدر وخيانة وبغي وعدوان وإجرام آثم وترويع للمسلمين وغيرهم وكل هذه قبائح منكرة يأباها ويبغضها الله ورسوله والمؤمنون.
ثانيا: أن المجلس إذ يبين تحريم هذا العمل الإجرامي في الشرع المطهر، فإنه يعلن للعالم أن الإسلام بريء من هذا العمل، وهكذا كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر بريء منه وإنما هو تصرف من صاحب فكر منحرف وعقيدة ضالة، فهو يحمل إثمه، وجرمه، فلا يحتسب عمله على الإسلام ولا على المسلمين المهتدين بهدي الإسلام المعتصمين بالكتاب والسنة المستمسكين بحبل الله المتين. وإنما هو محض إفساد وإجرام تأباه الشريعة والفطرة، ولهذا جاءت نصوص الشريعة قاطعة بتحريمه، محذرة من مصاحبة أهله. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} (1) {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (2) {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (3) .
وقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 204
(2) سورة البقرة الآية 205
(3) سورة البقرة الآية 206
(4) سورة المائدة الآية 33(47/369)
ونسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكشف ستر هؤلاء الفعلة المعتدين، وأن يمكن منهم لينفذ فيهم حكم شرعه المطهر، وأن يكف البأس عن هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين، وأن يوفق خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز وحكومته وجميع ولاة أمور المسلمين إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد وقمع الفساد والمفسدين، وأن ينصر بهم دينه، ويعلي بهم كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية
الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
صالح بن محمد اللحيدان ... عبد الله بن سليمان المنيع ... محمد بن صالح العثيمين
عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل شيخ ... د \ عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل شيخ ... د \ عبد الله بن عبد المحسن التركي
د \ عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان ... راشد بن صالح بن خنين ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان
عبد الله بن عبد الرحمن البسام ... ناصر بن حمد الراشد ... محمد بن سليمان البدر
محمد بن زيد آل سليمان ... د \ صالح بن عبد الرحمن الأطرم ... محمد بن إبراهيم بن جبير
د \ صالح بن فوزان الفوزان ... حسن بن جعفر العتمي ... محمد بن عبد الله السبيل
عبد الرحمن بن حمزة المرزوقي ... د \ بكر بن عبد الله أبو زيد(47/370)
الآداب الإسلامية
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنه لا يخفى على كل من له بصيرة بالدين أن الإسلام: هو دين الله الذي جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، وخلق من أجله الثقلان، كما قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) ، وقال تعال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ} (2) ، وقال - عز وجل -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) .
وحقيقة الإسلام تتمثل في: عبادة الله وحده والطاعة لأوامره والترك لنواهيه، والإيمان بكل ما أخبرنا به سبحانه، أو أخبر به الرسول - عليه الصلاة والسلام - عن أمر الآخرة والجنة والنار وأنباء الرسل وغير ذلك.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة آل عمران الآية 85(47/371)
والإسلام مصدر أسلم إسلاما، ومعناه: الانقياد والذل لمن أسلم له، فمز أسلم لله، وخضع له، واتبع أوامره، وترك نواهيه، وآمن به وبرسله، وبكل ما أخبر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد أسلم حقا.
وأصل الإسلام وأساسه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، مع الإيمان بجميع الأنبياء، والرسل، والكتب السماوية، والملائكة، والإيمان بالآخرة، وبالقدر خيره وشره.
فعلى كل مسلم أن ينقاد لأوامر الله، ويجعل نفسه طوعا لأوامره سبحانه، ويترك ما نهى الله عنه عن محبة له سبحانه الخلاص وصدق.
وأركان الإسلام خمسة كما هو معروف: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا، وبقية العبادات تابعة لها، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الرحم إلى غير ذلك من أوامر الله ورسوله.
وللإسلام ستة أركان باطنية، وتسمى أركان الإيمان وهي: الإيمان بالله ربا ومعبودا بالحق، وخالقا ورازقا ومتصرفا في الكون سبحانه، وبملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
فعلى المؤمن أن يعتقد لهذه الأصول الظاهرة والباطنة، وأن يؤمن بها ويستقيم عليها.(47/372)
ويأتي بعد مرتبتي الإسلام والإيمان مرتبة الإحسان وهي: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. . كما جاء ذلك في حديث عمر بن الخطاب وأبي هريرة - رضي الله عنهما - في سؤال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام والإيمان والإحسان وهو أداء ما أمر الله به وترك ما حرمه تعالى بغاية الكمال والإتقان.
كما يجب على كل المؤمنين والمؤمنات أن يجتهدوا في العبادة وأن يخلصوا العمل لله وحده والاستقامة على العقيدة الصحيحة ويستحوا من الله أن يراهم على معصية.
ثم إن الآداب الإسلامية التي جاء بها كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - توضح ذلك وترشد إليه؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين الآداب الإسلامية وأوضحها في كتابه الكريم، وبينها لنا الرسول - عليه الصلاة والسلام - في سنته المطهرة.
فالمؤمن عليه: أن يتأدب بالآداب الشرعية في أقواله وأعماله وعباداته وسائر تصرفاته الأخرى. ولا بد أن يلتزم بهذه الآداب الإسلامية التي تقربه من الله سبحانه وتعالى ومن جنته وتباعده من أسباب غضبه وعقابه.
وعلى المسلم: أن يتدبر القرآن الكريم، ويعرف مواضع المدح والذم، ويتبين معاني الآيات الكريمة ويأخذ منها الآداب الإسلامية التي ينبغي أن يتخلق بها، ويترك كل ما ذمه الله سبحانه وتعالى ويترفع عنه.(47/373)
كما أنه يجب على المسلم أن يخاف الله في جميع أعماله وعبادته ومعاملاته، والخوف من الله يكون في كل وقت وفي كل مكان وزمان، فإذا خاف المسلم الله خوفا حقيقيا لم يقدم على أي معصية، بل يجتهد في عبادته لله راغبا في جنته مبتعدا عن أعمال أهل النار.
ومما يجب الحذر منه ما قد وقع في كثير من بلاد المسلمين من الغلو في أصحاب القبور ودعائهم والاستغاثة بهم وسؤالهم شفاء المرضى والنصر على الأعداء إلى غير ذلك من أنواع العبادة، ولا شك أن هذا شرك أكبر واتخاذ لأصحاب القبور آلهة مع الله.
فالواجب: الحذر من ذلك والتحذير منه، وقد أخبر الله سبحانه في كتابه الكريم: أن هذا هو دين المشركين الأولين، فقال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا} (1) الآية، وقال سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (2) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (3) .
هنا يأتي دور الآداب الإسلامية التي تنهى عن مثل هذه الأعمال وتدعو إلى عبادة الله وحده والاستقامة على أوامره وترك
__________
(1) سورة يونس الآية 18
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) سورة الزمر الآية 3(47/374)
نواهيه، والسير على منهج رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم -.
وأوصي الجميع أن يتدبروا القرآن الكريم، ويحفظوه أو ما تيسر منه، ويكثروا من تلاوته، ويخصصوا لذلك جزءا من أوقاتهم، كذلك أوصيهم بدراسة السنة النبوية المطهرة، وقراءة السيرة النبوية وحياة الصحابة والتابعين للاستفادة من ذلك والعمل بمقتضاه، كما أنني أوصي إخواني المسلمين جميعا أن يتفقهوا في الدين، وأن يسألوا أهل العلم المعروفين بحسن العقيدة والسيرة عما أشكل عليهم، والمسلم يجب عليه أن يستفيد من أهل العلم ويسألهم عما أشكل عليه مبتغيا في ذلك مرضاة الله سبحانه وتعالى، عملا بقوله - جل وعلا -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
والله المسؤول أن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يرزقنا الاستقامة على دينه، والتأدب بالآداب التي شرعها، وأرشد إليها رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يعيذنا وجميع المسلمين من مضلات الفتن، وأسباب النقم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 7(47/375)
حديث شريف
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلة الله عليه وسلم يقول «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (1) »
متفق عليه واللفظ للبخاري
__________
(1) صحيح البخاري العلم (100) ، صحيح مسلم العلم (2673) ، سنن الترمذي العلم (2652) ، سنن ابن ماجه المقدمة (52) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) ، سنن الدارمي المقدمة (239) .(47/376)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} (1) {مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} (2)
(سورة النحل، الآيتان 116 117)
__________
(1) سورة النحل الآية 116
(2) سورة النحل الآية 117(48/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(48/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(48/3)
المحتويات
الافتتاحية
التمسح بالأبواب والجدران والشبابيك في المسجد الحرام والمسجد النبوي بدعة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة
من صور البورصة (القسم الثالث والأخير) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 27
الفتاوى
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 91
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 127(48/4)
البحوث
حافظ الحكمي.. نابغة الجنوب للدكتور / محمد بن سعد الشويعر 145
كتاب فضائل القرآن للشيخ محمد بن عبد الوهاب تحقيق الدكتور / فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي 193
البسملة في السنة النبوية للدكتور / عبد العزيز الجاسم 253
نية الاتباع للدكتور / محمد بن محمد شتا أبو سعد 279
خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 373(48/5)
صفحة فارغة(48/6)
التمسح بالأبواب والجدران والشبابيك
في المسجد الحرام والمسجد النبوي بدعة
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرم الشيخ محمد واعظ زادة الخراساني منحني الله وإياه الفقه في الدين، وأعاذنا جميعا من طريق المغضوب عليهم والضالين آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد وصلني كتابكم وصلكم الله بحبل الهدى والتوفيق، وجميع ما شرحتم كان معلوما.
وقد وقع في كتابكم أمور تحتاج إلى كشف وإيضاح، وإزالة ما قد وقع لكم من الشبهة عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » وغيرهما من الأحاديث الكثيرة في هذا الباب.
وقد أرشد إلى ذلك مولانا سبحانه في قوله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (3) ، وقوله سبحانه:
__________
(1) رواه مسلم في: '' كتاب الإيمان '' برقم 82.
(2) رواه مسلم في: '' كتاب الإمارة '' برقم 3509.
(3) سورة المائدة الآية 2(48/7)
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) .
فأقول: ذكرتم في كتابكم ما نصه: (ومع احترامي وتقديري لجهودكم في هذا السبيل خطر ببالي بعض الملاحظات، أحببت أن أبديها لكم راجيا أن يكون فيها خير الإسلام والمسلمين، والاعتصام بحبل الله المتين في سبيل تقارب المسلمين، ووحدة صفوفهم في مجال العقيدة والشريعة.
أولا: لاحظتكم تعبرون دائما عن بعض ما شاع بين المسلمين من التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض الأولياء كمسح الجدران، والأبواب في الحرم النبوي الشريف وغيره شركا وعبادة لغير الله. وكذلك طلب الحاجات منه ومنهم، ودعاؤهم وما إلى ذلك. إني أقول: هناك فرق بين ذلك، فطلب الحاجات من النبي ومن الأولياء، باعتبارهم يقضون الحاجات من دون الله أو مع الله، فهذا شرك جلي لا شك فيه، لكن الأعمال الشائعة بين المسلمين، والتي لا ينهاهم عنها العلماء في شتى أنحاء العالم الإسلامي. من غير فرق بين مذهب وآخر، ليست هي في جوهرها طلبا للحاجات من النبي والأولياء، ولا اتخاذهم أربابا من دون الله، بل مرد ذلك كله- لو استثنينا عمل بعض الجهال من العوام- إلى أحد أمرين: التبرك والتوسل بالنبي وآثاره، أو بغيره من المقربين إلى الله عز وجل.
أما التبرك بآثار النبي من غير طلب الحاجة منه، ولا دعائه،
__________
(1) سورة النحل الآية 125(48/8)
فمنشأه الحب والشوق الأكيد، رجاء أن يعطيهم الله الخير، بالتقرب إلى نبيه، وإظهار المحبة له، وكذلك بآثار غيره من المقربين عند الله.
وإني لا أجد مسلما يعتقد أن الباب والجدار يقضيان الحاجات، ولا أن النبي أو الولي يقضيها، بل لا يرجو بذلك إلا الله، إكراما لنبيه، أو لأحد من أوليائه، أن يفيض الله عليه من بركاته. والتبرك بآثار النبي كما تعلمون ويعلمه كل من اطلع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كان معمولا به في عهد النبي، فكانوا يتبركون بماء وضوئه، وثوبه وطعامه وشرابه وشعره. وكل شيء منه، ولم ينههم النبي عنه، ولعلكم تقولون: أجل كان هذا، وهو معمول به الآن بالنسبة إلى الأحياء من الأولياء والأتقياء لكنه خاص بالأحياء، دون الأموات لعدم وجود دليل على جوازه إلا في حال الحياة بالذات فأقول: هناك بعض الآثار تدل على أن الصحابة قد تبركوا بآثار النبي بعد مماته، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يمسح منبر النبي تبركا به.
وهناك شواهد- على أنهم كانوا يحتفظون بشعر النبي، كما كان الخلفاء العباسيون ومن بعدهم العثمانيون، يحتفظون بثوب النبي تبركا به، ولا سيما في الحروب، ولم يمنعهم أحد من العلماء الكبار والفقهاء المعترف بفقههم ودينهم) انتهى المقصود من كلامكم.
والجواب أن يقال: ما ذكرتم فيه تفصيل:(48/9)
فأما التبرك بما مس جسده عليه الصلاة والسلام من وضوء أو عرق أو شعر ونحو ذلك، فهذا أمر معروف وجائز عند الصحابة رضي الله عنهم، وأتباعهم بإحسان. لما في ذلك من الخير والبركة. وهذا أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
فأما التمسح بالأبواب والجدران والشبابيك ونحوها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي، فبدعة لا أصل لها، والواجب تركها لأن العبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما أقره الشرع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » ، متفق على صحته، وفي رواية لمسلم وعلقها البخاري رحمه الله في صحيحه جازما بها: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) »
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه، قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة: «أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (3) » والأحاديث في ذلك كثيرة.
فالواجب على المسلمين التقيد في ذلك بما شرعه الله كاستلام الحجر الأسود وتقبيله، واستلام الركن اليماني.
__________
(1) رواه البخاري في: '' كتاب الصلح '' برقم 2499، ومسلم في: '' كتاب الأقضية '' برقم 3242. واللفظ متفق عليه.
(2) رواه البخاري في: '' البيوع '' باب: '' النجش ''، ومسلم في: '' كتاب الأقضية '' برقم 3243. واللفظ له.
(3) رواه مسلم في: '' كتاب الجمعة '' برقم 1435.(48/10)
ولهذا صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما قبل الحجر الأسود: «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك (1) »
وبذلك يعلم أن استلام بقية أركان الكعبة، وبقية الجدران والأعمدة غير مشروع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولم يرشد إليه ولأن ذلك من وسائل الشرك. وهكذا الجدران والأعمدة والشبابيك وجدران الحجرة النبوية من باب أولى لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع ذلك ولم يرشد إليه ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم.
وأما ما نقل عن ابن عمر رضي الله عنه، لم يوافقه عليه أبوه ولا غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم منه بهذا الأمر، وعلمهم موافق لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة. وقد قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية لما بلغه أن بعض الناس يذهبون إليها ويصلون عندها؛ خوفا من الفتنة بها، وسدا للذريعة.
وأما دعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك فهو الشرك الأكبر وهو الذي كان يفعله كفار قريش مع أصنامهم وأوثانهم، وهكذا بقية المشركين يقصدون بذلك أنها تشفع لهم عند الله، وتقربهم إليه زلفى، ولم يعتقدوا أنها هي التي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم على عدوهم، كما بين
__________
(1) رواه البخاري في: '' كتاب الحج '' برقم 1494 واللفظ له، ورواه مسلم في: '' كتاب الحج '' برقم 2230.(48/11)
الله سبحانه ذلك عنهم في قوله سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (1) ، فرد عليهم سبحانه بقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .
وقال عز وجل في سورة الزمر: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (3) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (4) فأبان سبحانه في هذه الآية الكريمة: أن الكفار لم يقصدوا من آلهتهم أنهم يشفون مرضاهم، أو يقضون حوائجهم وإنما أرادوا منهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، فأكذبهم سبحانه ورد عليهم قولهم بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (5) سماهم كذبة وكفارا بهذا الأمر.
فالواجب على مثلكم تدبر هذا المقام وإعطاءه ما يستحق من العناية. ويدل على كفرهم- أيضا- بهذا الاعتقاد قوله سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (6) فسماهم في هذه الآية كفارا وحكم عليهم بذلك لمجرد الدعاء لغير الله من الأنبياء والملائكة والجن وغيرهم.
__________
(1) سورة يونس الآية 18
(2) سورة يونس الآية 18
(3) سورة الزمر الآية 2
(4) سورة الزمر الآية 3
(5) سورة الزمر الآية 3
(6) سورة المؤمنون الآية 117(48/12)
ويدل على ذلك أيضا قوله سبحانه في سورة فاطر: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (1) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (2) فحكم سبحانه بهذه الآية على أن دعاء المشركين لغير الله، من الأنبياء والأولياء، أو الملائكة أو الجن، أو الأصنام أو غير ذلك بأنه شرك، والآيات في هذا المعنى لمن تدبر كتاب الله كثيرة.
وننقل لك هنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ص 157 ج 1 ما نصه: (والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح، وقوم إبراهيم.
فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم، وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر وكل من هؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تخاطبهم، وتعينهم على أشياء، وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة، وإن كانوا في الحقيقة إنما يعبدون الجن، فإن الجن هم الذين يعينونهم، ويرضون بشركهم قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} (3) {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} (4)
__________
(1) سورة فاطر الآية 13
(2) سورة فاطر الآية 14
(3) سورة سبأ الآية 40
(4) سورة سبأ الآية 41(48/13)
والملائكة لا تعينهم على الشر، لا في المحيا ولا في الممات، ولا يرضون بذلك، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين، فيرونهم بأعينهم ويقوله أحدهم: أنا إبراهيم أنا المسيح، أنا محمد أنا الخضر أنا أبو بكر أنا عمر، أنا عثمان أنا علي أنا الشيخ فلان، وقد يقول بعضا عن بعض هذا هو النبي فلان، أو هذا هو الخضر، ويكون أولئك كلهم جنا، يشهد بعضهم لبعض، والجن كالإنس فمنهم الكافر، ومنهم الفاسق، ومنهم العابد الجاهل، فمنهم من يحب شيخا فيتزي في صورته ويقول: أنا فلان، ويكون ذلك في برية ومكان قفر، فيطعم ذلك الشخص طعاما ويسقيه شرابا أو يدله على الطريق أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك الرجل أن نفس الشيخ الميت أو الحي فعل ذلك، وقد يقوله: هذا سر الشيخ وهذه رقيقته، وهذه حقيقته، أو هذا ملك جاء على صورته، وإنما يكون ذلك جنيا، فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك، والإثم والعدوان.
وقد قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} (1) {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (2) .
قال طائفة من السلف، كان أقوام يدعون الملائكة
__________
(1) سورة الإسراء الآية 56
(2) سورة الإسراء الآية 57(48/14)
والأنبياء؛ كالعزير والمسيح، فبين الله تعالى أن الملائكة والأنبياء عباد الله. كما أن الذين يعبدونهم عباد الله، وبين أنهم يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويتقربون إليه كما يفعل سائر عباده الصالحين.
والمشركون من هؤلاء قد يقولون: إنا نستشفع بهم، أي نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا، فإذا أتينا قبر أحدهم طلبنا منه أن يشفع لنا فإذا صورنا تمثاله- والتماثيل إما مجسدة وإما تماثيل مصورة كما يصورها النصارى في كنائسهم- قالوا: فمقصودنا بهذه التماثيل تذكر أصحابها، وسيرهم ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلى الله فيقول أحدهم: يا سيدي فلان، أو يا سيدي جرجس أو بطرس، أو يا ستي الحنونة مريم أو يا سيدي الخليل أو موسى بن عمران أو غير ذلك اشفع لي إلى ربك.
وقد يخاطبون الميت عند قبره: سل لي ربك، أو يخاطبون الحي وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضرا حيا وينشدون قصائد بقول أحدهم فيها: يا سيدي فلان أنا في حبك أنا في جوارك اشفع لي إلى الله، سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا، سل الله أن يكشف عنا هذه الشدة، أشكو إليك كذا وكذا فسل الله أن يكشف هذه الكربة، أو يقول أحدهم: سل الله أن يغفر لي.
ومنهم من يتأول قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ(48/15)
جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (1) ويقولون: إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة. ويخالفون بذلك الإجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر المسلمين، فإن أحدا منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له، ولا سأله شيئا، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء، وحكموا حكاية مكذوبة على مالك رضي الله عنه، وسيأتي ذكرها، وبسط الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفي مغيبهم، وخطاب تماثيلهم، هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين، من غير أهل الكتاب، وفي مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالى، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (2) إلى آخر ما ذكره رحمه الله في رسالته الجليلة المسماة: "القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة " قد أوضح فيها أنواع الشرك فراجعها إن شئت.
وقال أيضا- رحمه الله- في رسالته إلى أتباع الشيخ عدي بن مسافر ص 31 ما نصه: (فصل: وكذلك الغلو في
__________
(1) سورة النساء الآية 64
(2) سورة الشورى الآية 21(48/16)
بعض المشايخ إما في الشيخ عدي، ويونس القني، أو الحلاج وغيرهم، بل الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه ونحوهم، بل الغلو في المسيح عليه السلام ونحوه، فكل من غلا في حي أو في رجل صالح كمثل علي رضي الله عنه أو عدي أو نحوه، أو في من يعتقد فيه الصلاح كالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر أو يونس القني ونحوهم. وجعل فيه نوعا من الألوهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة باسم سيدي. أو يعبده بالسجود له، أو لغيره أو يدعوه من دون الله تعالى مثل أن يقول: يا سيدي فلان اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو ارزقني أو أغثني أو أجرني أو توكلت عليك أو أنت حسبي أو أنا في حسبك أو نحو هذه الأقوال والأفعال التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح إلا لله تعالى، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل. فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له ولا نجعل مع الله إلها آخر.
والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى مثل الشمس والقمر والكواكب والعزير والمسيح والملائكة واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى. ويغوث ويعوق ونسرا، وغير ذلك لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو أنها تنزل المطر أو أنها تنبت النبات وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء، أو يعبدون قبورهم، ويقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. ويقولون هم شفعاؤنا عند الله،(48/17)
فأرسل الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا} (1) {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (2) .
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح وعزيرا والملائكة فقال الله لهم: هؤلاء الذين تدعونهم يتقربون إلي، كما تتقربون ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي.
وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} (3) {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (4) فأخبر سبحانه أن ما يدعى من دون الله ليس له مثقال ذرة في الملك ولا شريك في الملك وأنه ليس له في الخلق عون يستعين به وأنه لا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه) .
إلى أن قال رحمه الله: (وعبادة الله وحده هي أصل الدين، وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب، فقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (5) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (6)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 56
(2) سورة الإسراء الآية 57
(3) سورة سبأ الآية 22
(4) سورة سبأ الآية 23
(5) سورة الزخرف الآية 45
(6) سورة النحل الآية 36(48/18)
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتى «قال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: " أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده (2) » وقال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد (3) » ونهى عن الحلف بغير الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (4) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد أشرك (5) » وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله (6) »
ولهذا اتفق العلماء على أنه ليس لأحد أن يحلف بمخلوق كالكعبة ونحوها. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن السجود له، ولما سجد
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 25
(2) رواه أحمد في: '' مسند بني هاشم '' برقم 1742، بلفظ: '' أجعلتني والله عدلا''. وله بلفظ آخر: '' جعلتني كله عدلا '' برقم 2430. ولفظه في '' فتح المجيد شرح كتاب التوحيد '': '' أجعلتني لله ندا ''.
(3) رواه الدارمي في: '' الاستئذان '' برقم 2583 واللفظ له، ورواه ابن ماجه في: '' كتاب الكفارات '' برقم 2109، وأحمد في: '' مسند البصريين '' برقم 19773.
(4) رواه البخاري في: '' الشهادات '' برقم 2482، وفي: '' الأيمان والنذور '' برقم 6155. ورواه مسلم في: '' الأيمان '' برقم 2482 واللفظ متفق عليه.
(5) رواه أبو داود في: '' الأيمان والنذور '' برقم 2829 واللفظ له، ورواه الترمذي في: '' النذور والأيمان '' برقم 1455 بلفظ: '' فقد كفر أو أشرك ''.
(6) رواه البخاري في: '' كتاب الأنبياء '' برقم 3189.(48/19)
بعض أصحابه له نهى عن ذلك وقال: «لا يصلح السجود إلا لله (1) » وقال: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها (2) » وقال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «أرأيت لو مررت بقبري أكنت ساجدا له " قال: لا، قال: " لا، فلا تسجد لي (3) » ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد وقال في مرض موته: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (4) »
إلى أن قال رحمه الله: (ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المسجد على القبور ولا تشرع الصلاة عند القبور، بل كثير من العلماء يقول الصلاة عندها باطلة) .
إلى أن قال- رحمه الله تعالى-: (وذلك أن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كانت تعظيم القبور بالعبادة ونحوها، قال الله تعالى في كتابه: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (5) قال طائفة من السلف: كانت هذه الأسماء لقوم صالحين فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم
__________
(1) رواه أحمد في: '' باقي مسند المكثرين '' برقم 12153، بلفظ: '' لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر''. وفي لفظ آخر له برقم 4168: '' إنا لا نسجد إلا لله ''.
(2) رواه الترمذي في: '' الرضاع '' برقم 1079 عن أبي هريرة، ورواه ابن ماجه في: '' النكاح '' برقم 1842، وأحمد في مسند الكوفيين برقم 18591.
(3) رواه أبو داود في: '' النكاح '' برقم 1828.
(4) رواه البخاري في: '' الجنائز '' برقم 1301، ومسلم في: '' المساجد ومواضع الصلاة '' برقم 825، واللفظ متفق عليه.
(5) سورة نوح الآية 23(48/20)
وعبدوها.
ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها) انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله- في الجواب الكافي ص 156 ما نصه: (فصل: ويتبع هذا الشرك الشرك به سبحانه في الأفعال والأقوال والإرادات والنيات فالشرك في الأفعال كالسجود لغيره، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض، وتقبيل القبور واستلامها والسجود لها، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلى لله فيها، فكيف بمن اتخذ القبور أوثانا يعبدها من دون الله. ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » ، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد (2) » وفي الصحيح أيضا عنه صلى الله عليه وسلم: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (3) »
وفي مسند الإمام أحمد رضي الله عنه وصحيح ابن حبان
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه أحمد في: '' مسند المكثرين من الصحابة '' برقم 3651.
(3) رواه مسلم في: '' المساجد ومواضع الصلاة '' برقم 827.(48/21)
عنه صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (1) » وقالت: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » وقال: «إن من كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة (3) » فهذا حال من سجد لله في مسجد على قبر فكيف حال من سجد للقبر نفسه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد (4) » انتهى كلامه رحمه الله.
وبما ذكرنا في صدر هذا الجواب، وبما نقلناه عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- وتلميذه العلامة ابن القيم - رحمه الله- يتضح لكم ولغيركم من القراء أن ما يفعله الجهال من الشيعة وغيرهم، عند القبور من دعاء أهلها والاستغاثة بهم والنذر لهم والسجود لهم وتقبيل القبور طلبا لشفاعتهم أو نفعهم لمن قبلها. كل ذلك من الشرك الأكبر لكونه عبادة لهم، والعبادة حق لله وحده كما قال الله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (5) وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (6) الآية.
__________
(1) رواه ابن حبان 7 \ 3179، 3180.
(2) رواه مالك في الموطأ في: '' كتاب النداء للصلاة '' برقم 376.
(3) رواه البخاري في: '' الصلاة '' برقم 409 و 416، ومسلم في: '' المساجد ومواضع الصلاة '' برقم 822.
(4) رواه مالك في الموطأ في: '' كتاب النداء للصلاة '' برقم 376.
(5) سورة النساء الآية 36
(6) سورة البينة الآية 5(48/22)
وقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) إلى غير ذلك من الآيات التي سبق بعضها.
أما تقبيل الجدران، أو الشبابيك أو غيرها، واعتقاد أن ذلك عبادة لله، لا من أجل التقرب بذلك إلى المخلوق. فإن ذلك يسمى بدعة لكونه تقربا لم يشرعه الله فدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (3) »
وأما تقبيل الحجر الأسود، واستلامه واستلام الركن اليماني فكل ذلك عبادة لله وحده واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لكونه فعل ذلك في حجة الوداع وقال: «خذوا عني مناسككم (4) » وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (5) الآية.
وأما التبرك بشعره صلى الله عليه وسلم وعرقه ووضوئه، فلا حرج في ذلك كما تقدم لأنه عليه الصلاة والسلام أقر الصحابة عليه ولما جعل
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) رواه البخاري في: '' الصلح '' برقم 2499، ومسلم في: ''الأقضية'' برقم 3242 واللفظ متفق عليه.
(3) رواه أبو داود في: '' السنة '' برقم 3991، وأحمد في: '' مسند الشاميين '' برقم 16522.
(4) رواه البيهقي في: السنن الكبرى '' 5 \ 125، وابن عبد البر في: '' التمهيد '' 2، 90، 98، 4 \ 40233، 5 \ 117، 7 \ 272، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 3 \ 269، وابن حجر في: '' فتح الباري '' 1 \ 499.
(5) سورة الأحزاب الآية 21(48/23)
الله فيه من البركة، وهي من الله سبحانه، وهكذا ما جعل الله في ماء زمزم من البركة حيث قال صلى الله عليه وسلم عن زمزم: «إنها مباركة وإنها طعام طعم وشفاء سقم (1) »
والواجب على المسلمين الاتباع والتقيد بالشرع، والحذر من البدع القولية والعملية. ولهذا لم يتبرك الصحابة رضي الله عنهم بشعر الصديق رضي عنه، أو عرقه أو وضوئه ولا بشعر عمر أو عثمان أو علي أو عرقهم أو وضوئهم، ولا بعرق غيرهم من الصحابة، وشعره ووضوئه لعلمهم بأن هذا أمر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا يقاس عليه غيره في ذلك، وقد قال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) .
وقال كثير من الصحابة رضي الله عنهم: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم.
وأما توسل عمر رضي الله عنه والصحابة بدعاء العباس في الاستسقاء وهكذا توسل معاوية رضي الله عنه في الاستسقاء بدعاء يزيد بن الأسود فذلك لا بأس به لأنه توسل بدعائهما وشفاعتهما ولا حرج في ذلك. ولهذا يجوز للمسلم أن يقول لأخيه: ادع
__________
(1) رواه مسلم في: '' كتاب فضائل القرآن '' برقم 4520، وأحمد في: '' مسند الأنصار '' برقم 20546 بلفظ: '' إنها مباركة إنها طعام طعم ''.
(2) سورة التوبة الآية 100(48/24)
الله لي وذلك دليل من عمل عمر والصحابة رضي الله عنهم ومعاوية رضي الله عنه على أنه لا يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء ولا غيره بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك جائزا لما عدل عمر الفاروق والصحابة رضي الله عنهم عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بدعاء العباس ولما عدل معاوية رضي الله عنه عن التوسل به صلى الله عليه وسلم إلى التوسل بيزيد بن الأسود وهذا شيء واضح بحمد الله.
وإنما يكون التوسل بالإيمان به صلى الله عليه وسلم ومحبته والسير على منهاجه وتحكيم شريعته وطاعة أوامره، وترك نواهيه. هذا هو التوسل الشرعي به صلى الله عليه وسلم بإجماع أهل السنة والجماعة وهو المراد بقول الله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) .
وبما ذكرنا يعلم أن التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم أو بذاته من البدع التي أحدثها الناس ولو كان ذلك خيرا لسبقنا إليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم أعلم الناس بدينه وبحقه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم.
وأما توسل الأعمى به صلى الله عليه وسلم إلى الله سبحانه في رد بصره إليه فذلك توسل بدعائه وشفاعته حال حياته صلى الله عليه وسلم ولهذا شفع له النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له.
والله المسؤول بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحني وإياكم وسائر إخواننا الفقه في دينه والثبات عليه وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأن يمنحهم الفقه في الدين وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم وأن يوفق جميع حكام
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21(48/25)
المسلمين للفقه في الدين والحكم بشريعة الله سبحانه والتحاكم إليها وإلزام الشعوب بها والحذر مما يخالفها عملا بقول الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) ، وبقوله سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة المائدة الآية 50(48/26)
من صور البورصة
(القسم الثالث والأخير)
بحث من إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
خامسا: نقول عن العلماء المعاصرين في بيان معنى البورصة ونشأتها وصورها والحكم فيها مع التعليق عليها:
أ- نقل عن: [دائرة معارف القرن العشرين] لفريد وجدي - مادة بورصة ج 2- ذكر فيه تعريفها وبين نشأتها، ثم نقل عن العالم محمد أفندي فهمي حسين فصلا كاملا من كتابه (الاقتصاد السياسي) ذكر فيه: "تعريف البورصة ونشأتها ومنافعها ومضارها وعلاقات البورصات بعضها ببعض. . " مع التعليق عليه:
بورصة:
البورصة: هو النادي الذي يجتمع فيه في ساعات محددة تجار مدينة وصيارفتها وسماسرتها للتعامل. هذه المجامع التجارية وجدت في كل زمان، وورد عنها كلام في كتب مؤلفي الرومانيين.(48/27)
أقدم بورصة في فرنسا هي بورصة (ليون) ، ثم تلاها بورصة (تولوز) سنة 1549 م، ثم بورصة (روان) سنة 1556 م، ولم تشكل بورصة باريس رسميا إلا سنة 1724 م، وإن كانت من قبل أربعة قرون سابقة على هذا التاريخ مركزا للمبادلات التجارية في كل ضرب من ضروبها.
ويحسن بنا في هذا المقام أن نترك المجال لحقوقي فاضل هو حضرة محمد أفندي فهمي حسين فقد كتب في البورصة فصلا جليل الفائدة في كتابه: " الاقتصاد السياسي " ننقله عنه تنويها بفضله قال حضرته:
تدل لفظة (البورصة) على معنيين:
الأول: اجتماع التجار والصيارف لقضاء الأشغال التجارية.
والثاني: المكان الذي ينعقد فيه هذا الاجتماع.
وقد عرفها قانون التجارة الفرنسي (مادة 71) بأنها: مجتمع التجار وأرباب السفن والسماسرة والوكلاء بالعمولة تحت رعاية الحكومة. وهي من النظامات الاقتصادية اللازمة لكل دولة متمدينة، إذ هي للتجار بمثابة مقياس الحرارة، تنبئ بالأسعار ومقدار المطلوب والمعروض، ويمكن بواسطتها جس نبض السوق والاحتراس من الوقوع في الأزمات.
ولم تبلغ (البورصة) شأوها الحالي إلا منذ زمن قريب، فقد كانت (البورصات) في القرون الوسطى حتى نهاية القرن(48/28)
السابع عشر لا يباع فيها إلا الكمبيالات وتصرف فيها النقود، ولكن دعت الحاجة بعد ذلك الملوك في أوروبا إلى الاستدانة من الماليين للقيام بالحروب وصارت تلك القراطيس التي على الحكومات تباع في (البورصات) ، وبدخول العالم التجاري في دور جديد من التقدم دخلت هي أيضا وصارت تباع فيها أسهم الشركات على اختلاف أنواعها، وأصبحت الآن مسارح تمثل فيها المضاربات التي شغف كثيرون بها ولم تخل (بورصة) منها.(48/29)
- المضاربات:
لا شك في أن التأمل وبعد النظر من أجل الصفات التي يلزم كل تاجر التحلي بها، ولا خلاف في أنهما خلتان ممدوحتان فيه. وقد أبان " آدم سميث " (أن كل مشتغل في هذه الدنيا يدخل في مكسبه شيء لم يكن ليربحه، ولا نظره في العواقب وخصوصا من كان من ذوي المكانات العالية المحفوفة بالمخاطر ولما كان الغرض من هذا النظر في العواقب تقدير حالة السوق في المستقبل بحيث يمكن التاجر الكسب بقدر الإمكان) كان مفيدا للتجارة في أحوال كثيرة منها:
أنه يمنع القحط. والتاريخ يشهد كيف عرف سيدنا يوسف الصديق عليه السلام أن مصر سيحل بها قحط وقت أن جاء أحدهم يستفتيه " في: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} (1) . حيث قال:
__________
(1) سورة يوسف الآية 46(48/29)
{تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ} (1) {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} (2) {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} (3) . وبهذه الوسيلة كان سببا في نجاتهم من القحط وصارت مصر في ذلك الوقت مشد رحال التجار إلى أقصى الأقطار.
ومنها أنه يمنع ارتفاع الأسعار؛ لأن التجار بواسطة نظرهم في العواقب يخدمون التجارة خدمة كبرى فهم يشترون السلع من الجهة التي تباع فيها رخيصة ويبيعونها في السوق التي تباع فيها غالية، فتقل بذلك كمية المعروض من البضائع في السوق الأولى وتزيد في الثانية فتتساوى الأثمان.
مثال ذلك: إذا كان القمح غاليا في السودان ورخيصة في مصر، فإن حسن نظر بعض التجار يدلهم على شراء هذه السلعة من مصر، فيقل المعروض منها وبيعها في السودان حيث يزيد المعروض بهذه الطريقة فيهبط سعرها. أو هم يشترون الصنف وقت كثرته وقلة طلبه ويخزنونه لحين قلته وكثرة طلبه فيربحون هم ويربحون غيرهم في المستقبل بتسهيل الحصول على حاجاتهم منه فتنتظم الأسعار أيضا. فإذا كان نتاج القطن في إحدى السنين
__________
(1) سورة يوسف الآية 47
(2) سورة يوسف الآية 48
(3) سورة يوسف الآية 49(48/30)
وافرا، أو سعره هابطا، فإن كثيرين من التجار وهم أعلم بقراءة المستقبل يعرفون العام الذي يكون فيه النتاج قليلا (1) ، فلا يبيعون كل ما يشترونه، بل يبيعون جزءا منه فقط ويحفظون الباقي استعدادا للطوارئ في المستقبل. وهم بعملهم هذا ينظمون الأسعار:
أولا: لأنهم باختزانهم بعض النتاج يقللون المعروض منه في السوق فيرتفع سعره نوع ارتفاع في سنة الوفرة، ولا يخفى ما في ذلك من الفائدة لأصحاب القطن.
ثانيا: لأنهم عند حلول العام القليل الحاصلات الذي دلهم عليه بعد نظرهم يضيفون ما أودعوه في خزائنهم إلى المعروض منه وتكون النتيجة اعتدالا في أسعاره بدل ارتفاعها، وربما كان سعره في تلك السنة كالسنة الأولى أو كان الفرق بينهما قليلا. على أن كثيرين لم يقتصر بعد نظرهم على اختزان البضائع أو معالجة التجارة المعقولة (بل تعدوا طورهم وطفقوا يخترقون حجب المستقبل بأوهامهم واندفعوا في تيار الاتجار بالتخمين بانين كل معاملاتهم على سلع مجهولة وموكولة للمصادفة، أو متجرين بأشياء لا يقصد استلامها، بل يقصد ربح الفروق أو متجرين بالفروق حتى أصبحوا خطرا يتهدد الحالة التجارية، وداء فتاكا بالصالح العام.
__________
(1) هذا ضرب من التوقع الظني المبني على التجربة والاجتهاد، وقد يكون فيه ضرب من التخمين.(48/31)
هؤلاء هم المضاربون الذين أستفحل أمرهم فكادوا لغيرهم كيدا كاد يذهب بحياته، واسترسلوا في غوايتهم غير مبالين إلا بمنفعتهم الشخصية، ولو أصبحت الأزمات على الأبواب.
والغلاء لا يطاق. هم كما يدل اسمهم يريدون أن يصرعوا غيرهم ويخربوا السوق ليقوموا على أنقاضها.
وإذا بحثنا في الأسباب التي تحض بعض التجار والسماسرة على المضاربة نجد أهمها اثنين: حب الاستئثار بالغنى، وغرورهم في تقدير أنفسهم.
فكما لاحظ " آدم سميث " أن كثيرين من الناس يعجبون بأنفسهم بدون حق، كذلك يتعالى كثيرون في المضاربة لهذا السبب عينه، وينسون أن المصادفة التي وكلوا إليها أمرهم ربما خانتهم فانقلبوا خاسرين) (1)
__________
(1) ما بين القوسين مكمن للخطر.(48/32)
- ما يحدث في (البورصات) :
في البورصات فئة من التجار يدعون السماسرة وظيفتهم بيع الأسهم والسندات والكمبيالات أو التوسط في شرائها والسمسرة حرفة مباحة. ويجب عليهم القيام بواجبات كثيرة فرضها عليهم القانون التجاري لا محل لذكرها هنا. وهناك أيضا الوكلاء. بالعمولة والوكيل بالعمولة هو الذي يعمل عملا باسم نفسه، أو باسم شركة بأمر الموكل، أو على ذمته في مقابل أجرة، أو عمولة. ويجب عليهم القيام بما تفرضه عليهم القوانين.(48/32)
ويوجد غير هؤلاء كثيرون من التجار والمضاربين.
والمضاربون: إما أن يتاجروا بأصناف غير موجودة وستوجد في المستقبل كأن يتفق أحدهم مع أحد السماسرة أن يسلم بعد ثلاثة أشهر ألف إردب قمحا، سعر الإردب مائة قرش، ثم يجيء مضارب آخر ويشتري من المشتري الأول القمح الذي لم يستلمه بسعر الإردب مائة وعشرين قرشا، وربما جاء ثالث ودفع للثاني مائة وثلاثين قرشا في الإردب وهكذا (1) ، حتى إنه عند حلول ميعاد التسليم يزداد طلب الصنف كثيرا؛ لأن كل بائع مجبر على التسليم، فإذا طلب المشتري الأخير من البائع له أن يسلم له الصنف رجع هذا على من باع له طالبا ذات الطلب وهكذا، فيرتفع سعر السلعة ارتفاعا هائلا لقلة الموجود منها فعلا وكثرة المطلوب.
وقد يحدث أن أحد كبار الماليين من المضاربين يشتري جميع حاصلات ذلك الصنف ويملك زمام السوق، وهنا يظهر حرج موقف كل من خاطر وضارب؛ لأن ذلك المالي يجعل سعر الصنف كما يريد هو شأن كل محتكر، فلا يجد المضاربون بدا من الإفلاس لعجزهم عن أداء تعهداتهم. وقد يشتري بعض المضاربين الأسهم لأجل أن يبيعها في بحر الشهر، أو آخره، ويكون الفرق بين السعرين: السعر الذي اشترى به، والسعر الذي باع به ربحا له. فإذا فرضنا أنه أمر السمسار أن يشتري له مائة
__________
(1) فيه بيع لما أشتري قبل قبضه وهو ممنوع.(48/33)
سهم، سعر السهم خمسة جنيهات، وبعد خمسة عشر يوما من تاريخ الشراء صعدت قيمة الأسهم نصف جنيه، وباعها في هذه الأثناء لآخر، أو بعبارة أخرى صرح للسمسار أن يحفظها للمشتري الجديد فإنه يكسب 100 في 0، 5 أي 50 جنيها.
ولكن لنفرض أنه في نهاية الشهر لم يرتفع سعر الأسهم، ففي هذه الحالة يتملص المضارب من دفع ثمن الشراء بأن يدفع للسمسار مبلغا من النقود يختلف قلة وكثرة على حسب أهمية الأسهم حتى بهذه الطريقة يمد هذا الوقت على حسابه، ويحدد له فرصة يكسب فيها، وهكذا لا يزال يماطل ويمد للسمسار بالمال ليمد له الوقت حتى ينتهز فرصة صعود السهم فيبيع ويستلم الفرق بين السعرين؛ السعر الذي اتفق أن يدفعه للسمسار أولا، والسعر الذي باع به هو بالطبع يخصم من ذلك المبالغ التي كان يمد السمسار بها.
والمضاربون على أنواع فمنهم: المضارب بالصعود والمضارب بالهبوط: أما الأول فهو الذي يشتري الأسهم كما في المثال المتقدم ثم ينتظر بدون دفع الثمن كلما حل أجله إلى أن تصعد قيمة الأسهم فيبيع ويربح الفرق بين السعرين. وأما الآخر فهو الذي يبيع أسهما كثيرة بقصد إكثار المعروض منها وخفض سعرها ثم يشتريها بعد ذلك. فإذا كان سعر السهم في إحدى الشركات ثمانية جنيهات، وباع أحد المضاربين مائة سهم بدون أن يسلمها، انبنى على ذلك هبوط سعرها، فيبادر هو بانتهاز فرصة هذا الهبوط ويشتري منها، وربما فعل ذلك بدفع ستة جنيهات(48/34)
ونصف في السهم فيمكنه أن يقوم بتعهده للسمسار أو لغيره فيربح 150 جنيها؛ لأنه اشترى بمبلغ 650 جنيها فقط مع أنه أخذ 800 جنيه، وكثيرا ما يفعل كبار الماليين ذلك خصوصا عندما يرون عن بعد أن الأسهم ستهبط قيمتها فيريدون أن يربحوا مهما أضر ربحهم بمصلحة غيرهم.(48/35)
2 - مضار المضاربة (1) :
إن المضاربة لا سيما إذا كانت في الفروق لا تختلف كثيرا عن المقامرة، بل هي مثلها في أكثر الأحوال غير أن ضررها أبلغ من ضرر هذه؛ لأنها تسحب الثقة من السوق له وتحدث تأثيرا سيئا في أخلاق كثيرين، ويستهويهم شيطانهم حتى يقبلوا عليها، ومتى أقبلوا أدبرت سمعتهم وأصبحوا معرضين في كل آن إلى الإفلاس. وإن استدرجهم الربح في أول الأمر كما هي الحال في المقامرة، وليس ضرر المضاربة مقصورا على الأفراد، بل ينتاب جميع الأمة وخصوصا إذا كان الصنف الذي يضاربون به من الأصناف المهمة كالقمح، والقطن، والذهب، أو كان عقارا كأراضي البناء. والسبب في ذلك أنها كما قدمنا تكثر المطلوب من الصنف عن المعروض، فيرتفع سعره، ومما يزيد ضررها وخصوصا في الأسهم وجود فئة من المروجين الذين يذيعون أخبارا كاذبة عن أهمية بعض الشركات حتى يتهافت الناس إلى اقتناء سهومها فيكون الويل ويلين. ولقد كانت تلك الفئة سببا في
__________
(1) المضار مكمن الخطر(48/35)
التعجيل بالأزمات على بلاد كثيرة.
وهناك ضرر كبير للمضاربات من جهة توزيع الثروة، وذلك أنها تسبب اختلالا في كفة التوازن بين الأنصباء، ربما كان سببا في أن يحتكر بعض المثرين صنفا من الأصناف المهمة، فيفعلون بأسعارها ما شاءوا وشاء طمعهم الأشعبي.
ومما يزيد ضررها عجز كثير من الحكومات عن إبطالها، فقد سنت الولايات المتحدة قانونا في سنة 1874 م تمنع به المضاربة في الذهب، فاشترى المضاربون كل الذهب الموجود وتسلطوا على السوق، وملكوا زمام السعر حتى ارتفع ارتفاعا مريعا فلم تر الحكومة بدأ من إلغاء ذلك القانون.
فأحسن طريقة يكون لكل شخص وازع من نفسه عن الاشتغال، والإسكندرية إن ارتفعت أثمانها ارتفاعا هائلا حتى أن المتر الواحد وصل 130 جنيها بالمضاربات ففيها ضرر بليغ بالشعوب، وهي إن أفادت بعض الأفراد فقد أوردت كثيرين موارد الخراب.
وناهيك ما حل بمصرنا أخيرا من المآزق المالية، وركود الحركة التجارية، وخراب بيوتات كثيرة، ألم يكن الاشتغال بالمضاربات السبب المهم لتلك النائبات؟(48/36)
3 - تقدير الأسعار في البورصة:
وفي كل يوم بعد انتهاء الأعمال المهمة في (البورصارت) تقدر الأسعار الجارية سواء كانت أسعار أسهم، أو سندات، أو(48/36)
حاصلات زراعية، وذلك بواسطة أخذ متوسط السعر في جملة مبايعات مختلفة.
فإذا فرض أن سعر المبيع من الأسهم مثلا كان 9 و 8 و 7 من الجنيهات جمعت تلك الأعداد وأخذ متوسطها والنتيجة هي السعر الجاري لتلك الأسهم في ذلك اليوم، وإذا فرضنا أن سعر القطن مثلا كان في بعض المبيعات 15 ريالا، وفي سوق آخر 14، وفي جهة أخرى 16، فإن سعره في البورصة يكون متوسط هذه المبيعات: أي 15 ريالا، وبعد أن تقدر (البورصات) الأسعار تنشرها وترسلها أحيانا للجهات الأخرى.(48/37)
4 - علاقات (البورصات) :
وللبورصات علاقات بعضها ببعض كما للمصارف في كثير من أنحاء الأرض، فتوجد (البورصات) الدولية المهمة في (برلين) و (لندن) و (باريس) وتباع فيها قراطيس الحكومات والسندات المهمة وغيرها مما له علاقة بالتجارة وتوجد (بورصة) متوسطة بين أنحاء العالم وهي (بورصة نيويورك) ، وكذلك توجد (بورصات) كثيرة في الممالك المهمة.
وتأثير تلك العلاقة شديدة على التجارة؛ لأن أقل تعطيل يطرأ على إحدى (البورصات) يظهر أثره في الآخر وخصوصا إذا كانت (البورصة) التي ينتابها الخلل من المراكز المهمة للتجارة، ومما زاد هذا التأثير أيضا أن المضاربة صار أغلبها في الأصناف الدولية وأصبح ضررها عاما واستئصالها صعبا.(48/37)
5 - منافع البورصات:
يزعم كثيرون أن أندية التجارة لا فائدة فيها بما أن فيها المضاربات التي أجمع الكل على ضررها، وهو زعم باطل؛ لأن لها الدور المهم في ترقية الشؤون التجارية فهي:
أولا: تبين مقدار المعروض من الأصناف وسعره الجاري، وترشد أصحاب المعامل وغيرهم من خازن الثروة إلى المحافظة على التوازن الطبيعي بين المعروض والمطلوب فتقل الأزمات، وما المضاربات إلا أمور استثنائية لا يصح أن تتخذ مندوحة إلى غمط (البورصات) حقها.
ثانيا: ترشد أرباب الأعمال إلى الكيفية التي يحصلون بها على السلفة ليقوموا بها أعمالهم.
ثالثا: تظهر للناس فوائد بعض المشروعات فيقبلون عليها.
والخلاصة: أن أعضاء نوادي التجار بإخلاصهم في تتميم أعمالهم واتباعهم صوت الذمة يفيدون التجارة فوائد يعجز غيرهم عن مثلها(48/38)
(ب) نقل ما كتبه الشيخ محمد رشيد رضا جوابا عن سؤال وجه إليه في موضوع البورصة، مع التعليق عليه:
ما قولكم دام فضلكم في رجل من المسلمين اشترى من القطن ألف قنطار مثلا موصوفة في ذمة البائع بثمن معلوم- في شهر المحرم مثلا- على أن يستلمها منه في أجل معلوم- شهر ربيع الأول- كذلك ودفع بعض الثمن عند التعاقد وأجل باقيه إلى الاستلام. فهل للمشتري قبل قبض المبيع وقبل حلول الميعاد أن يبيع ذلك القطن الموصوف في الذمة ويكون تمكين البائع للمشتري من البيع في أي وقت من أوقات الميعاد قبضا وتخلية حتى يكون ذلك البيع صحيحا؛ لأنه معرض للربح والخسران الذي هو قانون البيع، ويكون ما عليه المسلمون اليوم في تجاراتهم من المضاربة وبيع (الكنتراتات) جائزا في دين الله تعالى. أم يكون ذلك بيعا فاسدا وعملا باطلا مشابها للميسر كما يزعمه بعض الناس؟ وإذا كان باطلا فأي فرق بين قبضه بنفسه وبين إذن البائع له بالبيع في أي وقت وما السر في ذلك، وأين اليسر في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) بل هو عين الحرج في البيع والشراء، وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) . أم كيف يحرم
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة الحج الآية 78(48/39)
المسلمون من منفعة هذه التجارة العظيمة التي تعود على الكثير منهم، نطلب من حضرتكم الجواب الموافق لكتاب الله وسنة رسوله ودينه الصحيح من غير تقيد بمذهب من المذاهب، مفصلا مبينا فيه سند الجواز أو المنع على لسان مجلتكم الغراء التي أخذت على عاتقها خدمة الإسلام والمسلمين؛ لأن الإجابة على هذا السؤال بما يوافق الشرع أعظم شيء يستفيده التجار المسلمون من أمر دينهم، وكلهم بلسان واحد يطلبون من حضرتكم الإجابة في أقرب وقت على صفحات المنار سواء كانوا بالإسكندرية أو غيرها، وفيهم مشتركون في مجلة المنار الغراء، والكل مشتاق إليها اشتياق الظمآن للماء، ليطمئن الجميع، نسأل الله تعالى أن يعلي شأنكم ويعضد عملكم ويجعلكم ملجأ للقاصدين؟
ج: نهى الكتاب العزيز عن أكل أموال الناس بالباطل أي بغير حق يقابل ما يأخذه أحد المتعاوضين، وأحل التجارة واشترط فيها التراضي فقط، ومن أكل أموال الناس بالباطل ما ورد في الأحاديث من النهي عن بيع الغرر، وعن الغش، وعن بيع ما لا يملك لعله لا يقدر عليه.
وقد ورد في حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما «أنهم كانوا يتبايعون الطعام جزافا بأعلى السوق فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يحولوه، وفي رواية ينقلوه، (1) » وقال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (2) » ، وفي رواية
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4608) ، سنن أبو داود البيوع (3494) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/21) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1336) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(48/40)
لأحمد: «من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه (1) » ، وروى أحمد ومسلم عن حديث جابر: «إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه " وهذه الأحاديث خاصة بالطعام وبالتجارة الحاضرة تدار بين التجار (2) » كما يدل عليه كونهم كانوا يفعلون ذلك في السوق وأمروا بالتحويل.
وفي حديث حكيم بن حزام عند أحمد والطبراني قال «قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: "إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه (3) » وهو عام. ولكن في سنده العلاء بن خالد الواسطي ضعفه موسى بن إسماعيل. وهناك حديث آخر عام في الطعام وغيره خاص بالسلع الحاضرة، وهو حديث زيد بن ثابت عند أبي داود وابن حبان والدارقطني والحاكم قال: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم، (4) » وقد خص بعض العلماء النهي بالطعام واستدلوا على ذلك بأحاديث أخرى تدل على صحة التصرف بالمبيع قبل القبض، ومن هذه التصرفات ما هو مجمع عليه كالوقف والعتق قبل القبض (5) وقد علل ابن عباس النهي: بأن الشيء الحاضر إذا تكرر بيعه ولم يقبض كان ذلك بمنزلة بيع المال بالمال، أي: فإن المال ينتقل من يد إلى يد والشيء حاضر لا يمس كأنه غير محتاج إليه
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4604) ، سنن أبو داود البيوع (3495) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، مسند أحمد بن حنبل (2/111) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(2) ليس بصحيح لعموم أحاديث النهي، وما استدل به على التخصيص صور جزئية داخلة في عموم النهي لمجيئها على وفقه.
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/402) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(5) الصور المجمع على جوازها ليست داخلة في عموم النهي؛ لأنها ليست بيعا.(48/41)
ولا مراد، رواه الشيخان. قال مسلم: إنه قال لما سأله طاوس عن ذلك: ألا تراهم يبتاعون بالذهب الطعام مرجأ؟ .
وحاصل هذا التعليل أن النهي لمنع الاحتيال على الربا، ولا بد في التجارة أن تكون السلع هي المقصودة فيها لا سيما إذا كانت حاضرة، فما معنى شراء فلان السلعة الحاضرة بعشر جنيهات وبيعها من آخر بخمس عشرة وهي حاضرة وهم حاضرون إلا الحيلة على الربا؟ وأي فائدة للناس في حل مثل هذا اللعب بالتجارة وإننا نعلم أن بيع البورصة ليس من هذا القبيل، ولكن أحببنا أن نورد أصل مآخذ العلماء في تحريم بيع الشيء قبل قبضه ليميز المسلم بين البيوع التي تنطبق عليها الأحاديث وغيرها.
ثم إن علماء المسلمين كافة يجيزون إرجاء الثمن أو إرجاء القبض (1) ولكن أكثرهم يمنع بيع الشيء قبل قبضه مطلقا فإن احتجوا بالأحاديث المذكورة آنفا فقد علمت أنها لا تدل على هذا الإطلاق، وإن قالوا إن بيع ما في الذمة لا يخلو من غرر وربما يتعذر تسليمه نقول: إن هذا رجوع إلى القواعد العامة التي وضعها الدين للمعاملات وكلها ترجع إلى حديث: «لا ضرر ولا ضرار (2) » ، فكل ما ثبتت مضرته ولم يكن في ارتكابه منع ضرر أكبر منه فهو محرم وإلا كان حلالا، وهذا ينطبق على قاعدة بناء
__________
(1) هذا ليس على إطلاق فإنهم لم يقولوا ذلك في رأس مال السلم.
(2) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(48/42)
الشريعة على اليسر ودفع الحرج. ولا شك أن في مبايعات البورصة ما هو ضار وما هو نافع، وتحرير ذلك بعد العلم بأصول الأحكام التي ذكرناها متيسر للتاجر المتدين (1) وقد جاء في الصحيح «النهي عن بيع المحاضرة (2) » : وهو بيع الثمار والحبوب قبل بدو صلاحها، وذلك لما كثر تشاكيهم، ودعوى البائعين أن الآفات والجوائح أصابت الثمر قبل بدو صلاحه، وإنما هذا في ثمر شجر معين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ (3) » والحديث في البخاري. ولا يدخل في هذا بيع كذا قنطارا من القطن قبل بدو صلاحه إذا لم يعين شجر القطن.
ويدل على ذلك جواز السلم الذي يدخل في تجارة البورصة، فإن الكثير منها في معنى السلم، إلا أنه لا ينطبق على جميع شروطه وأحكامه المشروحة في كتب الفقه فنذكر حقيقة ما جاء فيه في الأحاديث الصحيحة فيه إثارة للموضوع، فإننا غير واقفين على تفصيل ما يجري في البورصة من البيوع (4) فنكتفي بالكلام فيها.
روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن من حديث ابن عباس قال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: "من أسلف فليسلف في كيل
__________
(1) في هذا إجمال وحيدة عن جواب السائل.
(2) صحيح البخاري الزكاة (1487) ، سنن ابن ماجه التجارات (2216) ، مسند أحمد بن حنبل (3/395) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2199) ، صحيح مسلم المساقاة (1555) ، سنن النسائي البيوع (4526) ، موطأ مالك البيوع (1304) .
(4) إذا كان أمره كذلك وجب أن يؤخر الكلام في البورصة حتى يكون عن بينة من صورها.(48/43)
معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (1) » . فالكيل المعلوم شرط؛ لأنهم كانوا يسلفون في ثمار نخيل بأعيانها وفيه غرر وخطر كما علم مما تقدم.
وأما الآجل فقال الشافعية: إنه ليس بشرط، وإن الجواز حالا أولى وهو الراجح، وإن خالفهم الجمهور. وأقل التأجيل عند المالكية ثلاثة أيام (2) وروى أحمد والبخاري من حديث عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى قالا: «كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى قيل: أكان لهم زرع أو لم يكن؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك (3) » .
وفي رواية لأحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجه «وما نراه عندهم (4) » أي المسلم فيه. وهو دليل على أنه لا يشترط في المسلم فيه أن يكون عند المسلم إليه. قال ابن رسلان: وأما المعدوم عند المسلم إليه وهو موجود عند غيره فلا خلاف في جوازه. وأجاز الجماهير السلم فيما ليس بموجود عند العقد خلافا للحنفية، ويدل عليه حديث ابن عباس السابق، فإن السلف في الثمار إلى سنتين نص فيه إذ الثمار لا تمكث سنتين.
وروى أبو داود وابن ماجه من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2239) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .
(2) هذا ليس في الموضوع لأن مضاربات البورصة كلها فيها أجل حتى الفورية.
(3) صحيح البخاري السلم (2245) ، سنن النسائي البيوع (4615) ، سنن أبو داود البيوع (3466) ، سنن ابن ماجه التجارات (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/354) .
(4) سنن النسائي البيوع (4615) ، مسند أحمد بن حنبل (4/354) .(48/44)
إلى غيره (1) » وفي إسناده عطية بن سعد العوفي. قال المنذري: ولا يحتج بحديثه. وإذ كان هذا الحديث غير صحيح ولا حسن فلا يوجد حديث غيره يدل على امتناع جعل المسلم فيه ثمنا لشيء قبل قبضه أو امتناع بيعه قبل القبض. ثم إن بيعه قبل القبض ليس فيه شيء مما لم يكن في العقد الأول فيحال عليه الفساد فهو جائز (2) فعلم من هذا كله أن بيع ما في الذمة جائز كالحوالة فيه (3) ، إلا إذا كانت التجارة غير مقصودة، بل حيلة للربا أو المقامرة، أو كان في ذلك غش أو تغرير: ومنه أن يبيع الإنسان ويشتري وليس له مال ولا سلع تجارية، وإنما يخادع الناس فإن ربح طالبهم وإن خسر لا يأخذون منه شيئا (4) فليحاسب مؤمن بالله نفسه بعد العلم بأحكام دين الله، والله الموفق والمعين.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .
(2) تقدم ما فيه ص 95 من القسم الثاني في العدد ''47'' وانظر ص 132 من القسم الأول في العدد '' 46''.
(3) الصحيح أن الحوالة وفاء، وإبراء ذمة لا بيع.
(4) هذا موجود كله أو بعضه في جميع صور البورصة كما يعلم مما تقدم من التعليق على ما جاء في نص المؤسسة.(48/45)
ج- نقل عن فقه الكتاب والسنة في المعاملات المصرفية في العصر الحاضر لمؤلفه الأستاذ محمد يوسف موسى:
ذكر فيه تمهيدا قصيرا ثم بين حاجة الناس إلى الأسواق ومعنى البورصة ونشأتها، والفرق بين البورصة والسوق، وأنواع البورصات وعملياتها، ورأي علماء الاقتصاد في البورصة، ورأي(48/45)
علماء الفقه الإسلامي في ذلك. . . إلخ.
قال: وبعد، فإنه ليس من الممكن في هذا البحث أن نتناول مختلف ضروب المعاملات المالية والتجارية المعاصرة.
فكل منها يحتاج بلا ريب إلى بحوث خاصة مستقلة. ولهذا نكتفي منها اليوم بما يختص بالقطن خارج (البورصة) وداخلها.
ونضرع إلى الله أن يجنبنا الزلل، وأن يرزقنا العون والتوفيق والسداد.
ومن البديهي أنه للحكم على شيء يجب أولا أن نعرفه؛ فإن الحكم على شيء فرع عن تصوره كما يقولون. ولذلك يجب أن نبحث بإيجاز البورصة بصفة عامة وأعمالها، ثم سوق القطن أو بورصته بصفة خاصة. والعمليات التجارية التي يمر بها من أيدي المنتجين حتى يصل إلى أيدي الغزالين والنساجين. على أن نكتفي في هذا البحث وذلك بالإشارة التي تغني عن التفصيل(48/46)
البورصة وأعمالها:
الحاجة للأسواق:
لعل مما لا ريب فيه أن كل مجتمع مهما كان حظه من التقدم والحضارة قد عرف التجارة والأسواق التي يحصل فيها(48/46)
تبادل السلع المختلفة، ذلك بأن الإنسان مدني بطبعه كما يقرر الفلاسفة والمفكرون، وأن التعاون ضروري بين أفراد المجتمع ليحصل كل على ما هو بحاجة إليه، سواء أكانت هذه الأشياء التي يحتاج إليها ضرورية أم كمالية، فلن يستطيع إنسان ما أن يكفي نفسه بنفسه، حتى حاجة الإنسان من الغذاء الضروري لحياته، نراه يستعين في تحصيلها بكثير من بني جنسه، وقد أبان ذلك ابن خلدون في مقدمته، حيث قرر بحق: أن قوت اليوم الواحد من هذا الغذاء يحتاج فيه إلى طحن الحب وعجنه وخبزه وطبخ المأكولات الأخرى، وكل هذا (يحتاج إلى مواعين وآلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد ونجار وفاخوري) إلى آخر ما قال.(48/47)
الأسواق في مصر:
ويتبع هذا أن الأسواق ضرورية للمجتمع كما قلنا، ومن ثم نجدها هنا وهناك في قديم الزمن وحديثه، ومنها أسواق صغرى تعقد من حين إلى آخر في فترات منتظمة محدودة كأسبوع مثلا كما يحصل في الأقاليم عندنا في هذه الأيام، ومنها أسواق كبرى تعقد في المدن الهامة. وتمضي بين السوق والسوق فترة طويلة أو قصيرة حسب الحاجة، ومنها أخيرا أسواق تعقد يوميا في العواصم وهي خاصة بالخضر، والفاكهة، ونحوها من حاجات المعيشة كما هو مشاهد بالقاهرة مثلا.
ولسنا بحاجة للإشارة إلى ما كان من هذه الأسواق للعرب(48/47)
في جاهليتهم، ولا إلى ما كان منها في البلاد الإسلامية فيما بعد، فذلك ميسور معرفته لمن يقرأ كتب التاريخ والأدب العربي الإسلامي.(48/48)
الأسواق في أوربا:
وكان الأمر كذلك في الشعوب الغربية. فقد أحس الناس قديما عندما اتسع النطاق الاقتصادي وكثرت المعاملات الحاجة إلى اجتماعات دورية يتبادلون فيها السلع بيعا وشراء، فكانت هناك أسواق هامة تعقد مرة أو مرتين في العام الواحد، وأخرى يومية أو أسبوعية.
وكانت الأسواق التي تقوم كل سنة أو ستة أشهر تسمى عندما عظم شأنها التجاري تسمى بالأسواق الكبرى، على حين كانت تسمى الأخرى بالأسواق الصغرى.(48/48)
نشوء البورصات:
ثم عظم شأن الأسواق الكبرى في العصر الوسيط، وتزايدت الخدمات التي تؤديها لبلاد متعددة، واشتدت أهميتها في المعاملات التجارية وتسويتها، وكان بعضها يستمر منعقدا طوال ستة أسابيع على الأقل ويؤمه التجار من سائر أنحاء أوربا، وقد استلزم ذلك أن يوضح لهذه التشريعات ما يضمن للناس الأمن على أنفسهم وأموالهم، وأن يكون بها موثقون لتحرير العقود، وكان كل هذا ممهدا منذ القرن السادس عشر لظهور البورصات.
وكلمة البورصة هي كتابة بالحروف العربية لكلمة (لا(48/48)
بورص) الفرنسية مع تحريف بسيط، ويراد بها المكان الذي تبرم فيه الصفقات، والعقود لسلع معينة كالقطن مثلا، ولا ندري من أين جاء هذا الاستعمال، مع أن أصل معناها: (كيس النقود) وربما كان السبب أن هؤلاء الذين يدخلون هذا المكان لهذا الغرض لا بد من اعتمادهم على النقود التي لا تقوم التجارة إلا بها، على أن بعض الباحثين يذكر لذلك أسبابا أخرى.(48/49)
الفرق بين البورصة والسوق:
وللبورصة أركان لا تقوم إلا بها، وهذه الأركان هي:
- عدم وجود السلع نفسها أمام المتعاملين فيها.
- عدم تسليمها في الحال عقب العقود للمشترين.
- ثم عدم تسليم الثمن كذلك فورا.
وإذا فهي تختلف عن الأسواق القديمة اختلافات جوهرية أهمها ما يأتي:
1 - في السوق العادية يجتمع التاجر بالمستهلك المريد الشراء لنفسه. وفي البورصة يقوم بالعمليات التجارية الوسطاء أو السماسرة.
2 - في السوق توجد البضائع نفسها أمام المتعاملين. وفي البورصة تكون هذه البضائع خارجها في مخازن أو بنك خاصة.
3 - وفي السوق يتم البيع والتسليم بعد أن يعاين المشتري ما(48/49)
اشتراه، وليس الأمر كذلك في البورصة.
4 - في السوق يكون بيع وشراء بالمعنى الحقيقي لهذين المصطلحين، ولكن قد لا يكون الأمر في البورصة إلا مضاربة على فروق الأسعار دون دفع للثمن وتسلم المبيع حين العقد.
5 - الأسواق القديمة كانت تعقد في أماكن مختلفة وفي فترات طويلة أو قصيرة حسب الحاجة وأهمية السوق، على حين أن البورصة لها مكان معين وتعقد كل يوم.(48/50)
أنواع البورصات:
يوجد بمصر بورصات مختلفة الأنواع، ولكل منها أعمال خاصة تتناولها، ولكن أهمها نوعان:
1 - بورصة الأوراق المالية، وهي أعظم خطرا بالنسبة للعمليات المالية الهامة التي تتم فيها على الأوراق العامة. السندات التي تصدرها الحكومة والبلديات، والسندات والأسهم التي تصدرها الشركات المختلفة.
2 - بورصة البضائع، وهي التي تهمنا في هذا البحث، وعملياتها تقوم على محصولات البلاد الزراعية، من قطن، وحبوب وغيرها، وكذلك على ما يلزم الصناعات من مواد أولية لا بد منها لها.(48/50)
عمليات البورصة:
ولعلنا قد فهمنا حتى الآن بإجمال ما تقوم به البورصة من أعمال أو عمليات تجارية ومالية، ولكن يجب أن نعرف بأكثر دقة ماهية هذه العمليات. وهل تتم وفقا للعقود التي تجري خارجها من تسليم السلعة التي تم التعاقد عليها عند تسليم الثمن. أو أن الأمر يجري على غير ذلك، يجب أن نعرف هذا ليكون لنا فيما بعد أن نزن هذه العمليات بميزان الشريعة الإسلامية، ولنعرف ما يجوز منها وما لا يجوز بحكم الفقه الإسلامي.
يجري في البورصة ضربان من العمليات: عمليات عاجلة وأخرى آجلة، وليس معنى أن الأولى عاجلة أنه يدفع فيها الثمن فورا وقت التعاقد، كما هو معروف في البيوع العادية خارج البورصة، ولكن معنى هذا أن الدفع يكون عند تسليم السلعة المشتراة، وهذا التسليم يكون بعد التعاقد بزمن وإن كان زمنا قصيرا يتمكن فيه الوسيط من الرجوع على عميله والحصول منه على ثمن ما تعاقد عليه من أجله.
أما العمليات الآجلة ولها أنواع مختلفة لا حاجة بنا إلى الكلام عنها هنا. فهي ما كان فيها التسليم الناقل للملكية والوفاء بالثمن مؤجلين ليوم لاحق محدد من قبل عند التعاقد، فتتشابه (إذا) مع العمليات العاجلة في أن تسليم المبيع ودفع الثمن يتمان في وقت واحد.
ومن الطبيعي بسبب الفرق بين نوعي العمليتين أن يكون(48/51)
السعر الذي يدفع في العمليات الآجلة أعلى من السعر الذي تتم به الأخرى الآجلة؛ لأن البائع يعتقد أن السعر يزيد من وقت إلى آخر، وإن كان قد يحدث أن تخلف السوق ظنون البائع والمشتري على السواء لعوامل لم يكونا يتوقعانها، وهنا ناحية من حظر التعامل في البورصات.
هذه كلمة عامة عن الأسواق والبورصات عرفنا منها ماهيتها، وأنواع الأعمال التي تقوم بها، وكيف تتم عمليات البيع والشراء فيها. ولننظر الآن في العمليات الخاصة بالقطن عندنا في مصر، سواء خارج البورصة أو داخلها.
إن القطن من أهم محاصيل مصر الزراعية، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، وإننا جميعا نخضع في بيعه وشرائه لما جرى به العرف والقانون في البورصة وخارجها، ولم نتساءل حتى الآن عن مدى اتفاق هذا الذي نخضع له مع الشريعة الإسلامية ولهذا يجب- أو كان يجب منذ زمن طويل- فحص ذلك كله لنكون من أمرنا على بينة، وليس لأحد أن يعتذر عن النظر في هذا بأن ذلك هو حكم القوانين وكفى.(48/52)
سوق القطن:
ما هي السوق؟
هي مكان (وهي بالإسكندرية بمصر) يجتمع فيه في أوقات معينة الذين يعملون في سوق القطن أي: السماسرة الموكلون عن البائعين والمشترين، وفيه يكون العرض والطلب حرا من كل(48/52)
قيد يمنع من مرونتهما، وحدد فيه السعر الذي يعلن جهرا للناس ويذاع بكل طرق الإذاعة والإعلان، وكل ذلك يتم في نظام يضمن سهولة إتمام العمليات ودقة تنفيذها.
ومن شأن هذا النظام أن يكون هؤلاء الذين تقوم عليهم السوق وما يجري فيه من عمليات تجارية، من الأمناء الذين لم تصدر عليهم أحكام منافية للشرف، والذمة الطيبة، كما يكون لهم من أموالهم الخاصة ما يكون ضمانا كافيا لتنفيذ ما يرتبطون به من عقود بالنيابة عن أصحاب الشأن أو المشترين.(48/53)
أغراضها:
ومن الطبيعي أن تكون الأغراض التي من أجلها أنشئت هذه السوق هي نفس الأغراض والأهداف التي لسائر الأسواق وهي:
أ- الحصول على سعر عادل من تلاقي العرض الحر للأقطان والطلب الحر لها.
ب- إشهار الأسعار للمتعاملين فيها داخل مصر وخارجها لتكون هذه الأسعار أساسا لمعاملات الريف والبلاد الخارجية.
ج- التعاقد على صفقات تسلم في مواعيد آجلة. وهذا ليكون ميسورا تلبية طلبات دور صناعة القطن في الأوقات المناسبة.
د- تنظيم المضاربة المشروعة: أي التي تفضي إلى توازن الأسعار.(48/53)
هـ- تنظيم تداول القطن من الزراع إلى الصناع بواسطة التجار المتعددين، وإيجاد حلول لكل ما يكون من نزاع وخلاف في هذه السبيل.
وتحسين ظروف القطن التجارية بالعمل على النهوض به في طرق تعبئته وصيانة ما يخزن منه ونحو ذلك.(48/54)
أقسامها:
ولهذه السوق قسمان:
أ- سوق العقود: وفيها يتعاقد على كميات من القطن ليست موجودة حين العقد، على أن يكون التسليم آجلا إلى زمن يحدده الطرفان بالاتفاق بينهما، كما يكون السعر معلوما بصفة عامة وقت التعاقد، أي: هو السعر الذي يتحدد في البورصة في يوم معين يتفق عليه ب- سوق البضاعة الحاضرة وهي: التي يتم فيها تسليم ما تعاقد عليه البائعون والمشترون في سوق العقود، متى حانت آجال التسليم، وبذلك تتم كل سوق من هاتين السوقين عمل الأخرى، وظاهر أن التفرقة بينهما هي لتنظيم التعامل فالأولى للتعاقد، والثانية للتنفيذ (1)
__________
(1) فيه ما في القسم الأول.(48/54)
الحاجة لسوق العقود:
لقد أصبحت الحياة معقدة في كثير من الحالات بعد أن كانت بسيطة في الأزمان الأولى، فأصبح الصانع مضطرا للارتباط في عمله بالتاجر، وهذا يجد نفسه مرتبطا بغيره من التجار والمنتجين. ولا بد لحصول التناسق وتوفير حاجات كل من هذا وذلك، من اصطناع نظم في البيع والشراء لم تكن معروفة من قبل.
فشركات النسيج -مثلا- لا تستطيع- كما يقول الأستاذ حسن زكي أحمد - أن تتفق مع عملائها تجار الأقمشة على أسعار ما تبيعه لهم إلا إذا ضمنت لنفسها أسعارا تناسبها لحاجتها من القطن المغزول، وشركات الغزل لا بد لها لتحديد سعر منتجاتها من الاتفاق مع تاجر القطن على السعر الذي يبيع به لها، وهذا التاجر قد لا يجد حاجته من القطن الخام فور طلبه، فهو مضطر إذا للتعاقد على ما يريد على أن يتسلمه متى وجد، وفي هذه الحالة يتجه إلى المنتج رأسا أو إلى تجار الأرياف للتعاقد معهم على شراء ما هو بحاجة إليه ثم يتسلمه في أجل محدود (1) .
كيف يكون التسليم:
إذا كان الغزال لا يتصل مباشرة بالمنتج، بل ولا بالتاجر الأول الذي اشترى رأسا منه فكيف يتم أن يتسلم فعلا القطن الذي
__________
(1) الحاجة قائمة لكن يمكن التخلص من التعامل المحرم بتحديد الثمن وتسليمه حين العقد.(48/55)
اشتراه؟ إن هذا يكون بعد عمليات كثيرة أو قليلة يمر بها القطن وبواسطة وسطاء كثيرين أو قليلين أيضا.
إن البائع في سوق العقود الذي يريد تنفيذ عقد بتسليم ما باعه من القطن يخطر بواسطة سمساره الذي هو وكيل عنه الطرف الآخر برغبته، حتى يستعد للتسليم ودفع الثمن بعد معاينة البضاعة، فإذا كان هذا الطرف الآخر قد صفى ما اشتراه ببيعه إلى آخر، فإنه يحول هذا الإخطار إلى من قد اشترى منه، وهذا يحوله إلى من قد يكون باع له ما سبق أن اشتراه، وهكذا حتى يصل الإخطار إلى المشتري الأخير الذي عليه أن يجيب البائع الأول إلى طلبه، وحينئذ عليه أن يعاين البضاعة التي تكون موجودة بالشونة حتى إذا وجدها كما يجب- من ناحية النوع والرتبة- قام بتسلمها ودفع الثمن، وعند تسلم رتبة أعلى أو أقل يدفع المشتري فرقا للبائع في الحالة الأولى، ويأخذ منه فرقا في الثانية ويخصم له من الثمن (1) .
ومن هذا نرى أنه قبل عملية التسليم يجوز أن تكون الصفقة قد بيعت أكثر من مرة دون تسلم، أو دفع للثمن، وهذه البيوعات المتوسطة ليست بيوعات بالمعنى الصحيح، وإنما هي في الحقيقة مضاربات على فروق الأسعار، ولهذا نجد أنه في أحد الأعوام كان المحصول فيه لا يزيد عن تسعة ملايين قنطار من القطن، بلغت كمية الأقطان التي بيعت واشتريت في سوق العقود تسعين
__________
(1) في ذلك بيع المسلم فيه قبل قبضه، وهو محرم كما أن فيه بيع كالئ بكالئ لتأخر تسليم الثمن أو بعضه.(48/56)
مليونا من القناطير، وليس هذا إلا بسبب المضاربة التي ليست حقا بيعا وشراء بالمعنى المعروف كما قلنا (1) .
__________
(1) فيه ما تقدم.(48/57)
عمليات القطن:
يمر القطن من الناحية التجارية -كما ذكرنا من قبل- بعمليات كثيرة حتى يصل من أيدي المنتج إلى أيدي الصانع، ولا بد من فهم كل من هذه العمليات والوقوف عندها لنعرف حكم شريعة الإسلام فيها، ولنقدر أيضا ما في كل منها من مصلحة أو ضرر وبخاصة للمنتج الذي لا يحصل على القطن إلا بكثير من التعب والنفقات.
وليس مما يدخل في بحثنا هنا، ما يكون من البيع والشراء بين تاجر القطن في القرى وبين الزارع، فإن هذه العملية بسيطة لا تعقيد فيها، إذ يكون موضوع العقد مملوكا للبائع موجودا تحت يده ويشتريه التاجر بعد معاينته، ثم يستلمه فورا ويدفع الثمن المحدد المتفق عليه فورا كذلك، وإنما البحث هو للعمليات التي لا يتوفر فيها كل هذه الشروط التي يشترطها الفقهاء الماضون.
وها هي أولا أهم هذه العمليات:(48/57)
(1) البيع ثم التسليم الآجل:
قد يضطر الزارع لشيء من المال قبل جنيه قطنه، بل أحيانا قبل أن يزرعه، وحينئذ يجد أمامه من التجار من يعرض عليه أن(48/57)
يشتري منه كمية القطن التي ينتظر أن يحصل عليها كلها أو بعضها.
وهنا يجد الزارع من الخير له أن يقبل هذا العرض بدلا من الالتجاء إلى الاقتراض بالربا.
أما السعر فإنه قد يكون قطعيا. وقد يتفق على أن يحدد بعد مدة ينص عليها في العقد بحيث إذا حلت هذه المدة ولم يحدده البائع فإنه يتم حتما تحديده بسعر السوق الرسمية في آخر يوم لهذه المدة.
ومن هذا نرى أن موضوع العقد غير موجود حين التعاقد كما أنه لهذا غير مقدور التسليم في الحال، والثمن مع هذا وذاك غير معروف للطرفين على النحو الذي يرضاه الفقهاء (1) .
__________
(1) فيه جهالة الثمن، وبيع كالئ بكالئ.(48/58)
(2) البيع آجلا والتسليم عاجلا:
وقد يكون موضوع العقد -أي: الكمية التي يراد بيعها من القطن- تحت يد البائع وقت التعاقد، وبعد إبرام الاتفاق يتسلمها التاجر المشتري حقيقة، إلا أن الثمن يتأخر تحديده للوقت الذي يريده البائع ويقبله المشتري، وإلا صار تعيينه بسعر السوق في آخر يوم للفترة التي قد اتفق على تحديد السعر فيها.
ومعنى ذلك أن القدر المبيع موجود لدى البائع وقد سلمه فعلا للمشتري حين الاتفاق، ولكن الثمن غير محدد أو معروف إلا بصفة عامة كما هو الأمر في الحالة السابقة.(48/58)
تقرير هاتين الطريقتين:
مما تقدم، نرى أن الفرق الجوهري بين هاتين الطريقتين لبيع المنتج قطنه هو: أن التسليم في الطريقة الثانية يكون عاجلا بعد الاتفاق؛ لأن السلعة موضوع البيع موجودة فعلا لديه. أما في الأولى فالتسليم يتأخر حتما؛ لأن موضوع العقد لا يكون موجودا بعد لدى البائع، بل قد لا يكون القطن قد وضعت بذرته في الأرض.
أما الثمن في الحالتين، فالغالب أن يكون تحديده مؤجلا كما رأينا، وإن كان المزارع يتسلف بعض هذا الثمن من التاجر ليستطيع القيام بما تتطلبه الزراعة من نفقات، مثل ثمن البذرة والسماد والمصاريف الأخرى التي نعرفها جميعا. ويضطر الزارع إليها حتى أنه قد لا يصل القطن إلى حظيرة التاجر إلا ويكون المنتج قد اقترض عليه نصف ثمنه أو يزيد.
(285) وسواء أكان المنتج مضطرا لهذا الصنيع، أم كان غير مضطر، ولكنه لجأ إلى البيع على (الكونتراتات) أملا في ربح أكثر مما لو باع بسعر قطعي. فإن لهذه الطريقة ضررها وخطورتها عليه نفسه. ويكفي أن نشير إلى بعض عيوبها وخطرها كما يلي:
أ- قد يلعب التاجر هنا دور المرابي الذي يقرض بفائدة فاحشة وهو يتظاهر بالعمل على عون المنتج(48/59)
ومساعدته مستغلا حاجته.
ب- قد لا يكون المنتج مضطرا، ولكنه قد سبق بطمعه ورغبته في ربح لا يصل إليه لو انتظر، حتى يظهر المحصول ويبيعه بسعر وقته، ثم قد يغريه إمكان تسلفه جزءا غير قليل من ثمن محصوله الذي يظهر بعد بالإسراف، ثم إذا ظهر وتحدد السعر نهائيا، وجد أنه خسر خسارة كبيرة ينوء بها.
ج- أن المنتج قد يتورط بهذا في ارتباطات مع التاجر، قد لا يستطيع الوفاء بها، كما قد يضطر لقطع السعر وتحديده في فترة يهبط فيها لكثرة العرض والتهافت على القطع من كثيرين.
رأي رجال الاقتصاد:
(286) وهذا الذي نقول من خطر البيع بهذه الطريقة أي البيع على (الكونتراتات) لا يبعد عما يراه علماء الاقتصاد أنفسهم، وها هو ذا الأستاذ زكي عبد المتعال يذكر في هذا ما يحسن أن ننقله عنه بنصه:
(كثر استعمال هذا النوع من البيوع بين التجار والمزارعين، وهو في ظاهره حسن خلاب حيث يقبض البائع جزءا من الثمن قبل التسليم، فيساعده ذلك في الإنفاق على زراعته. أما في الحقيقة فإنه عمل ضار بالبائع، وبالسوق نفسها، وبثروة البلاد، وهي طريقة(48/60)
انفردت بها مصر دون غيرها من البلاد.
ويرجع وجه الضرر في هذه الطريقة " إلى " أن البائع يطمع دائما في ارتفاع السعر وتحسن السوق فتقعده آماله عن إصدار أمر بقطع السعر في أول الموسم القطني، ويظل متأخرا كسائر الزراع إلى أواخر مهلة عقود البيع التي تنتهي عادة في شهر مارس.
فإذا اقترب الموعد، أصدر معظم الزراع أوامرهم للتجار بقطع السعر، وتترى على السوق في هذه الفترة أوامر عدة فيشرع التجار عند وصول الأوامر إليهم في بيع كميات من القطن على المكشوف مساوية للكميات التي اشتروها طبقا لهذه الطريقة، فتكثر المبيعات، وتزيد كمية المعروض، ويهبط السعر في السوق تبعا لقانون العرض والطلب، ثم يحاسب التجار المزارعين على سعر إقفال البورصة في ذلك اليوم) .
علاج هذه الحالة:
لست من رجال علم الاقتصاد، ومع هذا لا أرى بأسا في الإشارة إلى ما قد يكون علاجا لهذه الحال، وأعتذر عما في ذلك من الخروج قليلا عن موضوع البحث، وهو بيان حكم الشريعة الإسلامية في العمليات التي تتناول أهم محصول زراعي في مصر أي: دون النظر إلى ما قد يكون أو لا يكون من ضرر اقتصادي في بعضها. ولكن لعل هذا الضرر يكون هو العامل الأساسي(48/61)
لحكم الشريعة فيها.
قد يكون العلاج الحاسم هو في منع البيع بهذه الطريقة بقوة التشريع والقانون ما دام رجال الاقتصاد يرونها خطرة إلى هذه الدرجة، ولكن قد يكون من العلاج أيضا إنشاء جماعات وبنوك تعاونية قوية تمدها الدولة بالأموال اللازمة لإقراض المزارعين المحتاجين حقا ما يحتاجون إليه للإنفاق على الزراعة حتى لا يضطر المحتاج للجوء لبيع محصوله بهذه الطريقة الضارة الخطرة (1)
__________
(1) ويمكن العلاج أيضا بتحديد الثمن وتسليمه حين العقد كما تقدم.(48/62)
(3) الشراء للتصدير:
إن ما تكلمنا عنه سابقا هو عمليات البيع والشراء محليا داخل البلاد، ولكن هناك تجار الصادرات والواردات وما يتبعونه من طرق لتغذية حاجات شركات الغزل، ومصانع النسج في الخارج من القطن اللازم لهم، وسترى هنا، أنه يجب معرفة ما يحصل بين مصانع النسج من جهة، وشركات الغزل من جهة، وبين هذه والتاجر المصدر من جهة أخرى.
نلاحظ أولا: أن المنتجين لا يتصلون مباشرة بطبيعة الحال بالشركات الأجنبية التي تحتاج للقطن لغزله، أو نسجه، وإنما يقوم بهذه العملية وسطاء بين الطرفين، وهؤلاء الوسطاء هم تجار الصادر والوارد الذين قد يعتبرون بمثابة وكلاء بينهما، وبذلك يؤدون خدمات جليلة للطرفين " المنتج والصانع " على السواء.(48/62)
فعندما تتلقى شركة من شركات الغزل طلبات من شركات النسج بكمية معينة من القطن، لا تجد أمامها إلا تجار الصادر بالسوق، وهؤلاء يشترون لها حاجتها التي طلبتها من التجار المحليين في سوق العقود، أو سوق البضاعة الحاضرة.
