{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (1) {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) .
وقال - عز وجل -: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (3) . فعلم بذلك أن الرسل جاءوا بهذا، وأن علينا أن نؤمن بذلك، وأن نقبل ذلك، وألا نفرق بين الرسل في هذه الأشياء، كما قال - عز وجل -: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 81
(2) سورة آل عمران الآية 82
(3) سورة البقرة الآية 136
(4) سورة البقرة الآية 285(45/13)
فلما كانت الشرائع مختلفة متنوعة على حسب حكمة الله وعلمه بأحوال العباد، وعلى حسب الظروف في الأمم المرسلة إليهم الرسل، وأحوالهم وعقولهم، ومدى تحملهم للشرائع والتكاليف مهما كانت الشرائع مختلفة، قد يجب في هذه الشريعة، ما لا يجب في هذه الشريعة، وقد يحرم في هذه الشريعة ما لا يحرم في هذه الشريعة لحكمة بالغة وأسرار عظيمة اقتضتها حكمة الله وعلمه وقدرته وكمال إحسانه وجوده - جل وعلا -. وقد يكون بعض التشديد في بعض الشرائع وبعض الآصار والأغلال لحكم وأسرار اقتضت ذلك، وقد يكون من أسباب ذلك عصيان الأمة التي أرسل إليها الرسول وجرأتها على الله وعدم مبالاتها بأوامره ونواهيه فيشدد عليهم في التشريع لأسباب ذلك، كما قال - عز وجل -:(45/13)
{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (1) {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (2) ، فبين سبحانه أنه حرم على بني إسرائيل من اليهود طيبات أحلت لهم بأسباب أعمالهم الخبيثة، ولما كان نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - هو الخاتم للأنبياء والرسل جميعا كانت شريعته أكمل الشرائع وأتمها؛ لكونها شريعة خاتمة للشرائع، ولكونها شريعة عامة لجميع الأمة إلى يوم القيامة، فلما كان - عليه الصلاة والسلام - خاتم النبيين، وكان رسولا عاما إلى جميع الثقلين، اقتضت حكمة الله سبحانه أن تكون شريعته أوفى الشرائع وأكملها، وأتمها انتظاما لمصالح العباد في المعاش والمعاد فهو - عليه الصلاة والسلام - خاتم الأنبياء والمرسلين، كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (3) ، وتواترت الأحاديث عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - بأنه خاتم النبيين، وهذا أمر بحمد الله مجمع عليه ومعلوم بالضرورة من دين الإسلام.
وقد أجمع المسلمون على أن من ادعى النبوة بعده فهو كافر كاذب يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا. والله - سبحانه وتعالى - قد أرسله إلى الناس كافة بإجماع المسلمين أيضا، وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أنه - عليه الصلاة والسلام - رسول الله إلى الجميع، إلى العرب والعجم، والأحمر والأسود، والجن والإنس، هو رسول الله إلى الجميع من حين بعثته - عليه الصلاة والسلام - إلى أن تقوم الساعة، كما يدل على ذلك قوله - جل وعلا -:
__________
(1) سورة النساء الآية 160
(2) سورة النساء الآية 161
(3) سورة الأحزاب الآية 40(45/14)
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) ، فعلق الله - جل وعلا - الهداية على اتباعه والإيمان به فعلم أن لا هداية ولا إيمان إلا من طريق اتباع محمد - عليه الصلاة والسلام - والسير على منهاجه بعد ما بعثه الله. قال - عز وجل -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2) أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للناس: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (3) فعلم أنه لا طريق إلى محبة الله ومغفرته إلا باتباعه - عليه الصلاة والسلام -، وقال - جل وعلا -: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (4) ، يعني إلى الناس كافة. وقال - جل وعلا -: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (5) ، فأخبر - جل وعلا - أنه نذير للعالمين، والعالمون: هم جميع الناس، وقيل: إنه القرآن، وقيل: إنه الرسول، وكلاهما حق، فهو نذير للعالمين والقرآن نذير للعالمين. فهو نذير، وكتابه نذير للعالمين، للمخلوقات كلها العقلاء المكلفين من الجن والإنس. وفي الصحيحين عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام -: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (6) » وفي صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) سورة سبأ الآية 28
(5) سورة الفرقان الآية 1
(6) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .(45/15)
نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (1) » ، وهذا أمر معلوم من دين الإسلام بالضرورة أنه رسول الله إلى الجميع، إلى اليهود والنصارى والعرب والعجم، وجميع أجناس بني آدم، وجميع الجن، من أجاب دعوته وسار في سبيله فله النجاة والسعادة والعاقبة الحميدة، ومن حاد عن سبيله فله الخيبة والندامة والنار، كما قال - جل وعلا -: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (3) ، وقال - عز وجل -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) ، وقال النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام -: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى (5) » ، قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (6) » ، وما ذلك إلا لأن رسالته عامة وهو خاتم النبيين، لهذا كله كانت شريعته أكمل الشرائع وكانت أمته خير الأمم، كما قال - جل وعلا -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (7) ، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (8) ، فأخبر سبحانه أنه أكمل لهذه الأمة دينها، والأديان السابقة كل واحد مكمل بالنسبة إلى الرسول الذي أرسل به، والقوم الذين
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد بن حنبل (2/350) .