وهنا يجب ألا ننسى، أن التاجر المصدر يتعاقد على بيع ما ليس موجودا لديه، وبسعر قد لا يكون دائما معروفا بالتحديد كما هو الأمر في سوق العقود، ثم يتأخر التسليم للشركة صاحبة الطلب حتى يتم للمصدر شراء كل المطلوب في الموعد المحدد، ويكون التسليم في ميناء التصدير هنا، أو في ميناء الوصول هناك.(48/63)
رأي الفقه الإسلامي في هذه العمليات:
بعد أن ذكر المؤلف وجوب الاجتهاد في بيان حكم ما يجد من المسائل، ونعى على المقلدين الجامدين، وعلى من اجتهد دون أن يكون أهلا للاجتهاد قال:
والآن إلى المطلوب، وهو بحث ما يجب بحثه من العقود التي يمر بها القطن في مختلف مراحله على ضوء الفقه الإسلامي وهي:
1 - بيع القطن قبل وجوده بسعر قطعي، أو بسعر يحدده البائع في مدة معينة، أو بسعر سوق العقود في يوم معين.
2 - بيع قطن موجود فعلا بسعر يحدد حسب الطريقة السابقة.(48/63)
3 - البيع بين المورد والمصدر.(48/64)
- بيع المعدوم بسعر قطعي أو يحدد فيما بعد:
هنا نجد أنفسنا أمام مسألتين تتطلبان البحث وهما:
أ- بيع ما ليس موجودا، مع أن جمهرة الفقهاء كما عرفنا من قبل يشترطون أن يكون المبيع غير معدوم حين العقد.
ب- بيعه بسعر يحدد تماما فيما بعد، أي: بسعر السوق في يوم معين.
(أ) بيع المعدوم، عدم جوازه:
يرى أكثر الفقهاء -ومنهم: الأحناف - أن من شروط العقد ليكون صحيحا ومعتبرا شرعا وجود موضوع " المعقود عليه " حين العقد، فالمعدوم لا يصح إذا أن يكون محلا للتعاقد، إذ من غير المعقول أن يتعلق حكم العقد وآثاره بشيء معدوم، ولهذا يجعلون عقود السلم، والإجارة، والاستصناع ونحوها مستثناة من هذه القاعدة العامة، أي: أنها تجوز استحسانا لا قياسا للحاجة إليها.
على أن بعض الفقهاء، لم يشترط وجود موضوع العقد في كل العقود، فالإمام مالك -رضي الله عنه- لم يشترط هذا الشرط في(48/64)
عقود التبرعات؛ لأن المتبرع له لن يضار بشيء إذا لم يوجد المتبرع به ويتسلمه فعلا، ولا في عقد الرهن، فشيء يتوثق به خير من عدمه كما يقولون، ولا في مثل الخضر، والفاكهة، نعني الأشياء التي يوجد بعضها إثر بعض، فمتى ظهرت البواكير منها، جاز بيع ما لم يوجد تبعا لما وجد؛ وذلك لأن فيه ضرورة، لأنه لا يظهر الكل دفعة، بل على التعاقب بعضها بعد بعض، فلو لم يجز بيع الكل عند ظهور البعض، لوقع الناس في الحرج.
جواز بيعه:
وإذا كان جمهرة الفقهاء (1) يتشددون هذا التشدد، على حين نرى الإمام مالك بن أنس يترخص بعض الشيء، فإن ابن تيمية يرى بصفة عامة أن المعدوم يصح أن يكون موضوعا للعقد بمختلف أنواعه، أي: بلا فرق بين عقود المعاوضات، والتبرعات، وإذا حدث أن شيئا ما لم يصلح أن يكون محلا لعقد من العقود، فالعلة ما يصحبه من الغرر والجهالة المفضيان عادة للمنازعة، لا أنه معدوم.
وفي هذا يقول بأنه ليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله، ولا عن أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، وإنما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيه النهي عن بيع بعض الأشياء التي هي موجودة، فليست العلة في المنع الوجود أو العدم، بل في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) تقدم أن التشدد ليس رأي الجمهور.(48/65)
أنه «نهى عن بيع الغرر (1) » ، والغرر: ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجودا أم معدوما، كالعبد الآبق، والبعير الشارد، ونحو ذلك مما لا يقدر على تسليمه، بل قد يحصل وربما لا يحصل، وهو غرر لا يجوز بيعه، وإن كان موجودا، فإن موجب البيع تسليم المبيع والبائع عاجز عنه، والمشتري إنما يشتريه مقامرة، فإن أمكنه أخذه كان المشتري قد قمر البائع، وإن لم يمكنه أخذه، كان البائع قد قمر المشتري. وهكذا المعدوم الذي هو غرر، نهى عن بيعه؛ لكونه غررا لا لكونه معدوما، كما إذا باع ما يحمل هذا الحيوان، أو ما يحمل هذا البستان، فقد يحمل، وربما لا يحمل، وإذا حمل فالمحمول لا يعرف قدره ولا صفته. فهذا من القمار والميسر الذي نهى الله عنه، ومثل هذا إكراء دواب لا يقدر على تسليمها، أو عقار لا يملك تسليمه، بل قد يحصل وربما لا يحصل.
__________
(1) صحيح مسلم البيوع (1513) ، سنن الترمذي البيوع (1230) ، سنن النسائي البيوع (4518) ، سنن أبو داود البيوع (3376) ، سنن ابن ماجه التجارات (2194) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، سنن الدارمي البيوع (2563) .(48/66)
رأينا الخاص:
مما تقدم: نرى أن في المسألة خلافا شديدا، وأن الكثرة من الفقهاء ترى عدم جواز بيع المعدوم، أو إجازته مثلا. ثم نرى بعد هذا جواز ذلك في بعض العقود استحسانا لا قياسا للضرورة، ولجريان العرف عليه من أقدم الأزمنة حتى اليوم، كما هو الأمر في عقود السلم، والإجارة، والاستصناع.
ونحن نميل كل الميل لجواز أن يكون موضوعا للعقد قياسا لا استحسانا كما هو رأي ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ما دام لا(48/66)
غرر فيه ولا جهالة يؤديان إلى النزاع، أو القمار، وبخاصة وأن من ينظر نظرة عميقة إلى الشروط التي شرطها الفقهاء لصحة العقد يجد أنها تعود كلها إلى ضمان رضا الطرفين، وعدم وجود ما يؤدي إلى النزاع بينهما (1) .
__________
(1) تقدم ما فيه.(48/67)
تكييف هذا العقد بأنه عقد سلم أو بيع عادي:
ولكن إذا رأينا صحة هذا العقد من ناحية موضوعه: أي من ناحية أن هذا الموضوع غير موجود حين التعاقد، فهل يكون صحيحا على أنه سلم كما يرى جمهور الفقهاء؟ أو على أنه بيع عادي كما يرى ابن تيمية وابن القيم؟
والفرق بين تكييف هذا العقد على هذا النحو أو ذاك كبير؛ لأنه إن كان عقد سلم، يجوز استحسانا للضرورة لا قياسا، وجب اعتبار شروط السلم فيه من ناحية الموضوع والثمن معا، إذ لا يجوز التوسع، أو الترخص في الشروط الواجب اعتبارها في الثمن مع الترخص للضرورة في شروط المبيع، وإن كان بيعا عاديا، كان في ذلك سعة لنا فيما يتصل بجواز تأجيله، أو تأجيل بعضه إلى أجل معلوم. ونحو هذا مما يشترط في الثمن على خلاف الحال في السلم (1) ، على أن هذا الإجمال لا يغني عن شيء من التفصيل، وبخاصة في عقد السلم.
__________
(1) يزاد (وعدم مخالفتها لنص الشرع ومقاصده) .(48/67)
شرعية جواز السلم:
عرف العرب قبل الإسلام عقد السلم: وهو شراء الشيء الذي لم يوجد بعد بثمن عاجل حال، ولهذا يعرفه الفقهاء: بأنه بيع آجل بعاجل.
وفي شرعيته تيسير للناس في معاملاتهم، ومن ثم نجد الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين «نهى عن بيع المعدوم،» لما فيه من الغرر، والمخاطرة، قد استثنى هذا العقد إذ كانت العرب تتعامل به (1) وبخاصة أهل " يثرب "، ولما يكون في منعه من حرج لا ضرورة له.
وفي ذلك يروي إماما المحدثين البخاري ومسلم، عن ابن عباس قال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر، السنتين والثلاث فقال: " من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (2) » .
__________
(1) هو عقد سلم، وجائز قياسا لا استثناء،. ولا بد فيه من شروط السلم، ومنها تعجيل رأس مال السلم.
(2) صحيح البخاري السلم (2241) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .(48/68)
الموضوع والثمن فيه:
تكلم الفقهاء طويلا في الشروط التي يجب توفرها في هذا العقد، ليكون صحيحا شرعا وليس هنا مجال للحديث عنها.
ولكن علينا أن نشير من ذلك إلى ما يتعلق بمحله، أو موضوعه، ثم إلى ما يتعلق بالثمن. ويسمي الفقهاء الأولى: بالمسلم فيه، كما يسمون الثاني: برأس المال. ففي الموضوع، يذكرون أن(48/68)
السلم يصح في كل ما أمكن ضبط صفته، ومعرفة قدره، كمكيل، وموزون، وعددي متقارب، كجوز، وبيض، وزرعي، كثوب بين قدره وصنعته وصفته، كما يذكرون من الشروط بيان الآجل وأقله شهر على القول المفتى به وبيان مكان الإيفاء المسلم فيه إذا كان من الأشياء التي لها حمل ومؤنة.
وقالوا: إنه لا يجوز أن يسلم في ثمرة بستان بعينه، ولا قرية صغيرة؟ لكونه لا يؤمن تلفه وانقطاعه، ولأن من شروط هذا العقد كون المسلم فيه عام الوجود في محله ليمكن تسليمه في أجله. وهذا كالإجماع من أهل العلم. وفي هذا يروى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- «أسلف إليه رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى، فقال اليهودي: من تمر حائط بني فلان، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: " أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى (1) » ، كما رواه ابن ماجه وغيره.
وفي رأس المال، أو الثمن، يذكرون أن من شروط هذا العقد قبضه كاملا وقت السلم قبل التفرق من مجلس العقد. أو بعبارة أخرى: أن هذا شرط بقاء العقد صحيحا لا شرط انعقاده فينعقد صحيحا ثم يبطل بالافتراق بلا قبض.
وهم يعللون هذا الشرط بأن الافتراق قبل قبض رأس المال (يكون افتراقا على دين بدين) وأنه منهي عنه، لما روي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «نهى عن بيع الكالئ» أي: النسيئة بالنسيئة، ولأن مأخذ هذا العقد دليل على هذا الشرط. فإنه
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2281) .(48/69)
يسمى سلما وسلفا لغة وشرعا، أي لا بد من شيء يتسلفه أحد المتعاقدين ولا يمكن أن يكون هذا الشيء إلا الثمن ما دام المسلم فيه -أو موضوع العقد- مؤجلا طبعا.
على أن هذا، إذا كان رأي الأحناف، والشافعية، والحنابلة فإن الإمام مالك بن أنس يرى أنه يجوز تأخير قبض الثمن يومين، أو ثلاثة، أو أكثر ما لم يكن هذا التأجيل شرطا؛ لأنه عقد معاوضة فلا يخرج بتأخير قبضه من أن يكون سلما، فأشبه ما لو تأخر إلى آخر المجلس.
النتيجة أنه ليس عقد سلم:
ونتيجة هذا التحليل وبيان ما يجوز فيه السلم وشروط صحة هذا العقد أن بيع القطن قبل وجوده بسعر يحدد حسب السوق، ومن ثم لا يدفع كله حال العقد، لا يمكن أن يكون عقد سلم على رأي الفقهاء، فإنه إن كان يصح من ناحية موضوعه أن يكون سلما فإنه لا يصح من ناحية الثمن مادام لا بد من دفعه وقبضه في المجلس لا بعده بشهر، أو أكثر كما هو الحال في موضوع البحث (1) ثم وهذه ناحية أخرى، أن هذا العقد أجازه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لينتفع المسلم إليه، أي: البائع بالثمن حتى يحين أوان حصول المبيع وتسليمه للمشتري. وفي هذا توسعة عليه وتيسير في المعاملات. فإذا أجيز تأجيل الثمن حتى يظهر المبيع
__________
(1) هذا مبني على أن عقد السلم لا يطلق إلا على ما كان منه صحيحا دون الفاسد.(48/70)
ويسلمه لم يكن لتشريع مثل هذا العقد من فائدة، بل صار الأمر أمر مضاربة، وطمع في ربح قد يحصل، وقد لا يحصل إذا كان السعر غير محدد تماما وقت التعاقد.
هو عقد بيع عادي:
وإذا كانت هذه العملية لا يمكن أن تكون عقد سلم -لما ذكرنا- فهل يمكن اعتبارها عقد بيع عادي؟
هنا يجب أن نفرق بين ما إذا كان البيع بسعر قطعي معروف تماما حين العقد، أو بسعر يحدده البائع في مدة معينة يتفق عليها بين التاجر والمنتج، أو يتحدد في اليوم الأخير لهذه المهلة.
والسعر على كل حال يكون سعر إقفال سوق العقود في اليوم الذي يختاره البائع أو في ذلك اليوم الأخير.
في الحالة الأولى: نعني ما إذا كان السعر قطعيا محددا حين التعاقد، أو الاتفاق يكون الأمر عقد سلم إذا دفع التاجر الثمن كله حين التعاقد، وهذا ما لا يحصل إلا في النادر من الحالات في تجارة القطن. أو بعد ذلك بأجل قصير على ما ذهب إليه الإمام مالك كما عرفنا.
أما في الحالة الأخرى: فإنه يقوم أمام اعتباره عقد بيع عادي أمران: كون موضوع العقد معدوما حين التعاقد. وكون الثمن غير معروف تماما للطرفين وقت العقد أيضا. وإذا يجب الكلام في هذين الأمرين. أما تأخير دفع الثمن فليس عقبة هنا(48/71)
كما هو معروف أما كون موضوع العقد غير موجود حين التعاقد، فإن هذا ليس شرطا إلا عند جمهرة الفقهاء على حين لا يراه البعض- وبخاصة ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - شرطا (1) ما دام لا يؤدي إلى الغرر والجهالة في الثمن اللذين يؤديان عادة إلى النزاع بين المتعاقدين.
__________
(1) تقدم ما فيه.(48/72)
(ب) تحديد الثمن بسعر السوق:
بقي أن الثمن غير محدد وغير معروف تماما للطرفين، وهذا ما يجب الكلام عنه بشيء من التفصيل مع استعراض آراء الفقهاء وبيان المقصد الحقيقي من اشتراط معرفة الثمن في عقود البيع حين قال الله -جل ذكره- في الآية رقم 29 من سورة النساء:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) فهم الفقهاء -رضوان الله عليهم جميعا-: أن الرضى أساس كل عقد (2) ، ولهذا شرطوا في البيع وهو أحد ضروب التجارة شروطا معروفة لضمان تحقق هذا الرضى (3) ، والذي يهمنا هنا من هذه الشروط هو: أن يكون الثمن معروفا حتى لا تؤدي جهالته للنزاع بين الطرفين.
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) لكن مع عدم مخالفة النص ومقاصد الشرع.
(3) لكن مع عدم مخالفة النص ومقاصد الشرع.(48/72)
وهذا حق بلا ريب ولا نتكلم فيه، فإنما البيع عن تراض كما جاء عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولكنه قد يخيل للمرء في بادئ الرأي أن هذه المعرفة المشروطة في الثمن تتطلب أن يكون الثمن حين العقد معروفا فعلا بأنه مبلغ كذا من النقود، وهذا ما لا نراه ضروريا لصحة العقد.
إن لنا أن نقول بحق: إن هذه المعرفة ليست واجبة شرعا حين العقد. ويكفي أن يكون الثمن معروفا على وجه ما به يقع التراضي ولا يقوم نزاع بين المتعاقدين، وهذا يتحقق بيقين متى اتفقا على أن سعر القنطار من القطن الذي يباع بهذه الطريقة محدد بسعر السوق الرسمية يوم كذا أي: اليوم الذي يختاره البائع في المدة المتفق عليها بينه وبين المشتري، أو اليوم الأخير لهذه المدة إن تحديد الثمن بهذه الكيفية فيه تحقيق لرضى الطرفين، ويضمن ألا يقوم نزاع بصدده بينهما (1) ، وهذا التراضي هو كل ما شرطه المشرع الحكيم في العقود ويكفي للتدليل على هذا الذي نذهب إليه أن نتذكر أنه لم يقم نزاع حتى الآن فيما يختص بالسعر المحدد بهذه الطريقة- بين من يتعاملون هكذا في سوق العقود- وهذا دليل قاطع بلا ريب.
__________
(1) لا يضمن عدم النزاع وإنما امتنع النزاع بقهر النظام.(48/73)
آراء بعض الفقهاء:
وليس هذا الذي نقوله مما يبعد كثيرا عن أقوال كثير من الفقهاء الذين تقدم بهم الزمن، ونعتقد أنهم لو أدركوا البيع في البورصة على هذا النحو لقالوا صراحة بما نذهب إليه تيسيرا على الناس بما لا ضرر فيه (1) ونكتفي هنا بثلاثة من كبار هؤلاء الفقهاء الماضين وهم:
1 - ملك العلماء علاء الدين الكاساني المتوفى عام 587 هـ.
2 - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم المتوفى عام 751 هـ.
3 - محمد أمين الشهير بابن عابدين. الفقيه الحنفي المعروف.
فالكاساني وهو بصدد ذكر شروط صحة عقود البياعات يذكر ما نصه: (ومنها أن يكون البيع معلوما والثمن معلوما علما يمنع من المنازعة. فإن كان أحدهما مجهولا جهالة مفضية إلى المنازعة فسد البيع، وإن كان مجهولا جهالة لا تفضي إلى المنازعة لا يفسد؛ لأن الجهالة إذا كانت مفضية إلى المنازعة كانت مانعة من التسليم والتسلم فلا يحصل مقصود البيع، وإن لم تكن مفضية إلى المنازعة لم تمنع من ذلك. فيحصل المقصود) (2)
__________
(1) هذا مجرد خرص ورجم بالغيب.
(2) الجهالة بثمن هذه الصفقات تفضي إلى النزاع لكنها دفعت بقوة النظام.(48/74)
ثم أخذ بعد هذا في ذكر مسائل تطبيقية على الجهالة بنوعيها في المبيع والثمن ليبين ما أراد تقريره.
والعلامة ابن عابدين - وهو يتكلم عن شرط معرفة قدر المبيع والثمن لصحة البيع- نقل عن البعض جواز ما لو باعه بمثل ما يبيع الناس إن كان شيئا لا يتفاوت، ولا ريب في أن تحديد الثمن بسعر إقفال (البورصة) في يوم معين أمر لا يتفاوت من جهة المبيع والثمن أيضا، وفي هذا لا يتنازع أحد من الناس، بل يحصل رضا الطرفين كما هو معروف وواقع فعلا (1) وأما ابن القيم فكان صريحا في ذلك صراحة يطمئن إليها القلب إذ يقول: (واختلف الفقهاء في جواز البيع بما ينقطع به السعر من غير تقدير الثمن وقت العقد، وصورتها البيع ممن يعامله من خباز أو لحام أو سمان أو غيرهم يأخذ منه كل يوم شيئا معلوما ثم يحاسبه عند رأس الشهر أو السنة على الجميع ويعطيه ثمنه، فمنعه الأكثرون وجعلوا القبض به غير ناقل للملك، وهو قبض فاسد يجري مجرى المقبوض بالغصب؛ لأنه مقبوض بعقد فاسد وكلهم إلا من شدد على نفسه يفعل ذلك، ولا يجد منه بدا وهو يفتي ببطلانه)
__________
(1) قيده بما لا يتفاوت من جهة المبيع والثمن وما نحن بصدد بيان حكمه يتفاوت فلا تتسامح فيه النفوس(48/75)
والقول الثاني: وهو الصواب المقطوع به، وهو عمل الناس في كل عصر جواز البيع بما ينقطع به السعر وهو منصوص الإمام أحمد، واختاره شيخنا، وسمعته يقول: هو أطيب لقلب المشتري من المساومة، يقول لي: أسوة بالناس آخذ بما يأخذ به غيري.
قال: والذين يمنعون من ذلك لا يمكنهم تركه، بل هم واقعون فيه، وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا إجماع الأمة ولا قول صاحب ولا قياس صحيح ما يحرمه، وقد أجمعت الأمة على صحة النكاح بمهر المثل، وأكثرهم: يجوزون الإجارة بأجرة المثل؛ كالغسال، والخباز، والملاح، وقيم الحمام، والمكاري، والبيع بثمن المثل، كبيع ماء الحمام، فغاية البيع بالسعر: أن يكون بيعه بثمن المثل، فيجوز. كما تجوز المعاوضة بثمن المثل في هذه الصورة وغيرها، فهذا هو القياس الصحيح، ولا تقوم مصالح الناس إلا به.(48/76)
2 - بيع الموجود بسعر يحدد كما سبق:
لسنا هنا بحاجة كلام طويل اكتفاء بما انتهينا إليه من بحث الحالة المتقدمة، فإن المبيع موجود فعلا تحت يد البائع، ويسلمه فعلا للتاجر بعد التعاقد. ولكن الثمن هو الذي يتم تحديده بسعر(48/76)
سوق العقود في يوم يتفق عليه بين الطرفين، وقد عرفنا أن هذا لا يمنع من صحة العقد شرعا (1) حقيقة قد يقال: ولم لا يبيع الزراع في هذه الحالة بسعر قطعي، فقد يكون ذلك أسلم له وللتاجر معا؟ إن هذا هو ما يحصل كثيرا في الريف. وبخاصة من المزارعين الصغار ولكن الطمع أو رجاء البيع بسعر أعلى يدفع بعض المزارعين إلى الإفادة من عامل الزمن فيبيعون بتلك الطريقة المعروفة بأنها (البيع على الكونتراتات) وفي هذا بلا ريب بعض الخطر أو المخاطرة، وكثيرا ما تجر إلى خسارة ينوء بها المزارع الذي اندفع بعامل الطمع أو الرجاء، كما أن ضررها قد ينال التاجر أيضا (2) إن منع البيع بهذه الطريقة إن كان ضررها أكبر من نفعها يرجع إلى آراء رجال الاقتصاد، كما يرجع إلى الحكومة أيضا التي عليها حماية الشعب من خطر الاندفاع وراء ذلك رجاء قد يكون سرابا أحيانا كثيرة، وبخاصة والأمر أمر المحصول الزراعي الرئيسي للبلد المحصول الذي هو أساس ميزانية المزارعين كما نعرف جميعا
__________
(1) تقدم ما فيه.
(2) فيه اعتراف بالمخاطرة الموجبة للنزاع، إلا أنه اندفع بقوة النظام.(48/77)
3 -: موضوع البحث:
سبق أن بحثنا حتى الآن بيع القطن وهو المعدوم كما في حالة بيع المزارع كمية منه قبل زراعته أو بعدها قبل ظهوره وجنيه، والبيع لكمية موجودة منه فعلا تحت اليد بسعر قطعي، أو بسعر يحدد حسب إقفال سوق العقود في يوم معين سبق الرضى به والاتفاق عليه.
بقي أن نبحث الآن حالة التعاقد على بيع كمية موجودة فعلا في السوق لكنها ليست موجودة فعلا تحت يد البائع، بل إنه ليذهب بعد الاتفاق على هذا العقد إلى السوق يشتري ما باع ويسلمه في الأجل المحدود للمشتري وهذه هي الحالة التي توجد بين المستورد والمصدر.(48/78)
مراحل هذه العملية:
إن هذه العملية بين هذين الطرفين تتم على هذه المراحل:
أ- يتلقى التاجر المصدر من بيت من بيوت صناعة القطن في أوربا، أو أمريكا مثلا طلبا بشراء كمية من القطن من صنف معين ورتبة معينة على أن يوردها للطالب في شهر معين، وحينئذ ينظر المصدر في تحديد السعر على أساس عقود الشهر المطلوب مع إضافة قدر احتياطي لما قد يحدث من تغير السعر أثناء الفترة التي تمضي حتى يعتمد السعر.(48/78)
ب- فإذا صار هذا السعر معتمدا من هذا الطرف الآخر المستورد، قام الأول فورا بشراء المطلوب في سوق العقود عن الشهر المحدد المتفق على توريد المطلوب فيه.
ج- ثم لا يكتفي بذلك، بل قد يشتري ما تعاقد عليه في سوق البضاعة الحاضرة إن وجد إلى ذلك سبيلا، مرة واحدة، أو على دفعات، وحينئذ يبيع في نفس اليوم مما اشتراه في سوق العقود لحساب البيت الطالب كميات بقدر ما اشتراه في سوق البضاعة الحاضرة، فتلغى كل كمية منها أثر الأخرى، ولا يبقى مشتري لحساب إلا المقدار المطلوب فقط للخارج.
د- فإذا لم يجد حاجته في سوق البضاعة الحاضرة لم يبق أمامه إلا أن يطلب تنفيذ العقد الذي اشترى به في سوق العقود متى جاء أوانه، وبهذا يكون لديه في الأجل المحدد المقدار الذي تعاقد عليه مع البيت الأجنبي هـ- وأخيرا عليه أن يعمل على تسليم ما تعاقد على بيعه للطرف المشتري، ويكون التسليم حسب الاتفاق، إما في ميناء التصدير، أو في ميناء الوصول، وفي هذه الحالة(48/79)
الأخيرة يكون السعر قد أضيف إليه كل ما تكلفه في الإعداد للتصدير والنقل البحري والتأمين.(48/80)
تكييفها، أهي عقد وكالة؟
قد يكون لنا أن نرى في الالتزام، أو الارتباط الذي تم بين المصدر والمستورد أنه ليس عقد بيع وشراء بحت، بل إنه عقد فيه شبه كبير بعقد الوكالة إن لم نقل إنه حقا عقد وكالة، فإن المصدر لا يشتري ما يشتريه في سوق العقود، أو البضاعة الحاضرة لنفسه بلا ريب، ولكنه يشتريه لحساب البيت المستورد.
فإن كان الأمر كذلك؛ لم يكن علينا أن نبحث في أن التاجر المصدر قد باع ما لا يملكه، وما ليس تحت يده حين التعاقد، بل كل ما علينا هو أن ننظر في توفر شروط عقد الوكالة أو عدم توفرها، وبخاصة ما يتصل منها بموضوع الوكالة، أي: الشيء الموكل فيه.
وهنا نذكر أنه من المعروف فقها وقانونا أن كل عقد يجوز أن يعقده الإنسان بنفسه يجوز أن يوكل به غيره، إلا أنه يشترط أن يكون الشيء أو الأمر الموكل فيه معلوما للوكيل، أو غير مجهول جهالة فاحشة إلا إذا أطلق الموكل كأن يقول مثلا: اشتر لي ما شئت.
ثم إن الوكيل بالشراء يتقيد بما يقيده به الموكل من ناحية الثمن وصنف المشتري ونوعه وصفته، فإذا أخل الوكيل في شيء(48/80)
من ذلك كان تصرفه غير نافذ على الموكل ووقع الشراء لنفسه بلا خلاف بين الفقهاء.
وهذا من المقرر فقها أنه ليس من الضروري دائما أن يضيف الوكيل العقد فيما وكل فيه إلى الموكل نفسه، بل إن له في بعض العقود أن يضيفها إلى نفسه كالبيع، والشراء والإجارة والصلح في المنازعات المالية ونحو ذلك كله، وفي هذه العقود وأمثالها ترجع حقوق العقد إلى الوكيل حتى ليكون الموكل فيها كالأجنبي، ويكون الوكيل كأنه المالك الأصيل.
إذا بعد ذلك الذي ذكرنا، لنا أن نعتبر تعهد التاجر المصدر بتوريد كمية من القطن معروفة النوع والصفة إلى البيت المستورد في الخارج حسب طلبه منه، إنه عقد وكالة مستوف ركنه وشروط صحته، وتكون العملية على هذا عملية سليمة فقها وشرعا.
وذلك لتحقق ركن الوكالة وهو: الإيجاب والقبول، ثم تحقق شروط صحة هذا العقد سواء منها ما يرجع إلى الطرفين، وما يرجع إلى موضوع العقد الذي يضيفه الوكيل، وهو هنا التاجر المصدر إلى نفسه أهي عقد بيع؟
وقد يكون لنا أن نعتبر هذه العملية عقد بيع وشراء، فالتاجر(48/81)
المصدر يبيع للبيت المستورد الكمية التي طلبها منه، ثم يذهب لشرائها من السوق ليستطيع تصديرها له في الأجل المحدود.
ومعنى هذا: أن المصدر قد باع ما لا يملكه، وإن كان موجودا في السوق بلا ريب، فهل ذلك عقد صحيح شرعا؟ أو ذلك غير صحيح؛ لأنه قد لا يستطيع شراء ما باعه، وحينئذ لا يقدر على تسليمه؟(48/82)
رأي الفقه المأثور:
هنا نجد ابن قدامة الحنبلي يقول ما نصه: (ولا يجوز أن يبيع عينا لا يملكها ليمضي ويشتريها ويسلمها رواية واحدة) ، وهو قول الشافعي، ولا نعلم فيه مخالفا؛ لأن حكيم بن حزام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الرجل يأتيني فيلتمس من البيع ما ليس عندي فأمضي إلى السوق فأشتريه ثم أبيعه منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبع ما ليس عندك (1) » .
وهذا -كما يقول ابن قدامة - رأي الكثرة الكثرة من الفقهاء، إذ أنهم يشترطون في موضوع العقد أن يكون تسليمه مقدورا حين العقد؛ لأنه في عقود المعاوضات ليس المهم فقط أن يكون المعقود عليه مملوكا، بل أيضا كون مالكه قادرا على تسليمه للطرف الآخر للعقد حتى لا يقع نزاع عند إرادة تسلم ما تعاقد عليه.
وفي هذا يقول علاء الدين الكاساني فيما يختص بالبيع: بأن من شروطه أن يكون (المراد بيعه) مقدور التسليم عند العقد
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .(48/82)
(فإن كان معجوز التسليم عنده لا ينعقد، وإن كان مملوكا له كبيع الآبق في جواب ظاهر الراويات حتى لو ظهر يحتاج إلى تحديد الإيجاب والقبول، إلا إذا تراضيا فيكون بيعا مبتدأ بالتعاطي، وذكر الكرخي -رحمه الله- أنه ينعقد بيع الآبق حتى لو ظهر وسلم يجوز ولا يحتاج لتجديد البيع، إلا إذا كان القاضي فسخه) .(48/83)
رأينا الخاص:
قد يكون من التجوز أن نسمي هذا الذي سنذكره رأيا خاصا لنا، فإنه على الحقيقة رأي ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ولكنه رأي رضيناه لنا بعد أن رأينا صحة الأساس الذي انبنى عليه أي: بعد نظر واجتهاد.
إن المبيع في هذه العملية قد اجتمع فيه أمران: أنه غير مملوك للبائع، ومن ثم فهو غير موجود لديه، وأنه غير مقدور التسليم حين العقد، وقد رأينا آنفا رأي جمهور الفقهاء في اشتراط أن يكون المبيع مملوكا للبائع وتحت يده، حتى يقدر على تسليمه للمشتري حين العقد مستندين إلى حديث حكيم بن حزام الذي ذكرناه أكثر من مرة، كما عرفنا رأي ابن تيمية وابن القيم في هذه المسألة بناحيتيها، وهو رأي يجب اعتباره وتقديره حق قدره.
إنه ليس لأحد أن ينكر صحة حديث حكيم بن حزام، وما جاء فيه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تبع ما ليس عندك (1) » ردا على سؤاله عمن يجيئه بطلب شراء ما ليس عنده
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .(48/83)
فيذهب ليشتريه له من السوق ثم يسلمه له، ولكن علينا مع إيماننا بأن الحديث تشريع عام لنا، أن نتعرف علة هذا الحكم الذي أصدره الرسول، ثم نتبع الحكم لهذه العلة وجودا وعدما.
إن هذه العلة ليست عدم وجود موضوع العقد لدى البائع حين العقد، وإلا لم يجز الفقهاء عقود الإجارة والمزارعة والاستصناع ونحوها، فإن محل العقد أو موضوعه فيها جميعا معدوم حين التعاقد، ولكن العلة هي الغرر لعدم القدرة على التسليم حين الطلب، وهو هنا وقت العقد -كما لاحظ ابن تيمية بحق هو وتلميذه ابن القيم - فإذا انتفت هذه العلة في حالة أخرى لم يوجد الحكم.
ثم وهذه ناحية أخرى يجب ملاحظتها، علينا أن نلقي بالا لصدر الحديث وهو قول حكيم: (إن الرجل يأتيني فيلتمس من البيع ما ليس عندي. . .) إلى آخر ما قال، فإن هذا معناه بوضوح: أن المشتري كان يريد تسلم ما اشتراه حين العقد، فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عنده، ثم يذهب لشرائه وتسليمه للمشتري، وما هذا- فيما نرى- إلا حذر ألا يجده في السوق فيتعذر عليه التسليم، وفي هذا ومثله يكون الغرر والنزاع والبيع مبني على التراضي كسائر العقود.
ولكن هذا كله لا نخشاه في البيع الذي يكون من المصدر للمستورد، فإن السوق في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانت من البساطة والصغر بدرجة لا نأمن ألا يوجد ما يريده المرء(48/84)
منها إذا باعه سلفا لغيره، على حين أنه في الحالة موضوع البحث الآن من المؤكد أن المصدر سيجد ما يزيد عن حاجته من القطن الذي اتفق على بيعه وتوريده للبيت الأجنبي، وإذا فلا غرر ولا عجز عن التسليم.
ومن ناحية أخرى فإن المشتري في حادثة: حكيم بن حزام كان على ما يؤخذ من نص الحديث نفسه، يريد الشراء والاستلام فورا، على حين أن البيت المستورد هنا يتعاقد على الشراء على أن يكون التسليم بعد فترة من الاتفاق قد تصل إلى بضعة أشهر.
ومعنى هذا أن أمام البائع المصدر ما يكفيه بسعة من الوقت لشراء ما طلب منه ثم تسليمه في الأجل المحدد، ومن الدلائل العملية على هذا أنه لم يحصل فيما نعلم حتى اليوم أن التاجر المصدر قد عجز من هذه الناحية عن شراء ما باعه وتسليمه في الحين المطلوب التسليم فيه.(48/85)
النتيجة الأخيرة:
والنتيجة النهائية لكل ما ذكرنا: أن ما يجري بين المصدر والمستورد في الخارج خاصا بالقطن مثلا على النحو الذي عرفناه صحيح شرعا لا يتعارض مع شيء من أصول الفقه وأسسه العامة، ولا مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي تهدف دائما لمصلحة الفرد والمجتمع وللتيسير على الناس في معاملاتهم (1) وسواء في ذلك كان تكييف هذه العملية بأنها عقد وكالة.
__________
(1) تقدم تصوير الحالة التي يكون فيها وكيلا، والتي يكون فيها بائعا على المستورد.(48/85)
أو بأنها عقد بيع، وغاية الأمر أن لكل زمن ومكان طرقه وأساليبه في الحياة وأمورها، ومن ذلك أنواع المعاملات التي جرى العرف بها، ولا تصادم نصا من نصوص الشريعة القاطعة الحاسمة في بيان الحلال والحرام والجائز وغير الجائز على اختلاف الزمان والمكان.(48/86)
الخلاصة
مما تقدم يتبين ما يلي:
أولا: أصل معنى كلمة " بورصة ": كيس نقود، ثم استعملت في المكان الذي يجتمع فيه تجار مدينة وصيارفتها وسماسرتها تحت رعاية حكومة في ساعات محدودة للمضاربة في السلع التجارية والأسواق الآجلة للعملات الأجنبية، وفي أسواق الأوراق المالية (الأسهم والسندات) .
نشأت في رومانيا ثم كانت في فرنسا في منتصف القرن السادس الميلادي تقريبا، ثم انتشرت في الدول، وتطورت حتى انتهت إلى ما هي عليه اليوم (1) وبهذا يعلم أن أنواعها:
أ- مضاربة في السلع التجارية.
ب- مضاربة في العملات الأجنبية.
ج- مضاربة في الأوراق المالية (الأسهم والسندات)
__________
(1) ص: 84 من القسم الثاني من البحث في العدد: ''47 ''، ص: 27، 48 من القسم الثالث والأخير في هذا العدد.(48/87)
ثانيا:
أن تقلب الأسعار في هذه الأسواق ارتفاعا وانخفاضا مفاجئا وغير مفاجئ بحدة وغير حدة، لا يخضع لمجرد اختلاف حالات العرض والطلب، بل يخضع لعوامل أخرى مفتعلة، فإن السياسة النقدية أو المالية للحكومات ذات العملة الرئيسية -الدولارات، الإسترليني- التي تفرضها هذه الحكومات من خلال بنوكها المركزية ومؤسساتها النقدية تؤثر كثيرا على تقلب أسعار العملات بين الدول وعلى اقتصادها، أضف إلى ذلك قوة السياسة المالية الحكومية وبنوكها على إنشاء نقد، واتخاذ عوامل تؤدي إلى تضخم، أو انكماش نقد ما، ويسري ذلك إلى عملات أخرى من خلال التبادل الدولي الكبير للسلع والخدمات يوضح ذلك ما جاء في ص: 105- 109- 111-123 - 130-136-137-138-139- 169- 170 من البحث وبذلك يعلم ما في أنواع البورصة من غرر فاحش ومخاطرة بالغة وأضرار فادحة، قد تنتهي بمن يخوض غمارها من التجار العاديين ومن في حكمهم إلى(48/88)
الإفلاس، وهذا ما لا تقره شريعة الإسلام ولا ترضاه فإنها شريعة العدل والرحمة والإحسان.
ثالثا: أن كثيرا مما ذكر في البورصة من المضاربات في السلع والأوراق المالية فيه بيع كالئ بكالئ -دين بدين- وصرف آخر فيه أحد العوضين، وكلاهما ممنوع بالنص والإجماع، كما تبين في ص: 107- 110- 111- 118 - 119 - 120- 123- 127- 131- 153- 155- 166- 171 وغيرها من البحث رابعا: أن كثيرا مما ذكر في البورصة من المضاربات في السلع بيع للشيء قبل قبضه، وهو منهي عنه، كما تبين في ص: 137- 143- 144- 155 وغيرها من البحث (1) خامسا: أن هذه الأسواق متوفرة في الدول الغربية، فالاستثمار فيها يترتب عليه نقل الثروة من البلاد الأخرى التي يسكنها المستثمر إلى الدول الغربية التي تقع فيها تلك الأسواق مع أن بلاد المستثمر في أشد الحاجة إليها، وقد تكون النتيجة نقل مدخرات المسلمين واستثمارها
__________
(1) كما ورد في أصل البحث وهي في ص: 32- 37- 41- 55 من القسم الثالث والأخير في هذا العدد.(48/89)
في بلاد غير إسلامية، وفي هذا من الضرر والخطر ما فيه، يتبين هذا من ص: 128 من البحث (1) ، فعلى ولاة أمور المسلمين حماية شعوبهم من المغامرة في هذه الأسواق، حفاظا على دينهم، وحماية لثروتهم.
والله الموفق.
هذا ما تيسر جمعه وترتيبه ومناقشته وتلخيصه في بحث البورصة وبيان حكمها، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) كما ورد في أصل البحث وهي في ص: 114 من القسم الثاني في العدد: '' 47 ''.(48/90)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية(48/91)
صفحة فارغة(48/92)
من الفتوى رقم 8257
السؤال الأول: قرأت تفسير الجلالين عن الآية (20) وقصتها تنتهي من سورة ص بآية (25) التي تروي قصة سيدنا داود إذ كان في المحراب. . . إلخ القصة فأنت تعرفها بالتأكيد، وما قاله تفسير الجلالين أن سيدنا داود كان له تسع وتسعون امرأة فأحب زوجة صاحبه فتزوجها، وهذه أعتقد أنها دسيسة إسرائيلية طبعا، ليس هذا المقصود بتفسير الآية إذ فيها امتحان لسيدنا داود وابتلاء لمدى دقته في حكمه فسمع هو لشخص دون الآخر، وهذا خطأه عليه السلام، أرجو إفادتي بشكل واضح عن هذه الآية، وإذا كان ما يقوله تفسير الجلالين خطأ فلماذا السكوت عليه؟ جزاكم الله عنا كل خير؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ما يذكره كثير من المفسرين عن قصة داود عليه السلام في عشق امرأة قائد الجند غير صحيح، وقد أشار الشيخ الشنقيطي -رحمه الله- في " أضواء البيان " إلى أن ما يذكر عن نبي الله داود -عليه وعلى نبينا السلام- مما لا يليق بمنصبه، كله راجع إلى الإسرائيليات، فلا ثقة به ولا معول عليه، وما جاء مرفوعا إلى(48/93)
النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا يصح شيء منه، وننصحك بالرجوع إلى الكتاب المذكور " أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن " ففيه تفصيل عن الموضوع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(48/94)
من الفتوى رقم 7994
السؤال الأول: يقول عز وجل في كتابه الكريم:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} (1) سورة السجدة، هذه الآية، ورد كثير في القرآن آيات مثلها، ثم ذكر تبارك وتعالى آية غيرها يقول: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (3) {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (4) {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (5) .
__________
(1) سورة السجدة الآية 4
(2) سورة فصلت الآية 9
(3) سورة فصلت الآية 10
(4) سورة فصلت الآية 11
(5) سورة فصلت الآية 12(48/94)
سورة فصلت، فما علاقة الآية الأولى والثانية في خلق السماوات والأرض في ستة أيام وثمانية أيام؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ليس في الآيات المذكورات في سورة فصلت ثمانية أيام وإنما الذي فيها ستة أيام، فتأمل ذلك يتضح لك الأمر إن شاء الله، وراجع تفسير ابن كثير في الموضوع يزل عنك الإشكال بإذن الله.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(48/95)
من الفتوى رقم 9893
السؤال الأول: ما مدى صحة هذا الحديث «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك (1) » ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث ضعيف كما ذكر جلال الدين السيوطي في الجامع الصغير، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات؛ لأن فيه عمر بن راشد بن شجرة، وقد ضعفه أحمد ويحيى بن معين وأبو داود وغيرهم (2) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي فضائل القرآن (2888) .
(2) الترمذي برقم 2890، و'' الموضوعات '' لابن الجوزي 1 \ 248.(48/96)
من الفتوى رقم 1777
السؤال الخامس: أرجو إخباري عن شجرة الزقوم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ذكر الله شجرة الزقوم في سورة الدخان بقوله تعالى:
{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} (1) {طَعَامُ الْأَثِيمِ} (2) ، وفي سورة الإسراء بقوله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} (3) ، وفي سورة الصافات يقول سبحانه: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} (4) {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} (5) {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} (6) {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} (7) .
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره على آية الإسراء: (وأما الشجرة الملعونة، فهي شجرة الزقوم كما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى (8) الجنة والنار ورأى شجرة الزقوم، فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل عليه لعائن الله: هاتوا لنا تمرا وزبدا وجعل يأكل من هذا ويقول: تزقموا فلا نعلم الزقوم غير
__________
(1) سورة الدخان الآية 43
(2) سورة الدخان الآية 44
(3) سورة الإسراء الآية 60
(4) سورة الصافات الآية 62
(5) سورة الصافات الآية 63
(6) سورة الصافات الآية 64
(7) سورة الصافات الآية 65
(8) أحمد 1 \ 374.(48/97)
هذا، حكى ذلك ابن عباس ومسروق وأبو مالك والحسن البصري وغير واحد) . اهـ
وأما العلم بعين الشجرة فلا يترتب عليه أمر عملي بل الواجب التصديق والتسليم بما أخبر الله به عنها في القرآن وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(48/98)
فتوى رقم 2122
س: قال الله تعالى: {حم} (1) {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} (2) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (3) قرأت في تفسير الجلالين لجلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي تفسير قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (4) إنها هي ليلة القدر أو ليلة النصف من شعبان نزل فيها من أم الكتاب من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، وسألت كثيرا من
__________
(1) سورة الدخان الآية 1
(2) سورة الدخان الآية 2
(3) سورة الدخان الآية 3
(4) سورة الدخان الآية 3(48/98)
المشائخ وأفادوني بأنها ليلة القدر في رمضان، فأرجو توضيح تفسير هذه الآية، حفظكم الله؟ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أقسم الله جل شأنه بكتابه العزيز الذي هو آيته التي آتاها محمدا صلى الله عليه وسلم؛ لتكون معجزة وحجة له على رسالته أنه أنزل عليه القرآن الكريم في ليلة مباركة كثيرة الخير، وهي ليلة القدر كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} (2) {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (3) إلى آخر السورة، وهي في شهر رمضان لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (4) ومن قال: (إنها ليلة النصف من شعبان) فقد أخطأ، وأبعد النجعة؛ لمخالفته لنصوص القرآن والأحاديث النبوية الثابتة التي بينتها وعينت شهرها وسمتها باسمها، وليس مع من قال: (إنها ليلة النصف من شعبان) دليل من الكتاب أو السنة الثابتة يعتمد عليه في تفسير الليلة المباركة بذلك، وليست المسألة عقلية حتى يقال فيها بالرأي أو يعتمد فيها على الأدلة العقلية، وإنما هي سمعية يعتمد فيها على النقول من الكتاب والسنة الثابتة، ثم بين سبحانه سنته العادلة ورحمته الشاملة في عباده بقوله: {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (5) أي مرسلين رسلا
__________
(1) سورة القدر الآية 1
(2) سورة القدر الآية 2
(3) سورة القدر الآية 3
(4) سورة البقرة الآية 185
(5) سورة الدخان الآية 3(48/99)
يبلغون عن الله شريعته وهدايته لهم، ويخوفونهم عاقبة مخالفة أوامره ونواهيه؛ إقامة لعدله، وإسقاطا لمعاذير خلقه ورحمة منه بعباده كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (1) ، وكما قال: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (2) ، وقال: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (3) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 165
(2) سورة الأنعام الآية 131
(3) سورة الإسراء الآية 15(48/100)
فتوى رقم 1546
س: جاء في مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم هذا النص:(48/100)
(ومما وقع أيضا قصته صلى الله عليه وسلم معهم لما قرأ سورة النجم بحضرتهم فلما وصل إلى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} (1) {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} (2) ألقى الشيطان في تلاوته:
تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، ففرحوا بذلك فرحا شديدا) ، فهل هذه الرواية صحيحة، وعلى فرض صحتها هل للشيطان سلطة أن يلقي في تلاوته تلك الكلمات التي مر ذكرها، أرجو إفادتي مع جزيل الشكر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: قصة الغرانيق ذكرها كثير من علماء التفسير عند تفسيرهم قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (3) الآيات من سورة الحج، وعند تفسيرهم قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} (4) {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} (5) الآيات من سورة النجم، ورووها من طرق عدة بألفاظ مختلفة، غير أنها كلها رويت من طرق مرسلة ولم ترد مسندة من طرق صحيحة، كما قال ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره، فإنه لما ساق هذه القصة بطرقها قال بعدها: (وكلها مرسلات ومنقطعات) (6) اهـ.
__________
(1) سورة النجم الآية 19
(2) سورة النجم الآية 20
(3) سورة الحج الآية 52
(4) سورة النجم الآية 19
(5) سورة النجم الآية 20
(6) تفسير ابن كثير 5 \ 440 (ط. الشعب) .(48/101)
وقال ابن خزيمة: (إن هذه القصة من وضع الزنادقة) اهـ، واستنكرها أيضا أبو بكر ابن العربي والقاضي عياض وآخرون سندا ومتنا، أما السند فبما تقدم، وأما المتن فبما ذكره ابن العربي من أن الله تعالى إذا أرسل الملك إلى رسوله خلق فيه العلم بأن من يوحى إليه هو الملك فلا يمكن أن يلقي الشيطان على لسانه شيئا يلتبس عليه فيتلوه على أنه قرآن (1) ، وللإجماع على عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرك فيمتنع أن يتكلم بكلمة: (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى) سهوا أو ظنا منه أنها قرآن، ولأنه يستحيل أن يؤثر الرسول صلى الله عليه وسلم صلة قومه ورضاهم على صلة ربه ورضاه، فيتمنى ألا ينزل الله عليه ما يغضب قومه حرصا منه على رضاهم، ثم ما استدل به على ثبوت القصة من قوله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} (2) لا يدل على صحتها بل يدل على براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه من تلاوة هذه الكلمة الشركية؛ لأنها تفيد النفي لا الإثبات، ولأنها تفيد أن الشيطان ألقى في أمنيته أي تلاوته، وليس فيها أن الشيطان ألقى على لسانه تلك الكلمات الشركية، أو ألقاها في نفسه فتلاها أو قرأها أو تكلم بها سهوا أو غلطة أو قصدا حتى جاء جبريل وأنكر عليه وأصلح له ما أخطأ فيه، وأسف صلى الله عليه وسلم أسفا شديدا على ما فرط منه، ولم يثبت أن الآية نزلت تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم فيما أصيب به مما ذكر في هذه القصة حتى يكون مساعدا على تأويلها بما
__________
(1) أحكام القرآن، 3 \ 1300.
(2) سورة الإسراء الآية 73(48/102)
جاء فيها من المنكرات.
وقد وافق جمهور أهل السنة ابن العربي فيما ذكره، وذكروا أن معنى الآية: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا ما أنزلنا عليه من الوحي أو تكلم به ألقى شيطان الإنس أو الجن أثناء تلاوته، أو خلال حديثه وكلامه قولا يتكلم به الشيطان ويسمعه الحاضرون، أو يوسوس الشيطان وساوس يلقيها في نفوس الكفار ومرضى القلوب من المنافقين فيحسبها أولئك من الوحي وليست منه، فيبطل الله ما ألقى الشيطان من القول أو الشبه والوسوسة ويزيله، ويحق الحق بكلماته لكمال علمه، وبالغ حكمته وهذه سنة الله مع رسله وأنبيائه وأعدائه وأعدائهم ليتم معنى الابتلاء والامتحان ويميز الخبيث من الطيب ليهلك من هلك بما ألقى الشيطان من الكفار ومرضى القلوب ويحيى من حيي عن بينة من أهل العلم واليقين الذين اطمأنت قلوبهم بالإيمان وهدوا إلى صراط مستقيم.
ومما تقدم يتبين أن روايات قصة الغرانيق ليست صحيحة وأنه ليس للشيطان سلطان أن يلقي على لسان النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من الباطل فيتلوه أو يتكلم به، وربما ألقى الشيطان قولا أثناء تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم به الشيطان ويسمعه الحاضرون، أو يوسوس الشيطان وساوس يلقيها في نفوس الكفار ومرضى القلوب من المنافقين فيحسبها أولئك من الوحي وليست منه فيبطل الله ذلك القول الشيطاني ويزيل الشبه ويحكم آياته، ويتبين أيضا أن ما قاله الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هو قول جمهور العلماء(48/103)
من أن الشيطان ألقى قولا أو وسوسة أثناء التلاوة، لكنها ليست على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ولا في نفسه ولا في نفس من صدق في إيمانه به، إنما ذلك إلقاء من الشيطان أثناء التلاوة في أسماع الكفار أو حديث نفس وقع في أسماعهم وقلوبهم فحسبوه قرآنا متلوا، وتأبى حكمة الله إلا أن يزيل الباطل ويحكم آياته إحقاقا للحق ورحمة بالعباد، والله عليم حكيم، وقد أجمع علماء الإسلام كلهم على عصمة الرسل جميعا في كل ما يبلغونه عن الله عز وجل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(48/104)
من الفتوى رقم 7458
السؤال السادس: هل صحيح أننا سنسمع ربنا يتلو علينا في الجنة إن شاء الله سورة الرحمن؟(48/104)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ليس ذلك بصحيح فيما نعلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(48/105)
من الفتوى رقم 6898
السؤال الثامن: ما تفسير قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} (1) ، وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (2) ، وقوله تعالى: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} (3) ؟ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: المراد بالمشرقين والمغربين في الآية الأولى مطلع
__________
(1) سورة الرحمن الآية 17
(2) سورة الشعراء الآية 28
(3) سورة المعارج الآية 40(48/105)
الشمس جنوب خط الاستواء وشماله، ومغربها جنوبه وشماله، والمراد بالمشرق والمغرب في الآية الثانية جهة الشرق وجهة الغرب اللتان تنتقل الشمس فيهما طلوعا وغروبا على مدى الفصول، والمراد بالمشارق والمغارب في الآية الثالثة مطالع الشمس ومغاربها كل يوم شرقا وغربا، وبذلك تجتمع النصوص.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(48/106)
فتوى رقم 5961
س: قال الله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (1) ما المراد بالبدع في الآية الكريمة وحكم رعايتها، ومن كتب على نفسه أن يستغفر الله وأن يحمد الله
__________
(1) سورة الحديد الآية 27(48/106)
والصلاة القائمة وكل ذلك مائة مرة صباحا ومساء، ولم يلتزم به بعد ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: المراد بالبدعة في هذه الآية: الرهبانية، وهي الانقطاع لعبادة الله، واعتزال الناس ابتغاء التقرب إلى الله تعالى، وطلبها لرضاه سبحانه بالمبالغة في طاعته، سواء كان هذا الانقطاع بلزوم الجبال أو الكنائس أو البيع والصوامع أو غير ذلك، وهذه البدعة لم يكتبها الله عليهم، ولم يشرعها لهم بل هم الذين أحدثوها من عند أنفسهم رجاء رضوان الله في زعمهم، شأنهم في ذلك شأن من سلك سبيلهم من مبتدعة هذه الأمة، فإنهم ابتدعوا في الإسلام بدعا لم يأذن بها الله كاجتماعهم لذكر الله صفوفا، أو حلقات مع الترنح والتمايل يمنة ويسرة، ومن أعلى لأسفل بأصوات مرتفعة وصياح وعويل ممن يسمونهم (المجاذيب) ، وكبدعة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم، وموالد الصالحين رجاء الثواب من الله تعالى بتعظيم الأنبياء والصالحين بهذه الاحتفالات إلى أمثال ذلك من الاحتفالات التي لم يشرعها لعباده.
ثانيا: هؤلاء الذين ابتدعوا الرهبانية لم يراعوا هذه الرهبانية، أي أنهم قصروا على مدى الأيام في العمل بما ابتدعوا تقربا إلى الله في زعمهم، فأنكر الله عليهم ابتداعهم في دين الله ما(48/107)
لم يأذن به وعدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة وتقربهم إلى الله عز وجل، ولو كانوا تركوها إنكارا لها ورجوعا إلى الحق لأثيبوا على تركها.
ثالثا: من كتب على نفسه عبادة مشروعة لكنها غير مفروضة وأداها على الكيفية التي شرعت عليها عددا ووقتا مطلقة أو مقيدة فقد أحسن، وليس هذا ببدعة في الإسلام؛ لأنه مشروع بأصله وكيفيته، ومثاله التزام عبد الله بن عمرو بن العاص التهجد وصيام يوم وإفطار يوم، ومداومته على ذلك -رضي الله عنه- حتى ضعف، ولما أشير عليه بالتخفيف عن نفسه قال: (ما كنت لأترك شيئا فعلته زمن النبي صلى الله عليه وسلم) (1) .
فمن وفى بما التزم مما شرع الله فقد أحسن، ومن ترك شيئا من ذلك لضعف فقد أخذ بالرخصة ولا حرج عليه، ومن تركه تهاونا وكسلا فقد ارتكب خلاف الأولى.
أما من كتب على نفسه عملا لم يشرعه الله أصلا كالاحتفال بعيد الميلاد، وبأول العام الهجري وبالموالد ونحو ذلك أو التزام ما شرع الله أصله، لكن كان فعله له على غير الكيفية التي شرعه الله عليها فالتزامه بدعة منكرة؛ لمخالفته الكيفية التي شرع الله عليها العبادة، مثاله ما تقدم من الذكر جماعة بصوت واحد مرتفع. . إلى آخره، فإن الله لم يشرعه بهذه الكيفية ولا ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أحمد 4 \ 200، والبخاري برقم 1975، ومسلم برقم 1159، وأبو داود برقم 2427.(48/108)
بهذه الكيفية، ولا عملها أصحابه رضي الله عنهم، ولا عملوا بها، ولو كان فيها خير لشرعها الله، ولعمل بها رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولو فعلوا لنقل إلينا نقلا ثابتا، فدل ذلك على أنها من البدع المحدثة التي يجب اجتنابها.
ومن هذا يتبين أنه ليس للإنسان أن يكتب على نفسه عددا محددا في كل من الاستغفار وحمد الله، وليس له أن يخص الذكر بذلك بزمن معين بل يحرص على الذكر بذلك وبغيره مما ثبت الذكر به بما يتيسر من العدد في أي وقت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقيد ذلك بمائة مرة ولا بخصوص الصباح والمساء، ومن رجع عن هذا الالتزام اتباعا للنبي صلى الله عليه وسلم في التقرب إلى الله بما ذكر من غير تحديد عدد أو زمان فهو مأجور، أما ما ورد من الأذكار محددا بعدد أو وقت أو كيفية فيؤدى كما ورد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(48/109)
فتوى رقم 1851
س: فسروا لنا هذه الآية: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) . . . إلى آخر السورة، بعض الناس يكفر بعضهم بعضا حتى آبائهم وأمهاتهم وإخوانهم وأخواتهم ولو كانوا يصلون، ويكفرون غيرهم، فبينوا لنا معنى هذه الآية؟ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يخبر الله جل شأنه رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه لا يجد ممن آمن بالله واليوم الآخر، وأخلصوا قلوبهم لله، وأسلموا وجوههم له فأطاعوه فيما أمر واجتنبوا ما نهى عنه وزجر قوما يحبون من شاق الله ورسوله، وعدلوا عما جاء به صلى الله عليه وسلم من عند الله من الهدى والنور، مهما طال الزمن، وقلبت فيهم البصر، وأمعنت النظر فسوف لا تجد من المخلصين الصادقين في إيمانهم من يحب قلبه هؤلاء الكفار، ولو كانوا من أقرب الناس إليهم نسبة من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وعشيرتهم الأقربين، وفي هذا ثناء جميل من الله سبحانه على أولئك الأخيار الذين صدقوا الله ورسوله، واتبعوا ما
__________
(1) سورة المجادلة الآية 22(48/110)
جاءهم من الهدى والنور، وفيه ترغيب لهم في الثبات على ذلك والازدياد منه، وأمر للناس أن يسيروا سيرتهم، وينهجوا نهجهم في الإخلاص وصدق الإيمان وتحذيرهم من صنيع المنافقين الذين تولوا قوما غضب الله عليهم من اليهود ويحلفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيمانا كاذبة ليرضوه ويقولون: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (1) .
فتضمنت هذه الجملة الثناء على المؤمنين الصادقين بالبراءة من الكافرين، والتحذير من حبهم ومودتهم، والنهي عن ذلك كما في قوله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (2) ، وكما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (4) ، وكما في قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (5) .
__________
(1) سورة المنافقون الآية 1
(2) سورة آل عمران الآية 28
(3) سورة التوبة الآية 23
(4) سورة التوبة الآية 24
(5) سورة الممتحنة الآية 4(48/111)
إلى غير هذه الآيات من نصوص الكتاب والسنة التي نهت عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء وغيرهم من الكفار، وحذرت من تولي من غضب الله عليهم، ومن اتخذوا دين الله هزوا من الذين أوتوا الكتاب وسائر الكفار.
وهذا بيان من الله تعالى لحكم أعمال القلوب من محبة ووداد وبراء من الكافرين وبغضهم وبغض ما ارتكبوه من غي وضلال، أما المعاملات الدنيوية من بيع وشراء وسائر تبادل المنافع فتابع للسياسة الشرعية والنواحي الاقتصادية، فمن كان بيننا وبينهم موادعة جاز أن نتبادل معهم المنافع من بيع وإجارة وكراء وقبول الهدايا والهبات والمكافأة عليها بالمعروف والإحسان إقامة للعدل ومراعاة لمكارم الأخلاق على أن لا يخالف ذلك أصلا شرعيا، ولا يخرج عن سنن المعاملات التي أحلها الإسلام، قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) ومن كان بيننا وبينهم حرب أو اعتدوا علينا فلا يجوز أن نتولاهم في المعاملات الدنيوية، بل يحرم ذلك كما حرم توليهم بالمحبة والإخاء، قالت الله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) .
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 8
(2) سورة الممتحنة الآية 9(48/112)
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بيانا عمليا في السلم والحرب مع اليهود بالمدينة وخيبر ومع النصارى وغيرهم من الكفار، ثم بين الله تعالى السبب الذي كان منه بغضهم للكافرين فقال: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (1) إن هؤلاء الذين صدقوا الله ورسوله هم الذين قرر الله في قلوبهم الإيمان وثبته في نفوسهم وأيدهم ببرهان منه ونور وهدى فوالوا أولياءه وعادوا أعداءه وساروا على الشريعة التي رضيها الله تعالى لهم دينا، ثم بين جزاءهم بقوله: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (2) أي أنه يتفضل الله عليهم بمنه وكرمه فيدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار فيها من النعيم المقيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فينعم بذلك النعيم أولئك المخلصون الأطهار مقيمين فيها أبد الآباد لا يفنى نعيمها ولا يزول ما هم منها بمخرجين رضي الله عنهم بما حققوه من إيمان صادق وعمل صالح ورضوا عن قضائه وتشريعه وجزائه وأثنوا عليه بما هو أهله، ثم ختم السورة بقوله سبحانه: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) فأخبر تعالى بأنهم جنده الذين تولوه بالطاعة فتولاهم بنصره وفضله وإحسانه في الدنيا والآخرة وكانوا هم الفائزين دون من خادع الله ورسوله وتولى الكافرين، ومن ذلك يتبين ما يأتي:
__________
(1) سورة المجادلة الآية 22
(2) سورة المجادلة الآية 22
(3) سورة المجادلة الآية 22(48/113)
أولا: أن من أحب الكفار ووادهم دينا فهو كافر كفرا يخرج من ملة الإسلام.
ثانيا: من أبغضهم بقلبه وتبادل معهم المنافع من بيع وشراء وإجارة وكراء في حدود ما شرع الله فلا حرج عليه.
ثالثا: من أبغضهم في الله ولكن عاشرهم وعاش بين أظهرهم لمصلحة دنيوية وآثر ذلك على الحياة مع المسلمين في ديارهم فهو آثم؛ لما في ذلك من تكثير سوادهم والتعاون معجم دون المسلمين ولأنه عرض نفسه للفتن وحرمها من التعاون مع المسلمين على أداء شعائر الإسلام وحضور مشاهده والتناصح والتشاور مع المسلمين فيما يعود على الأمة الإسلامية بالقوة والنهوض إلى ما تسعد به في الدنيا والآخرة، إلا إذا كان عالما يأمن على نفسه الفتنة ويرجو من إقامته بينهم أن ينفع الله به في الدعوة إلى الإسلام ونشره بينهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(48/114)
من الفتوى رقم 9604
السؤال السادس: سورة الملك: بسم الله الرحمن الرحيم {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) هل قراءة هذه السورة كل ليلة تشفع لصاحبها عند الموت؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا الحديث رواه أبو داود في سننه بهذا النص حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا شعبة أخبرنا قتادة عن عباس الجشمي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سورة من القرآن ثلاثون آية تشفع لصاحبها حتى غفر له (3) » قال المنذري في مختصره: أخرجه النسائي وابن ماجه وقال الترمذي: حديث حسن لكن في سنده ضعف وعلى هذا يرجى لمن آمن بهذه السورة وحافظ على قراءتها ابتغاء وجه الله معتبرا بما فيها من العبر والمواعظ عاملا بما فيها
__________
(1) سورة الملك الآية 1
(2) سنن الترمذي فضائل القرآن (2891) ، سنن أبو داود الصلاة (1400) ، سنن ابن ماجه الأدب (3786) .
(3) سورة الملك الآية 1 (2) {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}(48/115)
من أحكام أن تشفع له.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(48/116)
من الفتوى رقم 5771
السؤال الأول: هل القمر بين السماوات أو تحت السماء الدنيا، وإذا كان بينهما فكيف يأتي الصعود على وجه القمر مع الدليل؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يحتمل أن يكون القمر بين السماوات وأن يكون تحت السماء الدنيا لعدم وجود دليل يعين أحد الاحتمالين وليس في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} (1) دليل يعين كونه بينهن لاحتمال أن يكون الجار والمجرور فيهن متعلقا بكلمة
__________
(1) سورة نوح الآية 16(48/116)
نورا والمعنى: وجعل القمر نورا فيهن، فيكون نوره فيهن كما أنه في الأرض، ولا يلزم من ذلك كونه بينهن، وإذا لم يتعين كونه بينهن أمكن أن يصعد إليه بالمصاعد الحديثة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(48/117)
فتوى رقم 389
السؤال الأول: ما الدليل على جواز إخفاء (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة الجهرية، كما أن كل سورة من القرآن مكتوب أولها (بسم الله الرحمن الرحيم) ، ومنها سورة الفاتحة علما أن آياتها سبع آيات بينما تقرأ ست آيات فقط، نخفي (بسم الله الرحمن الرحيم) ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(48/117)
ج: من قال من العلماء بإخفاء (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة الجهرية بنى ذلك على قوله: بأنها ليست آية من كل سورة بل هي آية من القرآن مستقلة فصل بها بين السور وهي بعض آية من سورة النمل، فقال: إن في الإسرار بها في الصلاة الجهرية تمييزا بينها وبين آيات السور، وأيضا في الإتيان بها في قراءة السور في الصلاة مع الإسرار بها في الجهرية جمع بين الأدلة التي ظاهرها ترك القراءة بها في الصلاة والأحاديث التي دلت على الإتيان بها أمام السورة في الصلاة مثل حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ (2) »
وحديث أنس رضي الله عنه قالت: «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون بـ (4) » ، ولمسلم: «لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم (5) » فحملت هذه الأحاديث على ترك الجهر بها دون تركها بالمرة جمعا بين هذه الأحاديث والأحاديث الدالة على القراءة بـ بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، وأما أننا نقرأ الفاتحة ست آيات فقط فغير صحيح باتفاق؛ فإن من اعتبر البسملة آية من كل سورة حتى الفاتحة عدها آية من الفاتحة وما
__________
(1) أحمد 6 \ 31 و171 و 194 و 281، وأبو داود برقم 783 وابن ماجه برقم 796.
(2) سورة الفاتحة الآية 2 (1) {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(3) أحمد 3 \ 168 و 53 و205 و 223 و255 و 273 و 286 و 289 والنسائي في المجتبى 2 \ 133 و135 وأبو داود برقم 783، وابن ماجه برقم 797.
(4) سورة الفاتحة الآية 2 (3) {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(5) مسلم برقم 399.(48/118)
بعدها ست آيات، ومن لم يعتبرها آية من الفاتحة عد {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (1) آية وما بعدها إلى آخر الفاتحة آية فصارت سبع آيات بدون البسملة.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 7(48/119)
السؤال الثاني: ما تفسير قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (1) {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (2) سورة الأعلى؟
ج: قد فاز بجنة ربه ورضوانه من تطهر من الكفر وسائر المعاصي والأخلاق الخبيثة بالإيمان بالشريعة الإسلامية والعمل بالطاعات، ويدخل في عموم ذلك أداء الزكاة وصلة الأرحام وما يتصل بهذا من الصدقات والإنفاق في وجوه البر والإحسان، وذكر اسم ربه وولي نعمته سبحانه ذكر إجلال وإعظام ومراقبة له ومعرفة لحقه، فحمله ذلك على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها جماعة في بيوت الله ويتبع هذه صلاة العيدين وسائر نوافل الصلوات ولم يخص الله بعضا مما ذكر دون بعض فعم ما تقدم وما في حكمه، وإن كان بعض ذلك أولى بالأداء من بعض فوجب أن تعم في القول كما عم الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة الأعلى الآية 14
(2) سورة الأعلى الآية 15(48/119)
السؤال الثالث: ما تفسير قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (1) الآيات؟
__________
(1) سورة النور الآية 36(48/119)
ج: المراد بالبيوت في هذه الآية المساجد، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: {يُوقَدُ} (1) أو بمحذوف وقع صفة لـ {مِصْبَاحٌ} (2) والمعنى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة صافية يوقد من زيت شجرة الزيتون في مساجد أمر الله أن يرفع بناؤها ويعظم قدرها وتكرم عن لهو الحديث ولغو الكلام ورفع الأصوات وكل ما لا يليق بها، وأمر سبحانه أن يذكر فيها اسمه بالقلب واللسان بالأذكار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا على ما يفعله كثير من أرباب الطرق ومريدوهم من الأذكار المبتدعة في ألفاظها أو في كيفية أدائها والذكر بها، يسبح لله في هذه المساجد ويقدسه بالصلاة فيها ودراسة العلم بها، وتلاوة القرآن وسائر الأذكار المشروعة، بالغدو والآصال في الغداة والعشي أول النهار وآخره، رجال قدروا الله قدره، فلا تشغلهم مشاغل الدنيا من تجارة وبيع عن ذكر الله بقلوبهم وألسنتهم وأبدانهم، لمراقبتهم الله، ونظرهم في العواقب، وخشيتهم من هول يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار، وتذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، ثم ذكر الله سبحانه جزاءهم بأحسن ما عملوا وتوفيتهم أجرهم بغير حساب جزاء وفاقا بإخلاصهم لربهم وبيعهم أنفسهم على ولي نعمتهم الله ذو الفضل العظيم.
__________
(1) سورة النور الآية 35
(2) سورة النور الآية 35(48/120)
السؤال الرابع: ما تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (1) ؟
__________
(1) سورة البقرة الآية 114(48/120)
ج: للعلماء فيمن نزلت فيهم هذه الآية قولان:
القول الأول: أنهم النصارى أو بخت نصر أو كلاهما، والمعنى: لا أحد أشد اعتداء وجراءة على الله وعلى حرمات دينه من النصارى وبخت نصر، إذ منعوا الناس أن يعبدوا الله في بيت المقدس بإقام الصلاة فيه ودراسة العلم به والقصد إليه لزيارته، وسعوا في تخريبه ورمي الأذى والقاذورات به تنفيرا للناس من القصد إليه وعمارته بالعبادة وذلك لشدة عداوتهم لليهود، واختار هذا الرأي ابن جرير الطبري لدلالة ما قبل هذه الآية وما بعدها من الآيات عليه، إذ كان الخبر في ذلك عن اليهود والنصارى وعداوة بعضهم لبعض.
القول الثاني: أنها نزلت في مشركي مكة إذ صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سنة الحديبية عن المسجد الحرام، والمعنى لا أحد أشد اعتداء وجراءة على الله من مشركي مكة ومن والاهم إذ منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سنة عمرة الحديبية عن المسجد الحرام أنفة وكبرا وسعوا جهودهم في تخريبه بالعبادات الشركية وإخلائه من عبادة الله وحده صلاة وطوافا وحجا وعمرة، وإن لم يخربوا بنيانه فإن حرمان من هو أهل لعمارته وأحق بأداء النسك والعبادة فيه ومن هو أولى بخدمته من الدخول فيه أشد تخريبا من التخريب الحسي إذ هو تعطيل لأعظم مسجد في الأرض وأول(48/121)
بيت وجمع للناس عن إقامة الشعائر على الوجه الصحيح فيه مع أنه بني من أجل عمارته بذلكم، واختار هذا القول ابن كثير، وأيده بما ورد من الآثار في سبب نزول الآية وبقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (1) ، وقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (2) {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} (3) . إلى غير هذا مما أيد به قوله، ومع ذلك فالآية عامة؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه أو من أجله، فهي ذم بليغ، ووعيد شديد لكل من صد أحدا عن أي مسجد من المساجد الإسلامية ومنعه أن يؤدي فيها العبادة التي شرع أداؤها فيها.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 34
(2) سورة التوبة الآية 17
(3) سورة التوبة الآية 18(48/122)
السؤال الخامس: ما هي السبع المثاني، ولم سميت بذلك؟
ج: قيل السبع المثاني هي: السبع الطوال: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس أو الأنفال والتوبة عند من جعلهما في حكم سورة واحدة، وقيل السبع المثاني: سورة الفاتحة وهي سبع آيات في أصح قولي العلماء(48/122)
من دون البسملة، وقد اختار هذا القول ابن جرير وابن كثير؛ لما رواه البخاري من قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد بن المعلى في فضل الفاتحة: «هي السبع المثاني والقرآن العظيم (1) » ، وما رواه البخاري أيضا من طريق أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم (2) » وسميت آيات الفاتحة السبع المثاني لأنها تثنى أي تكرر في ركعات الصلوات فرضا ونفلا.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4474) ، سنن النسائي الافتتاح (913) ، سنن أبو داود الصلاة (1458) ، سنن ابن ماجه الأدب (3785) ، مسند أحمد بن حنبل (4/211) ، سنن الدارمي الصلاة (1492) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4704) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3125) ، سنن النسائي الافتتاح (914) ، سنن أبو داود الصلاة (1457) ، مسند أحمد بن حنبل (2/357) ، موطأ مالك النداء للصلاة (187) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3373) .(48/123)
السؤال السادس: ما تفسير قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (2) {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (3) {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (4) {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (5) ؟
ج: هذه الآيات أول ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، نزلت عليه في غار حراء، وبها بدأ الوحي إليه عليه الصلاة والسلام، يقول الله تعالى: اقرأ يا محمد مفتتحا قراءتك بذكر اسم ربك أو مستعينا في قراءتك بذكر اسم ربك وولي نعمتك الذي خلق كل شيء، خلق ذرية آدم من علق، من دم قد كان من قبل نطفة ثم يصير بعد مضغة فعظاما إلى آخر أطوار خلق الإنسان، فعمم سبحانه في ثنائه على نفسه بأنه تفرد بخلق كل شيء ثم خص الإنسان تكريما له وتمهيدا لذكر ما امتن به عليه من نعمة الكتابة والعلم، ثم أمره مرة أخرى بالقراءة تنبيها إلى عظم شأنها وحثا على العناية بها، ثم أثنى سبحانه على نفسه بأنه رب كل شيء
__________
(1) سورة العلق الآية 1
(2) سورة العلق الآية 2
(3) سورة العلق الآية 3
(4) سورة العلق الآية 4
(5) سورة العلق الآية 5(48/123)
ومليكه، وأنه تفرد بكمال الكرم والجود، ومن ذلك ما آتاه الله محمدا من النبوة والرسالة وما خصه به من معجزة القرآن وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب صلى الله عليه وسلم، ومن كمال كرمه وفيض نعمه أنه علم الإنسان الكتابة بالقلم، وأنه علمه ما لم يكن يعلم مما لا يحصى عده ولا يقدر قدره، وما كان له ذلك لولا أن من الله عليه وأسبغ عليه عظيم نعمه، فتبارك الله أحسن الخالقين وسعت رحمته كل شيء وهو أحكم الحاكمين.(48/124)
السؤال السابع: ما تفسير الآيتين في سورة النمل: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (1) {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (2) ؟
ج: كتب سليمان عليه الصلاة والسلام إلى بلقيس وقومها كتابا وأرسله مع الهدهد وأمره أن يلقيه إليهم وينظر ماذا يفعلون، ولما وصل الهدهد بالكتاب إلى بلادهم ألقاه إلى بلقيس فقرأته فإذا فيه: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (3) {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (4) ولما عظم شأن هذا الكتاب عندها وهالها أمره جمعت أشراف قومها وقالت لهم: إني ألقي إلي كتاب فيه رفعة وشرف، وعزة وعلو منزلة ومكانة، ثم أخبرتهم من أرسله وأتبعته بما تضمنه فقالت: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (5) {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (6) يعني لا تترفعوا علي ولا تتكبروا وأتوني
__________
(1) سورة النمل الآية 30
(2) سورة النمل الآية 31
(3) سورة النمل الآية 30
(4) سورة النمل الآية 31
(5) سورة النمل الآية 30
(6) سورة النمل الآية 31(48/124)
طائعين مذعنين موحدين الله مخلصين له الدين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(48/125)
فتوى رقم 8247
س: ما تفسير قوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} (1) {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} (2) {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} (3) . وما معنى قوله: {وَالْعَادِيَاتِ} (4) أفتوني جزاكم الله خيرا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} (5) أي: والخيل المسرعات في سيرها إسراعا شديدا نشأ عنه الضبح وهو صوت نفسها الذي يتردد
__________
(1) سورة العاديات الآية 1
(2) سورة العاديات الآية 2
(3) سورة العاديات الآية 3
(4) سورة العاديات الآية 1
(5) سورة العاديات الآية 1(48/125)
في صدرها من شدة سيرها.
{فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} (1) فالمخرجات نارا بقدحهن الأحجار بحوافرهن حين شدة السير.
{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} (2) فالمغيرات على الأعداء وقت الصباح جهادا في سبيل الله ونصرة دينه.
وجملة المعنى أن الله تعالى يقسم بالخيل المسرعات في سيرها سرعة يسمع معها صوت نفسها المتردد في صدرها ويخرج من قدحها الأحجار بحوافرها نار تراها العيون وتغير على الأعداء وقت الصباح جهادا في سبيل الله، وجواب القسم قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} (3) .
ونوصيك في مثل هذا أن تقرأ بعض كتب التفسير المشهورة مثل: ابن كثير والبغوي والجلالين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة العاديات الآية 2
(2) سورة العاديات الآية 3
(3) سورة العاديات الآية 6(48/126)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الصلح مع اليهود
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه أجوبة على أسئلة تتعلق بما أفتينا به من جواز الصلح مع اليهود وغيرهم من الكفرة صلحا مؤقتا أو مطلقا على حسب ما يراه ولي الأمر- أعني ولي أمر المسلمين الذي تجري المصالحة على يديه- من المصلحة في ذلك؛ للأدلة التي أوضحناها في الفتوى المذكورة في صحيفة [المسلمون] في العدد الصادر يوم الجمعة 21 \ رجب \ 1415 هـ.
وهذا نص الأسئلة:
س: فهم بعض الناس من إجابتكم على سؤال الصلح مع اليهود - وهو السؤال الأول في المقابلة- أن الصلح أو الهدنة مع اليهود المغتصبين للأرض، والمعتدين جائز على إطلاقه، وأنه(48/127)
يجوز مودة اليهود ومحبتهم، ويجب عدم إثارة ما يؤكد البغضاء والبراءة منهم في المناهج التعليمية في البلاد الإسلامية، وفي أجهزة إعلامها، زاعمين أن السلام معهم يقتضي هذا، وأنهم ليسوا بعد معاهدات السلام أعداء يجب اعتقاد عداوتهم؛ ولأن العالم الآن يعيش حالة الوفاق الدولي والتعايش السلمي، فلا يجوز إثارة العداوة الدينية بين الشعوب. فنرجو من سماحتكم التوضيح.
ج: الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يلزم منه مودتهم ولا موالاتهم، بل ذلك يقتضي الأمن بين الطرفين وكف بعضهم عن إيذاء البعض الآخر، وغير ذلك كالبيع والشراء، وتبادل السفراء، وغير ذلك من المعاملات التي لا تقتضي مودة الكفرة ولا موالاتهم.
وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة ولم يوجب ذلك محبتهم ولا موالاتهم بل بقيت العداوة والبغضاء بينهم، حتى يسر الله فتح مكة عام الفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا. وهكذا صالح النبي صلى الله عليه وسلم يهود المدينة لما قدم المدينة مهاجرا صلحا مطلقا، ولم يوجب ذلك مودتهم ولا محبتهم؛ لكنه عليه الصلاة والسلام كان يعاملهم في الشراء منهم والتحدث إليهم، ودعوتهم إلى الله، وترغيبهم في الإسلام، ومات صلى الله عبيه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله، ولما حصل من بني النضير من اليهود الخيانة أجلاهم من المدينة عليه الصلاة والسلام، ولما نقضت قريظة العهد ومالؤا(48/128)
كفار مكة يوم الأحزاب على حرب النبي صلى الله عليه وسلم قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم فقتل مقاتلتهم وسبى ذريتهم ونساءهم بعدما حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فيهم فحكم بذلك. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن حكمه قد وافق حكم الله من فوق سبع سماوات.
وهكذا المسلمون من الصحابة ومن بعدهم، وقعت الهدنة بينهم في أوقات كثيرة وبين الكفرة من النصارى وغيرهم فلم يوجب ذلك مودة ولا محبة ولا موالاة وقد قال الله سبحانه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (1) ، وقال سبحانه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (2) ، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (3) ، وقال عز وجل: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (4) الآية، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
ومما يدل على أن الصلح مع الكفار من اليهود وغيرهم إذا
__________
(1) سورة المائدة الآية 82
(2) سورة الممتحنة الآية 4
(3) سورة المائدة الآية 51
(4) سورة المجادلة الآية 22(48/129)
دعت إليه المصلحة أو الضرورة لا يلزم منه مودة ولا محبة، ولا موالاة: أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر صالح اليهود فيها على أن يقوموا على النخيل والزروع التي للمسلمين بالنصف لهم والنصف الثاني للمسلمين. ولم يزالوا في خيبر على هذا العقد ولم يحدد مدة معينة، بل قالت صلى الله عليه وسلم: «نقركم على ذلك ما شئنا (1) » ، وفي لفظ: «نقركم ما أقركم الله (2) » فلم يزالوا بها حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه.
وروي عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه أنه لما خرص عليهم الثمرة في بعض السنين قالوا: إنك قد جرت في الخرص. فقال رضي الله عنه: والله إنه لا يحملني بغضي لكم ومحبتي للمسلمين أن أجور عليكم، فإن شئتم أخذتم بالخرص الذي خرصته عليكم، وإن شئتم أخذناه بذلك.
وهذا كله يبين أن الصلح والمهادنة لا يلزم منها محبة ولا موالاة ولا مودة لأعداء الله كما يظن ذلك بعض من قل علمه بأحكام الشريعة المطهرة.
وبذلك يتضح للسائل وغيره أن الصلح مع اليهود أو غيرهم من الكفرة لا يقتضي تغيير المناهج التعليمية ولا غيرها من المعاملات المتعلقة بالمحبة والموالاة. والله ولي التوفيق.
س: هل تعني الهدنة المطلقة مع العدو إقراره على ما
__________
(1) رواه البخاري في كتاب: '' فرض الخمس '' برقم 2919.
(2) رواه البخاري في كتاب: '' الشروط '' برقم 2528.(48/130)
اقتطعه من أرض المسلمين في فلسطين وأنها قد أصبحت حقا أبديا لليهود بموجب معاهدات تصدق عليها الأمم المتحدة التي تمثل جميع أمم الأرض. وتخول الأمم المتحدة عقوبة أي دولة تطالب مرة أخرى باسترداد هذه الأرض أو قتال اليهود فيها؟
ج: الصلح بين ولي أمر المسلمين في فلسطين وبين اليهود لا يقتضي تمليك اليهود ما تحت أيديهم تمليكا أبديا، وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكا مؤقتا حتى تنتهي الهدنة المؤقتة، أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة. وهكذا يجب قتالهم عند القدرة حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وهكذا النصارى والمجوس لقول الله سبحانه في سورة التوبة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) .
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم «أنه أخذ الجزية من المجوس (2) » وبذلك صار لهم حكم أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط إذا لم يسلموا. أما حل الطعام والنساء للمسلمين فمختص بأهل الكتاب، كما نص عليه كتاب الله سبحانه في سورة المائدة. وقد صرح الحافظ ابن كثير رحمه الله
__________
(1) سورة التوبة الآية 29
(2) رواه البخاري في كتاب: '' الجزية والموادعة '' برقم 2923، والترمذي في: '' السير '' برقم 1512، وأحمد في: '' مسند العشرة المبشرين بالجنة '' برقم 1569.(48/131)
في تفسير قوله تعالى في سورة الأنفال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (1) الآية. بمعنى ما ذكرنا في شأن الصلح.
س: هل يجوز بناء على الهدنة مع العدو اليهودي تمكينه بما يسمى بمعاهدات التطبيع، من الاستفادة من الدول الإسلامية اقتصاديا، وغير ذلك من المجالات بما يعود عليه بالمنافع العظيمة ويزيد من قوته وتفوقه، وتمكينه في البلاد الإسلامية المغتصبة، وأن على المسلمين أن يفتحوا أسواقهم لبيع بضائعه وأنه يجب عليهم تأسيس مؤسسات اقتصادية كالبنوك والشركات يشترك اليهود فيها مع المسلمين، وأنه يجب أن يشتركوا كذلك في مصادر المياه كالنيل والفرات، وإن لم يكن جاريا في أرض فلسطين؟
ج: لا يلزم من الصلح بين منظمة التحرير الفلسطينية وبين اليهود ما ذكره السائل بالنسبة إلى بقية الدول، بل كل دولة تنظر في مصلحتها فإذا رأت من المصلحة للمسلمين في بلادها الصلح مع اليهود في تبادل السفراء والبيع والشراء وغير ذلك من المعاملات التي يجيزها شرع الله المطهر فلا بأس في ذلك، وإن رأت أن المصلحة لها ولشعبها مقاطعة اليهود فعلت ما تقتضيه المصلحة الشرعية. وهكذا بقية الدول الكافرة حكمها حكم اليهود في ذلك.
والواجب على كل من تولى أمر المسلمين سواء كان ملكا
__________
(1) سورة الأنفال الآية 61(48/132)
أو أميرا أو رئيس جمهورية أن ينظر في مصالح شعبه فيسمح بما ينفعهم ويكون في مصلحتهم من الأمور التي لا يمنع منها شرع الله المطهر، ويمنع ما سوى ذلك مع أي دولة من دول الكفر، عملا بقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1) ، وقوله سبحانه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (2) الآية.
وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مصالحته لأهل مكة ولليهود في المدينة وفي خيبر. وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه " ثم قال صلى الله عليه وسلم: " ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (3) » .
وقد قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) وهذا كله عند العجز عن قتال المشركين، والعجز عن
__________
(1) سورة النساء الآية 58
(2) سورة الأنفال الآية 61
(3) رواه البخاري في كتاب: '' العتق '' برقم 2371 وفي ''الأحكام'' برقم 6605، ومسلم في كتاب: '' الإمارة '' برقم 3408 واللفظ له.
(4) سورة الأنفال الآية 27(48/133)
إلزامهم بالجزية إذا كانوا من أهل الكتاب أو المجوس. أما مع القدرة على جهادهم وإلزامهم بالدخول في الإسلام أو القتل أو دفع الجزية إن كانوا من أهلها، فلا تجوز المصالحة معهم، وترك القتالة وترك الجزية. وإنما تجوز المصالحة عند الحاجة أو الضرورة مع العجز عن قتالهم أو إلزامهم بالجزية إن كانوا من أهلها لما تقدم من قوله سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) ، وقوله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (2) إلى غير ذلك من الآيات المعلومة في ذلك، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة يوم الحديبية، ويوم الفتح ومع اليهود حين قدم المدينة يدل على ما ذكرنا.
والله المسئول أن يوفق المسلمين لكل خير وأن يصلح أحوالهم ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، وأن يعينهم على جهاد أعداء الله على الوجه الذي يرضيه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
س: سماحة الوالد المنطقة تعيش اليوم مرحلة السلام
__________
(1) سورة التوبة الآية 29
(2) سورة الأنفال الآية 39(48/134)
واتفاقياته، الأمر الذي آذى كثيرا من المسلمين مما حدا ببعضهم معارضته، والسعي لمواجهة الحكومات التي تدعمه عن طريق الاغتيالات، أو ضرب الأهداف المدنية للأعداء ومنطقهم يقوم على الآتي:
أ- أن الإسلام يرفض مبدأ المهادنة.
ب- أن الإسلام يدعو لمواجهة الأعداء بغض النظر عن حال الأمة والمسلمين من ضعف أو قوة.
نرجو بيان الحق، وكيف نتعامل مع هذا الواقع بما يكفل سلامة الدين وأهله؟
ج: تجوز الهدنة مع الأعداء مطلقة ومؤقتة إذا رأى ولي الأمر المصلحة في ذلك؛ لقول الله سبحانه: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلهما جميعا، كما صالح أهل مكة على ترك الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وصالح كثيرا من قبائل العرب صلحا مطلقا، فلما فتح الله عليه مكة نبذ إليهم عهودهم، وأجل من لا عهد له أربعة أشهر، كما في قول الله سبحانه: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (3) الآية، وبعث صلى الله عليه وسلم المنادين بذلك عام تسع من الهجرة بعد الفتح مع الصديق لما حج
__________
(1) سورة الأنفال الآية 61
(2) سورة التوبة الآية 1
(3) سورة التوبة الآية 2(48/135)
رضي الله عنه؛ ولأن الحاجة والمصلحة الإسلامية قد تدعو إلى الهدنة المطلقة، ثم قطعها عند زوال الحاجة، كما فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بسط العلامة ابن القيم - رحمه الله- القول في ذلك في كتابه: " أحكام أهل الذمة " واختار ذلك شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم. والله ولي التوفيق.
س: يرى البعض أن حال الفساد وصل في الأمة لدرجة لا يمكن تغييره إلا بالقوة، وتهييج الناس على الحكام، وإبراز معايبهم لينفروا عنهم، وللأسف فإن هؤلاء لا يتورعون عن دعوة الناس لهذا المنهج والحث عليه ماذا يقول سماحتكم؟
ج: هذا مذهب لا تقره الشريعة؛ لما فيه من مخالفة للنصوص الآمرة بالسمع والطاعة لولاة الأمور في المعروف، ولما فيه من الفساد العظيم والفوضى والإخلال بالأمن، والواجب عند ظهور المنكرات إنكارها بالأسلوب الشرعي وبيان الأدلة الشرعية من غير عنف، ولا إنكار باليد إلا لمن تخوله الدولة ذلك؛ حرصا على استتباب الأمن وعدم الفوضى. وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «من ولي عليه والي فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة (1) » .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب: '' الإمارة '' برقم 3448، رواه أحمد في: '' باقي مسند الأنصار '' برقم 22856 بلفظ: '' ومن ولي عليه أمير وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فلينكر ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة'' حديث عوف بن مالك وأوله: '' خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم. . . ''.(48/136)
وقوله صلى الله عليه وسلم: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة (1) » وقد «بايع الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، وعلى ألا ينزعوا يدا من طاعة، إلا أن يروا كفرا بواحا عندهم من الله فيه برهان (2) » ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والمشروع في مثل هذه الحال مناصحة ولاة الأمور، والتعاون معهم على البر والتقوى والدعاء لهم بالتوفيق والإعانة على الخير حتى يقل الشر ويكثر الخير.
نسأل الله أن يصلح جميع ولاة أمر المسلمين وأن يمنحهم البطانة الصالحة وأن يكثر أعوانهم في الخير وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده إنه جواد كريم.
س: في ظل التفاهم بين العرب واليهود هل يجوز زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه خصوصا في حال الموافقة من الدول
__________
(1) رواه البخاري في: '' الأحكام '' برقم 6611، ومسلم في: '' الإمارة '' برى قم 3423 واللفظ له، والنسائي 7 \ 160، وابن ماجه 2864.
(2) رواه مسلم في '' الإمارة '' برقم 3426، وأحمد في: '' باقي مسند الأنصار '' برقم 21623.(48/137)
العربية؟
ج: زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه سنة إذا تيسر ذلك؛ لقوله النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » متفق على صحته. والله الموفق.
س: يختلف الفلسطينيون في مواقفهم من عملية السلام، فحماس تعارض وتدعو للمقاومة، والسلطة الفلسطينية موافقة، وأغلب الشارع كما يبدو مع السلطة، فمن تلزم الناس طاعته، وما هو موقفنا نحن في الخارج. نرجو بيان الحق لأن هناك أخطارا بأن ينشب القتال بين الفلسطينيين أنفسهم؟
وفي ختام الحديث مع سماحتكم، وبما جعل الله لكم من محبة وقبول في قلوب الناس. أرجو أن يوجه سماحتكم كلمة لأبناء هذه الأمة يكون فيها ما يكفل سعادتهم في الدنيا والآخرة ويكفل رفعة الدين وأهله. وفقنا الله وإياكم لكل خير آمين.
ج: ننصح الفلسطينيين جميعا بأن يتفقوا على الصلح ويتعاونوا على البر والتقوى حقنا للدماء وجمعا للكلمة على
__________
(1) رواه البخاري في: '' الجمعة '' برقم 1115، و 1122، وفي: '' الحج '' برقم 1731، و '' الصوم '' برقم 1858، ومسلم في: '' الحج '' برقم 2475، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.(48/138)
الحق، إرغاما للأعداء الذين يدعون إلى الفرقة والاختلاف، وعلى الرئيس وجميع المسئولين أن يحكموا شريعة الله وأن يلزموا بها الشعب الفلسطيني لما في ذلك من السعادة والمصلحة العظيمة للجميع، ولأن ذلك هو الواجب الذي أوجبه الله على المسلمين عند القدرة، كما في قوله سبحانه في سورة المائدة: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (1) إلى أن قال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) ، وقال سبحانه في سورة النساء: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) ، وقوله سبحانه في سورة المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (4) ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (5) ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (6) .
ومن هذه الآيات وغيرها يعلم أن الواجب على جميع الدول الإسلامية هو تحكيم شريعة الله فيما بينهم، والحذر مما يخالفها. وفي ذلك سعادتهم ونصرهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 49
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سورة المائدة الآية 44
(5) سورة المائدة الآية 45
(6) سورة المائدة الآية 47(48/139)
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحهم التوفيق، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يعينهم على تحكيم شريعته في كل شئونهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وبهذه المناسبة فإني أنصح جميع المسلمين في كل مكان بأن يتفقهوا في الدين، وأن يعرفوا معنى العبادة التي خلقوا لها، كما في قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقد أمرهم الله بها سبحانه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) وقد فسرها سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه العظيم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، وحقيقتها توحيده سبحانه وتخصيصه بالعبادة من الخوف والرجاء والتوكل والصلاة والصوم، والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة، مع طاعة أوامره وترك نواهيه.
وبذلك يعلم أنها هي الإسلام والإيمان والتقوى والبر والهدى، وطاعة الله ورسوله، سمى الله ذلك كله عبادة لأنها تؤدى بالخضوع والذل لله سبحانه.
فالواجب على المكلفين جميعا أن يعبدوه وحده، وأن يتقوا غضبه وعقابه بالإخلاص له في العمل، وتخصيصه بالعبادة وحده، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، والحكم بشريعته، والتناصح
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21(48/140)
بينهم، والتواصي بالحق، والصبر عليه كما قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) ، وقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) فأوضح سبحانه في هذه السورة العظيمة أن جميع بني الإنسان في خسران {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) فهؤلاء هم الرابحون والسعداء والمنصورون في الدنيا والآخرة، ومعنى قوله سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6) يعني آمنوا بالله ربا وإلها ومعبودا بحق وآمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وبجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبكل ما أخبر الله به ورسوله من أمر الجنة والنار والحساب والجزاء وغير ذلك، ثم: عملوا الصالحات، فأدوا فرائض الله وتركوا محارم الله عن إخلاص لله وصدق، ثم: تواصوا بالحق فيما بينهم، وتناصحوا وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وصبروا على ذلك يرجون ثواب الله ويخشون عقابه، فهؤلاء هم المنصورون وهم الرابحون، وهم السعداء في الدنيا والآخرة فنسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وسائر إخواننا منهم وأن يوفق جميع المسلمين في كل مكان للاستقامة على هذه الأخلاق والصبر عليها والتواصي بها، إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة العصر الآية 3
(6) سورة العصر الآية 3(48/141)
نزول الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا
س: كيف نرد على من قال: إنكم تقولون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا بالثلث الأخير من الليل فإن ذلك يقتضي تركه العرش؛ لأن ثلث الليل الأخير ليس في وقت واحد على أهل الأرض؟
ج: هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو القائل عليه الصلاة والسلام: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له حتى ينفجر الفجر (1) » متفق على صحته، وقد بين العلماء أنه نزول يليق بالله وليس مثل نزولنا، لا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه وتعالى فهو ينزل كما يشاء ولا يلزم من ذلك خلو العرش فهو نزول يليق به جل جلاله، والثلث يختلف في أنحاء الدنيا وهذا شيء يختص به تعالى لا يشابه خلقه في شيء من صفاته كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) ، وقال جل وعلا: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (3) ، وقال عز وجل في آية
__________
(1) رواه البخاري في كتاب: ''الجمعة'' برقم 1077، و''الدعوات'' برقم 5846، و ''التوحيد'' برقم 6940، ومسلم في كتاب: ''صلاة والمسافرين'' برقم 1261.
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة طه الآية 110(48/142)
الكرسي: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} (1) . والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهو سبحانه أعلم بكيفية نزوله، فعلينا أن نثبت النزول على الوجه الذي يليق بالله، ولا يلزم أن نقول يخلو منه العرش أو لا يخلو منه العرش، فهو ينزل مع علوه ومع كونه استوى على العرش، فهو ينزل كما يليق به عز وجل ليس كنزولنا إذا نزل فلان من السطح خلا منه السطح، وإذا نزل من السيارة خلت منه السيارة فهذا قياس فاسد له، لأنه سبحانه لا يقاس بخلقه، ولا يشبه خلقه في شيء من صفاته.
كما أننا نقول استوى على العرش على الوجه الذي يليق به سبحانه ولا نعلم كيفية استوائه، فلا نشبهه بالخلق ولا نمثله وإنما نقول استوى استواء يليق بجلاله وعظمته، ولما خاض المتكلمون في هذا المقام بغير حق حصل لهم بذلك حيرة عظيمة حتى آل بهم الكلام إلى إنكار الله بالكلية حتى قالوا: لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا كذا ولا كذا حتى وصفوه بصفات معناها العدم وإنكار وجوده سبحانه بالكلية.
ولهذا ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل السنة والجماعة تبعا لهم فأقروا بما جاءت به النصوص من الكتاب والسنة، وقالوا: لا يعلم كيفية صفاته إلا هو سبحانه، ومن هذا ما قاله مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) - يعني عن
__________
(1) سورة البقرة الآية 255(48/143)
الكيفية- ومثل ذلك ما يروى عن أم سلمه رضي الله عنها، وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمهما الله: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان بذلك واجب) .
ومن التزم بهذا الأمر سلم من شبهات كثيرة، ومن اعتقادات لأهل الباطل عديدة، وحسبنا أن نثبت ما جاء في النصوص وأن لا نزيد على ذلك.
وهكذا نقول: يسمع ويتكلم ويبصر، ويغضب ويرضى على وجه يليق به سبحانه، ولا يعلم كيفية صفاته إلا هو، وهذا هو طريق السلامة وطريق النجاة وطريق العلم، وهو مذهب السلف الصالح، وهو المذهب الأسلم والأعلم والأحكم، وبذلك يسلم المؤمن من شبهات المشبهين، وضلالات المضللين، ويعتصم بالسنة والكتاب المبين، ويرد علم الكيفية إلى ربه سبحانه وتعالى. والله سبحانه ولي التوفيق.(48/144)
حافظ الحكمي. . نابغة الجنوب
1342 هـ- 1377 هـ
الدكتور: محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد:
فإن الإنسان إذا غرس شجرة، يبذل جهدا، ويتابع العمل ليرى أثر هذا الغرس ويتلذذ بحصيلة ذلك الجهد، والشيخ عبد الله القرعاوي الذي ساقه الله لمنطقة الجنوب: جازان وما حولها عام 1358 هـ، داعية ومعلما، كانت من ثمار غرسه رجال حملوا العلم بعد تعطش، وعرفوا فضله بعد أن ظهر النفع على من أخذوه، وكان الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، من أينع الثمار لغرس شيخه القرعاوي.
فقد أعجب الشيخ بالتلميذ قبل أن يراه، لما وهبه الله من ذكاء مفرط، ولما برز عليه من نبوغ مبكر في شتى العلوم الشرعية، مع قصر مدة الطلب. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ولذا كان الحديث دائما عن الشيخ عبد الله القرعاوي، يرتبط بالتلميذ حافظ الحكمي، وكان استعراض سيرة التلميذ النابغة حافظ، يمتزج بعطر الثناء على الشيخ عبد الله.(48/145)
فسيرة كل منهما- رحمهما الله- تلتزم التعريج على الآخر، لتلازمهما، ولأن التلميذ وفي فترة زمنية قصيرة، وشارك الأستاذ المهمة، وجلس معه للتدريس، فكان عضده الأيمن، ولكل منهما عرف الناس مكانته التي هو لها أهل، كما حفظ التلاميذ لهما هذه المنزلة: دعاء وثناء، وعرفانا بالدور الذي قاما به.
وكان من أبرز هؤلاء التلاميذ، الشيخ زيد بن محمد مدخلي، الذي حرص على التنويه بمكانتهما، ونشر آثار الشيخ حافظ العلمية، مع توضيح ما قد يكون خفي على الناس منها، وكذا ما اهتم به الشيخ علي بن قاسم الفيفي. . وغيرهما.
فمن هو الشيخ حافظ؟ وما هي آثاره العلمية؟ . . هذا ما سوف نحاول الإلمام به هنا، حيث أولي الشيخ حافظا وشيخه القرعاوي، هذان الشيخان وغيرهما دراسة ومتابعة وتمحيصا.(48/146)
مصادر سيرته:
من أعلا الله قدره، ومنحه علما وفهما، وأجهد نفسه في أداء حق هذا العلم، فإنه سبحانه يجعل له قبولا عند الناس، واهتماما بتتبع سيرته. وقد جرت العادة بأن أول من يهتم بالعالم طلابه الملتصقون به، وأبناؤه الذين تتلمذوا عليه، سواء جلسوا معه في حياته، أو عرفوه من مؤلفاته أو نقلا عن تلاميذه بعد وفاته.
فهؤلاء هم الذين يصلون ما انقطع من حياة العلم بعد موته، ويعترفون بمكانته ونشر علمه بعد وفاته؛ لأن للعلماء دورا(48/146)
يجب أن يقدر، وأدبا يجب أن يؤدى، وعرفانا يجب أن ينشر، حيث يروى عن بعض السلف قوله: من علمني حرفا كنت له عبدا.
وما ذلك إلا أن بصيرة العالم العامل، تفتح لمن يأخذ عنه أبوابا، وتزيل كابوس الجهل، لأن النيات إذا صدقت، والأعمال إذا خلصت، فإن الأمة تسعد في دنياها، وتفلح في أخراها، وما ذلك إلا لأن العلماء هم ورئة الأنبياء، إذ لم يورثوا غير العلم، فمن أخذه أخذه بحقه، وحق العلم التبليغ والنشر.
وإذا كان رسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر في الحديث الصحيح: «أن ابن آدم إذا مات انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (1) » ، فإن الله قد هيأ للشيخ حافظ اثنتين من هذه الثلاث، وقد تكمل الثالثة، وهي الصدقة الجارية، ببذل الجهد، من جراء توفر الخصلتين الباقيتين، إذ رزقه الله ولدا من صلبه، وولدا أخذ عنه العلم، فأدى حق الأستاذية؛ كما روي عن مالك بن دينار: (إن الله عوضني عن الولد من صلبي، بأولادي الذين أخذوا عني العلم) ، فكان من ذخيرة الشيخ حافظ العلمية، ما يرجى له به النفع الدائم.
1 - فالدكتور أحمد بن الشيخ حافظ، هو أحرص الناس على التعريف بوالده، منذ كان طالبا، إذ كتب عن حياته في " مجلة العرب " ج 3 س 7 رمضان عام 1392 هـ، مستدركا
__________
(1) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، سنن ابن ماجه المقدمة (242) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .(48/147)
على د. جواد الطاهر في مقالاته عن معجم المطبوعات السعودية، وكان تعقيبه في خمس صفحات (1) .
ثم ترجم لأبيه ترجمة وافية في كتابه- رحمه الله- " معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد "، وهذه الطبعة صدرت عام 1404 هـ، وتقع الترجمة في 18 صفحة، ختمت بتصوير صفحات من مخطوط معارج القبول، بخط يد المؤلف الشيخ حافظ.
كما كتب في مجلة اليمامة في عام 1393هـ عن سيرة والده، وعن بعض ما جرى في حياته بالأعداد 241، 242، 243.
2 - ولعل ما جاء عند عمر رضا كحالة في: " المستدرك على معجم المؤلفين " في الطبعة الأولى عام 1406هـ الموافق لعام 1985 م في باب الحاء، من ترجمة لحياة الشيخ حافظ الحكمي، مختصرة، وتعريف ببعض مؤلفاته، مأخوذة من كتابات ابنه أحمد عنه (2) 3 - ثم ما جاء لدى الشيخ زيد بن محمد مدخلي، وهو من أخص تلاميذ الشيخ حافظ، في كتابه: " الأفنان الندية شرح السبل السوية "، من تعريف بصاحب المنظومة في الجزء الأول (3) ، يعتبر عرفانا من الشيخ زيد بفضل الشيخ
__________
(1) من ص 229 إلى ص 233.
(2) انظر: المستدرك ص 183، 184.
(3) انظر: '' الأفنان الندية '' 1 \ 5- 26.(48/148)
حافظ، وإعجابا بمكانته العلمية، حيث تتبع آثاره العلمية، واهتم به شخصيا، ورصد ما عرف عن سيرة حياته.
ثم بعد ما طلب النادي الأدبي بجازان، من الشيخ زيد مدخلي محاضرة اختار الشيخ حافظ الحكمي، موضوعا لمحاضرته، فقرن السيرة الذاتية، بالمعارف العلمية، والمكانة الأدبية، مما دفعه إلى تطوير تلك المحاضرة في كتاب عن الشيخ حافظ الحكمي، صدر في عام 1413 هـ.
4 - والشيخ علي بن قاسم الفيفي عندما ألف عن الشيخ عبد الله القرعاوي ومدارسه، ربط ذلك بحديث عن الشيخ حافظ وسيرته الذاتية، وبجزء عن جهوده العلمية، وبعض أشعاره، ضمن كتابه: " السمط الحاوي ".
5 - ومثل هذا الشيخ موسى بن حاسر السهلي، الذي يعتبر من أخص تلاميذ الشيخ القرعاوي، وأقرب الملتصقين بالشيخ حافظ، لما ألف كتابه عن شيخه عبد الله القرعاوي، ودعوته في جنوب المملكة، الذي صدر عام 1413 هـ، لم ينس التلميذ النجيب حافظ الحكمي، بل خصه بأوسع ترجمة، جاءت في الكتاب، بعد الشيخ القرعاوي.
6 - وما دونه الشيخ عمر جردي في مخطوطته (1) عن شيخه القرعاوي، لم ينسه التعريج على أنبه تلاميذه وأخصهم وهو حافظ الحكمي، فخصه بجانب مهم عن سيرته الذاتية
__________
(1) طبعت في كتاب باسم '' النهضة الإصلاحية في جنوب المملكة العربية السعودية ''.(48/149)
ومكانته العلمية.
7 - هذه المصادر علاوة على ما لدى طلبة العلم من تلك الناحية، دفعت الشيخ أحمد بن علي علوش مدخلي، إلى الاهتمام بهذا العالم، الذي أصبح- عند عارفيه- ملء السمع والبصر، لا في منطقة جازان، وعند أبناء القرى والقبائل، فحسب بل شهرته ونبوغه تجاوزت إلى أطراف المملكة، وتلمست الجامعات، من يجعله موضوعا علميا، فأقدم أحمد المذكور، على جعل كتاب حافظ: "أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة المنصورة "، رسالة ماجستير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وقد نوقشت هذه الرسالة في مدينة الرياض مساء الأربعاء 10 \ 4 \ 1412 هـ (1) . وقد ترجم لحافظ في مقدمة طويلة خرجت في كتاب، عن مكتبة الرشد بالرياض باسم: حافظ الحكمي حياته ومنهجه في تقرير العقيدة ونشرها في منطقة الجنوب، خصص للسيرة الذاتية عن الشيخ حافظ ما يقرب من 57 صفحة، من هذا الكتاب، التي تبلغ صفحاته أكثر من 500 صفحة من القطع المتوسط مع الفهارس.
ولذا فإنني أعتبر كل من كتب أو حاضر عن الشيخ الحكمي، مدين لهذه المصادر، باعتبارها هي أول المصادر التي نشرت المعلومات عن الشيخ حافظ، وعرفت بمكانته وعلمه.
__________
(1) انظر '' الشيخ حافظ ''، تأليف زيد مدخلي ص 45.(48/150)
وهذا الاهتمام بالشيخ الحكمي ما جاء إلا متأخرا، بعد ما حرص ابنه الدكتور أحمد جاهدا في لفت النظر لمكانته، والتعريف بسيرته، فكان له فضل السبق، بإيقاد الجذوة، وإدمانه في قرع الأبواب، فأيقظ همما ساهمت ونشرت ما طوي في الصدور، وأخرجت ما حواه القمطر، فكان هذا حافزا في نشر ما كاد ينطوي عن سيرة هذا العالم الفذ، الذي يعتبر بحق نابغة الجنوب، بما عرف عنه من ذكاء فطري، مع قدرة على الحفظ والاستيعاب نادرة وعجيبة، إذ قلما يجود الزمن بمثل ما أفاء الله على حافظ، مع أن النوابغ في كل جيل وجهة قليل عددهم، ونادرة عملتهم، ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء.(48/151)
مولده ونشأته:
اتفقت المصادر على أن الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي ولد في يوم 24 رمضان عام 1342 هـ الموافق لعام 1924 م في قرية السلام التابعة لمدينة المضايا، الواقعة في الجنوب الشرقي من مدينة جازان، حاضرة المنطقة على الساحل، قريبة منها، حيث تقيم قبيلته التي ينتسب إليها " الحكامية " بين السلام والمضايا حوالي خمسة كيلو مترات، على طريق جازان سامطة، أما المضايا فتبعد عن جازان قرابة عشرين كيلو مترا.
والحكمي نسبة إلى الحكم بن سعد العشيرة، بطن من مذحج من كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
انتقل مع والده أحمد إلى قرية الجاضع التابعة لمدينة سامطة(48/151)
في نفس المنطقة، وهو ما يزال صغيرا لأن أكثر مصالح والده من أرض زراعية، ومواش كانت هناك، وإن بقيت أسرته الصغيرة تنتقل بين قريتي السلام والمضايا، لظروفهما المعيشية (1) وأسرة الحكمي أسرة عريقة بالمخلاف السليماني، اشتهر عدد منهم بالعلم والصلاح، ففي القرن السابع الهجري، بنى جدهم عريشا بمدينة أبي عريش للتعليم، ونسبت المدينة إليه (2) نشأ الشيخ حافظ مبارك العمر، إذ أنه لما شب عن الطوق، بدأ يتطلع إلى حياة العز في الدارين: حياة القيادة في الخير والبر والصلاح، فحقق الله له ما تطلع إليه، وعزم على نيله، وأعطاه ربه ما نواه وتمناه، فبدأ كما يقول الشيخ زيد مدخلي، في سن مبكرة بالعناية بالقرآن الكريم، تلاوة وحفظة، فأحسن تلاوته، وحفظ الكثير منه، وقد أوتي سرعة في الحفظ، وقوة في الفهم، وجودة في الخط بالقلم، وذكاء خارقا، امتاز به عن أقرانه آنذاك، تلك المحاولة الشريفة، كانت كالتمهيد والتوطئة للدخول في باب طلب العلم الشريف بصورة جادة ومنتظمة، بعد أن كان يشتغل برعي غنيمات لوالديه اللذين قد رسما له خير قدوة فيهما، من صحة العقيدة، والالتزام بالشعائر التعبدية.
استمر حافظ على تلك الحال، من رعي الغنم، وحمل المصحف، وبر الوالدين، حتى قدم من بلاد نجد إلى منطقة
__________
(1) مقدمة '' معارج القبول '' بقلم ابنه أحمد ص: ن.
(2) انظر كتاب: '' الشيخ حافظ ''، لأحمد علوش ص 38، وقد أورد أسماء مجموعة من العلماء من هذه القبيلة.(48/152)
الجنوب، الإمام " المجدد، العالم العامل، الفذ التقي السخي، عالي الهمة، حسن النية، سلفي العقيدة الشيخ عبد الله القرعاوي، الذي اختار طلب العلم، ونشره منهجا، وجعل الدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة له سبيلا، وفي عام 1359 هـ، شاء الله أن يلتقي هذا الداعية بالشيخ حافظ، فتعرف عليه، وعجب من ذكائه وحرصه، وصراحته في القول، ففرح الشيخ حافظ بما عرضه عليه الشيخ القرعاوي لرغبته العلم، إلا أن هذا العرض كان مشروطا بموافقة الوالدين، إلا أنهما لشدة حاجتهما لم يسمحا له بالذهاب إلى سامطة، كما هو طلب الشيخ القرعاوي، الذي رغب فيه، فظل يتعهده بالدروس والتوجيه حتى حل عام 1360 هـ، حيث توفيت أمه، ثم توفي أبوه، فلازم شيخه ملازمة مستمرة (1) . إلا أن شاعر الجنوب: محمد بن علي السنوسي - رحمه الله- قال عنه: ولد حافظ عام 1343 هـ في قرية من قرى بني شبيل، تدعى الجاضع بينها وبين سامطة مسافة قريبة، وكان أبواه فقيرين أميين، فشب كما يشب أبناء البادية، بين مرابض الغنم، ومعاطن الإبل، ومنابت العشب، بعيدا كل البعد عن البيئات العلمية في أبسط مظاهرها (2) ولكن الصحة في تاريخ ومكان ولادته، ما ذكره الدكتور أحمد بن الشيخ حافظ، في تراجمه العديدة لوالده، وعنه أخذ كل
__________
(1) '' الأفنان الندية '' 1 \ 5- 6.
(2) '' محمد السنوسي شاعرا ''، لمحمود شاكر ص 10.(48/153)
من كتب عن حافظ، حيث إن أصل ذلك نبذة بخط حافظ عن نفسه، عند أخيه محمد. . ومعلوم أن أصدق التراجم، وأوثقها ما كتبه الإنسان عن نفسه، لأنه أعرف من غيره، ومؤتمن، كما يقول النسابون: الناس مؤتمنون على أنسابهم.
والشيخ علوش يرى أن حافظة بقي في رعي الغنم حتى عام 1359 هـ، حيث التقى بشيخه: عبد الله القرعاوي فكان هذا اللقاء نقطة تحول في حياته، حيث ترك رعي الغنم، وتفرغ للدراسة بإذن والديه، وبعد موتهما عطف عليه الشيخ عبد الله، وآواه فأقام بالمدرسة في سامطة، وبها ختن عام 1360 هـ، وأؤلم له شيخه وليمة على ختانه، دعا لها أعيان سامطة، الطلبة المغتربين، وأعلن فيهم أن من رغب ختان ولده في المدرسة، فهو مستعد بالتكلفة.
وبذلك قضى الشيخ القرعاوي على عادة السلخ، وبعض المنكرات التي يحصل فيها اختلاط الرجال بالنساء في اللهو واللعب، وكانت نفقته من الشيخ القرعاوي.
وفي 8 محرم 1367 هـ زوجه شيخه عبد الله ابنته، وأنجب منها أحمد وعبد الله، وبعد زواجه استقر في قرية السلامة العليا، حتى شهر رجب عام 1368 هـ حيث انتقل إلى مدينة جيزان (1) ، وبقي بها إلى نهاية عام 1373 هـ، حيث عاد إلى سامطة، واستقر
__________
(1) يقول الأستاذ العقيلي في: '' المعجم '' الصحة: جازان، وإن درجت جيزان على ألسنة العامة.(48/154)
بها إلى عام 1377 هـ حيث توفي (1) وجميع من ذكر ذلك أخذه من مذكرات الشيخ القرعاوي، ورسالته القرعاوية التي نشرها بالمنهل.
وعن خصاله التي جبلت عليها نفسه، منذ حداثة سنه، يتحدث ابنه أحمد باختصار مجملا ومبرزا ما عرف عن خصاله إذ قال: ونشأ حافظ في كنف والديه، نشأة صالحة طيبة، تربى فيها على العفاف والطهارة، وحسن الخلق، وكان قبل بلوغه يقوم برعي غنم والديه، التي كانت أهم ثروة لديهم، آنذاك جريا على عادة المجتمع في ذلك الوقت، إلا أن حافظا لم يكن كغيره من فتيان مجتمعه، فقد كان آية في الذكاء، وسرعة الحفظ والفهم، فلقد ختم القرآن، وحفظ الكثير منه، وعمره لم يتجاوز الثانية عشرة بعد، وكذلك تعلم الخط، وأحسن الكتابة منذ الصغر (2) .
أما المعاصرون للشيخ حافظ فقد سمعت من بعضهم نماذج من شغفه بالعلم، فقد كان يستعير الكتب، فيحفظ ما يستطيعه، ويكتب ما يتيسر له، ثم يعيدها إلى أصحابها، وكان أخوه محمد الأكبر منه سنا، يهيئ له ذلك، ويعينه عليه، كما كان يتعلم الخط بالتقليد والمحاكاة، حتى كان خطه من أحسن أقرانه، ولئن كان يقال: من كان أستاذه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه، فإن الشيخ حافظا قد خالف هذه المقولة، فكان أغلب نبوغه: خطا وحفظا
__________
(1) انظر كتابه: '' حافظ الحكمي '' ص 42، ولكنه أخطأ في ابنه محمد، فأمه ليست بنت الشيخ القرعاوي.
(2) مقدمة '' معارج القبول ''، الطبعة الثالثة ص: س.(48/155)
واهتماما جاء من كثرة شغفه بالكتب والقراءة.
وقد ذكرتني البداية العلمية لحافظ - رحمه الله- بما شاهدته في إحدى أسفاري إلى موريتانيا، فقد كنا نسمع عن حفظ أبناء تلك الديار النادر، وقدرتهم العجيبة على النظم في أي موضوع يريدون ترسيخه في الأذهان، وعن علمهم وذكائهم الفطري، مع أنهم عرب رحل، ينتجعون الكلأ خلف مواشيهم، فكان كل مهتم يتمنى أن يقف على مدارسهم، ويستمع إلى علمائهم، ويعرف طريقتهم في التلقين، ويطلع على مكتباتهم التي أنجبت أولئك العلماء، ويقف على منهجهم في التربية والتوجيه، حيث إن من يلتقي بالعالم منهم يتعجب من سعة علمه، وقدرته على الحفظ، واتساع مداركه الأدبية، مع استيعابه العلوم العديدة، وخاصة العربية منها، وبعد إتاحة رحلة خاصة إلى قرى عديدة هناك، هي مواطن البادية، ومراتع إبلهم وأغنامهم، حيث كانت أم القرى التي تبعد عن نواكشوط العاصمة 90 كم تقريبا هي النموذج، إذ هي مورد ماء لا مدر فيه، بل تقام الخيام مع غروب الشمس، حيث لا تهنأ الزيارة، إلا بعد أن يضرب الليل بغلالته، فإذا بهم لا يحلو سمرهم، إلا على لظى الجمر، ودخان الرمث والغضا، حيث كان سمرا علميا، جادا في استذكار ما حفظوه في المرعى، وفي عرض ما نظموه في العلوم التي لقنها لهم شيخهم، حيث ينتقل أثناء النهار، بين الرعاة، حاملا كتبه وألواح الكتابة في مؤخرة رحله، فهي حياة جادة، ورغبة علمية عارمة، وقفت عليها عن كثب، لا يصرف عنها رعي، ولا يحول دونها ملاحقة الغنم،(48/156)
ولاهتمامهم بالشعر قولا وحفظا، اتجهوا لنظم العلوم التي يتلقون عن مشايخهم.
وإن من لا يعرف حالهم، يتصور أن مع كل واحد منهم كتابا، أو عدة كتب، يستذكرها ويأخذ منها، والحقيقة أن الكتاب، وغالبة هو مخطوط، ومصان في غلاف جلدي سميك، يحمله الشيخ في مزادة رحله، ولا يعود إليه، إلا عندما تشذ واردة في حفظه، أما مدرستهم التي يتلقون فيها العلم في المرعى، فهي ظل شجرة، أو فيء يسير عندما تشتد حرارة الشمس، وإلا ففي الهواء الطلق.
وللنابهين من الطلاب دور كبير في إعانة أقرانهم، كما هي الحال في سيرة الشيخ حافظ - رحمه الله- في التحصيل والتعليم، التي علمناها من استعراض سيرة حياته.
تذكرت هذه الصورة الحية، التي وقفت عليها في موريتانيا، وأنا أقرأ سيرة الشاب حافظ في جميع الكتب التي مر بنا ذكرها، فوجدت تشابها كبيرا مع بعد الدار بين موطن وموطن، فقد وهب الله حافظا: ذكاء فطريا، وحافظة هي من النوادر، مع رغبة جامحة في طلب العلم، وهو الذي لم يوجهه أب متعلم، ولم تدفعه نظرة اجتماعية، ولا مماراة أسرية، فكانت هاتان الحاستان، مما دفع حافظا إلى الجد في تلمس مداخل العلم، والحرص عليه، رغم مشقة الحصول على وسائله، لكنه اندفع بعد ما انفتح له الطريق، الموصل إلى الغاية المنشودة، كالظامئ(48/157)
الذي رأى الماء بعد يأس.
وقد علل الشيخ زيد مدخلي، في كتابه عن الشيخ حافظ، لرغبته العلمية الجامحة بمبررات، وأورد أسبابا تسعة اعتبرها من أسباب نبوغه، وسر من أسرار تفوقه (1) .
__________
(1) انظر كتابه هذا ص 41، 42.(48/158)
طلبه العلم:
لم يتضح لنا بأن للشيخ حافظ مشائخ تتلمذ عليهم، غير الشيخ عبد الله القرعاوي، ولذا حدب عليه واهتم به، لما رأى فيه من النباهة، وعلو الهمة، فكان نعم التلميذ لخير أستاذ.
وإذا كان التربويون يقولون: إن الهمة في طلب العلم غريزة تتكون في الإنسان منذ حداثته، ويوقد جذوتها الذكاء الفطري، وينمي هذه الغريزة، ما يتهيأ أمام الإنسان من أسباب مادية أو معنوية، وإلا خمدت الجذوة، فإن الذكاء كالسيف الأصيل، إن ترك في غمده تأكسد وصدئ، وإن استعمل وشحذ صار بتارا.
والأسباب التي تهيأ للإنسان تختلف من زمان إلى زمان، ومن بيئة إلى بيئة، وحافظ الحكمي نمت مع ترعرع جسمه الرغبة في طلب العلم، وقد ساعده على ذلك، ما امتن الله به عليه من ذكاء وقدرة عجيبة على الحفظ، فكان يحصل في الوقت القصير، ما يثقل كاهل أترابه في الزمن الطويل، وقد أجمل ابنه أحمد، صفات والده في طلب العلم، فقال: عندما بلغ حافظ من العمر(48/158)
سبع سنين، أدخله والده مع لشقيقه الأكبر محمد، مدرسة لتعليم القرآن الكريم، بقرية الجاضع، فقرأ على مدرسه بها جزأي عم وتبارك، ثم واصل قراءته مع أخيه، حتى أتتم قراءة القرآن، قراءة مجودة خلال أشهر معدودة، ثم أكمل حفظه حفظا تاما بعيد ذلك.
اشتغل بعدئذ بتحسين الخط، فأولاه أكبر جهوده حتى أتقنه، وكان ينسخ من مصحف مكتوب بخط ممتاز، إلى جانب اشتغاله مع أخيه بقراءة بعض الكتب في الفقه والفرائض، والحديث والتفسير، والتوحيد، مطالعة وحفظا بمنزل والده، إذ لم يكن بالقرية عالم يوثق بعلمه، فيتتلمذ على يديه (1) .
ومع رغبته العلمية، إلا أنه آثر عليها بر الوالدين، فكان ينتجع المرعى بغنيمات أهله، متجولا في الصحراء، فساق الله في عام 1358 هـ لمنطقة جازان عالما متحمسا، سمع ما كان فيها من الجهل، هو الشيخ عبد الله القرعاوي، الذي نذر نفسه مخلصا لله، بأن يقوم بالدعوة إلى دين الله الخالص، وتصحيح العقيدة الإسلامية في القلوب، وقد زار الشيخ القرعاوي قرية الجاضع، حيث حضر حافظ دروسه، ورغم أنه أصغر الحاضرين سنا، إلا أنه كان أسرعهم فهما، وأكثرهم حفظا واستيعابا، حيث أعجب به الشيخ القرعاوي، وقال في هذا: وهكذا جلست عدة أيام في الجاضع، وحافظ يأخذ الدروس، وإن فاته شيء نقله من زملائه،
__________
(1) انظر: مقدمة '' معارج القبول '' ص: س.(48/159)
فهو على اسمه حافظ، يحفظ بقلبه وخطه، والطلبة الكبار كانوا يراجعونه في كل ما يشكل عليهم في المعنى والكتابة، لأني كنت أملي عليهم إملاء، ثم أشرحه لهم (1) .
وقد صدقت فراسة الشيخ القرعاوي في نباهة تلميذه، عندما وصلته رسالة من التلميذ حافظ، ذات خط جميل، يطلب فيها من الشيخ القدوم إلى قرية الجاضع، مع بعض تلاميذه، وقد صدر الرسالة بهذين البيتين:
إن الذي رقم الكتاب بكفه ... يقري السلام على الذي يقراه
وعلى الذي يقراه ألف تحية ... مقرونة بالمسك حين تراه
ثم يطلب منه إعارته كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله- وبعد إجابة الدعوة والانتجاع إلى الجاضع، وجد الشيخ تلميذه مثلما ظن أو أكثر، فأجلسه بجانبه، وأولاه عناية خاصة.
وقد توسع أحمد علوش، في تفاصيل حكاية لقاء الشيخ القرعاوي بتلميذه حافظ، في قرية الجاضع، الذي تم في يوم الخميس 11 \ 8 \ 1359 هـ، والدروس الأولية التي أخذها التلميذ عن أستاذه، إذ كان اليوم الدراسي يبدأ بعد صلاة الفجر، إلى صلاة العشاء، بقية شهر شعبان، حيث رجع الشيخ وتلاميذه إلى سامطة.
__________
(1) انظر: مقدمة '' معارج القبول '' ص: ع.(48/160)
" أما حافظ فقد استقر منذ عام 1360 هـ في سامطة، إذ وجد في كنف الشيخ القرعاوي، وفي مكتبته بغيته، وقرأ متون العلوم المختلفة في أمهات كتبها المعتبرة (1) .
__________
(1) راجع كتابه: ''حافظ الحكمي '' من ص: 46 إلى ص: 57 لمن يريد التوسع.(48/161)
مسيرته العلمية:
لئن كان المهتمون بالتعليم في العصر الحاضر، قد وضعوا خطا منهجيا للتعليم: مادة وحجما وزمنا، فإن منهج السلف في حلقات العلم أسلم وأعم فائدة، حيث تبرز آثار الذكاء، ويتميز الأفذاذ، وهذا ما ظهرت آثاره في الشيخ حافظ، الذي قلب معايير ومقاييس التربويين التي رسموها للمدارس النظامية، بل إنه سبق إلى مفهوم ما يجب اتخاذه لغير الأسوياء في المنهج والزمن، ويقصدون بغير الأسوياء المتخلفين عقليا في سلم الهبوط، والأذكياء المتفوقين في سلم العلو، فإنه برز بروزا فائقا في خلال عشر سنوات، ونبغ في المعارف التي أخذها عن شيخه، بل زاد عليها بما ناله من علوم ومعارف، نتيجة الرغبة الملحة، وسعة الاطلاع مع نهم شديد بالقراءة، واستيعاب لما يقع عليه نظره.
فكانت الفترة القصيرة التي بدأت، عندما سمع عن الشيخ القرعاوي، بسامطة عام 1359 هـ، حيث كتب إليه رسالة مع أخيه محمد، يطلب فيها كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله-، وعمره آنذاك سبعة عشر عاما، كما طلب منه أن(48/161)
يقدم على قرية الجاضع، حيث تسكن أسرته، ولا يستطيع مفارقتها برا بوالديه، حتى يحظى بطلب العلم على يديه، وقد صدر رسالته بالبيتين اللذين تقدم ذكرهما (1) .
كان هذا بداية اللقاء العلمي، للتلميذ حافظ مع شيخه، وبداية تحقق الميول لعلمي، بالجلوس للعلم، وأخذه من مصادره، حيث التقى الحلم بالواقع، فكانت هذه الفترة الزمنية القصيرة، وما تحقق لحافظ خلالها، إذا دخلت مقاييس التربية الحديثة، تجعل حافظا في قمة الأذكياء، ومنزلة النابهين (2) .
ففي بداية التقاء الشيخ القرعاوي بتلميذه حافظ عام 1359 هـ في قرية الجاضع طلب الشيخ من والدي حافظ أن يرسلاه معه إلى سامطة ليطلب العلم، على أن يجعل لهما من يرعى غنمهما بدلا عنه، لكنهما رفضا طلب الشيخ أول الأمر، وأصرا على أن يبقى ابنهما الصغير في خدمتهما لحاجتهما الكبيرة إليه.
يقول أحمد بن حافظ: وتشاء إرادة الله أن لا تطول حياة والدته بعد ذلك، إذ توفيت في شهر رجب 1360 هـ، فيسمح له والده، ولأخيه محمد، بأن يذهبا إلى الشيخ القرعاوي في سامطة لمدة يومين أو ثلاثة في الأسبوع، ثم يعودا إليه، فكان حافظ لذلك يذهب إلى الشيخ في سامطة، فيملي عليه الدروس، ثم
__________
(1) انظر: ص 272 من هذا البحث.
(2) ارجع لمجلة: '' المنهل '' ج 5، جمادى الأولى عام 1367 هـ، ص 190.(48/162)
يعود إلى قريته، وكان ملهما يفهم ويعي كل ما يقرأ أو يسمع من معلومات.
ولم يعمر والده بعد ذلك، إذ انتقل إلى جوار ربه، وهو عائد من حج عام 1360 هـ، فتفرغ حافظ للدراسة والتحصيل، وذهب إلى شيخه ولازمه ملازمة دائمة يقرأ عليه، ويستفيد منه.
وكان حافظ في كل دراساته على شيخه، مبرزا ونابغة، فأثمر في العلم بسرعة فائقة، وأجاد قول الشعر والنثر معا، ألف مؤلفات عديدة في كثير من العلوم والفنون الإسلامية، ولقد كان كما قال شيخه: لم يكن له نظير في التحصيل والتأليف، والتعليم والإرادة في وقت قصير (1) .
أما أحمد علوش: فيعطي تفصيلا أكثر عن بداية المسيرة التعليمية، من جانب حافظ مع شيخه نقلا عن السيد محمد السنوسي، وكان مما قاله: فكان حافظ يقرأ على الشيخ في الجاضع، بعد صلاة الصبح حتى الضحى، ثم يغدو بغنمه يرعاها، فإذا توسطت الشمس كبد السماء، رجع إلى القرية، واستأنف الدراسة حتى صلاة العصر، فإذا صلى العصر ذهب بغنمه مرة أخرى يرعاها، فإذا آذنت بالمغيب روح بغنمه إلى الزريبة، ثم استأنفت الدراسة إلى صلاة العشاء. . وهكذا دواليك.
ثم قال: حدثني الشيخ القرعاوي قال: يا بني لقد كنت
__________
(1) مقدمة '' معارج القبول''، ط. 3، ص: ف.(48/163)
أعلم حافظا وإخوانه، وألقي عليهم الدرس جميعا، فكان حافظ يحفظ الدرس من مرة واحدة، أما إخوانه فكنت أكرر عليهم المرة والثانية، والثالثة، فكنت إذا أردت أن أكرر الدرس عليهم، قال: يكفيني يا شيخ مرة واحدة، ثم يأتيني من غد، وقد حفظ درس الأمس، ما يخرم حرفا، ولا يتلجلج في لفظة، حتى شعر إخوانه بالخجل منه، فعادوا يقولون لا تكرر علينا الدرس، يكفي إذا سمعه حافظ أن يعلمنا هو (1) .
ومع أن مكث الشيخ القرعاوي في قرية الجاضع كان قصيرا جدا، فهو لا يعدو عشرين يوما من شهر شعبان عام 1359 هـ، فقد قرأ حافظ القرآن، وأشبع الشيخ نهمته، حيث أحضر بعض المتون، في التجويد والحديث والفقه والفرائض، وبدأ حافظ في نقل بعض هذه المتون بخطه، فنقل تحفة الأطفال في التجويد وحفظها، ودرس على الشيخ الأربعين النووية وشرحها، وبلوغ المرام، والرحبية، وبعض مبادئ الفقه، وبعض مبادئ الحساب.
ثم في سامطة وجد حافظ بغيته، وتحقق ما يشبع جوعه العلمي، حيث سلمه الشيخ القرعاوي، خزانة كتب فيها الصحيحان، وسنن النسائي، وسنن أبي داود، وغيرها من أمهات الكتب، فأكب حافظ على قراءتها، وواظب على حضور دروس الشيخ القرعاوي، وكان إذا تأخر في خدمة أبويه أتاه الشيخ بنفسه
__________
(1) انظر كتاب: '' حافظ الحكمي ''، ص 49، 50.(48/164)
في الجاضع، وأملى عليه ما فاته من الدروس، وقد استمر الحال على هذا حتى عام 1360 هـ (1) .
وفي الرسالة القرعاوية، التي أملاها الشيخ القرعاوي على محرر مجلة المنهل، ونشرت في عام 1367 هـ يقول: ثم دخلت سنة 1365 هـ، وفي هذه السنة تفرغ الأخ حافظ لطلب العلم بإذن أبويه، وطلب مني أهل سامطة، وهو فيهم أن أترك التجول لأتفرغ للتدريس، فوافقتهم على ذلك (2) .
وهكذا أثر التلميذ في أستاذه، وصار له مساندا ومعاضدا في التدريس، فهو طالب ومدرس في آن واحد.
فقد استوعب في فترة وجيزة أمهات الكتب في الحديث والتفسير، والفقه وأصوله، والفرائض والنحو، وعلم الحديث والتوحيد، وغير هذا من المعارف التي يستوعبها بنهم شديد، وحرص أكيد، حتى قيل: إن حافظ الحكمي، كان يمر على الدرس ثلاث مرات، حيث كان يحضر شرحه للشيخ عبد الله القرعاوي، مع بقية الطلاب، ثم بعد ما يذهب الشيخ يعيده حافظ على تلاميذ الشيخ، ثم يعود للمكتبة فيقرأ ما شرح، وغير ما شرح، حتى تضلع من العلوم، واستمر على هذه الحال لا يخرج من المدرسة، ويقرأ فيها قرابة ثلاث سنوات، وكان شيخه يسكن في المدرسة، وربما تركه ونام عند القاضي إبراهيم العمودي،
__________
(1) انظر كتاب: '' حافظ الحكمي ''، ص 50، 51.
(2) المصدر: '' مجلة المنهل ''، ج 5، ص 190.(48/165)
ولكنه لا يترك تلميذه، لا في الأكل، ولا في تقرير الدروس، واستمر على هذه الحال، إلى قرابة عام 1362 هـ، حيث تزوج شيخه، فآوى إليه تلميذه، فكان يسكن عند شيخه في المدرسة (1) .
__________
(1) انظر كتاب: '' حافظ الحكمي ''، ص 54.(48/166)
آثاره العلمية: لقد كان من نباهة التلميذ حافظ، أن كان يستوعب ما يقع عليه بصره، ويحفظ ما يخطه قلمه، إلى جانب ما جبل عليه من براعة في قول الشعر: نظما وارتجالا، حيث قيل عنه بأنه لا تعوزه المطولات، وأن باستطاعته أن ينظم أكثر من أربعمائة بيت في ليلة واحدة لسهولة جريان الشعر على لسانه.
ففي عام 1362 هـ وهي السنة الثالثة من بداية دراسته على شيخه عبد الله القرعاوي، أراد الشيخ أن يختبر تلميذه، فأشار عليه بإنشاء منظومة في التوحيد، مستمدة من قراءته في كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، فنظم " سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد " حيث انتهى من التسويد في سنة 1362 هـ، وهي أرجوزة في أصول الدين بدأها بقوله:
أبدا باسم الله مستعينا ... راض به مدبرا معينا
وهي باكورة إنتاجه العلمي، خرجت في 16 صفحة بطبعتها(48/166)
الأولى بمكة المكرمة.
ثم توالت آثاره العلمية كالعقد المنفرط، لأن المعلومات تتزاحم في رأسه، والأفكار تتوارد في مخيلته، إذ لم يشغله الحرص في الأخذ عن شيخه، عن المشاركة له في التعليم والإدارة، مع الاهتمام بالتأليف في تبسيط ما أفاء الله عليه من علوم، ليكون نفعها شاملا لطلاب العلم، وقد أوضح ابنه الدكتور أحمد كتبه التي تمتاز بظاهرة السهولة حفظا وفهما، سواء كانت شعرا أو نثرا، على هيئة السؤال والجواب، فكانت كتبه المعروفة هي، بعد سلم الوصول:
2 - معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، وهو في التوحيد، إذ هو استكمال للأول، ويقع في مجلدين كبيرين، وهو كتاب جامع في موضوعه، انتهى من تسويده في عام 1366 هـ يزيد في طبعته الأولى عن ألف ومائة صفحة.
3 - أعلام السنة المنشورة، لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة، كتاب صغير الحجم يقع في 67 صفحة في طبعته الأولى، عظيم الفائدة، بسيط في عرضه جاء على هيئة السؤال والجواب، انتهى من تسويده في عام 1365 هـ طبع لأول مرة في مكة المكرمة.
4 - اللؤلؤ المكنون في أحوال الأسانيد والمتون: منظومة مطلعها:(48/167)
الحمد كل الحمد للرحمن ... ذي الفضل والنعمة والإحسان
انتهى من نظمها في سنة 1366 هـ، وطبعت لأول مرة في مكة في 18 صفحة، وهي نظم في فن المصطلح وما اشتمل عليه من قواعد، وضوابط تتعلق بالسند والمتن والجرح، ومراتب التعديل وغير ذلك.
5 - النور الفائض من شمس الوحي في علم الفرائض، وهي رسالة منثورة في علم الفرائض مختصرة، بيد أنها وافية بمسائله، وجامعة لما تفرق من مقرراته، أكثر فيها من الضوابط التي تعرف بها كيفية القسمة في المواريث، كما أكثر فيها من ضرب الأمثلة، وقد انتهى من كتابتها في 15 \ 8 \ 1365 هـ، وطبعت لأول مرة بمكة عام 1373 هـ في 46 صفحة.
6 - الجوهرة الفريدة في تحقيق العقيدة، منظومة دالية مطلعها:
الحمد لله لا يحصى له عدد ... ولا يحيط به الأقلام والمدد
وهي في إيضاح عقيدة أهل السنة والجماعة، سلفا وخلفا، والرد على الضلالات من أهل البدع، والعقائد الباطلة، خرجت طبعتها الأولى بمكة المكرمة عام 1373 هـ في 19 صفحة.(48/168)
7 - دليل أرباب الفلاح، لتحقيق فن الاصطلاح، وهو من أجود ما كتب في فن مصطلح الحديث، حيث استوعب فيه جوانب هذا العلم، بطريقة سهلة مبسطة، جاءت على طريقة السؤال والجواب، ظهرت الطبعة الأولى في مكة عام 1374 هـ في 174 صفحة.
8 - السبل السوية لفقه السنن المروية، منظومة طويلة في الفقه وأبوابه، تقع في 2359 بيتا وهي أطول مؤلفاته، مطلعها:
أبدأ باسم خالقي محمدلا ... محسبلا مكتفيا محوقلا
وقد خرجت في طبعتها الأولى في 134 صفحة، مطبوعة في مكة المكرمة، وقد انبرى فضيلة الشيخ زيد بن محمد هادي مدخلي، المدرس بمعهد سامطة العلمي، لشرحها وسماها: الأفنان الندية، شرح منظومة: السبل السوية لفقه السنن المروية، الطبعة الأولى عام 1409 هـ، والثانية عام 1413 هـ عن دار علماء السلف بالإسكندرية ج. م. ع في ستة مجلدات في 3034 صفحة مع الفهارس، أطلق على المجلد الأخير: السادس والسابع، وقد بذل الشيخ زيد جهدا كبيرا في الشرح والتحقيق والإيضاح.
9 - وسيلة الحصول إلى مهمات الأصول، وهي منظومة في أصول الفقه، فصل فيها التعريفات بأصول الأحكام التكليفية، والأحكام الوضعية، وأصول أدلة الأحكام التي هي الكتاب والسنة، مطلعها:(48/169)
الحمد للعدل الحكيم الباري ... المستعان الواحد القهار
وقد انتهى من كتابتها عام 1373 هـ، وتقع في 640 بيتا، كانت طبعتها الأولى بمكة في 35 صفحة.
10 - متن لامية المنسوخ، منظومة في الناسخ والمنسوخ، دقيقة في التعبير، واضحة في التمثيل، كانت طبعتها الأولى بمكة المكرمة في 10 صفحات مطلعها:
الحمد لله في الدارين متصل ... هو السلام فلا نقص ولا علل
11 - نيل السول من تاريخ الأمم وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: منظومة تاريخية تزيد أبياتها عن 950 بيتا مطلعها:
الحمد لله المهيمن الأحد ... باري البرايا الواحد الفرد الصمد
ثم بدأها بذكر بدء الخلق، والحكمة من خلقهم، ثم بذكر إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء، ثم عرج على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تاريخ وفاته عليه الصلاة والسلام.
12 - نصيحة الإخوان المشهورة بالتائية، وهي عن تعاطي القات والدخان والشمة، وقد عنون لها بقوله: هذا سؤال بشأن القات والدخان والشمة، وهي قصيدة مطلعها:
حمدا لمن أسبغ النعما وألهمنا ... حمدا عليها بألطاف خفيات(48/170)
وقد كان لها صدى، وردود فعل، بين أنصار القات المدافعين عنه، وردود معاكسه ممن يمقتها، وقد خرجت الطبعة الأولى بمكة عام 1374 هـ في 15 صفحة، وقد طبع معها رد عليها لواحد من أهل اليمن، ثم جواب الشيخ حافظ عليه، وفي الجواب فوائد جليلة.
13 - المنظومة الميمية في الوصايا والآداب العلمية، وهي منظومة عظيمة النفع، تحث على طلب العلم، وترغب فيه، وتدعو إلى الإخلاص فيه، والدعوة إليه، والتمسك بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، طبعت لأول مرة في مكة في 14 صفحة مطلعها:
الحمد لله رب العالمين على ... آلائه وهو أهل الحمد والنعم
14 - قصيدة في الترغيب والترهيب، والحث على تقديم الآجلة على العاجلة، والاستعداد للقاء الله، بمجاهدة النفس، شرحها وحقق نسبتها للشيخ حافظ أحد تلاميذه: الشيخ زيد بن محمد المدخلي، وخرجت في طبعتين الأولى عن نادي حطين بسامطة، والثانية نشرتها دار علماء السلف بالإسكندرية عام 1414 هـ باسم القصيدة الهائية وتقع في 40 صفحة.
ويظهر أن الشيخ زيد شرحها لأول مرة في 1 \ 4 \ 1393 هـ حسبما دون في آخر صفحة بعد شرح آخر(48/171)
بيت، وجميع أبياتها 38 بيتا.
وهذه الكتب مطبوعة، وجميعها بالقطع المتوسط، ولم يتيسر من يشرحها ويفصل معانيها غير ما اهتم به الشيخ زيد المدخلي، وهذه الرسائل قد جاءت في ثمانية موضوعات هي:
الأول: التوحيد وفيه أربع.
الثاني: المصطلح وفيه اثنتان.
الثالث: الفقه وهو كتاب واحد.
الرابع: أصول الفقه وفيه كتابان.
الخامس: الفرائض مؤلف واحد.
السادس: التاريخ والسيرة النبوية، وفيه مؤلف واحد.
السابع: النصائح والآداب العلمية والوصايا، وفيه منظومتان.
الثامن: الزهد وفيه منظومة واحدة.
كما يلاحظ المتتبع لآثار الشيخ حافظ العلمية: قدرته العلمية، وطول نفسه الشعري، حيث نظم في جميع الفنون بتوجيه من شيخه القرعاوي - كما أسلفنا- لأن هذا أسهل للحفظ، وأمكن في الرسوخ في أذهان الطلاب.
كما أن للشيخ حافظ آثارا علمية، ذكر أنها لا تزال مخطوطة وهي:
15 - ما كان يمليه على طلابه في المعهد العلمي بسامطة في(48/172)
السيرة النبوية، كانت لدى زيد بن محمد المدخلي، وذكر أنه سلمها لابن الشيخ حافظ الدكتور أحمد بعد ما طلبها منه.
16 - مفتاح دار السعادة، بتحقيق شهادتي الإسلام، وهي منثورة.
17 - شرح الورقات في أصول الفقه، لأبي المعالي الشيخ الجويني، وهي منثورة.
18 - همزية الإصلاح، في تشجيع الإسلام وأهله، منظومة تبلغ أبياتها 214 بيتا، ركز فيها على التمسك بالعروة الوثقى التي اتفقت عليها دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
19 - مجموعة خطب للجمع والمناسبات الدينية، وقد ذكر الشيخ زيد المدخلي، أنه قد جمع الكثير منها واستعان على كتابتها بأحد طلبته ثم طلبها منه الشيخ محمد الحكمي شقيق الشيخ حافظ للاطلاع عليها ومن ثم إعادتها لكن لم تعد. والأصل لدى أولاد الشيخ حافظ وقد ذكر الشيخ علي بن قاسم الفيفي أن للشيخ حافظ مخطوطات أخرى، ثم قال: وقد خطط في آخر حياته لمؤلف يجمع أحاديث الرسول، وبيان أطرافها وأحواله ا، ومن خرجها،(48/173)
لكن عاجلته المنية قبل الشروع فيه (1) .
يطلق بعض النقاد العرب على الأدب عبارة: إنه الأخذ من كل فن بطرف، وعلى هذا فإن العالم يكون أديبا، ولا يكون المفرغ للأدب عالما.
ولما كان للأدب شعبتان: الشعر والنثر، فإن حكمنا على الشيخ حافظ من هذا المنطلق يبين أنه أديب وإن لم يتفرغ للأدب، وكونه شاعرا وناثرا، جاء من موهبة فطرية، وسليقة عربية، لذا فإن ذكاءه الوقاد، وحافظته النادرة، وما حباه الله من مواهب عديدة، هذه الخصال جعلته يتجه للعلوم الشرعية، حيث وظف قدراته الأدبية في تبسيط وتوضيح العلوم الشرعية، وهذا منهج اختطه المسلمون منذ ملأت أنوار الإيمان قلوبهم، فسطعت لذلك قرائحهم الشعرية، لينطلق العامل النفسي: إيمانا ويقينا، مسيرا الغرض الأدبي: شعرا ونثرا.
فاتجه بذلك الأدب إلى منهج جديد، يتلاءم مع مبادئ دين الإسلام، وما تدعو إليه تعاليمه، وفق ما جاء في مصدري التشريع: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبذا تغيرت المفاهيم، وجدت الأغراض، التي انطلق منها الشعراء، وفق دلالة الآيات الكريمات في آخر سورة الشعراء، حيث سميت " السورة باسم ما ينبئ عنه المقصود بالمعنى في
__________
(1) انظر: '' السمط الحاوي'' ص 121. وانظر كتاب الشيخ زيد المدخلي: '' الشيخ حافظ الحكمي '' ص 49.(48/174)
الآيات: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} (1) {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (2) {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (4)
ثم لما توسعت مدارس العلم للطلبة في البلاد، حرص القادرون على قول الشعر- لإدراكهم سهولة الحفظ- على نظم بعض العلوم، لأن النظم العلي في سبكه، وأسلوبه، يختلف عما يهتم به الشاعر، في الشعر، لأي غرض من الأغراض، واتبعوا منهج السابقين في نظم بعض العلوم، كما حصل في النحو بالألفيات العديدة: لابن مالك وابن معطي، وغيرهما والأجرومية في النحو، والرحبية في الفرائض، وبعض المنظومات في الفقه كعقد الفرائد لابن عبد القوي، وغير ذلك كثير، مما دفع بنقاد الأدب إلى محاولة إخراج من يسخر الشعر لتبسيط العلوم، عن دلالة الأدب، بأن قالوا: هؤلاء نظام، والشعر غير النظم، بحجة أن خيال الشاعر، ومحسناته اللفظية، والأغراض المعهودة لا تأتي في النظم العلمي.
لكن المؤكد أن من ينظم، فإن لديه قدرة شاعرية جيدة، وموهبة لا يستهان بها.
ولذا فإن الشيخ حافظا بما أعطاه الله من ملكة شعرية يصبح ناظما وشاعرا، إلى جانب كونه ناثرا، كما في خطبه العديدة،
__________
(1) سورة الشعراء الآية 224
(2) سورة الشعراء الآية 225
(3) سورة الشعراء الآية 226
(4) سورة الشعراء الآية 227(48/175)
وكتاباته ووصاياه.
لكنه سخر أدبه: شعرا ونثرا لغرض إسلامي: في تبسيط العلوم، والترغيب في طلب العلم، والتزهيد في الدنيا، والتذكير بالآخرة، أو في المساجلة، وما إلى ذلك.
وهو في أي غرض يطرقه، يجده القارئ يشد النفس، إلى ما يعتمل في جوانحه من منهج إسلامي التزم به، حيث يسير في درب لا يحيد عنه، بدءا بحمد الله، وختاما بالصلاة على رسول الله، وتعريجا على الذكر والتسبيح، وتذكر الآخرة، وما فيها من سعادة أو شقاوة، ثم ينظر إلى موضوعه الذي قصده.
وقد قال عنه الشيخ زيد بن محمد المدخلي: وإن من جملة ما حبا الله الشيخ حافظا، موهبة قرض الشعر، فاستغلها في تقييد العلوم الشرعية، والقصائد الدعوية، التي تعالج مشكلات المجتمع، بل ومشكلات الأمم، بأسلوبه السهل الرصين، الذي يحمل في حروفه المعاني العظيمة، التي تتغذى منها الأرواح والقلوب، شعاره الصدق، والنصح والإخلاص، ودثاره السعي الحثيث في كل ما فيه نفع العباد والبلاد، وإذا كان الشعر المطبوع، ومنه المكتسب، فإن الشيخ حافظا، من أهل القسم الأول، فقد حفظت لنا وثائق التاريخ، أنه كان يقرض الشعر، قبل أن يدخل المدرسة السلفية، وقبل أن يلتقي بشيخه عبد الله القرعاوي.
ثم استشهد بالبيتين السابقين، حيث إنهما أول ما نسب عنه(48/176)
في الشعر:
إن الذي رقم الكتاب بكفه
. إلخ (1) .
أما ابنه الدكتور أحمد: فقد اعتبره- عندما تحدث عن حياة والده وأدبه- من أقدر شعراء تهامة، حيث قال: يعد الشيخ حافظ، من أجل علماء منطقة تهامة، وأقدرهم على قول الشعر، فقد كان يعشق الشعر منذ صغره، ويحفظه ويقوله سليقة دون تكلف، فلا غرابة إذا رأيناه يخرج أغلب مؤلفاته نظما.
وعن الأغراض التي طرقها يقول: ولقد كان أكثر ما يقول الشعر، في غير ما كتبه من منظومات علمية، إما نصيحة، أو مساجلة لصديق، أو وصفا أو خاطرة، إلا أنه لم يدون جل ما قال، إن لم يكن كله، وما بأيدينا منه الآن إلا النزر اليسير جدا، حفظه عنه بعض تلاميذه.
وقد ضرب نموذجا بقصيدته الميمية، التي نظمها في الوصايا والآداب العلمية، وهي طويلة اعتبرها من أهم قصائد شعره، إذ طرق فيها أغراضا هي: وصف العلم، والترغيب في العلوم، ووصيته طلبة العلم بمساعدة غيرهم في تحصيله، والإخلاص في النية (2) فالشيخ حافظ، وإن كان قد اختط لنفسه أغراضا تتمشى مع منهجه العلمي، مثلما سار ابن القيم - رحمه الله- وأضرابه من
__________
(1) انظر كتابه: '' حافظ الحكمي ''، ص 15.
(2) مقدمة '' معارج القبول ''، ج 1، ص: ص، الطبعة الثالثة.(48/177)
علماء السلف عند المسلمين، فإنه قد طرح أغراضا أخرى سائدة، لم يعرف عنه التطرق إليها، مثل: الغزل والهجاء، والمديح والرثاء، وإن كانت له قصائد أثنى فيها على الملك عبد العزيز، والملك سعود يرحمهما الله.
ولكنه بمديحه هذا، ينطلق من حماسته الدينية، حيث يرى لهما فضلا- بعد الله- في تجديد الدعوة، والحرص على نشر العلم، وتطبيق الشريعة.
وإذا كان الشعراء المجيدون، يهتمون بمطلع القصيدة، وبراعة الاستهلال، ويراعون حسن الاختتام، وفنية الانتقال من غرض لآخر، فإن الشيخ حافظا، قد وسم قصائده ومنظوماته بمطلع شبه ثابت، وهو حمد الله، والثناء عليه سبحانه، مهما كانت المناسبة إذ أن نفسه الشعري الطويل، وقدرته على النظم الفائقة، وتداعي المعاني عنده، كل هذا أعطاه قدرة في حسن التعريج على أغراضه واحدا بعد الآخر، بأسلوب سلس، وعبارة سهلة.
ومع هذا لا ينسى الالتزام بما أصبح سمة في شعره، حيث يظهر أمام المتابع لأشعاره أنه يختم كل قصيدة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن نماذج ذلك:
1 - قال. في عام 1368 هـ قصيدة في حفل عيد الأضحى، الذي أقامه الأمير مساعد السديري، تبلغ واحدا وأربعين بيتا، مطلعها:(48/178)
مني التحية والسلام عليكم ... وأخص صدر الجمع ثم أعمم
الحمد لله الذي هو أهله ... إذ كل أمر منه يخلو أجذم
وإليكم في العلم نظم صفاته ... والعلم أعلى ما يقال وينظم (1)
2 - وفي عام 1368 هـ أيضا أنشأ قصيدة بمناسبة تقسيم فلسطين، ركز فيها على وجوب الاعتصام بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإقامة الجهاد، ورفع علمه، لتكون كلمة الله هي العليا، وتبلغ مائة وتسعة وتسعين بيتا، استعرض فيها تاريخ المسلمين الذين رفع الله بهم راية الإسلام، وقضوا على الشرك والبدع في أنحاء من الأرض، حيث بدأها بقوله:
حمدا بلا حد ولا إحصاء ... لله والي الحمد والنعماء
ثم الصلاة على النبي محمد ... من جاءنا بالملة السمحاء
والآل والصحب الكرام وتابع ... لهمو بنهج السنة الغراء
__________
(1) انظر القصيدة كاملة في كتاب الشيخ حافظ لزيد مدخلي ص 54- 55.(48/179)
اعلم بأن الله جل جلاله ... قد ماز من يشقى من السعداء (1)
وهذه القصيدة تعتبر ملحمة تاريخية، سرد فيها تاريخا بدأه بالخلفاء الراشدين، ثم عصر ابن تيمية، وعصر محمد بن عبد الوهاب، ثم الغزو التركي وما تبعه من فتن.
3 - وفي عام 1364 هـ بعث الملك عبد العزيز - رحمه الله- لجنة ملكية برئاسة الشيخ: صالح بن عبد الحميد، فنزلت من أبها، على طريق درب بني شعبة، وزارت المدارس، حتى انتهى بها المطاف إلى سامطة، وقد اطلعت على بعض مؤلفات الشيخ حافظ، وأعجبت بها، وكان الشيخ القرعاوي قد أقام حفل تكريم، وكان مما ألقي في هذه الحفل قصيدة للشيخ حافظ، تبلغ ستة وتسعين بيتا، كعادة شعره المليء بالمعاني الجزلة، والعبارات ذات الدلالة: تنويها بالدعوة، وبجهد الشيخ عبد الله القرعاوي، وما يلقاه من عون ومساعدة من الملك عبد العزيز - رحمه الله- وكان مطلعها:
لك الحمد يا من بالهداية أنعما ... وللفضل أولى والمحامد ألهما
لك الحمد يا ربي كما أنت أهله ... كثيرا دواما يملأ الأرض والسما
__________
(1) انظر القصيدة كاملة في كتاب الشيخ حافظ لزيد مدخلي ص 56- 63.(48/180)
على نعم قد أسبغت كل لحظة ... فسبحانك اللهم مولى ومنعما (1)
4 - وفي عام 1368 هـ صدر أمر الملك عبد العزيز - رحمه الله- بمنع القات من المملكة: إنباتا وبيعا وشراء واستعمالا فقال الشيخ حافظ - رحمه الله- قصيدة في هذا، أنشأها وهو راكب على حماره في طريق السلامة العليا إلى جازان، أبانت رأيه في الدخان والقات والشمة، تقع في أربعة وأربعين بيتا، وهو وإن خالف فيها- على إحدى الروايتين- المطلع: بحمد الله والثناء عليه، والصلاة والسلام على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه قد اكتفى بذلك في مقدمته النثرية لهذه القصيدة، ثم انتقل إلى موضوعه قائلا:
بإقبال شهر الصوم أشرف ميقات ... أتى النبأ المرسوم بالمنع للقات
وقلع جراثيم له من أصولها ... وتهديد جلاب له بالعقوبات
بأمر الإمام المصلح احتاط غيرة ... وحجرا على أموال أهل الإضاعات
ونفذه في الحال عماله كما ... سيجزونه حسب الأوامر في الآتي
__________
(1) انظر خبر اللجنة والقصيدة في كتاب السمط الحاوي للشيخ علي بن قاسم الفيفي ص 50-55.(48/181)
فسر بذا أهل المروءة والنهى ... وأهل النفوس الزاكيات الأبيات (1)
وفي الرواية الأخرى بدأها بمطلعه المعتاد في كل قصائده عندما قال:
حمدا لمن أسبغ النعما وألهما ... حمدا عليها بألطاف خفيات
ولشغف الشيخ حافظ بالعلم، فإن المتتبع لآثاره الأدبية: شعرا ونثرا، يجده دائما يحث على العلم أخذا وأدبا، وترغيبا وتوضيحا لمكانته وآثاره، إذ نراه في ميميته يسهب في الوصايا والآداب العلمية حين يقول:
يا طالب العلم لا تبغي به بدلا ... فقد ظفرت ورب اللوح والقلم
وقدس العلم واعرف قدر حرمته ... في القول والفعل والآداب فالتزم
واجهد بعزم قوي لا انثناء له ... لو يعلم المرء قدر العلم لم ينم
والنصح فابذله للطلاب محتسبا ... في السر والجهر والأستاذ فاحترم
__________
(1) انظر خبر القات ومنعه والقصيدة كاملة في كتاب السمط الحاوي للشيخ علي بن قاسم الفيفي ص 61- 65.(48/182)
ومرحبا قل لمن يأتيك يطلبه ... وفيهم احفظ وصايا المصطفى بهم
والنية اجعل لوجه الله خالصة ... إن البناء بدون الأصل لم يقم (1)
وله مداعبات إخوانية، وردود وفوائد علمية، لا يلتزم فيها المطلع المعتاد عنده، كما أنه لا يلتزم ذلك النهج في كل ما يطرح، إذ قد يخرج عن هذه القاعدة، كما في قصيدته التي ألقاها في حفل افتتاح معهد سامطة العلمي، المقام على شرف الملك سعود - رحمه الله- يوم السبت 18 / 1 / 1374 هـ وتبلغ واحدا وسبعين بيتا، بدأ بهذا المطلع:
أهلا ففي ظلك الممدود والرحب ... ومرحبا من بني بر بخير أب (2)
وإن أدب الشيخ حافظ: شعرا ونثرا، ليحتاج إلى وقفات وتأملات متأنية، يسير فيها المحلل لهذا الأدب خطوات مع أفكار هذا الأديب، ومؤثرات نفسه، ليبرز للقارئ ما وراء السطور من أفكار عميقة، وعبارات جزلة، وتوجيهات قيمة، هي منهج العلماء المخلصين.
ولما كانت تلك النصائح من قلب صادق- كما يقال في المثل: ما صدر من القلب استقر في القلب، وما كان من اللسان
__________
(1) مقدمة سلم الوصول ص: ق.
(2) انظر: '' السمط الحاوي ''، ص 110- 113.(48/183)
لا يتجاوز الآذان- فإنها قد أعطت نتائجها في طلابه الذين عرفوا لشيخهم هذا الإخلاص: ثناء مستمرا، وذكرا حسنا، وعرفانا بالفضل لأهله.(48/184)
أعماله:
كان من إعجاب الشيخ عبد الله القرعاوي بتلميذه حافظ، أن أولاه ثقته، وأقامه مدرسا لزملائه الطلاب المستجدين من التلاميذ، حيث عهد إليه بإلقاء الدروس النافعة عليهم، فأفادتهم كثيرا، كما كان يعيد الدرس على الطلاب، بعد شيخه، كما يعمل المعيدون في بعض الجامعات، لأن الله وهبه حافظة قوية، وقدرة على استظهار ما فهم، فهو يعيد ما حفظه عن شيخه من أول مرة، ليريحه أولا، وليشرح لهم، ويبسط لهم ما خفي عليهم.
وفي عام 1363 هـ عينه شيخه القرعاوي مديرا لمدرسة سامطة السلفية، التي هي أول مدرسة، وأكبر مدرسة افتتحها الشيخ عبد الله القرعاوي، في المنطقة لطلاب العلم.
ثم أسند إليه الإشراف على مدارس القرى المجاورة.
وبعد أن اتسعت دائرة مدارس القرعاوي، في منطقتي تهامة وعسير، فإنه قد جعل في كل مدرسة واحدا من نجباء تلاميذه، ليقوم بالتدريس، ويتولى شئون إدارتها، ولذا أسند لتلميذه حافظ العمل مساعدا يتولى الإشراف على سير التعليم وأمور الإدارة أثناء تجوال الشيخ القرعاوي على مدارسه.(48/184)
كما أسند إليه شيخه القيام بواجب التعليم والإشراف في عدة قرى: منها السلامة العليا، ومدينة بيش أم الخشب، وغيرهما من قرى ومدن المنطقة.
ثم عاد إلى سامطة مرة أخرى، يدير مدارسها، ويساعد شيخه في تحمل المسئولية خاصة وأن مدارس الشيخ القرعاوي قد أصبح لها كيان خاص، وتقدير من الدولة.
وفي عام 1373 هـ افتتحت وزارة المعارف مدرسة ثانوية بجازان عاصمة المنطقة فعين الشيخ حافظ أول مدير لها، حيث رشحه شيخه للمسئولين، وأسندت إليه إدارة التعليم لكنه رفضها.
ثم في عام 1374 هـ بعد أن افتتح في مدينة سامطة معهد علمي، عين الشيخ حافظ مديرا له، وكان مع ذلك يقوم بالتدريس فيه، ويملي على تلاميذه المذكرات الدراسية، للفنون التي لم يقرر لها كتب.
وقد توفي، وهو على رأس العمل مديرا للمعهد العلمي بسامطة. (1)
__________
(1) انظر: مقدمة ''سلم الوصول ''، ص: ر- ش.(48/185)
صفاته:
إن أولى الناس بالتحدث عن صفات الإنسان، هم المعاصرون به، ومن المعاصرين تأتي خصوصية المرتبطين بالإنسان: قرابة نسب، وقرابة سكن، ثم تلاميذه، الآخذون عنه،(48/185)
لأن الأقرب رابطة، أقدر على معرفة سمات ذلك الإنسان من غيره، وكذا التعرف على طباع نفسه، وما جبلت عليه.
والشيخ حافظ نستطيع أن نأخذ صفاته مما رصده ابنه أحمد، نقلا عن عمه محمد، لأن محمدا هذا هو الأكبر من أخيه حافظ، وهو من الملازمين له، فقال: (ويكفي أن أورد هنا ما قاله عنه شقيقه الأكبر عمي- حفظه الله- في رسالة كتبها إلي إجابة لطلبي:
كان رحمه الله على جانب كبير من الورع والكرم، والعفة والتقوى، قوي الإيمان، شديد التمسك، صداعا بالحق، يأمر بالمعروف ويأتيه، وينهى عن المنكر ويبتعد عنه، لا تأخذه في الله لومة لائم.
وكانت مجالسه دائما عامرة بالدرس والمذاكرة، وتحصيل العلم، تغص بطلابه في البيت والمسجد والمدرسة، لا يمل المرء حديثه، ولا يسأم جليسه.
وكان جل وقته ملازما لتلاوة القرآن الكريم، ومطالعة الكتب العلمية، بالإضافة إلى التدريس، والتأليف والمذاكرة، وكان خفيف النفس، يحب الرياضة والدعابة، والمزاح مع زملائه وطلابه وزواره، مما يجذب قلوب الناس إليه، ويحبب إليهم مجالسته، والاستفادة منه) (1) .
__________
(1) انظر: مقدمة '' معارج'' القبول ''، ط 3، ص: ث.(48/186)
فهذه صفات خلقية تربت عنده بالأساس العلمي، والدربة على الاهتمام بما تدعو إليه تعاليم الإسلام، لأنه حريص على أن يعمل بما علم.
وإلى جانب ذلك، فإن فيه صفات خلقية، سماها الشيخ علي بن قاسم الفيفي ملامح وسمات، وهي كونه: ربعة أسمر اللون، مستدير الوجه، مفلج الأسنان، خفيف اللحية والعارضين، أقرن الحاجبين، يلبس الخشن من الثياب، يتمتع بخلق العربي الرفيع، من الكرم والشهامة، والحلم والتواضع، ولطف المعاشرة، يحب الدعابة والطرائف، وتعجبه النكتة المهذبة، مع نباهة وجد وقوة ملاحظة، وبعد نظر، ويمارس بعض الألعاب الرياضية الشعبية أحيانا مع زملائه وطلابه، ويتفوق عليهم في المسابقة على الأقدام، والمراصعة- وهي نوع من المصارعة- والمحاداة- نوع من القفز- وفي لعبة السيف.
وكان حاد الذهن، قوي الذاكرة، سريع القراءة والفهم والحفظ، حاضر البديهة، ثاقب الرأي، صادق الفراسة، حيييا ورعا، عابدا زاهدا، حازما في تصرفاته، صارما في اتخاذ القرار ذا صوت حسن بالقراءة، إلا أنها كانت تنتابه حساسية في الشعب الهوائية تسبب له عطاسا وبحة وخشونة في نبراته الصوتية (1) .
وعنه أخذ الشيخ زيد مدخلي، إلا أنه أضاف عن زواجه بابنة شيخه عبد الله القرعاوي عام 1367 هـ وذكر أولاده من
__________
(1) انظر: '' السمط الحاوي ''، ص 98.(48/187)
زوجاته الثلاث (1) .
وعن زهده وكرمه قيل: إنه كان يوزع ما يتوفر من مرتبه على الفقراء من الطلاب، ويفتح بابه للطلاب تعليما وضيافة، وقد ذكر أحمد علوش في شريط: أن الملك سعود - رحمه الله- لما تفقد منطقة جازان في جولاته بعد ما تولى الملك، مدحه الشيخ حافظ، بقصيدة جيدة، فأمر له بصلة، فأخفى الشيخ حافظ الورقة بأحد الكتب، ولم توجد إلا بعد وفاته.
__________
(1) انظر كتابه: '' الشيخ حافظ الحكمي''، ص 39، 40.(48/188)
وفاته:
كان آخر عمل قام به الشيخ حافظ إدارة معهد سامطة، وفي عام 1377 هـ حج، وبعد انتهائه من أداء مناسك الحج، أصيب بضربة شمس حادة، انتقل على أثرها في يوم السبت 18 \ 12 \ 1377 هـ إلى الدار الآخرة، عن عمر يناهز الخامسة والثلاثين، وقد صلي عليه في المسجد الحرام، ودفن في مقبرة العدل، وكان لوفاته أثر عميق في نفس شيخه القرعاوي، وفي نفس كل من يعرف هذا الرجل سواء في الجنوب، أو في غيره (1) .
وقد ظهر أثر ذلك جليا في طلاب معهد سامطة، حيث فقدوا أبا حانيا، وأستاذا قديرا، متواضعا، وقد أخذ الشيخ القرعاوي منهم مجموعة إلى الرياض ومكة، لتعزية المشايخ والعلماء في شيخهم، كما رثاه كثير من الشعراء العارفين لقدره،
__________
(1) انظر: '' السمط الحاوي ''، ص 122.(48/188)
ومنهم الدكتور زاهر عواض الألمعي بقصيدة مطلعها:
لقد دوى على المخلاف صوت ... نعى النحرير عالمها الهماما
تفجعت الجنوب وساكنوها ... على بدر بها يمحو الظلاما
وذاعت في الدنا صيحات خطب ... فهزت من فجائعها الأناما
فكفكفت الدموع على فقيد ... على الإسلام شمر واستقاما
وأحيا في الربوع بيوت علم ... وواسى مقعدا ورعى يتاما (1)
كما رثاه أحد تلاميذه وهو الأستاذ إبراهيم بن حسن الشعبي بقصيدة تبلغ أحد عشر بيتا ختمها بقوله:
سلاح للمشاكل كنت قرما ... ومصباح البحوث بكل واد
وفي كل العلوم مددت باعا ... وهمتك العلية في ازدياد
بكتك منابر , وبكتك كتب ... وطرف الخل أمسى في سهاد
__________
(1) انظر: '' السمط الحاوي ''، ص 123، وهي تبلغ 14 بيتا.(48/189)
بكاك العلم والعلماء طرا ... وأرباب الحجى أهل الرشاد (1)
وقد ذكر ابنه أحمد بأنه قد خلف وراءه مكتبة علمية كبيرة، بعد رحيله عامرة بكل علم وفن، أوصى بأن تكون وقفا على طلاب العلم، ورواد المعرفة، فضمت إلى مكتبة معهد سامطة العلمي، لينتفع بها المدرسون والطلاب، ولتبقى تحت إشراف إدارة المعهد، وقد خلف أربعة أبناء (2) وثلاث بنات، وما مات من خلف علما وذكرا حسنا، وأبناء بررة، وتلاميذ أوفياء.
__________
(1) انظر: '' السمط الحاوي ''، ص 124.
(2) انظر: مقدمة '' معارج القبول ''، ص: ث.(48/190)
خاتمة:
لا أقول إنني وفيت الشيخ حافظ الحكمي - رحمه الله- حقه، ولا أحكم على كل من كتب عنه بأنه أعطاه ما يستحق من التعريف والتحليل، ولا لتراثه العلمي والأدبي، وآثاره الباقية بعده من التمحيص والدراسة ما يجب أن توفى.
فحافظ بما تراءى لي من شخصيته وعلمه، علم لا كالأعلام، ونبع ثر للدراسة والمتابعة، فهو في شعره يحتاج إلى وقفات، وفي أدبه لا بد من استجلاء مكانته، أما علمه الشرعي بأنواعه المختلفة، فهو وعاء ملئ علما، وظرف ملئ ظرفا، كما قال الجاحظ في كتابه، يقرأ فيستوعب، ويسمع فيحفظ، ويتحمس(48/190)
فيبرز ما وعى في قوالب تعين الدارس، وتفتح الأبواب المغلقة أمام من صعبت عليه الأمور.
فهو شخصية فذة، تستوجب الوقفات المتأنية، والدراسات التي تبرز ما خفي في شخصيته ومكانته، وتوضح منزلته العلمية التي حرص زيد مدخلي على إعطائها ما تستحقه في جانب من جوانبها الشرعية، في كتابه: " الأفنان الندية ".
وإنني لأرجو من تلاميذه الذين ما زالوا- أو أغلبهم- على قيد الحياة، أن يضيفوا جديدا في سيرة شيخهم، حيث عايشوه عن كثب، وأخذوا عنه عن قرب، واختلطوا به في مواقف متعددة.
ولئن اهتم كل من تحدث عنه بإبراز ما تراءى له، فإن كثرة الاهتمام والمتابعة تبرز جوانب أخرى، يضيفها كل شخص، بما يعن له، فما خفي على هذا يظهر عند ذاك، وما نقص عند زيد استوفاه عبيد، ويبقى للأول فضل السبق، وللتالي فضل الإجادة والإضافة، كما قال الجاحظ.(48/191)
كتاب فضائل القرآن
للشيخ محمد بن عبد الوهاب
تحقيق د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي (1)
المقدمة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن مصنفات شيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، لا تزال بحاجة إلى الدراسة والتحقيق والعناية، وقد قمت من قبل بتحقيق تفسيره -رحمه الله تعالى- لسورة الفاتحة، ثم لسورة الفلق، ثم لسورة الناس، ثم رأيت أن أقوم بتحقيق كتابه: " فضائل القرآن الكريم ".
ومع أن كتب فضائل القرآن الكريم المؤلفة والمطبوعة كثيرة، إلا أن كتاب الشيخ -رحمه الله تعالى- تميز بمنهجه المعروف وطريقته في الكتابة، وذلك بتصدير أغلب مباحثه بالآيات ثم الأحاديث المناسبة، واختيار العناوين الملائمة والموضوعات
__________
(1) سبقت ترجمة لفضيلته في العدد: 27، ص 257 من المجلة.(48/193)
المتميزة، وتصدير المباحث بالآيات والأحاديث الصحيحة والاقتصار على ذلك لا شك أنه المنهج السليم، والحجة الصادقة، ومع هذا فإن الشيخ -رحمه الله تعالى- لم يسلم من الطاعنين الحاقدين من غير حجة ولا برهان صحيح، مما يوجب العناية بنشر كتبه وتقديمها للناس؛ ليعرفوا حقيقة دعوته -رحمه الله تعالى- وأنها قائمة على الكتاب والسنة. ومع أن كتابه هذا قد طبع أكثر من مرة، إلا أنه لا يزال بحاجة إلى التحقيق العلمي والتعليقات المفيدة، حتى يناسب العامة والخاصة، وأحسب أن هذا من مقاصد الشيخ -رحمه الله تعالى- في سائر كتبه.(48/194)
التعريف بالمؤلف:
ومع أن هذا المقام لا يفي بالتعريف بالمؤلف، إلا أني التزمت في تحقيق كل كتاب من كتبه أن أقدم ترجمة موجزة، فقد يقع هذا الكتاب في يد من لا يعرف عن المؤلف شيئا. فأقول:
هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب ولد سنة 1115 هـ، في بيت علم وخلق وشرف فقد كان أبوه قاضيا للعيينة.
حفظ القرآن قبل أن يكمل اثنتي عشرة سنة من عمر 5، وقرأ الفقه والتفسير والحديث، ورحل في طلب العلم فبدأ رحلته بالحج، ثم ذهب إلى المدينة النبوية وأخذ عن علمائها حينذاك، وفي المدينة رأى ما يقع فيه بعض أهلها من البدع والمنكرات عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وفي البقيع، وقد أنكر ذلك وحذر منه.(48/194)
ثم عاد إلى نجد، وسافر منها إلى البصرة وأخذ من علمائها كذلك، ورأى في البصرة ما هو أشد مما رأى في المدينة النبوية، رأى القبور المسرجة والطائفين يتمسحون بالقبور والبدع والمنكرات، ولم يطق- رحمه الله- صبرا على ذلك، فأنكر عليهم الباطل وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فأخرجه أهلها وطردوه من البصرة في حمارة القيظ حافي القدمين عاري الرأس ليس عليه سوى ثوبه وقميصه، وكاد الشيخ أن يهلك عطشا لولا أن الله هيأ له من حمله إلى الزبير وسقاه، وعاد منها إلى حريملاء، ثم خرج إلى العيينة واستقبله أميرها ابن معمر وأحسن وفادته، وهدم ما كان في العيينة وما حولها من قباب ومشاهد على القبور، وقطع الأشجار التي يتبرك بها بعض الناس.
ثم خرج الشيخ من العيينة، وتوجه إلى الدرعية، ووجد من أميرها محمد بن سعود العون والمساعدة، فتبايعا على نصرة دين الله وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإماتة البدعة.
وانطلقت الدعوة بعد أن اتخذت الدرعية قاعدة لها، فكاتب الشيخ رؤساء البلدان وأهلها وعلماءها يدعوهم إلى الانضمام إلى دعوته فاستجاب كثير منهم. فأقيمت الفرائض والنوافل ومحقت البدع والمحرمات، وأزيلت المنكرات والشركيات، وارتفعت كلمة التوحيد صافية نقية بعد أن شابها في تلك الفترة عبادة غير الله ودعوته.(48/195)
وتفرغ الشيخ للعبادة والتعليم، وتوافد عليه العديد من طالبي العلم الصحيح، وألف عددا كبيرا من المؤلفات منها:
1 - كتاب التوحيد.
2 - آداب المشي إلى الصلاة.
3 - استنباط القرآن.
4 - كشف الشبهات.
5 - مفيد المستفيد بكفر تارك التوحيد.
6 - الرد على الرافضة.
وتوفي الشيخ رحمه الله تعالى سنة 1206 هـ رحمه الله رحمة واسعة، وأجزل له الأجر والمثوبة وجزاه الله خير ما يجزي به عباده الداعين إلى سبيله، إنه سميع مجيب.(48/196)
التعريف بالكتاب:
أما الكتاب فهو كتاب " فضائل القرآن الكريم " طبع مرتين:
الأولى: ضمن مجموع الدرر السنية في ج 10 من ص 3 إلى ص 10 بعنوان: " باب فضائل تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه "، وهي طبعة غير محققة، ويبدو لي أنها طبعت من النسخة المخطوطة التي اعتمدت عليها هنا؛ نظرا للتطابق الكبير بينهما في كثير من الأخطاء والخلافات، وقد أشرت إلى المواضع اليسيرة التي وقع فيها الاختلاف بين هذه الطبعة والمخطوطة، والتي يرجح أنها من تصرف المشرف على الطباعة.(48/196)
والطبعة الثانية: ضمن مجموع مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- الذي أصدرته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بمناسبة أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- القسم الرابع من ص 3 إلى ص 40، وقصد من طبع هذا المجموع تقديم مؤلفات الشيخ كاملة مجموعة للمشاركين في الأسبوع من الهيئات والباحثين، ولم يهدف إلى تحقيق هذه الكتب كما أنه لم يتضمن كل مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-.