(2) سورة النساء الآية 13
(3) سورة النساء الآية 14
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) رواه البخاري في صحيحه
(6) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، سنن النسائي الاستعاذة (5510) ، سنن ابن ماجه المقدمة (3) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .
(7) سورة آل عمران الآية 110
(8) سورة المائدة الآية 3(45/16)
أرسل إليهم، إكمالا يناسبهم ويليق بظروفهم وأحوالهم، أما بالنسبة إلى هذه الأمة فقد أكمل لها الدين في جميع المعاني، وجعله دينا صالحا لجميع ظروفهم وأحوالهم وغناهم وفقرهم، وحربهم وسلمهم، وشدتهم ورخائهم، وفي جميع أصقاع الدنيا، وفي جميع الزمان إلى يوم القيامة. وقد أردت أن أذكر شيئا يسيرا من محاسن هذه الشريعة وأسرارها العظيمة. أما الاستقصاء فلا يخفى على من له أدنى علم أنه لا يمكن أن يستقصي أحد محاسن هذه الشريعة، كيف يستطيع أحد أن يحصي فضائلها، وهي شريعة من حكيم عليم قد علم كل شيء فيما مضى وفيما يأتي إلى يوم القيامة، وهو العالم بأحوال عباده وأسرار تشريعه سبحانه وتعالى، ولكن حسب طالب العلم أن يذكر شيئا من محاسن هذه الشريعة فالله - جل وعلا - قال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1) {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (2) ، أخبر الله سبحانه وتعالى أنه جعل نبيه محمدا - عليه الصلاة والسلام - على شريعة من الأمر، والمعنى: على طريقة بينة واضحة ظاهرة من الأمر أي من الدين القويم، وهو دين الإسلام، ثم قال: فاتبعها: أي الزمها وتمسك بها، وهو أمر له - عليه الصلاة والسلام -، وأمر لجميع الأمة بذلك، فالأمر له أمر لنا إلا ما دل الدليل على تخصيصه به - عليه الصلاة والسلام -، ثم قال: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (3) يحذر سبحانه من اتباع أهواء الناس، وكل من خالف الشريعة فهو من الذين لا يعلمون، ثم بين - جل وعلا - أن الناس لن يغنوا عنه من الله شيئا، يعني: لو مال
__________
(1) سورة الجاثية الآية 18
(2) سورة الجاثية الآية 19
(3) سورة الجاثية الآية 18(45/17)
إليهم واتبع أهواءهم والله يعصمه من ذلك فلن يغنوا عنه من الله شيئا. فالأمر بيد الله، وهو القادر على كل شيء - جل وعلا -، فلا يمنع أحد رسوله - عليه الصلاة والسلام - مما أراده الله به من عزة ونصر، فالمقصود من هذا بيان أن النصر والتأييد بيده - سبحانه وتعالى -، وأنه كفيل بنصره وتأييده وتبليغ رسالته، وأن الناس مهما كانوا من قوة وكثرة فلن يغنوا عنه من الله شيئا، فلا وجه للميل إليهم واتباع أهوائهم، وهذا من باب التحذير وإلا فالرسول - صلى الله عليه وسلم - معصوم من اتباع أهوائهم فالله قد عصمه وصانه وحماه وأيده، ولكن المقصود تعليمنا وإرشادنا أن السعادة والنجاة والقوة والعزة والسلامة في اتباع الشريعة، والتمسك بها، والدعوة إليها، والحفاظ عليها، والشريعة في اللغة العربية: الطريقة الظاهرة البينة الموصلة إلى النجاة. وتطلق الشريعة في اللغة العربية أيضا على الطريق الموصل إلى الماء، وما ذلك إلا لأنه يوصل إلى الحياة، كما قال - جل وعلا -: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (1) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 30(45/18)