ومع أن كتاب: (فضائل القرآن) المطبوع ضمن هذا المجموع قد حظي بنصيب من التحقيق تميز- فيما أحسب- عن أغلب الكتب الأخرى التي يحويها المجموع، إلا أنه يحتاج إلى بعض التعليقات العلمية، والتخريجات الدقيقة لأحاديثه، وبيان درجة ما لم يرد في الصحيحين، وإعادة مقابلة المطبوع مع المخطوط لوجود بعض الاختلافات في العبارة والأخطاء في بعض الإحالات وأخطاء علمية، وأدرك جيدا أنه كان بإمكان المحققين له تلافي ذلك كله لولا أنه كان أكثر من المطلوب وأوسع من المقصود من إخراج هذا المجموع.
لذا رأيت أن أسهم بجهدي المقل بإخراج هذا الكتاب وتحقيقه والتعليق عليه وطبعه مستقلا عن المجموع حتى ينال حقه من الانتشار ويسهل اقتناؤه ويعم الانتفاع به.(48/197)
وقد اتخذت المخطوطة رقم 460 / 86 من المكتبة السعودية أصلا وهي في 16 صفحة مقاس 17 × 22 سم في كل صفحة 21 سطرا.(48/198)
إثبات نسبة الكتاب:
ومما يثبت صحة نسبة الكتاب إلى مؤلفه الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- أمور كثيرة منها:
أولا: أن أسلوب الكتاب مطابق لأسلوب المؤلف- رحمه الله تعالى- في كتابه: " التوحيد الذي هو حق الله على العبيد " بذكر عنوان الباب، والعطف عليه بالآية، ثم ذكر الأحاديث.
ثانيا: أن الكتاب مطبوع ضمن مجموع " الدرر السنية في الأجوبة النجدية " وهي:
1 - من مطبوعات دار الإفتاء بالمملكة.
2 - أن المجموع قرظه عدد من أعلام علماء نجد وهم:
أ- الشيخ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله تعالى.
ب- سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى.
ج- الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري رحمه الله تعالى.
بل نص سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله تعالى- على أن الشيخ عبد الرحمن القاسم - رحمه الله تعالى- جامع(48/198)
الدرر السنية: (لم يترك- وفقه الله تعالى- شيئا مما ظفر به، إلا أشياء غير محررة، أو أشياء غير مقطوع بها عمن نسبت إليه. .) .
(قلت) وهذا يدل على أن جامع الدرر- رحمه الله تعالى- لم يذكر فيها إلا ما هو مقطوع بنسبته إلى صاحبه ومنها كتاب (فضائل القرآن الكريم ".
علما بأن الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى قد سمع المجموع من جامعه مرتين وبعضه أكثر من ذلك- كما قال في تقريظه-.
ثالثا: أن قول الناسخ في آخر المخطوطة (بقلم الفقير إلى ربه. . إلخ) لا يعني التأليف بل يعني النسخ، حيث ذكر هذه العبارة في آخر نسخة: " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " لابن تيمية - رحمه الله تعالى- وقد أشرت آخر المخطوطة إلى أن عبد الله بن المبارك - ناسخ هذه المخطوطة- هو ناسخ كتاب ابن تيمية - رحمه الله تعالى- وليس في ذلك أي لبس أو خلط بين المؤلف والناسخ.
فضلا عن نص الناسخ نفسه- الصريح- في أول المخطوطة بأن كتاب " فضائل القرآن " تأليف الشيخ الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-.
ولعل فيما ذكرت ما يقطع الشك في صحة نسبة هذا الكتاب إلى مؤلفه والله أعلم.(48/199)
منهجي في التحقيق:
التزمت في تحقيق هذه المخطوطة:
1 - تصحيح الأخطاء في الآيات من غير إشارة إلى الأصل المخطوط إذ أن ذكر ما ورد في المخطوطة لا يترتب عليه أي فائدة علمية أو استنباط معنى قد يفوت على المحقق.
2 - جرى المؤلف- غالبا- على الاقتصار على ذكر جزء من الآية أو الشاهد منها وقد رأيت ذكر نص الآية كاملا في الهامش لزيادة التوضيح.
3 - إذا أشار المؤلف إلى راوي الحديث كالبخاري مثلا التزمت النص الوارد في صحيح البخاري وجعلته أصلا إذا كان الاختلاف يسيرا وأشرت إلى مواضع الاختلاف، أما إذا كان الاختلاف غير يسير فإني أذكر نص المؤلف في المتن ونص الراوي في الهامش كاملا ليظهر الاختلاف وليقارن القارئ بين النصين.
4 - بينت درجة كل حديث لم يرد في الصحيحين أو في أحدهما.
5 - خرجت الآثار الواردة عن الصحابة أو التابعين.
6 - شرحت بعض كلمات الأحاديث التي تحتاج إلى بيان وعلقت على بعضها بما أرى مناسبته وفائدته.
7 - صححت الأخطاء الإملائية، من غير إشارة إلى ذلك.(48/200)
8 - رأيت الترجمة لبعض الأعلام حتى أعلام الصحابة الذين لم تستفض ترجمتهم بغض النظر عن شهرة أسمائهم.
9 - أضفت بعض المباحث العلمية التي أرى مناسبتها بإيجاز شديد.
وأدعو الله أن يكون عملي هذا وسائر أعمالي خالصا لوجهه إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(48/201)
متن الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب فضائل القرآن
تأليف سماحة الإمام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه وكرمه آمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وعليه نتوكل (1) .
باب فضائل تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه
وقول الله عز وجل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (2) وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (3)
__________
(1) لعل العبارة السابقة من كاتب هذه النسخة.
(2) سورة المجادلة الآية 11
(3) سورة آل عمران الآية 79(48/204)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران (1) » أخرجاه.
وللبخاري عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (2) »
ولمسلم عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين (3) البقرة وسورة آل عمران فإنهما
__________
(1) صحيح البخاري ج 6 ص 80. ولفظه: '' مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام ومثل الذي يقرؤه وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران'' ورواه مسلم ج 1 ص 549، 550 واللفظ له.
(2) صحيح البخاري ج 6 ص 108 وفي رواية أخرى عن عثمان رضي الله عنه: '' إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه''.
(3) رواه مسلم ج 1 ص 553، وفيه زيادة: '' قال معاوية: بلغني أن البطلة السحرة'' ومعاوية هو ابن سلام أحد رجال سند الحديث.(48/205)
تأتيان (1) يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما (2) اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة» وله عن النواس بن سمعان قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا
__________
(1) في المخطوطة (يأتيان) بالتذكير.
(2) في المخطوطة: (يحاجان لصاحبهما) وصوابه ما أثبته.(48/206)
يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران " وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: " كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق أو كأنهما حزقان (4) عن صاحبهما» وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول الم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
__________
(1) رواه مسلم ج 1 ص 554. (قلت) ما أعظم هذا الحديث!! وما أعظم فضل هاتين السورتين وها نحن في هذه الدنيا يحرص بعضنا على توكيل محام- وهو بشر مثله- لاستخراج حقه فكيف يكون أنس من يحاج له سورتان هما من كلام الله تعالى. وهل يظن أحد أن مهمتهما ستنال غير النجاح والقبول!!.
(2) في المخطوطة: (يقدمه) بالتذكير. (1)
(3) قال ابن الأثير: (الشرق) هاهنا: الضوء، وهو الشمس، و (الشق) أيضا. [النهاية ج 2 ص 464] . (2)
(4) (3) من طير صواف تحاجان في المخطوطة (يحاجان) .(48/207)
وله وصححه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها (1) » ولأحمد نحوه من حديث أبي سعيد وفيه: «فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه (3) » ولأحمد - أيضا- عن بريدة مرفوعا: (تعلموا سورة
__________
(1) مسند الإمام أحمد ج 2 ص 192 والترمذي ج 5 ص 177 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأبو داود ج 2 ص 73 حديث 1464. وقال الألباني: (وإسناده حسن) [المشكاة] ج 1 ص 658 ورواه الحاكم في مستدركه ج 1 ص 553 وصححه الذهبي.
(2) مسند الإمام أحمد ج 3 ص 40 وابن ماجه ج 2 ص 415- 416، ونصه: '' يقال لصاحب القرآن يوم القيامة إذا دخل الجنة اقرأ واصعد.. '' الحديث، قلت وفي إسناده عطية العوفي وهو ضعيف قال في التقريب ج 2 ص 24: (صدوق يخطئ كثيرا كان شيعيا مدلسا) .
(3) (2)(48/208)
البقرة " فذكر مثل ما تقدم في الصحيح في البقرة وآل عمران وفيه: «وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك فيقول: هل تعرفني فيقول: ما أعرفك فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده ج 5 ص 348، وروى الحاكم بعضه ج 1 ص 560 وإسناده عندهما عن أبي نعيم (الفضل بن دكين) ثنا بشير بن المهاجر حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال في التقريب: (الفضل بن دكين: ثقة ثبت وهو من كبار شيوخ البخاري) ج 2 ص110، وقال: بشير بن المهاجر: (صدوق لين الحديث) ج 1 ص 103، وعبد الله بن بريدة: (ثقة) ج 1 ص 404، وعلى هذا قال الحاكم: (هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه) وسكت عنه الذهبي وقال ابن كثير في تفسيره: (وهذا إسناد حسن على شرط مسلم فإن بشرا هذا خرج له مسلم، ووثقه ابن معين، وقال النسائي: ما به بأس إلا أن الإمام أحمد قال فيه: هو منكر الحديث قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تأتي بالعجب، وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه، وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن عدي: روى ما لا يتابع عليه، وقال الدارقطني: ليس بالقوي (قلت) ولكن لبعضه شواهد) ا. هـ تفسير ابن كثير ج 1 ص 36.
(2) قال ابن الأثير: الشاحب: المتغير اللون والجسم لعارض من سفر أو مرض ونحوهما. [النهاية ج 2 ص 448] . (1)
(3) في المخطوطة (فيقول له) . (2)
(4) ما بين القوسين سقط من المخطوطة. (3)
(5) (في) سقطت من المخطوطة. (4)
(6) الهواجر: جمع هاجرة والهاجرة: نصف النهار عند اشتداد الحر. [تفسير غريب الحديث: ابن حجر ص 249] . (5)
(7) في المخطوطة: (وأسهرتك) . (6)
(8) في المخطوطة: (ونام) والصواب: (وإن) . (7)(48/209)
تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا فيقولان: بم كسينا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درجة الجنة وغرفها فهو في صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلا (8) »
__________
(1) في المخطوطة: (وإن لك) والصواب: (وإنك) . (8)
(2) في المخطوطة: (حلتان) . (1)
(3) في المخطوطة: (لا تقوم) . (2)
(4) (أهل) سقطت من المخطوطة. (3)
(5) في المخطوطة: (بم كسينا هذا) . (4)
(6) في المخطوطة: (ثم يقال) . (5)
(7) في المخطوطة: (درج) . (6)
(8) (7)(48/210)
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أهل القرآن هم أهل الله وخاصته (1) » رواه أحمد والنسائي
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده ج 3 ص 127 وأوله: '' إن لله أهلين من الناس فقيل من أهل الله منهم؟ قال: أهل القرآن.. '' الحديث. قال الألباني عن هذا اللفظ: (صحيح ثابت) [سلسلة الأحاديث الضعيفة ج4 ص 85 حديث 1582] .(48/211)
باب
ما جاء في تقديم أهل القرآن وإكرامهم
وكان القراء أصحاب مجلس عمر كهولا كانوا أو شبابا.
عن أبي مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا وفي رواية " سلما " ولا يؤمن الرجل(48/211)
الرجل في سلطانه (1) ، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه»
رواه مسلم وللبخاري «عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد (في ثوب واحد) ثم يقول: " أيهم أكثر أخذا للقرآن "؟ فإذا أشير (له) إلى أحدهما قدمه في اللحد (5) » وعن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة وإكرام ذي السلطان المقسط (8) » حديث
__________
(1) في المخطوطة (ولا يؤمن الرجل في سلطانه) .
(2) صحيح البخاري ج 2 ص 94.
(3) ما بين القوسين سقط من المخطوطة. (2)
(4) في المخطوطة (أيهما) . (3)
(5) (له) سقطت من المخطوطة. (4)
(6) رواه أبو داود ج 2 ص 261، 262 وقال الألباني: إسناده حسن [مشكاة المصابيح ج 3 ص 1388] . وقال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط: (ولكن للحديث شواهد يقوى بها وقد حسنه النووي والحافظ العراقي وابن حجر) [جامع الأصول ج 6 ص 572] .
(7) (6) المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه
(8) (المقسط) سقطت من المخطوطة. (7)(48/212)
حسن رواه أبو داود(48/213)
باب
وجوب تعلم القرآن وتفهمه واستماعه
والتغليظ على من ترك ذلك
وقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} (1) .
وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} (2) .
وقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (3) الآية.
عن أبي موسى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
__________
(1) سورة الإسراء الآية 46
(2) سورة الأنفال الآية 22
(3) سورة طه الآية 124(48/213)
«مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منهم طائفة أخرى إنما هي قيعان (4) بعثني الله به فعلم وعلم (5) ، ومثل (6) من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» أخرجاه وعن ابن عمرو (7) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
__________
(1) البخاري ج 1 ص 28 واللفظ له. ورواه مسلم ج 4 ص 1787 - 1788 وابن حبان في: (الإحسان) ج 1 ص 177.
(2) قال ابن حجر رحمه الله تعالى: '' وكان منها نقية '' أي أرض بيضاء. [تفسير غريب الحديث ص 245] . (1)
(3) قال ابن الأثير: (الأجادب: صلاب الأرض التي تمسك الماء فلا تشربه سريعا) [النهاية ج 1 ص 242] . (2)
(4) (3) لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما في المخطوطة: (بما) .
(5) في المخطوطة: (فتعلم وعمل) وهو قريب من رواية ابن حبان (فعلم وعمل) . ج 1 ص 177 وأثبت ما في الصحيحين.
(6) (مثل) سقطت من المخطوطة.
(7) في المخطوطة: (عن ابن عمر) والصواب ما أثبته.(48/214)
«ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر الله لكم، ويل لأقماع الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون (3) » رواه أحمد.
__________
(1) مسند الإمام أحمد ج 2 ص 165 وقال الأستاذ أحمد شاكر: (إسناده صحيح) [مسند الإمام أحمد بتحقيق الأستاذ أحمد شاكر ج 10 ص 51 حديث 6541] وصححه الألباني في الأحاديث الصحيحة رقم 482.
(2) في المخطوطة: (يغفر لكم) . (1)
(3) (2) القول، ويل للمصرين(48/215)
باب
الخوف على من لم يفهم القرآن أن يكون من المنافقين
وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} (1) الآية.
__________
(1) سورة محمد الآية 16(48/215)
وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} (1) الآية.
عن أسماء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنكم تفتنون في قبوركم أو قريبا من فتنة الدجال حتى يؤتى أحدكم فيقال: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فأجبنا وآمنا واتبعنا، فيقال: نم صالحا فقد علمنا أنك لمؤمن، وأما المنافق أو المرتاب فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته) (3) » . أخرجاه.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 179
(2) صحيح البخاري ج 1 ص 54 ومسلم ج 2 ص 624 وقد أورد المؤلف رحمه الله تعالى الحديث مختصرا، ونصه عند البخاري: عن أسماء رضي الله عنها أنها قالت: أتيت عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- حين خسفت الشمس فإذا الناس قيام يصلون وإذا هي قائمة تصلي، فقلت: ما للناس؟ فأشارت بيدها نحو السماء وقالت: سبحان الله، فقلت: آية؟ فأشارت أن نعم، فقمت حتى تجلاني الغشي وجعلت أصب ''فوق رأسي ماء، فلما انصرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حمد الله وأثنى عليه ثم قال: '' ما من شيء كنت لم أره إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار، ولقد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريبا من فتنة الدجال (لا أدري أي ذلك قالت أسماء) يؤتى أحدكم فيقال له ما علمك بهذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن (لا أدري أي ذلك قالت أسماء) فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا وآمنا واتبعنا، فيقال نم صالحا فقد علمنا أن كنت لموقنا، وأما المنافق أو المرتاب (لا أدري أي ذلك قالت أسماء) فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ''.
(3) بياض في المخطوطة مقدار كلمة، لعلها كلمة (مثل) وفي طبعة الدرر السنية (كفتنة الدجال) ص 5. (2)(48/216)
وفي حديث البراء في الصحيح: «إن المؤمن يقول هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقولان: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت (2) » .
__________
(1) مسند الإمام أحمد ج 4 ص 287، 288 وسنن أبي داود ج 4 ص 239، 240 وصححه الألباني في مشكاة المصابيح ج 1 ص 515 حديث 1630.
(2) في المخطوطة (وما أعلمك) . (1)(48/217)
باب قول الله تعالى
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} (1)
الآية.
وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} (2)
__________
(1) سورة البقرة الآية 78
(2) سورة الجمعة الآية 5(48/217)
الآية.
«عن أبي الدرداء (2) إلى السماء ثم قال (3) : " هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء (4) " فقال زياد بن لبيد الأنصاري (5) : كيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه (6) ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا فقال: " ثكلتك أمك يا زياد إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا تغني عنهم؟» رواه الترمذي وقال:
__________
(1) سنن الترمذي ج 5 ص 31، 32، ورواه الحاكم في مستدركه ج 1 ص 99 وقال هذا إسناد صحيح من حديث البصريين ووافقه الذهبي ج 1 ص 100.
(2) (1) قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فشخص ببصره في المخطوطة: (فشخص بصره) .
(3) في المخطوطة: (فقال) .
(4) في المخطوطة: (حتى لا يقدرون على شيء منه) .
(5) (الأنصاري) سقطت من المخطوطة.
(6) (لنقرأنه) سقطت من المخطوطة.(48/218)
حسن غريب.
«وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أنزل عليه: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (1) إلى قوله: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (2) . قال: " ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها» رواه ابن حبان في صحيحه (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 190
(2) سورة آل عمران الآية 191
(3) الدر المنثور ج 2 ص 110، 111 وابن كثير ج 1ص 478.(48/219)
باب
إثم من فجر بالقرآن
وقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} (1) ، وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} (3)
__________
(1) سورة البقرة الآية 26
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) سورة البقرة الآية 174(48/219)
الآية.
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يخرج في هذه الأمة- ولم يقل منها- قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم فيقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم أو حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فينظر الرامي إلى نصله إلى رصافه (4) هل علق بها (5) من الدم شيء»
__________
(1) رواه البخاري ج 4 ص 115 ورواه مسلم ج 2 ص 743، 744، واللفظ له، وقوله: (حلوقهم أو حناجرهم) شك من الراوي، ويرجح رواية حناجرهم رواية أخرى في صحيح مسلم ج 2 ص 747 (لا يجاوز حناجرهم) .
(2) في المخطوطة: (حناجرهم وحلوقهم) . (1)
(3) (الرامي) سقطت من المخطوطة. (2)
(4) (3) فيتمارى في الفوقة في المخطوطة: (فوقه) . قال ابن الأثير: فوق السهم وهو موضع الوتر منه. [النهاية ج 3 ص 480] .
(5) في المخطوطة: (به) .(48/220)
أخرجاه.
وفي رواية: «يقرءون القرآن رطبا (1) »
وكان ابن عمر يراهم شرار الخلق وقال: إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين.
__________
(1) لم أجد هذه الرواية وإنما الراوية في البخاري ج 5 ص 110، 111، ومسلم ج 2 ص 742 '' يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم) . وفي رواية لمسلم أيضا ج 2 ص 743: '' يتلون كتاب الله لينا رطبا''.(48/221)
وللترمذي وحسنه عن أبي هريرة مرفوعا: «من سئل عن علم ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار (2) » .
__________
(1) سنن الترمذي ج 5 ص 29، 30. وقال: حديث حسن رواه الإمام أحمد في مسنده ج 2 ص 495، وابن ماجه ج 1 ص 97، 98، وقال الألباني: (وإسناده صحيح) مشكاة المصابيح ج 1 ص77 حديث 223.
(2) في المخطوطة: (فكتمه ألجمه الله) . (1)(48/222)
باب
إثم من رايا بالقرآن
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن(48/222)
أولى الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار (5) فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها (6) إلا أنفقت فيها (7) لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو (8) جواد فقد
__________
(1) صحيح مسلم ج 3 ص 1514.
(2) في المخطوطة: (عليه يوم القيامة) . (1)
(3) في المخطوطة: (فقال) . (2)
(4) (العلم) سقطت من المخطوطة. (3)
(5) (4) ، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله (كله) سقطت من المخطوطة.
(6) في المخطوطة: (فيه) .
(7) في المخطوطة: (فيه) .
(8) (هو) سقطت من المخطوطة.(48/223)
قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم (1) ألقي في النار» رواه مسلم.
__________
(1) في المخطوطة: (حتى) .(48/224)
باب
إثم من تأكل (1) بالقرآن
عن جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اقرءوا القرآن وابتغوا به وجه الله عز وجل قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح (3) ولا يتأجلونه» رواه أبو داود، وله معناه
__________
(1) قال ابن حجر: (تأكل: أي طلب الأكل) فتح الباري ج 8 ص 718 باب: إثم من راءى بقراءة القرآن أو تأكل به..
(2) سنن أبو داود الصلاة (830) ، مسند أحمد بن حنبل (3/357) .
(3) (2) يتعجلونه في المخطوطة: (يعجلونه) .(48/224)
من حديث سهل بن سعد.
«وعن عمران (2) يقرأ على قوم فلما فرغ سأل (3) فقال عمران: إنا لله وإنا إليه راجعون إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: " من قرأ القرآن فليسأل الله تبارك وتعالى به (4) فإنه سيجيء قوم يقرءون القرآن يسألون الناس به (5) » رواه أحمد والترمذي.
__________
(1) مسند الإمام أحمد ج 4 ص 432، 433 والترمذي ج 5 ص 179، 180 وقال هذا حديث حسن ليس إسناده بذاك.
(2) (1) أنه مر برجل وهو (وهو) سقطت من المخطوطة.
(3) في المخطوطة: (سأله) .
(4) (به) سقطت من المخطوطة.
(5) في المخطوطة: (به الناس)(48/225)
باب
الجفاء عن القرآن(48/226)
عن سمرة بن جندب في حديث الرؤيا الطويل مرفوعا قال: «أتاني الليلة آتيان (وأنهما ابتعثاني وأنهما قالا لي انطلق) ، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع،
__________
(1) من رواية البخاري في كتاب الجنائز باب 93 (ما قيل في أولاد المشركين) ج 2 ص 105.
(2) في المخطوطة: (اثنان) . (1)(48/227)
وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتهدهد (4) المرة الأولى، قال (5) : قلت (6) لهما: سبحان الله ما هذان (7) ، (8) ؟ قالا: هذا رجل علمه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار يفعل به إلى يوم القيامة»
وفي رواية (9) : «الذي يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة (10) » رواه البخاري.
ولمسلم عن أبي موسى أنه قال لقراء البصرة: " اتلوه ولا
__________
(1) في المخطوطة: (ومنهما.. إلى: قال انطلق) وفي الدرر: (فذهبا بي قالا انطلق) ص 6. (2)
(2) في المخطوطة: (على رأسه) . (1)
(3) في المخطوطة: (فيشلع) . (2)
(4) (3) الحجر ها هنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصبح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل في المخطوطة: (في المرة) .
(5) (قال) سقطت من المخطوطة.
(6) في المخطوطة: (فقلت) .
(7) في المخطوطة: (ما هذا) .
(8) إلى هنا رواه البخاري في باب التعبير باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، ج8 ص 84.
(9) من رواية البخاري في باب تعبير الرؤيا ج 8 ص 86.
(10) صحيح البخاري الجمعة (1143) ، مسند أحمد بن حنبل (5/9) .(48/228)
يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم " (1) .
وعن ابن مسعود قال: " إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ".
__________
(1) رواه مسلم ج 2 ص 726.(48/229)
باب
من ابتغى الهدى من غير القرآن
وقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} (1) الآيتين وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} (2) الآية.
«وعن زيد بن أرقم بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: " أما بعد: ألا أيها الناس
__________
(1) سورة الزخرف الآية 36
(2) سورة النحل الآية 89
(3) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2408) ، مسند أحمد بن حنبل (4/367) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3316) .
(4) (3) قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطيبا بماء يدعى خما
(5) (بين مكة والمدينة) سقطت من المخطوطة. (4)(48/230)
فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا، (2) » فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال (3) : «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي (4) » وفي لفظ: «أحدهما كتاب الله عز وجل هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة (7) » رواه مسلم.
وله عن جابر «كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب (10) »
__________
(1) في المخطوطة: (أيها) . (5)
(2) في المخطوطة: '' إنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول من ربي فأجيب ''. (1)
(3) (ثم) سقطت من المخطوطة.
(4) صحيح مسلم ج 4، ص 1873.
(5) صحيح مسلم ج 4، ص 1874.
(6) في المخطوطة: (من تبعه) . (5)
(7) في المخطوطة: (على الضلالة) . (6)
(8) رواه مسلم ج 2، ص 592.
(9) في المخطوطة: (أن) . (8)
(10) (9) يقول: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد (صلى الله عليه وسلم) وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة(48/231)
«وعن سعد بن مالك قال: أنزل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن، فتلاه عليهم زمانا فقالوا: يا رسول الله لو قصصت (1) علينا فأنزل الله عز وجل: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} (2) الآية، فتلاه عليهم زمانا،» رواه ابن أبي حاتم (3) بإسناد حسن.
__________
(1) في المخطوطة: (قصصته) .
(2) سورة يوسف الآية 1
(3) في طبعة الدرر (ابن أبي الدنيا) .(48/232)
وله (1) عن المسعودي «عن القاسم {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} (3) ثم ملوا ملة فقالوا: حدثنا يا رسول الله فأنزل الله عز وجل:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} (4) الآية،» ورواه عبيد عن بعض التابعين، وفيه: «فإن طلبوا الحديث دلهم
__________
(1) قوله (له) يوهم أنه من رواية ابن أبي حاتم ولم أجد أحدا ذكر هذه الرواية عن ابن أبي حاتم.
(2) قلت: لم أجد رواية المسعودي لهذا الحديث عن القاسم وإنما وجدته يرويه عن أخيه عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود. تفسير ابن جرير ج 15، ص 552، والدر المنثور ج 4، ص 3.
(3) (2) أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ملوا ملة فقالوا: حدثنا يا رسول الله فنزلت: سورة الزمر الآية 23
(4) سورة الحديد الآية 16(48/233)
على القرآن (1) » .
وكان معاذ بن جبل يقول في مجلسه كل يوم، قل ما يخطئه أن يقول ذلك: الله حكم قسط هلك المرتابون، إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق، والمرأة والصبي، فيوشك أحدهم أن يقول: قد قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع فكل بدعة ضلالة، وإياكم وزيغة الحكيم، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق فتلقوا الحق ممن جاء به فإن على الحق نورا) الحديث رواه أبو داود.
__________
(1) الرواية التي وجدتها عند الطبري وغيره عن المسعودي عن عون بن عبد الله قال: مل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ملة فقالوا يا رسول الله حدثنا فأنزل الله عز وجل: الله نزل أحسن الحديث ثم ملو ملة أخرى فقالوا يا رسول الله حدثنا فوق الحديث ودون القرآن يعنون القصص فأنزل الله: الر تلك آيات الكتاب المبين إلى لمن الغافلين فأرادوا الحديث فدلهم على أحسن الحديث وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص. تفسير ابن جرير ج 15، ص 552 والدر المنثور ج 4، ص 3 وأسباب النزول للواحدي ص 270.(48/234)
وروى البيهقي عن عروة بن الزبير أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستشار الصحابة فأشاروا عليه بذلك ثم استخار الله شهرا، ثم قال: إني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبة فأكبوا (1) عليها، وتركوا كتاب الله عز وجل وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا.
__________
(1) في المخطوطة: (فأكبتوا) .(48/235)
باب
الغلو في القرآن
فيه حديث الخوارج المتقدم (1) وفي الصحيح «عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة. فقلت: بلى يا نبي الله، ولم أرد بذلك إلا الخير، قال له: فصم صوم داود فإنه كان أعبد الناس، واقرأ القرآن في كل شهر. قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في كل عشرين. قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك قال: فاقرأه في كل عشر. قال: قلت: يا نبي الله إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه
__________
(1) انظر: (باب إثم من فجر بالقرآن) .
(2) صحيح مسلم ج 2، ص 813 وقد أورده المؤلف مختصرا.(48/236)
في كل سبع ولا تزد على ذلك (1) » .
ولمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «هلك
__________
(1) ما بين القوسين سقط من المخطوطة ومن طبعة الدرر. (2)(48/237)
المتنطعون (1) » .
ولأحمد عن عبد الرحمن بن شبل، مرفوعا: «اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به، ولا تستكثروا به (3) »
وعن أبي رافع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
__________
(1) رواه مسلم ج 4، ص 2055 بزيادة (قالها ثلاثا) .
(2) مسند الإمام أحمد ج 3، ص- 444 (قلت) رجاله ثقات.
(3) (فيه) سقطت من المخطوطة. (2)(48/238)
«لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه (3) » رواه أبو داود والترمذي.
__________
(1) سنن أبي داود ج 4، ص 200 واللفظ له، والترمذي ج 5، ص 37 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه ج 1، ص 10. قال الألباني: وإسناده صحيح مشكاة المصابيح ج 1، ص 57 رقم 162.
(2) في المخطوطة: (ونهيت عنه) . (1)
(3) في المخطوطة: لا أدري) وهو رواية الترمذي وابن ماجه. (2)(48/239)
باب
ما جاء في اتباع المتشابه
في الصحيح «عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: إلى قوله: فقال: " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم (4) » انتهى.
__________
(1) صحيح مسلم ج 4، ص 2053.
(2) سورة آل عمران الآية 7 (1) {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}
(3) سورة آل عمران الآية 7 (2) {عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}
(4) في المخطوطة: (رأيت) . (3)(48/239)
وقال عمر: يهدم الإسلام زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين (1) ولما سأل صبيغ (2) عمر عن (الذاريات) و (أشباهها) ضربه عمر، والقصة مشهورة.
__________
(1) تاريخ عمر بن الخطاب: ابن الجوزي ص223.
(2) هو صبيغ بن عسل الحنظلي.(48/240)
باب
وعيد من قال في القرآن برأيه وبما لا يعلم
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (1) إلى قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) .
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قال في القرآن برأيه " وفي رواية: " من غير علم فليتبوأ مقعده من النار (4) » رواه الترمذي وحسنه.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة الأعراف الآية 33
(3) سنن الترمذي ج 5، ص 199 وقال حديث حسن صحيح ورواه الإمام أحمد ج1، ص233. وضعفه أحمد وغيره وردوا تصحيح الترمذي له، فيض القدير: المناوي ج 6، ص 190. وقد أورد الطبري في تفسيره هذين الحديثين وغيرهما وعلق عليهما الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى بقوله: (تدور هذه الأحاديث كلها على عبد الأعلى بن عامر الثعلبي وقد تكلموا فيه) تفسير الطبري ج 1، ص 77.
(4) سنن الترمذي ج 5، ص 199 وقال حديث حسن. (3)(48/241)
وعن جندب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ (1) » رواه أبو داود والترمذي وقال: غريب.
__________
(1) سنن أبي داود ج 3، ص 320، وسنن الترمذي ج 5، ص 200، وقال البيهقي في شعب الإيمان: (هذا إن صح فإنما أراد- والله أعلم- الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه، فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل، وكذلك لا يجوز تفسير القرآن به) . [البرهان: الزركشي ج 2، ص 161- 162] .(48/242)
باب ما جاء في الجدال في القرآن
قال أبو العالية: آيتان ما أشدهما على من يجادل في(48/242)
القرآن، قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (2) .
عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «جدال في القرآن كفر، (4) » . رواه أحمد وأبو داود وإسناده جيد (5) .
__________
(1) سورة غافر الآية 4
(2) سورة البقرة الآية 176
(3) مسند الإمام أحمد ج 2، ص 258 وأبو داود ج 4، ص 199 بلفظ: '' المراء في القرآن كفر،. ورواه أيضا الإمام أحمد في مسنده ج 2، ص 503 بلفظ: '' مراء في القرآن كفر''. ورواه البغوي في تفسيره ج 4، ص 91 صت أي هريرة رضي الله عنه: '' إن جدالا في القرآن كفر''.
(4) (3)
(5) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص 61.(48/243)
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوما يتحاورون في القرآن فقال: إنما هلك من كان قبلكم (باختلافهم في الكتاب) (1) » .
__________
(1) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو ج 4، ص 2053، ورواه أحمد من حديث عبد الله بن مسعود ج 1، ص 401، ورواه البغوي في تفسيره ج 4، ص 91 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.(48/244)
باب
ما جاء في الاختلاف في القرآن في لفظه أو معناه
وقول الله عز وجل: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (1) {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (2) الآيتان،، وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (3) الآية.
__________
(1) سورة هود الآية 118
(2) سورة هود الآية 119
(3) سورة البقرة الآية 213(48/244)
وفي الصحيح «عن ابن مسعود قال: سمعت رجلا يقرأ آية سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ خلافها، فأخذت بيده فانطلقت به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهة فقال: " كلاكما محسن فلا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا (2) »
وفيه- أيضا- «عن ابن عمرو قال: هجرت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يوما قال فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعرف في وجهه الغضب فقال: " إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب (7) »
__________
(1) رواه البخاري ج 3، ص 88، والإمام أحمد في مسنده ج 1، ص 456، وعند أحمد (لا تختلفوا أكبر علمي، وقال مسعر: قد ذكر فيه لا تختلفوا إن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكهم) .
(2) عند البخاري: (قال شعبة: أظنه قال: لا تختلفوا.) الحديث. (1)
(3) رواه مسلم ج 4، ص 2053.
(4) في المخطوطة: (ابن عمر) . (3)
(5) هجرت يعني خرجت إليه في الهاجرة وهي شدة الحر. شرح صحيح مسلم للآبي ج 7، ص 99. (4)
(6) في الأصل (هجرت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- سمعت) والصواب ما أثبته من مسلم. (5)
(7) في المخطوطة: (اختلفوا) دون طبعة الدرر. (6)(48/245)
وفي المسند عنه (1) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ (فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم) فخرج كأنما فقئ في وجهه حب الرمان فقال: " أبهذا أمرتم، أو بهذا بعثتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما ها هنا في شيء انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به والذي نهيتم عنه فانتهوا (5) » وفي رواية: «خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر (7) » وكذا رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وفيه: «خرج ونحن
__________
(1) يعني عن عبد الله بن عمرو وهو جد والد عمرو بن شعيب.
(2) مسند الإمام أحمد ج 2، ص 196، وقال الأستاذ أحمد شاكر: إسناده صحيح. ج 11، ص 73.
(3) في المخطوطة: (من حديث عمرو بن شعيب قال كذا..) الحديث. (2)
(4) ما بين القوسين سقط من المخطوطة. (3)
(5) في المخطوطة: (إنكم لستم بما هذا) وفي الدرر: (إنكم له لم تؤمروا بهذا) ص 9. (4)
(6) مسند الإمام أحمد ج 2، ص 196 وباقي الرواية: (هذا ينزع آية وهذا ينزع آية) فذكر الحديث السابق وقال الأستاذ أحمد شاكر: (إسناده صحيح) ج11، ص 74.
(7) (على أصحابه) سقطت من المخطوطة. (6)(48/246)
نتنازع في القدر (1) » وقال: حسن.
__________
(1) سنن الترمذي ج 4، ص 443 ولم يصفه بالحسن كما قال المصنف وإنما قال: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه) .(48/247)
باب إذا اختلفتم فقوموا
في الصحيح عن جندب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فقوموا عنه (2) »
ولهما عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في مرضه: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده " فقال عمر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد غلبه الوجع، وإن عندنا كتاب الله حسبنا، وقال بعضهم: بل ائتوا بكتاب، فاختلفوا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " قوموا عني، ولا ينبغي عند نبي تنازع (3) »
__________
(1) صحيح البخاري ج 8، ص 161، ومسلم ج 4، ص 2054.
(2) في المخطوطة: (بما ائتلفت عليكم قلوبكم) . (1)
(3) صحيح البخاري ج 1، ص 37 ولفظه: (عن ابن عباس قال لما اشتد بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وجعه قال: '' ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده''، قال عمر: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وكثر اللغط، قال: '' قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع'' فخرج ابن عباس يقول: إن الرزيئة كل الرزيئة ما حال بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين كتابه) اهـ. ورواه مسلم بلفظ آخر ج 3، ص1259.(48/247)
ولمسلم عن ابن مسعود أنه قرأ سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا أنزلت فقال: أتكذب بالكتاب؟ .(48/248)
باب قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا (1) } الآية.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الكبر بطر الحق وغمط الناس (2) »
__________
(1) سورة الكهف الآية 57
(2) صحيح مسلم ج 1 ص 93 ولفظه: (عن عبد الله بن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: '' لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ''، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال: '' إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس ''. (قلت) لعل مناسبة الحديث أن الإعراض عن آيات الله لا يكون إلا عن كبر ورفض للحق وليس عن ضعف في الحجة والبرهان.(48/248)
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال ": من أكبر الذنوب عند الله أن يقول العبد: اتق الله، فيقول عليك بنفسك.
وفي الصحيح «عن أبي واقد الليثي (2) : فوقفا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم (3) فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه» انتهى.
__________
(1) صحيح البخاري ج 1، ص 24 وصحيح مسلم ج 4، ص1713
(2) (1) قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذهب واحد، قال في المخطوطة: (لغوا قفا) كذا دون طبعة الدرر.
(3) في المخطوطة: (أحدهما) دون طبعة الدرر.(48/249)
قال قتادة في قوله [سبحانه] : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) الآية: لعله أن لا يكون أنفق مالا، وبحسب امرئ من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق.
__________
(1) سورة لقمان الآية 6(48/250)
باب ما جاء في التغني بالقرآن
عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن يتغنى
__________
(1) صحيح البخاري ج 6، ص 107- 108.(48/251)
بالقرآن (1) » وفي رواية (2) : «لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به (4) » أخرجاه.
وعن أبي لبابة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن (5) » رواه أبو داود بسند جيد والله سبحانه وتعالى أعلم آخره، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه.
تمت، والحمد لله رب العالمين في ضحى يوم الثلاثاء السادس عشر من شهر الله المحرم رجب تسعين بعد المائتين والألف من هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقلم الفقير إلى الله، عبده وابن عبده وابن أمته عبد الله بن مبارك أبو عقيل. غفر الله له ولوالديه ولوالديهم ولجميع المسلمين بمنه وكرمه. آمين وصلى الله على محمد وسلم.
__________
(1) في المخطوطة: (أذن الله لشيء أذن) دون طبعة الدرر. (1)
(2) صحيح مسلم ج 1، ص 545.
(3) صحيح البخاري التوحيد (7544) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (792) ، سنن النسائي الافتتاح (1017) ، سنن أبو داود الصلاة (1473) ، مسند أحمد بن حنبل (2/285) ، سنن الدارمي الصلاة (1488) .
(4) (يتغنى) سقطت من المخطوطة. (3)
(5) رواه أبو داود ج 2، ص 74- 75. ورواه البخاري عن أبي هريرة ج 8، ص 209.(48/252)
البسملة في السنة النبوية
د. عبد العزيز الجاسم (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديهم، وسار على منهجهم إلى يوم الدين، وبعد:
لقد تميز المسلم بشخصية فريدة من نوعها، لا يشاركه فيها أحد البتة.
إذ تميز بفكره وقوله وعمله، وهذه من نعم الله تعالى عليه؛ لأنه بهذه الشخصية الفريدة فاق غيره من المخلوقات، فلا يدانيه فيها أحد.
فمن هذه المميزات التسمية عند القيام بفعل بعض الأمور التي بينتها لنا السنة النبوية.
ولا يرتاب مسلم في أن التسمية لها أهمية كبيرة في حياته؛
__________
(1) سبقت ترجمته في العدد 32.(48/253)
لأنها تعني أن كل قول يقوله المسلم، أو فعل يفعله: إنما يكون باسم الله، وهذا البدء بالتسمية دليل على توحيد الله تعالى، إلى جانب تأدب الإنسان مع خالقه.
ولأهمية هذه التسمية وما تنطوي عليه من معان؛ نجد أن أول ما نزل من القرآن الكريم على نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ باسم الله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) .
فمن أجل ذلك أحببت أن أجمع الأحاديث الصحيحة والحسنة (2) التي وردت في التسمية وأن أخرجها من مصادرها، إلى جانب شرح المفردات الغريبة، مع الإشارة إلى مذاهب الفقهاء؛ إن كان الحديث يحتوي على حكم فقهي، ولا أتعرض لتفصيلات المذاهب، وبيان حججهم؛ لأن في ذلك تطويلا للموضوع، وخروجا عن المقصود.
فمن العبادات التي شرعت التسمية عند فعلها الوضوء (3) : 1 - فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: «لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه (4) »
__________
(1) سورة العلق الآية 1
(2) أما الأحاديث الضعيفة والشديدة الضعف والموضوعة فلم أتعرض لذكرها.
(3) بعض العامة يسمي الله تعالى عندما يصلي قبل تكبيرة الإحرام، فهذا العمل ليس من السنة.
(4) سنن ابن ماجه - كتاب الطهارة وسننها - باب ما جاء في التسمية في الوضوء - 1 \ 139 وما بعدها حديث (165) . قلت: فيه كثير بن زيد، صدوق يخطئ كما في التقريب، وفيه أيضا شيخه ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد، مقبول، كما في التقريب، وقال البخاري: منكر الحديث، علل الترمذي الكبير: 1 \ 113. وقد جاء هذا الحديث من رواية: سعيد بن زيد، وأبي هريرة، وسهل بن سعد، وعيسى بن سبرة مولى قريش عن أبيه عن جده، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنهم. أما حديث سعيد بن زيد: فقد أخرجه الترمذي حديث (26) ، باب ما جاء في التسمية عند الوضوء. وأخرجه ابن ماجه حديث (398) ، كلاهما من طريق يزيد بن هارون عن يزيد بن عياض عن أبي ثفال عن رباح بن عبد الرحمن أنه سمع جدته بنت سعيد أنها سمعت أباها. . . الحديث. قلت يزيد بن عياض كذبه مالك. وقال النسائي وغيره: إنه متروك، انظر المغني 2 \ 752 والتقريب ص 604، وأخرجه أيضا الترمذي حديث (25) عن سعيد بن زيد، من طريق بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن حرملة عن أبي ثفال به. قال ابن القطان - كما في نصب الراية 1: فيه ثلاثة مجاهيل الأحوال: جدة رباح لا يعرف لها اسم ولا حال، ولا تعرف بغير هذا. ورباح أيضا مجهول الحال، وأبو ثفال مجهول الحال، مع أنه أشهرهم؛ لرواية جماعة عنه، منهم الدراوردي. اهـ. وأما حديث أبي هريرة: فقد أخرجه الإمام أحمد في المسند: 2 \ 418 عن قتيبة بن سعيد عن محمد بن موسى المخزومي عن يعقوب بن سلمة عن أبيه عن أبي هريرة، وأخرجه أيضا أبو داود في سننه حديث (101) باب: التسمية على الوضوء - عن قتيبة بن سعيد به مثله. وأخرجه أيضا ابن ماجه حديث (399) من طريق ابن أبي فديك عن محمد بن موسى به. وأخرجه الحاكم في المستدرك: 1 \ 146، من طريق ابن أبي فديك عن المخزومي به، وصححه. وتعقبه الذهبي في تلخيصه: 1 \ 146، فقال: إسناده فيه لين. اهـ. قال الإمام البخاري في تاريخه 1 \ 76: لا يعرف لسلمة سماع من أبي هريرة، ولا ليعقوب من أبيه. اهـ. وأما حديث سهل بن سعد، فقد أخرجه ابن ماجه حديث (400) ، من طريق عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد، عن أبيه، عن جده. وفي سنده عبد المهيمن، وهو مجمع على ضعفه. انظر الميزان: 2 \ 671 والتهذيب: 6 \ 432. وأخرجه الطبراني أيضا في كتابه (الدعاء) ، حديث (382) 2 \ 973، من طريق أبي بن عباس - أخي عبد المهيمن - وفيه ضعف، كما في التقريب 96، وانظر المغني: 1 \ 32. وأما حديث عيسى بن سبرة مولى قريش، عن أبيه، عن جده: فقد أخرجه الطبراني في كتابه (الدعاء) حديث (381) وفي سنده عيسى بن سبرة، عن أبيه، عن جده، فهم مجاهيل، إذ لم أجد لهم ترجمة في كتب التراجم التي اطلعت عليها. وأما حديث عائشة أم المؤمنين: فقد أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 1 \ 3، والبزار - كما في كشف الأستار - حديث (261) 1 \ 137، وأخرجه أيضا الطبراني في كتابه (الدعاء) حديث (283، 384) 2 \ 973. كلهم من طريق حارثة بن محمد. قال عنه الذهبي في المغني: 1 \ 44، تركوه. إذا نظرنا إلى تلك الطرق وجدنا أصلحها حديث أبي سعيد الخدري، ومع ذلك في إسناده ضعيفان ضعفهما منجبر، يمكن أن ينجبر هذا الضعف بحديث أبي هريرة وحديث سهل بن سعد، من طريق أبي بن عباس، فيكون الحديث حسنا لغيره. أما قول الإمام أحمد - كما في جامع الترمذي 1 \ 38 - لا أعلم في هذا الباب حديثا له إسناد جيد، فمراده أنه ليس له إسناد جيد بمفرده، والله تعالى أعلم. .(48/254)
صفحة فارغة(48/255)
وقد اختلف العلماء فيمن ترك التسمية على الوضوء:
قال إسحاق بن راهويه: إن ترك التسمية عامدا أعاد الوضوء، وإن كان ناسيا أو متأولا أجزأه (1) .
وقال ربيعة: إنه الذي يتوضأ ويغتسل ولا ينوي وضوءا للصلاة ولا غسلا للجنابة (2) .
__________
(1) الجامع الصحيح للترمذي 1 \ 38.
(2) سنن أبي داود 1 \ 25.(48/256)
فجعل المراد من التسمية النية، لكن أرى أنه قول بعيد، فظاهر الحديث خلاف ذلك، وهو واضح في ذكر التسمية المعهودة لدى المخاطب.
وقال آخرون: معناه نفي الفضيلة، أما الوضوء فهو صحيح (1) .
كما تشرع التسمية عند قراءة أم الكتاب في الصلاة، غير أن أهل العلم اختلفوا في الجهر أو الإسرار بها، كما سيأتي تفصيل لأدلة الفريقين بعد قليل.
2 - عن أنس رضي الله عنه قال: «إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بـ (3) »
وجاء عند مسلم بلفظ: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدا منهم يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم (4) » .
وسيأتي الكلام على هذه الرواية.
3 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته بـ: بسم الله الرحمن الرحيم (5) » أخرجه الإمام
__________
(1) انظر معالم السنن للخطابي، المطبوع بهامش تهذيب سنن أبي داود للمنذري 1 \ 88.
(2) صحيح البخاري مع الفتح - كتاب الأذان - باب ما يقول بعد التكبير - 2 \ 226 وما بعدها - حديث (743) . .
(3) سورة الفاتحة الآية 2 (2) {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(4) صحيح مسلم - كتاب الصلاة - باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة - 1 \ 299 حديث (50) .
(5) الجامع الصحيح للترمذي - باب من رأى الجهر بـ (بسم الله الرحمن الرحيم) 2 \ 14 حديث (245) .(48/257)
الترمذي في جامعه وضعفه.
وضعفه أيضا ابن عدي في كامله، قال رحمه الله: وهذا الحديث لا يرويه غير معتمر، وهو غير محفوظ؛ سواء قال: عن أبي خالد، أو: عن عمران بن خالد، جميعا مجهولين (1) . يريد: أن أبا خالد وعمران بن خالد مجهولان.
لكن وثق أبا خالد ابن حبان، إذ ذكره في كتابه الثقات (2) ، وجعله الحافظ ابن حجر مقبولا (3) ، أي إذا توبع.
فالحديث بهذا السند لا تقوم به حجة، وقد جاءت طرق أخرى تقويه، فيصل إلى درجة الحسن لغيره.
لكنه لا يقوى على معارضة ما ثبت في الصحيحين وغيرهما.
وقد مر بنا قبل قليل أن أهل العلم اختلفوا في الجهر أو الإسرار بالبسملة على مذهبين:
1 - فذهب الجمهور إلى: أنه لا يجهر بها، وذلك لأمرين:
__________
(1) الكامل 1 \ 305 في ترجمة إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان.
(2) 5 \ 514.
(3) التقريب ص 636.(48/258)
الأول: كثرة الأحاديث التي يفهم منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بالحمد لله رب العالمين، إلى جانب بعض الروايات التي صرحت بنفي قراءة البسملة.
الثاني: ضعف أحاديث الخصم التي لا تنهض لمعارضة تلك الأحاديث التي استندوا إليها.
2 - وذهب الإمام الشافعي ومن تبعه إلى: أنه يجهر بها؛ لما يلي:
أن حديث أنس ليس فيه تصريح بنفي قراءة البسملة، وإنما يفهم منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين كانوا يقرءون أم الكتاب من قراءة البسملة.
أما من نفى السماع كما جاء في بعض الروايات؛ فلا يلزم من نفي السماع عدم الوقوع (1) .
وقد أعل الشافعي ومن تبعه أدلة الجمهور، ورجحوا ما ذهبوا إليه.
فالحديث الذي رواه مالك عن حميد عن أنس قال: (صليت وراء أبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم كان لا يقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) (2) أعله الإمام
__________
(1) انظر التقييد والإيضاح ص 99، وفتح الباري 2 \ 227.
(2) الموطأ، كتاب الصلاة، باب العمل في القراءة 1 \ 81 حديث (3) .(48/259)
الشافعي فقال - كما في التقييد والإيضاح -:
خالفه سفيان بن عيينة، والفزاري، والثقفي، وعدد لقيتهم سبعة أو ثمانية، مؤتفقين (1) مخالفين له قال: والعدد الكثير أولى بالحفظ من واحد.
قال الحافظ العراقي: (ثم رجع روايتهم بما رواه عن سفيان عن أيوب عن قتادة عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يفتتحون القراءة بـ (3) » .
قال الإمام الشافعي: (يعني يبدأون بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ بعدها، ولا يعني أنهم يتركون بسم الله الرحمن الرحيم) (4) .
أما حديث حميد عن أنس الذي نص على ترك التسمية، فقد جاء من ثلاثة طرق، أعلها الحافظ العراقي، علما بأنها قد رويت في صحيح مسلم وغيره.
قال رحمه الله: وقد رأيت أن أبين علل الرواية التي فيها نفي البسملة من حيث صنعة الإسناد، فأقول:
__________
(1) أي متفقين.
(2) الحديث في مسند الشافعي - باب ومن كتاب استقبال القبلة في الصلاة ص 36. وانظر الآثار عن بعض الصحابة الذين كانوا يجهرون بالبسملة في المسند ص 36 وما بعدها.
(3) سورة الفاتحة الآية 2 (2) {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(4) التقييد والإيضاح ص 99.(48/260)
قد ذكر ترك البسملة في حديث أنس من ثلاثة طرق، وهي:
- حميد عن أنس.
- ورواية قتادة عن أنس.
- ورواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس.
فأما رواية حميد فقد تقدم أن مالكا رواها في الموطأ عنه، وأن الشافعي تكلم فيها، لمخالفة سبعة أو ثمانية من شيوخه في ذلك.
وأيضا فقد ذكر ابن عبد البر في كتاب الإنصاف ما يقتضي انقطاعه بين حميد وأنس.
فقال - أي ابن عبد البر: (ويقولون: إن أكثر رواية حميد عن أنس أنه سمعها من قتادة عن أنس.
وقد ورد التصريح بذكر قتادة بينهما، فيما رواه ابن عدي عن حميد عن قتادة عن أنس.
فآلت رواية حميد إلى رواية قتادة) .
وأما رواية قتادة فرواها مسلم في صحيحه من رواية الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعي عن قتادة، أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك، أنه حدثه قال: «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان،(48/261)
فكانوا يستفتحون بـ لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها (2) » .
فقد بين الأوزاعي في روايته أنه لم يسمعه من قتادة، وإنما كتب إليه، والخلاف في صحة الرواية بالكتابة معروف، وعلى تقدير صحتها؛ فأصحاب قتادة الذين سمعوه منه، أيوب وأبو عوانة وغيرهما، لم يتعرضوا لنفي البسملة كما تقدم.
وأيضا ففي طريق مسلم، الوليد بن مسلم، وهو مدلس، وإن كان قد صرح بسماعه من الأوزاعي، فإنه يدلس تدليس التسوية، أي: يسقط شيخ شيخه الضعيف.
نعم لمسلم من رواية شعبة عن قتادة عن أنس: «فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (3) » .
ولا يلزم من نفي السماع عدم الوقوع، بخلاف
__________
(1) صحيح مسلم - كتاب الصلاة - باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة - 1 \ 299 - حديث (52) .
(2) سورة الفاتحة الآية 2 (1) {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(3) صحيح مسلم - كتاب الصلاة - باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة - 1 \ 299 حديث (50) .(48/262)
الرواية المتقدمة.
وأما رواية إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة فهي عند مسلم أيضا، ولم يسق لفظها، وإنما ذكرها بعد رواية الأوزاعي عن قتادة عن أنس.
فقال: حدثنا محمد بن مهران، ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك يذكر ذلك (1) .
فاقتضى إيراد مسلم لهذه الرواية أن لفظها مثل الرواية التي قبلها، وليس كذلك؛ فقد رواها ابن عبد البر في كتاب الإنصاف من رواية محمد بن كثير، قال: ثنا الأوزاعي. .، فذكرها بلفظ: «كانوا يفتتحون القراءة بـ (3) » .
ليس فيها تعرض لنفي البسملة، موافقا لرواية الأكثرين. اهـ (4) .
أما الإمام الحازمي فقد سوى بين الأمرين، وجعل من جهر بها أو أخفاها متمسكا بالسنة.
قال رحمه الله - بعد أن ذكر مذاهب العلماء وحجة كل مذهب -: (والحق أن كل من ذهب إلى أي
__________
(1) 1 \ 300.
(2) سنن الترمذي الصلاة (246) ، سنن أبو داود الصلاة (782) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (813) ، مسند أحمد بن حنبل (3/114) ، سنن الدارمي الصلاة (1240) .
(3) سورة الفاتحة الآية 2 (2) {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(4) التقييد والإيضاح ص 100 وما بعدها.(48/263)
هذه الروايات فهو متمسك بالسنة) (1) .
فمن خلال ما تقدم يتبين لنا: أن المسألة خلافية، وأن النفس تميل إلى ترجيح قول من قال: لا يجهر بها. وذلك لما يلي:
1 - صحة الأحاديث الدالة على عدم الجهر.
2 - ضعف الأحاديث التي تثبت الجهر، وهي وإن كانت ترتقي إلى درجة الاحتجاج؛ فلا تصل إلى معارضة أدلة الجمهور.
3 - عدم التسليم للحافظ العراقي ما أعل به أحاديث الجهر، فهي لا تعتبر عللا قادحة في صحة الحديث.
ومما يشرع التسمية عند فعله: إذا أراد المسلم أن يرسل كتابا إلى آخر، كما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4 - قال أبو سفيان: ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل، فقرأه؛ فإذا فيه.
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:
__________
(1) الاعتبار ص 79.(48/264)
فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم؛ يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (2) » .
ومن الأمور التي تشرع فيها التسمية: الرقية، فعندما يرقى المريض بالرقى المشروعة، يستفتح الراقي تلك الرقية بالتسمية، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة.
5 - عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل؛ قال: (بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، ومن شر كل ذي عين (3) » .
قال النووي رحمه الله: هذا تصريح بالرقى بأسماء الله تعالى (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب بدء الوحي - 1 \ 32 - حديث (7) ، ومسلم - كتاب الجهاد والسير باب كتاب النبي إلى هرقل - 2 \ 1396 حديث (74) ، والآية من سورة آل عمران رقم 64.
(2) (1) .
سورة آل عمران الآية 64
(3) أخرجه مسلم - كتاب السلام - باب الطب والمرض والرقى - 4 \ 1718 حديث رقم عام (2185) ، والترمذي كتاب الجنائز باب ما جاء في التعوذ للمريض - 3 \ 303 حديث (972) من حديث أبي سعيد الخدري بنحوه.
(4) شرح صحيح مسلم 14 \ 170.(48/265)
6 - وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول للمريض: «بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفي سقيمنا، بإذن ربنا (1) » .
وزاد مسلم في أوله: «كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه أو كانت به قرحة أو جرح، قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا - ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها -: "بسم الله" (2) » .
قال القرطبي - كما في الفتح -: (فيه دلالة على جواز الرقى من كل الآلام، وأن ذلك كان أمرا فاشيا معلوما بينهم) (3) .
وكذلك يشرع للمسلم أن يرقي نفسه، مبتدئا باسم الله.
7 - فعن عثمان بن أبي العاص الثقفي، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: بسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر (4) » .
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5745) ، صحيح مسلم السلام (2194) ، سنن أبو داود الطب (3895) ، سنن ابن ماجه الطب (3521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/93) .
(2) أخرجه البخاري - كتاب الطب باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم - 10 \ 206 حديث (5745 و 5746) ، ومسلم - كتاب السلام باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظر - 4 \ 1724 حديث (54) .
(3) الفتح 10 \ 208، وانظر فيه سبب وضع الريق على السبابة ثم وضعها في التراب.
(4) أخرجه مسلم - كتاب السلام باب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء - 4 \ 1728 حديثة (67) .(48/266)
ومعنى أحاذر: أخاف منه وأخشاه (1) .
وقد ثبت في السنة أن الشياطين تجول عند غروب الشمس؛ لذا شرعت تغطية الأواني مع التسمية، وإغلاق الأبواب والقرب مع التسمية أيضا.
8 - أخرج البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان جنح الليل - أو أمسيتم - فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم، فأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، وأوكوا قربكم، واذكروا اسم الله عليها، وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئا، وأطفئوا مصابيحكم (2) » .
ومعنى أوكوا: أي شدوا القرب بالوكاء، حتى لا يدخلها حيوان، أو يقترب منها شيطان.
ومعنى خمروا: أي غطوا الآنية إن كان لها غطاء، فإن لم يكن لها غطاء فضعوا عودا أو أي شيء عليها.
وسبب امتناع الشيطان من الاقتراب منها هو التسمية فقط، وإلا فإن الشيطان أعطي القدرة على فعل ما هو أكبر من ذلك.
__________
(1) انظر مختار الصحاح مادة، ''حذر ''.
(2) كتاب الأشربة - باب تغطية الإناء - 10 \ 88 حديث (5623) ، وأخرجه مسلم - كتاب الأشربة باب الأمر بتغطية الإناء - 3 \ 1595 حديث (97) .(48/267)
قال الحافظ ابن حجر: (وأظن السر في الاكتفاء بعرض العود أن تعاطي التغطية أو العرض يقترن بالتسمية، فيكون العرض علامة على التسمية، فتمتنع الشياطين من الدنو منه) (1) .
كما تشرع التسمية عندما يستيقظ المؤمن من نومه خائفا من شيء رآه في نومه.
9 - عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا فزع أحدكم في نومه، فليقل: بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وشر عباده، ومن شر الشياطين أن يحضرون (2) » .
وشرعت التسمية أيضا عند خروج المسلم من بيته.
10 - أخرج الإمام الترمذي في الجامع بسنده عن أم سلمة رضي الله عنها: أن «النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال: بسم الله، توكلت على الله، اللهم إنا نعوذ بك أن نزل أو
__________
(1) فتح الباري 1 \ 72.
(2) كتاب الدعاء للطبراني - 2 \ 1309 حديث (1086) . قال محققه: إسناده حسن، ولكن فيه عنعنة ابن إسحاق، وهو مشهور بالتدليس، ثم ذكر تحسين الحافظ ابن حجر له. قلت: الحديث يتقوى بمرسل الإمام في الموطأ - كتاب الشعر - باب ما يؤمر به من التعوذ - 2 \ 950 من حديث خالد بن الوليد. والحديث أخرجه الترمذي - كتاب الدعوات - 5 \ حديث (3527) ، وأبو داود - كتاب الطب باب كيف الرقى - حديث (3893) كلاهما من طريق ابن إسحاق، وليس فيه (بسم الله) .(48/268)
نضل، أو نظلم أو نظلم، أو نجهل أو يجهل علينا (1) » .
وكذلك يسمي الله تعالى عند دخوله البيت ليجلس فيه ويرتاح.
11 - فعن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: ما من مبيت ولا عشاء ههنا، وإذا دخل ولم يذكر الله تعالى عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت والعشاء (2) » .
والمراد بذكر الله: التسمية.
كما تشرع التسمية عندما يركب المسلم الإبل.
12 - أخرج الإمام أحمد بسنده عن محمد بن حمزة أنه سمع أباه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «على ظهر كل بعير شيطان، فإذا ركبتموها فسموا الله عز وجل، ثم لا تقصروا عن حاجاتكم (3) » .
__________
(1) كتاب الدعوات - 5 \ 490 - حديث (3427) ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه الإمام أحمد في المسند - 6 \ 306. والطبراني في كتاب الدعاء - 2 \ 986 - حديث (411) .
(2) المسند 3 \ 383. قلت: ورجال إسناده ثقات.
(3) المسند 3 \ 494 عن محمد بن حمزة عن أبيه. وأخرجه أيضا في 4 \ 221 عن أبي لاس الخزاعي، وله قصة، وأخرجه الدارمي - كتاب الاستئذان - باب ما جاء أن على كل ذروة بعير شيطانا - 2 \ 285 وما بعدها عن محمد بن حمزة عن أبيه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد - 10 \ 131. قال الهيثمي: (رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، ورجالهما رجال الصحيح غير محمد بن حمزة، وهو ثقة) . قلت: ليس كما قال الإمام الهيثمي، بل هو مقبول، أي إذا توبع كما في التقريب ص 475، وقد توبع عند الإماء أحمد 4 \ 221 من حديث أبي لاس، وفي سنده ابن إسحاق وقد عنعن، فكلا الطريقين لا يخلو من ضعف، لكنه ضعف منجبر، فيقوي أحدهما الآخر فيصل إلى درجة الحسن لغيره والله أعلم. وذكره في المطالب العالية - 2 \ 157 - حديث (1924) عن عبد الرحمن بن أبي عميرة مرفوعا بنحوه. قال محققه الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي في الحاشية: قال البوصيري: رجاله ثقات.(48/269)
والتسمية ليست خاصة بالإبل، بل تشرع التسمية عندما يركب المسلم أي دابة.
13 - فعن علي بن ربيعة قال: كنت ردفا لعلي رضي الله عنه، فلما وضع رجله في الركاب، قال: (بسم الله) ، فلما استوى على ظهر الدابة قال: (الحمد لله) ثلاثا، (الله أكبر) ثلاثا، {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (1) {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} (2) ثم قال: (لا إله إلا أنت سبحانك إني قد ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) ، ثم مال إلى أحد شقيه فضحك، فقلت: يا أمير المؤمنين ما يضحكك؟ فقال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم، فصنع كما صنعت، فسألته كما سألتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل ليعجب إلى العبد، إذا قال: لا إله إلا أنت، إني قد ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. قال: عبدي عرف
__________
(1) سورة الزخرف الآية 13
(2) سورة الزخرف الآية 14(48/270)
أن له ربا يغفر ويعاقب (1) » .
وهذا لا يقتصر على ركوب الدابة، بل يشمل كل ما يركبه المسلم من المصنوعات الحديثة، كالسيارة والطائرة وغير ذلك.
ومن الأمور التي تشرع فيها التسمية: عندما يرسل المسلم كلب الصيد أو القوس إلى الصيد.
14 - فعن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت: يا نبي الله: إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد، أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم، وبكلبي المعلم، فما يصلح لي؟ قال صلى الله عليه وسلم: «أما ما ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها، وكلوا فيها، وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكل، وما صدت بكلبك غير معلم، فأدركت ذكاته فكل (2) » .
__________
(1) المستدرك على الصحيحين - 2 \ 98 وما بعدها. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. واقرأ الذهبي في تلخيصه - 2 \ 98 وما بعدها. قلت: فيه فضيل بن مرزوق، وهو صدوق يهم، كما في التقريب، وأخرجه الطبراني في كتاب الدعاء - 2 \ 1160 من عدة طرق، منها الضعيف الذي ينجبر ضعفه، ومنها الصحيح، انظر هذه الطرق من ص 1158 إلى ص 1164.
(2) أخرجه البخاري - كتاب الذبائح والصيد، باب صيد القوس - 9 \ 604 وما بعدها، حديث (5478) . ومسلم - كتاب الصيد والذبائح، باب الصيد بالكلاب المعلمة - 3 \ 1532 - حديث (8) .(48/271)
ويلحق بالكلب: الباز والصقر وأنواع الطيور الأخرى المعلمة. وفي الحديث دليل على جواز اقتناء كلب الصيد، ويكون مستثنى من الحديث الذي حرم اقتناء الكلاب من غير حاجة.
وكذلك على المسلم أن يسمي الله على الذبيحة المقدور عليها.
15 - فعن رافع بن خديج رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله: ليس لنا مدى، فقال: «ما أنهر الدم، وذكر اسم الله فكل، ليس الظفر والسن، أما الظفر فمدى الحبشة، وأما السن فعظم (1) » ، وند بعير فحبسه، فقال: «إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا (2) » فقد علق الحديث حل الذبيحة على أمرين، هما:
__________
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5503) ، صحيح مسلم الأضاحي (1968) ، سنن الترمذي الأحكام والفوائد (1491) ، سنن النسائي الضحايا (4410) ، سنن أبو داود الضحايا (2821) ، مسند أحمد بن حنبل (3/463) .
(2) أخرجه البخاري - كتاب الذبائح والصيد - باب ما أنهر الدم من القصب - 9 \ 631 حديث (5503) . ومسلم - كتاب الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم - 3 \ 1558 حديث (20) . قال في النهاية 1 \ 13: الأوابد جمع آبدة، وهي التي قد تأبدت، أي: توحشت ونفرت من الإنس.(48/272)
1 - إنهار الدم: أي إسالته.
2 - والتسمية.
ومن المعروف أن الأمر المعلق على أمرين، لا يكتفى فيه إلا باجتماعهما، وينتفي بانتفاء أحدهما، فلا بد من وجود الإنهار والتسمية معا على الذبيحة، حتى تكون حلالا (1) .
والمراد من قوله: " وذكر اسم الله " أن يقول الذابح: (بسم الله) ، كما جاء في رواية عند مسلم: " فليذبح باسم الله " (2) .
أما الأضحية فعند ذبحها يسمي الله تعالى ويكبر، كما جاء في صحيح مسلم.
وعندما يتناول المسلم ما أباحه الله له؛ فعليه أن يسمي الله تعالى عندما يبدأ بطعامه أو شرابه، حتى لا يشركه الشيطان في شيء من ذلك (3) .
16 - فعن عمر بن سلمة رضي الله عنه قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام: سم الله، وكل بيمينك،
__________
(1) انظر الفتح الرباني 9 \ 628.
(2) كتاب الأضاحي - 3 \ 1552 - حديث (3) .
(3) انظر صحيح مسلم - حديث رقم عام (2017) والفتح 9 \ 522.(48/273)
وكل مما يليك (1) » . فما زالت تلك طعمتي بعد.
وإذا نسي المسلم التسمية في بداية طعامه أو شرابه، ثم تذكر بعد شروعه، فحينئذ يشرع له أن يسمي الله تعالى حين ذكر.
17 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي أن يذكر الله في طعامه؛ فليقل حين يذكر: بسم الله في أوله وآخره، فإنه يستقبل طعاما جديدا، ويمنع الخبيث ما كان يصيب به (2) » .
ومن الأمور التي يسن فيها البسملة عند إرادة الوقاع، كما جاءت بذلك السنة النبوية.
18 - فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله، قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره (3) » ، وفي رواية: «لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله (4) » ، وفي رواية: «فرزقا ولدا لم يضره الشيطان (5) » ، وفي رواية: «فإن كان بينهما ولد لم يضره
__________
(1) أخرجه البخاري - كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين 9 \ 521 حديث (5376) ، ومسلم كتاب الأشربة، باب آداب الشراب وأحكامهما 3 \ 1599 حديث رقم عام (2022) .
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه كما في موارد الظمآن، ص 226، حديث (226) ، وأخرجه الطبراني في كتاب الدعاء 2 \ 1213، حديث (889) ، وحسن المحقق إسناده.
(3) صحيح البخاري الوضوء (141) ، صحيح مسلم النكاح (1434) ، سنن الترمذي النكاح (1092) ، سنن أبو داود النكاح (2161) ، سنن ابن ماجه النكاح (1919) ، مسند أحمد بن حنبل (1/286) ، سنن الدارمي النكاح (2212) .
(4) صحيح البخاري الدعوات (6388) ، صحيح مسلم النكاح (1434) ، سنن الترمذي النكاح (1092) ، سنن أبو داود النكاح (2161) ، مسند أحمد بن حنبل (1/286) ، سنن الدارمي النكاح (2212) .
(5) صحيح البخاري بدء الخلق (3271) ، صحيح مسلم النكاح (1434) ، سنن الترمذي النكاح (1092) ، سنن أبو داود النكاح (2161) ، سنن ابن ماجه النكاح (1919) ، مسند أحمد بن حنبل (1/243) ، سنن الدارمي النكاح (2212) .(48/274)
الشيطان، ولم يسلط عليه (1) » ، وفي رواية: «ثم قدر بينهما في ذلك أو قضي ولد لم يضره شيطان أبدأ (2) » ، وفي رواية: «فإنه إن يقدر (3) » بالمضارع.
فهذه الروايات المتعددة أخرجها الإمام البخاري في صحيحه متفرقة.
والمراد من قوله: " إذا أتى أهله " الإرادة، كما جاء في بعض الروايات التي تقدمت معنا قبل قليل، فتشرع التسمية عند الوقاع، أي قبل الشروع فيه (4) .
أما المراد بالضرر المنفي الذي جاء في روايات الحديث المتعددة، فقد اختلف أهل العلم في تفسيره والمراد منه.
قال القاضي عياض - كما في شرح صحيح مسلم -:
(قيل: المراد بأنه لا يضره: أنه لا يصرعه شيطان.
وقيل: لا يطعن فيه شيطان عند ولادته بخلاف غيره.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3283) ، صحيح مسلم النكاح (1434) ، سنن الترمذي النكاح (1092) ، سنن أبو داود النكاح (2161) ، سنن ابن ماجه النكاح (1919) ، مسند أحمد بن حنبل (1/286) ، سنن الدارمي النكاح (2212) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5165) ، صحيح مسلم النكاح (1434) ، سنن الترمذي النكاح (1092) ، سنن أبو داود النكاح (2161) ، سنن ابن ماجه النكاح (1919) ، مسند أحمد بن حنبل (1/286) ، سنن الدارمي النكاح (2212) .
(3) أخرجه البخاري مع الفتح - كتاب الوضوء - باب التسمية على كل حال وعند الوقاع 1 \ 242، حديث (141) و 6 \ 335، حديث (3271) و 6 \ 337 حديث (3283) و 9 \ 228 حديث (1565) و 11 \ 191 حديث (6388) و 3 \ 379 حديث (7396) ، ومسلم - كتاب النكاح، باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع - 2 \ 1058، حديث (116) ، وأبو داود - كتاب النكاح، باب في جامع النكاح - 2 \ 249 حديث (2061) ، والترمذي - كتاب النكاح، باب ما يقول إذا دخل على أهله - حديث (1092) .
(4) انظر فتح الباري حديث 9 \ 228(48/275)
ثم قال: ولم يحمله أحد على العموم في جميع الضرر والوسوسة والإغواء) (1) اهـ.
وقال الداودي - كما في الفتح -:
(معنى "لم يضره ": أي لم يفتنه عن دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته من المعاصي) (2) .
وقال مجاهد - كما في الفتح -:
(إن الذي يجامع ولا يسمي يلتف الشيطان على إحليله فيجامع معه) (3) .
ومال الحافظ ابن حجر إلى ترجيح قول مجاهد.
قلت: قول مجاهد رحمه الله بعيد عن الصواب، إذ الحديث صريح في نفي الضرر عن المولود بعد ولادته، بدليل روايات الحديث المتقدمة، ومنها: «لم يضره الشيطان ولم يسلط عليه (4) » .
ولا يخفى على أحد معنى التسليط، ومتى يكون.
ومن الأمور التي تشرع فيها التسمية: وضع الميت في لحده.
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي 10 \ 5.
(2) فتح الباري 9 \ 229. وانظر بقية الأقوال فيه.
(3) فتح الباري 9 \ 229.
(4) صحيح البخاري بدء الخلق (3283) ، صحيح مسلم النكاح (1434) ، سنن الترمذي النكاح (1092) ، سنن أبو داود النكاح (2161) ، سنن ابن ماجه النكاح (1919) ، مسند أحمد بن حنبل (1/243) ، سنن الدارمي النكاح (2212) .(48/276)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وضعتم موتاكم في القبور فقولوا: بسم الله، وعلى ملة رسول الله (1) » .
وهكذا تكون التسمية آخر العهد لهذا المسلم الذي ودع هذه الحياة الفانية، وانتقل إلى عالم آخر مختلف كل الاختلاف عن حياته التي ودعها، والتي كابد فيها إلى أن لقي ربه.
الخاتمة:
من خلال استعراضي لأحاديث التسمية اتضح لي ما يلي:
1 - أهمية التسمية في حياة المسلم.
2 - حفظ الله تعالى للمسلم الذي التجأ إليه وطلب منه العون.
3 - تسلط الشيطان على الإنسان وقدرته العجيبة، وفي الوقت نفسه ضعفه إن استعان المسلم بربه، واعتصم به من شره.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 2 \ 40 و 59 و 127 وما بعدها. قلت: ورجال إسناده ثقات، والترمذي - كتاب الجنائز، باب ما يقول إذا أدخل الميت القبر - 3 \ 364 حديث (1046) ، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.(48/277)
4 - حرص الرسول صلى الله عليه وسلم في تعليم أمته بما ينفعها ويجلب لها الخير والسعادة في الدارين.
وصلى الله وسلم على نبينا ومعلمنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن تمسك بسنته إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.(48/278)
نية الاتباع
د. محمد بن محمد شتا أبو سعد
تمهيد:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فإن المسلم الصادق هو مسلم متبع وليس مسلما مبتدعا؛ ولذا فإنه لا يحتاج إلى صك يثبت صلاح ملته، ولا إلى وصف يدلل به على صفاء عقيدته.
ومع ذلك فإن العالم الإسلامي يموج الآن بتيارات بدعية شركية، خرجت بالأعمال عن حدود العقيدة، وبالتصرفات عن نطاق الإيمان، ومن أهم هذه التيارات الآن، تيار ادعاء الولاية، وانتحال صفة التصوف، حتى باتت الصوفية الحالية، صورة من صور الجاهلية، التي يجب لفظها، والعودة بأتباعها إلى الصراط المستقيم، صراط عقيدة التوحيد، مع من أنعم الله عليهم، ولم ينزل بهم غضبه، أو يهديهم إلى طريق الضلال.(48/279)
ولا شك أن معالجة القضية العقدية القائلة: إن نية الولي ونية الصوفي الحقيقي هي نية اتباع وليست نية ابتداع، تحتاج إلى تشعب في البحث، وتقص في المعالجة، ولكن المدخل الضروري له هو: الوقوف على حقيقة النية ودورها في حياة المسلم، ثم ضرب مثال لأحد أئمة الدعوة إلى الله على بصيرة، من خلال نية صادقة، لم تتخذ ادعاء الولاية إزارا، ولا التصوف دثارا، بل قدمت المثل والقدوة على أنها نية اتباع وليست نية ابتداع ويتعلق هذا المثال بشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وفي إطار ذلك يمكن بمشيئة الله تعالى التوسع في بيان أن نية الولي أو الصوفي هي نية اتباع وليست نية ابتداع، مع بيان الفوارق الحقيقية بين الولي الحق والصوفي الحق، وكل منهما عند وجوده لا يتبع إلا كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه أهل العلم، أما من يدعي الولاية، وينتحل صفة المتصوف، لمجرد الاسترزاق، ومن خلال نشر البدع التي تهدم أصول العقيدة، فإن أمامه سبيل الحق؛ فإما أن يتوب ويلجها، وإما أن ينال سخط الله تعالى، والمعيار الحقيقي لمعرفة مدى سلامة القصد، هو: أن يقف الشخص على حقيقة النية، أي: نية الاتباع ثم يلتزمها، وأن يقف أيضا على المثال الذي نسوقه الآن للنية الصادقة، وهي نية الاتباع، وعليه أن يسير على دربه، فإن فعل كتب له الفلاح في الدنيا والآخرة، وإلا كان من الخاسرين، وأعالج هاتين المسألتين فيما يلي:(48/280)
1 - حقيقة نية الاتباع التي يجب أن يلتزمها الولي أو الصوفي:
أولا: أساسيات:
1 - إن الولي الحق، هو الذي يوالي الطاعة والعبادة، بنية لا يداخلها شرك، وعقيدة لا يتطرق إليها ضلال، ولا يتحقق هذا إلا بأمرين متكاملين: الإيمان من جهة، والتقوى من جهة أخرى، فمن استجمع هاتين الصفتين كان ممن قال الله تعالى فيهم: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (2) .
والولي بهذه المثابة، يعرف أن الإسلام دين عمل لا استغلال، ودين توحيد لا شرك، ودين إخلاص لا مراءاة، ودين سر في العطاء، وعلانية في الرجاء، دين صلاح الفرد والجماعة، ودين ملازمة المسلمين في اتباع هدي رب العالمين، ولذا فإن الولي لا يسعى إلى تفريق المسلمين أو اختلاق ما يشتت جهود أهل السنة والجماعة، أو ابتداع ما يقضي على صفاء عقيدة التوحيد بينهم.
كذلك فإن من يزعم التصوف، عليه أن يتقي الله تعالى، وملاك الأمر بالنسبة له أن يعرف أن الصوفية في حد ذاتها، لا نص عليها في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والملاحظ أن الصوفية بأشكالها الحالية تنطوي على تصرفات حمقاء، وأعمال خرقاء، على نحو يثبت منها لكل ذي بصيرة
__________
(1) سورة يونس الآية 62
(2) سورة يونس الآية 63(48/281)
أن دين الإسلام منها براء، ولذا فإن على من يكرسونها أن يتقوا الله في دينهم، وأن يعودوا إلى طريق أهل السنة والجماعة حيث لا فرق ولا طرق، وحيث يعبد الناس ربهم عبادة يقين لا عبادة المظهريين النفعيين، ولا يغالي الإنسان عندما يقول: إن الصوفية الحالية بما تكرسه من ابتداع إنما هي صورة من صور الجاهلية التي تجابه حياة المسلم في كثير من ديار الإسلام.
2 - وليست الجاهلية هنا سوى جاهلية الأعمال والتصرفات والمفاهيم الخاطئة، ومنها جاهلية الحكم بغير ما أنزل الله وجاهلية التعصب المذهبي، وجاهلية علم الكلام، ثم جاهلية التصوف، وهذه الجاهلية الأخيرة ظهرت واشتهرت بعد انقضاء القرون الثلاثة المفضلة، وقد ظهرت بداية في البصرة على أيدي بعض العباد الذين عرفوا بالغلو في العبادة والزهد، وإذا كانت العبادة والزهد من الأمور الدينية المرغوب فيها، إلا أن المتصوفة غلفوا بهما تصوفهم كإطار شركي نفذوا منه إلى هدم الدين شأن ذلك شأن البدع المحرمة والمتعلقة بالاحتفال بالموالد التي ابتدعها الفاطميون تحت ستار محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل البيت، وهي في الحقيقة زيادة لا يقرها الدين، لا سيما وقد داخلتها شركيات بثها أهل البدع والزندقة(48/282)
والمرتزقة، ولنتذكر فقط زندقة الحلاج الذي قتل لزندقته، وابن عربي، وابن الفارض، وابن عجيبة، وغيرهم ممن حرفوا الدين تحريفا ينقل من يصدقهم إلى مرتبة الكفر.
ودليل ذلك أنهم قسموا الدين الإسلامي إلى قسمين:
الأول: وهو الشريعة الواردة في الكتاب والسنة وهي تخص العوام لا الواصلين.
الثاني: الحقيقة - وهي في زعمهم الباطل أعلى من الحقيقة - ولا تخص العوام، وإنما تخص الواصلين من المتصوفة: أي الزنادقة.
فالتصوف هو: مجموعة من طقوس البوذية والهندوكية واليهودية، وهو لا يمت للإسلام بصلة، فالذكر فيه ليس صلة بين العبد وربه، وإنما هو حركات يطلب معها المدد من غير الله، وهذا من الشرك بالله، فهل المدد من الله الواحد الأحد أم من الطرق الشركية، كالقادرية والتيجانية والرفاعية والبرهامية والبرهانية والميرغنية وغير ذلك من طرق الهراء والشرك برب العالمين؟
إن الجنة لها مفتاح واحد هو الإيمان والتقوى بمنأى عن البدع والدروشة وطلب الغوث من الغوث الأعظم، أو القطب، أو من الأوتار، أو ما إلى هذه الأسماء التي تدل على الرغبة في ابتزاز الفقراء وادعاء الكهنوت في الدين، على نحو يصح معه القول مع الشيخ محمد أمان بن علي(48/283)
الجامي: إن الطرق الصوفية المنتشرة اليوم في العالم الإسلامي قد اتخذت طرقا وأساليب تفسد عقيدة المسلمين السذج، لسلب أموالهم وتغيير مفاهيم الدين، ويكفي أن أصحاب هذه الطرق مختلفون فيما بينهم لاقتسام الغنائم ولا ينفقون إلا على محاربة شريعة الله، ولذا فقد آن الأوان لعودة المسلمين إلى طريق واحدة، هي طريق الله الواحد الذي لا اختلاف فيه، حيث يمكن لنا جميعا أن ننال رضوان الله، شريطة أن نكون من المؤمنين المتقين، لا من المتصوفين أو مدعي الولاية المبتدعين.
وسنلمح عما قليل النية كأساس لعقيدة التوحيد ونبذ البدع عند شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، الذي أعاد إلى الدين الإسلامي صفاءه ونقاءه اللذين ارتضاهما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فأين من هذا مسلك أناس يكرسون السماع والطواف الشركي والبناء على القبور، وإذا نصحتهم، غصت أعينهم بدموع كاذبة، وقالوا: إنما نحن أولياء نقيم حلقات الذكر ونبكي فنطهر قلوبنا.
3 - نعم للقلب أن يرق عند سماع القرآن، وللقلب أن يعتريه الوجل عند استشعار ما فيه من موجبات الإيمان، وللعين أن تدمع وللجلود أن تقشعر، فتلك علامات الخشية والإيمان،(48/284)
ولم يقل الحق تبارك وتعالى إنها علامات التصوف، وإنما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (1) ، وقال جل شأنه {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (2) ، وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} (3) . وفي أثر سماع القرآن على المتقين قال سبحانه: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (4) .
فهذه أنوار اليقين تتلألأ في أفئدة المؤمنين، تجعلهم يزدادون من الله قربا بالطاعة، وعدم المعصية، ولا يشك عاقل أن المباهاة بالإيمان رياء مذموم، ومحاولة إظهار الفضل خطأ في حق المسلم، فإذا بكت العين أمام الناس وهي خاشعة لا متصنعة فهي في مرتبة علية عند الله، ولكن هذا لا يستلزم بناء مقام أو صنم لصاحبها فذلك شرك، أو نعته بأنه صوفي واصل فذلك حرام، ويبلغ الإثم مداه عندما يزكي الإنسان نفسه ليقال عنه: إنه شيخ طريقة أو صاحب مدرسة
__________
(1) سورة الأنفال الآية 2
(2) سورة مريم الآية 58
(3) سورة المائدة الآية 83
(4) سورة الإسراء الآية 109(48/285)
صوفية: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (1) .
4 - إن الدين لا يطالب الناس بما لا يقدرون عليه، وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالتقوى فقد قيدها بالاستطاعة، قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) . وقال سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3) . وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (4) » . رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
لهذا فإن المسلم المتبع غير مطالب بأباطيل البشر ولا بتوجيهاتهم الخاطئة المليئة بالشركيات، فالديان حليم بعباده، وخير الكلام هو كلام الله سبحانه، وهو ينطوي على ما يبشر وما ينذر، وفيه من البشارة أكثر مما فيه من النذارة، وكل الأحكام تدور في فلك الاستطاعة (5) .
وإذا كان كل شيء في الإسلام منوطا بالاستطاعة
__________
(1) سورة النجم الآية 32
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) سورة البقرة الآية 286
(4) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(5) إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، دار الكتب العربية الكبرى بمصر 1334 هـ ج 2 ص 274.(48/286)
والقدرة، فإن هذا لا يمنع بعض خلق الله من الاجتهاد في الطاعة، فإن تقدم في طاعته واجتهاده حتى صار من السابقين المقربين فهنيئا له، وإن اقتصد وكان من أهل اليمين فسلام عليه، وإن أذنب هذا أو ذاك أو أخطأ فعليه المبادرة إلى التوبة، فخير الخطائين التوابون، الذين لا يتمادون في المعصية ولا يبارزون الله بها.
فإذا ما أطلق على هؤلاء اسم الصوفية ما زاد ذلك من قدرتهم شيئا، والأولى أن يأخذ هؤلاء بيد غيرهم تحت شعار واحد هو الإسلام، بلا فرق، ولا طرق، ولا طوائف، ولا تفرق. الإسلام ببساطته المعهودة، وكمالاته المشهودة، وأنواره الممدودة، فليس في الإسلام كهنة ولا كهنوت، وليس فيه تسيد ولا جبروت.
5 - إن الإسلام هو دين النيات الحسنة، ولا مكان فيه للنيات السيئة، ومن حسن النية في الإسلام، ألا يعلن الإنسان عما يفوق غيره فيه من مراتب الإيمان، ولذا فإن الولي الحقيقي لا يتظاهر بالولاية أبدا، ولكن إذا شعر الناس بمكانته، بما شف عنه صادق عقيدته وتواضعه بين خلق الله، وأحسوا أنه مؤمن ورع، فلا يجوز لهما أن يرفعوه إلى مرتبة أعلى من مرتبة إنسانيته؛ لأن الغلو فيه شرك بالله، وإن كان هذا الغلو في سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم، فما بالنا بشخص(48/287)
عادي، ثم إن كلمة الولي قد شاعت حتى ابتذلت، مع أنها لا تعني أي شخص، وإنما تعني: المؤمن من جهة، والمتصف بالتقوى من جهة أخرى.
فهل بلوغ الإنسان مرتبة عالية في الإيمان عند الديان يقتضي اعترافا من الناس؟ إننا في حاجة إلى معلمين للدين، لا إلى طرق الأولياء والمتصوفين.
6 - وفي ضوء ما تقدم يتعين فهم ما ورد في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه من قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب (1) » . . . .
ففي ذلك يقول الإمام النووي رحمه الله: (المراد بالولي هنا: هو المؤمن، فمن آذى مؤمنا فقد آذنه الله، أي: أعلمه أنه محارب له، والله تعالى إذا حارب العبد أهلكه، فليحذر الإنسان من التعرض لكل مسلم) .
لذا فإن إسباغ أوصاف الولاية على الناس، وبناء القبور والقباب لهم شرك، ويفضي إلى إيقاع عامة الناس وبسطائهم في الشرك، حيث يطوفون حول الأضرحة طوافا
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6502) .(48/288)
شركيا، وتلك بدعة تخالف الشرع، بل تهدم أصول التوحيد وتنقضه.
وهذا يستلزم وقوف المسلم على حقيقة مفهوم النية حتى لا تنصرف إرادته إلى ما يخالف شرع الله، أو ينقض عقيدة التوحيد، أو يهدم أسس الإيمان، تحت دعاوى الولاية أو التصوف.
ثانيا: تعريف النية:
1 - مدخل:
كثيرة هي المؤلفات التي عالجت موضوع النية، ومن تعريف الفقهاء للنية يمكن القول إن هذه النية لا بد أن تكون نية اتباع، ولا يجوز مطلقا أن تكون نية ابتداع.
ودليل ذلك أن الشرع خصص النية بالإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء مرضاة الله تعالى وامتثال حكمه (1) ، وهذا أمر يرتبط ببواعث الإنسان (2) ، فالنية إجابة للباعث، وكلما كان الباعث شريفا كانت النية نية اتباع لا نية ابتداع.
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر ط. 1 (الحلبي) ص 30 وما بعدها.
(2) الغزالي، إحياء علوم الدين، المرجع السابق ج 4 ص 362.(48/289)
وقد عالج الفقه علاقة النية بالإرادة، فقال: إن النية أخص من الإرادة، فليس كل من يريد ينوي، ولكن كل من ينوي يريد، ولكن النية أعم من العزم والقصد، والنية لا تتحرك إلا استجابة لباعث معين، والمسلم الصادق: هو الذي يجتهد في أن تكون بواعثه متفقة مع شرع الله، فلا يبتدع بل يتبع، إذ النية كما يمكن أن تنصرف لله عز وجل يمكن أن تنصرف لسواه (1) ، فإن انصرفت لله وحده كانت النية اتباع حيث لا يقصد بها إلا الطاعة والتقرب إلى الله تعالى في إيجاد الفعل (2) ، وهذا ما يرجوه كل مسلم صادق، سواء انصرف قصده إلى الله تعالى قبل الفعل أو قارنه.
2 - التعريف:
ولنا بعد ما تقدم أن نعرف النية في عبارة بسيطة بأنها صورة خاصة من صور الإرادة وهي في حالة كمون في أعماق الإنسان، ومحل النية القلب، ولا حاجة لإظهارها في عبادات الإنسان إلا ما نص عليه، ولكن النية فيما عدا ذلك يجب أن تدل عليها أمارات خارجية تؤكد استجابة إرادة الإنسان لها، بحيث تقترن بالقصد في الفعل المقدور وبالعزم على الفعل المستقبل، سواء حركها باعث معين أو تحركت تلقائيا، وسواء نشدت من وراء ذلك غاية معينة أو
__________
(1) الرعاية لحقوق الله تعالى، للمحاسبي ط. 1 ص 205.
(2) حاشية ابن عابدين، الحلبي، ج 1 ص 105.(48/290)
لم تنشدها، وهي في كل الأحوال ضرورية لتمييز العادات عن العبادات والارتفاع بالعادات إلى مرتبة القربات المثاب عليها، وتحديد درجة العبادة، سواء ألزم الشرع إظهارها أم اكتفى ببقائها في محلها وهو القلب دونما حاجة للتعبير عنها، ولو وقف مدعوا الولاية والتصوف عند هذه الحقائق لما كانت هناك طرق ولا فرق.
3 - ما يترتب على التعريف:
(أ) النية لا تؤثر في الإخلاص، وإنما تتأثر النية بالإخلاص:
بحيث إنه إذا وجد الإخلاص، حسنت النية وأثيب المنتوي إذا تابع بها عقيدة الإسلام ونبي الإسلام، ولكن الدرجة تتفاوت، فهناك المخلص في بعض الأعمال؛ وهذا لا يكفي، وهناك المخلص في كل الأعمال، لأنه جمع بين جوانحه قلبا صالحا، وقد قال صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير الذي رواه البخاري ومسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله (1) » . فإخلاص القلب وصلاحه يقيم دعائم نية سليمة لا تهدف إلا إلى الخير، ولا تتمثل غير التقوى، ولا تتغيا سوى الأمن التام في الآخرة: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} (2) {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (3) .
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(2) سورة الشعراء الآية 88
(3) سورة الشعراء الآية 89(48/291)
والنية التي تتأثر بالإخلاص لا تتجه إلا إلى الله، لذا فإنها إذا لم تتجه في عملها من منطلق الإخلاص تخلفت النية ديانة، ولذا يقول ابن حزم: (فإن نوت النفس بالعمل الذي تصرف فيه الجسد وجها ما، فليس لها غيره، وصح أن الله سبحانه وتعالى لا يقبل إلا ما أمر به، وقد أمر بالإخلاص له، فكل عمل لم يقصد به الوجه الذي أمر الله تعالى به فليس ينوب " أي ذلك العمل " عما أمر الله تعالى به "من عمل ") (1) .
فمن توضأ تبردا، أو تيمم بغير نية، أو مشى بالمناسك دون نية، فإن ذلك لا يجزيه عن الوضوء، أو التيمم، أو الحج المأمور به أو المتطوع به لله تعالى؛ لأنه لم يخلص في كل ذلك لله عز وجل، ولا فعله ابتغاء مرضاته تعالى، ولا نوى به ما أمر به (2) ولانعدام التقوى التي محلها القلب، وانتفاء النية التي هي عمل القلب (3) ، وتخلف الإخلاص، حيث إن المخلص: (هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس؛ من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل، ولا يحب أن
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، ج 5 - 8 ص 706.
(2) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، ج 5 - 8 ص 706.
(3) بدائع الفوائد لابن القيم ج 3 ص 229 (مطبعة القاهرة) .(48/292)
يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله) (1) (فالعمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير صدق وتحقيق هباء) وإذا فكلما كان الإنسان مخلصا كلما كانت النية سليمة؛ لأن النية بغير إخلاص رياء، وفي سبيل التخلص من الرياء لا ينبغي للإنسان أن يترك العمل المشروع؛ لأن ذلك وقوع في مصايد الشيطان ومكايده، ولعل أعظم الأعمال الآن هي الجهاد في سبيل الله، ومعلوم أن: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (2) » ، كما قال المصطفى -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي موسى، الذي رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، أما من قاتل ليقال: إنه شجاع فنيته سيئة وهو في النار شأنه شأن المشرك بالله، والمرائي والمنافق، فهم أشد النيات سوءا، سواء كان الشرك في الربوبية كالشرك النافي للربوبية والمعطل لها، وصورته: قول من يقول بإفك فرعون: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3) وإضافة آلهة أخرى مع الله. . . أو كان شركا في توحيد أسماء الله وصفاته كتشبيه الخالق بالمخلوق في السمع والبصر والاستواء، أو الإلحاد في أسماء الله، وكالشرك في توحيد الإلهية والعبادة،
__________
(1) شرح حديث إنما الأعمال بالنيات لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 20
(2) صحيح البخاري العلم (123) ، صحيح مسلم الإمارة (1904) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1646) ، سنن النسائي الجهاد (3136) ، سنن أبو داود الجهاد (2517) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2783) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) .
(3) سورة الشعراء الآية 23(48/293)
كأن يجعل الناس لله أندادا يدعونهم ويسألونهم الشفاعة، وهو ما نراه كثيرا في أيامنا هذه من المسلمين الغافلين عن أنه لا معبود بحق سوى الله، وأنه لا ند لله، ومثل الشرك الأصغر الذي من صوره: الرياء اليسير، وطلب المنزلة والجاه عند الخلق، أما الرياء فإنه ينقسم إلى أنواع منها: أن يعمل الإنسان عملا صالحا، لا بنية طلب ثواب، وإنما بنية مراءاة الناس فهذا عمل حابط، وقد يقوم بالعمل الصالح طلبا للثواب في الدنيا، ومن يفعل ذلك فلا حظ له في ثواب الآخرة بحسب نيته، وأما النفاق فهو إن كان اعتقاديا فإنه يخرج صاحبه من ملة الإسلام، ويكون ممن قال الله تعالى فيهم من المكذبين بأصول الدين والكافرين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) .
إنه إذا كان إظهار النية باللسان غير مطلوب في العبادات إلا ما نص عليه، فإن أفعال الشرك التي تكون امتناعا عما نهى الله ورسوله عنه، لا تحتاج في الصحيح إلى نية، وتحصل الإثابة على النية العامة، فقد أمرنا الشرع الحنيف باجتناب ما نهى الله ورسوله عنه جملة واحدة، ولا يلزم لذلك استحضار المنهي عنه واستذكاره، ثم إتباع ذلك بنية اجتنابه، ففي هذا من الحرج والمشقة ما لا يخفى، والدين يسر، وقد مثل لذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:
__________
(1) سورة النساء الآية 145(48/294)
(وأما طهارة الخبث فإنها من باب التروك، فمقصودها اجتناب الخبث، ولهذا لا يشترط فيها فعل العبد ولا قصده، بل لو زالت بالمطر النازل من السماء حصل المقصود، كما ذهب إليه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم) (1) .
وقال القرافي في ذلك المعنى إن النواهي: (كلها يخرج الإنسان عن عهدتها بتركها وإن لم يشعر بها فضلا عن القصد إليها) (2) ، كما قال جلال الدين السيوطي: (وأما الترك كترك الزنا وغيره فلم يحتج إلى نية لحصول المقصود منها وهو اجتناب المنهي عنه بكونه لم يوجد وإن لم يكن نية) .
وبالجملة فكل ما لا يخطر بالبال من النواهي بحيث لا يفكر فيها المكلف وهو يجتنبها لا تحتاج إلى نية، ولكن المنهيات إذا قصد المكلف الكف عنها تقربا إلى الله فإنها
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 21 ص477.
(2) القرافي، مخطوطة الأمنية في إدراك النية، لوحة 6.(48/295)
تصير عبادة يثاب صاحبها ما دام قصد ذلك. .
وبالجملة فإن أقسام أعمال المكلفين من هذه الناحية قسمان: قسم يترتب المقصود منه بمجرد وقوعه، فلا يحتاج إلى نية؛ كأداء الديون والنفقات الواجبة وإقامة الحدود وإزالة النجاسات وغير ذلك من الأفعال التي يتحقق مقصودها ومرادها بنفس وقوع فعلها، وقسم آخر لا يحصل مراده بمجرده، بل يحتاج إلى النية (كالتلفظ بكلمة الإسلام، والتلبية في الإحرام، وكصورة التيمم، والطواف حول البيت والسعي بين الصفا والمروة والصلاة والاعتكاف والصيام) (1) وعليه فإن المتعين من العبادات والحقوق لا يحتاج إلى نية التعيين وإنما يحتاج إلى نية القصد والإرادة (2) .
ثانيا: حقيقة النية: حديث: «إنما الأعمال بالنيات (3) » قوامه الإخلاص الذي هو مقصد قرآني بين، وهدف إسلامي كبير، فلا قوام للنية الحسنة بغير الإخلاص، لذا كانت نية العبادة مقرونة به، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (4) . وقال سبحانه: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (5) {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} (6) .
__________
(1) بدائع الفوائد لابن القيم ج 3 ص 223.
(2) الدكتور صالح بن غانم السدلان، الرسالة السابقة ج 1 ص 300.
(3) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(4) سورة البينة الآية 5
(5) سورة الزمر الآية 11
(6) سورة الزمر الآية 12(48/296)
وقال عز من قائل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (1) . ولا مراء في أن الإخلاص يمكن أن يحول عادات الإنسان من أكل وشرب وخلاف ذلك، إلى طاعة يثاب عليها الإنسان، والإخلاص يستلزم النية فلا تتحول العادات إلى عبادات إلا بالنية (2) وإذا كان ذلك هو شأن الإخلاص في العادات، فإن الإخلاص أكثر ضرورة في العقيدة، فلا إيمان بمجرد ترديد ذلك باللسان ما لم يملأ الاعتقاد القلب (3) ويطرد كل الشكوك، وإذا كان الإنسان ليس أهلا للنية فإنه لا تصح عبادته، فالمجنون لا صلاة له ولا عبادة أخرى، ولا تجب عليه الحدود، ولا تصح تصرفاته كبيعه ونكاحه (4) كما أن الإخلاص يستلزم معرفة الإنسان حكم العمل قبل أن يقدم عليه، فالنية تستلزم العلم بالمنوي، والقصد يستلزم العلم بالمقصود (5) ، كما أن الإخلاص كاف لتحقق الثواب وإن لم يأت
__________
(1) سورة الزمر الآية 2
(2) شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد ص 66 (القاهرة تحقيق طه الزيني) .
(3) الملل والنحل للشهرستاني، ج 1 ص 145- 154.
(4) الإحكام في أصول الأحكام للآمدي، ج 1، ص 151 (م. مؤسسة النور بالرياض) .
(5) د. صالح بن غانم السدلان، المرجع السابق ص 67.(48/297)
الإنسان العمل الذي انتواه، ومن يعمل عملا دون إخلاص فإنه لا يثاب عليه، وقد ثبت في الصحيحين من أكثر من وجه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة (1) » ، ومن نوى عمل الخير ولم يستطع إكماله كان له أجره كاملا، ففي الصحيح - مما له شواهد كثيرة- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح مقيم (2) » ، وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن ربك تبارك وتعالى رحيم، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت حسنة، فإذا عملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ولا يهلك على الله تعالى إلا هالك (3) » .
وفي إطار الإخلاص تتحدد ماهية النية، فالنية هي أساس
__________
(1) صحيح البخاري ج 7 ص 178 كتاب الرقاق، وصحيح مسلم ج 1 ص 118 كتاب الإيمان.
(2) أخرجه الإمام البخاري عن أبي موسى الأشعري ج 4 ص 16.
(3) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد.(48/298)
الأعمال كلها والإخلاص جوهرها، والمتابعة شرطها، والعمل الصالح ميزانها، والطاعة هي الحكمة الكامنة وراءها، وحبوط العمل ثمرة فسادها، وهذا ما يجب أن يراعيه كل من يدعي الولاية أو يزعم التصوف، ليكون شأنه شأن كل مسلم مخلص صادق العقيدة. وبيانا لما أجملنا نقول:(48/299)
1 - النية هي أساس الأعمال كلها: فأي عمل لا تكون النية قاعدته أو أساسه هو عمل حابط، إما لانعدام الإخلاص الذي هو جوهر النية، وإما لانطوائه على المراءاة، وإما لتخلف النية كلية، فالنية رأس كل أمر، وهي روح أي عمل، فلا يصح إلا بصحة النية ولا يفسد إلا بفساد النية، وقد جرت سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول أن يكافئ الله كل إنسان: (بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه) (1) وأن يلبس المرائي من المقت والمهانة ما هو اللائق به، فالمخلص له المهابة والمحبة وللآخر المقت والبغضاء (2) ولذا كانت النية شرطا لصحة
__________
(1) ابن القيم في إعلام الموقعين ج 4 ص199.
(2) ابن القيم في إعلام الموقعين ج 4 ص199.(48/299)
كل الأعمال، فلا عمل بلا نية «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » . كما قال الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- في حديث عمر بن الخطاب المشار إليه. وقد قعد ابن حزم في عبارة عامة مجموعة قواعد عن النية كأساس للعمل يمكن القول إنها تتمثل في أمور أهمها: (أ) أنه لا بد لكل عمل من نية. (ب) أن العمل أو التصرف سواء كان حركة أو إمساكا عن حركة لا يصح إلا بنية. (ج) أن من توضأ أو ركع أو سجد بنية الرياء فهو فاسق وعاص، ومن أكل البر دون رغبة في البر بل لؤما وبخلا فآثم، (ومن لبس الوشي المرتفع الذي ليس حريرا بنية الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فمأجور فاضل، ومن لبس بنية التخنث والأشر والإعجاب ففاسق ومذموم، وهكذا جميع الأعمال أولها عن آخرها، فصح أن لا عمل أصلا إلا بنية) (2) .
وعلى ذلك فإن العبادات لا تصح إلا بنية، والنية هي مناط التمييز بين العادة والعبادة (3) ، وهي أساس جعل العادة طاعة، وكل عمل من أعمال العبادات، لا يقترن بنية التقرب إلى المعبود لا يعتد به؛ ذلك أن (نية التقرب والتعبد جزء من نية الإخلاص ولا قوام لنية الإخلاص للمعبود إلا بنية التعبد، فإذا كانت نية
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ج 5 ص 6، 7.
(3) بدائع الفوائد لابن القيم ج 3 ص 230.(48/300)
الإخلاص شرطا في صحة أداء العبادة، فاشتراط نية التعبد أولى وأحرى) (1)
__________
(1) بدائع الفوائد لابن القيم ج 3 ص 230.(48/301)
2 - كما أن الإخلاص هو جوهر النية: وأعلى مراتب النية الإخلاص لله، هي المرتبة التي إن تحققت، صلحت كل أعمال الإنسان سواء كانت عبادات أم عادات، وسواء كانت حركة أم سكونا، والإخلاص لله هو استسلام كامل له، بلا ريب قادح، أو شك محبط للعمل، ولا يتحقق ذلك إلا بتوحيد الله، والبعد عن عبادة أحد سواه، والنأي عن الشرك وإزالة خفاياه، وعدم الاعتماد إلا على رب العرش العظيم، فعندئذ تستقر الحقيقة الإيمانية في أعماق الإنسان استقرار يقين، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (1) .
وبدون الإخلاص في العبادة يخلع الإنسان نفسه من زمرة أهل التوحيد، ويكون واجب المسلمين في هذه الحالة هو التبرؤ منه والبعد عنه، فقوام النية هو الإخلاص، الذي به ترتفع موازين أعمال البشر وترقى حتى يقبلها الله، وما قبله الله لا بد أن يرضى عنه كل من خلقهم.
__________
(1) سورة الزمر الآية 11(48/301)
3 - وشرط النية هو المتابعة: أما الإخلاص فهو أكبر معالم النية، بل هو جوهرها، فلا نية بلا إخلاص، ولكن قد توجد النية ويتجلى فيها الإخلاص، رغم(48/301)
أن الإنسان يغفل أحيانا عن متابعة هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لذا قال أهل العلم: إن المتابعة من أهم شروط النية، فيشترط للنية اتباع هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل ما أمر به وتصديقه في كل ما أخبر عنه واجتناب ما نهى عنه، وألا يعبد الله إلا بما شرع (1) ، ولذا فإن المسلم قد تتوافر لديه نية العبادة وتقوم النية على الإخلاص فتتوافر النية ولكنها لا تحقق غايتها، وسبب ذلك هو تخلف شرطها وهو متابعة سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذلك بالبعد عن البدع واجتناب آثامها، فالمغنية التي تمدح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على صوت أنغام الموسيقى، قد تكون قد قصدت فعلا عبادة الله بعملها والتقرب إليه به وهو مدح رسوله -صلى الله عليه وسلم- من خلاله، ولكن شرط المتابعة لا يكون موجودا فيحبط عملها ويكون وبالا عليها، لأنها لم تمنع صوتها عن أن يسمعه الآخرون فهو عورة، والنية لا تصح بالباطل، ولأنها أسمعت غيرها صوتها على أنغام موسيقى، والموسيقى هي مزامير الشيطان، ولأنها كانت سافرة فأشاعت بذلك الرذيلة، فما لم توجد متابعة فإن شرط النية يتخلف ويصبح وجودها عدما، ولا يجني المسلم من عمله غير المقرون بالمتابعة أي حسنات، بل يضع نفسه موضع من تضاعف لهم السيئات.
__________
(1) الأصول الثلاثة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ص 20.(48/302)
4 - والعمل الصالح هو ميزان النية: وقد بين المثال المتقدم أن صلاح العمل لا يتحدد بحسب نظرة الإنسان إليه، بل بحسب مدى متابعة الإنسان لدينه فيه، امتثالا للقرآن الكريم وعملا بالسنة النبوية المطهرة، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) .
أما إذا كان العمل غير صالح بأن خالف الكتاب والسنة، أو انطوى على بدعة في أمور العقائد والعبادات، أو في أمور العادات التي لنا فيها هدي من الكتاب أو السنة، لا في الأمور المتروكة على حكم الإباحة الأصلية؛ فإن ميزان النية يكون قد اختل وصار صاحب العمل غير الصالح من أهل المعاصي لا من أهل الطاعات.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وإنما يمتاز أهل الطاعة لله عن أهل معصيته بالنية والعمل الصالح كما في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (2) » (3) .
ويزعم مدعو الولاية والتصوف أنهم يأتون أعمالا صالحة، تقرب الناس من شرع الله، وهذا زعم باطل، لأنه يكرسه الابتداع لا الاتباع، ذلك أن العمل الصالح كميزان للنية له خصائصه، فهو عمل اتباعي لا ابتداعي، قوامه صدق العقيدة، وجوهره الامتثال
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) .
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 3 ص394.(48/303)
للهدي النبوي الشريف، وغايته الحق، ولحمته الإيمان، وسداه المسارعة إلى المغفرة، وكل ذلك يحتاج إلى قلب لين مطيع لله، وعقل واع مدرك لأهمية التكاليف، وإرادة صادقة في البحث عن الطريق السوي وملازمته، وعدم الخوض في أمور الدين إلا عن علم ويقين، وطلب الهدى من الله. قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (1) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 125(48/304)
5 - والطاعة هي الحكمة الكامنة وراء النية كما أن حبوط العمل ثمرة فسادها:
الإسلام دين الفطرة، الطاعة فيه لها ثوابها والمعصية فيه لها عقوبتها ما لم يتب فاعلها توبة نصوحا.
وإذا كانت النية أساس أعمال الإنسان، فما ذلك إلا لأنها تجسد إخلاص العبد لله، وعدم الإساءة إلى أحد من عباده ولو في معاملة بسيطة، فإن نوى الإنسان الخير في كل تصرفاته مع رب العباد، فقد حقق الحكمة الكامنة وراء النية وهي طاعة رب البرية.
وطاعة الله المتمثلة في نية إرضائه وعدم الإساءة لخلق الله وعباده- ولو بكلمة نابية- تضفي على المسلم مهابة، لأن سلوكه الظاهر يكون صدى لكامن نيته وداخل سريرته وطويته، فيندفع الناس إلى حبه، فإن أحبه عباد الله أحبه الله ولم يلحقه أذى من بغض أو مقت أو كره. (وأصل كل هذا هو النية الصالحة والعمل(48/304)
المستقيم) (1) ، وهكذا تتحدد المقاصد بالنيات، ولا يوجد خلاف بين أهل العلم في لزوم النية في المقاصد، سواء تعلق الأمر بأعمال الجوارح أو أعمال القلوب (2) والأقوال، فمن حديث معاذ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال " على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم (3) » .
فإذا انعدمت الطاعة انتفت الحكمة الكامنة وراء النية وحبط عمل الإنسان وباء بالخسران المبين سواء تعلق الأمر بعبادات أو عادات أو معاملات.
وبيان ذلك أن حكمة مشروعية النية تكمن في تمييز العادات من العبادات، وتمييز مراتب العبادات بعضها عن بعض (4) فأي فعل كالغسل والذهاب إلى المسجد ودفع المال وملاقاة العدو قد يتم على سبيل العادة، وقد ينوي الشخص إتيانه عبادة لا لمجرد النظافة ولا للراحة ولا للهدية ولا الرياء في الأمثلة المتقدمة وعندئذ تميز النية العادة عن العبادة.
__________
(1) إعلام الموقعين لابن القيم ج 4 ص 199.
(2) قال تعالى: ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم سورة الحج، الآية 25.
(3) رواه الترمذي في كتاب الإيمان، وقال: حديث حسن صحيح.
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي ص 12.(48/305)
كذلك الشأن في العبادات فالنية أساس بيان مراتبها، فالصلاة والصدقات منها ما هو فرض ومنها ما هو نفل على تفصيل، والنية هي التي تحدد مرتبة العبادات من فروض ونوافل. ثم إنه هل (يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما) (1) .
فإذا كان العمل خالصا لله لا تشوبه شبهة رياء ولا مظنة سمعة، ولا طلب دنيا بل التماس الآخرة، كانت النية سليمة والمقاصد سليمة والوسائل سليمة، فحق لصاحب تلك النية أن يناله أعلى الدرجات عند رب البرية، لأن الإنسان يكون قد صرف نيته خالصة لله، والله سبحانه وتعالى يقول {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (2) ، وذلك انطلاقا من نيته العامة المواكبة لإيمانه، ونيته الخاصة المقترنة بعباداته والتي تخصص بها العبادة عما سواها، حيث ترتفع النية بالإنسان في مدارج كمالات الإيمان، فلا ثواب ولا عقاب إلا بنية (3) ، إلا أنه يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في
__________
(1) بدائع الفوائد لابن القيم ج 3 ص 224 وما بعدها.
(2) سورة الزمر الآية 3
(3) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 166.(48/306)
المقاصد (1) ، وإن الإنسان إذا احتال لكي يحلل الحرام أو يحرم الحلال فإنه معاقب شرعا ويجب معاملته بنقيض قصده (2) ، وقد قال سبحانه (3) : {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (4) ، وكذلك فإنه يجب في النية أن تستند إلى علم جازم في العبادات والتصرفات، أو ظن راجح في بعض الحالات، كأكل من يريد الصيام شاكا في طلوع الفجر، حيث يصح صيامه استصحابا للأصل (5) ولاستعماله ما يملك من الوسائل، والله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (6) ، ويلاحظ أن مقاصد اللفظ على نية اللافظ، ويستثنى من ذلك الحلف فإنه على نية المستحلف كقاعدة عامة ترد عليها بعض الاستثناءات.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 158.
(2) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم ج 1 ص 371.
(3) انظر تفسير القرطبي ج 18 ص238- 244.
(4) سورة البقرة الآية 276
(5) المهذب في فقه الإمام الشافعي ج 1 ص182.
(6) سورة التغابن الآية 16(48/307)
ثالثا: الأحكام الشرعية التي لا قوام لها بغير النية: هذا موضوع جليل القدر عظيم الفائدة، نبدأه بدور النية في باب العقيدة ثم نتبع ذلك بتناول الأمور الشرعية التي ترتبط بالنية(48/307)
ارتباطا وثيقا، أولا: في مجال العقيدة والتوحيد. وثانيا: في مجال المعاملات الشرعية، وهدفنا من ذلك هو إيقاف من يزعمون الولاية أو يدعون التصوف أنه لا وزن لعادة أو عبادة بلا نية.(48/308)
أولا: النية في أمور العقيدة والتوحيد ومتعلقاتها من العبادات: 1 - عموميات: تقوم العقيدة الإسلامية على إخلاص العمل لله، أي إفراده سبحانه بالعبادة، والعبرة في ذلك هي بصدق النية، ولذا لا يجوز صرف العبادة لغير الله، ومع النية الصادقة يبقى الإنسان رغم جميع الكبائر تحت مشيئة الله، إن شاء عذب على ارتكابها وإن شاء غفر لمقارفها، طالما لم يرتكب كبيرة الشرك. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) .
وعلى الإنسان أن يلتمس كافة الطرق المؤدية لزيادة الإيمان، وذلك بالطاعات والاستغفار والتقليل من استعمال المباحات والتورع عن المشتبهات، ولكنا نشير إلى أنه طالما كانت النية حسنة فإن المعاصي التي لا تنافي العقيدة لا يكفر بها الإنسان، ولقد كان شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب من أكثر علماء
__________
(1) سورة النساء الآية 48(48/308)
الإسلام اهتماما بالنية في مجال العقيدة. ونجتزئ الآن ببعض آرائه الإسلامية في بعض مؤلفاته القيمة، لتكون هاديا ومرشدا لمن أراد إخلاص نيته لله، بلا فرق ولا طرق، بل على نهج واحد مستقيم، هو نهج السلف الصالح.(48/309)
النية وكتاب كشف الشبهات: كشف الشبهات هو من أهم كتابات شيخ الإسلام المصلح محمد بن عبد الوهاب، ومن يتتبع فكرة اعتداد الإمام بالنية، يعجز عن حصر المنصوص عليه فيه، والمفهوم منه. ولذا فإن الاكتفاء في هذا الصدد بالأمثلة يجزئ. ولا شك عنده في سوء نية من: 1- (يتركون المحكم ويتبعون المتشابه) (1) وهذا هو شأن بعض متصوفة اليوم.
2 - ومن يقر أن الله فرض عليه إخلاص العبادة لله وهو حقه ثم يدعو في حاجته نبيا أو غيره (2) ، وهذا مسلك يقره كثير ممن يدعون الولاية.
__________
(1) انظر مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ج 1 (جامعة الإمام محمد بن سعود) ص 161 وما بعدها.
(2) انظر مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ج 1 (جامعة الإمام محمد بن سعود) ص 164.(48/309)
3 - ومن صدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في شيء وكذبه في شيء فهذا كافر لم يدخل الإسلام (1) .
وسنعود إلى هذا الكتاب لاحقا بمشيئة الله تعالى، فلماذا لا يقول دعاة التصوف ذلك للناس، وكيف يقولون؟ وهم يبيحون الاستغاثة بغير الله بإطلاق، ويقرون الطواف الشركي.
__________
(1) انظر مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ج 1 (جامعة الإمام محمد بن سعود) ص 171.(48/310)
النية وثلاثة الأصول: ومن الأمثلة التي تدل بجلاء على سوء نية صاحبها عدم اتباع ما ورد في ثلاثة الأصول للإمام محمد بن عبد الوهاب من هدي، ومن أنه يجب على الإنسان تعلم أربع مسائل: (الأولى: العلم: وهو معرفة الله ونبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
والثانية: العمل به. والثالثة: الدعوة إليه. والرابعة: الصبر على الأذى فيه) (1) .
فعدم تعلم هذه المسائل يعني أن ضمير الإنسان قد زاغ من الهدى، فلم يحاول معرفة الله الهادي لأقوم سبيل، وأن إرادة الإنسان قد ضعفت فلم تتجه صوب الإسلام لتعرف دينه بالأدلة، وأن عزيمة الإنسان قد فترت فلم يعمل بما هداه إليه دينه، بل لم
__________
(1) انظر مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ج 1 (جامعة الإمام محمد بن سعود) ص 185.(48/310)
يصبر على الأذى في سبيله.
إن الإنسان المسلم يجب أن يوجه اختياره صوب الأقوم والأسلم، وهذا يقتضي مغالبة النفس، لكي تنحو الإرادة وتتجه نحو طريقها السليم وسبيلها القويم، فإن ركن الإنسان إلى الاستكانة فغلبته شهوته وشقوته، فقد تيقن أمر سوء نيته، وضعف قدرته. ومن الخطأ تصور أن قدرة الإنسان على الصعود صوب كمالات دين الرحمن يمكن أن تنهار لأسباب لا تنبع من ذات الإنسان، فالإنسان هو الذي يختار، وهو الذي يتحرك في إطار ما يختار في ضوء شرع الله.
ومثل ذلك يمكن أن يقال عما ورد في القواعد الأربع (1) ، ذلك أنه إذا كان الشرك يفسد العبادة إذا داخلها أو دخل فيها، وكان الكفار الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقرين بأن الله تعالى هو الخالق المدبر، وأن ذلك لم يدخلهم في الإسلام، وأنهم يقولون ما دعوناهم إلا لطلب القربة والشفاعة. وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاتل من عبد غير الله سواء كان قد عبد الملائكة أو الأنبياء أو الأشجار أو الأحجار أو الشمس أو القمر، وأن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين، لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركوا زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة، فإن لازم ذلك أن
__________
(1) جاء في الإشارات الإلهية لأبي حيان التوحيدي تحقيق د. وداد القاضي بيروت 1973 م ص 197 وما بعدها.(48/311)
الشرك ينطوي على نية خبيثة، حيث لم يستطع الإنسان أن يوجه إرادته صوب كل ما يقربه من دينه الخالص بحيث يعتقد اعتقادا جازما أنه لا نجاة بغير التوحيد المطلق توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
والذي لا شك فيه أنه كلما دعم الإنسان نفسه بقوة أخلاقية، كانت نيته أسلم وطاقته أعظم وقدرته على الاقتراب من الحق أوضح، ولا سبيل لذلك إلا باتباع هداية الله كما وردت في كتابه الكريم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) ، فبفضل الإرادة المستندة إلى الطاقة الروحية المنبثقة من هدي القرآن يستطيع الإنسان أن يتحدى غرائزه، وأن يكبح جماح نوازعه، وأن يتغلب على الظروف التي تجابهه، وعندئذ تصفو نفسه، وتحسن نيته ويكون أقدر على الانطلاق صوب المثل الدينية العليا ولو بالتضحية، فلا يخلد إلى الأرض متبعا هواه، ولا يسير على طريق ضلالة الآباء، ولا يحب الفواحش ولا يقبل الفتنة، بل يصبح مهتديا لا ضالا، مستجيبا للحق لا واقعا في إسار الإغراء، محبة للإيمان لا راكنا إلى العصيان، شاكرا أنعم الله لا متسخطا على ما أعطاه إياه، متحكما في نفسه الأمارة بالسوء، لا مستجيبا لهواه، منيبا إلى الله، باحثا
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9(48/312)
عن سبل هداه.(48/313)
النية وباب فضل الإسلام: في الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود السبت وللنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة. نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة (1) » ، إن لازم ذلك هو وجوب الالتزام بكل ما يؤكد احترام يوم الجمعة، ولا يجادل في ذلك أو يحول دونه إلا من ساءت نيته، فلم يبحث عن مفاتيح التقوى التي توصله للمقام السعيد، والظل الممدود، والمساكن الطيبة، والجنة العالية، حيث ما القيم أبقى والفرحة أمضى، والسعيد من نال الرضوان من عباد الرحمن، بعيدا عن سعير جهنم وهو السعير المرصود للظالمين، الذين حبطت أعمالهم، وساءت نياتهم، ممن {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} (2) وبالتالي فهم عنه محجوبون، ومن نظرته إليهم محرومون، وفي تزكيته إياهم لا يطمعون، ومن أجل هذا فإن يوم الجمعة يجب أن يكون لأصحاب النيات الحسنة مفتاح انطلاق، وسبب انعتاق من النار، فأكثر أهلها ممن ساءت نياتهم وخبثت طويتهم.
__________
(1) انظر: (قرة عيون الموحدين في تحقيق دعوة الأنبياء والمرسلين) ، للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ط. 2، دار مصر للطباعة ص 406.
(2) سورة النساء الآية 168(48/313)
إن سوء النية يتكاثر كلما تقادم الزمان، وممن تسوء نياتهم من يأتون أفعالا ثلاثة تجعلهم أبغض الناس إلى الله، على ما أورده الإمام محمد بن عبد الوهاب في (باب وجوب الإسلام) (1) فقد أورد ما جاء في الصحيح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه (2) » رواه البخاري، فهل ما يبتدعه بعض أهل زماننا يختلف عن سنن الجاهلية؟! .
إن هؤلاء الناس تجتمع فيهم أسوأ النيات وأخبث الإرادات، وأردأ الصفات، وهي أمور تجعلهم أبغض خلق الله إلى الله سبحانه وتعالى، وأكثرهم بعدا عن جنات رحمته، فقد كفروا به كفرا عظيما، ووثقوا كفرهم بجعل أنفسهم أدنى من الأنعام ضلالا، فهذا ملحد في الحرم، وذلك مبتدع في الإسلام سنة جاهلية، وثالثهم بلغ به التجني حد الرغبة في قتل المسلم دون وجه حق.
وسوء النية غالبا ما يخرج بالإنسان عن الإسلام، ومن هذا القبيل من لم يسلم قلبه لله فهو إنسان سيئ النية، وقد روي «عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام فقال: " أن تسلم قلبك لله، وأن تولي وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة (3) » رواه أحمد.
__________
(1) كتاب كشف الشبهات السابق، ص 207، 208.
(2) صحيح البخاري الديات (6882) .
(3) سنن النسائي الزكاة (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (5/3) .(48/314)
وشأن هذا شأن من يتخذ غير الإسلام دينا (1) ، ومن لا يستعين بمتابعة القرآن (2) ، ومن يخرج عن دعوى الإسلام (3) ، ومن لا يدخل في الإسلام كله ويترك ما سواه (4) ، ومن يبتدع أو يدعو إلى ضلالة (5) ، ومن لا يوفقون إلى التوبة (6) ، ومن يرغب عن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (7) ، ومن لا يتبع الصراط المستقيم ويقم وجهه للدين حنيفا (8) ، ومن لا يتمسك بالكتاب حين يترك ولا يعمل بالسنة حين تطفأ (9) . ولا شك أن الفرق والطرق لا تقف عند هذه الحقائق، وإلا لعادت إلى طريق السلف الصالح.
ويعتبر سيئ النية كذلك، كل من والى أعداء الإسلام، وكل من يتعبد بعبادة لا يتعبدها أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- (10) ، ومن يعمل عملا يشرك فيه مع الله غيره (11) ، ولا يقر بتمجيد الله نفسه ويقدره
__________
(1) كتاب كشف الشبهات، ص 210.
(2) كتاب كشف الشبهات السابق، ص 211.
(3) كتاب كشف الشبهات، ص 212.
(4) كتاب كشف الشبهات، ص 213.
(5) كتاب كشف الشبهات، ص 215، 216.
(6) كتاب كشف الشبهات، ص 217.
(7) كتاب كشف الشبهات، ص 218.
(8) كتاب كشف الشبهات، ص 219- 222.
(9) كتاب كشف الشبهات، ص 224.
(10) كتاب كشف الشبهات، ص 225 باب التحذير من البدع.
(11) كتاب أصول الإيمان من كتاب كشف الشبهات ص 232 وما بعدها.(48/315)
حق قدره (1) ، ومن لا يؤمن بالقدر (2) ، ومن لا يؤمن بالملائكة وبما جاء فيهم (3) ، ومن لا يتبع ما أنزل الله (4) ، ومن لم يؤت النبي حقوقه وحقه الأول هو الإيمان بما جاء به (5) ، ومن لا يترك البدع (6) ، ومن لا يطلب العلم بالكيفية المحددة (7) ، ومن لا يلزم حسن الخلق ويعمد إلى الثرثرة والتشدق والتفيهق (8)
__________
(1) كتاب كشف الشبهات، ص 240.
(2) كتاب كشف الشبهات، ص 256.
(3) كتاب كشف الشبهات، ص 248- 255.
(4) كتاب كشف الشبهات، ص 256.
(5) كتاب كشف الشبهات، ص 260.
(6) كتاب كشف الشبهات، ص 262.
(7) كتاب كشف الشبهات، ص 266.
(8) كتاب كشف الشبهات، ص 275.(48/316)
النية وكتاب المستفيد في كفر تارك التوحيد: هذا الكتاب ورد ضمن مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب في المصدر السابق، وهو نص في نية الاتباع، فهو يبين مآل من تسوء نيته ويترك عقيدة التوحيد، فيكفر، وإذا كان المقام لا يتسع الآن لمجرد ذكر أساسيات الموضوع إلا أنه تجدر ملاحظة أن من أعظم الأسباب الموجبة لكون الإنسان من شر الدواب هو عدم الحرص على تعلم الدين (1) فهذا التعلم أمر ضروري لأن الزمان يتغير حتى تعبد الأوثان، والعلم الصادق هو العاصم من ذلك.
__________
(1) كتاب كشف الشبهات، ص 284.(48/316)
وإثبات حسن النية بطلب العلم هو العلاج من الضياع الديني، ومعاداة أعداء الله من الكفار والمرتدين والمنافقين والمرجفين والمغرضين، وهذا ما تؤكده رسائل الإمام ذاتها، فقد ورد في الرسالة الأولى عن مسائل الجاهلية ما يدل على الاعتداد بالنية الحسنة ووجوب التحصن بها للسير في فلك دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكل ما يهدينا إليه من أمور خالف فيها -صلى الله عليه وسلم- أهل الجاهلية الذين أشركوا فجاء هو بالتوحيد، وتفرقوا في دينهم فدعانا إلى الاعتصام بحبل الله، وخالفوا ولي الأمر فأمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالصبر على جور الولاة وألزمنا بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، ودعانا إلى الاجتهاد وعدم التقليد وعدم الاغترار بالأكثر، وعدم الاقتداء بفسقة العلماء، وعدم الاستدلال بالقياس الفاسد، وعدم إنكار القياس الصحيح، وعدم الغلو في العلماء والصالحين، وعدم الاعتياض عما أتانا من الله بكتب السحر، وعدم نسبة الباطل إلى الأنبياء، وعدم التعبد بالمكاء والتصدية، وعدم اتخاذ الدين لعبا ولهوا، وعدم اعتقاد أن عطاء الله يدل على رضاه، وعدم الكفر بالحق، وعدم التعبد بكشف العورات أو بتحريم الحلال، أو باتخاذ أناس أربابا من دون الله أو بالإلحاد أو بالتعطيل، أو بجحود القدر أو بالاحتجاج على الله به، أو معارضة شرع الله بقدره، أو مسبة الدهر، أو إضافة نعم الله إلى غيره، أو الكفر بآيات الله أو جحد بعضها، أو القدح في حكمة الله، أو التعصب أو تحريف الكلم عن مواضعه، أو لي الألسنة بالكتاب، أو افتراء الكذب على الله، أو التكذيب بالحق، أو الزيادة في العبادة، كما يحدث في أمور كثيرة(48/317)
الآن، ومنها كل ما يتعلق ببدع يوم عاشوراء، أو ترك الواجب ورعا، أو التعبد بترك زينة الله، أو دعوة الناس إلى الضلال بغير علم، أو دعوتهم إلى الكفر مع العلم أو المكر الكبار كفعل قوم نوح أو ادعاء محبة الله مع ترك شرعه، أو الفخر بالأحساب أو الطعن في الأنساب، أو الاستسقاء بالأنواء، أو الافتخار بولاية أهل البيت، أو بكونهم من ذرية الأنبياء، أو الإعراض عما جاء من الله، أو تعظيم الدنيا في القلوب، أو ازدراء الفقراء، أو التكذيب بلقاء الله، أو الكفر بالرسل والكتب، أو لبس الحق بالباطل، أو كتمان الحق مع العلم به، أو التفريق بين الرسل أو صد من آمن بالله عن سبيل الله، أو مودة الكفر والكافرين، أو التحاكم إلى الطاغوت (1) فإذا كان مدعو الولاية والتصوف يعتقدون ذلك؛ فأين دورهم في تطبيق شرع الله في بلادهم؟! .
__________
(1) كتاب كشف الشبهات من ص 281 حتى 352.(48/318)
النية والقواعد الأربع التي تدور الأحكام عليها: نشير إلى هذه القواعد بإيجاز من منظور النية: القاعدة الأولى: تحريم القول على الله بلا علم، لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} (1)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33(48/318)
إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) فمن حسن نية المؤمن إذن ألا يقول على الله بلا علم، وألا يدخل في الدين ما ليس منه، ولا يكاد المسلم يجد ممن يدعون الولاية والتصوف من يراعي ذلك.
القاعدة الثانية: إن كل شيء سكت عنه الشارع فهو عفو لا يحل لأحد أن يحرمه أو يوجبه أو يستحبه أو يكرهه لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (2) . ولا شك أننا نعيش الآن زمنا يكفر فيه الناس بعضهم البعض، ويقوم العامة فيه بالتحليل والتحريم، وكل ذلك مما لا يتفق مع عقيدة التوحيد، وما تستلزمه من نيات حسنة ولذا فإن من حسن النية ألا يتكلم في الحلال والحرام غير الراسخين في العلم، ومن سوء النية أن يسلك المبتدعون مسلكا مغايرا.
القاعدة الثالثة: لا يجوز ترك الدليل الواضح والاستدلال بلفظ متشابه، لأن هذا هو مسلك أهل الزيغ وطريقهم، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} (3) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة المائدة الآية 101
(3) سورة آل عمران الآية 7(48/319)
القاعدة الرابعة: هي التي بينها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «إن الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات (1) » . ويقودنا هذا إلى القول أنه من حسن النية اتباع الصحابة رضي الله عنهم (2) ، فلقد أثنى الله على من اتبعهم. {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} (3) لا سيما وأن أحدا منهم لم يسألنا أجرا، وكلهم منيب إلى الله (4) ، وهم مصفون من الخطأ، وهم ممن أوتوا العلم، وممن يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهم أئمة الصادقين، وقد جعلهم الله أمة خيارا عدلا (5) ، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة (6) » وقال ابن مسعود: (اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) (7) .
ليس حسن النية إذا بعدا عن كتاب الله ولا عن سنة نبيه ولا عن تتبع نهج الخلفاء الراشدين، ولا عن إجماع علماء الأمة، وبل
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(2) انظر القسم الثاني، المجلد الثاني من مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ص 6.
(3) سورة التوبة الآية 100
(4) انظر القسم الثاني، المجلد الثاني من مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ص 14.
(5) انظر القسم الثاني، المجلد الثاني من مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ص 15- 17.
(6) انظر التفاصيل في المجلد الثاني من مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب 33.
(7) انظر القسم الثاني، المجلد الثاني من مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب ص 33.(48/320)
إن حسن النية لا يوجد ولا ينبغي له أن يوجد إلا من خلال مصادر التشريع الإسلامي (1) ، وتحكيم شرع الله سبحانه وتعالى، وإلا فماذا يعني قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (2) ، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) ، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدأ: كتاب الله وسنتي (4) » . أو قوله: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي (5) » إن سبيل الحق واضحة بينة، فمن صلحت حاله، وحسنت نيته، فعليه بالتزامها، وعدم السير في غيرها من طرق الباطل، لأن النية الصادقة هي الإرادة الإنسانية متجهة إلى عقيدة التوحيد (6) ، جاعلة إياها جوهر مضمونها، وأساس وجودها وقمة غاياتها.
__________
(1) انظر أبا إسحاق الشاطبي، الموافقات، ج 3، ط 2 (1395 هـ) ص 5 وما بعدها في الأدلة الشرعية ثم ص 345.
(2) سورة يوسف الآية 40
(3) سورة النحل الآية 44
(4) موطأ مالك الجامع (1661) .
(5) د. ناصر بن عقيل بن جاسر الطريقي، القضاء في عهد عمر بن الخطاب ج1-1406 هـ ص 16، 89 \ 8..
(6) انظر د. علي عبد المنعم عبد الحميد، العقيدة الإسلامية 1400هـ الكويت- ص 10-16.(48/321)
النية في مجال العبادات: لا عبادة بلا نية، ولا أداء للعبادة إلا على أساس الاتباع لا الابتداع، وفقه الشريعة هو المناط ولا عبرة بدروشة أو غلو،(48/321)
ويتضح ذلك مما يلي:(48/322)
النية والطهارة: ولما كانت النية في عقيدة التوحيد لها هذا الدور البارز، لذا لم يكن عجبا أن تكون هي الأساس الذي تدور حوله عبادات وعادات وأعمال وتصرفات الإنسان.
فالنية (شرط لطهارة الأحداث كلها والتيمم) .، وللمؤمن أن يفخر بأن دينه ليس فقط دين الطهر والطهارة، بل أيضا دين تحكيم النية في كل مسائله.، ولا سيما ما يتعلق منها بذات علاقة الإنسان بالديان؛ فنية الطهارة هي شرط من شرائط الطهارة من كل الأحداث، فلا يصح وضوء بدونها، ولا غسل مع انتفائها، ولا تيمم إلا بها ومحل النية هو القلب، فمتى انتوى الإنسان بقلبه، فقد أجزأه ذلك عن التلفظ باللسان، أما إن لم تخطر النية على قلب راغب التطهر، فإن إتيان فعل التطهير لا يحقق جوهر التطهير المطلوب شرعا، لأنه ليس هناك عمل شرعي بدون النية.(48/322)
ويلزم تقديم النية على الطهارة، لأن النية شرط لتحققها، ولذا فإنه لا عبرة بما قدمه الإنسان من واجبات الطهارة قبل النية، ويجب أن تكون النية قبل الطهارة بزمن يسير ويستحب شرعا استصحاب النية لحين الانتهاء من أعمال الطهارة، وإذا انتوى الإنسان عدم قطع نيته كفاه ذلك حتى وإن غابت عنه، وما وقع من الطهارة قبل تغيير نية الطهارة يظل صحيحا، وإذا شك الإنسان في نيته أثناء الطهارة فإن ما فعله لا يصح، بعكس ما لو شك بعد فراغه من الطهارة، حيث تصح الطهارة، لأنه يكون شكا في العبادة بعد أدائها وهي لا تزول بالشك.
وصفة الطهارة الشرعية أن يقصد العبد بها استباحة شيء لا يستباح بغير الطهارة، كالطواف، فبالطهارة يزول المانع ويباح الشي (1) فالطهارة الحسية إذا هي رفع ما يمنع الصلاة من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع حكمه بالتراب (2) سواء تعلق الأمر بالطهارة الكبرى من الجنابة والحيض، أو بالطهارة الصغرى من الأحداث الصغيرة بالوضوء فهاتان الطهارتان هما قسيما طهارة الحدث. كما يلزم تطهير الثوب والبدن من النجاسة الطارئة، ويجب أن يكون المسلم طاهرا أيضا طهارة معنوية وذلك بإخلاص العبادة لله وحده،
__________
(1) انظر التفاصيل في المغني لابن قدامة ج 1 ص 110- 114.
(2) المصباح المنير ج 2 ص 449، المطلع على أبواب المقنع، لأبي عبد الله محمد بن أبي الفتح الجندي ص 5.(48/323)
ولا إخلاص إلا مع الاتباع ونبذ الابتداع.(48/324)
الوضوء والنية: النية شرط في صحة الوضوء عند جمهور الفقهاء مالك والشافعي وأحمد (والظاهرية) لأن الوضوء داخل في عموم الأمر بالإخلاص، والإخلاص هو قوام النية قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (1) ، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (2) فلا وضوء بلا نية قلبية.
وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «الطهور شطر الإيمان (3) » رواه مسلم وروي كذلك عن عثمان بن عفان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره (4) » وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء (5) » ولا يجوز أن يكون
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة المائدة الآية 6
(3) صحيح مسلم الطهارة (223) ، سنن الترمذي الدعوات (3517) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (280) ، مسند أحمد بن حنبل (5/342) ، سنن الدارمي كتاب الطهارة (653) .
(4) صحيح مسلم الطهارة (245) .
(5) صحيح البخاري الوضوء (136) ، صحيح مسلم الطهارة (246) ، سنن النسائي الطهارة (150) ، سنن ابن ماجه الزهد (4306) ، مسند أحمد بن حنبل (2/400) ، موطأ مالك الطهارة (60) .(48/324)
تقدم النية على أول الطهارة طويلا، ولا يلزم اتصال النية بالطهارة كما يرى ابن حزم..(48/325)
النية والتيمم: ومما يثلج صدر المسلم، أن يشعر أن علماء الإسلام حدثوه عن النية حتى في التيمم، فمهدوا له سبيل إخلاص القلب في العبادة.
فالتيمم لا يصح إلا بنية، ولا خلاف بين أهل العلم في أن التيمم لا يصح إلا بنية، وذلك بصرف النظر عما ذهب إليه الأوزاعي والحسن بن صالح من جواز التيمم بدون نية (1) ، وتنصرف نية التيمم إلى استباحة الصلاة، ولا خلاف بين أهل العلم على أن طهارة التيمم لا ترفع الحدث إذا تم العثور على الماء، فإذا وجد الماء وجب إعادة الطهارة، سواء كان الإنسان جنبا أم محدثا، وإنما حكي عن أبي حنيفة أن طهارة التيمم ترفع الحدث، كطهارة الماء، لأن التيمم يبيح الصلاة.
واختيار ابن قدامة -رحمه الله- أنه (لو وجد الماء لزمه- أي المتيمم- استعماله لرفع الحدث الذي كان قبل التيمم إن كان جنبا أو محدثا أو امرأة حائضا، ولو رفع (أي التيمم) الحدث، لاستوى
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني ج 1 ص 196، إرشاد المسترشد ج1 ص 96.(48/325)
الجميع، لاستوائهم في الوجدان، ولأنها طهارة ضرورية، فلم ترفع الحدث، كطهارة المستحاضة، وبهذا فارق الماء) .
والنية هي التي تحدد أثر التيمم بالنسبة لنوع الصلاة، فإن نوى المتيمم بتيممه أداء فريضة، كان له أن يصلي به ما شاء من الفروض والنوافل. أما إن نوى به النفل دون الفرض لم يكن له أن يصلي به سوى النفل. وفي كل الأحوال يباح بالتيمم قراءة القرآن، ومس المصحف، والطواف، واللبث في المسجد، وإن نوى المتيمم بتيممه قراءة القرآن لأنه كان جنبا، أو نوى به البقاء في المسجد أو مس المصحف، لم يكن له أن يفعل به أمرا آخر خلاف ما نواه، لأنه لم يستبح به غير ما انتواه.
وإذا نوى بالتيمم رفع الجنابة لم يجزه ذلك عن الحدث الأصغر، ولكن إذا نوى الجميع وعين ما يتيمم له من حدث أصغر وجنابة وحيض ونجاسة أجزأه.
ويلاحظ أن النية لا تبطل القواعد الأصولية الشرعية، لذا فإن المتيمم إذا قدر على استعمال الماء بطل تيممه، وبالتالي يلزمه الوضوء إن كان محدثا، ويجب عليه الاغتسال إن كان جنبا.(48/326)
النية والصلاة: لا تنعقد الصلاة إلا بالنية، وبيان ذلك أن الصلاة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع وجوبا يقتضي توافر هذه النية، فقد قال عز من قائل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1) . والإخلاص مكانه القلب، وهو عمله، ومن ينوي الصلاة يقصد الله وحده، ويريده وحده دون سواه، وما دام محل النية هو القلب، فإنه لا ضرورة للنطق أو التلفظ بها.
وتنصرف نية المصلي في الصلاة المكتوبة إلى الفعل من جهة والتعيين من جهة أخرى، حيث يلزم انتواء صلاة بعينها كالظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء أو الصبح، وإذا تعلق الأمر بصلاة فائتة وعينها بقلبه، فإنه لا يحتاج إلى استجماع نية القضاء، ولو نوى الشخص أداء الصلاة في وقتها، وبان أن وقتها قد خرج وقعت صلاته قضاء دونما حاجة إلى نية، والعكس صحيح، فلو ظن أن وقت الصلاة قد خرج، فنوى قضاءها واتضح أنها في وقتها، فإنها تقع أداء- لا قضاء- من غير نية.
وإذا كان على الشخص فوائت صلوات، فنوى قضاء صلاة غير معينة منها، فإن ذلك لا يجزئه عن أي واحدة منها لأنه لم يعينها.
ولو نسي صلاة ولم يدر هل كانت ظهرا أم عصرا وجب عليه قضاء صلاتين،. فإن صلى صلاة واحدة نوى أنها هي الصلاة الفائتة لم يجزه؛ وذلك لعدم تعيين الصلاة، كذلك فإن تعيين الصلاة لا
__________
(1) سورة البينة الآية 5(48/327)
يقتصر على الصلاة المكتوبة بل ينصرف أيضا إلى بعض النوافل، فالنوافل المعينة مثل صلاة الكسوف، وصلاة الاستسقاء، وصلاة التراويح، والوتر، والسنن الرواتب، كلها تحتاج إلى تعيين، أما النوافل المطلقة مثل صلاة الليل فهي غير معينة ولذا يكفي فيها مجرد نية الصلاة.
ولما كانت النية عزما جازما، فإن الصلاة المترددة بين الإتمام والقطع لا تصح، لأن التردد ينفي الجزم، وإذا تلبس المصلي بالصلاة بنية صحيحة، ثم نوى قطع تلك الصلاة فإنها تبطل عند الشافعي، وقال أبو حنيفة إنها لا تبطل لأنها عبادة صح دخول المصلي فيها فلم تفسد بنية الخروج منها كالحج، ويقول صاحب المغني: (إنها تفسد إذا قطعت قبل إتمام الصلاة لذهاب شرطها، بخلاف الحج فإن الحاج لا يخرج منه لمجرد مقارفة محظوراته أو مفسداته) .
والذي يتم استصحابه بداهة هو حكم النية، وليس حقيقة النية، لاستحالة ذلك ولأن النية لا تعتبر حقيقتها في أثناء العبادة، ولذا فإن الإنسان إذا ذهل عن النية في أثناء الصلاة ظلت صلاته صحيحة، لكن لو شك المصلي في أثناء الصلاة هل نوى أو لم ينو،(48/328)
أو شك في تكبيرة الإحرام، كان عليه أن يستأنفها، وإذا أحرم الإنسان بفريضة معينة كالظهر ثم نقل نيته إلى فريضة أخرى، فقد بطلت الفريضة الأولى لأنه قطع نيتها ولم تصح الفريضة الثانية، لأنه لم ينوها من البداية.
ويجوز تقديم النية على التكبير بالزمن اليسير فقط. وإذا لم ينو المصلي الخروج من الصلاة، فإن المنصوص عن الإمام أحمد -رحمه الله- أن صلاته لا تبطل (1) ؛ لأن نية الصلاة انصرفت إلى جميع الصلاة، والسلام من جملة الصلاة.
ونية قصر الصلاة شرط من جواز القصر، ويلزم وجودها عند أول الصلاة كنية الصلاة؛ لأن الإتمام هو الأصل، وإطلاق النية ينصرف إلى الأصل، ولو شك في أثناء صلاته هل نوى قصرها في ابتدائها أو لم ينو وجب عليه إتمام الصلاة احتياطا (2)
__________
(1) المصدر السابق، ص 557.
(2) المصدر السابق، ص 265- 269.(48/329)
النية والزكاة: يذهب عامة الفقهاء إلى أن النية شرط في أداء الزكاة، فلا يجوز إخراج الزكاة إلا بنية، إلا إذا أخذها الإمام من المزكي قهرا عنه، ووجوب النية في الزكاة كوجوبها في الصلاة، يستند إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات (1) » ولما كان أداء الزكاة عملا فإنها تفتقر إلى النية، وليس صحيحا ما حكي عن الأوزاعي من أن الزكاة لا تجب لها النية تأسيسا على أنها دين، فالحقيقة أنها عبادة،
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(48/329)
وقضاء الدين ليس عبادة، ولذا فإن الدين يسقط بإسقاط مستحقه له، وإذا تعلق الأمر بمن لا تصدر عنه النية كالصبي فإن وليه ينوب عنه عند الحاجة.
ونية الزكاة تستلزم اعتقاد المزكي أن ما يقدمه إنما هو زكاته، وزكاة من يقوم بإخراجها عنه كالصبي والمجنون، ومحل النية هو القلب، باعتباره محل الاعتقادات كلها، ومثل سائر العبادات فإنه يجوز تقديم النية على أداء الزكاة بالزمن اليسير (1) ولكن إذا دفع الشخص الزكاة إلى الإمام حال قيامه بدفعها إلى الفقراء، جاز ذلك وصحت زكاته سواء نواها أو لم ينوها، لأنه وكيل الفقراء، وتصح الزكاة بلا نية لو أخذها الإمام قهرا، لأن تعذر النية يسقط وجوبها.
وكما أن الإنسان إذا صلى دهرا دون أن ينوي أداء الفرض أو قضاءه لم يجزه، فإن الإنسان إذا تصدق بجميع ماله دون أن ينوي بذلك الزكاة لا يجزيه، وقال أصحاب أبي حنيفة يجزئه استحبابا، وفي باب زكاة التجارة: لا خلاف في المذهب الحنبلي في أنه إذا اشترى شخص عروض تجارة نوى أن يقتنيها فإنها تصير للقنية وتسقط الزكاة من المشتري، وهذا ما ذهب إليه الشافعي وأصحاب الرأي، ويقول صاحب المغني ما حاصله: أن القنية هي الأصل، ويكفي في الرد إلى الأصل مجرد النية، ولما كانت نية التجارة شرطا لوجوب الزكاة في العروض، فإنه إذا نوى القنية فقد زالت نية
__________
(1) المغني، ج2 ص 638- 640.(48/330)
التجارة وفات بالتالي شرط وجوب الزكاة، كذلك فإن كل ما لا يثبت له الحكم بدخوله في ملكه لا يثبت بمجرد النية، كما لو نوى بالمعلوفة السوم؛ ولأن القنية الأصل، والتجارة فرع عليها، فلا ينصرف إلى الفرع بمجرد النية، كالمقيم ينوي السفر، وبالعكس من ذلك ما لو نوى القنية، فإنه يردها إلى الأصل، فانصرف إليه بمجرد النية، كما لو نوى المسافر الإقامة، فكذلك إذا نوى بمال التجارة القنية انقطع حوله، ثم إذا نوى به التجارة فلا شيء فيه حتى يبيعه ويستقبل بثمنه حولا (1) .
والنية أو بالأحرى تغيير النية يقطع سريان مدة الحول فيبدأ احتسابها من جديد، فإذا حاز ماشية للتجارة نصف حول، فقطع نية التجارة ونوى بها الإسامة، انقطع حوله التجارة، واستأنف حولا آخر.
__________
(1) المغني ص3 ص36، 37.(48/331)
النية في الصيام:
الإجماع منعقد على أنه لا يصح صوم الفرض أو التطوع إلا بنية، لأنه عبادة محضة، فلا يقوم بدون النية.
وإذا تعلق الصيام بفرض كصيام رمضان أداء أو قضاء، والنذر والكفارة فإنه يجب على المسلم أن ينوي الصيام من الليل. وسند ذلك ما روي عن ابن جريج وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له (1) » وورد في
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (730) ، سنن النسائي الصيام (2334) ، سنن أبو داود الصوم (2454) ، سنن ابن ماجه الصيام (1700) ، مسند أحمد بن حنبل (6/287) ، موطأ مالك الصيام (637) ، سنن الدارمي الصوم (1698) .(48/331)
لفظ ابن حزم: «من لم يمجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له (1) » أخرجه النسائي وأبو داود والترمذي، وروى الدارقطني بإسناده عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له (2) » وقال إسناده كلهم ثقات.
وهذا الحديث يستلزم النية من الليل دون تخصيص، فيكفي تقديم النية على ابتداء الصيام في أي وقت من الليل دفعا للمشقة ودرءا لأي تحكم، ولكن لو فسخ النية، كأن نوى الفطر بعد نية الصيام فإن النية تزول حقيقة وحكما، ولا تجزئه النية المنسوخة. ويختلف التطوع عن الفرض من ناحيتين: أولهما: أن الفرض يقتضي توافر النية في جميع النهار، بحيث لا يكون الإنسان صائما بغير النية يبيتها الشخص قبل جميع النهار، أما صوم التطوع فيمكن الإتيان به ولو في جزء من النهار بشرط عدم المفطرات في أوله. والثانية: أن التطوع أمر يرغب فيه الإسلام، ولتكثيره فقد سومح في نيته من الليل كالمسامحة في ترك القيام في صلاة التطوع.
وإذا نوى شخص من النهار صوم الغد لم تجزئه تلك النية إلا إذا استصحب هذه النية إلى جزء من الليل؛ لأنه لا يجوز للإنسان أن يصوم دون نية، وانتواء الصيام من النهار للغد مع عدم استصحاب هذه النية يعني فسخها، والأولى إذا أن تكون النية عند ابتداء العبادة أو قريبا منها.
وتجب النية لكل يوم، ولكن الإمام أحمد يذهب إلى أن نية
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (730) ، سنن النسائي الصيام (2331) ، سنن أبو داود الصوم (2454) ، سنن ابن ماجه الصيام (1700) ، مسند أحمد بن حنبل (6/287) ، موطأ مالك الصيام (637) ، سنن الدارمي الصوم (1698) .
(2) سنن الترمذي الصوم (730) ، سنن النسائي الصيام (2331) ، سنن أبو داود الصوم (2454) ، سنن ابن ماجه الصيام (1700) ، مسند أحمد بن حنبل (6/287) ، موطأ مالك الصيام (637) ، سنن الدارمي الصوم (1698) .(48/332)
واحدة تجزئ الشهر إذا نوى صوم الشهر جميعه، وبهذا قال الإمام مالك وإسحاق.
والنية قصد واعتقاد القلب فعل الصوم وعزمه عليه دون تردد، ويكفي لوجود نية الصوم أن يخطر بقلب الإنسان في الليل أن الغد من رمضان وأنه صائم فيه. وإن شك في أن يوما ما من رمضان، فصامه أو بناه على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب فوافق الصواب لم يصح صومه؛ لأن ذلك تم بدون دليل شرعي، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (1) » .
ويقول صاحب المغني: وأما ليلة الثلاثين من رمضان فتصح نيته (أي: نية صومه) وإن احتمل أن يكون من شوال لأن الأصل بقاء رمضان. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصومه بقوله: «ولا تفطروا حتى تروه (2) » ، لكن إن قال: (إن كان غدا من رمضان فأنا صائم وإن كان من شوال فأنا مفطر. قال ابن عقيل: لا يصح صومه، لأنه لم يجزم بنية الصيام، والنية اعتقاد جازم، ويحتمل أن يصح لأن هذا شرط واقع والأصل بقاء رمضان) (3) وهكذا فيجب تعيين النية في كل صوم واجب، ولكن قيل إنه لو نوى أن يصوم تطوعا ليلة الثلاثين من رمضان فوافق رمضان أجزأه، وهذا اختيار أبي القاسم، وقال أبو حفص: لا يجزئه إلا أن يعتقد من الليل بلا شك.
ومن نوى الصيام من الليل، فأغمي عليه قبل طلوع الفجر
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1906) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(3) المغني ج 3 ص 94.(48/333)
ولم يفق حتى غربت الشمس لم يجزه صيام ذلك اليوم؛ لأنه لا يكفي النية وحدها بل يجب إضافة الإمساك إليها، فلا يجزئ أحدهما وحده، فالصوم إمساك مع النية، وذلك الشخص وإن كان قد نوى إلا أنه كان مغمى عليه فلا يضاف الإمساك إليه وبالتالي لا يجزئه (1) وإن نوى المسافر الصوم في سفره، ثم بدا له أن يفطر فله ذلك، وقال الإمام مالك إنه يلزمه القضاء والكفارة، لأنه أفطر في صوم رمضان فلزمه ذلك، لأنه يعتبر في حكم من كان حاضرا، ويقول صاحب المغني: إن هذا صوم لا يجب المضي فيه، شأن من شق عليهم الصيام مع رسول الله عام الفتح، حيث وصف من لم يفطر بأنه من العصاة.
ولا يجوز للمسافر أن يصوم في رمضان عن غيره كالنذر والقضاء لأن الفطر أبيح رخصة وتخفيفا عن المسلم، فإذا لم يرد التخفيف عن نفسه لزمه صوم الأصل وهو رمضان.
ومن نوى الإفطار فقد أفطر، وهذا صحيح؛ لأن الصوم عبادة ومن شرط العبادة استمرار النية في جميع أجزائها، ولما كان يشق اعتبار حقيقتها، فقد اعتبر بقاء حكمها، وهو ألا ينوي الشخص قطعها، فإن نوى الإفطار فقد زالت حقيقة وحكما، وفسد الصوم لزوال شرطه (2) .
__________
(1) المغني ج 3 ص 98.
(2) المغني ج 3 ص 119.(48/334)
النية والاعتكاف:
إذا نوى الشخص اعتكاف مدة لم تلزمه عند الشافعي، فإن كان قد بدأ الاعتكاف فله إتمامه أو الخروج منه حسب مشيئته، ولكن الإمام مالكا يرى أن مدة الاعتكاف تلزمه بالنية مع الدخول في الاعتكاف، فإن قطع اعتكافه لزمه قضاؤه، وهذا هو قول جميع العلماء على ما أكده ابن عبد البر، الذي أضاف قائلا: إنه إن لم يدخل في الاعتكاف فإن قضاءه مستحب، بل إن بعض العلماء أوجبه رغم عدم الدخول فيه اعتدادا بالنية، واحتجاجا بما روي عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فاستأذنته عائشة فأذن لها، فأمرت ببنائها فضرب، وسألت حفصة أن تستأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلت فأمرت ببنائها فضرب، فلما رأت ذلك زينب بنت جحش أمرت ببنائها فضرب، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح دخل معتكفه، فلما صلى الصبح انصرف فبصر بالأبنية فقال " ما هذا؟ " فقالوا بناء عائشة وحفصة وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البر أردتن؟ ما أنا بمعتكف " فرجع، فلما أفطر اعتكف عشرا من شوال (1) » . متفق على معناه.
ولما كان الاعتكاف عبادة تتعلق بالمسجد، فإنها تلزم بالدخول فيها، شأنها شأن الحج، ولم يقل أحد بهذا القول سوى ابن عبد البر، وما ذكره ابن عبد البر حجة عليه، فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى الاعتكاف واجبا لما تركه، وقد ترك أزواجه الاعتكاف بعد نيته، وقد تطوع النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء الاعتكاف دون
__________
(1) صحيح البخاري الاعتكاف (2045) ، صحيح مسلم الاعتكاف (1173) ، سنن الترمذي الصوم (791) ، سنن النسائي المساجد (709) ، سنن أبو داود الصوم (2464) ، سنن ابن ماجه الصيام (1771) ، مسند أحمد بن حنبل (6/84) .(48/335)
أن يكون واجبا عليه ذلك.
ولا شك أن النية تلعب دورا محددا في الاعتكاف، فهو فيما يقرره الإمام محمد بن عبد الوهاب لا يجب إلا لنذر (فإن نوى شخص الاعتكاف مدة لم تلزمه، فإن شرع فيها، فله إتمامها أو الخروج منها متى شاء، وقال مالك: يلزمه بالنية مع الدخول فيه فإن قطعه فعليه قضاؤه) (1) .
والنية ضرورية في الحج والعمرة والذبائح الشرعية والجهاد والقرب المالية والنكاح والطلاق والرجعة والخلع والإيلاء والظهار والعدد والجنايات وتولي القضاء ووسائل إثبات الحقوق وغيرها، ولكن لحاجة العمل الملحة فإننا سنكتفي بالتعرض لاحقا بشيء من التفصيل للنية في عقود المعاملات المالية.
وحاصل خصائص النية التي تنبني عليها أحكام العقيدة والعبادات والمعاملات والتي يتعين على مدعي الولاية والتصوف مراعاتها كأهل السنة والجماعة: أن النية محلها القلب فلا يجوز من حيث المبدأ التلفظ بها، ولذا لم ينقل عن الإمام مالك رحمه الله شيء في ضرورة التلفظ بها بل نقل عنه قوله: (تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم) (2) ، والأولى عند المالكية ترك التلفظ بالنية عن الصلاة أو غيرها (3) ، وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أتقول
__________
(1) انظر التفاصيل في المغني، ج 3 ص 184 وما بعدها
(2) المدونة ج1 ص 65، 66.
(3) أقرب المسالك ج 1 ص 304.(48/336)
شيئا قبل التكبير؟ قال: لا، إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد أصحابه (1) وفي الإقناع وشرحه أن التلفظ بالنية في الوضوء والغسل وسائر العبادات بدعة (2) .
والجهر بالنية بدعة مردودة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » ، ولكن صرح فقهاء المذاهب الأربعة في معظم مؤلفاتهم باستحباب التلفظ عند الإحرام بالنسك، حجة كان أو عمرة، مثل قول الحاج: (اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني) . والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتلفظ بالنية عند الحج والعمرة بل أهل، وعلى ذلك فلا هدي إلا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هناك دليل على مشروعية التلفظ بالنية، ففي حديث جابر الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال جابر: «فأهل النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: " لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك (4) » .
__________
(1) كشاف القناع ج 1 ص 328.
(2) المرجع السابق ص 87.
(3) البخاري ج 3 ص 167، ومسلم ج 3 ص 1343.
(4) صحيح مسلم ج 2 ص 887، وانظر رسالة الدكتور صالح بن غانم السدلان، ج 1 ص 335. أما التلفظ بالنية عند ذبح النسك فهو سنة وليس واجبا لأن محل النية هو القلب على ما اتفق عليه أهل العلم.(48/337)
ويجوز تقديم النية على العمل بزمن يسير عرفا، منعا للمشقة والحرج، أما مقارنة النية للعمل فهو قول عامة أهل العلم من المذاهب الأربعة، وأما تأخير النية- عن أول العمل فلا يجوز باستثناء نية صوم النفل، ولكن مقارنة النية للمنوي ليس كافيا لتحقق النية، ذلك أن النية لا بد أن تتعلق بأمر يخص الناوي لا غيره، وأن يكون الأمر المنوي معها معلوم الوجوب، أي الوقوع، أو مظنون الوقوع وليس مشكوكا فيه. وقد قال ابن رشد: إنه يجب في الناوي، أن يكون مسلما، مميزا، عالما بما نوى، غير مقارف لفعل مناف لما نواه، فضلا عن مقارنة النية للمنوي بأمر يخص الناوي وبأمر متيقن أو بظن غالب (1) .
أما استصحاب النية، فالحاصل فيه أنه إذا كان استصحاب ذكر النية مستحبا فإن استصحاب حكمها واجب، وذلك بألا ينوي قطع نية العبادة التي نواها، ولا يأتي بمناف يتنافى مع العبادة المنوية، وعليه أن يستصحب حكمها ثم لا يضر عزوب نيتها عن باله (2) .
ولا يصح تحويل النية أو قلبها من نية فرض إلى نية فرض آخر، إذ بانقطاع الأولى تنتهي ولا تكون للصلاة الثانية- مثلا- نية. كما لا يصح التحول من نية نفل إلى نية نفل آخر، ولا قلب نية نفل إلى فرض، ولكن يجوز قلب نية الفرض إلى نفل آخر، ولا يجوز قلب نية نفل إلى فرض، ولكن يجوز قلب نية الفرض إلى نفل
__________
(1) مقدمات ابن رشد ج 1 ص 40.
(2) رسالة د. صالح بن غانم السدلان، ج 1 ص 378. وهذا يستلزم إعادة ما فعله من العبادة عدا الوضوء.(48/338)
لثبوت عدم دخول الوقت مثلا، أو لوجود مصلحة، كأن كان قد أحرم منفردا ثم حضرت جماعة، وكذلك تحول الشخص من كونه إماما إلى مأموم وبالعكس (1) ، وإذا شك الإنسان في إنشاء النية ولم يحصل له يقين يزيل الشك، فعليه استئناف الصلاة، وإن شك في تعيين النية وهل نوى فرضا أم نفلا فإن استمر معه الشك أتم العبادة نفلا (2) وحسبنا هذا الآن لكي نصل إلى الحقيقة الإسلامية الكبرى، وهي أن نية الاتباع هي دائما نية حسنة، ولذا فإنها لا تنشر البدع في الأمة الإسلامية، تحت أي شعار، فلا طرق ولا فرق في الإسلام، وإنما هي سبيل واحدة، غايتها التوحيد التام والكامل، ووسيلتها الاتباع لا الابتداع، وأداتها الدعوة إلى الله على بصيرة، بلا رياء أو ادعاء، أما المبتدعون فحججهم مرفوضة ودعاواهم مردودة.
__________
(1) المغني ج 1 ص 102، والمقنع ص 136، والأشباه والنظائر للسيوطي ص 38، والمهذب ج 1 ص 70.
(2) تفاصيل أخرى في المقنع ص 135، المغني ج 1 ص 467.(48/339)
استشهاد المبتدعين من المتصوفة ومدعي الولاية مرفوض:
فالأساس هو أن النية الحسنة هي نية اتباع وليست نية ابتداع يستشهد كثير من المبتدعين بحديث: «إنما الأعمال بالنيات (1) » وهم يقصدون بذلك أن نيتهم فيما (يبتدعون) إنما هي نية سليمة، لأنهم يهدفون إلى تقريب الناس من الله، وهذا زعم باطل، إذ
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(48/339)
الاقتراب من الله لا يتحقق إلا باتباع شرع الله، والبدعة هي إتيان بشرع زائد، واتهام للشريعة بالنقص، والاستدراك على الله ممقوت مهما كانت نية المبتدع، فإذا كان ذلك هو الشأن بالنسبة لمن يحدثون البدع ويتعبدون بها عن حسن نية أو سلامة قصد في ظنهم، فما بالنا بمن تسوء نياتهم ويتعمدون بالبدع إفساد الدين؟ وإلى الذين يبتدعون بحسن نية أو يتعمدون الابتداع بسوء نية نسوق هذه الكلمات، أملا في التيقن من أنه لا نجاة بغير شرع الله، ولا إعمال لشرع الله إلا إذا حسنت النيات.
والنيات الحسنة هي نيات اتباع وليست نيات ابتداع، وهذا يستلزم الإشارة إلى البدع الشائعة التي يجب وأدها والقضاء عليها، رجوعا إلى الدين الخالص القيم، وبعدا عن غفلة الغافلين، وسوء نيات محاربي الدين، من اليهود والصليبيين، وغيرهم ممن يأملون هدم مبادئ شريعة الإسلام بهدم أهم أسسها ألا وهو بساطتها ومسايرتها للفطرة السليمة، ونسبق إلى القول بأن البدع ممقوته على أي معنى من معانيها، ثم نستشهد كذلك بما يؤكد حرمة الابتداع وإخراجه المبتدع عن الطريق القويم، طريق الإسلام، وإدخاله الطريق الباطل، طريق الكفر، سواء تعلقت البدعة بالعقائد أو العبادات أو ما سواهما مما يوصف بالعادات وهو من صميم الدين وغير ذلك.(48/340)
أولا: البدعة في الدين ممقوتة على أي معنى من معانيها لأنها تنطوي على إحداث أمور على خلاف الحق وهو ما ينفي حسن النية في الشريعة:
فهل سأل مدعو الولاية أو زاعموا التصوف أنفسهم عن الأثر المدمر الذي تتركه أعمالهم في الإسلام؟ فلماذا الإصرار إذا على الفرق والطرق؟ إن الذين يبتدعون في الدين، لا يتبعون الطريق المستقيمة في الإسلام، وهي الشريعة الحقة، بل يوجدون في الدين طرقا معوجة تغاير السبيل الشرعية المستقيمة التي لا تتبدل، ولا تتغير، ونيتهم التي يظهرونها هي المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى، وقصدهم الذي يظهرونه هو كل ما يقصد بالطريقة الشرعية، وهذا زعم باطل لأن ترك المعروف المألوف للنفس السوية في الشريعة الإسلامية، واستبدال شيء آخر به سواه، هو إيجاد لدين آخر خلاف الدين الذي ارتضاه الله، فمن حسنت نيته فعليه بشريعة الله سبحانه وتعالى، وعليه بدين الله الحق الذي شرعه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرعا شاملا يتناول العقائد والعبادات والمعاملات، والتمسك بالدين هو اتباع أحكام شريعة الله وعدم ابتداع أية أمور ليس لها مثال سابق من لدن الشارع الحكيم، ولا يحتج في هذا الصدد بالنية السليمة أو القصد الحسن، لأن الشريعة قد جاءت بكل ما فيه مصالح العباد في الدنيا والآخرة، وعلى المسلم أن يتبع(48/341)
ما شرعه الله، لأن فيه مصالح العباد فمن ابتدع في العقيدة فقد هدم أساس الدين المتين، وإن ابتدع في العبادات بمقولة أنه يبتغي الفوز بأعلى المراتب في الدنيا، ويرغب في نيل أطيب المنازل في الآخرة، فهو بذلك يؤكد سوء قصده لأن الله سبحانه وتعالى إذا طلب منا أن نتعبده بشيء واضح فليس لنا أن نستبدل به شيئا غير واضح، والواضح هو شرع الله، وغير الواضح هو ما كان من صنع الإنسان، فكيف يشبه الإنسان فعله بفعل الملك الديان، كيف يتصور أنه قادر على إدراك ما لم يشرعه الله في العبادات. الإسلام دين البساطة، ولذا يجب على المؤمن أن يجعل أساس عبادته في الدين هو السير على نهجه لا الابتداع فيه، وإذا كانت العبادات تحقق مصلحة العباد في الدنيا والآخرة، فكذلك الحالة بالنسبة للعادات، فلا يجوز للإنسان أن يأتي بما ينقض المصلحة التي دار عليها حكم الله، ومن هنا فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا أكثر خلق الله بغضا للبدع ومقتا للابتداع، لأن قلوبهم لم تكن تتسع لشيء آخر سوى حب الله، ولعل أبلغ وأوضح ما قاله أبو بكر الصديق رضي الله عنه في هذا الصدد: (إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفوني ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيقه، إن الله اصطفى محمدا على العالمين، وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع؛ فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني) .
ومثل هذا نهج باقي الخلفاء الراشدين، سلوكا وعملا، وفقها وعلما. ومن الصحابة من أكد هذا المعنى أيضا بكلام واضح لا لبس فيه، فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: (اتبعوا ولا تبتدعوا(48/342)
فقد كفيتم) ولما سئل ابن عباس عن الوصية قال: (عليك بتقوى الله والاستقامة، اتبع ولا تبتدع) روى كل ذلك الدارمي في سننه.
وهذا الذي قاله الصحابة هو امتثال لمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وهو أمر واضح في كونه صلى الله عليه وسلم يتبع ما أنزله الله سبحانه، ولا يزيد عليه، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (2) .
وعلى ذلك فإن من يحاول ابتداع شيء على خلاف الشريعة فقد أتى بما ورد عنه النهي الصريح في القرآن الكريم، قال تعالى متوعدا من يبتدعون بسبب سيرهم وراء ظنونهم وأهوائهم: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (3) لأن الذي يسير وراء ظنونه، سيسير لا محالة في سبل تختلف عن سبيل الله وهذا هو الضلال بعينه. قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) .
امتثال أوامر الدين ونواهيه:
وما فعله الصحابة هو امتثال مباشر لنهيه صلى الله عليه وسلم عن البدع، فقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر ويقول: " أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) سورة البقرة الآية 285
(3) سورة الإسراء الآية 36
(4) سورة الأنعام الآية 153(48/343)
محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ". وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ورد في سنن أبي داود ثلاثة الرهط، الذين قال أحدهم إنه يصلي الليل أبدا، وثانهم أنه يصوم الدهر ولا يفطر، وثالثهم أنه يعتزل النساء، بقوله: «أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني (1) » . وهذا هدي كريم فهو صلى الله عليه وسلم، كان أخشى الناس وأتقاهم لله ولكنه كان يصوم ويفطر ويصلي ويرقد ويتزوج النساء.
بدع وبدع:
للناس أن يبتكروا في أمور الدنيا، ما لا يهدم أصول الدين أو العبادات أو العادات التي رعاها الدين، فلهم أن يكتشفوا ويخترعوا ويفيدوا من مستحدثات العلم التي تساعد على طاعة الله، أما البدعة في الدين فأمر منهي عنه، لأنه يخرج من العقيدة والملة، فالابتداع بعد عن المنهج المستقيم الذي أمرنا باتباعه، وعصيان لله ورسوله، وعدم انتهاء عما ورد النهي عنه، وعدم رد الأمور إلى الكتاب والسنة، ولذا وجبت دعوة كل مبتدع إلى سبيل الله وحده بالحكمة والموعظة الحسنة، لاحتمال أن يكون فيه بقية من خير، ونقطة البداية في الدعوة هي أن هذا الدين قد كمل وأن نعمة الله على عباده قد تمت، وأن الدين الذي رضيه الله لنا وهو الإسلام فيه خيرنا، ولا. خير في شيء سواه، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) .
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .
(2) سورة المائدة الآية 3(48/344)
سوء النية:
ويزداد الإثم عن الابتداع، بحيث يصبح المبتدع ليس فقط خطرا على نفسه، بل خطر على العقيدة والدين، إذا علم المبتدع أن ما يحدثه مخالف لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإجماع الأمة، فهنا تسوء النيات، ويصبح أهل الابتداع أقواما لا غرض لهم إلا هدم الدين والقول بما ليس فيه، بل ودس الأكاذيب والافتراءات عليه، سواء تعلق الأمر بمجال العقائد والعبادات أو بمجال العادات.
بلا حجة:
وأظهر دليل على سوء نية هؤلاء أنهم يحاولون البحث عن سند لهم في الشريعة يضللون به العامة، ويخوفون به من يحاول إظهار زيغهم وكشف ضلالهم، فهم يقولون إنهم لا يأتون ما يأتون إلا اتباعا لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي: «من سن سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة (1) » . فالمبتدعون ابتداعا يخالف الكتاب والسنة والإجماع، يكسون ابتداعهم بمظاهر خارجية تنبئ للوهلة الأولى عن أنها تتفق مع الشريعة، ولكن إنعام النظر فيها يفضح أصحابها ويبين أنهم أكثر خطرا على الإسلام من العدو الظاهر الواضح.
السنة الحسنة:
إن السنة الحسنة لا تخالف الكتاب، ولا تخالف قولا أو فعلا أو تقريرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تخالف إجماع الأمة، وعلى الداعية إلى
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (512) .(48/345)
الله أن يعي دائما أن أعداء الإسلام لن يسلموا بالحق طالما ساءت نياتهم، ولذا لا يجب الجدل مع أقوام يخالفون الكتاب علانية ويهدمون السنة بزعم أنهم يستنون سنة حسنة، وهم يعلمون أن ما يأتونه مخالف للسنة النبوية المطهرة، ولا يقيمون وزنا لإجماع الأمة، ولذا فإن فضح أكاذيب هؤلاء، وبيان ضلال بدعهم أمام العامة يكون من أفضل القربات إلى الله في زمن صارت البدعة فيه عادة، وصار الناس فيه من كثرة ما ألفوها ودرجوا عليها يحسبونها من شرع الله، ولا شك أن بيان الضلال في ذلك يحتاج إلى صبر ومثابرة، كما يحتاج إلى يقين ثابت بأن الباطل لا عقل فيه، ولهذا يهدمه العقل الديني المستنير، وأن الضلال لا روح فيه ولذا ينهار أمام النور الإيماني للمنهج الإسلامي القويم.
سكوت العلماء:
فالحذر إذا من سكوت العلماء في أي بلد إسلامي، فقد كان سكوتهم أحد أسباب انتشار هذا الداء الوبيل، ذلك أن سكوت العالم عن محاربة البدع يؤول لدى العامة على أن البدع التي يرونها ويمارسونها ليست مخالفة للشرع، والحذر كذلك من وقوع حكام المسلمين في إثم تأييد هذه البدع، وإظهارها في صورة الشيء المتفق مع الشريعة، ويشارك الحكام في وزرهم هذا بعض العلماء الذين يطمعون في المناصب أو يخشون جاه السلطان، فيفتون بما يحلل هذه البدع الفاحشة، أو بما يؤدي إلى الافتراء على الله كذبا، أو إلى اتباع خطوات الشيطان مع العلم الكامل بأن الله سبحانه وتعالى(48/346)
يقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} (1) ، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان بقوله: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (2) .
العلماء هم ضمير الأمة:
إن العلماء هم ضمير الأمة الإسلامية بهم يرتفع شأنها ومجدها، وبهم ترفرف رايات الإسلام عالية فيها، ومن مسئولياتهم تبصير الناس بمكانة السنة من الشريعة الإسلامية، وهذا أمر قد يتسع المجال للحديث فيه، والعلماء ملزمون بفضح مزاعم الباطنية الذين يبتدعون بنية هدم الدين، ويؤولون القرآن تأويلا يهدم العقيدة، ويجعلون للدين ظاهرا وباطنا، والباطنية هم من غلاة الشيعة الذين يتنوعون إلى ثماني عشرة فرقة تقع السبأية المؤلهة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه على رأسهم.
بدع الباطنية:
ومن أخطر بدع الباطنية قولهم باتحاد الله وحلوله بمخلوق أو رسول أو ولي وهذا كفر بواح. وقولهم بوحدة الوجود وبأن كل ما في الكون هو الله- سبحانه وتعالى- كالجبال والأنهار والحيوانات.
والعلماء ملزمون بأن يبينوا للناس أن المبتدعين عندما يقولون إن الإسلام هو القرآن وحده، فإنهم يريدون اتباع ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وينتوون القضاء على هدي السنة، حيث يجدون أنفسهم بعد ذلك قادرين على الابتداع على نحو يحوله دون ردعهم
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33
(2) سورة البقرة الآية 168(48/347)
لا من الكتاب الذي تأولوه، ولا من السنة التي أنكروها، وفي ذلك بلاء عظيم على الإسلام والمسلمين.
العاصم هو القرآن والسنة:
إن القرآن الكريم هو الأساس الأول للتشريع الإسلامي، والسنة مبينة له. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) . وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالأخذ بالسنة فيما بينت أو فيما فصلت أو فيما أوجدت وأظهرت من أحكام، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) .
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) سورة الحشر الآية 7(48/348)
ثانيا: أن البدع تخرج الإنسان من العقيدة سواء تعلقت بالعقائد أو العبادات:
فمن البدع التي يكرسها مدعو الولاية وزاعموا التصوف، في مجال العقيدة ويتعين نبذها فورا، بدعة البناء على القبور واتخاذ القبور مساجد، والاحتفال بالأعياد خلاف العيدين، والنذور الشركية، والطواف حول الأضرحة والتشبه باليهود والنصارى.
ومن البدع التي يكرسونها في مجال العبادات، على خلاف ما تقدم بدع التلفظ بالنية عند الوضوء أو عند الصلاة، والاستغفار الجماعي بعد الصلاة، وزخرفة المساجد، وإطلاق الأناشيد وما يعرف بحلقات الذكر في المساجد وغيرها.
ويلحق بما تقدم التحية بغير سلام الإسلام، وحلق اللحية(48/348)
وغير ذلك. إن نية الاتباع هي نية إشاعة الفضيلة ونبذ الرذيلة والسير في طريق واحدة لا طرق متعددة، ولذا فإن الدعاة مسؤولون أمام الله تعالى عن وأد البدع وفتح أبواب الاتباع أمام الناس بعد أن جرفهم تيار مدعي الولاية والتصوف فحادوا عن سبيل الحق.
ولننظر الآن في جانب من جوانب سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب وهو يدعو إلى توحيد الإلهية والربوبية والأسماء والصفات ونبذ كل البدع والشركيات، ونوجز القول في ذلك، تتمة لما سبق بيانه من فقهه وهو أمر غير معروف كثيرا في البلدان التي تشيع فيها البدع وتحتاج إلى دعاة أعلام ينتهجون منهج الإسلام، ويتمثلون أسلوب هذا الإمام الرائد في الدعوة إلى التوحيد ونبذ البدع.(48/349)
2 - الإمام محمد بن عبد الوهاب ومحاربة نيات الابتداع:
أولا: مبادئ عامة تستخلص من دراسة عامة:
- نية صادقة تهدم أركان الشرك وتثبت دعائم التوحيد.
كثيرة هي الكتابات التي كتبت عن الإمام محمد بن عبد الوهاب، ولكنها قليلة بل منعدمة تلك الاستخلاصات العقدية المبدئية الكبرى لما أثر في الإمام وحرك تصوره الرائد، ومن أهم من ركزوا على هذه الناحية في كتاباتهم، أو بالأحرى محاضراتهم، سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ولا غرو فهو يضع الكلمة في موضعها، والفكرة في مكانها، فتكون دستورا لمن أراد الوقوف على(48/349)
الحقائق، ونبراسا لمن أراد تقصي الأصول، ويمكن القول أن أهم المبادئ أو الأمور التي يمكن استخلاصها من هذه الدراسة ما يلي:(48/350)
1 - التأثر بالبيئة العلمية الإيمانية التي نشأ فيها حيث كان أبوه قاضيا وفقيها:
في أيام كأيامنا هذه، التي غزت فيها بيوتنا أدوات إعلام موجهة عالميا لضرب العقيدة الإسلامية، قد لا يعي الأب حقوق أولاده، رغم كونه عالما كبيرا وفقيها متبحرا في العلم.
أما في وقت ولادة الإمام، فقد كان الأب مدرسة ابنه، ولذا يصح القول أنه منذ مولده في عام 1115 هـ على المشهور وحتى نضجه، كانت يد الوالد هي يد التوجيه، وعينه هي عين الرعاية لابنه، فقد ولد الإمام على ما يقرره سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في بلدة العيينة المعلومة في اليمامة في نجد شمال مدينة الرياض على مسيرة سبعين كيلو مترا تقريبا منها من جهة الشمال الغربي، ونشأ نشأة صالحة، وقرأ القرآن في وقت مبكر من حياته، وبذل جهدا كبيرا في الدراسة وتحصيل العلم (والتفقه على أبيه الشيخ عبد الوهاب بن سليمان، وكان فقيها كبيرا، وكان عالما قديرا، وكان قاضيا في بلدة العيينة) وليس بعد هذا من بيان.(48/350)
2 - الاستجابة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل لطلب العلم بحسبانه فريضة إيمانية:
بعد أن بلغ الإمام الحلم، قصد بيت الله الحرام حاجا، وطالبا للعلم من مناهله الكبرى، حيث أخذ العلم عن بعض علماء الحرم المكي الشريف، وما إن أشبع غليله من هذا العلم، حتى أراد التزود من علماء آخرين، فتوجه إلى المدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فأقام بها مدة من الزمن، درس خلالها على يد عالمين كبيرين مشهورين آنذاك وهما: الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيفه النجدي، الذي يعود بأصله إلى المجمعة، وهو العالم الذي رزقه الله بابن عالم هو الشيخ إبراهيم بن عبد الله صاحب العذب الفائض في علم الفرائض. ونهل أيضا عن الشيخ محمد حياة السندي، كما أخذ عن غيرهما.
وكان من الممكن لذي الطموح، أن يقف عند هذا الحد من العلم والتحصيل، ولكن الإمام كان بحول الله معدا لما هو أكبر من مجرد تحقيق آمال علمية أو طموحات دراسية، فرحل إلى العراق، واجتمع بعلماء البصرة، ودرس على كبارهم، إلى أن حانت لحظة كانت حاسمة في حياته، وهي لحظة دعوته هناك إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، والتمسك بالسنة المطهرة.(48/351)
3 - الصبر على الأذى في سبيل العقيدة والتوحيد:
وإذا كان الإمام قد خرج إلى حيث حصل العلم، وبدأ يدعو إلى التمسك بأصول العقيدة، فإن الأمر بالنسبة له لم يكن سهلا في البصرة، فإنه ما إن أظهر للناس أن الواجب على جميع المسلمين أن يأخذوا دينهم عن كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وناقش وذاكر في ذلك، وناظر هناك من ناظر من العلماء، واشتهر هناك من مشايخه شخص يقال له الشيخ محمد المجموعي حتى ثار عليه بعض علماء السوء بالبصرة، وحصل عليه وعلى شيخه المذكور بعض الأذى، فخرج من أجل ذلك، وكان في نيته أن يقصد الشام فلم يقدر على ذلك لعدم وجود النفقة الكافية. فخرج من البصرة إلى الزبير، وتوجه من الزبير إلى الإحساء، واجتمع بعلمائها وذاكرهم في أشياء من أصول الدين (1) ثم كان أن توجه إلى بلاد حريملاء قي حوالي 1140 هـ واشتغل بالتعليم والدعوة إلى أن توفى الله والده عام 1153 هـ، فحاول أهل حريملاء الفتك به والاعتداء عليه، لما أمرهم به من معروف ونهاهم عنه من منكر، ولحثه الأمراء على تعزير المجرمين ولكن الله صانه، ورحل إلى العيينة حيث رحب به أميرها وبدأ ينشر الدعوة الإسلامية الأصولية فيها.
__________
(1) المرجع السابق ص 15، 16.(48/352)
4 - إحاطة الفكر العقدي التوحيدي بالسلوك الواقعي الشرعي:
ليست الدعوة الخالصة إلى الله سبحانه وتعالى إلا دعوة صدق(48/352)
فما أكثر الكلام في كل زمان ومكان، وما أقل السلوك الذي يرقى بالعقيدة ويجعلها شيئا ثابتا في الضمير، مستقرا في الوجدان، دائم الإشعاع، لا يتغير لهوى، ولا يتبدل لرغبة أو رهبة وهكذا كان الإمام، فقد أحاط فكره العقدي بالسلوك الواقعي التوحيدي، الذي نحن أحوج ما نكون إليه الآن في كافة البقاع والأصقاع العربية والإسلامية، ليعود للعقيدة صفاء بساطتها كما جاء بها الهادي البشير محمد صلى الله عليه وسلم.
وبيانا لذلك، فقد اشتغل الشيخ "الإمام في العيينة- بعد أن رحل إليها- بالتعليم الديني والإرشاد والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فوجه الناس إلى الخير، ودعاهم إلى المحبة في الله، رجالا ونساء فذاع صيته، بعد أن اشتهر أمره في العيينة، وجاء الناس إليه من القرى المجاورة طلبا للفكر العقدي الصحيح، وما إن تيقن الإمام من ثبات الناس على العقيدة الإسلامية الصافية، حتى طلب من الشيخ الأمير عثمان بن محمد بن معمر أمير العيينة، أن يمكنه من هدم، قبة زيد بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، لأنها إنما أسست على غير هدى، ولأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى عن ذلك العمل، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن البناء على القبور نهيا صريحا واضحا لا لبس. فيه ولا غموض، ونهى عن اتخاذ المساجد عليها، ولأن وجودها قد حصل به الشرك، فلم يمانع الأمير من ذلك، ولكن الشيخ الإمام أطلعه على ما يخشاه من احتمال ثورة أهل الجبيلة، وهي قرية قريبة من ذلك القبر، فخرج الأمير ومعه ستمائة(48/353)
مقاتل ومعهم الشيخ لهدم تلك القبة، فقابلهم أهل الجبيلة بغية نصرها وحمايتها، ولكنهم كفوا ورجعوا عندما وجدوا الأمير عثمان ومن معه (فباشر الشيخ- الإمام- هدمها وإزالتها، فأزالها الله عز وجل على يديه رحمة الله عليه) (1)
__________
(1) المرجع السابق ص 17.(48/354)
5 - مبدأ القضاء على ما تطرق إلى عقيدة الآباء من جهل وضلال وشرك وبدع وخرافات:
لقد حض الإسلام على العلم ولذا كانت أول آية نزلت في أول سورة نزلت، وهي سورة العلق، مبدوءة بكلمة اقرأ، ذلك أن الجهل هو أعدى أعداء عقيدة التوحيد.
كما حض الإسلام على البعد عن الضلال، ولذا كان اهتمام الإسلام عظيما بدعوة المسلم ربه في صلواته الخمس بأن يهديه الصراط المستقل الذي لا ضلال فيه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (1) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (2) .
كذلك دعا الكتاب إلى عبادة الله وحده لا شريك له من صاحبة أو ولد، وكانت قمة الدعوة إلى التوحيد، ونبذ الشرك في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (4) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (5) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (6) .
وكان نهي الإسلام عن البدع واضحا، ومحاربته إياها صريحا،
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 6
(2) سورة الفاتحة الآية 7
(3) سورة الإخلاص الآية 1
(4) سورة الإخلاص الآية 2
(5) سورة الإخلاص الآية 3
(6) سورة الإخلاص الآية 4(48/354)
" فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار" على ما جاء في هدي الطاهر المطهر محمد صلى الله عليه وسلم.
كذلك حارب الإسلام الخرافات، لأن الخرافات تقليد أحمق لضلالات الآباء والأجداد، حتى لا يصدق في المسلم ما صدق في أمثال من قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} (1) .
ولأجل ذلك كانت دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب قائمة على مبدأ أساسي وجوهري يجسد النهي عن تلك الضلالات الخمس، ألا وهو مبدأ القضاء على ما تطرق إلى عقيدة الآباء من جهل وضلال وشرك وبدع وخرافات.
وبيان ذلك فيما يقرره سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أن أهل نجد كانوا قبل دعوة الشيخ على حالة لا يقبلها قلب مؤمن، ولا يرضاها ضميره، فلقد كان الشرك الأكبر، قد نشأ نص نجد، ثم فشى وانتشر، حتى نسي الخلق خالقهم، وذهبوا إلى القباب فعبدوها، وإلى الأشجار فالتمسوا التعبد فيها، وإلى الأحجار وعبدوها، ولم يقف الأمر عند هذا المنكر، بل عبدت النيران، وعبد من يدير الولاية حالة كونه معتوها لا يعي، أو مجنونا مجذوبا لا عقل عنده، وزاد الطين بلة، ما استرهب به السحرة الناس من السحر، والكهنة من الإفك، فقد سألهم الناس وصدقوهم، ولم ينج منهم ومن منكرهم إلا قليل ممن شاء الله، وغلب على الناس
__________
(1) سورة الزخرف الآية 23(48/355)
تغليب الملذات، والإقبال على الشهوات، والولع بالدنيا، مع قلة القائم على حدود الله والناصر لدين الله.
ولم يقف الأمر عند حد نجد، فهكذا كان الأمر في الحرمين الشريفين. وفي اليمن اشتهر في ذلك الشرك، وبناء القباب على القبور، ودعاء الأولياء، والاستغاثة بهم، وفي اليمن من ذلك الشيء الكثير، وفي بلدان نجد من ذلك ما لا يحصى، كما بين قبر وما بين غار، وبين شجرة وبين مجذوب، ومجنون يدعى من دون الله، ويستغاث به مع الله، وكذلك مما عرف في نجد واشتهر دعاء الجن والاستغاثة بهم، وذبح الذبائح لهم، وجعلها في الزوايا من البيوت رجاء نجدتهم، وخوف شرهم (1) .
النقل والعقل إذا يقضيان بأن المؤمن الصادق لا يمكن أن يقبل ذلك، ولكن المؤمنين الصادقين قلة، ولا أحد يريد أن يزج بنفسه في معمعة المشكلات، فالناس تعبد الضلال وتأبى العودة إلى ذي الكمال والجلال، ولكن الشيخ الإمام لم يكن مجرد مؤمن صادق، بل كان داعية غيورا، حز به ما آلت إليه عقيدة التوحيد، فالشرك في الناس عم، والمنكر شاع، لذا قام بالدعوة إلى الله، وكانت عدته الصبر، وسلاحه الجهاد، وقوته تحمل الأذى، فجاهد ودعا، ووجه وأرشد في العيينة، ثم كاتب العلماء، وتذاكر الوضع معهم، عسى. الله أن يوفقهم لمد يد العون له، والاشتراك معه في أمر نصر دين الله، ومجابهة الشرك، ووأد الخرافات، ولقد أجاب
__________
(1) المرجع السابق ص 18.(48/356)
دعوته الكثيرون، ليس فقط من علماء نجد وعلماء. الحرمين، بل أيضا من علماء اليمن وغيرهم، وكتبوا إليه موافقين مؤازرين مناصرين، وليس معنى ذلك أنه لم يكن هناك مخالفون فقد خالفه وعاب عليه نفر من الجهال وعبدة الخرافات الذين ولا يعرفون جوهر دين الله ولا يجدون في أعماقهم استجابة لحقيقة عقيدة التوحيد، ممن تمثلوا ضلال الآباء وجهلهم وشركهم وبدعهم وخرافاتهم، فأفاده ذلك في جلاء فكره، وتوجيه ضربته القاضية إلى كل مظاهر الشرك الخمسة وأساليبه، وهي الجهل بحقائق الدين والتوحيد، والضلال عن الصراط المستقيم، والشرك بالواحد الأحد، وتسييد البدع، والإذعان للخرافات.(48/357)
6 - الاستمرار على الدعوة قولا وعملا وعدم الانبهار ببعض مظاهر القضاء على ظواهر الشرك:
خشي بعض العلماء أن يوصفوا بأنهم على باطل إذا سكتوا على دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب، فحسدوه على ما من الله به عليه من ثاقب الرؤية، وأظهروا العناد للحق الذي جاهد لإظهاره. واقتدوا باليهود في إيثار الدنيا على الآخرة، وناصبوه العداء.
ولكن الإمام الشيخ لم تلن له قناة، ولا خبت جذوة حماسه الإيماني، بل نصره الله بأهل الحق من العلماء والأعيان داخل الجزيرة العربية وخارجها، وكانت من فوق كل ذلك معونة الله جل وعلا الذي هداه دائما إلى الكتب النافعة فتدارسها في كل وقت،(48/357)
وعكف على استخلاص الحق منها، وعبر عما فيها أصدق تعبير، فلم يضعف أمام اعتداء، ولم يفرح بانتصار الحق جزئيا، بل استمر في الدعوة إليه، حتى يكتمل انتشاره في كل مكان وتعلو رايته في كل الآفاق، وتتمكن عقيدته، ودعم كل ذلك بالبحث في كتاب الله وعمل ما شاء الله له أن يعمل في تفسيره، والاستنباط منه، وراح ينقب في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه، فكان ذلك خير عون على التصميم على الدعوة ومجابهة الظلم، ونشر الحق كاملا بين الناس، كما أراده الله ورسوله، واستمر في مكاتبة العلماء والأمراء، قولا وعملا) (1) ومما يؤكد أن الدعوة إلى التوحيد كانت دعوة متكاملة، ومنها إقامة حدود الله، المثال الذي ننتقل إليه الآن.
__________
(1) المرجع السابق ص 21.(48/358)
7 - مبدأ تطبيق حدود الله كجزء أساسي من مقتضى عقيدة التوحيد:
فالتوحيد كل لا يتجزأ، والشريعة كل لا يتجزأ وهما معا جناحا الدين الإسلامي، فالدين الإسلامي عقيدة وحدانية وشريعة إلهية، وهو علم وعمل وفكر وسلوك، وفي أقل القليل فإن تطبيق حدود الله، وهو جزء أساسي في شريعة الله، يعتبر أيضا أحد أهم مقتضيات عقيدة التوحيد، وهذا ما يؤخذ مما درج عليه الشيخ الإمام، وعلى سبيل المثال فإن امرأة أتته واعترفت عنده بالزنا عدة مرات، فسأل عن عقلها، وأخبروه أنها عاقلة، ولم تدع هي إكراها(48/358)
ولا شبهة، وإذ كانت محصنة، فقد أمر الإمام الشيخ رحمه الله بأن ترجم، فرجمت بأمره، باعتباره قاضيا بالعيينة، وهكذا فإنه إذا كان هدم القبة قد أكد جوهر ونقاء ما يدعو إليه، فإن رجم هذه الزانية قد كد مقتضى التوحيد الذي وهب نفسه له والذود عنه؛ إعلاء لكلمة الله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وهكذا كانت آفاق دعوته إلى الله.(48/359)
ثانيا: من بين الطب والكرب جاء الفرج وناصر الإمام محمد بن سعود الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب وبايعه على الجهاد ونصرة عقيدة التوحيد:
وكادت الدنيا تظلم في عيني الإمام محمد بن عبد الوهاب، رغم إشراق شمس التوحيد من جديد، فقد بلغ أمير الإحساء وتوابعها من بني خالد سليمان بن عريعر الخالدي أمر الإمام الشيخ، فخشي أن يعظم أمره، فيزول سلطانه، فكتب إلى الأمير عثمان بن معمر متوعدا إياه، طالبا منه أن يقتل ذلك المطوع الذي ينشر عقيدة التوحيد في العيينة، وإلا فإنه سيقطع عنه خراجه الذي عنده، فخاف الأمير، وقال إنه لا يستطيع محاربة أمير الإحساء، ورجاه أن يخرج، فقال الإمام: إن ما أدعو إليه هو دين الله، وتحقيق كلمة لا إله إلا الله، وتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله، وبشره إن قبل الاستمرار في نصرته، ولكنه لم يقبل، فخرج الإمام محمد بن عبد الوهاب من العيينة أول النهار، متوجها إلى الدرعية، ماشيا غير راكب، فوصلها آخر النهار، ويقول سماحة الشيخ ابن باز في ذلك: (فدخل على شخص من خيارها- الدرعية- من أعيان البلد يقال له محمد بن سويلم العريني، فنزل عليه، ويقال أن(48/359)
هذا الرجل خاف من نزوله عليه، وضاقت به الأرض بما رحبت، وخاف من أمير الدرعية محمد بن سعود، فطمأنه الشيخ، وقال له أبشر بخير وهذا الذي أدعو إليه دين الله، وسوف يظهره الله، فبلغ محمد بن سعود خبر الشيخ محمد. يقال أن الذي أخبره به زوجته، جاء إليها بعض الصالحين، وقال لها أخبري محمدا بهذا الرجل، وشجعيه على قبول دعوته وحرضيه على مؤازرته ومساعدته، وكانت امرأة صالحة طيبة، فلما دخل عليها محمد بن سعود أمير الدرعية وملحقاتها، قالت له أبشر بهذه الغنيمة العظيمة هذه غنيمة ساقها الله إليك، رجل داعية يدعو إلى دين الله، ويدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا لها من غنيمة! . بادر بقبوله وبادر بنصرته، ولا تقف في ذلك أبدا، فقبل الأمير مشورتها، ثم تردد هل يذهب إليه أو يدعوه إليه؟! فأشير عليه، ويقال إن المرأة أيضا هي التي أشارت عليه مع جماعة من الصالحين، وقالوا له: لا ينبغي أن تدعوه إليك، بل ينبغي أن تقصده في منزله، وأن تقصده أنت، وأن تعظم العلم والداعي إلى الخير. فأجاب إلى ذلك لما كتب الله له من السعادة والخير، رحمة الله عليه، وأكرم الله مثواه، فذهب إلى الشيخ في بيت محمد بن سويلم، وقصده وسلم عليه، وتحدث معه، وقال له: يا شيخ محمد أبشر بالنصرة، وأبشر بالأمن، وأبشر بالمساعدة، فقال له الشيخ: وأنت أبشر بالنصرة أيضا والتمكين والعاقبة الحميدة. وهذا دين الله من نصره نصره الله، ومن أيده أيده الله، وسوف تجد آثار ذلك سريعا. فقال: يا شيخ سأبايعك على دين الله ورسوله وعلى الجهاد في سبيل الله،(48/360)
ولكنني أخشى إذا أيدناك ونصرناك وأظهرك الله على أعداء الإسلام أن تبتغي غير أرضنا، أو أن تنتقل عنا إلى أرض أخرى، فقال:
لا، أبايعك على هذا. أبايعك على الدم بالدم والهدم بالهدم، لا أخرج عن بلادك أبدا، فبايعه على النصرة وعلى البقاء في البلد، وأن يبقى عند الأمير يساعده، ويجاهد معه في سبيل الله حتى يظهر دين الله، وتمت البيعة على ذلك) (1) .
وهكذا كانت الوحدة مع التوحيد على ما نعرض له لاحقا من فكر مفكر آخر.
__________
(1) المرجع السابق ص 24.(48/361)
ثالثا: في الدرعية تبدأ دروس العقائد ومنها تنطلق رسائل الدعوة إلى التوحيد:
من أبرز ملامح دعوة التوحيد التي دعا إليها الإمام محمد بن عبد الوهاب، أنها تركزت مؤقتا في المكان لتنطلق منه إلى كل مكان، فقد توافد الناس إلى الدرعية حيث الإمام؛ من العيينة، وعرقة، ومنفوحة، والرياض، حيث الحب والتأييد لمن رتب الدروس في العقائد، وانتصر للقرآن الكريم، وسنة المصطفى الأمين، وامتدت الدروس للفقه وأصوله ومصطلح الحديث، والعلوم العربية والتاريخية، وكافة العلوم الأخرى النافعة التي كان سياجها الكلي هو عقيدة التوحيد. ثم بدأت دعوة الإمام تتخذ طابعا مكانيا أشمل، فبدأ بأهل نجد فكاتب الأمراء والعلماء، ومنهم علماء الرياض وأميرها دهام بن دواس، وكاتب علماء(48/361)
الخرج وأمراءها، وعلماء الجنوب، وعلماء حائل، والقصيم، والوشم، وسدير، والإحساء، والحرمين الشريفين، وامتد في المكاتبة إلى علماء مصر والشام والعراق والهند واليمن. ولم ينس في غمرة ذلك هموم نجد، وما كان قد حل بها من بلاء الشر، وشر الفساد والشرك والخرافات، وكان صبر الإمام، وتوافر النصير، واتساع دائرة الدعاة، واستخدام العبارات الدقيقة، والكلمات اللائقة، والحكمة الحسنة سببا في انتشار دعوته إلى الله التي قال عنها بثبات العلماء وعلم الثابتين المؤيدين من الله (1) : (أقول ولله الحمد والمنة وبه القوة: إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين، ولست- والحمد لله- أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم، أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم. . . بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له، وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي أوصى بها أول أمته وآخرهم، وأرجو أفي لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة حق لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتنا، حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقول إلا الحق) .
تلك إذا دعوة إلى التوحيد المطلق، وليس فيها شائبة واحدة من الشوائب التي يمكن أن تجيء إلى داعية رأى الباطل يجثم على أنفاس نجد فهدم أصنامه ورموزه الشركية، راغبا في إعادة الناس إلى عقيدة التوحيد بروعتها وبساطتها وجلالها، وقوتها وجمالها.
__________
(1) لم يورد سماحة الشيخ هذا النص الذي أتينا به هنا لتأييد سياق العرض.(48/362)
ومصلح كبير هذا شأنه وتلك غايته كان لا بد أن يناصبه العداء أولئك الذين خشوا على مصالحهم التي تتنافى مع قيم الدين.(48/363)
رابعا: اندحار الذين عادوا دعوة الإمام إلى التوحيد والتمسك بسنة النبي الأمي الأمين محمد صلى الله عليه وسلم:
لما اشتهرت دعوة الشيخ، وألف المؤلفات العلمية القيمة، ظهر جماعة من الحساد والأعداء، وصار أعداؤه وخصومه طائفتين: إحداهما ناصبته العداء باسم العلم والدين. والأخرى باسم السياسة تحت ستار العلم والدين، وحاصل ما رموه به أنه على غير حق، وأنه من الخوارج، وأنه يخرق الإجماع ويدعي الاجتهاد المطلق ولا يبالي بمن قبله من العلماء والفقهاء، وقد قسم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز الخصوم إلى ثلاثة أقسام:
1 - علماء مخرفون يرون الحق باطلا والباطل حقا، ويعتقدون أن البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها، ودعاءها من دون الله والاستغائة بها وما أشبه ذلك دين وهدى، ويعتقدون أن من أنكر ذلك فقد أبغض الصالحين والأولياء، وهو عدو يجب جهاده.
2 - وقسم آخر من المنسوبين للعلم جهلوا حقيقة هذا الرجل ولم يعرفوا عنه الحق الذي دعا إليه، بل قلدوا غيرهم وصدقوا ما قيل فيه من الخرافيين المضللين، وظنوا أنهم على هدى فيما نسبوه إليه من بغض الأولياء والأنبياء، ومن معاداتهم وإنكار كراماتهم، فذموا الشيخ وعابوا دعوته ونفروا منه.(48/363)
3 - وقسم ثالث: (خافوا على المناصب والمراتب فعادوه لئلا تمتد أيدي أنصار الدعوة الإسلامية إليهم فتزلهم عن مراكزهم وتستولي على بلادهم، واستمرت الحرب الكلامية والمجادلات والمساجلات بين الشيخ وخصومه، يكاتبهم ويكاتبونه، ويجادلهم ويرد عليهم ويردون عليه، وهكذا جرى بين أبنائه وأحفاده وأنصاره وبين خصوم الدعوة حتى اجتمع من ذلك رسائل كثيرة، وردود جمة بلغت مجلدات طبع أكثرها والحمد لله) .
واستمر الشيخ في الدعوة والجهاد وساعده الأمير محمد بن سعود أمير الدرعية وجد الأسرة السعودية على ذلك، ورفعت راية لجهاد، وبدأ الجهاد من عام 1158 هـ، بدأ الجهاد بالسيف وبالكلام والبيان والحجة والبرهان ثم استمرت الدعوة مع الجهاد بالسيف قمعا للباطل، فالعاقل ذو الفطرة السليمة، ينتفع بالبينة، ويقبل الحق بدليله، أما الظالم التابع لهواه فلا يردعه إلا السيف، فجد الشيخ رحمه الله في الدعوة والجهاد، وساعده أنصاره من آل سعود طيب الله ثراهم على ذلك، واستمروا في الجهاد والدعوة من عام 1158 هـ إلى أن توفي الشيخ في عام 1206 هـ، فاستمر الجهاد والدعوة قريبا من خمسين عاما، جهاد ودعوة ونضال وجدال في الحق، وإيضاح كل ما قاله الله ورسوله، ودعوة إلى دين الله، وإرشاد إلى ما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى التزم الناس بالطاعة، ودخلوا في دين الله وهدموا ما عندهم من القباب، وأزالوا ما لديهم من المساجد المبنية على القبور، وحكموا الشريعة(48/364)
ودانوا بها وتركوا ما كانوا عليه من تحكيم سوالف الآباء والأجداد وقوانينهم، ورجعوا إلى الحق وعمرت المساجد بالصلوات وحلقات العلم وأديت الزكوات وصام الناس رمضان كما شرع الله عز وجل، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وساد الأمن في الأمصار والقرى والطرق والبوادي ووقف أهل البادية عند حدهم، ودخلوا في دين الله وقبلوا الحق، ونشر الشيخ فيهم الدعوة، وأرسل إليهم الشيوخ المرشدين والدعاة في الصحراء والبوادي، كما أرسل المعلمين والمرشدين والقضاة إلى البلدان والقرى، وعم هذا الخير العظيم والهدى المستبين نجدا كلها، وانتشر فيها الحق وظهر فيها دين الله عز وجل، ثم استمرت الدعوة، وبعد فراغ الدعاة وآل نجد امتدت الدعوة إلى الحرمين وجنوب الجزيرة، فلما لم تجب الدعوة واستمر أهل الحرمين على ما هم عليه من تعظيم القباب واتخاذ القبور ووجود الشرك عندها والسؤال لأربابها، سار الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد، بعد وفاة الشيخ بإحدى عشرة سنة، وتوجه إلى جهة الحجاز، ونازل أهل الطائف ثم قصد أهل مكة، وكان أهل الطائف قد توجه إليهم قبل سعود الأمير عثمان بن عبد الرحمن المضايفي، ونازلهم بقوة أرسلها الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد أمير الدرعية بقوة عظيمة من أهل نجد وغيرهم، وساعدوه حتى استولى على الطائفة، وخرج منها أمراء الشريف، وأظهر فيها الدعوة إلى الله، وأرشد إلى الحق، ونهى فيها عن الشرك وعبادة ابن عباس وغيرهم مما كان يعبده هناك الجهال والسفهاء من أهل الطائف، ثم توجه الأمير سعود عن أمر أبيه(48/365)
عبد العزيز إلى جهة الحجاز، وجمعت الجيوش حول مكة. فلما عرف شريفها أنه لا بد من التسليم أو الفرار فر إلى جدة. ودخل سعود ومن معه من المسلمين البلاد من غير قتال واستولوا على مكة في فجر محرم من عام 1218 هـ وأظهروا فيها الدعوة إلى دين الله، وهدموا ما فيها من القباب التي بنيت على قبر خديجة وغيره، فأزالوا القباب كلها، وأظهروا فيها الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، وعينوا فيها العلماء والمدرسين والموجهين والمرشدين والقضاة الحاكمين بالشريعة. ثم بعد مدة وجيزة فتحت المدينة، واستولى آل سعود على المدينة في عام 1220 هـ بعد مكة بنحو سنتين، واستمر الحرمان في ولاية آل سعود، وعينوا فيها الموجهين والمرشدين، وأظهروا في البلاد العدل وتحكيم الشريعة، ولم يزل الحرمان الشريفان تحت ولاية آل سعود حتى عام 1226 هـ ثم بدأت الجيوش المصرية والتركية تتوجه إلى الحجاز لقتال آل سعود وإخراجهم من الحرمين لأسباب كثيرة، هي: أن أعداءهم وحسادهم والمخرفين الذين ليس لهم بصيرة، وبعض السياسيين الذين أرادوا إخماد هذه الدعوة خافوا منها أن تزيل مراكزهم وأن تقضي على أطماعهم، كذبوا على الشيخ وأتباعه وأنصاره وقالوا إنهم يبغضون الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنهم يبغضون الأولياء وينكرون كراماتهم، وقالوا إنهم أيضا يقولون كيت وكيت مما يزعمون أنهم ينتقصون به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وصدق هذا بعض الجهال، وبعض المغرضين، وجعلوه سلما للنيل منه والجهاد لهم وتشجيع الأتراك والمصريين على حربهم، فجرى ما(48/366)
جرى من الفتن والقتال، وصار القتال بين الجنود المصرية والتركية ومن معهم وبين آل سعود في نجد والحجاز سجالا مدة طويلة من عام 1226 هـ إلى عام 1233 هـ سبع سنين كلها- كما يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ويؤيده فيه ما تقدم من بيان- قتال ونضال بين قرى الحق وقوى الباطل، ذلك أن دعوة الإمام لم تقم إلا لإظهار دين الله، ومساندة آل سعود لذلك كانت من منطلق إيماني بحت قوامه العودة إلى الدين الإسلامي الصافي الحنيف وإنكار البدع والخرافات والتوحيد الخالص، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد أن عثت الجنود المصرية في نجد- كما يشهد بذلك سماحته- وقتلت من قتلت وخربت ما خربت، لم يمض على ذلك إلا سنوات قليلة، ثم قامت الدعوة وانتشرت على يد الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود رحمه الله، فنشر الدعوة في نجد وما حولها وانتشر العلماء في نجد وأخرج من كان هناك من الأتراك والمصريين، وانتشرت الدعوة في نجد من عام 1240 هـ واستمرت الدعوة إلى الآن، ولم يزل يخلف آل سعود بعضهم بعضا- جزاهم الله خيرا- في الإمامة وآل الشيخ وعلماء نجد بعضهم بعضا في الدعوة إلى الله والإرشاد.(48/367)
خامسا: الجاهلية التي هدمها محمد بن عبد الوهاب وعلى أنقاضها أعاد وضع أسس بناء وإظهار عقيدة التوحيد ما كانت لتنهدم إلا بصدق نية الاتباع:
ترى ماذا كان يفعل الإمام محمد بن، عبد الوهاب، لو رأى بلدان العالم الإسلامي الآن، وأوجعه ما بها من موجبات الأحزان:
فقبور هي عبارة عن قصور، وبيوت يباح فيها ممارسة الجنس للشباب المسلم ولا حول ولا، قوة إلا بالله، ومحاكمات للشباب الذي يعفي لحيته، ونساء يولولون على القبور المرتفعة على الأرض ارتفاعا كبيرا، ومشايخ طرق توضع الأموال في خزائنهم ولا يحركون ساكنا من أجل العودة إلى الحق، وموسيقى تصدح من نوادي العري وعلب الليل، وموائد قمار يخسر عليها الناس آلاف الجنيهات التي امتصوها من دم الشعب، وحكام لا يطبقون شريعة الله يستنكفون عن العودة إلى سبيل الحق، وبنوك لا تتعامل إلا بالربا، وشركات تأمين لا تحاول الاقتراب من شرع الله وتعديل وأنظمتها لتتفق معه، ونساء متبرجات، وإعلام له أجهزة كأنها قنابل موقوتة تنفجر في كل بيت، ومدارس ولا تعلم فيها مبادئ الدين، وكل هذا في بلاد المسلمين من المشرق حتى المغرب، ولا أحد يتحرك، فأين منا محمد بن عبد الوهاب، وماذا كان يصنع لو رأى ذلك؟!
لا شك أنه كان سيقوم لتجديد شباب الإسلام، وتأكيد عقيدة التوحيد، مثلما فعل في جزيرة العرب، عندما تحرك حسه الديني، وضميره الإيماني، وراح يحطم أصنام الجاهلية التي جثمت(48/368)
على صدر الإسلام وأرادت إرداءه.
هكذا عظماء الإسلام، الأشخاص المجددون، فهم أشخاص كغيرهم، ولكنهم لاذوا بربهم، يرون الرذيلة فينكرونها ولا يترددون أبدا فيها، والمعاصي فيمنعونها ولا يفرحون أبدأ بها، والآثام فيقضون عليها ولا يسعدون لحظة واحدة بالسكوت عنها.
والدليل على ذلك أنه كان في جزيرة العرب آلاف العلماء، ولكنهم سكتوا ولم يغيروا، أما هو فقد بحث وحث على العودة إلى عقيدة التوحيد، وهذا ما تحتاج إليه الدول الإسلامية الأخرى الآن.
إن الذين يتصورون أن ما فعله الإمام كان شيئا بسيطا إنما هم واهمون، فلقد كانت كارثة الجاهلية جسيمة عظيمة، ولذا كانت الدعوة إلى القضاء عليها عظيمة.
ورد في مصباح الظلام: (أنه من المعلوم عند كل عاقل خبر الناس وعرف أحوالهم، وسمع شيئا من أخبارهم وتواريخهم أن أهل نجد وغيرهم ممن تبع الشيخ واستجاب لدعوته من سكان جزيرة العرب كانوا على غاية من الجهالة والضلالة والفقر والعالة، لا يستريب في ذلك عاقل، ولا يجادل فيه عارف، كانوا من أمر دينهم في جاهلية: يدعون الصالحين، ويعتقدون في الأشجار والأحجار، يطوفون بقبور الأولياء، ويرجون الخير والنصر من جهتها. وفيهم من كفر الاتحادية والحلولية وجهالة الصوفية ما يرون أنه من الشعب الإيمانية والطريقة المحمدية. وفيهم من إضاعة الصلوات، ومنع الزكاة، وشرب المسكرات ما هو معروف(48/369)
مشهور) .
تلك الحالة، كانت بحق حالة جاهلية، ولكن أحدا لم يشعر بخطرها، أو يدرك آثارها السيئة على الإسلام والمسلمين، سوى الإمام محمد بن عبد الوهاب، فقام بدعوته السلفية التي أثرت في العالم الإسلامي برمته تأثيرا إيجابيا وهكذا كان الإحساس بالجاهلية هو سبب غرس العقيدة في النفوس.
لقد أشعل جذوة الفكر، وأحيا روح العقل، ووأد الجهل الضارب أطنابه وقضى على الحيرة، وجمع شمل أوصال الأمة بالتوحيد، وبعث فيها الروح الإسلامية الصحيحة الواعية، وجعل مجد الإسلام، ولغة القرآن غايته العظمى فكانت تنقية العقيدة من الخرافات والبدع بغيته، وإحياء لغة القرآن التي كادت تندرس أمنيته، وكم كان العالم الإسلامي كله في حاجة إلى هذه الدعوة، فقد (عاشت الأمة الإسلامية في بلاد العرب وغيرها من بلدان المسلمين على ما لديها من رصيد قديم، تسربت إليه عناصر الإفساد في ناحيتي الحياة العقلية والدينية عصورا طويلة أغفلها التاريخ من حسبانه، فلم يصلنا عن مجرياتها وطابعها المميز إلا النزر اليسير، واستمرت الحال على ذلك الضعف في جميع النواحي حتى قيض الله للإسلام من يقوم بتجديده، ويعيد له قدسيته التي انتهكت بما أدخل فيه من مذاهب فاسدة، وما وجد به من بدع منكرة، وآراء(48/370)
ضالة- وأفكار هزيلة- ولقد فتح الله على قلب الإمام محمد بن عبد الوهاب فقام بدعوته الإصلاحية الدينية، ودعا الناس إلى العودة للدين الإسلامي الصحيح، الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فاستجاب له أهل نجد ومن يليهم من القبائل، ثم انتشرت دعوته في الجزيرة العربية وما جاورها من البلدان، حتى تغلغلت بعد سنوات قليلة من قيامها في كثير من البلدان المعمورة، وخرج الناس من شتى أنحاء العالم لمبايعة الإمام والسير على خطاه ودخل الناس في دعوته بعد ذلك مبهورين بتفانيه في سبيل عقيدة التوحيد، ورفع لواء نبي التوحيد محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان لتلك الجاهلية أن تندك حصونها، ولعقيدة التوحيد أن يشاد بنيانها لو لم توجد النية الصادقة التي لا تعبأ بالعقبات، ولا تخشى من المشكلات، ولا تقيم وزنا لمعارضة الضالين، أو كيد الكائدين، فما أحوجنا إلى نيات صادقة عامة بقدر عدد أفراد الأمة لكي نقاوم نزغات الشيطان، ونعيد رفع ذات البنيان، حتى تظهر عقيدة التوحيد، وتقتلع من أمامها كل المثبطات الشركية، والأدران البدعية، ومن أخطرها الآن بالإضافة لما حاربه الإمام تحكيم القوانين الوضعية في أمة رايتها هي التوحيد وحقيقة دعوتها محاربة الشرك والبدع، ولا يحسبن أحد أن هناك أي مجال للفصل بين عقيدة التوحيد، وبين تطبيق شرع الله المجيد، فالإسلام جاء للقضاء على الجاهلية، ولا يجوز لمسلم أن يقبل بأن تتحكم فيه(48/371)
قوانين وضعية جاهلية، وإنها لكذلك طالما لم ترد في كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا انعقد عليها إجماع الأمة، ولا تستنبط من كل ذلك أو بعض ذلك، أو إذا كانت لا تتفق مع مقتضى التوحيد، أو تخالف مقتضى نصوص الكتاب والسنة، أو لا يقرها إجماع الأمة، فعندئذ تكون تلك القوانين من آثار الجاهلية، وهو أمر لا يجوز، إذ يجب تحكيم شرع الله تعالى حتى يوضع حد لتصورات وحكم الجاهلية.
والله ولي التوفيق.(48/372)
خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإن الدعوة إلى نزول المرأة للعمل في ميدان الرجال المؤدي إلى الاختلاط سواء كان ذلك على جهة التصريح أو التلميح بحجة أن ذلك من مقتضيات العصر ومتطلبات الحضارة أمر خطير جدا له تبعاته الخطيرة، وثمراته المرة، وعواقبه الوخيمة، رغم مصادمته للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه.
ومن أراد أن يعرف عن كثب ما جناه الاختلاط من المفاسد التي لا تحصى فلينظر إلى تلك المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم اختيارا أو اضطرارا بإنصاف من نفسه وتجرد للحق عما عداه يجد التذمر على المستوى الفردي والجماعي والتحسر على انفلات المرأة من بيتها وتفكك الأسر، ونجده واضحا على لسان الكثير من الكتاب بل في جميع وسائل الإعلام وما ذلك إلا لأن هذا هدم للمجتمع وتقويض لبنائه.(48/373)
والأدلة الصحيحة الصريحة الدالة على تحريم الخلوة بالأجنبية وتحريم النظر إليها وتحريم الوسائل الموصلة إلى الوقوع فيما حرم الله أدلة كثيرة قاضية بتحريم الاختلاط لأنه يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
وإخراج المرأة من بيتها الذي هو مملكتها ومنطلقها الحيوي في هذه الحياة إخراج لها عما تقتضيه فطرتها وطبيعتها التي جبلها الله عليها.
فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي ومن أعظم آثاره الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا الذي يفتك بالمجتمع ويهدم قيمه وأخلاقه.
ومعلوم أن الله تبارك وتعالى جعل للمرأة تركيبا خاصا يختلف تماما عن تركيب الرجال هيأها به للقيام بالأعمال التي في داخل بيتها والأعمال التي بين بنات جنسها.
ومعنى هذا: أن اقتحام المرأة لميدان الرجال الخاص بهم يعتبر إخراجا لها عن تركيبها وطبيعتها. وفي هذا جناية كبيرة على المرأة وقضاء على معنوياتها وتحطيم لشخصيتها، ويتعدى ذلك إلى أولاد الجيل من ذكور وإناث؛ لأنهم يفقدون التربية والحنان والعطف. فالذي يقوم بهذا الدور هو الأم قد فصلت منه وعزلت تماما عن مملكتها التي لا يمكن أن تجد الراحة والاستقرار والطمأنينة إلا فيها، وواقع المجتمعات التي تورطت في هذا أصدق شاهد على ما نقول.(48/374)
والإسلام جعل لكل من الزوجين واجبات خاصة على كل واحد منهما أن يقوم بدوره ليكتمل بذلك بناء المجتمع في داخل البيت وفي خارجه.
فالرجل يقوم بالنفقة والاكتساب، والمرأة تقوم بتربية الأولاد والعطف والحنان والرضاعة والحضانة والأعمال التي تناسبها لتعليم الصغار، وإدارة مدارسهن والتطبيب والتمريض لهن ونحو ذلك من الأعمال المختصة بالنساء. فترك واجبات البيت من قبل المرأة يعتبر ضياعا للبيت بمن فيه، ويترتب عليه تفكك الأسرة حسيا ومعنويا، وعند ذلك يصبح المجتمع شكلا وصورة لا حقيقة ومعنى.
قال الله جل وعلا: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (1) فسنة الله في خلقه أن القوامة للرجل بفضله عليها، كما دلت الآية الكريمة على ذلك. وأمر الله سبحانه للمرأة بقرارها في بيتها ونهيها عن التبرج معناه: النهي عن الاختلاط وهو: اجتماع الرجال بالنساء الأجنبيات في مكان واحد بحكم العمل أو البيع أو الشراء أو النزهة أو السفر أو نحو ذلك؛ لأن اقتحام المرأة في هذا الميدان يؤدي بها إلى الوقوع في المنهي عنه، وفي ذلك مخالفة لأمر الله وتضييع لحقوقه، المطلوب شرعا من المسلمة أن تقوم بها.
__________
(1) سورة النساء الآية 34(48/375)
والكتاب والسنة دلا على تحريم الاختلاط وتحريم جميع الوسائل المؤدية إليه قال الله جل وعلا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (1) {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (2) .
فأمر الله أمهات المؤمنين- وجميع المسلمات والمؤمنات داخلات في ذلك- بالقرار في البيوت، لما في ذلك من صيانتهن وإبعادهن عن وسائل الفساد؛ لأن الخروج لغير حاجة قد يفضي إلى التبرج، كما يفضي إلى شرور أخرى، ثم أمرهن بالأعمال الصالحة التي تنهاهن عن الفحشاء والمنكر وذلك بإقامتهن الصلاة وإيتائهن الزكاة وطاعتهن لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم وجههن إلى ما يعود عليهن بالنفع في الدنيا والآخرة وذلك بأن يكن على اتصال دائم بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية المطهرة اللذين فيهما ما يجلو صدأ القلوب ويطهرها من الأرجاس والأنجاس ويرشد إلى الحق والصواب.
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) فأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام- وهو المبلغ عن
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 34
(3) سورة الأحزاب الآية 59(48/376)
ربه- أن يقول لأزواجه وبناته وعامة نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن وذلك يتضمن ستر باقي أجسامهن بالجلابيب وذلك إذا أردن الخروج لحاجة مثلا، لئلا تحصل لهن الأذية من مرضى القلوب، فإذا كان الأمر بهذه المثابة فما بالك بنزولها إلى ميدان الرجال، واختلاطها معهم، وإبداء حاجتها إليهم بحكم الوظيفة والتنازل عن كثير من أنوثتها لتنزل في مستواهم وذهاب كثير من حيائها ليحصل بذلك الانسجام بين الجنسين المختلفين معنى وصورة.
قال الله جل وعلا: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (1) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (2) الآية.
يأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبلغ المؤمنين والمؤمنات أن يلتزموا بغض النظر وحفظ الفرج عن الزنا ثم أوضح سبحانه أن هذا الأمر أزكى لهم، ومعلوم أن حفظ الفرج من الفاحشة إنما يكون باجتناب وسائلها، ولا شك أن إطلاق البصر واختلاط النساء بالرجال والرجال بالنساء في ميادين العمل وغيرها من أعظم وسائل وقوع الفاحشة. وهذان الأمران المطلوبان من المؤمن يستحيل تحققهما منه وهو يعمل مع المرأة الأجنبية كزميلة أو مشاركة في العمل له. فاقتحامها هذا الميدان معه، واقتحامه الميدان
__________
(1) سورة النور الآية 30
(2) سورة النور الآية 31(48/377)
معها، لا شك أنه من الأمور التي يستحيل معها غض البصر وإحصان الفرج والحصول على زكاة النفس وطهارتها.
وهكذا أمر الله المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة إلا ما ظهر منها، وأمرهن الله بإسدال الخمار على الجيوب المتضمن ستر رأسها ووجهها؛ لأن الجيب محل الرأس والوجه. فكيف يحصل غض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة عند نزول المرأة ميدان الرجال واختلاطها معهم في الأعمال، والاختلاط كفيل بالوقوع في هذه المحاذير. كيف يحصل للمرأة المسلمة أن تغض بصرها وهي تسير مع الرجل الأجنبي جنبا إلى جنب بحجة أنها تشاركه في الأعمال وتساويه في جميع ما تقوم به.
والإسلام حرم جميع الوسائل والذرائع الموصلة إلى الأمور المحرمة. وكذلك حرم الإسلام على النساء خضوعهن بالقول للرجال لكونه يفضي إلى الطمع فيهن كما في قوله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (1) يعني مرض الشهوة. فكيف يمكن التحفظ من ذلك مع الاختلاط.
ومن البديهي أنها إذا نزلت إلى ميدان الرجال لا بد أن تكلمهم وأن يكلموها ولا بد أن ترقق لهم الكلام وأن يرققوا لها الكلام، والشيطان من وراء ذلك يزين ويحسن ويدعو إلى الفاحشة حتى يقعوا فريسة له. والله حكيم عليم حيث أمر المرأة بالحجاب
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 32(48/378)
وما ذاك إلا لأن الناس فيهم البر والفاجر والطاهر والعاهر فالحجاب يمنع- بإذن الله- من الفتنة ويحجز دواعيها وتحصل به طهارة قلوب الرجال والنساء والبعد عن مظان التهمة قال الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) الآية.
وخير حجاب المرأة بعد حجاب وجهها باللباس هو بيتها.
وحرم عليها الإسلام مخالطة الرجال الأجانب لئلا تعرض نفسها للفتنة بطريق مباشر أو غير مباشر. وأمرها بالقرار في البيت وعدم الخروج منه إلا لحاجة مباحة مع لزوم الأدب الشرعي وقد سمى الله مكث المرأة في بيتها قرارا وهذا المعنى من أسمى المعاني الرفيعة ففيه استقرار لنفسها وراحة لقلبها وانشراح لصدرها. فخروجها عن هذا القرار يفضي إلى اضطراب نفسها وقلق قلبها وضيق صدرها وتعريضها لما لا تحمد عقباه. ونهى الإسلام عن الخلوة بالمرأة الأجنبية على الإطلاق إلا مع ذي محرم، وعن السفر إلا مع ذي محرم، سدا لذريعة الفساد وإغلاقا لباب الإثم، وحسما لأسباب الشر، وحماية للنوعين من مكايد الشيطان، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (2) » وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتقوا
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) رواه البخاري في النكاح برقم 4706 واللفظ له، ومسلم في الذكر والدعاء برقم 4923.(48/379)
الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (1) » .
وقد يتعلق بعض دعاة الاختلاط ببعض ظواهر النصوص الشرعية التي لا يدرك مغزاها إلا من نور الله قلبه وتفقه في الدين وضم الأدلة الشرعية بعضها إلى بعض وكانت في تصوره وحدة لا يتجزأ بعضها عن بعض. ومن ذلك خروج بعض النساء مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات. والجواب عن ذلك أن خروجهن كان مع محارمهن لمصالح كثيرة لا يترتب عليه ما يخشى عليهن من الفساد لإيمانهن وتقواهن وإشراف محارمهن عليهن، وعنايتهن بالحجاب بعد نزول آيته بخلاف حال الكثير من نساء العصر. ومعلوم أن خروج المرأة من بيتها إلى العمل يختلف تماما عن الحالة التي خرجن بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو، فقياس هذه على تلك يعتبر قياسا مع الفارق.
وأيضا فما الذي فهمه السلف الصالح حول هذا- وهم لا شك أدرى بمعاني النصوص من غيرهم وأقرب إلى التطبيق العملي لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- فما هو الذي نقل عنهم على مدار الزمن؟ هل وسعوا الدائرة كما ينادي دعاة الاختلاط فنقلوا ما ورد في ذلك إلى أن تعمل المرأة في كل ميدان من ميادين الحياة مع الرجال، تزاحمهم ويزاحمونها، وتختلط معهم ويختلطون معها؟ أم أنهم فهموا أن تلك قضايا معينة لا تتعداها إلى غيرها.
__________
(1) رواه مسلم في الذكر والدعاء برقم 4925.(48/380)
وإذا استعرضنا الفتوحات الإسلامية والغزوات على مدار التاريخ لم نجد هذه الظاهرة، أما ما يدعى في هذا العصر من إدخالها كجندي يحمل السلاح وتقاتل كالرجل فهو لا يتعدى أن يكون وسيلة لإفساد وتذويب أخلاق الجيوش باسم الترفيه عن الجنود؛ لأن طبيعة الرجال إذا التقت مع طبيعة المرأة كان منهما عند الخلوة ما يكون بين الرجل والمرأة من الميل والأنس والاستراحة إلى الحديث والكلام، وبعض الشيء يجر إلى بعض وإغلاق الفتنة أحكم وأحزم وأبعد من الندامة في المستقبل.
فالإسلام حريص جدا على جلب المصالح ودرء المفاسد وغلق الأبواب المؤدية إليها. ولاختلاط المرأة مع الرجل في ميدان العمل تأثير كبير في انحطاط الأمة وفساد مجتمعها كما سبق، لأن المعروف تاريخيا عن الحضارات القديمة الرومانية واليونانية ونحوهما أن من أعظم أسباب الانحطاط والانهيار الواقع بها هو خروج المرأة من ميدانها الخاص إلى ميدان الرجال ومزاحمتهم مما أدى إلى فساد أخلاق الرجال، وتركهم لما يدفع بأمتهم إلى الرقي المادي والمعنوي، وانشغال المرأة خارج البيت يؤدي إلى بطالة الرجل وخسران الأمة انسجام الأسرة وانهيار صرحها وفساد أخلاق الأولاد ويؤدي إلى الوقوع في مخالفة ما أخبر الله به في كتابه من قوامة الرجل على المرأة.(48/381)
وقد حرص الإسلام أن يبعد المرأة عن جميع ما يخالف طبيعتها، فمنعها من تولي الولاية العامة، كرئاسة الدولة والقضاء وجميع ما فيه مسئوليات عامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (1) » رواه البخاري في صحيحه. ففتح الباب لها بأن تنزل إلى ميدان الرجال يعتبر مخالفا لما يريده الإسلام من سعادتها واستقرارها، فالإسلام يمنع تجنيد المرأة في غير ميدانها الأصيل، وقد ثبت من التجارب المختلفة- وخاصة في المجتمع المختلط- أن الرجل والمرأة لا يتساويان فطريا ولا طبيعيا فضلا عما ورد في الكتاب والسنة واضحا جليا في اختلاف الطبيعتين والواجبين. والذين ينادون بمساواة الجنس اللطيف المنشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين بالرجال، يجهلون أو يتجاهلون الفوارق الأساسية بينهما.
لقد ذكرنا من الأدلة الشرعية والواقع الملموس ما يدل على تحريم الاختلاط واشتراك المرأة في أعمال الرجال ما فيه كفاية ومقنع لطالب الحق. ولكن نظرا إلى أن بعض الناس قد يستفيدون من كلمات رجال الغرب والشرق أكثر مما يستفيدون من كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام علماء المسلمين، رأينا أن ننقل لهم ما يتضمن اعتراف رجال الغرب والشرق بمضار الاختلاط ومفاسده لعلهم يقتنعون بذلك، ويعلمون أن ما جاء به
__________
(1) رواه البخاري في المغازي برقم 4073، والترمذي في الفتن برقم 2188، والنسائي في آداب القضاة برقم 5293.(48/382)
دينهم العظيم من منع الاختلاط هو عين الكرامة والصيانة للنساء وحمايتهن من وسائل الإضرار بهن والانتهاك لأعراضهن.
قالت الكاتبة الإنجليزية اللادي كوك: (إن الاختلاط يألفه الرجال ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، وهاهنا البلاء العظيم على المرأة.) إلى أن قالت: (علموهن الابتعاد عن الرجال أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد) .
وقال شوبنهور الألماني: (قل هو الخلل العظيم في ترتيب أحوالنا الذي دعا المرأة لمشاركة الرجل في علو مجده وباذخ رفعته وسهل عليها التعالي في مطامعها الدنيئة حتى أفسدت المدنية الحديثة بقوى سلطانها ودنيء آرائها) .
وقال اللورد بيرون: (لو تفكرت أيها المطالع فيما كانت عليه المرأة في عهد قدماء اليونان لوجدتها في حالة مصطنعة مخالفة للطبيعة، ولرأيت معي وجوب إشغال المرأة بالأعمال المنزلية مع تحسن غذائها وملبسها فيه وضرورة حجبها عن الاختلاط بالغير) اهـ.
وقال سامويل سمايلس الإنجليزي: (إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية؛ لأنه هاجم هيكل المنزل وقوض أركان الأسرة ومزق الروابط الاجتماعية. فإنه يسلب الزوجة من زوجها، والأولاد من أقاربهم، فصار بنوع خاص لا نتيجة له إلا(48/383)
تسفيل أخلاق المرأة، إذ وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية، مثل ترتيب مسكنها، وتربية أولادها، والاقتصاد في وسائل معيشتها، مع القيام بالاحتياجات البيتية، ولكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات، بحيث أصبحت المنازل خالية، وأضحت الأولاد تشب على عدم التربية، وتلقى في زوايا الإهمال، وطفئت المحبة الزوجية، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة والقرينة المحبة للرجل، وصارت زميلته في العمل والمشاق وباتت معرضة للتأثيرات التي تمحو غالبا التواضع الفكري والأخلاقي الذي عليه مدار حفظ الفضيلة) .
وقالت الدكتورة إيدايلين: (إن سبب الأزمات العائلية في أمريكا وسر كثرة الجرائم في المجتمع، هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة، فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق.) . ثم قالت: (إن التجارب، أثبتت أن عودة المرأة إلى الحريم هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي يسير فيه) .
وقال أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي: (إن المرأة تستطيع أن تخدم الدولة حقا إذا بقيت في البيت الذي هو كيان الأسرة) .
وقال عضو آخر: (إن الله عندما منح المرأة ميزة إنجاب الأولاد، لم يطلب منها أن تتركهم لتعمل في الخارج بل جعل مهمتها البقاء في المنزل لرعاية هؤلاء الأطفال) .(48/384)
وقال شوبنهور الألماني أيضا: (اتركوا للمرأة حريتها المطلقة كاملة بدون رقيب، ثم قابلوني بعد عام لتروا النتيجة، ولا تنسوا أنكم سترثون معي للفضيلة والعفة والأدب وإذا مت فقولوا: أخطأ أو أصاب كبد الحقيقة) .
ذكر هذه النقول كلها الدكتور مصطفى حسني السباعي رحمه الله في كتابه المرأة بين الفقه والقانون.
ولو أردنا أن نستقصي ما قاله منصفوا الغرب في مضار الاختلاط التي هي نتيجة نزول المرأة إلى ميدان أعمال الرجال لطال المقال ولكن الإشارة المفيدة تكفي عن طول العبارة.(48/385)
والخلاصة: إن استقرار المرأة في بيتها والقيام بما يجب عليها من تدبيره بعد القيام بأمور دينها، هو الأمر الذي يناسب طبيعتها وفطرتها وكيانها وفيه صلاحها وصلاح المجتمع وصلاح الناشئة، فإن كان عندها فضل ففي الإمكان تشغيلها في الميادين النسائية، كالتعليم للنساء، والتطبيب والتمريض لهن ذلك مما يكون من الأعمال النسائية في ميادين النساء كما سبقت الإشارة إلى ذلك.
وفيها شغل لهن شاغل وتعاون مع الرجال في أعمال المجتمع وأسباب رقيه، كل في جهة اختصاصه. ولا ننسى هنا دور أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ومن سار في سبيلهن وما قمن به من تعليم للأمة، وتوجيه، وإرشاد، وتبليغ عن الله سبحانه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فجزاهن الله عن ذلك خيرا، وأكثر في(48/385)
المسلمين اليوم أمثالهن مع الحجاب والصيانة والبعد عن مخالطة الرجال في ميدان أعمالهم.
والله المسئول أن يبصر الجميع بواجبهم وأن يعينهم على أدائه على الوجه الذي يرضيه، وأن يقي الجميع وسائل الفتنة وعوامل الفساد، ومكايد الشيطان، إنه جواد كريم وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(48/386)
حديث شريف
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (1) »
رواه مسلم في كتاب العلم،
باب من سن سنة حسنة
__________
(1) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .(48/387)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (1)
(سورة التوبة، الآية 36)
__________
(1) سورة التوبة الآية 36(49/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(49/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(49/3)
المحتويات
الافتتاحية
فضل صوم رمضان وقيامه لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة
حكم طواف الوداع اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 21
الفتاوى
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 77
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 109
البحوث
قطع النزاع في تحريم الرضاع (مخطوطة) تأليف عثمان بن أحمد بن قائد النجدي
تحقيق: د. الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان 139(49/4)
التوكل وأثره التربوي في الكتاب والسنة د. مسفر بن سعيد بن دماس الغامدي 163
القراءة الشاذة عند الأصوليين وأثرها في اختلاف الفقهاء د. علي بن سعد الضويحي 237
عقيدة الأمة في المهدي المنتظر للشيخ / يوسف بن عبد الرحمن البرقاوي 303
من قرارات هيئة كبار العلماء 359
من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي 365
تعقيب على كلمة الشيخ / محمد ناصر الدين الألباني لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 373
حكم صلاة الكسوف في أوقات النهي لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 379(49/5)
صفحة فارغة(49/6)
الافتتاحية
فضل صوم رمضان وقيامه
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين، وفقني الله وإياهم لاغتنام الخيرات، وجعلني وإياهم من المسارعين إلى الأعمال الصالحات، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فيا أيها المسلمون، إنكم في شهر عظيم مبارك ألا وهو شهر رمضان: شهر الصيام، والقيام، وتلاوة القرآن، شهر العتق والغفران، شهر الصدقات والإحسان، شهر تفتح فيه أبواب الجنات، وتضاعف فيه الحسنات، وتقال فيه العثرات، شهر تجاب فيه الدعوات وترفع الدرجات وتغفر فيه السيئات، شهر يجود الله فيه سبحانه على عباده بأنواع الكرامات ويجزل فيه لأوليائه العطيات، شهر جعل الله صيامه أحد أركان الإسلام، فصامه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأمر الناس بصيامه، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من صامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم، فعظموه رحمكم الله بالنية الصالحة والاجتهاد في حفظ صيامه وقيامه والمسابقة فيه إلى الخيرات، والمبادرة فيه إلى التوبة(49/7)
النصوح من جميع الذنوب والسيئات، واجتهدوا في التناصح بينكم والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى كل خير لتفوزوا بالكرامة والأجر العظيم.
وفي الصيام فوائد كثيرة وحكم عظيمة، منها: تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها من الأخلاق السيئة والصفات الذميمة كالأشر والبطر والبخل، وتعويدها الأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود والكرم ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرب لديه. ومن فوائد الصوم: أنه يعرف العبد نفسه وحاجته وضعفه وفقره لربه ويذكره بعظيم نعم الله عليه ويذكره أيضا بحاجة إخوانه الفقراء، فيوجب له ذلك شكرا لله سبحانه والاستعانة بنعمه على طاعته، ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه الفوائد في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) .
فأوضح سبحانه أنه كتب علينا الصيام لنتقيه سبحانه؛ فدل ذلك: على أن الصيام وسيلة للتقوى. والتقوى: هي توحيد الله سبحانه والإيمان به وبرسوله وبكل ما أخبر الله به ورسوله وطاعته ورسوله بفعل ما أمر وترك ما نهى عنه عن إخلاص لله عز وجل ومحبة ورغبة ورهبة، وبذلك يتقي العبد عذاب الله وغضبه.
فالصيام شعبة عظيمة من شعب التقوى وقربة إلى المولى عز وجل ووسيلة قوية إلى التقوى في بقية شؤون الدين والدنيا،
__________
(1) سورة البقرة الآية 183(49/8)
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض فوائد الصوم في قوله: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء (1) » متفق عليه.
فبين النبي عليه الصلاة والسلام: أن الصوم وجاء للصائم ووسيلة لطهارته وعفافه؛ وما ذاك إلا لإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والصوم يضيق تلك المجاري، ويذكر بالله وعظمته، فيضعف سلطان الشيطان ويقوى سلطان الإيمان وتكثر بسببه الطاعات من المؤمنين وتقل به المعاصي، ومن فوائد الصوم أيضا أنه يطهر البدن من الأخلاط الرديئة ويكسبه صحة وقوة، اعترف بذلك الكثير من الأطباء وعالجوا به كثيرا من الأمراض.
وقد أخبر الله سبحانه في كتابه العزيز أنه كتب علينا الصيام كما كتبه على من قبلنا، وأوضح سبحانه أن المفروض علينا هو صيام شهر رمضان، وأخبر نبينا عليه الصلاة والسلام أن صيامه هو أحد أركان الإسلام الخمسة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (3) إلى أن قال عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (4)
__________
(1) رواه البخاري في (كتاب النكاح) حديث رقم (4678) ، ورواه مسلم في (كتاب النكاح) حديث رقم (2485) ، واللفظ متفق عليه.
(2) سورة البقرة الآية 183
(3) سورة البقرة الآية 184
(4) سورة البقرة الآية 185(49/9)
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت (1) » .
أيها المسلمون إن الصوم عمل صالح عظيم وثوابه جزيل ولا سيما صوم رمضان، فإنه الصوم الذي فرضه الله على عباده وجعله من أسباب الفوز لديه، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك (2) » متفق عليه.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين (3) »
__________
(1) رواه البخاري في (كتاب الإيمان) حديث رقم (7) ، ورواه مسلم في (كتاب الإيمان) حديث رقم (21) ، ورواه الترمذي في (الإيمان) حديث رقم (2534) واللفظ له
(2) رواه البخاري في (كتاب التوحيد) حديث رقم (6938) ، ورواه مسلم في (كتاب الصيام) حديث رقم (1945) .
(3) رواه البخاري في (كتاب بدء الخلق) حديث رقم (3035) واللفظ له، ورواه مسلم في (كتاب الصيام) حديث رقم (1793) .(49/10)
وأخرج الترمذي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة (1) »
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه ويباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيرا فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله (2) »
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم، وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه (3) »
وليس في قيام رمضان حد محدود؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت لأمته في ذلك شيئا وإنما حثهم على قيام
__________
(1) رواه الترمذي في (كتاب الصوم) برقم (618) واللفظ له، وابن ماجه في (كتاب الصوم) برقم (1632) .
(2) مجمع الزوائد للهيثمي (3 \ 142) وقال: رواه الطبراني في (الكبير) ، كنز العمال (8 \ 23692) .
(3) رواه النسائي في (كتاب الصيام) برقم (2180) .(49/11)
رمضان ولم يحدد ذلك بركعات معدودة، «ولما سئل عليه الصلاة والسلام عن قيام الليل قال: " مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى (1) »
فدل ذلك على: التوسعة في هذا الأمر، فمن أحب أن يصلي عشرين ركعة ويوتر بثلاث فلا بأس، ومن أحب أن يصلي عشر ركعات ويوتر بثلاث فلا بأس، ومن أحب أن يصلي ثمان ركعات ويوتر بثلاث فلا بأس، ومن زاد على ذلك أو نقص عنه فلا حرج عليه، والأفضل: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله غالبة وهو أن يقوم بثمان ركعات يسلم من كل ركعتين ويوتر بثلاث مع الخشوع والطمأنينة وترتيل القراءة لما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسأله عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا (2) » . وفي الصحيحين عنها رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي من الليل عشر ركعات يسلم من كل اثنتين ويوتر بواحدة (3) » .
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في أحاديث أخرى أنه كان يتهجد في بعض الليالي بأقل من ذلك، وثبت عنه أيضا صلى الله
__________
(1) رواه البخاري في (كتاب الجمعة) برقم (936) ، ورواه مسلم في (كتاب صلاة المسافرين) برقم (1239) ، واللفظ متفق عليه.
(2) صحيح البخاري الجمعة (1147) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (738) ، سنن الترمذي الصلاة (439) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1697) ، سنن أبو داود الصلاة (1341) ، مسند أحمد بن حنبل (6/36) ، موطأ مالك النداء للصلاة (265) .
(3) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (736) ، سنن النسائي الأذان (685) ، سنن أبو داود الصلاة (1336) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1358) ، مسند أحمد بن حنبل (6/215) ، موطأ مالك النداء للصلاة (264) ، سنن الدارمي الصلاة (1473) .(49/12)
عليه وسلم أنه في بعض الليالي يصلي ثلاث عشرة ركعة يسلم من كل اثنتين.
فدلت هذه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الأمر في صلاة الليل موسع فيه بحمد الله وليس فيها حد محدود لا يجوز غيره وهو من فضل الله ورحمته وتيسيره على عباده حتى يفعل كل مسلم ما يستطيع من ذلك، وهذا يعم رمضان وغيره وينبغي أن يعلم أن المشروع للمسلم في قيام رمضان وفي سائر الصلوات هو الإقبال على صلاته والخشوع فيها والطمأنينة في القيام والقعود والركوع والسجود وترتيل التلاوة وعدم العجلة لأن روح الصلاة هو الإقبال عليها بالقلب والقالب، والخشوع فيها وأداؤها كما شرع الله بإخلاص وصدق ورغبة ورهبة وحضور قلب.
كما قال الله سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرة عيني في الصلاة (3) » وقال للذي أساء في صلاته: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعة، ثم ارفع حتى تستوي قائما،
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 1
(2) سورة المؤمنون الآية 2
(3) رواه الإمام أحمد في (كتاب باقي مسند المكثرين) برقم (13526) ، ورواه النسائي في (كتاب عشرة النساء) برقم (3879) .(49/13)
ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها (1) » .
وكثير من الناس يصلي في قيام رمضان صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها بل ينقرها نقرا وذلك لا يجوز بل هو منكر لا تصح معه الصلاة، لأن الطمأنينة ركن في الصلاة لا بد منه كما دل عليه الحديث المذكور آنفا، فالواجب الحذر من ذلك، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته. قالوا: يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ ، قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها (2) » وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي نقر صلاته أن يعيدها.
فيا معشر المسلمين عظموا الصلاة وأدوها كما شرع الله واغتنموا هذا الشهر العظيم وعظموه رحمكم الله، بأنواع العبادات والقربات، وسارعوا فيه إلى الطاعات، فهو شهر عظيم جعله الله ميدانا لعباده، يتسابقون إليه بالطاعات، ويتنافسون فيه بأنواع الخيرات، فأكثروا فيه رحمكم الله من الصلاة والصدقات وقراءة القرآن الكريم بالتدبر، والتعقل، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والاستغفار، والإكثار من الصلاة والسلام على رسول
__________
(1) رواه البخاري في (كتاب الاستئذان) برقم (5782) واللفظ له، ورواه مسلم في (كتاب الصلاة) برقم (602) .
(2) رواه الإمام أحمد في (كتاب باقي مسند المكثرين) برقم (11106) ، ورواه الدارمي في (كتاب الصلاة) برقم (1294) .(49/14)
الله صلى الله عليه وسلم، والإحسان إلى الفقراء والمساكين والأيتام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، فاقتدوا به رحمكم الله في مضاعفة الجود والإحسان في شهر رمضان، وأعينوا إخوانكم الفقراء على الصيام والقيام، واحتسبوا أجر ذلك عند الملك العلام، واحفظوا صيامكم عما حرمه الله عليكم من الأوزار والآثام، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه (1) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم (2) »
وجاء عنه صلى اله عليه وسلم أنه قال: «ليس الصيام عن الطعام والشراب وإنما الصيام من اللغو والرفث (3) » . وخرج ابن
__________
(1) رواه البخاري في (كتاب الأدب) برقم (5597) واللفظ له، ورواه الترمذي في (الصوم) برقم (641) ، وأبو داود في (الصوم) برقم (2015) ، وابن ماجه في (الصيام) برقم (1679) .
(2) رواه البخاري في (الصوم) برقم (1771) واللفظ له، ورواه مسلم في (الصيام) برقم (1944) .
(3) خرجه البيهقي في (السنن الكبرى) (4 \ 270) ، وفي (كنز العمال) رقم (23864) ، وانظر (موسوعة أطراف الحديث النبوي) (6 \ 5832) .(49/15)
حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان وعرف حدوده وتحفظ مما ينبغي له أن يتحفظ منه كفر ما كان قبله (1) »
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء» .
ومن أهم الأمور التي يجب على المسلم العناية بها والمحافظة عليها في رمضان وفي غيره: الصلوات الخمس في أوقاتها، فإنها عمود الإسلام، وأعظم الفرائض بعد الشهادتين، وقد عظم الله شأنها وأكثر من ذكرها في كتابه العظيم، فقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) ، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (4) » رواه الإمام أحمد وأهل السنن
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (كتاب باقي مسند المكثرين) برقم (11098) ، وابن حبان في صحيحه (8 \ 3433) باب (فضل رمضان) .
(2) سورة البقرة الآية 238
(3) سورة النور الآية 56
(4) رواه الترمذي في (الإيمان) برقم (2545) . ورواه النسائي في (الصلاة) برقم (459) ، ورواه ابن ماجه في (كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها) رقم (1069) .(49/16)
الأربع بسند صحيح، وقال صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (1) » أخرجه مسلم في صحيحه، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «من حافظ على الصلاة كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف (2) » رواه الإمام أحمد بسند صحيح.
ومن أهم واجباتها في حق الرجال أداؤها في الجماعة كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر (3) » رواه الدارقطني وابن ماجه وابن حبان والحاكم بسند صحيح «وجاءه صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: (يا رسول الله، إني رجل شاسع الدار عن المسجد وليس لي قائد يلائمني، فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هل تسمح النداء بالصلاة؟ "، قال: نعم، قال: " فأجب (4) » أخرجه مسلم في صحيحه.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (لقدر رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق) (5) . فاتقوا الله عباد الله في
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (14762) ، ومسلم في (الإيمان) برقم (82) واللفظ له.
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) برقم (6288) ، والدارمي في (كتاب الرقائق) برقم (2605) .
(3) سنن أبو داود الصلاة (551) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (793) .
(4) سنن النسائي الإمامة (851) ، سنن أبو داود الصلاة (552) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (792) .
(5) رواه مسلم في (كتاب المساجد ومواضع الصلاة) برقم (1046) .(49/17)
صلاتكم وحافظوا عليها" في الجماعة وتواصوا بذلك في رمضان وغيره تفوزوا بالمغفرة ومضاعفة الأجر وتسلموا من غضب الله وعقابه ومشابهة أعدائه من المنافقين.
وأهم الأمور بعد الصلاة الزكاة: فهي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعظموها كما عظمها الله وسارعوا إلى إخراجها وقت وجوبها وصرفها إلى مستحقيها عن إخلاص لله عز وجل وطيب نفس وشكر للمنعم سبحانه واعلموا أنها زكاة وطهرة لكم ولأموالكم وشكر للذي أنعم عليكم بالمال، ومواساة لإخوانكم الفقراء كما قال الله عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) وقال سبحانه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (2) .
«وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه لليمن: "إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
(2) سورة سبأ الآية 13(49/18)
لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب (1) » متفق على صحته.
وينبغي للمسلم في هذا الشهر الكريم التوسع في النفقة والعناية بالفقراء والمتعففين، وإعانتهم على الصيام والقيام تأسيا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلبة لمرضاة الله سبحانه، وشكرا لإنعامه، وقد وعد الله سبحانه عباده المنفقين بالأجر العظيم والخلف الجزيل، فقال سبحانه: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} (2) ، وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (3) .
واحذروا رحمكم الله كل ما يجرح الصوم وينقص الأجر ويغضب الرب عز وجل من سائر المعاصي، كالربا والزنا والسرقة، وقتل النفس بغير حق وأكل أموال اليتامى، وأنواع الظلم في النفس والمال والعرض، والغش في المعاملات والخيانة للأمانات وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم، والشحناء والتهاجر في غير حق الله سبحانه، وشرب المسكرات وأنواع المخدرات، كالقات والدخان، والغيبة والنميمة والكذب وشهادة الزور، والدعاوى الباطلة والأيمان الكاذبة، وحلق اللحى وتقصيرها وإطالة الشوارب، والتكبر وإسبال الملابس واستماع الأغاني
__________
(1) رواه البخاري في (الزكاة) برقم (1401) ، ورواه مسلم في (الإيمان) برقم (27) ، ورواه أبو داود في (كتاب الزكاة) برقم (1351) واللفظ له.
(2) سورة المزمل الآية 20
(3) سورة سبأ الآية 39(49/19)
وآلات الملاهي،. وتبرج النساء وعدم تسترهن من الرجال، والتشبه بنساء الكفرة في لبس الثياب القصيرة وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله.
وهذه المعاصي التي ذكرنا محرمة في كل زمان ومكان ولكنها في رمضان أشد تحريما وأعظم إثما لفضل الزمان وحرمته.
فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا ما نهاكم الله عنه ورسوله واستقيموا على طاعته في رمضان وغيره، وتواصوا بذلك وتعاونوا عليه، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر لتفوزوا بالكرامة والسعادة والعزة والنجاة في الدنيا والآخرة. والله المسئول أن يعيذنا وإياكم وسائر المسلمين من أسباب غضبه وأن يتقبل منا جميعا صيامنا وقيامنا وأن يصلح ولاة أمر المسلمين وأن ينصر بهم دينه ويخذل بهم أعداءه، وأن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات عليه والحكم به والتحاكم إليه في كل شيء، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(49/20)
حكم طواف الوداع
بحث من إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على المحضر رقم (11) من محاضر دورة مجلس هيئة كبار العلماء الثالثة عشرة المنعقدة بمدينة الطائف فيما بين 14 \ 10 إلى 21 \ 10 \ 1398 هـ المتضمن اقتراح إعداد بحث في (حكم طواف الوداع) للخارج من مكة سواء كان حاجا أو معتمرا أو غيرهما، وهل يفرق بين من كان سفره مسافة قصر ومن كان دون ذلك. .؟ وهل يفرق بين من أراد الرجوع لأداء طواف الوداع وبين غيره. . .؟
أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك شمل ما يلي:
أولا: طواف الوداع نسك مستقل أو من مناسك الحج.
ثانيا: الخلاف في حكمه مع الأدلة وما يترتب على ذلك.
ثالثا: هل يطلب من كل من نفر عن البيت بعد النسك أو ممن ينفر خارج الحرم أو خارج المواقيت أو خارج مسافة القصر؟
رابعا: متى يطالب بالرجوع من ترك الوداع وهل يرجع محرما أم لا؟(49/21)
خامسا: هل يجوز لمن أدى النسك أن ينفر مؤقتا من أجل شدة الزحام ثم يعود ليودع؟
ونظرا لترابط وتداخل نصوص العلماء ومناقشتهم لهذه الأمور رأينا ذكر ما تيسر نقله فيها مجتمعا وأتبعناه بخلاصة لما تضمنته هذه النقول، وبالله التوفيق.
وفيما يلي ذكر ذلك:(49/22)
1 - النقول من كتب الحديث وشروحها:
أ- قال البخاري رحمه الله:
(حدثنا مسدد حدثنا سفيان عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض (1) » .
حدثنا أصبغ بن الفرج أخبرنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم رقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف به (2) » تابعه الليث حدثني خالد عن سعيد عن قتادة أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
(قوله: (باب طواف الوداع) قال النووي: (طواف الوداع واجب يلزم بتركه دم على الصحيح عندنا، وهو قوله أكثر
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) .
(2) صحيح البخاري الحج (1756) ، سنن الدارمي المناسك (1873) .(49/22)
العلماء، وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شيء في ترسكه) انتهى. والذي رأيته في (الأوسط) لابن المنذر أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء.
قوله: (أمر الناس) كذا في رواية عبد الله بن طاوس عن أبيه على البناء لما لم يسم فاعله والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قوله: (خفف) وقد رواه سفيان أيضا عن سليمان الأحول عن طاوس فصرح فيه بالرفع، ولفظه عن ابن عباس قال: (كان الناس ينصرفون في كل وجه) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » أخرجه مسلم هو والذي قبله عن سعيد بن منصور عن سفيان بالإسنادين فرقهما، فكأن طاوسا حدث به على الوجهين، ولهذا وقع في رواية كل من الراويين عنه ما لم يقع في رواية الآخر، وفيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكد به وللتعبير في حق الحائض بالتخفيف، وسيأتي البحث فيه في الباب الذي بعده.
قوله: (عن قتادة) سيأتي بعد باب من وجه آخر عن ابن وهب التصريح بتحديث قتادة، ويأتي الكلام هناك، والمقصود منه هنا قوله في آخره: (ثم ركب إلى البيت فطاف به) .
قوله: (تابعه الليث) أي: تابع عمرو بن الحارث في روايته لهذا الحديث عن قتادة بطريق أخرى إلى قتادة، وقد وصله البزار والطبراني من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث عن الليث، وخالد شيخ الليث هو ابن يزيد، وذكر البزار والطبراني أنه تفرد بهذا الحديث عن سعيد وأن الليث تفرد به عن خالد وأن
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .(49/23)
سعيد بن أبي هلال لم يرو عن قتادة عن أنس غير هذا الحديث) (1) .
قال البخاري أيضا:
(باب المعتمر إذا طاف طواف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع؟ .
حدثنا أبو نعيم حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «خرجنا مهلين بالحج في أشهر الحج وحرم الحج، فنزلنا بسرف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: " من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ومن كان معه هدي فلا ". وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم ورجال من الصحابة ذوي قوة الهدي، فلم تكن لهم عمرة، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: " ما يبكيك؟ " قلت: سمعتك تقول لأصحابك ما قلت، فمنعت العمرة. قال: " وما شأنك؟ " قلت: لا أصلي. قال: " فلا يضرك أنت من بنات آدم كتب عليك ما كتب عليهن، فكوني في حجتك عسى الله أن يرزقكها " قالت: فكنت حتى نفرنا من منى فنزلنا المحصب، فدعا عبد الرحمن فقال: " اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم افرغا من طوافكما أنتظركما هاهنا " فأتينا في جوف الليل، فقال: " فرغتما؟ " قلت: نعم، فنادى بالرحيل في أصحابه فارتحل الناس، ومن طاف بالبيت قبل صلاة
__________
(1) فتح الباري، ج3 ص (585، 586) .(49/24)
الصبح، ثم خرج موجها إلى المدينة (1) » .
وقال الحافظ: قوله: (باب المعتمر إذا طاف العمرة ثم خرج هل يجزئه من طواف الوداع) أورد فيه حديث عائشة في عمرتها من التنعيم، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: «اخرج بأختك من الحرم فلتهل بعمرة ثم افرغا من طوافكما (2) » . . " الحديث. قال ابن بطال: (لا خلاف بين العلماء أن المعتمر إذا طاف فخرج إلى بلده أنه يجزئه من طواف الوداع كما فعلت عائشة) انتهى.
وكأن البخاري لما لم يكن في حديث عائشة التصريح بأنها ما طافت للوداع بعد طواف العمرة لم يبت الحكم في الترجمة، وأيضا فإن قياس من يقول إن إحدى العبادتين لا تندرج في الأخرى أن يقول بمثل ذلك هنا، ويستفاد من قصة عائشة أن السعي إذا وقع بعد طواف الركن- إن قلنا: إن طواف الركن يغني عن طواف الوداع- أن تخلل السعي بين الطواف والخروج لا يقطع إجزاء الطواف المذكور عن الركن والوداع معا. قوله في الحديث: (فنزلنا بسرف) في رواية أبي ذر وأبي الوقت (سرف) بحذف الباء، وكذا لمسلم من طريق إسحاق بن عيسى بن الطباع عن أفلح قوله لأصحابه: "من لم يكن معه هدي " ظاهره أن أمره صلى الله عليه وسلم لأصحابه بفسخ الحج إلى العمرة كان بسرف قبل دخولهم مكة، والمعروف في غير هذه الرواية أن قوله لهم ذلك بعد دخول مكة، ويحتمل التعدد.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1560) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (6/245) ، موطأ مالك الحج (940) ، سنن الدارمي المناسك (1904) .
(2) صحيح البخاري الحج (1560) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (934) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1778) ، سنن ابن ماجه المناسك (3000) ، موطأ مالك الحج (940) ، سنن الدارمي المناسك (1904) .(49/25)
قوله: (قلت: لا أصلي) كنت بذلك عن الحيض وهي من لطيف الكنايات.
قوله: "كتب عليك " كذا للأكثر على البناء لما لم يسم فاعله، ولأبي ذر " كتب الله عليك "، وكذا لمسلم.
قوله: " فكوني في حجتك " وفي رواية أبي ذر: " في حجك "، وكذا لمسلم.
قوله: (حتى نفرنا من منى فنزلنا المحصب) في هذا السياق اختصار بينته رواية مسلم بلفظ: (حتى نزلنا منى فتطهرت ثم طفت بالبيت فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب) .
قوله: (فدعا عبد الرحمن) في رواية مسلم: (عبد الرحمن بن أبي بكر) .
قوله: " اخرج بأختك الحرم " في رواية الكشميهني: " من الحرم " وهي أوضح، وكذا لمسلم.
قوله: (فأتينا في جوف الليل) في رواية الإسماعيلي:
(من آخر الليل) وهي أوفق لبقية الراويات، وظاهرها أنها أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم قبل أبواب أنها قالت: (فلقيته وأنا منهبطة وهو مصعد) (1)
__________
(1) فتح الباري، ج3 ص (612) .(49/26)
ب- وقال مسلم رحمه الله:
حدثنا سعيد بن منصور، وزهير بن حرب قالا: حدثنا سفيان، عن سليمان الأحول، عن طاوس عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » . قال زهير: (ينصرفون كل وجه) . ولم يقل: (في) .
حدثنا سعيد بن منصور وأبو بكر بن أبي شيبة: (واللفظ لسعيد) ، قالا: حدثنا سفيان عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2) » . حدثني محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج، أخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس، قال: (كنت مع ابن عباس إذ قال زيد بن ثابت تفتي أن تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت؟) فقال له ابن عباس: إما لا، فسل فلانة الأنصارية هل أمرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فرجع زيد بن ثابت إلى ابن عباس يضحك وهو يقول: (ما أراك إلا قد صدقت) .
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث (ح) ، وحدثنا محمد بن رمح، حدثنا الليث عن ابن شهاب عن أبي سلمة وعروة أن عائشة قالت: «حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت، قالت عائشة: فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحابستنا هي؟ " قالت: فقلت يا رسول
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .
(2) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .(49/27)
الله: إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلتنفر ") (1) » .
حدثني أبو الطاهر، وحرملة بن يحيى، وأحمد بن عيسى، قال أحمد: حدثنا، وقال الآخران: أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس عن ابن شهاب بهذا الإسناد، قالت: (طمثت صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد ما أفاضت طاهرا) بمثل حديث الليث.
وحدثنا قتيبة يعني ابن سعيد، حدثنا ليث (ح) ، وحدثنا زهير بن حرب حدثنا، سفيان (ح) ، وحدثني محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب، كلهم عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة: (أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن صفية قد حاضت) ، بمعنى حديث الزهري، وحدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا أفلح عن القاسم بن محمد «عن عائشة، قالت: (كنا نتخوف أن تحيض صفية قبل أن تفيض، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " أحابستنا صفية " قلنا: قد أفاضت، قال: " فلا، إذن ") (2) » .
حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن عمرة بنت عبد الرحمن «عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن صفية بنت حيي قد حاضت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعلها تحبسنا ألم تكن قد طافت معكن بالبيت " قالوا
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (945) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .
(2) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (945) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .(49/28)
بلى، قال: "فاخرجن" (1) »
حدثني الحكم بن موسى، حدثني يحيى بن حمزة، عن الأوزاعي - لعله قال- عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة، «عن عائشة أن رسول الله قال: " وإنها لحابستنا" فقالوا: يا رسول الله إنها قد زارت يوم النحر، قال ": "فلتنفر معكم (2) »
حدثنا محمد بن المثنى، وابن بشار قال: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة (ح) ، وحدثنا عبيد الله بن معاذ - واللفظ له- حدثنا أبي، حدثنا شعبة عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: «لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة، فقال: " عقرى حلقى إنك لحابستنا- ثم قال لها- أكنت أفضت يوم النحر؟ " قالت: نعم. قال: " فانفري (3) »
وحدثنا يحيى بن يحيى، وأبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، عن أبي معاوية، عن الأعمش (ح) ، حدثنا زهير بن حرب، حدثنا جرير، عن منصور - جميعا- عن إبراهيم عن الأسود، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث الحكم غير أنهما لا يذكران (كئيبة حزينة) .
__________
(1) صحيح البخاري الحيض (328) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .
(2) صحيح البخاري الحيض (328) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6157) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .(49/29)
قال النووي رحمه الله (1) :
(باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض) .
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (2) » فيه دلالة لمن قال بوجوب طواف الوداع وأنه إذا تركه لزمه دم وهو الصحيح في مذهبنا، وبه قال أكثر العلماء منهم الحسن البصري والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شيء في تركه، وعن مجاهد روايتان كالمذهبين.
قوله: (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) هذا دليل لوجوب طواف الوداع على غير الحائض وسقوطه عنها ولا يلزمها دم بتركه، هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة، إلا ما حكاه ابن المنذر عن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم أمروها بالمقام لطواف الوداع، دليل الجمهور هذا الحديث وحديث صفية المذكور بعده.
قوله: (فقال ابن عباس: إما لا فسل فلانة الأنصارية) هو بكسر الهمزة وفتح اللام وبالإمالة الخفيفة هذا هو الصواب المشهور، وقال القاضي: ضبطه الطبري والأصيلي (أما لي) بكسر اللام، قال: والمعروف من كلام العرب فتحها إلا أن تكون على لغة من يميل، قال المازري قال ابن الأنباري قولهم:
__________
(1) صحيح مسلم، ج 9، ص (78- 82) .
(2) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .(49/30)
افعل هذا إما لا فمعناه افعله إن كنت لا تفعل غيره فدخلت ما زائدة لأن، كما قال الله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} (1) . فاكتفوا بـ (لا) عن الفعل، كما تقول العرب: (إن زارك فزره وإلا فلا) ، هذا ما ذكره القاضي، وقال ابن الأثير في نهاية الغريب: (أصل هذه الكلمة إن وما فأدغمت النون في الميم وما زائدة في اللفظ لا حكم لها، وقد أمالت العرب لا إمالة خفيفة- قال- والعوام يشبعون إمالتها فتصير ألفها ياء، وهو خطأ ومعناه إن لم تفعل هذا فليكن هذا) والله أعلم.
قولها: (صفية بنت حيي) بضم الحاء وكسرها، الضم أشهر، وفي حديثها دليل لسقوط طواف الوداع عن الحائض، وأن طواف الإفاضة ركن لا بد منه، وأنه لا يسقط عن الحائض ولا غيرها، وأن الحائض تقيم له حتى تطهر، فإن ذهبت إلى وطنها قبل طواف الإفاضة بقيت محرمة، وقد سبق حديث صفية هذا وبيان إحرامه وضبطه ومعناه وفقهه في أوائل كتاب الحج في باب (بيان وجوه الإحرام بالحج) .
قوله: (حدثني الحكم بن موسى حدثنا يحيى بن حمزة عن الأوزاعي لعله قال عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عن عائشة) هكذا وقع في معظم النسخ، وكذا نقله القاضي عن معظم النسخ، قال: وسقط عند الطبري.
قوله: لعله قال عن يحيى بن أبي كثير، قال: وسقط
__________
(1) سورة مريم الآية 26(49/31)
لعله، قال: فقط لابن الحذاء، قال القاضي: وأظن أن الاسم كله سقط من كتب بعضهم أو شك فيه فألحقه على المحفوظ الصواب ونبه على إلحاقه بقوله لعله.
قوله: (قالوا: يا رسول الله، إنها قد زارت يوم النحر) فيه دليل لمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأهل العراق أنه لا يكره أن يقال لطواف الإفاضة طواف الزيارة، وقال مالك: يكره، وليس للكراهة حجة تعتمد. قولها: (تنفر) بكسر الفاء وضمها، الكسر أفصح، وبه جاء القرآن. والله أعلم.(49/32)
ج- قال الزيلعي رحمه الله (1) :
الحديث الحادي عشر: روي أنه عليه السلام رخص للنساء الحيض في ترك طواف الصدر، قلت: أخرج البخاري ومسلم عن طاوس عن ابن عباس قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2) » ، وأخرج البخاري في الحيض عن ابن عباس قال: (رخص للحائض أن تنفر بعد الإفاضة) . قال: وكان ابن عمر يقول أولا: أنها لا تنفر، ثم رجع. وقال: (تنفر، «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص لهن (3) » . انتهى.
وأخرج الترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: «من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت إلا
__________
(1) نصب الراية، ج3 ص (123) .
(2) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .
(3) صحيح البخاري الحيض (330) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .(49/32)
الحيض ورخص لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) » . انتهى.
وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. انتهى.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1761) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الترمذي الحج (944) ، مسند أحمد بن حنبل (2/101) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .(49/33)
د- قال الترمذي رحمه الله (1) :
(باب ما جاء أن مكث المهاجر بمكة بعد الصدر ثلاثا) .
حدثنا أحمد بن منيع، أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حميد، سمعت السائب بن يزيد، عن العلاء بن الحضرمي - يعني مرفوعا- قال: (يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثا) . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير هذا. قال صاحب تحفة الأحوذي، باب ما جاء أن مكث المهاجر بعد الصدر ثلاثا، قال في النهاية: (الصدر بالتحريك رجوع المسافر من مقصد، والشاربة من الورد، يقال أصدر يصدر صدورا وصدرا) . انتهى. وقال في المجمع: (أي بعد الرجوع من منى وكان إقامة المهاجر بمكة حراما ثم أبيح بعد قضاء النسك ثلاثة أيام) انتهى.
قوله: (يمكث) بضم الكاف من باب نصر ينصر أي يقيم (المهاجر بعد قضاء نسكه) أي: بعد رجوعه من منى، كما قال في الرواية الأخرى: بعد الصدر أي الصدر من منى قال النووي:
__________
(1) تحفة الأحوذي، ج4 ص (20، 21) .(49/33)
(بمكة ثلاثا) أي يجوز له مكث هذه المدة لقضاء حوائجه، ولا يجوز له الزيادة عليها؛ لأنها بلدة تركها لله تعالى فلا يقيم فيها أكثر من هذه المدة؛ لأنه يشبه العود إلى ما تركه لله تعالى.
قال النووي: (معنى الحديث أن الذين هاجروا من مكة قبل الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم عليهم استيطان مكة والإقامة بها، ثم أبيح لهم إذا وصلوها بحج أو عمرة أو غيرهما أن يقيموا بعد فراغهم ثلاثة أيام ولا يزيدوا على الثلاثة) . انتهى.
قوله: (هذا حديث حسن صحيح) وأخرجه البخاري في الهجرة، ومسلم في الحج، وأبو داود أيضا في الحج، وأخرجه النسائي أيضا في الحج وفي الصلاة، وابن ماجه في الصلاة (وقد روي من غير هذا الوجه بهذا الإسناد مرفوعا) إن شئت الوقوف على ذلك فارجع إلى الصحيحين والسنن وقد ذكرنا مواقع الحديث فيها.(49/34)
هـ- قال الشوكاني رحمه الله (1) :
عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (2) » رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه، وفي رواية: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن
__________
(1) نيل الأوطار، ج 5، حديث (170- 172) .
(2) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .(49/34)
المرأة الحائض (1) » متفق عليه، وعن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة (2) » رواه أحمد، وعن عائشة قالت: «حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت، قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: " أحابستنا هي؟ " قلت يا رسول الله؟ إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، قال: (فلتنفر إذن (3) » متفق عليه.
وقال الشوكاني رحمه الله:
قوله: «لا ينفر أحد (4) » . . . " الخ. فيه دليل على وجوب طواف الوداع، قال النووي: وهو قول أكثر العلماء ويلزم بتركه دم، وقال مالك وداود وابن المنذر: هو سنة لا شيء في تركه، قال الحافظ: والذي رأيته لابن المنذر في الأوسط أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء. انتهى، وقد اجتمع في طواف الوداع أمره صلى الله عليه وآله وسلم به ونهيه عن تركه، وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب، ولا شك أن ذلك يفيد الوجوب بقوله: (أمر الناس) بالبناء على ما لم يسم فاعله، وكذا قوله: (خفف) .
قوله: " إذا كانت قد طافت طواف الإفاضة ". قال ابن المنذر: قال عامة الفقهاء بالأمصار: ليس على الحائض التي أفاضت طواف وداع، وروينا عن عمر بن الخطاب وابن عمر وزيد ابن ثابت أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضا لطواف الوداع،
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .
(2) صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (1/370) .
(3) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (945) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .
(4) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .(49/35)
فكأنهم أوجبوه "عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة إذ لو حاضت قبله لم يسقط عنها، قالت: وثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك، وبقي عمر فخالفناه لثبوت حديث عائشة، وروى ابن أبي شيبة من طريق القاسم بن محمد: (كان الصحابة يقولون: إذا أفاضت قبل أن تحيض فقد فرغت، إلا عمر) . وقد روى أحمد وأبو داود والنسائي والطحاوي عن عمر أنه قال.
«ليكن آخر عهدها بالبيت (1) » . وفي رواية كذلك: حدثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، واستدل الطحاوي بحديث عائشة على نسخ حديث عمر في حق الحائض، وكذلك استدل على نسخه بحديث أم سليم عند أبي داود الطيالسي أنها قالت: «حضت بعد ما طفت بالبيت فأمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أنفر، وحاضت صفية فقالت لها عائشة: حبستنا، فأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تنفر (2) » ورواه سعيد بن منصور في كتاب المناسك، وإسحق في مسنده، والطحاوي، وأصله في البخاري، ويؤيد ذلك ما أخرجه النسائي، والترمذي، وصححه الحاكم، عن ابن عمر قال: «من حج فليكن آخر عهده بالبيت إلا الحيض رخص لهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3) » .
قوله: "فلتنفر إذن " أي فلا حبس علينا حينئذ لأنها قد أفاضت فلا مانع من التوجه والذي يجب عليها قد فعلته، وفي رواية للبخاري: " فلا بأس انفري "، وفي رواية: " اخرجي "، وفي رواية: " فانفري ". ومعانيها متقاربة والمراد بها الرحيل من منى إلى جهة المدينة، واستدل بقوله: " أحابستنا " على أن أمير
__________
(1) سنن الترمذي الحج (946) ، سنن أبو داود المناسك (2004) ، مسند أحمد بن حنبل (3/416) .
(2) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .
(3) صحيح البخاري الحج (1761) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الترمذي الحج (944) ، مسند أحمد بن حنبل (2/101) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .(49/36)
الحاج يلزمه أن يؤخر الرحيل لأجل من تحيض ممن لم تطف للإفاضة، وتعقب باحتمال أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أراد بتأخير الرحيل إكرام صفية كما احتبس بالناس على عقد عائشة، وأما ما أخرجه البزار من حديث جابر، والثقفي في فوائده من حديث أبي هريرة مرفوعا: " أميران وليسا بأميرين: من تبع جنازة فليس له أن ينصرف حتى تدفن أو يأذن أهلها، والمرأة تحج أو تعتمر مع قوم فتحيض قبل طواف الركن فليست لهم أن ينصرفوا حتى تطهر أو تأذن لهم " ففي إسناد كل واحد منها ضعيف شديد الضعف كما قال الحافظ.(49/37)
2 - النقول من كتب الفقهاء:
أ- الحنفية:
قال صاحب المبسوط (1) :
الثالث: طواف الصدر وهو واجب عندنا، سنة عند الشافعي رحمه الله تعالى، قال: لأنه بمنزلة طواف القدوم ألا ترى أن كل واحد منها يأتي به الآفاقي دون المكي، وما يكون من واجبات الحج فالآفاقي والمكي فيه سواء. (ولنا) في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف (2) » ورخص للنساء الحيض، والأمر دليل الوجوب، وتخصيص الحائض برخصة الترك دليل على الوجوب
__________
(1) المبسوط، ج4 ص (34، 35) .
(2) سنن الترمذي الحج (946) ، سنن أبو داود المناسك (2004) ، مسند أحمد بن حنبل (3/416) .(49/37)
أيضا، وكما أن طواف الزيارة لتمام التحلل من إحرام الحج، فطواف الصدر لانتهاء المقام بمكة فيكون واجبا على من ينتهي مقامه بها، وهو الآفاقي أيضا الذي يرجع إلى أهله دون المكي الذي لا يرجع إلى موضع آخر، ويسمى هذا طواف الوداع فإنما يجب على من يودع البيت دون من لا يودعه.
فأما الطواف الرابع: فهو طواف العمرة وهو الركن في العمرة وليس في العمرة طواف الصدر ولا طواف القدوم، أما طواف القدوم فلأنه كما وصل إلى البيت يتمكن من أداء الطواف الذي هو ركن في هذا النسك فلا يشتغل بغيره بخلاف الحج، فإنه عند القدوم لا يتمكن من الطواف الذي هو ركن الحج فيأتي بالطواف المسنون إلى أن يجيء وقت الطواف الذي هو ركن، وأما طواف الصدر فقد قال الحسن رحمه الله تعالى: في العمرة طواف الصدر أيضا في حق من قدم معتمرا إذا أراد الرجوع إلى أهله كما في الحج، ولكنا نقول: إن معظم الركن في العمرة الطواف وما هو معظم الركن في النسك لا يتكرر عند الصدر، كالوقوف في الحج لأن الشيء الواحد لا يجوز أن يكون معظم الركن في نسك، وهو بعينه غير ركن في ذلك النسك، ولأن ما هو معظم الركن مقصود، وطواف الصدر تبع يجب لقصد توديع البيت والشيء الواحد لا يكون مقصودا وتبعا.(49/38)
وقال صاخب بدائع الصنائع (1) :
(فصل) وأما طواف الصدر: فالكلام فيه يقع في مواضع، في بيان وجوبه، وفي بيان شرائطه، وفي بيان قدره وكيفيته، وما يسن له أن يفعله بعد فراغه منه، وفي بيان وقته، وفي بيان مكانه وحكمه إذا نفر ولم يطف.
أما الأول: فطواف الصدر واجب عندنا، وقال الشافعي سنة، وجه قوله مبني على أنه لا يفرق بين الفرض والواجب، وليس بفرض بالإجماع فلا يكون واجبا لكنه لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه على المواظبة، وأنه دليل السنة، ثم دليل عدم الوجوب أنا أجمعنا على أنه لا يجب على الحائض والنفساء، ولو كان واجبا لوجب عليهما، كطواف الزيارة، ونحن نفرق بين الفرض والواجب على ما عرف، ودليل الوجوب ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف (2) » ومطلق الأمر لوجوب العمل، إلا أن الحائض خصت عن هذا العموم بدليل، وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للنساء الحيض ترك طواف الصدر لعذر الحيض ولم يأمرهن بإقامة شيء آخر مقامه وهو الدم، وهذا أصل عندنا في كل نسك جاز تركه لعذر أنه لا يجب بتركه من المعذور كفارة. والله أعلم.
__________
(1) بدائع الصنائع، ج 2، فقه حنفي (142، 143) .
(2) سنن الترمذي الحج (946) ، سنن أبو داود المناسك (2004) ، مسند أحمد بن حنبل (3/416) .(49/39)
(فصل) وأما شرائطه: فبعضها شرائط الوجوب، وبعضها شرائط الجواز. أما شرائط الوجوب فمنها: أن يكون من أهل الآفاق فليس على أهل مكة، ولا من كان منزله داخل المواقيت إلى مكة طواف الصدر إذا حجوا؟ لأن هذا الطواف إنما وجب توديعا للبيت، ولهذا يسمى طواف الوداع، ويسمى طواف الصدر لوجوده عند صدور الحجاج ورجوعهم إلى وطنهم، وهذا لا يوجد في أهل مكة؛ لأنهم في وطنهم، وأهل داخل المواقيت في حكم أهل مكة فلا يجب عليهم كما لا يجب على أهل مكة، وقال أبو يوسف: أحب إلي أن يطوف المكي طواف الصدر؛ لأنه وضع لختم أفعال الحج، وهذا المعنى يوجد في أهل مكة، ولو نوى الآفاقي الإقامة بمكة أبدآ بأن توطن بها واتخذها دارا فهذا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن نوى الإقامة بها قبل أن يحل النفر الأول، وإما أن نوى بعدما حل النفر الأول، فإن نوى الإقامة قبل أن يحل النفر الأول سقط عنه طواف الصدر أي: لا يجب عليه بالإجماع، وإن نوى بعد ما حل النفر الأول لا يسقط، وعليه طواف الصدر في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يسقط عنه إلا إذا كان شرع فيه، ووجه قوله إنه لما نوى الإقامة صار كواحد من أهل مكة، وليس على أهل مكة طواف الصدر، إلا إذا شرع فيه لأنه وجب عليه بالشروع فلا يجوز له تركه، بل يجب عليه المضي فيه، ووجه قول أبي حنيفة أنه إذا حل له النفر فقد وجب عليه الطواف لدخول وقته، إلا أنه مرتب على طواف الزيارة، كالوتر مع العشاء، فنية الإقامة بعد ذلك لا تعمل، كما إذا نوى(49/40)
الإقامة بعد خروج وقت الصلاة، ومنها الطهارة من الحيض والنفاس، فلا يجب على الحائض والنفساء حتى لا يجب عليهما الدم بالترك؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للحيض ترك هذا الطواف لا إلى بدل، فدل أنه غير واجب عليهن، إذ لو كان واجبا لما جاز تركه إلا إلى بدل وهو الدم، فأما الطهارة عن الحدث والجنابة فليست بشرط للوجوب، ويجب على المحدث والجنب لأنه يمكنهما إزالة الحدث والجنابة فلم يكن ذلك عذرا. والله أعلم.
(فصل) وأما شرائط جوازه، فمنها: النية لأنه عبادة فلا بد له من النية، فأما تعيين النية فليس شرطا حتى لو طاف بعد طواف الزيارة لا يعين شيئا، أو نوى تطوعا كان للصدر لأن الوقت تعين له فتنصرف مطلق النية إليه، كما في صوم رمضان، ومنها: أن يكون بعد طواف الزيارة حتى إذا نفر في النفر الأول فطاف طوافا لا ينوي شيئا، أو نوى تطوعا، أو الصدر يقع عن الزيارة لا عن الصدر لأن الوقت له طواف، وطواف الصدر مرتب عليه، فأما النفر على فور الطواف فليس من شرائط جوازه حتى لو طاف الصدر ثم تشاغل بمكة بعده لا يجب عليه طواف آخر، فإن قيل: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف (1) » ، فقد أمر أن يكون آخر عهده الطواف بالبيت، ولما تشاغل بعده لم يقع الطواف آخر عهده به، فيجب أن لا يجوزان إذ لم يأت بالمأمور به، فالجواب: أن المراد منه آخر عهده بالبيت نسكا لا إقامة، والطواف آخر مناسكه
__________
(1) سنن الترمذي الحج (946) ، سنن أبو داود المناسك (2004) ، مسند أحمد بن حنبل (3/416) .(49/41)
بالبيت وإن تشاغل بغيره، وروي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا طاف للصدر ثم أقام إلى العشاء فأحب إلي أن يطوف طوافا آخر لئلا يحول بين طوافه وبين نفره حائل، وكذا الطهارة عن الحدث والجنابة ليست بشرط لجوازه فيجوز طوافه إذا كان محدثا أو جنبا ويعتد به، والأفضل أن يعيد طاهرا فإن لم يعد جاز وعليه شاة إن كان جنبا؛ لأن النقص كثير فيجبر بالشاة، كما لو ترك أكثر الأشواط، وإن كان محدثا ففيه روايتان عن أبي حنيفة: في رواية: عليه صدقة وهي الرواية الصحيحة، وهو قول أبي يوسف ومحمد؛ لأن النقص يسير فصار كشوط أو شوطين، وفي رواية عليه شاة لأنه طواف واجب فأشبه طواف الزيارة، وكذا ستر عورته ليس بشرط للجواز حتى لو طاف مكشوف العورة قدر ما لا تجوز به الصلاة جاز، ولكن يجب عليه الدم، وكذا الطهارة عن النجاسة إلا أنه يكره ولا شيء عليه، والفرق ما ذكرنا في طواف الزيارة. والله أعلم.
(فصل) وأما قدره وكيفيته فمثل سائر الأطوفة ونذكر السنن التي تتعلق به في بيان سنن الحج إن شاء الله تعالى.
(فصل) وأما وقته فقد روي عن أبي حنيفة أنه قال: ينبغي للإنسان إذا أراد السفر أن يطوف طواف الصدر حين يريد أن ينفر، وهذا بيان الوقت المستحب لا بيان أصل الوقت، ويجوز في أيام النحر وبعدها ويكون أداء لا قضاء، حتى لو طاف طواف الصدر ثم أطال الإقامة بمكة ولم ينو الإقامة بها ولم يتخذها دارا جاز طوافه وإن أقام سنة بعد الطواف إلا أن الأصل أن يكون طوافه(49/42)
عند الصدر لما قلنا ولا يلزمه شيء بالتأخير عن أيام النحر بالإجماع.
(فصل) وأما مكانه فحول البيت لا يجوز إلا به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف (1) » والطواف بالبيت هو: الطواف حوله، فإن نفر ولم يطف، يجب عليه أن يرجع ويطوف ما لم يجاوز الميقات، لأنه ترك طوافا واجبا، وأمكنه أن يأتي به من غير الحاجة إلى تجديد الإحرام، فيجب عليه أن يرجع ويأتي به، وإن جاوز الميقات لا يجب عليه الرجوع لأنه لا يمكنه الرجوع إلا بالتزام عمرة بالتزام إحرامها، ثم إذا أراد أن يمضي مضى وعليه دم، وإن أراد أن يرجع أحرم بعمرة ثم رجع، وإذا رجع يبتدئ بطواف العمرة ثم بطواف الصدر ولا شيء عليه لتأخيره عن مكانه.
وقالوا: الأولى أن لا يرجع ويريق دما مكان الطواف؛ لأن هذا أنفع للفقراء وأيسر عليه لما فيه من دفع مشقة السفر وضرر التزام الإحرام. والله أعلم. ا. هـ
__________
(1) سنن الترمذي الحج (946) ، سنن أبو داود المناسك (2004) ، مسند أحمد بن حنبل (3/416) .(49/43)
ب- المالكية:
قال ابن رشد رحمه الله (1) :
القول في أعداده وأحكامه: وأما أعداده، فإن العلماء أجمعوا على أن الطواف ثلاثة أنواع: طواف القدوم على مكة،
__________
(1) بداية المجتهد، 1 \ 273.(49/43)
وطواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر، وطواف الوداع، وأجمعوا على أن الواجب منها الذي يفوت الحج بفواته هو طواف الإفاضة، وأنه المعني بقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) ، وأنه لا يجزئ عنه دم، وجمهورهم على: أنه لا يجزئ طواف القدوم على مكة عن طواف الإفاضة إذا نسي طواف الإفاضة لكونه قبل يوم النحر، وقالت طائفة من أصحاب مالك: إن طواف القدوم يجزئ عن طواف الإفاضة كأنهم رأوا أن الواجب إنما هو طواف واحد، وجمهور العلماء على أن طواف الوداع يجزئ عن طواف الإفاضة، بخلاف طواف القدوم الذي هو قبل وقت طواف الإفاضة، وأجمعوا فيما حكاه أبو عمر بن عبد البر أن طواف القدوم والوداع من سنة الحاج إلا لخائف فوات الحج فإنه يجزئ عنه طواف الإفاضة، واستحب جماعة من العلماء لمن عرض له هذا أن يرمل في الأشواط الثلاثة من طواف الإفاضة على سنة طواف القدوم من الرمل، وأجمعوا على أن المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة، كما أجمعوا على أنه ليس على المعتمر إلا طواف القدوم، وأجمعوا أن من تمتع بالعمرة إلى الحج أن عليه طوافين، طواف للعمرة لحله منها، وطواف للحج يوم النحر على ما في حديث عائشة المشهور، وأما المفرد فليس عليه إلا طواف واحد كما قلنا يوم النحر، واختلفوا في القارن، فقال مالك
__________
(1) سورة الحج الآية 29(49/44)
والشافعي وأحمد وأبو ثور: يجزئ القارن طواف واحد وسعي واحد، وهو مذهب عبد الله بن عمر وجابر، وعمدتهم حديث عائشة المتقدم، وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وابن أبي ليلى على القارن طوافان وسعيان، ورووا هذا عن علي وابن مسعود لأنهما نسكان من شرط كل واحد منهما إذا انفرد طوافه وسعيه فوجب أن يكون الأمر كذلك إذا اجتمعا.(49/45)
وقال الدسوقي (1) رحمه الله:
حاصل المسألة أن الخارج إلى مكة إذا قصد التردد لها فلا وداع عليه مطلقا وصل للميقات أم لا، وإن قصد مسكنه أو الإقامة طويلا فعليه الوداع مطلقا، وإن خرج لاقتضاء دين أو زيارة أهل نظر؛ فإن خرج لنحو أحد المواقيت ودع، وإن خرج لدونها كالتنعيم فلا وداع، هذا محصل كلام (ح) .
قوله: (لا لقريب كالتنعيم والجعرانة) أي ما لم يخرج ليقيم فيه لكونه مسكنه، أو ليقيم فيه طويلا وإلا طلب منه.
قوله: (وإن صغيرا) مبالغة في قوله وندب طواف الوداع إن خرج لكالجحفة أي وإن كان ذلك الخارج صغيرا، وظاهره ولو كان غير مميز فيفعله عنه وليه.
قوله: (وتأدى. . إلخ) الحاصل أن طواف الوداع ليس مقصودا لذاته بل يكون آخر عهده من البيت الطواف، فلذلك
__________
(1) حاشية الدسوقي، 2 \ 47.(49/45)
يتأدى بطواف الإفاضة أو العمرة، ولا يكون سعيه لها طولا حيث لم يقم عندها إقامة تقطع حكم التوديع، والمراد بتأديه بهما: أنه لا يستحب لمن طاف للإفاضة أو للعمرة، ثم خرج من فوره أن يطوف للوداع بل يسقط عنه الطلب بما ذكر، ويحصل له فضل الوداع إن نواه بما ذكر، قياسا على تحية المسجد.(49/46)
ج- الشافعية:
قال النووي رحمه الله (1) :
قال المصنف رحمه الله: (إذا فرغ من الحج وأراد المقام بمكة لم يكلف طواف الوداع، فإن أراد الخروج طاف للوداع وصلى ركعتي الطواف، وهل يجب طواف الوداع أم لا؟ فيه قولان:
(أحدهما) : أنه يجب لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (2) » .
(والثاني) لا يجب لأنه لو وجب لم يجز للحائض تركه، فإن قلنا: إنه واجب وجب بتركه الدم؟ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك نسكا فعليه دم (3) » . وإن قلنا: لا يجب، لم يجب بتركه دم؛ لأنه سنة فلا يجب بتركه دم، كسائر سنن الحج، وإن طاف للوداع ثم أقام لم يعتد بطوافه عن الوداع؛ لأنه لا
__________
(1) المجموع شرح المهذب، 8 \ 253- 257.
(2) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .
(3) موطأ مالك الحج (957) .(49/46)
توديع مع المقام، فإذا أراد أن يخرج أعاد طواف الوداع، وإن طاف ثم صلى في طريقه أو اشترى زادا لم يعد الطواف؛ لأنه لا يصير بذلك مقيما، وإن نسي الطواف وخرج ثم ذكره (فإن قلنا) إنه واجب نظرت، فإن كان من مكة على مسافة تقصر فيها الصلاة استقر عليه الدم، فإن عاد وطاف لم يسقط الدم لأن الطواف الثاني للخروج الثاني فلا يجزئه عن الخروج الأول، فإن ذكر ذلك وهو في مسافة لا تقصر فيها الصلاة فعاد وطاف سقط عنه الدم؛ لأنه في حكم المقيم، ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أمر «الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض (1) » ، فإن نفرت الحائض ثم طهرت، فإن كانت في بنيان مكة عادت وطافت وإن خرجت من البنيان لم يلزمها الطواف) .
(الشرح) حديث ابن عباس الأول: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده (2) » رواه مسلم، وحديثه الآخر: (أمر الناس. .) إلى آخره، رواه البخاري ومسلم. وحديث: «من ترك نسكا فعليه دم (3) » سبق بيانه في هذا الباب مرات.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة فقال: " عقرى حلقى- إنك لحابستنا- ثم قال لها: أكنت أفضت يوم النحر؟ " قالت: نعم. قال: " فانفري ") (4) » رواه البخاري ومسلم. والوداع بفتح الواو، وتنفر بكسر الفاء.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .
(2) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .
(3) موطأ مالك الحج (957) .
(4) صحيح البخاري الأدب (6157) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .(49/47)
أما الأحكام ففيها مسائل:
(إحداها) قال أصحابنا: من فرغ من مناسكه وأراد المقام بمكة ليس عليه طواف الوداع، وهذا لا خلاف فيه سواء كان من أهلها أو غريبا، وإن أراد الخروج من مكة إلى وطنه أو غيره طاف للوداع ولا رمل في هذا الطواف ولا اضطباع كما سبق، وإذا طاف صلى ركعتي الطواف، وفي هذا الطواف قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما، أصحهما: أنه واجب، والثاني: سنة، وحكي طريق آخر: أنه سنة قولا واحدا، حكاه الرافعي وهو ضعيف غريب. والمذهب أنه واجب.
قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما هذا نصه في الأم والقديم، والاستحباب هو نصه في الإملاء، فإن تركه أراق دما (فإن قلنا) سنة فالدم سنة، ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف الوداع إن قلنا هو واجب. والله أعلم.
(الثانية) إذا خرج بلا وداع وقلنا يجب طواف الوداع عصى، ولزمه العود للطواف ما لم سيبلغ مسافة القصر من مكة، فإن بلغها لم يجب العود بعد ذلك، ومتى لم يعد لزمه الدم، فإن عاد قبل بلوغه مسافة القصر سقط عنه الدم، وإن عاد بعد بلوغها فطريقان: (أصحهما) وبه قطع الجمهور: لا يسقط.
(والثاني) حكاه الخراسانيون وجهان (أصحهما) لا يسقط، (والثاني) يسقط.(49/48)
(الثالثة: ليس على الحائض ولا على النفساء طواف وداع، ولا دم عليها لتركه؛ لأنها ليست مخاطبة به للحديث السابق، لكن يستحب لها أن تقف على باب المسجد الحرام وتدعو بما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ولو طهرت الحائض والنفساء فإن كان قبل مفارقة بناء مكة لزمها طواف الوداع لزوال عذرها، وإن كان بعد مسافة القصر لم يلزمها العود بلا خلاف، وإن كان بعد مفارقة مكة وقبل مسافة القصر فقد نص الشافعي: أنه لا يلزمها، ونص أن المقصر بترك الطواف يلزمه العود. وللأصحاب طريقان: (المذهب) الفرق كما نص عليه وبه قطع المصنف والجمهور لأنه مقصر بخلاف الحائض.
(والطريق الثاني) : حكاه الخراسانيون فيهما قولان: (أحدهما) يلزمهما، (والثاني) : لا يلزمهما. (فإن قلنا) لا يجب العود فهل الاعتبار في المسافة بنفس مكة أم بالحرم؟ فيه طريقان: المذهب وبه قطع المصنف والجمهور بنفس مكة، والثاني حكاه جماعة من الخراسانيين، فيه وجهان أصحهما هذا، والثاني الحرم، وأما المستحاضة إذا نفرت في يوم حيضها فلا وداع عليها، وإن نفرت في يوم طهرها لزمها طواف الوداع.
(الرابعة) ينبغي أن يقع طواف الوداع بعد جميع الأشغال، ويعقبه الخروج بلا مكث، فإن مكث نظر: إن كان لغير عذر أو لشغل غير أسباب الخروج كشراء متاع أو قضاء دين أو زيارة(49/49)
صديق أو عيادة مريض لزمه إعادة الطواف، وإن اشتغل بأسباب الخروج كشراء الزاد وشد الرحل ونحوهما، فهل يحتاج إلى إعادته؟ فيه طريقان: قطع الجمهور بأنه لا يحتاج، وذكر إمام الحرمين فيه وجهين، ولو أقيمت الصلاة فصلاها معهم لم يجد الطواف، نص عليه الشافعي في الإملاء، واتفق عليه الأصحاب.
والله أعلم.
(الخامسة) حكم طواف الوداع حكم سائر أنواع الطواف في الأركان والشروط، وفيه وجه لأبي يعقوب الأبيوردي أنه يصح بلا طهارة وتجبر الطهارة بالدم، وقد سبق بيان الوجه في فصل طواف القدوم، وهو غلط ظاهر. والله تعالى أعلم.
(السادسة) هل طواف الوداع من جملة المناسك أم عبادة مستقلة؟ فيه خلاف، فقال إمام الحرمين والغزالي: هو من المناسك وليس على الحاج والمعتمر طواف وداع إذا خرج من مكة لخروجه، وقال البغوي والمتولي وغيرهما: ليس طواف الوداع من المناسك بل هو عبادة مستقلة يؤمر بها كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر سواء كان مكيا أو آفاقيا، وهذا الثاني أصح عند الرافعي وغيره من المحققين تعظيما للحرم وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الإحرام، قال الرافعي:
ولأن الأصحاب اتفقوا على أن المكي إذا حج ونوى على أن يقيم بوطنه لا يؤمر بطواف الوداع، وكذا الآفاقي إذا حج وأراد الإقامة بمكة لا وداع عليه، ولو كان من جملة المناسك لعم الحجيج، هذا كلام الرافعي، ومما يستدل به من السنة لكونه ليس من(49/50)
المناسك ما ثبت في صحيح مسلم وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا (1) » وجه الدلالة أن طواف الوداع يكون عند الرجوع وسماه قبله قاضيا للمناسك، وحقيقته أن يكون قضاها كلها. والله أعلم.
(فرع) ذكرنا في هذه المسألة السادسة عن البغوي: أن طواف الوداع يتوجه على كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر، قال: ولو أراد دون مسافة القصر لا وداع عليه، والصحيح المشهور أنه يتوجه على من أراد مسافة القصر ودونها سواء كانت مسافة بعيدة أم قريبة لعموم الأحاديث وممن صرح بهذا صاحب البيان وغيره.
(فرع) قد ذكرنا أنه لا يجوز أن ينفر من منى ويترك طواف الوداع إذا قلنا بوجوبه، فلو طاف يوم النحر للإفاضة وطاف بعده للوداع، ثم أتى منى ثم أراد النفر منها في وقت النفر إلى وطنه واقتصر على طواف الوداع السابق فهل يجزئه؟ قال صاحب البيان:
اختلف أصحابنا المتأخرون فيه، فقال الشريف العثماني: يجزئه لأن طواف الوداع يراد لمفارقته البيت وهذا قد أرادها، ومنهم من قال: لا يجزئه، وهو ظاهر كلام الشافعي، وظاهر الحديث؛ لأن الشافعي قال: وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت فيودع وينصرف إلى أهله، هذا كلام صاحب البيان، وهذا الثاني هو الصحيح وهو مقتضى كلام الأصحاب. والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1512) .(49/51)
(فرع) قال صاحب البيان: قال الشيخ أبو نصر في المعتمد ليس على المقيم بمكة الخارج إلى التنعيم وداع ولا دم عليه في تركه عندنا، وقال سفيان الثوري: يلزمه الدم. دليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم ولم يأمرها عند ذهابها إلى التنعيم بوداع. والله أعلم.
(فرع) إذا طاف للوداع وخرج من الحرم، ثم أراد أن يعود إليه وقلنا دخوله الحرم يوجب الإحرام. قال الدارمي: يلزم الإحرام لأنه دخول جديد- قال- ولو رجع لطواف الوداع من دون مسافة القصر لم يلزمه الإحرام. والله أعلم.(49/52)
د- الحنابلة:
قال ابن قدامة رحمه الله (1) :
(مسألة) قال: (فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت، يطوف به سبعة ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره، حتى يكون آخر عهده بالبيت) .
وجملة ذلك: أن من أتى مكة لا يخلو إما أن يريد الإقامة بها، أو الخروج منها، فإن أقام بها فلا وداع عليه؛ لأن الوداع من المفارق لا من الملازم، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: إن نوى الإقامة بعد أن حل
__________
(1) المغني، 3 \ 458- 462.(49/52)
له النفر لم يسقط عنه الطواف، ولا يصح؛ لأنه غير مفارق فلا يلزمه وداع كمن نواها قبل حل النفر، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » وهذا ليس بنافر، فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع، وهو واجب من تركه لزمه دم، وبذلك قال الحسن والحكم وحماد والثوري وإسحاق وأبو ثور، وقال الشافعي في قول له: لا يجب بتركه شيء لأنه يسقط عن الحائض، فلم يكن واجبة كطواف القدوم، ولأنه كتحية البيت أشبه طواف القدوم. (ولنا) ما روى ابن عباس قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2) » متفق عليه، ولمسلم قال: «كان الناس ينصرفون كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (3) » . وليس في سقوطه عن المعذور ما يجوز سقوطه لغيره، كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليل وجوبه على غيرها، إذ لو كان ساقطة عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى، وإذا ثبت وجوبه فإنه ليس بركن بغير خلاف، ولذلك سقط عن الحائض ولم يسقط طواف الزيارة، ويسمى طواف الوداع؛ لأنه لتوديع البيت، وطواف الصدر؛ لأنه عند صدور الناس من مكة، ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره وليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .
(2) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .
(3) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .(49/53)
وسلم: «حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » .
(فصل) ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريبة منه فظاهر كلام الخرقي: أنه لا يخرج حتى يودع البيت، وهذا قول أبي ثور، وقياس قول مالك، ذكره ابن القاسم، وقال أصحاب الرأي في أهل بستان ابن عامر، وأهل المواقيت: إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام، بدليل سقوط دم المتعة عنهم.
(ولنا) عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (2) » ولأنه خارج من مكة فلزمه التوديع كالبعيد.
(فصل) فإن أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج، ففيه روايتان: إحداهما: يجزئه عن طواف الوداع، لأنه أمر أن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل، ولأن ما شرع لتحية المسجد أجزأ عنه الواجب من جنسه، كتحية المسجد ركعتين تجزئ عنهما المكتوبة، وعنه: لا يجزئه عن طواف الوداع؛ لأنهما عبادتان واجبتان فلم تجزئ إحداهما عن الأخرى كالصلاتين الواجبتين.
(مسألة) قال: (فإن ودع واشتغل في تجارة عاد فودع) .
قد ذكرنا أن طواف الوداع إنما يكون عند خروجه ليكون آخر عهده بالبيت، فإن طاف للوداع، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة فعليه إعادته، وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والشافعي وأبو ثور،
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .
(2) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .(49/54)
وقال أصحاب الرأي: إذا طاف للوداع، أو طاف تطوعا بعد ما حل له النفر أجزأه عن طواف الوداع، وإن أقام شهرا أو أكثر؛ لأنه طاف بعد ما حل له النفر فلم يلزمه إعادته كما لو نفر عقيبه.
(ولنا) قوله عليه السلام: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » ولأنه إذا أقام بعده خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزه، كما لو طافه قبل حل النفر، فأما إن قضى حاجة في طريقه أو اشترى زادا أو شيئا لنفسه في طريقه لم يجده؛ لأن ذلك ليس بإقامة تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت، وبهذا قال مالك والشافعي ولا نعلم مخالفا لهما.
(مسألة) قال: (فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب وإن بعد بعث بدم) . هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور، والقريب: هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، والبعيد: من بلغ مسافة القصر، نص عليه أحمد وهو قول الشافعي، وكان عطاء يرى الطائف قريبا، وقال الثوري: حد ذلك الحرم، فمن كان في الحرم فهو قريب، ومن خرج منه فهو بعيد.
ووجه القول الأول: أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر، ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام، وقد روي أن عمر (رد رجلا من مر إلى مكة ليكون آخر عهده بالبيت) رواه سعيد، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد، ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .(49/55)
يكن عليه أكثر من دم، ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره، لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه، والمعذور وغيره كسائر واجباته، فإن رجع البعيد فطاف للوداع. فقال القاضي: لا يسقط عنه الدم لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر فلم تسقط برجوعه، كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه، وإن رجع القريب فطاف فلا دم عليه سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا، لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر، ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب.
(فصل) إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرمة، لأنه ليس من أهل الأعذار، فليزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي، وطواف لوداعه، وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من الخلاف، وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه، فأما إن رجع القريب فظاهر قوله من ذكرنا قوله: إنه لا يلزمه إحرام لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به، فأشبه من رجع لطواف الزيارة، فإن ودع وخرج ثم دخل مكة لحاجة، فقال أحمد: أحب إلي أن لا يدخل إلا محرما وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف، وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك، وإنما دخل لحاجة غير متكررة، فأشبه من يدخلها للإقامة بها.
(مسألة) قال: (والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت، ولا وداع عليها ولا فدية) .(49/56)
هذا قول عامة فقهاء الأمصار، وقد روي عن عمر وابنه أنهما (أمرا الحائض بالمقام لطواف الوداع) وكان زيد بن ثابت يقول به، ثم رجع عنه: فروى مسلم (أن زيد بن ثابت خالف ابن عباس في هذا) قال طاوس: كنت مع ابن عباس إذ قال: (زيد بن ثابت يفتي أن لا تصدر الحائض قبل أن يكون آخر عهدها بالبيت، فقال له ابن عباس: إما لا تسأل فلانة الأنصارية، هل أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك؟ قال: فرجع زيد إلى ابن عباس يضحك، وهو يقول: ما أراك إلا قد صدقت) .
وروي عن ابن عمر أنه رجع إلى قول الجماعة أيضا، وقد ثبت التخفيف عن الحائض بحديث صفية حين قالوا: «يا رسول الله إنها حائض، فقال: " أحابستنا هي " قالوا يا رسول الله: إنها قد أفاضت يوم النحر، قال: " فلتنفر إذن (1) » ، ولا أمرها بفدية ولا غيرها، وفي حديث ابن عباس: «إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2) » . والحكم في النفساء كالحكم في الحائض؛ لأن أحكام النفاس أحكام الحيض فيما يوجب ويسقط.
(فصل) وإذا نفرت الحائض بغير وداع، فطهرت قبل مفارقة البنيان، رجعت فاغتسلت وودعت، لأنها في حكم الإقامة، بدليل أنها لا تستبيح الرخص، فإن لم يمكنها الإقامة فمضت، أو مضت لغير عذر فعليها دم، وإن فارقت البنيان لم يجب الرجوع إذا كانت قريبة، كالخارج من غير عذر.
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (942) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .
(2) صحيح البخاري الحج (1759) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) .(49/57)
قلنا: هناك ترك واجبا فلم يسقط بخروجه حتى يصير إلى مسافة القصر، لأنه يكون إنشاء سفر طويل غير الأول، وهاهنا لم يكن واجبا، ولا يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما.(49/58)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
ثم إذا نفر من منى، فإن بات بالمحصب - وهو الأبطح، وهو ما بين الجبلين إلى المقبرة- ثم نفر بعد ذلك فحسن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بات، وخرج، ولم يقم بمكة بعد صدوره من منى، لكنه ودع البيت، وقال: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت، فيطوف طواف الوداع، حتى يكون آخر عهده بالبيت، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه.
وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة حتى يكون بعد جميع أموره فلا يشتغل بعده بتجارة ونحوها، لكن إن قضى حاجته، أو اشترى شيئا في طريقه بعد الوداع، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ليحمل المتاع على دابته، ونحو ذلك مما هو من أسباب الرحيل، فلا إعادة عليه، وإن أقام بعد الوداع أعاده، وهذا الطواف واجب عند الجمهور، لكن يسقط عن الحائض.
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .(49/58)
وقال ابن جاسر (1) وفقه الله:
فإذا أتى مكة متعجل، أو غيره وأراد خروجا لبلده أو غيره،
__________
(1) مفيد الأنام ونور الظلام، ج 2 ص (127- 137) .(49/58)
لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف، إذا فرغ من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » إن لم يقم بمكة أو حرمها، فإن أقام بمكة أو حرمها فلا وداع عليه، وهو على كل خارج من مكة ووطنه في غير الحرم، سواء كان حرا، أو عبدا، ذكرا، أو أنثى، صغيرا، أو كبيرا، وتقدم في أول فصل من هذا الكتاب حكم طواف الصغير، فليراجع عند الاحتياج إليه، ودليل ذلك ما روى ابن عباس قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2) » متفق عليه، وفي رواية عنه قال: «كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (3) » رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه، وعن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للحائض أن تصدر قبل أن تطوف بالبيت إذا كانت قد طافت في الإفاضة (4) » رواه أحمد، وعن عائشة قالت: «حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت، قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أحابستنا هي " قلت: يا رسول الله إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال: " فلتنفر إذا") (5) » متفق عليه، ومن كان خارج الحرم ثم أراد الخروج من مكة فعليه الوداع، سواء أراد الرجوع إلى بلده أو غيره لما تقدم، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: (فلا يخرج الحاج حتى يودع البيت فيطوف طواف
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .
(2) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .
(3) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .
(4) صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (1/370) .
(5) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (945) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .(49/59)
الوداع حتى يكون آخر عهده بالبيت، ومن أقام بمكة فلا وداع عليه، وهذا الطواف يؤخره الصادر من مكة، حتى يكون بعد جميع أموره فلا يشتغل بعده بتجارة ولا نحوها، لكن إن قضى حاجته، أو اشترى شيئا في طريقه بعد الوداع، أو دخل إلى المنزل الذي هو فيه ليحمل المتاع على دابته ونحو ذلك، مما هو أسباب الرحيل فلا إعادة عليه، وإن أقام بعد الوداع أعاده، وهذا الطواف واجب عند الجمهور، ولكن يسقط عن الحائض) انتهى كلامه.
ومن مفهومه يؤخذ أنه لو دخل منزله بعد طواف الوداع فاشتغل فيه بغير ما هو من أسباب الرحيل أنه يلزمه إعادة الوداع، وبالأولى لو ودع في الليل ونام في بيته أو غيره من مساكن مكة أو ما يدخل في مسماها؛ لأن هذا يعد إقامة، وينافي مقتضى الحديث الذي نص فيه بأن يكون آخر عهده بالبيت، أما لو ودع البيت ثم انتظر وداع رفقته حتى يسافروا جميعا، فإنه لا يضر هذا الانتظار إذا لم يشتغل بعد الوداع بما هو ممنوع منه. والله أعلم.
وقال في الترغيب والتلخيص: لا يجب طواف الوداع على غير الحاج، قال في الفروع: (وإن خرج غير حاج فظاهر كلام شيخنا لا يودع) انتهى.
قلت: كلام شيخ الإسلام يخالف ما استظهره في الفروع، قال شيخ الإسلام: (طواف الوداع ليس من الحج وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة) انتهى. والمذهب وجوبه على كل من(49/60)
أراد الخروج من " مكة وبلده غير الحرم.
(هذا بحث. نفيس مهم لا تجده في غير هذا الكتاب) وهو أن يقال: هل يجوز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والإقامة بعده بمنى والبيع والشراء فيه أم لا؟
فنقول وبالله التوفيق: قال في المنتهى وشرحه: (فإذا أتى مكة متعجل أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف) انتهى ملخصا، قال الشيخ عثمان النجدي: (فهم منه أنه لو سافر إلى بلده من منى ولم يأت مكة لا وداع عليه، صرح به في الإقناع عن الشيخ تقي الدين في موضع) انتهى.
قلت: (لم أجد ذلك في الإقناع بعد المراجعة مرارا اللهم إلا أن يكون مراده قوله الآتي: وطواف الوداع ليس من الحج. . إلى آخره. وهذا ليس بصريح فيما قاله عن الشيخ تقي الدين) .
وقال النووي الشافعي: (ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف الوداع) انتهى، قال ابن حجر المكي: (أي بعد نفره وإن كان قد طاف قبل عوده من مكة إلى منى كما في المجموع) انتهى، وقال ابن نصر الله البغدادي الحنبلي في حواشي الكافي: (وظاهر كلام الأصحاب لزوم دخول مكة بعد أيام منى لكل حاج، ولو لم يكن طريق بلده عليها لوجوب طواف الوداع عليه ولم يصرحوا به) .
وقال ابن نصر أيضا: (قوة كلام الأصحاب أن أول وقت(49/61)
طواف الوداع بعد أيام منى، فلو ودع قبلها لم يجزئه ولم أجد به تصريحا، ويؤخذ ذلك من قولهم: من أخر طواف الزيارة فطافه عند الخروج كفاه ذلك الطواف عن طواف الزيارة والوداع، ولم يقولوا من اكتفى بطواف الزيارة يوم النحر عن طواف الوداع ولم يعد إلى مكة) انتهى.
قلت: (بل قد صرح به المغني حيث قال: فيما يأتي كما لو طافه قبل حل النفر، أي فإنه لا يجزئه) قال في المغني: (ووقته بعد فراغ المرء من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت على ما جرت به العادة في توديع المسافر إخوانه وأهله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » انتهى، قال في الإنصاف: (وظاهر كلام المصنف- يعني الموفق - أن طواف الوداع يجب ولو لم يكن بمكة، قال في الفروع: وهو ظاهر كلامهم، قال الآجري: يطوفه من أراد الخروج من مكة أو من منى أو من نفر آخر) انتهى، وفي أثناء كلام للشيخ يحيى بن عطوة النجدي تلميذ الشيخ العسكري قال: (وأخبرنا جماعة أن الشويكي أفتاهم بجواز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر، والفراغ من واجبات الحج، والبيع والشراء والإقامة بعده بمنى، ونقلوا عنه أنه بالغ حتى نسب ذلك إلى جميع الأصحاب، ولو تحقق ما صرح به الزركشي والمغني والشرح الكبير" وغيرها من كتب الأصحاب ما قال ما قال) ، قال الخرقي: فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت، قال الزركشي: والمراد الخروج من الحرم، قال في الشرح: ووقته
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .(49/62)
بعد فراغ " المرء من جميع أموره ليكون آخر عهده بالبيت، وكذا قال في المغني، قال: ولقد كشفت قريبا من خمسين كتاب من كتب المذهب فلم أظفر فيها بما نسبه هذا المتفقه إليهم، وأفتى به عنهم، وأنا أتعجب منه كيف صدرت منه هذه النسبة إلى جميع الأصحاب، والصريح عنهم العكس، ولعله دخل عليه اللبس من لفظ الخروج من كلام الخرقي، وتوهم أنه الخروج من مكة وليس كذلك، فقد صرح الزركشي أن مراد الخرقي الخروج من الحرم، ولعله ذهل عن وقت الطواف: أعني طواف الوداع، ولو حقق النظر في المغني والشرح الكبير وغيرهما لزالت عنه ضبابة الشك، ولعله اعتمد على ما وجهه ابن مفلح في فروعه قال: فإن ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه، ومراده بعد حل النفر ودخول وقت الوداع، هذا مع تسليم جواز الإفتاء بالتوجيه المذكور، وجواز اعتماد المقلد عليه من غير نظر في الترجيح) انتهى كلام ابن عطوة. قلت: أما لفظ الخروج فهو صريح في كلام الأصحاب أنه الخروج من مكة، خلافا لما فهمه الشيخ ابن عطوة، قال الخرقي: (فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت يطوف به سبعا ويصلي ركعتين إذا فرغ من جميع أموره حتى يكون آخره عهده بالبيت، قال الموفق في المغني: وجملة ذلك أن من أتى مكة لا يخلو: إما أن يريد الإقامة بها، أو الخروج منها، فإن أقام بها فلا وداع عليه، فأما الخارج من مكة فليس له أن يخرج حتى يودع البيت بطواف سبع، وهو واجب من تركه لزمه دم) انتهى(49/63)
ملخصا، ومثله في الشرح الكبير، قال في الإقناع وشرحه: (فإذا أراد الخروج من مكة لم يخرج حتى يودع البيت بالطواف. . . إلى إن قال وهو على كل خارج من مكة! انتهى ملخصا، قال في المنتهى وشرحه: (فإذا أتى مكة متعجل أو غيره وأراد خروجا لبلده أو غيره لم يخرج من مكة حتى يودع البيت بالطواف) انتهى، وقال في الإقناع أيضا: (قال الشيخ وطواف الوداع ليس من الحج، وإنما هو لكل من أراد الخروج من مكة، قال في المستوعب: ومتى أراد الحاج الخروج من مكة لم يخرج حتى يودع) انتهى، وأما فتوى الشيخ الشويكي بجواز طواف الوداع أول أيام التشريق قبل حل النفر والفراغ من واجبات الحج والإقامة في منى فلا تسلم له صحة فتواه هذه؛ لما تقدم عن ابن نصر الله أن ظاهر كلام الأصحاب لزوم دخول مكة بعد أيام منى لكل حاج، ولو لم يكن طريق بلده عليها لوجوب طواف الوداع عليه، ولما تقدم عنه أيضا: أن قوة كلام الأصحاب أن أول وقت طواف الوداع بعد أيام منى، فلو ودع قبلها لم يجزئه، قال في المغني بعد كلام سبق: (ولأنه إذا أقام بعده أي: طواف الوداع خرج عن أن يكون وداعا في العادة فلم يجزئه، كما لو طافه قبل حل النفر. . الخ) فجعل صاحب المغني ما إذا طاف الوداع قبل حل النفر أصلا في عدم الإجزاء، وقاس عليه من ودع بعد حل النفر، ثم اشتغل بتجارة أو إقامة، فعلم عنه أنه لو طاف للوداع قبل حل النفر وهو ثاني عشر ذي الحجة أنه لا يجزئه، لأن وقت طواف الوداع لا يدخل إلا بعد حل النفر. والله أعلم، ومثله في(49/64)
الشرح الكبير، وأما توجيه صاحب الفروع الذي نصه: (فإن ودع ثم أقام بمنى ولم يدخل مكة فيتوجه جوازه) فمراده والله أعلم إذا كان طاف للوداع بعد حل النفر ودخول وقت الوداع، وقد نص العلماء: أن وقت طواف الوداع إذا فرغ من جميع أموره، ومن كان بقي عليه المبيت ليالي منى ورمي الجمار، فإنه لا يكون قد فرغ من جميع أموره بل بقي عليه شيء من واجبات الحج، أما إذا نفر من منى النفر الأول أو الآخر، ثم ودع البيت وسافر ونزل خارجا عن بنيان مكة للبيتوتة أو المقيل أو غيرهما، سواء كان ذلك النزول بمنى أو غيرها من بقاع الحرم المنفصلة عن مسمى بنيان مكة، فلا يلزمه إعادة طواف الوداع لأنه قد سافر من مكة وليس مقيما بها بعد الوداع، هذا ما ظهر لي في تحرير هذه المسألة التي طال فيها النزاع قديما وحديثا والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفي التحفة للشافعية: (وإذا أراد الحاج أو المعتمر المكي وغيره الخروج من مكة أو منى عقب نفره منها، وإن كان طاف للوداع عقب طواف الإفاضة عند عوده إليها طاف وجوبا للوداع إذ لا يعتد به، ولا يسمى طواف وداع إلا بعد فراغ جميع النسك) انتهى ملخصا بتصرف في التقديم والتأخير.
قال في المغني: (فصل) ومن كان منزله في الحرم فهو كالمكي لا وداع عليه، ومن كان منزله خارج الحرم قريبا منه فظاهر كلام الخرقي أنه لا يخرج حتى يودع البيت، وهذا قول أبي ثور وقياس قول مالك ذكره ابن القاسم، وقال أصحاب الرأي في(49/65)
أهل بستان ابن عامر وأهل المواقيت إنهم بمنزلة أهل مكة في طواف الوداع لأنهم معدودون من حاضري المسجد الحرام بدليل سقوط دم المتعة عنهم، ولنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » ولأنه خارج عن الحرم فلزمه التوديع كالبعيد) انتهى، وكذا في الشرح الكبير، قال في الإقناع وشرحه: (ومن كان خارجه: أي خارج الحرم، ثم أراد الخروج من مكة فعليه الوداع وهو على كل خارج من مكة) انتهى ملخصا، وتقدم أول الفصل أنه إذا أقام بمكة أو حرمها لا وداع عليه، وأنه على كل خارج من مكة ووطنه في غير الحرم، ثم بعد طواف الوداع يصلي ركعتين خلف المقام كسائر الطوافات، قال في المنتهى والإقناع وغيرهما: ويأتي الحطيم نصا أيضا وهو تحت الميزاب فيدعو) انتهى.
قال في الإقناع وشرحه: (فإن خرج قبله: أي قبل الوداع فعليه الرجوع إليه، أي إلى الوداع لفعله إن كان قريبا دون مسافة القصر ولم يخف على نفسه أو ماله أو فوات رفقته أو غير ذلك من الأعذار ولا شيء عليه إذا رجع قريبا سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا، لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر فإن لم يمكنه الرجوع لعذر مما تقدم أو لغيره أو أمكنه الرجوع للوداع ولم يرجع، أو بعد مسافة قصر عن مكة فعليه دم رجع إلى مكة وطاف للوداع أو لا، لأنه قد استقر عليه ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه، كمن تجاوز الميقات بغير إحرام ثم أحرم ثم رجع إلى الميقات، وسواء تركه أي طواف الوداع
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .(49/66)
عمدا أو خطأ أو نسيانا لعذر أو غيره، لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره، كسائر واجبات الحج، ومتى رجع مع القرب لم يلزمه إحرام، لأنه في حكم الحاضر ويلزمه مع البعد الإحرام بعمرة يأتي بها فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر ثم يطوف للوداع إذا فرغ من أموره) انتهى.
قال الخرقي: (مسألة) فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب، وإن بعد بعث بدم، قال في المغني: هذا قول عطاء والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور، والقريب: هو الذي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، والبعيد من بلغ مسافة القصر، نص عليه أحمد، وهو قول الشافعي، وكان عطاء يرى الطائف قريبا، وقال الثوري: حد ذلك الحرم فمن كان في الحرم فهو قريب ومن خرج منه فهو بعيد، ووجه القول الأول: أن من دون مسافة القصر في حكم الحاضر في أنه لا يقصر ولا يفطر، ولذلك عددناه من حاضري المسجد الحرام، وقد روي (أن عمر رد رجلا من مر إلى مكة ليكون آخر عهده بالبيت) رواه سعيد، وإن لم يمكنه الرجوع لعذر فهو كالبعيد ولو لم يرجع القريب الذي يمكنه الرجوع لم يكن عليه أكثر من دم، ولا فرق بين تركه عمدا أو خطأ لعذر أو غيره؛ لأنه من واجبات الحج فاستوى عمده وخطؤه والمعذور وغيره كسائر واجباته، فإن رجع البعيد فطاف الوداع، فقال القاضي: لا يسقط عنه الدم لأنه قد استقر عليه الدم ببلوغه مسافة القصر فلم يسقط برجوعه، كمن تجاوز الميقات غير محرم فأحرم دونه ثم رجع إليه، وإن رجع القريب فطاف فلا دم(49/67)
عليه، سواء كان ممن له عذر يسقط عنه الرجوع أو لا، لأن الدم لم يستقر عليه لكونه في حكم الحاضر، ويحتمل سقوط الدم عن البعيد برجوعه لأنه واجب أتى به فلم يجب عليه بدله كالقريب.
(فصل) إذا رجع البعيد فينبغي أن لا يجوز له تجاوز الميقات إن كان جاوزه إلا محرما، لأنه ليس من أهل الأعذار، فيلزمه طواف لإحرامه بالعمرة والسعي، وطواف لوداعه، وفي سقوط الدم عنه ما ذكرنا من الخلاف، وإن كان دون الميقات أحرم من موضعه، فأما إن رجع القريب فظاهر قول من ذكرنا قوله: أنه لا يلزمه إحرام لأنه رجع لإتمام نسك مأمور به، فأشبه من رجع لطواف الزيارة، فإن ودع وخرج ثم دخل مكة لحاجة، فقال أحمد: أحب إلي أن لا يدخل إلا محرما، وأحب إلي إذا خرج أن يودع البيت بالطواف، وهذا لأنه لم يدخل لإتمام النسك إنما دخل لحاجة غير متكررة، فأشبه من يدخلها للإقامة بها) انتهى كلام صاحب المغني، ومثله في الشرح الكبير ونصه: (وإن أخر طواف الزيارة أو القدوم فطافه عند الخروج كفاه ذلك الطواف عن طواف الوداع) .
قال الشيخ مرعي في الغاية: (ويتجه من تعليلهم ولو لم ينو طواف الوداع حال شروعه في طواف الزيارة أو القدوم) انتهى لأن المأمور به إن يكون آخر عهده بالبيت وقد فعل، ولأنهما عبادتان من جنس فأجزأت إحداهما عن الأخرى، ولأن ما شرع مثل تحية المسجد يجزئ عنه الواجب من جنسه، كإجزاء المكتوبة عن تحية المسجد، وكإجزاء المكتوبة أيضا عن ركعتي(49/68)
الطواف، وعن ركعتي الإحرام، وكغسل الجنابة عن غسل الجمعة، فإن نوى بطوافه الوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة ولو كان ناسيا لطواف الزيارة، لأنه لم ينوه، وفي الحديث: «وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » .
فإن قيل: كيف يتصور إجزاء طواف القدوم عن طواف الوداع، وقد قال الأصحاب: ثم يفيض إلى مكة فيطوف مفرد وقارن لم يدخلاها قبل للقدوم برمل ثم للزيارة؟ قلنا: يتصور فيما إذا لم يكن دخل مكة لضيق وقت الوقوف بعرفة مثلا، وقصد عرفات فلما رجع منها طاف للزيارة أولا، ثم طاف للقدوم إما نسيانا أو غيره، فطواف القدوم هذا وإن كان متأخرا عن طواف الزيارة يكفيه عن طواف الوداع، وهذا على القول بسنية طواف القدوم بعد الرجوع من عرفة للمتمتع وللمفرد والقارن اللذين لم يدخلا مكة قبل وقوفهما بعرفة، وهو نص الإمام أحمد، اختاره الخرقي، أما على اختيار الموفق، والشارح، وشيخ الإسلام، وابن القيم، وابن رجب، فلا يسن طواف القدوم بعد الرجوع من عرفة، وهو الذي تدل عليه السنة، كما تقدم في فصل: (ثم يفيض إلى مكة، ويكتفي بطواف الزيارة الذي هو ركن في الحج) والله أعلم، ولا وداع على حائض ونفساء لحديث ابن عباس وفيه: «إلا أنه خفف عن الحائض (2) » وتقدم، والنفساء في معناها، لأن حكمه حكم الحيض فيما يمنعه وغيره، ولا فدية على الحائض والنفساء، لظاهر حديث صفية المتقدم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بفدية إلا أن تطهر الحائض والنفساء قبل
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .(49/69)
مفارقة بنيان مكة فيلزمهما العود ويغتسلان للحيض والنفاس، لأنهما في حكم المقيم بدليل أنهما لا يستبيحان الرخص قبل مفارقة البنيان ثم يودعان، فإن لم تعودا للوداع مع طهرهما قبل مفارقة البنيان ولو لعذر فعليهما دم لتركهما نسكا واجبة، فأما إن فارقت الحائض والنفساء البنيان قبل طهرهما لم يجب عليهما الرجوع لخروجهما عن حكم الحاضر، فإن قيل: فلم لا يجب الرجوع عليهما مع القرب كما يجب على الخارج لغير عذر؟ قلنا: هناك ترك واجبا فلم يسقط بخروجه مع القرب كما تقدم تفصيله، وههنا لم يكن واجبا عليهم ولم يثبت وجوبه ابتداء إلا في حق من كان مقيما وهما حين الإقامة لا يجب عليهما لحصول الحيض والنفاس والله أعلم، وأما المعذور غير الحائض والنفساء كالمريض ونحوه فعليه دم إذا ترك طواف الوداع لأن الواجب لا يسقط جبرانه بالعذر) وتقدم.(49/70)
قال ابن حزم رحمه الله:
(وأما قولنا: من أراد أن يخرج من مكة من معتمر أو قارن أو متمتع بالعمرة إلى الحج ففرض عليه أن يجعل آخر عمله الطواف بالبيت، فإن تردد بمكة بعد ذلك أعاد الطواف ولا بد، فإن خرج ولم يطف بالبيت ففرض عليه الرجوع ولو كان بلده بأقصى الدنيا حتى يطوف بالبيت، فإن خرج عن منازل مكة فتردد خارجا ماشيا فليس عليه أن يعيد الطواف، إلا التي تحيض بعد أن تطوف طواف الإفاضة فليس عليها أن تنتظر طهرها لتطوف لكن تخرج كما هي، فإن حاضت قبل طواف الإفاضة فلا بد لها أن(49/70)
تنتظر حتى تطهر وتطوف وتحبس عليها الكرى والرفقة، فلما رويناه من طريق مسلم قال: نا سعيد بن منصور نا سفيان عن سليمان الأحول عن طاوس عن ابن عباس قال: «كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله: " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » ومن طريق مسلم نا محمد بن رمح نا الليث عن ابن شهاب عن أبي سلمة- وهو عبد الرحمن بن عوف - أن عائشة أم المؤمنين قالت: «حاضت صفية بنت حيي بعد ما أفاضت فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه السلام: " أحابستنا هي؟ " فقلت يا رسول الله: إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلتنفر (2) » . قال أبو محمد: فمن خرج ولم يودع من غير الحائض فقد ترك فرضا لازما فعليه أن يؤديه، روينا من طريق وكيع عن إبراهيم بن يزيد عن أبي الزبير بن عبد الله: (أن قوما نفروا ولم يودعوا فردهم عمر بن الخطاب حتى ودعوا) .
قال علي: ولم يخص عمر موضعا عن موضع، وقال مالك: بتحديد مكان إذا بلغه لم يرجع منه، وهذا قول لم يوجبه نص ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب، ومن طريق عبد الرزاق نا محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن نافع قال: (رد عمر بن الخطاب نساء من ثنية هرشى كن أفضن يوم النحر ثم حضن فنفرن فردهن حتى يطهرن ويطفن بالبيت ثم بلغ عمر بعد ذلك حديث غير ما صنع فترك صنعه الأول) .
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .
(2) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن الترمذي الحج (943) ، سنن النسائي الحيض والاستحاضة (391) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، موطأ مالك الحج (945) ، سنن الدارمي المناسك (1917) .(49/71)
قال أبو محمد: هرشى هي نصف الطريق من المدينة إلى مكة بين الأبواء والجحفة على فرسخين من الأبواء، وبها علمان مبنيان علامة لأنه نصف الطريق، وقد روي أثر من طريق أبي عوانة عن يعلى بن عطاء عن الوليد بن عبد الرحمن عن الحارث بن عبد الله بن أوسى: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب أفتياه في المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض أن يكون آخر عهدها بالبيت (1) » .
قال أبو محمد: الوليد بن عبد الرحمن غير معروف، ثم لو صح لكان داخلا في جملة أمره عليه السلام أن لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت وعمومه، وكأن يكون أمره عليه السلام الحائض التي أفاضت بأن تنفر حكما زائدا مبنيا على النهي المذكور مستثنى منه ليستعمل الخبران معا ولا يخالف شيء منهيا. وبالله تعالى التوفيق.
وأما قولنا من ترك عمدا أو بنسيان شيئا من طواف الإفاضة أو من السعي الواجب بين الصفا والمروة فليرجع أيضا كما ذكرنا ممتنعا من النساء حتى يطوف بالبيت ما بقي عليه، فإن خرج ذو الحجة قبل أن يطوف فقد بطل حجه، وليس عليه في رجوعه لطواف الوداع أن يمتنع من النساء فلأن طواف الإفاضة فرض.
وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (2) وقد ذكرنا أنها
__________
(1) سنن الترمذي الحج (946) ، سنن أبو داود المناسك (2004) ، مسند أحمد بن حنبل (3/416) .
(2) سورة البقرة الآية 197(49/72)
شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، فإذ هو كذلك فلا يحل لأحد أن يعمل شيئا من أعمال الحج في غير أشهر الحج فيكون مخالفا لأمر الله تعالى.
وأما امتناعه عن النساء فلقول الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (1) فهو ما لم يتم فرائض الحج فهو في الحج بعد، وأما رجوعه لطواف الوداع فليس هو في حج ولا في عمرة فليس عليه أن يحرم ولا أن يمتنع من النساء، لأن الله تعالى لم يوجب ذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا إحرام إلا بحج أو عمرة، وأما لطواف مجرد فلا) (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
(2) المحلى، ج (7) فقه عام، ص (241- 244) .(49/73)
الخلاصة:
مما تقدم يتلخص ما يأتي:
1 - قال جماعة من العلماء: إن طواف الوداع من المناسك (1) منهم إمام الحرمين والغزالي، وهو مذهب أحمد والشافعي.
وقال آخرون: هو عبادة مستقلة منهم البغوي والمتولي وابن تيمية في أحد قوليه، تعظيما للحرم، وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الإحرام، ولأنه لو كان من جملة المناسك لعم الحجيج، لكنه سقط عن المكي إذا لم يخرج، وعن الآفاقي إذا نوى الإقامة بمكة، ولحديث:
__________
(1) ص 14، 19 من الإعداد، وهو في المجلة في ص 58، 59(49/73)
«يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا (1) » فسماه قاضيا نسكه قبل الوداع عند نفره (2) ، وعلى الأول: يطلب ممن نفر بعد نسك فقط، وعلى الثاني: يطلب ممن نفر من مكة مطلقا.
2 - قال الحنفية والحنابلة: إن طواف الوداع واجب. وهو قول عند الشافعية؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به، ونهيه عن النفر قبله، فمن تركه عمدا أو جهلا أو نسيانا لزمه دم، وأثم إن كان متعمدا، وقال المالكية: بأنه سنة وهو قول للشافعية، وعليه لا يأثم من تركه، ولا دم عليه (3) .
وعلم مما سبق أن وقت طواف الوداع إنما يكون بعد فراغ الحاج من جميع نسكه.
3 - قيل: يطلب طواف الوداع ممن نفر بعد نسكه من مكة، ولو كان ذلك إلى حدود الحرم فقط؛ لعموم الأمر به والنهي عن تركه عند النفر.
وقيل: يطلب من كل من نفر بعد نسكه إلى خارج حدود الحرم، ولو كان دون المواقيت، ودون مسافة القصر، لا ممن نفر من مكة إلى داخل حدود الحرم.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1512) .
(2) ص 4، 5، 7، 8، 13، 16 من الإعداد، وهو في المجلة في ص 27، 28، 29، 30، 31، 35، 36، 37، 38، 39، 46، 52.
(3) ص 9، 14، 15، 16 من الإعداد، وهو في المجلة في ص 40، 51، 52.(49/74)
وقيل: لا"يطلب ممن نفر بعد نسكه إلى المواقيت فما دونها.
وقيل: لا يطلب ممن نفر إلى ما دون مسافة القصر، لأنه في حكم المقيم بمكة، ولخروج عائشة مع أخيها عبد الرحمن رضي الله عنهما إلى التنعيم لتحرم منه بعمرة، وذلك على علم منه صلى الله عليه وسلم، ولم يأمرهما بوداع، والتنعيم من الحل.
ولا يطلب ممن حج أو اعتمر من أهل مكة والمقيمين بها، ولا من آفاقي حج، أو اعتمر ونوى الإقامة بمكة مطلقا أو قبل النفر الأول، وقال أبو يوسف: يستحب لأهل مكة إذا حجوا أو اعتمروا أن يطوفوا طواف الوداع.
4 - قال الحنفية: من ترك طواف الوداع عمدا أو نسيانا، وجب عليه أن يرجع ليطوفه ما لم يتجاوز الميقات، ومن قال بوجوبه من الشافعية، قال: يجب عليه الرجوع ما لم يبلغ مسافة القصر، وإلا لم يجب عليه الرجوع وعليه دم وعصى الله إن كان عامدا، وهكذا عند الحنابلة. فإن رجع بعد بلوغ مسافة القصر وطاف، فقيل: يسقط عنه الدم لإتيانه بما وجب عليه، وقيل: لا يسقط لتقرر وجوبه في ذمته بمجاوزته المسافة، ويكون رجوعه بإحرام، وإن رجع قبل بلوغ مسافة القصر وطاف، فلا دم عليه ولا إحرام عليه في رجوعه، ومن قال: إن طواف الوداع سنة لم يلزم من نفر من مكة - بعد نسكه دون الوداع أن يرجج ليطوف ولم يؤثمه(49/75)
ولم يوجب عليه دما.
وقال ابن حزم: على من ترك طواف الوداع أن يرجع ليطوفه ولو بلغ أقصى الأرض في سفره (1) .
5 - على القول بوجوب طواف الوداع: لا يجوز لمن أدى النسك أن ينفر من مكة ولو مؤقتا دون طواف وداع لمرض أو زحام، ولو مع نيته أن يعود لطوافه بعد شفائه أو زوال الزحام (2) .
هذا ما تيسر إعداده، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) ص 10، 14، 17 من الإعداد، وهو في المجلة في ص 43، 48، 55، 56.
(2) ص 16، 18 من الإعداد، وهو في المجلة في ص53، 57.(49/76)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية(49/77)
صفحة فارغة(49/78)
من الفتوى رقم 3618
السؤال الرابع: ما هي كتب الحديث، وما هو متن الحديث وما هي أصول علم الحديث ومن أمير المؤمنين في الحديث؟ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد: ج: كتب الحديث هي التي تجمع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن النسائي ومسند الإمام أحمد وموطأ مالك ونحو ذلك، ومتن الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره، وأصول الحديث هي ما يبحث فيه عما يتميز به الحديث الصحيح والحسن عن الحديث الضعيف والموضوع ويبين درجاتها، ويسمى أيضا مصطلح الحديث، ومن كتبه: مقدمة ابن الصلاح وألفية العراقي والتقريب للنووي ونخبة الفكر لابن حجر. . إلخ.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/79)
من الفتوى رقم 8163
السؤال الثاني: كيف نعرف الأحاديث الضعيفة أي المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهل يوجد في كتاب صحيح البخاري ومسلم أربعة وستون حديثا منسوبة إلى حبيب الرحمن صلى الله عليه وسلم وكيف نعرفهم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: تعرف الأحاديث الصحيحة والضعيفة بدراسة علم مصطلح الحديث ومعرفة أسانيد الأحاديث ودراسة أحوال الرواة جرحا وتعديلا، وقد خلف لنا أئمة الحديث ثروة ضخمة تخدم هذا الجانب من علم الحديث، وأما صحيحا البخاري ومسلم فقد أجمعت الأمة على قبولهما واعتبارهما من المصدر الثاني بعد كتاب الله عز وجل.
السؤال الثالث: ما معنى الحديث المرسل، وهل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «يا أسماء إذا بلغت المرأة سن المحيض فلا يظهر منها إلا هذا وهذا " وأشار إلى الوجه والكفين» مرسل أم ضعيف وهل قيل قبل سورة الحجاب أم بعدها؟(49/80)
ج: الحديث المرسل هو ما يرويه غير الصحابي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما حديث أسماء المذكور فضعيف.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/81)
الفتوى رقم 8150
السؤال السابع: في بعض الكتب الإسلامية التي نقرؤها ربما يذكر المؤلف حديثا ويذكر الذي أخرجه لكن لا يتعرض لتوضيح مدى صحته أو ضعفه فعلى أي وجه نأخذ الحديث؟
وما هي أسهل الطرق في معرفة علوم الحديث؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: الحديث إذا أخرجه البخاري أو مسلم مسندا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من الأحاديث الصحيحة لأن الأمة تلقت صحيحيهما بالقبول.(49/81)
ثانيا: إذا لم يكن الحديث فيهما بل في السنن أو المسانيد أو المعاجم فإن الأئمة يذكرون درجة صحته أو حسنه أو ضعفه وذلك مبين في مظانه من كتب الحديث.
ثالثا: أسهل الطرق في معرفة الحديث وعلومه هي دراسته على من برع فيه من العلماء مبتدئا بالمختصرات من كتب مصطلحات علوم الحديث ومعرفة أحوال رجال الأسانيد مثل: (نخبة الفكر) وشرحها و (ألفية العراقي) وشرحها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/82)
فتوى رقم 11304
س: ما هي الأحاديث القدسية؟ ولماذا سميت بهذا الاسم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(49/82)
ج: الأحاديث القدسية هي التي يرويها النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل بواسطة جبريل عليه السلام أو بالوحي يقظة أو مناما، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى القدس وهو الطهر لإضافتها إلى الله تعالى وهو القدوس المنزه عن كل عيب ونقص.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/83)
الفتوى رقم 9450
السؤال الخامس: كم أقسام السنة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يمكن تقسيم السنة إلى ثلاثة أقسام؛ لأنها إما أن السنة أقوالا للنبي صلى الله عليه وسلم أو أفعالا أو(49/83)
تقريرات، وهناك قسم رابع هو ما يتعلق بخلقه وخلقه صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/84)
فتوى رقم 10842
س: هل السنة وحي أم لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: السنة وحي من الله جل وعلا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، واللفظ الدال عليها من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني قد أوتيت القرآن ومثله معه (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4604) ، مسند أحمد بن حنبل (4/131) .(49/84)
فتوى رقم 4696
س: لماذا نسلم بقبول رواية امرأة واحدة للحديث مع أننا في الشهادة في الحالات العادية نطبق قول الله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (1) وفي علم الحديث يطلب التثبت أكثر، وخاصة أن هناك أحاديث كثيرة جدا في الصحيحين عن عائشة، فهل يعتمد مثلا قول ابن حجر في تجريح رجل ولا يؤخذ قول الله عز وجل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} (2) نسأل الله عز وجل أن يوفقكم في الرد الشافي على هذا الموضوع الذي يراودني دائما ولا أحدث به أحدا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: الصحيح أنه لا يشترط في قبول الرواية العدد بل يكفي في أداء الحديث وقبوله واحد، سواء كان رجلا أو امرأة، إذا كان عدلا ضابطا مع اتصال السند وعدم الشذوذ والعلة القادحة، لاكتفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في البلاغ بإرسال
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 282(49/85)
واحد كمعاذ بن جبل إلى اليمن ودحية الكلبي بكتابه إلى هرقل ونحو ذلك كعلي بن أبي طالب إلى مكة في السنة التاسعة من الهجرة لينادي الناس في موسم الحج «ألا يحج بعد العام مشرك وألا يطوف بالبيت عريان، (1) » وأما النساء فقد أمر الله تعالى نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبلغن ما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة فقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (2) ولولا قبول روايتهن للقرآن والسنة لما أمرهن بالبلاغ، وقد كانت إحداهن تشترك أحيانا مع أخرى في البلاغ وتنفرد به أحيانا، كما هو واضح لمن تتبع الروايات عنهن ولم ينكر ذلك أحد عليهن ولا على من أخذ عنهن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا في عهد أصحابه -رضي الله عنهم-، فكان قبول الرواية عنهن وعن إحداهن ثابتة بالكتاب وإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- وإجماع صحابته -رضي الله عنهم-، واستمر على ذلك العمل في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخير وفيما بعدها، بل أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم على قبول رواية المرأة مطلقا، منفردة ومشتركة مع غيرها كالرجل إذا توفر فيها شروط القبول.
ثانيا: ليست الشهادة والرواية على حد سواء من كل وجه، بل تفترقان في أمور منها: أن الرواية إخبار عن أمر عام
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (369) ، صحيح مسلم الحج (1347) ، سنن النسائي مناسك الحج (2958) ، سنن أبو داود المناسك (1946) ، مسند أحمد بن حنبل (2/299) ، سنن الدارمي الصلاة (1430) .
(2) سورة الأحزاب الآية 34(49/86)
للراوي وغيره،. لا ترافع فيه إلى الحكام بخلاف الشهادة فإنها في قضايا عينية تخص المشهود عليه وله، يترافع في مثلها إلى الحكام غالبا، ومنها: أن الرواية لا يشترط في قبولها العدد كما تقدم بخلاف الشهادة فقد يشترط فيها أربعة من الرجال كما في حد الزنا والقذف وقد يشترط رجلان كما في القتل عمدا، وقد يكتفى برجل وامرأتين كما في الحقوق المالية، وقد يكتفى بامرأة واحدة كقول المرضعة في ثبوت الرضاع، ومنها: أن الشهادة لكونها خاصة بالمشهود عليه والمشهود له لا تتعداهما إلا بالتبعية المحضة ردت بالقرابة والعداوة وتطرق التهم، بخلاف الرواية فإنها يكفي فيها ما يغلب على الظن صدق المخبر من العدالة والضبط، سواء كان الراوي رجلا أو امرأة، واحدا أم أكثر، ومنها أن بين كثير من المسلمين عداوة قد تحمله على شهادة الزور بخلاف الرواية عنه -صلى الله عليه وسلم-.
قال ابن القيم في الجزء الأول من (بدائع الفوائد) : الفرق بين الشهادة والرواية: أن الرواية يعم حكمها الراوي وغيره على مر الزمان، والشهادة تخص المشهود عليه وله ولا تتعداهما إلا بطريق التبعية المحضة، فإلزام المعين. يتوقع منه العداوة وحق المنفعة والتهمة الموجبة للرد فاحتيط لها بالعدد والذكورية وردت بالقرابة والعداوة وتطرق التهم، ولم يفعل مثل هذا في الرواية التي يعم حكمها ولا يخص، فلم يشترط فيها عدد ولا ذكورية بل اشترط فيها ما يكون مغلبة على الظن صدق المخبر وهو العدالة المانعة من الكذب واليقظة المانعة من غلبة السهو والتخليط، ولما كان(49/87)
النساء ناقصات عقل ودين لم يكن من أهل الشهادة، فإذا دعت الحاجة إلى ذلك قويت المرأة بمثلها؛ لأنه حينئذ أبعد من سهوها وغلطها لتذكير صاحبتها لها. اهـ.
ثالثا: الذين قاموا بنقد رواة الحديث ودواوين السنة ودواوين السيرة والتاريخ تعديلا وجرحا جماعة من أئمة الحديث معروفون لهم بصيرة ثاقبة في ذلك، عاصروا من نقدوهم وحكموا فيهم بما عرفوا عنهم ولم يفرقوا في منهج نقدهم بين رجل وامرأة بل هما سواء لديهم في الجرح والتعديل أما من جاء بعدهم ممن لم يعاصر أولئك الرواة كابن حجر العسقلاني -رحمه الله- فإن شأنه مع أولئك الرواة نقل أقوال من عاصرهم من الأئمة فيهم ومناقشة سندها إليهم والترجيح بينها إذا تعارضت ونحو ذلك وليس إليه تعديلهم أو تجريحهم لعدم معاصرته إياهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/88)
الفتوى رقم 5082
السؤال الثالث: يرى بعض الناس أن الأحاديث المروية عن طريق الآحاد غير حجة في العقيدة؛ لأنها تفيد الظن والعقيدة لا تبنى على الظن وينسبون هذا القول إلى إمامين من الأئمة الأربعة، ما هو تعليقكم على هذا الموضوع؟ .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أحاديث الآحاد الصحيحة قد تفيد اليقين إذا احتفت بالقرائن وإلا أفادت غلبة الظن، وعلى كلتا الحالتين يجب الاحتجاج بها في إثبات العقيدة وسائر الأحكام الشرعية، ولذلك أدلة كثيرة ذكرها أبو محمد علي بن حزم في مباحث السنة في كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) ، وذكرها أبو عبد الله بن قيم الجوزية في كتابه (الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) ، منها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يرسل آحاد الناس بكتبه إلى ملوك الدول ووجهائها ككسرى وقيصر يدعوهم فيها إلى الإسلام عقيدته وشرائعه ولو كانت الحجة لا تقوم عليهم بذلك لكونها آحادا ما اكتفى بإرسال كتابه مع واحد لكونه عبثا ولأرسل به عددا يبلغ حد التواتر لتقوم الحجة على أولئك في(49/89)
زعم من لا يحتج بخبر الآحاد في العقيدة، ومنها إرساله عليه الصلاة والسلام معاذا إلى اليمن واليا وداعيا إلى الإسلام عقيدة وشريعة، وبيان وجه الاستدلال به تقدم في إرساله الكتب مع آحاد الناس، إلى أمثال ذلك من أفعاله -صلى الله عليه وسلم-، وإذا أردت استقصاء الأدلة ودراستها فارجع إليها في الكتابين السابقين. وأما نسبة القول بما ادعوه إلى إمامين من الأئمة الأربعة فلا صحة لذلك، وكلام الأئمة الأربعة في الاحتجاج بأخبار الآحاد وعملهم بذلك أمر مشهود معلوم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/90)
الفتوى رقم 6263
س: أنا يا شيخنا الكريم فتاة مسلمة نشأت على عقيدة مؤداها أن المسيح عليه السلام قد أنجاه الله من محاولة الصلب(49/90)
ورفعه إليه بعد أن ألبس أحد أتباعه صورته وصلب بدلا عنه، وأنه عليه السلام سيعود إلى الأرض قبل يوم القيامة ليقتل المسيح الدجال لعنة الله عليه، ولكني منذ أيام قرأت في أحد الكتب وهو (مقارنة الأديان والاستشراق) للأستاذ أحمد شلبي أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة، ما معناه: أن المسيح لم يرفع وأنه اختفى عن أنظار أعدائه وأنه مات في مكان ما موتة عادية وقبر كأي إنسان وأن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ورد فيها أن عيسى عليه السلام سينزل في آخر الزمان ليقتل المسيح الدجال هي أحاديث آحاد لا يؤخذ بها في المسائل الاعتقادية والمسألة هنا اعتقادية، وهالني أنني قرأت له أن هذا الرأي هو رأي بعض علمائنا الأفاضل أمثال الشيخ المراغي والشيخ شلتوت والشهيد سيد قطب وغيرهم، والحقيقة أنني قد انتابتني حالة من القلق وعدم معرفة الحقيقة وسؤالي الآن، ما هي أحاديث الآحاد؟ وهل لا يعمل بها- كما قال الأستاذ في المسائل الاعتقادية- وإن ثبتت في صحيحي البخاري ومسلم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الحديث ينقسم إلى: متواتر وآحاد، فالمتواتر ما رواه جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب أو وقوعه منهم عن مثلهم وأن يكون مستندهم في انتهاء السند الحس من سماع أو نحوه،(49/91)
والآحاد ما فقد شرطا من هذه الشروط، والمتواتر يحتج به في العقائد والفروع كالقرآن، والآحاد يحتج به في الفروع بإجماع ويحتج به في العقائد على الصحيح من قولي العلماء وحكاه الإمام ابن عبد البر والخطيب البغدادي إجماعا في العقيدة والفروع، ومن رأى أن لا يحتج به في العقائد قد خالف فعله رأيه فاحتج به في العقائد والأصول بل احتج بالضعيف منه في ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز.(49/92)
الفتوى رقم 7355
السؤال الأول: ما معنى المصطلحين اللذين أجدهما في كتب الحديث (موقوف، مرسل) ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الحديث الموقوف هو ما كان من كلام الصحابي ولم(49/92)
يرفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، والحديث المرسل عند أهل العلم هو الذي سقط من سنده الصحابي الراوي له عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/93)
الفتوى رقم 6398
السؤال السادس: هناك أحاديث كثيرة جدا في كتب السنة ذات المعاني الصحيحة وتفسيرات للآيات مقبولة إلا أنها ضعيفة، السؤال هل يجوز ذكرها في الدروس والخطب والتحديث بها؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: " المشروع ألا يذكر المسلم في خطبه ومواعظه ودروسه إلا بما صح عنه -صلى الله عليه وسلم-.(49/93)
وفي الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة ما يشفي ويكفي ويغني عن ذكر الأحاديث الضعيفة والحمد لله على ذلك، لكن يجوز عند أكثر أئمة الحديث ذكر الحديث الضعيف إذا اقتضت المصلحة الشرعية ذلك بصيغة التمريض مثل: يروى ويذكر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
أما الأحاديث التي نص أهل العلم على أنها موضوعة فلا يجوز للمدرس والواعظ وغيرهما ذكرها إلا لبيان أنها مكذوبة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/94)
الفتوى رقم 5158
السؤال الرابع: هل يجوز العمل بالحديث الضعيف؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يجوز العمل به إن لم يشتد ضعفه وكان له من(49/94)
الشواهد ما يجبر ضعفه أو كان معه من القواعد الشرعية الثابتة ما يؤيده، مع مراعاة عدم مخالفته لحديث صحيح، وهو بذلك يكون من قبيل الحسن لغيره وهو حجة عند أهل العلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/95)
الفتوى رقم 9105
السؤال الثالث: هل صحيح أن الحديث الضعيف لا يؤخذ به إلا في فضائل الأعمال، أما الأحكام فلا يؤخذ به فيها؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: يؤخذ بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال إذا لم يشتد ضعفه وثبت أنها من فضائل الأعمال في الجملة وجاء الحديث الضعيف في تفاصيلها.(49/95)
ثانيا: يعمل بالحديث الضعيف في إثبات الأحكام إذا قوي بحديث آخر بمعناه أو تعددت طرقه فاشتهر؛ لأنه يكون من قبيل الحسن لغيره، وهو القسم الرابع من أقسام الأحاديث التي يحتج بها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/96)
الفتوى رقم 6384
السؤال الثاني: هل يؤخذ بالأحاديث التي يخرجها البيهقي والطبري والدارقطني، وما يعنى بعلم طبقات الرواة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: كل، ما صح سنده ولم يكن شاذا ولا معلا بعلة قادحة مما خرجه هؤلاء في كتبهم يؤخذ به وإلا فلا.
وأما علم طبقات الرواة فالطبقات جمع طبقة ومعناها في اصطلاح علماء الحديث(49/96)
جماعة الرواة الذين اشتركوا في السن ولقاء المشايخ، فعلم طبقات الرواة هو الذي يبحث فيه عن أحوال الرواة مراعى في ذلك ترتيبهم حسب سنهم ولقائهم المشايخ، ومما ألف في ذلك كتاب (الطبقات) للإمام محمد بن سعد كاتب الواقدي.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/97)
الفتوى رقم 3816
السؤال السادس: هل بقي أحد من العلماء الذين يصلون بإسنادهم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وإلى كتب أئمة الإسلام، دلونا على أسمائهم وعناوينهم حتى نستطيع في طلب الحديث والعلم إليهم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يوجد عند بعض العلماء أسانيد تصلهم بدواوين السنة، لكن ليست لها قيمة لطول السند وجهالة الكثير من الرواة(49/97)
عدالة وضبطا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/98)
الفتوى رقم 3189
السؤال الثاني: ما هي مرتبة ابن إسحاق بن يسار بين المحدثين هل هو ثقة أم لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في تقريب التهذيب ما نصه: محمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر المطلبي مولاهم المدني نزيل العراق إمام المغازي صدوق يدلس ورمي بالتشيع والقدر، من صغار الخامسة، مات سنة خمسين ومائة ويقال بعده. خت \ م \ عم.(49/98)
وقد بسط، ترجمته في تهذيب التهذيب فراجع ذلك إن شئت لتمام الفائدة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/99)
الفتوى رقم 3810
السؤال الحادي عشر: في بعض الأحاديث في نهايته يقولون: رواه الشيخان، من هم الشيخان؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هما محمد بن إسماعيل البخاري، ألف الكتاب المسمى (صحيح البخاري) الذي هو أصح كتب السنة، ومسلم بن الحجاج النيسابوري مؤلف الكتاب المسمى (صحيح(49/99)
مسلم) الذي هو أصح كتب السنة بعد صحيح البخاري.
وبالله التوفيق وصلى الله. على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/100)
الفتوى رقم 6265
السؤال الثالث: عندنا هنا بعض الناس يقولون إن الجامع الصحيح للبخاري توجد فيه أحاديث ضعيفة، رغم أننا قلنا لهم بأن الأمة أجمعت على صحته فنرجو منكم القول الصواب؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذا القول غير صحيح، بل أحاديثه المسندة المتصلة كلها صحيحة، أما المعلقات ففيها الصحيح والضعيف.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/100)
الفتوى رقم 4087
السؤال الثالث: أريد أن أعرف سيرة الرسول الكريم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: سيرة الرسول عليه السلام تعرف من القرآن الكريم الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) قالت زوجته عائشة رضي الله عنها: «كان خلقه القرآن (2) » . وفي السنة المطهرة، وبإمكانك أن تقرأ ما ذكره أهل الحديث عن سيرته وشمائله، وما ذكره المؤرخون كابن هشام في (كتاب السيرة) وابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) وابن القيم في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد) وغيرها (مختصر السيرة النبوية) للشيخ محمد بن عبد الوهاب وابنه عبد الله رحمهم الله، وستعرف إن شاء الله سيرته وأخلاقه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة القلم الآية 4
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (746) ، سنن أبو داود الصلاة (1342) ، مسند أحمد بن حنبل (6/54) ، سنن الدارمي الصلاة (1475) .(49/101)
فتوى رقم 1411
س: يتعلق بما ادعته إحدى السيدات العربيات المقيمات في لندن من امتلاكها خطابا ممهورا بخاتم النبي -صلى الله عليه وسلم- موجه إلى هرقل ودرست اللجنة ما تضمنه كتاب سيد \ م. م. ز. من الاستفسار عما يأتي: 1- كيف يمكن التوصل إلى الخبر اليقين عن نسبة هذا الكتاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم -؟ 2- كيف حصل التوقيع وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أميا؟ 3- كيف وصل هذا الكتاب إلى هذه السيدة العربية؟ وهل ورثته أو وصل إليها بطريق آخر وما هو؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لا يجوز أن ينسب إلى أي إنسان قول أو عمل إلا بعد أن يثبت ذلك عنه بما يفيد يقينا أو غلبة ظن نسبته إليه، وخاصة الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإن نسبة شيء إليهم مما يتعلق بشئون الدين يتضمن نسبته إلى الله تعالى، وأنه تشريع يجب(49/102)
اتباعهم فيه،، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1) وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) .
وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (3) » . متفق عليه واللفظ لمسلم.
وعلى هذه القاعدة تكون دعوى هذه المرأة العربية أن الكتاب الذي بيدها هو الرسالة التي أرسلها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل دعوى غير مقبولة، لبنائها على الخرص والتخمين وذلك لأمور:
أولا: أن بينها وبين زمن كتابة الرسالة أربعة عشر قرنا جرى فيها أحداث وحروب طاحنة بين النصارى والمسلمين أثارتها العداوة الدينية والخصومة في العقيدة بين الفريقين، وذلك مما يبعد معه بقاء مثل هذه الرسالة.
ثانيا: أن قوم هرقل قد كثر منهم الصخب وارتفعت أصواتهم حينما فرغ من قراءة كتاب النبي -صلى الله عليه وسلم- سخطا على ما سمعوا واستنكارا له وحاصوا حيصة حمر الوحش
__________
(1) سورة الإسراء الآية 36
(2) سورة الأنعام الآية 144
(3) صحيح البخاري الجنائز (1291) ، صحيح مسلم مقدمة (4) ، سنن الترمذي الجنائز (1000) ، مسند أحمد بن حنبل (4/252) .(49/103)
ونفروا إلى أبواب القصر حينما دعاهم هرقل إلى الإيمان بنبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- كراهية منهم للإيمان به وعصبية لدينهم الباطل لكن هرقل قد احتاط للأمر لتوقعه ذلك منهم فغلق الأبواب وأحكم الحصار فلم يتمكنوا من الخروج وأمر بردهم إليه، وآثر البقاء على النصرانية حرصا على ملكه وأخبرهم أنه إنما قال مقالته ليختبر حرصهم على دينهم وصلابتهم فيه وأنه وجد منهم ما يحبه من قوة تمسكهم بدينهم، فمثل هذه العداوة الدينية والخصومة في العقيدة يحملهم على إتلاف هذا الكتاب ويقتضي القضاء على معالمه إما عاجلا في زمن هرقل وإما بعد وفاته حينما تحين لهم فرصة الخلاص من مثار غضبهم وما ينقض عقيدتهم خشية أن يأتي من يثيره ويدعو إليه.
ثالثا: أن هذه المرأة مجهولة الحال لا تعرف عدالتها وأمانتها وصلاحيتها لمثل هذا الشأن ولا يدرى عند من وجدت هذه الرسالة أو ممن أخذتها، ولا يدرى عن حالهم وحال من قبلهم، وهذا مثار شك وريبة يمنع من نسبة هذا الكتاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن دعوى أنه هو رسالته الأصلية إلى هرقل.
هذا هو"مقتضى القاعدة التي يعتمد عليها في نسبة الأقوال والأعمال إلى أصحابها، ومن دعاه حب الاستطلاع وحفزه إلى مزيد الاستقصاء في البحث فليعرض أصل ذلك الكتاب على ذوي الخبرة في الخطوط التطبيقية على الخطوط الأولى وليعرضه على أهل الخبرة في قدم الأوراق أو الجلود وجدتها ويقارن بينها وبين(49/104)
ما عرف من الأوراق الأولى، ليعرف صحة هذه النسبة أو كذبها مع أن تقدير الزمن والمقارنة بين الخطوط والأوراق مما يدخله التخمين والخطأ ومع أنه لا يمكن مقارنة خط هذا الكتاب حتى يعرف من كتبه للنبي -صلى الله عليه وسلم- من الصحابة حتى يعرف خطه وأنى لنا اليوم، وبذلك يعلم أن المقارنة غير ممكنة.
رابعا: ذكر في هذا الكتاب أن المكتوب والختم المشار إليه لفظ (محمد) وختمه -صلى الله عليه وسلم- يشتمل ثلاث كلمات وهي: (محمد رسول الله) وهذا مما يؤكد تزوير هذا الكتاب وأنه لا أساس له من الصحة.
ثم إن ما كتبه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل قد نقله الثقات من علماء المسلمين نقلا صحيحا لا تشوبه ريبة، وفي ذلك غنية لنا عن غيره مما تحوم حوله الشكوك بل دلت القرائن على أنه إلى الكذب أقرب منه إلى الصدق.
ثم إن قبول مثل هذا الكتاب واعتباره قد يفتح باب شر على المسلمين، يفتح الباب لمن تسول له نفسه أن يفتري على النبي -صلى الله عليه وسلم- ويزور عليه كتابا وختما يقلد في خطه وختمه خط الكتاب المذكور وختمه.
فالواجب عدم اعتبار هذا الكتاب، والإعراض عن اتخاذه أثرا، اكتفاء بما أغنانا الله به من النقول الصحيحة والأحاديث التي رواها الأثبات من العلماء، وسدا لذريعة الشر والتزوير في الكتب(49/105)
والرسائل وصيانة لدين الله وللمسلمين عن العابثين وكذب الكاذبين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/106)
فتوى وقم 3474
س: أريد التعرف على حياة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- متى ولد؟ وكم عاش؟ ومتى توفي؟ كم تزوج من امرأة؟ ما هو الدعاء الذي يقوله عندما ينام؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ولد النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول عام الفيل وعاش ثلاثا وستين سنة منها ثلاث وخمسون سنة بمكة المكرمة وعشر سنوات بالمدينة، وتوفي بالمدينة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول(49/106)
سنة إحدى عشرة من الهجرة.
أما زوجاته فإحدى عشرة زوجة: خديجة بنت خويلد، وسودة بنت زمعة، وعائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وزينب بنت خزيمة، وأم سلمة هند بنت أبي أمية، وزينب بنت جحش، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وأم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، وصفية بنت حيي بن أخطب، وميمونة بنت الحارث الهلالية، رضي الله عنهن، وتوفي منهن قبله خديجة وزينب بنت خزيمة -رضي الله عنهما-، وتوفي عن تسع منهن رضي الله عن الجميع.
وأما الأدعية والأذكار التي تقال عند النوم فكثيرة، منها ما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن، وقل اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت، فإن مت مت على الفطرة واجعلهن آخر ما تقول (1) » الحديث.
ومنها ما رواه حذيفة -رضي الله عنه- قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى فراشه قال: " باسمك أموت وأحيا "، وإذا قام قال: " الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور (2) » وفي رواية: «اللهم باسمك أموت وأحيا (3) » .
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (247) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2710) ، سنن الترمذي الدعوات (3394) ، سنن أبو داود الأدب (5046) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3876) ، مسند أحمد بن حنبل (4/296) ، سنن الدارمي الاستئذان (2683) .
(2) صحيح البخاري الدعوات (6312) ، سنن الترمذي الدعوات (3417) ، سنن أبو داود الأدب (5049) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3880) ، مسند أحمد بن حنبل (5/387) ، سنن الدارمي الاستئذان (2686) .
(3) صحيح البخاري الدعوات (6314) ، سنن الترمذي الدعوات (3417) ، سنن أبو داود الأدب (5049) ، مسند أحمد بن حنبل (5/387) .(49/107)
وإذا أردت المزيد من ذلك فاقرأ كتاب (الأذكار النووية) للنووي، و (الوابل الصيب) لابن القيم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(49/108)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الطاعة في المعروف
س: إنني أشتغل منذ عدة سنوات بتحفيظ القرآن الكريم في مكان بعيد عن المدينة التي يسكن فيها والداي، ولذا فهما يطلبان مني أن أترك التدريس وأعمل مع أحد إخواني الذين يسكنون عندهما، وأنا متردد في هذا الأمر؟ لأني أخشى أن أترك التدريس فيضيع الطلاب وينسوا ما حفظوه من القرآن الكريم. فبماذا تنصحونني؟ جزاكم الله خيرا.
ج: ننصحك بالاستمرار في تحفيظ القرآن الكريم؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، ولما في ذلك من المصلحة العامة للمسلمين، ولا تلزمك طاعة والديك في ترك ذلك؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إنما الطاعة في المعروف (2) » ، ويشرع لك الاعتذار إليهما بالكلام الطيب والأسلوب الحسن. وبالله التوفيق.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) برقم (502) ، والبخاري في (كتاب فضائل القرآن) برقم (5027) .
(2) رواه البخاري في (الأحكام) برقم (6612) ، ومسلم في (الإمارة) برقم (3424)(49/109)
سبب تقديم المال على الأولاد في القرآن
س: دائما يرد ذكر المال مقدما على الأولاد في القرآن الكريم رغم أن الأولاد أغلى لدى الأب من ماله. فما هي الحكمة من ذلك؟
ج: الفتنة بالمال أكثر؟ لأنه يعين على تحصيل الشهوات المحرمة بخلاف الأولاد، فإن الإنسان قد يفتن بهم، ويعصي الله من أجلهم، ولكن الفتنة بالمال أكثر وأشد؛ ولهذا بدأ سبحانه بالأموال قبل الأولاد، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} (1) الآية، وقوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (2) \ 8 الآية، وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (3) .
__________
(1) سورة سبأ الآية 37
(2) سورة التغابن الآية 15
(3) سورة المنافقون الآية 9(49/110)
هذا الكلام من الكفر البواح
س: لقد ورد في صحيفة محلية خبر جاء فيه: (منصور. . البالغ من العمر 13 ربيعا مزدهرا برحيق الصبا. . كان على موعد مع الحزن والأسى ولعبة القدر العمياء) ثم. . (ولكن القدر المترصد لمنصور لم يحكم لعبته الأزلية. . الخ) ، وفي نفس(49/110)
الصحيفة ورد خبر عن فتاة سحقتها سيارة وعندما علمت أمها (فحضرت على التو لتشهد الحادث الأليم الذي أطاح بأسرتها وأحال حياتها إلى جحيم لا ينتهي) . فما حكم الشرع في مثل هذا الكلام؟ جزاكم الله خيرا.
ج: المشروع للمسلم عند وقوع المصائب المؤلمة الصبر والاحتساب، وأن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، قدر الله وما شاء فعل، وأن يتحمل الصبر، ويحذر الجزع والأقوال المنكرة؛ لقول الله سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (1) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (3) وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان (4) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها (5) » .
ولا يجوز الجزع وإظهار السخط أو الكلام المنكر مثلما ذكر في السؤال (لعبة القدر العمياء) وهكذا قوله: (ولكن القدر
__________
(1) سورة البقرة الآية 155
(2) سورة البقرة الآية 156
(3) سورة البقرة الآية 157
(4) رواه مسلم في (كتاب القدر) برقم (2664) .
(5) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (26095) ، ومسلم في (كتاب الجنائز) برقم (918) .(49/111)
المترصد لمنصور لم يحكم لعبته الأزلية) .
هذا الكلام وأشباهه من المنكرات العظيمة، بل من الكفر البواح، لكونه اعتراضا على الله سبحانه، وسبا لما سبق به علمه واستهزاء بذلك، فعلى من قال ذلك أن يتوب إلى الله سبحانه توبة صادقة، وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ليس منا من ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية (1) » .
متفق على صحته من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة (2) » متفق على صحته من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
والصالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة: هي التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة: هي التي تشق ثوبها عند المصيبة، وبالله التوفيق.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) برقم (3650) ، والبخاري في (الجنائز) برقم (1297) ، ومسلم في (الإيمان) برقم (103) واللفظ له
(2) رواه مسلم في (الإيمان) برقم (104) .(49/112)
الفرق بين كلمة نصراني ومسيحي
س: شاع منذ زمن استخدام كلمة مسيحي، فهل الصحيح يا سماحة الشيخ أن يقال: مسيحي أو نصراني؟ أفيدونا أثابكم الله.(49/112)
ج: معنى مسيحي نسبة إلى المسيح ابن مريم عليه السلام، وهم يزعمون أنهم ينتسبون إليه وهو بريء منهم، وقد كذبوا فإنه لم يقل لهم إنه ابن الله، ولكن قال: عبد الله ورسوله. فالأولى أن يقال لهم: نصارى، كما سماهم الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} (1) الآية.
__________
(1) سورة البقرة الآية 113(49/113)
رؤية الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المنام
قارئ من الدمام بعث رسالة تتضمن سؤالا يقول فيه: رأيت ذات ليلة وكأني نازل في بيت جديد، ورأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن يميني، فتذكرت أنه -صلى الله عليه وسلم- غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وتذكرت مكر الله سبحانه وكيف أتقيه؟! وسألت الرسول -صلى الله عليه وسلم- ذلك السؤال. . لكنني استيقظت.
فهل الذي رأيته هو الرسول -صلى الله عليه وسلم- حقا؟ وكيف يتقي الإنسان مكر الله؟ أرجو توضيح ذلك جزاكم الله خيرا.
ج: إذا كنت رأيته -صلى الله عليه وسلم- على صورته المعروفة الواردة في الأحاديث الصحيحة فقد رأيته؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي (1) » . متفق
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين من الصحابة) برقم (7128) ، والبخاري في (العلم) برقم (110) واللفظ له، ومسلم في (الرؤيا) برقم (2266) .(49/113)
على صحته، ونسأل الله أن يجعلنا وإياك من أتباعه على بصيرة.
أما اتقاء مكر الله فيكون بطاعة أوامره وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده، وملازمة التوبة مما يقع من الذنوب، مع الاستكثار من الأعمال الصالحات والذكر والاستغفار وقراءة القرآن الكريم، وسؤاله سبحانه كثيرا أن يثبتك على الحق، وأن لا يزيغ قلبك عن الهدى، وقد قال الله سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (3) ، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (4) ، وقال عز وجل: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (5) ، وقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (6) . والآيات في هذا المعنى كثيرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 3
(4) سورة الطلاق الآية 5
(5) سورة الذاريات الآية 15
(6) سورة النور الآية 31(49/114)
العلاج عند طبيب شعبي يستخدم الجن
س: من س. ع. غ- حائل، يقول: هناك فئة من الناس(49/114)
يعالجون بالطب الشعبي على حسب كلامهم، وحينما أتيت إلى أحدهم قال لي: اكتب اسمك واسم والدتك ثم راجعنا غدا، وحينما يراجعهم الشخص يقولون له: إنك مصاب بكذا وكذا، وعلاجك كذا وكذا. . ويقول أحدهم: إنه يستعمل كلام الله في العلاج، فما رأيكم في مثل هؤلاء؟ وما حكم الذهاب إليهم؟
ج: من كان يعمل هذا الأمر في علاجه فهو دليل على أنه يستخدم الجن ويدعي علم المغيبات، فلا يجوز العلاج عنده، كما لا يجوز المجيء إليه ولا سؤاله؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الجنس من الناس: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم يقبل له صلاة أربعين ليلة (1) » أخرجه مسلم في صحيحه.
وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- في عدة أحاديث النهي عن إتيان الكهان والعرافين والسحرة والنهي عن سؤالهم وتصديقهم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- (2) » .
وكل من يدعي علم الغيب باستعمال ضرب الحصى أو الودع، أو التخطيط في الأرض، أو سؤال المريض عن اسمه
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المدنيين) برقم (16202) وفي (باقي مسند الأنصار) برقم (22711) ، ومسلم في (السلام) برقم (2230) واللفظ له.
(2) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين من الصحابة) برقم (9252) .(49/115)
واسم أمه أو اسم أقاربه، فكل ذلك دليل على أنه من العرافين والكهان الذين نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن سؤالهم وتصديقهم.
فالواجب الحذر منهم ومن سؤالهم، ومن العلاج عندهم، وإن زعموا أنهم يعالجون بالقرآن، لأن من عادة أهل الباطل التدليس والخداع فلا يجوز تصديقهم فيما يقولون، والواجب على من عرف أحدا منهم أن يرفع أمره إلى ولاة الأمر من القضاة والأمراء ومراكز الهيئات في كل بلد؛ حتى يحكم عليهم بحكم الله، وحتى يسلم المسلمون من شرهم وفسادهم وأكلهم أموال الناس بالباطل. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.(49/116)
الغيبة من أسباب الشحناء والعداوة
س: بعض الناس- هداهم الله- لا يرون الغيبة أمرا منكرا أو حراما، والبعض يقول: إذا كان في الإنسان ما تقول فغيبته ليست حراما، متجاهلين أحاديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. أرجو من سماحة الشيخ توضيح ذلك؟ جزاه الله خيرا.
ج: الغيبة محرمة بإجماع المسلمين، وهي من الكبائر سواء كان العيب موجودا في الشخص أم غير موجود؛ لما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال «لما سئل عن الغيبة، قال: " ذكرك أخاك بما يكره " قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد(49/116)
بهته (1) » ، «وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى ليلة أسري به قوما لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فسأل عنهم، فقيل له: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم (2) » .
وقد قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (3) .
فالواجب على كل مسلم ومسلمة الحذر من الغيبة والتواصي بتركها؛ طاعة لله سبحانه ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وحرصا من المسلم على ستر إخوانه وعدم إظهار عوراتهم، ولأن الغيبة من أسباب الشحناء والعداوة وتفريق المجتمع. وفق الله المسلمين لكل خير.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (8759) ، ومسلم في (البر والصلة والآداب) برقم (2589) ،
(2) سنن أبو داود الأدب (4878) .
(3) سورة الحجرات الآية 12(49/117)
حكم بيع واقتناء الحيوانات المحنطة
س: سائل من عنيزة، والأخ الذي رمز لاسمه ب: م. ن. ص - من تبوك في المملكة العربية السعودية، يقولان في سؤالهما: نأمل من سماحتكم إفتاءنا عن حكم اقتناء الحيوانات والطيور المحنطة؟ وما حكم بيع ما ذكر، وهل هناك فرق بين ما يحرم اقتناؤه حيا وما يجوز اقتناؤه حيا في حالة التحنيط؟ وما الذي ينبغي على المحتسب حيال تلك الظاهرة؟(49/117)
ج: اقتناء الطيور والحيوانات المحنطة سواء ما يحرم اقتناؤه حيا أو ما جاز اقتناؤه حيا، فيه إضاعة للمال، وإسراف وتبذير في نفقات التحنيط، وقد نهى الله عن الإسراف والتبذير، ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال، ولأن ذلك وسيلة إلى تصوير الطيور وغيرها من ذوات الأرواح، وتعليقها ونصبها في البيوت والمكاتب وغيرها، وذلك محرم، فلا يجوز بيعها ولا اقتناؤها، وعلى المحتسب أن يبين للناس أنها محرمة، وأن يمنع ظاهرة تداولها في الأسواق، وقد وقع الشرك في قوم نوح بسبب تصوير ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا، وكانوا رجالا صالحين في قوم نوح ماتوا في زمن متقارب، فزين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم وينصبوها في مجالسهم، ففعلوا، فوقع الشرك في قوم نوح بسبب ذلك، كما ذكر ذلك البخاري - رحمه الله- في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، وذكر ذلك غيره من المفسرين والمحدثين والمؤرخين. والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(49/118)
هل الوصية واجبة وما نصها الشرعي
س: من السائلة ن. م- الرياض، تقول: هل كتابة الوصية واجبة، وهل يلزم لها شهود؟ وحيث إنني لا أعرف النص الشرعي، أرجو. إرشادي إليه جزاكم الله خيرا؟
ج: تكتب الوصية حسب الصيغة التالية: أنا فلان بن فلان، أو فلانة بنت فلان أوصي بأنني أشهد أن لا إله إلا الله(49/118)
وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
وأوصي من تركت من أهلي وذريتي وسائر أقاربي بتقوى الله، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله ورسوله، والتواصي بالحق والصبر عليه، وأوصيهم بمثل ما أوصى به إبراهيم عليه السلام بنيه ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) ، ثم يذكر ما يرغب أن يوصي به من ثلث ماله أو أقل من ذلك، أو مال معين لا يزيد عن الثلث، ويبين مصارفه الشرعية، ويذكر الوكيل على ذلك.
والوصية ليست واجبة، بل مستحبة إذا أحب أن يوصي بشيء؛ لما ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده (2) » ، لكن إذا كانت عليه ديون أو حقوق ليس عليها وثائق تثبتها لأهلها وجب عليه أن يوصي بها حتى لا تضيع حقوق الناس، وينبغي أن يشهد على وصيته شاهدين عدلين، وأن يحررها لدى من يوثق تحريره من أهل العلم؛ حتى يعتمد عليها، ولا ينبغي أن يكتفي
__________
(1) سورة البقرة الآية 132
(2) صحيح البخاري الوصايا (2738) ، صحيح مسلم الوصية (1627) ، سنن الترمذي الجنائز (974) ، سنن النسائي الوصايا (3619) ، سنن أبو داود الوصايا (2862) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2699) ، مسند أحمد بن حنبل (2/4) ، موطأ مالك الأقضية (1492) ، سنن الدارمي الوصايا (3175) .(49/119)
بخطه فقط؛ لأنه قد يشتبه خطه على الناس، وقد لا يتيسر من يعرفه من الثقات. والله ولي التوفيق.(49/120)
حكم الإسبال إذا كان عادة وليس خيلاء
س: من الأخ أ. م. من الزلفى في المملكة العربية السعودية، يقول في سؤاله: في الحديث أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال في حديث ما معناه: أن الذي يسبل ثيابه في النار، فنحن ثيابنا تحت الكعبين، وليس قصدنا التكبر ولا الافتخار، وإنما هي عادة اعتدنا عليها، فهل فعلنا هذا حرام؟ وهل الذي يسبل ثيابه وهو مؤمن بالله يكون في النار؟ أرجو الإفادة جزاكم الله خيرا.
ج: لقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار (1) » رواه الإمام البخاري في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان في ما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (2) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على تحريم
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (9618) ، والبخاري في (اللباس) برقم (5787) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند الأنصار) برقم (20925) ، ورواه مسلم في (الإيمان) برقم (106) ، والترمذي في (البيوع) برقم (1211) .(49/120)
الإسبال مطلقا، ولو زعم صاحبه أنه لم يرد التكبر والخيلاء؛ لأن ذلك وسيلة للتكبر، ولما في ذلك من الإسراف وتعريض الملابس للنجاسات والأوساخ، أما إن قصد بذلك التكبر فالأمر أشد والإثم أكبر؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة (1) » ، والحد في ذلك: هو الكعبان، فلا يجوز للمسلم الذكر أن تنزل ملابسه عن الكعبين؛ للأحاديث المذكورة، أما الأنثى فيشرع لها أن تكون ملابسها ضافية تغطي قدميها، وأما ما «ثبت عن الصديق -رضي الله عنه- أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده) ، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنك لست ممن يصنعه خيلاء (2) » ، فالمراد بذلك: أن من استرخى إزاره بغير قصد وتعاهده وحرص على رفعه لم يدخل في الوعيد؛ لكونه لم يتعمد ذلك ولم يقصد الخيلاء ولم يترك ذلك، بل تعاهد رفعه وكفه.
وهذا بخلاف من تعمد إرخاءه، فإنه متهم بقصد الخيلاء، وعمله وسيلة إلى ذلك، والله سبحانه هو الذي يعلم ما في القلوب، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أطلق الأحاديث في التحذير من الإسبال، وشدد في ذلك، ولم يقل فيها إلا من أرخاها بغير خيلاء.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين) برقم (5151) ، والبخاري في (المناقب) برقم (3665) واللفظ له، ورواه مسلم في (اللباس والزينة) برقم (2085) .
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند المكثرين من الصحابة) برقم (5328) ، والبخاري في (اللباس) برقم (5784) .(49/121)
فالواجب على المسلم أن يحذر ما حرم الله عليه، وأن يبتعد عن أسباب غضب الله، وأن يقف عند حدود الله يرجو ثوابه ويخشى عقابه؛ عملا بقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) ، وقوله عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (3) .
وفق الله المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح أمرهم في دينهم ودنياهم إنه خير مسؤول.
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة النساء الآية 13
(3) سورة النساء الآية 14(49/122)
استعمال العطور التي تحتوي على شيء من الكحول
س: ما حكم استعمال بعض العطور التي تحتوي على شيء من الكحول؟
ج: الأصل: حل العطور والأطياب التي بين الناس إلا ما علم أن به ما يمنع استعماله؛ لكونه مسكرا، أو يسكر كثيره، أو به نجاسة ونحو ذلك، وإلا فالأصل حل العطور التي بين الناس؛ كالعود، والعنبر، والمسك. . . الخ.(49/122)
فإذا علم الإنسان أن هناك عطرا فيه ما يمنع استعماله من مسكر أو نجاسة ترك ذلك، ومن ذلك (الكلونيا) ، فإنه ثبت عندنا بشهادة الأطباء أنها لا تخلو من المسكر، ففيها شيء كبير من (الإسبيرتو) وهو مسكر، فالواجب تركها إلا إذا وجد منها أنواع سليمة، وفيما أحل الله من الأطياب ما يغني عنها والحمد لله، وهكذا كل شراب أو طعام فيه مسكر يجب تركه.
والقاعدة: أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «ما أسكر كثيره فقليله حرام (1) » . والله ولي التوفيق.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (14293) ، والترمذي في (الأشربة) برقم (1865) ، وأبو داود في (الأشربة) برقم (3681) ، وابن ماجه في (الأشربة) برقم (3393) .(49/123)
استعمال المرأة للطيب عند الخروج من منزلها
س: المسك ودهن العود أو الورد ونحو ذلك من أنواع الطيب إذا استخدمته المرأة وكانت رائحتها واضحة فما حكم استعمالها، خاصة إذا خرجت المرأة من منزلها، وهل يعتبر تكريم الزائرات بتبخيرهن وتعطيرهن في حكم ذلك؟
ج: خروج المرأة بالطيب إلى الأسواق أمر ممنوع، وليس لها أن تخرج بذلك، ولا أن تعين الزائرات والضيوف بذلك، بل عليها أن تنصح وأن تقول: نود أن نطيبكم ولكن خروج المرأة(49/123)
بالطيب إلى الأسواق، أمر ممنوع، وبذلك تجمع بين النصيحة وترك ما حرم الله فعله.(49/124)
من لم يكفر الكافر فهو مثله
س: هل تارك الصلاة يكون معذورا إذا لم يكن يدري بأن عقوبة تارك الصلاة الكفر الأكبر الناقل عن الملة؟ وهل علي إثم أن أصل رحمي الذي لا يصلي أو أتناول معهم الأطعمة؟ وما حكم من يصر على عدم تكفير تارك الصلاة أو تكفير من يأتي بأفعال شركية مثل: (الذبح- النذر- المدد) ، ويقول: إن هذا العمل شرك ولكن فاعله لا يجوز أن نطلق عليه كلمة الكفر بعينه؟
ج: حكم من ترك الصلاة من المكلفين الكفر الأكبر في أصح قولي العلماء، وإن لم يعتقد ذلك هو؛ لأن الاعتبار في الأحكام بالأدلة الشرعية لا بعقيدة المحكوم عليه.
وهكذا من تعاطى مكفرا من المكفرات؟ كالاستهزاء بالدين، والذبح لغير الله، والنذر لغير الله، والاستغاثة بالأموات وطلبهم النصر على الأعداء أو شفاء المرض ونحو ذلك؛ لقول الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) ، وقوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (4) ،
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66
(3) سورة الأنعام الآية 162
(4) سورة الأنعام الآية 163(49/124)
وقوله سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) ، وقوله عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (3) . ومعلوم أن من دعا الأموات، أو استغاث بهم، أو نذر لهم، أو ذبح لهم قد اتخذهم آلهة مع الله وإن لم يسمهم آلهة.
وقال عز وجل في سورة فاطر: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (4) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (5) ، فسمى دعاءهم غير الله: شركا به سبحانه. والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (6) » خرجه مسلم في صحيحه، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (7) » أخرجه الإمام أحمد، وأهل السنن بإسناد صحيح، عن بريدة بن الحصيب رضي
__________
(1) سورة الكوثر الآية 1
(2) سورة الكوثر الآية 2
(3) سورة المؤمنون الآية 117
(4) سورة فاطر الآية 13
(5) سورة فاطر الآية 14
(6) رواه مسلم. في (كتاب الإيمان) برقم (117) ، وأحمد في (باقي مسند المكثرين) برقم (14650) .
(7) رواه أحمد في (باقي مسند الأنصار) برقم (21859) ، ورواه الترمذي في (الإيمان) برقم (2545) .(49/125)
الله عنه. والأدلة في ذلك من الكتاب والسنة كثيرة.
ومن لم يكفر الكافر فهو مثله إذا أقيمت عليه الحجة وأبين له الدليل فأصر على عدم التكفير، كمن لا يكفر اليهود أوالنصارى أو الشيوعيين أو نحوهم ممن كفره لا يلتبس على من له أدنى بصيرة وعلم.
وليس للمسلم أن يتخذ من ترك الصلاة، أو فعل شيئا من أنواع الكفر صديقا، ولا أن يجيب دعوته، ولا أن يدعوه إلى بيته، بل الواجب هجره، مع النصيحة والدعوة حتى يتوب إلى الله سبحانه مما هو عليه من الكفر، إلا إذا دعت المصلحة الشرعية لعدم الهجر ليتمكن من دعوته ويتابعها لعله يستجيب للحق ويدع ما هو عليه من الباطل من دون اتخاذه صديقا أو جليسا، وقد ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- هجر عبد الله بن أبي رأس المنافقين من أجل المصلحة العامة، وهجر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر لعدم ما يقتضي عدم هجرهم.
فالواجب على ولاة الأمور وعلى العلماء والدعاة إلى الله سبحانه أن يراعوا في هذه الأمور ما تقتضيه القواعد الشرعية والمصلحة العامة للمدعو وللمسلمين. والله ولي التوفيق.(49/126)
حكم طلب المدد من الرسول
س: نسمع أقواما ينادون: (مدد يا رسول الله) ، أو: (مدد يا نبي) ، فما الحكم في ذلك؟(49/126)
ج: هذا الكلام من الشرك الأكبر، ومعناه: طلب الغوث من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد أجمع العلماء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهم-، وأتباعهم من علماء السنة على أن الاستغاثة بالأموات من الأنبياء وغيرهم، أو الغائبين من الملائكة أو الجن وغيرهم، أو بالأصنام والأحجار والأشجار أو بالكواكب ونحوها من الشرك الأكبر؛ لقول الله عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) ، وقوله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (2) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (3) ، وقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (4) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وهذا العمل هو دين المشركين الأولين من كفار قريش وغيرهم، وقد بعث الله الرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام وأنزل الكتب بإنكاره والتحذير منه، كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5) ، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (6) 128،
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة فاطر الآية 13
(3) سورة فاطر الآية 14
(4) سورة المؤمنون الآية 117
(5) سورة النحل الآية 36
(6) سورة الأنبياء الآية 25(49/127)
وقال عز وجل: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (1) {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} (2) ، وقال سبحانه: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (3) {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (4) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (5) .
فأوضح سبحانه في هذه الآيات أنه أرسل الرسل وأنزل الكتب؛ ليعبد وحده لا شريك له بأنواع العبادة من الدعاء والاستغاثة والخوف والرجاء والصلاة والصوم والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع العبادة، وأخبر أن المشركين من قريش وغيرهم يقولون للرسل ولغيرهم من دعاة الحق: {مَا نَعْبُدُهُمْ} (6) يعنون الأولياء {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (7) والمعنى: أنهم عبدوهم ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم، لا لأنهم يخلقون ويرزقون ويتصرفون في الكون، فأكذبهم الله وكفرهم بذلك، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (8) فبين سبحانه أنهم كذبة في قولهم: أن الأولياء المعبودين من دون الله يقربونهم إلى الله
__________
(1) سورة هود الآية 1
(2) سورة هود الآية 2
(3) سورة الزمر الآية 1
(4) سورة الزمر الآية 2
(5) سورة الزمر الآية 3
(6) سورة الزمر الآية 3
(7) سورة الزمر الآية 3
(8) سورة الزمر الآية 3(49/128)
زلفى، وحكم عليهم أنهم كفار بذلك، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (1) وبين سبحانه في آية أخرى من سورة يونس أنهم يقولون في معبوديهم من دون الله: إنهم شفعاء عند الله، وذلك في قوله سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (2) فأكذبهم سبحانه فقال: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (3) ، وبين عز وجل في سورة الذاريات أنه خلق الثقلين الجن والإنس؛ ليعبدوه وحده دون كل ما سواه، فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) .
فالواجب على جميع الجن والإنس أن يعبدوا الله وحده، وأن يخلصوا له العبادة، وأن يحذروا عبادة ما سواه من الأنبياء وغيرهم لا بطلب المدد ولا بغير ذلك من أنواع العبادة، عملا بالآيات المذكورات وما جاء في معناها، وعملا بما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- وعن غيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام أنهم دعوا الناس إلى توحيد الله وتخصيصه بالعبادة دون كل ما سواه، ونهوهم عن الشرك به وعبادة غيره، وهذا هو أصل دين الإسلام الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب وخلق من أجله الثقلين، فمن استغاث بالأنبياء أو غيرهم، أو طلب منهم المدد أو
__________
(1) سورة الزمر الآية 3
(2) سورة يونس الآية 18
(3) سورة يونس الآية 18
(4) سورة الذاريات الآية 56(49/129)
تقرب إليهم بشيء من العبادة، فقد أشرك بالله وعبد معه سواه، ودخل في قوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) ، وفي قوله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) ، وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) ، وقوله سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (4) .
ولا يستثنى من هذه الأدلة إلا من لم تبلغه الدعوة ممن كان بعيدا عن بلاد المسلمين، فلم يبلغه القرآن ولا السنة، فهذا أمره إلى الله سبحانه.
والصحيح من أقوال أهل العلم في شأنه أنه يمتحن يوم القيامة فإن أطاع الأمر دخل الجنة، وإن عصى دخل النار، وهكذا أولاد المشركين الذين ماتوا قبل البلوغ فإن الصحيح فيهم قولان: أحدهما: أنهم يمتحنون يوم القيامة، فإن أجابوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عنهم: «الله أعلم بما كانوا عاملين (5) » متفق على
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة الزمر الآية 65
(3) سورة النساء الآية 116
(4) سورة المائدة الآية 72
(5) رواه البخاري في (كتاب القدر) برقم (6110) ، ومسلم في (القدر) برقم (4805) .(49/130)
صحته، فإذا امتحنوا يوم القيامة ظهر علم الله فيهم.
والقول الثاني: أنهم من أهل الجنة؛ لأنهم ماتوا على الفطرة قبل التكليف، وقد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «كل مولود يولد على الفطرة- وفي رواية- على هذه الملة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (1) » .
وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه رأى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في روضة من رياض الجنة وعنده أطفال المسلمين وأطفال المشركين.
وهذا القول هو أصح الأقوال في أطفال المشركين؛ للأدلة المذكورة، ولقوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2) .
ونقل عن الحافظ ابن حجر رحمه الله، في (الفتح) ج 3 ص (247) في شرح باب: (ما قيل في أولاد المشركين) من كتاب (الجنائز) : أن هذا القول هو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون. انتهى المقصود.
ويستثنى من ذلك أيضا دعاء الحي الحاضر، فيما يقدر عليه، فإن ذلك ليس من الشرك؛ لقول الله عز وجل في قصة موسى مع القبطي: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (3) ، ولأن كل إنسان يحتاج إلى إعانة إخوانه فيما يحتاج إليه في الجهاد وفي غيره مما يقدرون عليه، فليس ذلك من الشرك، بل
__________
(1) رواه البخاري في (الجنائز) برقم (1296) .
(2) سورة الإسراء الآية 15
(3) سورة القصص الآية 15(49/131)
ذلك من الأمور المباحة، وقد يكون ذلك التعاون مسنونا، وقد يكون واجبا على حسب الأدلة الشرعية. والله ولي التوفيق.(49/132)
حكم اعتقاد أن شيخ الطائفة يشفع يوم القيامة
س: سوداني مقيم في الأنبار - العراق، يقول: في بلدنا طوائف متفرقة كل طائفة تتبع شيخا يرشدها ويعلمها أشياء، ويعتقدون أنهم يشفعون لهم عند الله يوم القيامة، ومن لم يتبع هؤلاء المشايخ يعتبر ضائعا في الدنيا والآخرة، فهل علينا اتباع هؤلاء أم نخالفهم؟ أفيدونا بارك الله فيكم.
ج: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فيذكر السائل أن لديهم مشايخ يتبعونهم، وأن من ليس له شيخ فهو ضائع في الدنيا والآخرة إذا لم يطع هذا الشيخ.
والجواب عن هذا: أن هذا غلط ومنكر لا يجوز اتخاذه ولا اعتقاده، وهذا واقع فيه كثير من الصوفية، يرون أن مشايخهم هم القادة، وأن الواجب اتباعهم مطلقا، وهذا غلط عظيم وجهل كبير، وليس في الدنيا أحد يجب اتباعه والأخذ بقوله سوى رسول الله عليه الصلاة والسلام فهو المتبع عليه الصلاة والسلام، أما العلماء فكل واحد يخطئ ويصيب، فلا يجوز اتباع قول أحد من الناس كائنا من كان إلا إذا وافق شريعة الله، وإن كان عالما كبيرا، فقوله لا يجب اتباعه إلا إذا كان موافقا لشرع الله الذي جاء(49/132)
به محمد عليه الصلاة والسلام، لا الصوفية ولا غير الصوفية، واعتقاد الصوفية في هؤلاء المشايخ أمر باطل وغلط.
فالواجب عليهم التوبة إلى الله من ذلك، وأن يتبعوا محمدا -صلى الله عليه وسلم- فيما جاء به من الهدى، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُم} (1) ، المعنى: قل يا أيها الرسول للناس: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، والمراد: هو محمد -صلى الله عليه وسلم-، والمعنى: قل يا محمد- لهؤلاء الناس المدعين لمحبة الله-: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) ، وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) ، فالطاعة الواجبة هي طاعة الله ورسوله، ولا يجوز طاعة أحد من الناس بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا إذا وافق قوله شريعة الله، فكل واحد يخطئ ويصيب ما عدا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن الله عصمه وحفظه فيما يبلغه للناس من شرع الله عز وجل، قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (4) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (5) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (6) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (7) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة الحشر الآية 7
(3) سورة النور الآية 56
(4) سورة النجم الآية 1
(5) سورة النجم الآية 2
(6) سورة النجم الآية 3
(7) سورة النجم الآية 4(49/133)
فعلينا جميعا أن نتبع ما جاء به عليه الصلاة والسلام، وأن نعتصم بدين الله ونحافظ عليه، وأن لا نغتر بقول الرجال، وأن لا نأخذ بأخطائهم، بل يجب أن تعرض أقوال الناس وآراؤهم على كتاب الله وسنة رسوله، فما وافق الكتاب والسنة أو أحدهما قبل وإلا فلا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} (1) سورة، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) ، وقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) .
فتقليد المشايخ واتباع آرائهم بغير علم وبصيرة ذلك أمر لا يجوز عند جميع العلماء، بل منكر بإجماع أهل السنة والجماعة، لكن ما وافق الحق من أقوال العلماء أخذ به؛ لأنه وافق الحق، لا لأنه قول فلان، وما خالف الحق من أقوال العلماء أو مشايخ الصوفية أو غيرهم وجب رده، وعدم الأخذ به؛ لكونه خالف الحق، لا لكونه قول فلان أو فلان.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10
(3) سورة الأنعام الآية 153(49/134)
لا يجوز للإنسان أن يأخذ بثأره من القاتل بغير الطرق الشرعية
س: سائل من السودان، يقول: لماذا حرم الإسلام أن يأخذ الإنسان بثأره من قاتل قريبه؟ أفيدونا أفادكم الله.
ج: الإسلام شرع الله فيه القصاص من القاتل، والمعنى: أن من قتل غيره بغير حق فلورثته القصاص من القاتل بشروطه المعتبرة شرعا من طريق ولاة الأمور، وللورثة أن يعفوا عن القصاص إلى الدية إذا كانوا مكلفين مرشدين، ولهم أن يعفوا عن القصاص والدية جميعا؛ لقول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) ، ولقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: إما أن يقتلوا، وإما أن يأخذوا العقل (2) » ، ولقول الله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (3) . أما أن يتعدى هذا على هذا أو هذا على هذا بغير الطرق الشرعية فذلك لا يجوز؛ لأنه يفضي إلى الفساد والفتن وسفك
__________
(1) سورة البقرة الآية 179
(2) رواه الإمام أحمد في (مسند القبائل) برقم (26619) ، والترمذي في (الديات) برقم (1406) .
(3) سورة الشورى الآية 40(49/135)
الدماء بغير حق، وإنما يطلب القصاص بالطرق الشرعية بشروطه المعتبرة شرعا.(49/136)
لا يجوز الكف عن تدريس القرآن خشية الثناء أو المدح
س: سائل من مصر، يقول: أنا أقوم بتعليم قراءة القرآن الكريم لوجه الله تعالى بعد صلاة العشاء من كل يوم وذلك لأجناس مسلمة غير عربية من باكستانيين وهنود وصوماليين وغير ذلك في موقع السكن، حيث إننا نسكن في مجمع سكني يوجد به مسجد أقامه أهل الخير بارك الله فيهم، وقد قمت منذ وصولي بتدريس القرآن لهؤلاء الناس وبدءوا معي بداية طيبة. والآن أصبحوا يقرءون وكثير منهم استغنى عني ولا زلت أواصل عليها، ولكن المشكلة أنهم يشكرونني ويبالغون في الثناء على، وفي مدحي، وأنا أخشى من حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- في «الثلاثة الذين يدخلون النار، ومنهم قارئ القرآن حيث يقول الله له: " قرأت ليقال عنك قارئ وقد قيل (1) » . وأنا في الحقيقة أستنكر فعلهم هذا وأردهم عنه لكن ما ذنبي في أنهم يقولونه، هل علي ذنب أن أوقف القراءة أم ماذا أفعل؟ .
__________
(1) رواه مسلم في (الإمارة) برقم (1905) .(49/136)
ج: أنت على كل حال مشكور على هذا العمل الطيب، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » ، فأنت مشكور على عملك وأنت على أجر عظيم ولا حرج عليك ما دمت مخلصا لله في عملك هذا، ولا يضرك ثناؤهم عليك، وعليك أن تنصحهم وتوصيهم بعدم المبالغة في الثناء، أو يكفي الدعاء لك بدلا من الثناء، زادك الله من النشاط والتوفيق.
أما الوعيد الوارد في الحديث فهو لمن قرأ ليقال هو قارئ، وتعلم ليقال عالم، أما من علم الناس يريد ثواب الله ويطلب الأجر منه سبحانه وتعالى فإنه لا يضره ثناء الناس ما دام مخلصا لله سبحانه في عمله. والله الموفق.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في (مسند العشرة المبشرين بالجنة) برقم (502) ، والبخاري في (كتاب فضائل القرآن) برقم (5027) .(49/137)
حكم الزوج الذي لا يعاشر بالمعروف
س: إنني متزوجة منذ حوالي 25 سنة ولدي العديد من الأبناء والبنات، وأواجه كثيرا من المشاكل من قبل زوجي فهو يكثر من إهانتي أمام أولادي وأمام القريب والبعيد ولا يقدرني أبدا من دون سبب ولا أرتاح إلا عندما يخرج من البيت، مع العلم أن هذا الرجل يصلي ويخاف الله، أرجو أن تدلوني على الطريق السليم- جزاكم الله خيرا.(49/137)
ج: الواجب عليك الصبر، ونصيحته بالتي هي أحسن، وتذكيره بالله واليوم الآخر لعله يستجيب ويرجع إلى الحق ويدع أخلاقه السيئة، فإن لم يفعل فالإثم عليه، ولك الأجر العظيم على صبرك وتحملك أذاه، ويشرع لك الدعاء له في صلاتك وغيرها بأن يهديه الله للصواب، وأن يمنحه الأخلاق الفاضلة، وأن يعيذك من شره وشر غيره.
وعليك أن تحاسبي نفسك، وأن تستقيمي في دينك، وأن تتوبي إلى الله سبحانه مما قد صدر منك من سيئات وأخطاء في حق الله أو في حق زوجك أو في حق غيره، فلعله إنما سلط عليك لمعاص اقترفتها؛ لأن الله سبحانه يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) . ولا مانع أن تطلبي من أبيه أو أمه أو إخوته الكبار أو من يقدرهم من الأقارب والجيران أن ينصحوه ويوجهوه بحسن المعاشرة؛ عملا بقول الله سبحانه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) ، وقوله عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (3) الآية.
أصلح الله حالكما وهدى زوجك ورده إلى الصواب على الخير والهدى إنه جواد كريم.
__________
(1) سورة الشورى الآية 30
(2) سورة النساء الآية 19
(3) سورة البقرة الآية 228(49/138)
قطع النزاع في تحريم الرضاع
تأليف: عثمان بن أحمد بن قائد النجدي
تحقيق د. الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان (1)
تقديم:
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على صفوة خلق الله وأفضل أنبيائه ورسله وأمينه على وحيه نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وبعد:
فإن أعظم رابطة تصل المسلم بأخيه المسلم وتفتح له آفاق المعرفة والإحسان رابطة الدين وأخوة العقيدة والإيمان، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (2) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (3) » ،
__________
(1) الأستاذ المشارك بقسم الفقه بكلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) أخرجه البخاري في (الصحيح) رقم (481، 2446، 6026) ، ومسلم في (الصحيح) رقم (2585) ، وأحمد في (المسند) (4 \ 405، 409) من حديث أبي موسى الأشعري.(49/139)
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (1) » ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه (2) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله (3) » ، غير أن هذه الصلة تزداد وثوقا ولموعا وقوة حين ينضاف إليها سبب آخر وتنعقد بين أطرافها لحمة الرحم ووشائج القربى من نسب أو رضاع أو مصاهرة، فتتضاعف مواردها أضعافا كثيرة، وتشتد عراها وتستحكم حلقاتها، لكنها تظل دون أخوة الدين التي لا يمكن أن تتجاوزها مهما بلغت، كما قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) 141.
__________
(1) أخرجه البخاري في (الصحيح) رقم (6011) ، ومسلم في (الصحيح) رقم (2586) ، وأحمد في (المسند) (4 \ 268، 270، 271، 274، 276) من حديث النعمان بن بشير.
(2) أخرجه البخاري في (الصحيح) رقم (2442، 6951) ، ومسلم في (الصحيح) رقم (2580) ، وأحمد في (المسند) (2 \ 68، 92) من حديث ابن عمر.
(3) أخرجه الترمذي في (الجامع) رقم (1928) وقال: حديث حسن، وأحمد في (المسند) (2 \ 311، 360) من حديث أبي هريرة.
(4) سورة المجادلة الآية 22(49/140)
وبالحب تتوالى اللذات وترفل الحياة بثوب السرور والنعيم والسعادة إذا كان محمودا مهما ضاقت السبل وادلهمت الخطوب (1) ، فتشرق الدنيا بالأمل وتذهب الآلام أدراج الرياح، وما عند الله في الآخرة للصالحين خير وأبقى، لقوله سبحانه: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) .
__________
(1) ينظر في أصل المحبة المحمودة: ابن تيمية الحنبلي (جامع الرسائل) (2 \ 196) .
(2) سورة السجدة الآية 17(49/141)
موضوع الرسالة:
يعد الرضاع الحلقة التالية المتممة والمساندة لحرمة النسب على اختلاف درجاتها، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (1) ، وقد أذن الله تعالى بهذا التوثيق الكريم، والصلة الحميمة توسعة على الخلق ورحمة بالغة بهم ولا سيما النساء حيث أتاح للمرأة المسلمة وسيلة فعالة للوصول إلى كنف محرم شفيق ربما لا تجد عنه بدلا، ولا منه عوضا، يسعى في حاجاتها وتستعين به على
__________
(1) سورة النساء الآية 23(49/141)
قضاء متطلباتها وتصريف شئونها والقيام على مصالحها، وتستمسك به في وجه المخاوف والأطماع وتقلبات الأحوال، ومن جهة أخرى فإنه يسهم في تقوية أواصر المودة والمحبة وتوسيع دائرة المعرفة وذوي القربى ويفتح أبوابا جديدة، ومسالك للبر والإحسان مما يضفي على المجتمعات مددا من التواصل، ومزيدا من التآلف، والتعاون، والتقارب، ويحميه من شرور الفساد، ويمنحه قواعد اجتماعية صلبة لا تنفصم عراها.
وهذه الرسالة تتوجه نحو تعميق وتكريس وتوضيح معالم الرضاع وبيان بعض أحكامه وفق الحدود الشرعية الخاصة التي تعتمد على الأدلة الصحيحة ضمن إطارها المحدد دون استطراد ومن غير تجاوز إلى غيرها من أحكام النسب كالنفقة والإرث والولاية والشهادة وغيرها التي لا يشاركه فيها أحد.(49/142)
أهمية الرسالة:
على الرغم من أن الرضاع قد حظي بنصيب وافر من نصوص القرآن والسنة وكلام أهل العلم، إلا أنه لم يؤلف فيه ما يستحق حيث تتزايد الحاجة إلى معرفة ما يحل منه وما يحرم وما ينتهي إليه ولا سيما فيما يتصل بأمر النكاح لكثرة ما يقع من الخطأ فيه وسؤال الناس عنه مع خفاء بعض مسائله وغموضها على غير أهل الاختصاص.
وقد كان للمؤلف رحمه الله تعالى فضل السبق في إفراد هذا الموضوع بالتأليف فيما أعلم، فأوضح أقسام المحرمات بالرضاع(49/142)
على جهة التفصيل، وأوفى الحديث عنه ذاكرا ما استثناه بعض الحنابلة كابن البنا وابن حمدان من الصور ومبينا ما يدخل فيها وما لا يدخل على سبيل الاستقصاء والتتبع في المظان المختلفة من مدونات الفقه الحنبلي بين كتابي النكاح والرضاع وهي رسالة مفيدة في موضوعها أسهمت في تقريب هذه المسائل وكشفت عن مذهب الحنابلة على نحو من الوضوح وحسن العرض ودقة العزو والتقسيم كما أبانت عن ملكة فقهية متميزة وجودة اختيار.(49/143)
المؤلف:
هو الشيخ الجليل والفقيه البارع، عثمان بن أحمد بن سعيد بن عثمان بن قائد النجدي الحنبلي، ولد في بلدة العيينة إلى الشمال من مدينة الرياض (1) ، ولا نعرف عن تاريخ ميلاده شيئا، إلا أنه ربما كان في أوائل القرن الحادي عشر وقد أخذ مبادئ العلوم في قريته، ثم ارتحل إلى الرياض فقرأ على العلامة عبد الله بن محمد بن ذهلان (ت: 1099 هـ) ، فانتفع به وكان يطوف في سكك بلد منفوحة، ويقول: من يأخذ عني فقه أحمد بن حنبل (2) ، ثم سافر إلى بلاد الشام فدرس في دمشق على شيخ الحنابلة في وقته محمد بن عبد الباقي بن أبي المواهب (ت 1126 هـ) مدة طويلة، وعلى الشيخ محمد البلباني (ت 1083 هـ) حتى مهر في الفقه والعربية واشتهر، إلى أن غادرها
__________
(1) ينظر: ابن خميس (معجم اليمامة) (2 \ 198) .
(2) ذكره لي الشيخ إبراهيم بن عثمان، عن شيخنا الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله تعالى.(49/143)
إلى مصر على أثر خلاف نشب بينه وبين الشيخ ابن أبي المواهب في مسألة فقهية لم يحتمل قبولها. وفيها أخذ عن كبار الحنابلة منهم: محمد بن أحمد الخلوتي (ت 1088 هـ) وابن العماد (ت 1089 هـ) ، ومارس التدريس وتلقى عنه جملة من الطلاب منهم: أحمد بن عوض المرداوي، وهو الذي جرد حاشيته على المنتهى، ومحمد الحبني وغيرهما.
ولم يزل على هذه الحال مجتهدا في التعليم والإفتاء والتصنيف حتى أدركه الأجل في شهر جمادى الآخرة من عام 1097 هـ بعد حياة حافلة بالخير وبذل المعروف وجليل الأعمال، وقد ترك عددا من المؤلفات النافعة في العقيدة والفقه والعربية منها: (هداية الراغب لشرح عمدة الطالب) وهو أشهرها، و (حاشية على المنتهى) ، وكتاب (نجاة الخلف) ، وهذه الرسالة، رحمه الله رحمة واسعة وأجزل له الأجر والمثوبة وجمعنا الله به في دار كرامته بمنه وعفوه(49/144)
وصف النسخ المعتمدة:
عثرت عند التحقيق على نسختين خطيتين هما:
الأولى: محفوظة بالمكتبة المركزية لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ضمن مجموع برقم (4950) ، وتقع في أربع ورقات تقريبا، ومسطرتها 17 سطرا، بقلم الشيخ عبد الله بن إبراهيم الغملاس الحنبلي (ت 1354 هـ) (1) ، وكتبها عام 1318 هـ وهي نسخة تامة ومقابلة، ولذلك جعلتها أصلا.
الثانية: في ثلاث ورقات تقريبا، ومسطرتها 18 سطرا بخط فارسي واضح محفوظة ضمن مجموع بمكتبة جامعة الملك سعود برقم (1928) وفيها سقط كثير، ورمزت لها بحرف (س) .
__________
(1) له ولأبيه ترجمة في كتاب (علماء نجد) (1 \ 136، 2 \ 500) .(49/145)
العنوان والتوثيق:
كتب على طرة الأصل ما نصه: هذه الرسالة المسماة قطع النزاع في تحريم الرضاع للشيخ العالم العلامة عثمان النجدي رحمه الله تعالى.
وهكذا دون على نسخة (س) ، إلى جانب ما جاء في ترجمته من ذكرها والنص على هذا العنوان.(49/145)
منهج التحقيق:
اعتمدت النسخة الأولى وجعلتها أصلا، وأثبت ما بينها وبين نسخة (س) من الفروق كما عزوت الآيات الكريمة، وخرجت الأحاديث والمسائل وترجمت للأعلام، وترجمت بعض الألفاظ وعلقت على بعض ما يحتاج إلى تعليق مكتفيا بالراجح في الغالب بدليله.
أسأل الله- تعالى أن ينفع بها وأن يرزقنا صالح القول وصواب العمل ويجنبنا مضلات الفتن ونزغات الشياطين وأن يجعلنا هداة مهتدين إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه.(49/146)
النص المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين.
الحمد لله الذي حرم (1) ما شاء وحلل ما شاء بحكمته، ووفق من شاء لفهم ذلك بفضله ومنته، والصلاة والسلام على أفضل خليقته، محمد وآله (2) وعترته.
وبعد (3) : فهذه رسالة مفيدة غريبة جديدة، تتعلق بالرضاع وبيان من يحرم به ومن لا يحرم. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
مقدمة (4) : اعلم أن الرضاع يجوز فيه فتح الراء وكسرها (5) ، وهو لغة: مص الثدي. وشرعا: مص- من له أقل من حولين- لبن ثاب من ثدي
__________
(1) (س) : شرف.
(2) (س) : سيدنا محمد وآله وصحبه.
(3) (س) : وبعد، ساقطة.
(4) (س) : مقدمة، ساقطة.
(5) والفتح أشهر، ينظر: القرطبي (التفسير) (3 \ 162) .(49/149)
امرأة أو شربه ونحوه، كأكله بعد تجبينه (1) ، والسعوط والوجور به، ولا بد من خمس رضعات، فلا أثر لما دونها.
فصل:
الرضاع تحريمه كنسب، والأصل في التحريم: الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب، فقوله سبحانه وتعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (2) ، فجعل المرضعة أما
__________
(1) تجميده إلى جبن مأكول.
(2) سورة النساء الآية 23(49/150)
كما جعل المشاركة في الرضاع أختا.
أما السنة: فمنها ما روت \ عائشة (1) رضي الله تعالى عنها [1 / أ] ، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من (الولادة (3) » رواه الجماعة. ولفظ ابن ماجه: «من) النسب (5) » .
وأما الإجماع: فإنه لا خلاف بين المسلمين أن الرضاع محرم في الجملة (6) ، وإنما اختلفوا في تفاصيل لا يقدح (7) في الأصل أن يكون مجمعا عليه.
__________
(1) (س) : عائشة أم المؤمنين.
(2) البخاري في (الصحيح) رقم (2646، 3105، 5099) ، ومسلم في (الصحيح) رقم (1444) ، وأبو داود في (السنن) رقم (4055) ، والترمذي في (الجامع) رقم (1147) ، والنسائي في (المجتبى) (6 \ 98) ، وأحمد في (المسند) (6 \ 44، 51) واللفظ له.
(3) (س) : الرضاعة. (2)
(4) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/275) .
(5) ما بينهما ساقط من (س) . (4)
(6) ينظر: ابن حزم (الإجماع) (67) ، وابن قدامة (المغني) (11 / 309) .
(7) (س) : تقدح.(49/151)
إذا علمت ذلك (1) : فكل امرأة حرمت من النسب حرم مثلها من الرضاع: كالأم والجدة من كل جهة وإن علت، والبنت وبنتها وإن نزلت، وبنت الابن وإن نزل أو نزلت، والأخوات والعمات والخالات من كل جهة فيهن (2) .
وأما المصاهرة: فالتحقيق أن كل امرأة حرمت بها فبسبب (3) نسب، إما بين الزوج وبين التي (4) حرمت عليه تلك المرأة، وإما بين الزوجة وبين المرأة المحرمة (5) .
فالقسم الأول: زوجة الأب وإن علا، وزوجة الابن وإن نزل، فإن بين الزوج ومن حرمت عليه الأبوة في الأولى والبنوة (6) .
في الثانية، كما صرح بذلك فيهما (7) العلامة المحب ابن نصر الله رحمه الله تعالى في حاشيته على الفروع (8) .
__________
(1) (س) : إذا علمت ذلك، ساقط.
(2) قال ابن قدامة: لا نعلم في هذا خلافا. ابن قدامة (المغني) (9 \ 520) .
(3) (س) : بسبب.
(4) (س) : الرجل الذي.
(5) ينظر: ابن رجب (جامع العلوم) (2 \ 439) .
(6) الأصل: وبنوه.
(7) (س) : فيهما، ساقطة.
(8) له نسخة خطية في إحدى مكتبات الرياض الخاصة.(49/152)
والقسم. الثاني: أم الزوجة مطلقا، وبنتها بشرط الدخول بالزوجة، فإن بين الزوجة وبينهما الأمومة والبنوة.
وإذا تقرر ذلك: فيحرم بالرضاع \ ما يحرم بالمصاهرة.
؛ [1 / ب] ، لما تقدم من أن النسب هو السبب في تحريم المصاهرة، والرضاع كالنسب.
فيحرم على الشخص: أم زوجته من الرضاع كما تحرم عليه أمها من النسب، وزوجة أبيه وابنه (1) من الرضاع كما تحرم (2) زوجة أبيه وابنه من النسب، وبنت زوجته من الرضاع بشرط الدخول كما تحرم بنتها من النسب. صرح (3) بتحريم هذه الأربع الأصحاب.
__________
(1) (س) . بزيادة: من النسب وبنت زوجته.
(2) (س) : بزيادة: عليه أمها من النسب و.
(3) (س) : وصرح.(49/153)
قال في المنتهى: وتحريمه- أي: الرضاع- كنسب حتى في مصاهرة، فتحرم زوجة أبيه وولده من رضاع كمن (1) نسب. انتهى.
وأما لو وجد بالرضاع من هي بمنزلة امرأة تحرم بالمصاهرة من غير حصول مصاهرة فإنها لا تحرم.
ولذلك أربع صور:
إحداها: المرضعة تحل لأخي المرتضع من النسب، مع كونها بمثابة زوجة الأب؛ فإنها أم أخيه لكن الأمومة من الرضاع.
والثانية: بنت المرضعة تحل لأبي المرتضع من النسب، مع كونها بمثابة ربيبته؛ فإنها أخت ابنه لكن أخوة (2) من الرضاع.
والثالثة: أم المرتضع من النسب تحل لأخيه من الرضاع، مع كونها بمثابة زوجة أبيه؛ فإنها أم أخيه لكن الأخوة من الرضاع.
والرابعة: أخت المرتضع من النسب تحل لأبي المرتضع من الرضاع، مع كونها بمثابة ربيبة (3) ؛ لأنها أخت ابنه لكن
__________
(1) (س) : الرضاع كنسب.
(2) (س) : الأخوة.
(3) (س) : ربيبته.(49/154)
الأخوة من الرضاع.
فهذه الأربع (1) مباحة لمن ذكر كما صرح به صاحب الإقناع \ والمنتهى وغيرهما [2 / أ] .
تتمة:
وقع لطائفة من الأصحاب رحمهم الله تعالى بعد ذكرهم أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، ما نصه: إلا أم أخيه وأخت ابنه.
وهذه العبارة أصلها لابن البنا، وتبعه عليها ابن
__________
(1) (س) : أربع.(49/155)
حمدان وصاحب الوجيز.
قال (1) صاحب الإقناع: يعنون: فلا تحرمان بالرضاع، وفيها (2) صور:
ولهذا قيل- أي (3) : عبر بعضهم بقوله-: إلا المرضعة وبنتها على أبي المرتضع وأخيه من النسب وعكسه (4) .
أي: أم المرتضع وأخته (5) من النسب على أبيه وأخيه من الرضاع. وكذا قاله صاحب المنتهى في شرحه: وصرح بأن الصور أربع (6) . قال: والحكم المذكور- من الإباحة-: صحيح. انتهى
__________
(1) الأصل: قال، ساقطة.
(2) (س) : وفيهما.
(3) أي: إضافة من (س) .
(4) الحجاوي (الإقناع) (3 \ 181) .
(5) الأصل: وأخيه، تحريف.
(6) (س) : الأربع.(49/156)
وهذه الأربع: هي التي قد سبق (1) ذكرها وتفصيلها، فلا حاجة إلى إعادته.
لكن نتعرض هنا لبيان أخذها من عبارة الأصحاب. فاعلم أن قولهم: إلا أم أخيه وأخت ابنه. أي: من الرضاع كما هو عبارة المنتهى (2) . فقولهم: من رضاع (3) ، يحتمل أن يكون راجعا للمضاف الذي هو الأم والأخت، فيكون المعنى: أن المرضعة وبنتها لا تحرمان (على أبي المرتضع وأخيه من النسب.
وتحتمل كونه راجعا للمضاف إليه الذي هو: الأخ والابن، فيكون المعنى: أن أم المرتضع وأخته من النسب) (4) [لا تحرمان] (5) على أبيه وأخيه من الرضاع. فافهم!
ثم اعلم أن قولهم: إلا المرضعة وابنتها على أبي
__________
(1) (س) : قدمت.
(2) الفتوحي (منتهى الإرادات) (3 \ 29 \ الشرح) .
(3) (س) : الرضاع.
(4) ما بينهما ساقط من (س) .
(5) بياض في الأصل، والإضافة يقتضيها السياق.(49/157)
[2 \ ب] المرتضع وأخيه من النسب، من قبيل اللف والنشر المشوش \ فالثاني للأول والأول للثاني.
أي: إلا المرضعة على أخي المرتضع من النسب وإلا بنتها على أبيه من النسب، وكذا عكسه. أي: أم المرتضع وأخته من النسب على أبيه وأخيه من الرضاع، فتقديره؟ لا تحرم أم المرتضع من النسب على أخيه من الرضاع، ولا أخته من النسب على أبيه من الرضاع. وبهذا تصير الصور أربعا.
وعبارة ابن البنا ومن تبعه محتملة لذلك، فإن قولهم: إلا أم أخيه. أي: على الأخ وفيها صورتان؛ لأن الرضاع إما أن يكون من جهة الأمومة، أو من جهة الأخوة.
وقولهم: وأخت ابنه. أي: على الأب، وفيها صورتان أيضا؛ لأن الرضاع إما أن يكون من جهة الأخوة، أو من جهة البنوة.
وأما لو حمل قولهم: إلا المرضعة وبنتها على أبي المرتضع وأخيه من النسب، على معنى: أن المرضعة لا تحرم على كل من الأخ والأب من النسب، وأن بنتها لا تحرم عليهما، وكذا نظيره في العكس.
فإنه. يحصل حينئذ في العبارة ثمان صور. أربع منها يوجد(49/158)
فيها من هي في مقابلة من تحرم بالمصاهرة، وهي التي تقدم ذكرها، وأربع منها ليس في واحد منها من هي في مقابلة من يحرم بالمصاهرة، ولم نتعرض لها فيما تقدم:
إحداها: المرضعة لأبي المرتضع من النسب، بمنزلة [3 / أ] . الزوجة.
والثانية: بنتها لأخيه من النسب، بمنزلة بنت زوجة الأب.
والثالثة: أم المرتضع من النسب لأبيه من الرضاع، بمنزلة الزوجة أيضا.
والرابعة: أخت المرتضع من النسب لأخيه من الرضاع، بمنزلة بنت زوجة الأب.
وهذا الاحتيال تبعد إرادته من عبارة الأصحاب لشموله من ليس في مقابلة من يحرم بالمصاهرة كما بينت لك (1) .
فوضح ذلك صاحب التنقيح وغيره. قد قالوا عن الاستثناء- الأصحاب (2) -: لكن الصواب عدم الاستثناء (3) .
__________
(1) إلى هنا ساقط من (س) .
(2) (س) : قال في التنقيح وغيره من عبارة الأصحاب المذكورة.
(3) المرداوي (التنقيح) (219) ، والشويكي (التوضيح) (307) ، وينظر: الزركشي (الشرح) (5 \ 156) .(49/159)
و (1) قال في الإقناع: لكن الأظهر عدم الاستثناء.
قالوا: لأنهن في مقابلة من يحرم بالمصاهرة، والشارع حرم من الرضاع ما حرم من النسب، لا ما حرم بالمصاهرة. انتهى (2) .
فقولهم (3) : لأنهن في مقابلة من يحرم بالمصاهرة، (إنما يتأتى في الأربع الأول، وهي) (4) : مسألة (5) المرضعة مع أخي المرتضع من النسب (6) ، ومسألة بنت المرضعة (7) مع أبيه من النسب (8) ، ومسألة أم المرتضع من النسب (9) [مع أخيه من الرضاع، ومسألة أخت المرتضع نسبا] (10) مع أبيه من الرضاع، كما تقدم ذلك موضحا (11) .
__________
(1) (س) : و، ساقطة.
(2) الحجاوي (الإقناع) (3 \ 181) .
(3) (س) : قولهم.
(4) ما بينهما ساقط من (س) .
(5) (س) : أي في مسألة.
(6) (س) : من النسب، ساقط.
(7) الأصل: المرتضعة، ولعل المثبت هو الصواب.
(8) (س) : من النسب، ساقط.
(9) (س) : نسبا.
(10) ساقط من الأصل وهو انتقال نظر.
(11) في أوائل البحث الصفحة رقم (154) .(49/160)
(وأما الصور الأربع الأخيرة فلا يتأتى فيها من هي في مقابلة من يحرم بالمصاهرة. فتأمله وتفهم والله أعلم) فإن قلت: قولهم: الشارع حرم من الرضاع ما حرم من النسب لا ما حرم بالمصاهرة، مخالف لما تقدم: من أن تحريم الرضاع كالنسب (1) حتى في مصاهرة، (كما تقدم التصريح به عن المنتهى.
قلت: لا مخالفة؛ لأن مرادهم بقولهم: حتى في مصاهرة) (2) ، أنه حيث حصلت المصاهرة بالفعل فكل امرأة حرمت بها (3) بسبب النسب حرم مثلها بسبب الرضاع؛ لأنه (4) مثله وأما حيث (5) لم توجد المصاهرة بالفعل وإنما وجد بالرضاع نظير من يحرم بها كما في الصور الأربع المستثناة فلا تحريم؛ لأن الرضاع ليس كالمصاهرة بل هو كالنسب. ففرق بني وجود المصاهرة وبين فقدها (6)
__________
(1) (س) : كنسب.
(2) ما بين القوسين ساقط من (س) وهو انتقال نظر.
(3) علق في هامش الأصل ما نصه: أي بالمصاهرة.
(4) (س) : لأنها.
(5) (س) : حيث توجد، وهو سهو من الناسخ.
(6) (س) : تقديرها.(49/161)
كما لا يخفى (1) .
والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) (س) : زيادة: وبالله التوفيق.(49/162)
التوكل وأثره التربوي في الكتاب والسنة
د. مسفر بن سعيد بن دماس الغامدي
(1) .
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأصلي وأسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه الأطهار الطيبين. أما بعد:
فالمتأمل في أحوال المسلمين أفرادا وجماعات، قبائل وشعوبا، دولا وتجمعات يقف على حقيقة مرة، هذه الحقيقة تستحق من كل غيور الدراسة والبحث وإيجاد الحلول. . . ألا وهي: (ضعف التوكل على الله) .
فمعظم الناس قد اعتمدوا على الأسباب في رزقهم، وفي جميع أمورهم، أما في الأزمات فترى عجبا، إذ إن غالب المسلمين حكاما ومحكومين اعتمدوا على أعدائهم، ونسوا أن الله هو أقوى الأقوياء، وأنه إنما يقول للشيء كن فيكون، وأنه أرأف وأرحم بعباده من أنفسهم بأنفسهم.
__________
(1) أستاذ الحديث المساعد بكلية المعلمين بمكة المكرمة، وقد سبقت ترجمته في العدد (41) ص (283) .(49/163)
والسبب في نظري جهلهم الكبير بحقائق الدين، فالكثير من المنتسبين للدين الإسلامي لم يعرفوا هذا الإله العظيم حق المعرفة {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (1) .
ولم يدركوا حقيقة سر وجودهم في الحياة، ولم يتعلموا العلم الشرعي الذي ينير لهم دروب الحياة، فوقعوا فيما وقعوا فيه، وأصبحت حياتهم يكتنفها الخوف والقلق، وعدم الاستقرار، وصار الوقت والجهد والمال والعمر والأولاد. . . أشياء غير مباركة، بل صارت مصدر شقاء وعناء ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإسهاما مني في محاولة معالجة هذا الخلل العقدي كان هذا البحث، وقد بذلت ما استطعت محاولا الإجادة، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان، والله أسأل أن ينفع به الكاتب والقارئ، وأن يجعله في ميزان الحسنات.
مقدمة في معنى التوكل، ومنازل الناس فيه، ودرجاته:
أولا: معنى التوكل:
التوكل له في اللغة معان عديدة منها:
أ- التكفل: يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، وجاء في الحديث: «من توكل بما بين لحييه ورجليه، توكلت له بالجنة (2) » أي من تكفل بما بين لحييه تكفلت له بالجنة (3) .
__________
(1) سورة الحج الآية 74
(2) صحيح البخاري الحدود (6807) ، سنن الترمذي الزهد (2408) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(3) النهاية لابن الأثير (5 \ 321) .(49/164)
ب- الاعتماد على الغير: تقول: وكلت أمري إلى فلان، أي اعتمدت فيه عليه، ويقال: وكل فلان فلانا: أي اعتمد عليه في أمور نفسه ثقة بكفايته (1) .
أما في الاصطلاح فقد ذكر العلماء له تعريفات عديدة اختلفت عباراتها واتحد معناها ومنها:
التوكل: حركة ذات الإنسان في الأسباب بالظاهر والباطن. وسكون إلى المسبب وركون إليه بحيث لا يضطرب قلبه معه ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصلة إلى رضاه (2) .
ويتضح من هذا التعريف أن التوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب، بل إنه لا يصح إلا مع القيام بها، ومن ثم فقد نقل ابن القيم الإجماع على أن ترك الأخذ بالأسباب يؤدي إلى عدم صحة التوكل.
ويجب على المسلم ألا يتوكل إلا على الله سبحانه فهو نعم الوكيل كما جاء في القرآن الكريم: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (3) .
كما أنه تعالى قد حذر من اتخاذ وكيل غيره فقال: {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا} (4)
__________
(1) لسان العرب (11 \ 734-736) .
(2) مدارج السالكين (2 \ 114-117) .
(3) سورة آل عمران الآية 173
(4) سورة الإسراء الآية 2(49/165)
ولذلك فإن خليل الرحمن، وهو في وقت الشدة نراه يقول لجبريل عليه السلام: "أما إليك فلا. . . " وذلك عندما قال له: "ألك حاجة"؟ (1) .
والوكيل: فعليل من التوكل ومعناه: المتوكل عليه الذي تفوض إليه أمورنا فيوصل إلينا النفع ويدفع عنا الضر.
ثانيا: منازل الناس في التوكل:
قال ابن القيم: "فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان، ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابه، وتنفيذ أوامره.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في استقامته في نفسه وحفظ حاله مع الله فارغا عن الناس.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في معلوم يناله منه، من رزق أو عافية أو نصر على عدو، أو زوجة، أو ولد، ونحو ذلك.
ودون هؤلاء: من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش، فإن أصحاب هذه المطالب، لا ينالونها غالبا إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه، بل قد يكون توكلهم أقوى من توكل كثير من أصحاب الطاعات، ولهذا يلقون أنفسهم في
__________
(1) ذكر ذلك ابن كثير في (تفسير القرآن العظيم) ج (5) ص (45) ط الشعبي.(49/166)
المتالف والمهالك معتمدين على الله أن يسلمهم، ويظفرهم بمطالبهم.
ثم الناس بعد التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمن متوكل على الله في حصول الملك، ومن متوكل في حصول رغيف.
ومن صدق توكله على الله في الحصول على شيء ناله، فإن كان محبوبا له مرضيا كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطا مبغوضا كان ما حصل له بتوكله مضرة عليه، وإن كان مباحا حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحة ما توكل فيه، وإن لم يستعن به على طاعاته، والله أعلم " (1) .
أما حال أهل هذا الزمان فهو مخالف لما يجب أن يكون عليه أهل الإيمان وأهل التوكل.
فنرى الدول الإسلامية قد ركنت إلى الدول الغربية أو الشرقية (الكفار) بل وكثير من هذه الدول الإسلامية تفتخر بصداقاتها وولائها وحبها لهذه الدول الكافرة، بل وحكمتها في شعوبها وثرواتها وأخلاقها وغير ذلك، وما ذاك إلا خوفا من هذه الدول الكافرة، وجهلا بالله وبشرعه المطهر؛ مما ترتب على ذلك تحكيم للقوانين الوضعية الكافرة، وإقصاء للشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله لعباده وأوليائه.
__________
(1) مدارج السالكين (2 \ 113) .(49/167)
والمخرج من هذا الوضع هو الرجوع إلى الله بتحكيم شرع الله والالتجاء على الله والتوكل عليه لأنه أقوى الأقوياء، وناصر الضعفاء ومعز الأولياء وداحر الأعداء.
أما على مستوى الأفراد فلا شك أنهم أيضا - إلا من رحم الله - قد ركنوا إلى الأسباب، وتركوا المسبب، واعتمدوا على أنفسهم في الأرزاق وفي كل الأحوال، وابتعدوا عن الله القادر الرازق. وسبب ذلك؛ الجهل بالله وبدين الله، والمخرج من ذلك كله هو تعلم دين الله ومعرفة الله بأسمائه وصفاته، والرجوع إليه في كل كبير وصغير وجليل وحقير.
والأمة الإسلامية مطالبة بتحكيم دين الله في العقيدة والشريعة وفي العبادات والمعاملات، وفي الأخلاق والعلاقات، وفي كل نواحي الحياة حتى تعود لها كرامتها وعزتها ومجدها وحتى يندحر الأعداء ويذلوا ويخضعوا للإسلام وأهله صاغرين والله المستعان والهادي إلى سواء السبيل.
ثالثا: درجات التوكل:
إن التوكل درجات، وأفضله: التوكل في الواجب الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس، وأوسعه وأنفعه: التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهو توكل ورثتهم (1)
__________
(1) مدارج السالكين (2 \ 113) .(49/168)
والتوكل ثلاث درجات:
1 - التوكل: وهو البداية، فالمتوكل يسكن إلى وعد ربه، والتوكل صفة المؤمنين، وصفة الأنبياء.
2 - التسليم: وهو واسطة، وصاحب التسليم، يكتفي بعلم ربه، والتسليم صفة الأولياء، وهو صفة إبراهيم الخليل.
3 - التفويض: وهو النهاية، وصاحب التفويض يرضى بحكم ربه، والتفويض صفة الموحدين، وهو صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ومعنى هذا:
التوكل: اعتماد على الوكيل، وقد يعتمد الرجل على وكيله مع نوع اقتراح عليه، وإرادة وشائبة منازعة. فإذا سلم إليه زال عنه ذلك، ورضي بما يفعله وكيله، وحال المفوض فوق هذا، فإنه طالب مريد ممن فوض إليه، ملتمس منه أن يتولى أموره، فهو رضا واختيار، وتسليم واعتماد.
فالتوكل يندرج في التسليم، وهو والتسليم يندرجان في التفويض والله أعلم (1)
__________
(1) ذكره ابن القيم في (مدراج السالكين) (2 \ 117) وعزا هذا التقسيم إلى أبي علي الدقاق.(49/169)
الفصل الأول
وسائل تعمق التوكل في نفوس المؤمنين
هناك وسائل عديدة تعمق التوكل في نفوس المؤمنين منها معرفة الرب سبحانه، وإثبات الأسباب وتوحيد القلب، وحسن الظن بالله، وتفويض الأمر إليه - جل شأنه - وسوف نتناول كل وسيلة من هذه الوسائل بالبحث والتفصيل في مبحث على حدة.
المبحث الأول: معرفة الرب سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته:
إن أول ما يجب على العبد معرفة الله - سبحانه وتعالى - المعرفة الصحيحة قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (1) ولا تتم هذه المعرفة وهذا العلم - على الوجه الأكمل - إلا بمعرفة أسمائه وصفاته.
وعلى هذا يجب أن نتعرف على الذات الإلهية كما تعرف عليها السلف - رضوان الله عليهم - من خلال النصوص التالية:
قال جل شأنه: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) .
__________
(1) سورة محمد الآية 19
(2) سورة هود الآية 14(49/170)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة (1) » .
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) . وقال جل وعلا: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (3) . وقال سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (4) {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (5) {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (6) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله تسعة وتسعون اسما، مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة (7) » .
وذاته تعالى كاملة، الكمال المطلق الذي لا يشاركه فيه أحد، فلا تشبه ذاته ذات أحد من خلقه. وذاته موصوفة بجميع الكمالات التي لا تعد ولا تحصى، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في
__________
(1) أخرجه مسلم في (الصحيح) (1 \ 55) رقم (43) من حديث عثمان بن عفان، انظر: (صحيح الجامع) رقم (6428) .
(2) سورة الأعراف الآية 180
(3) سورة الإسراء الآية 110
(4) سورة الحشر الآية 22
(5) سورة الحشر الآية 23
(6) سورة الحشر الآية 24
(7) أخرجه البخاري في (الصحيح) (13 \ 377) رقم (7392) من حديث أبي هريرة، والترمذي في (الجامع) كتاب (الدعوات) رقم (82) ، وأحمد في (المسند) (2 \ 258، 267) .(49/171)
دعائه: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك (1) » . لكن علم حقيقة ذاته وكيفيتها، أمر لا سبيل إليه لأي مخلوق، إذ ليس من الجائز أن يحيط المخلوق بالخالق علما وإدراكا لحقيقته، ذاتا ووصفا، وصدق الله حيث يقول: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (2) . وقال: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (3) . ولفظ (الله) لفظ الجلالة لا يطلق إلا على المعبود بالحق وهو خالق السماوات والأرض، ومدبر الأمر فيهما سبحانه.
وهو دال على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى بجميع الدلالات:
فهو دال على الإلهية المتضمنة لثبوت صفات الإلهية له سبحانه مع نفي أضدادها عنه تعالى.
وهو مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دال عليها.
وهو دال على كونه مألوها معبودا، تألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا وفزعا (4) .
__________
(1) صحيح مسلم (1 \ 352) ، جامع الترمذي (4 \ 524) ، سنن أبي داود (1 \ 547) ، ابن ماجه (2 \ 1263) ، موطأ مالك (1 \ 167) ، مسند الإمام أحمد (6 \ 58) من حديث عائشة.
(2) سورة طه الآية 110
(3) سورة الإسراء الآية 85
(4) (مدارج السالكين) لابن القيم (1 \ 32) .(49/172)
وإلاهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله، إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أفعاله. . وصفات الجلال والجمال أخص باسم (الله) .
وصفات الفعل والقدرة، والتفرد بالضر والنفع، والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة، وكمال القوة، وتدبير أمر الخليقة أخص باسم (الرب) .
وصفات الإحسان، والجود، والبر، والحنان، والمنة، والرأفة، واللطف أخص باسم (الرحمن) (1) .
ويجب أن نعرف أن هناك علاقة بين الأسماء والصفات.
قال البيهقي: (وفي إثبات أسمائه إثبات صفاته، لأنه إذا ثبت كونه موجودا، فوصف بأنه (حي) قد وصف بزيادة صفة على الذات هي: (الحياة) .
وإذا وصف بأنه (عالم) فقد وصف بزيادة صفة هي (العلم) كما إذا وصف بأنه (خالق) فقد وصف بزيادة صفة هي (العلم) كما إذا وصف بأنه (خالق) قد وصف بزيادة صفة هي (الخلق) .
وإذا وصف بأنه (رازق) فقد وصف بزيادة صفة هي (الرزق) .
وإذا وصف بأنه (محيي) فقد وصف بزيادة صفة هي
__________
(1) مدارج السالكين (1 \ 32) .(49/173)
(الإحياء) . إذ لولا هذه المعاني لاقتصر في أسمائه على ما ينبئ عن وجود الذات فقط (1) .
وإليك بعض أسماء الله ومعانيها التي تعمق التوكل في نفوس المؤمنين:
1 - الرزاق:
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) . أي المتكفل بالرزق والقائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها، وسع الخلق كلهم رزقه ورحمته (3) .
2 - المجيب:
قال تعالى: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (4) . وقال أبو موسى: إنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرفعوا أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنكم تدعون قريبا مجيبا يسمع دعاءكم ويستجيب (5) » الحديث.
__________
(1) الأسماء والصفات ص (110) .
(2) سورة البقرة الآية 212
(3) شأن الدعاء ص (54) .
(4) سورة هود الآية 61
(5) رواه أحمد في (المسند) (4 \ 403) ورجاله كلهم ثقات.(49/174)
ومعناه: هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويغيث الملهوف إذا ناداه (1) .
3 - الوكيل:
قال تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (2) .
«وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو من الليل: اللهم لك الحمد، أنت رب السماوات والأرض، لك الحمد قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض، قولك الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله غيرك (3) » .
ومعناه: هو الكافي وهو الذي يستقل بالأمر الموكول إليه، وقيل الكفيل بالرزق والقيام على الخلق بما يصلحهم (4) .
__________
(1) الاعتقاد، ص (17) .
(2) سورة الأنعام الآية 102
(3) رواه البخاري في (الصحيح) (13 \ 371) رقم (7385) من حديث ابن عباس، ومسلم في (الصحيح) كتاب (المسافرين) رقم (199) .
(4) الاعتقاد للبيهقي ص (17-18) .(49/175)
4 - القابض الباسط:
قال تعالى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) . ومعناه: هو الذي يوسع الرزق، ويقتره، ويبسطه بجوده ورحمته، ويقبضه بحكمته (2) .
5 - الخافض الرافع:
قال تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (3) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم ينقص ما في يمينه، وعرشه على الماء، وبيده الأخرى الفيض أو القبض، يرفع ويخفض (4) » .
ومعنى الخافض: هو الذي يخفض من يشاء بانتقامه، والرافع: هو الذي يرفع من يشاء بإنعامه (5) .
6 - القيوم:
قال تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 245
(2) الاعتقاد، ص (16) .
(3) سورة يوسف الآية 76
(4) أخرجه البخاري في (الصحيح) (13 \ 403) رقم (7419) من حديث أبي هريرة، ومسلم في (الصحيح) كتاب (الزكاة) ص (37) .
(5) الاعتقاد. ص (16) .
(6) سورة البقرة الآية 255(49/176)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تهجده إذا قام من الليل: «اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن (1) » . . . " الحديث.
وفي رواية: «اللهم ربنا لك الحمد أنت قيام السماوات والأرض. . . . (2) » 7 - الهادي:
قال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (3) . وقال تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) ، «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يفتتح صلاته بـ"اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك
__________
(1) صحيح البخاري (3 \ 3) رقم (120) من حديث ابن عباس.
(2) أخرجه البخاري في (الصحيح) (13 \ 423) رقم (7442) من حديث ابن عباس وقال مجاهد: القيوم القائم على كل شيء، وأخرجه مسلم في (الصحيح) باب (المسافرين) ص (199) ، والترمذي في (الجامع) باب (الدعوات) ص (29) ، وأخرجه النسائي في (السنن) باب (قيام الليل) ص (9) ، وابن ماجه في باب (الإقامة) (180) ، ومالك في (الموطأ) باب (مس القرآن) ص (34) ، وأحمد في (المسند) (1 \ 298) .
(3) سورة مريم الآية 76
(4) سورة الحج الآية 54(49/177)
إنك على صراط مستقيم (1) » .
8 - القريب:
قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (2) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء (3) » .
ومعناه: أنه قريب بعلمه من خلقه قريب ممن يدعوه بإجابته (4) .
وأيضا فإن من صفاته سبحانه وتعالى التي تعمق التوكل في نفوس المؤمنين:
أ- صفة الحياة:
قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (5) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه: «اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون (6) » .
__________
(1) جامع الترمذي (5 \ 484) رقم (3420) .
(2) سورة البقرة الآية 186
(3) أخرجه مسلم في (الصحيح) (1 \ 350) رقم (482) ، والنسائي في (السنن) باب (المواقيت) ص (35) ، والترمذي في (الجامع) باب (الدعوات) ص 118) رقم (2 \ 421) .
(4) الاعتقاد ص (20) .
(5) سورة الفرقان الآية 58
(6) صحيح مسلم (4 \ 2086) رقم (2717) .(49/178)