فالشرائع التي جاء بها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - طرق ظاهرة بينة واضحة لمن تأملها، توصل من استقام عليها واتبعها وأخذ بها إلى النجاة والسعادة، والحياة الطيبة الكريمة في الدنيا والآخرة، فشريعة نبينا - عليه الصلاة والسلام - أفضلها وأكملها وليس فيها آصار ولا أغلال، قد وضع الله عن هذا النبي وعن أمته الآصار والأغلال؛ فلله الحمد والمنة شريعة سمحة، كما قال في الحديث الصحيح: «بعثت بالحنيفية السمحة (1) » وقال - عليه الصلاة والسلام -: «إن هذا الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه (2) » ، وقال: لما بعث
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6773) ، صحيح مسلم الحدود (1706) ، سنن الترمذي الحدود (1443) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/247) .(45/18)
معاذا وأبا موسى - رضي الله عنهما - إلى اليمن: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا (1) » .
فهذه الشريعة: شريعة التيسير، وشريعة المساهمة، وشريعة الرحمة والإحسان، وشريعة المصلحة الراجحة، وشريعة العناية بكل ما فيه نجاة العباد وسعادتهم وحياتهم الطيبة في الدنيا والآخرة.
فالله - جل وعلا - بعث نبينا وإمامنا محمدا - عليه الصلاة والسلام - بشريعة كاملة منتظمة للمصالح العاجلة والآجلة، فيها الدعوة إلى كل خير، وفيها التحذير من كل شر، وفيها توجيه العباد إلى أسباب السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، وفيها تنظيم العلاقات بين العباد وبين ربهم وبين أنفسهم تنظيما عظيما حكيما، وأهم ذلك وأعظمه ما جاءت به الشريعة العظيمة الكاملة من إصلاح الباطن وتوجيه العباد إلى ما فيه صلاح قلوبهم واستقامتهم على دينهم، وإيجاد وازع قلبي إيماني يزعهم إلى الخير والهدى ويزجرهم عن أسباب الهلاك والردى، فالله - عز وجل - أمر الناس في كتابه الكريم بما فيه صلاح القلوب وإصلاح البواطن. وعنيت الشريعة بهذا أعظم عناية؛ وفي الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما يشفي ويغني؛ وما ذلك إلا لأن صلاح الباطن واستقامة القلوب وطهارتها هو الأصل الأصيل والركيزة العظيمة لإصلاح العباد من جميع الوجوه، وتأهيله لتحمله الشريعة وأداء الأمانة وإنصافه من نفسه، ولأدائه الحق الذي عليه لإخوانه، فكل عبد لا يكون عنده وازع قلبي من إيمان يزعه إلى الخير ويزجره عن الشر لا تستقيم حاله مع الله ولا مع العباد، ولهذا جاءت الآيات القرآنية الكريمة بالحث على خشية الله وخوفه، ومراقبته ورجائه، ومحبته والتوكل عليه سبحانه، والإخلاص له والإيمان به، وعلق
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4342) ، صحيح مسلم الأشربة (1733) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) .(45/19)
سبحانه على ذلك المعرفة والجنة، والرضا والكرامة، لماذا؟ لأن العبد إذا استقام قلبه على الإخلاص لله ومحبته والإيمان به وخشيته والتوكل عليه ومراقبته في جميع الأحوال، إذا استقام قلب العبد على هذا سارع إلى أوامر الله، وتقبل توجيه ربه وتوجيه رسوله - عليه الصلاة والسلام - بكل انشراح وبكل رضى وبكل طمأنينة من دون قلق ولا ضعف، بل يستقبل ذلك بقوة وارتياح وانبساط، كما قال - جل وعلا -: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (1) ، يحثهم سبحانه في هذا على أن يخشوه - جل وعلا - ويعظموه ويراقبوه، وقال - عز وجل -: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (2) ، وقال - عز وجل -: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (3) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (4) ، وقال - عز وجل -: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (5) ، وقال - عز وجل -: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (6) . وكل هذه آيات مكية يوجه الله بها العباد إلى الإخلاص له والإيمان به وخشيته ورجائه سبحانه وتعالى، ويقول الله - عز وجل -: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (7) ، ويقول - جل وعلا -: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (8) ، ويقول سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (9) ، ففي هذه
__________
(1) سورة الملك الآية 12
(2) سورة الرحمن الآية 46
(3) سورة الزمر الآية 2
(4) سورة الزمر الآية 3
(5) سورة غافر الآية 14
(6) سورة الكهف الآية 110
(7) سورة المائدة الآية 23
(8) سورة المائدة الآية 54
(9) سورة آل عمران الآية 31(45/20)
الآيات حث الناس على محبة الله واستحضار عظمته والتوكل عليه والتفويض إليه، فالعبد إذا عرف الله حق المعرفة بأسمائه وصفاته وعظيم حقه، وتوكل عليه وفوض إليه أمره واعتمد عليه مع مسارعته إلى الأخذ بالأسباب والعمل بها. فالمتوكل قد فوض أمره إلى الله واعتمد على ربه - عز وجل - وسارع إلى فعل الأوامر وترك النواهي والأخذ بالأسباب والعناية بها حتى يؤدي الواجب على أكمل وجه عن إخلاص لله، وعن محبة له واعتماد عليه، وعن ثقة به - عز وجل -، وقال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (1) ، وقال - عز وجل -: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (2) ، هذا كله يورث القلوب وازعا عظيما من تعظيم شعائر الله ومن تعظيم حرمات الله، حتى يكون عند العبد وازع من قلبه ودافع من خشيته، وحافز من إيمانه إلى أداء الواجبات وإلى ترك السيئات، وإلى الإنصاف من نفسه وإلى أداء الأمانة، أداء الحق الذي عليه لأخيه.
__________
(1) سورة الحج الآية 30
(2) سورة الحج الآية 32(45/21)
ثم إنه سبحانه وتعالى مع ذلك كله شرع للناس عبادات تصلهم بالله، وتقربهم لديه، وتزكيهم، وتقوي في قلوبهم محبته والتوكل عليه، والأنس بمناجاته وذكره، والتلذذ بطاعته سبحانه وتعالى، شرع لهم الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر بما في ذلك من استشعار تعظيم الذي شرع هذه العبادة التي بها تطهيرهم من ذنوبهم، وتطهيرهم من أحداثهم، وتنظيفهم وتنشيطهم على العمل، وجعل هذه الطهارة(45/21)
مفتاحا للصلاة التي هي أعظم عبادة وأكبر عبادة بعد الشهادتين، وشرع لهم الصلاة في أوقات معينة خمسة، وكانت في الأصل خمسين، فالله - جل وعلا - قد لطف بعباده ويسر ورحم فجعلها خمسا بدل خمسين، وكتب لهم سبحانه أجر الخمسين، وجعلها في أوقات متعددة حتى لا يغفل العبد عن ذكر ربه وحتى لا ينسى ربه. الفجر في أول النهار بعد قيامه من النوم، وعند فراغ قلبه يقبل على آيات الله وسماعها ويستمع للإمام في صلاة الفجر وهو يقرأ جهرا وينتفع بذلك، ويبدأ نهاره بذكر الله وطاعته سبحانه وتعالى فيكون في هذا عون له على ملاحظة حق الله، وعلى تعظيم حرمات الله في صحوته، وفي أعماله، وفي بيعه وشرائه وغير ذلك، ثم يجيء وقت الظهر فيعود إلى الصلاة، وإلى الذكر، وإلى العبادة، وإن كان هناك غفلة زالت بعوده إلى هذه العبادة، ثم كذلك العصر بينما هو قد اشتغل بأعمال داخلية أو خارجية فإذا الوقت الآخر قد حضر فينتبه ويرجع إلى ذكر الله وطاعته - عز وجل -، ثم يأتي المغرب، ثم يأتي العشاء فلا يزال في عبادة وذكر، فيما بين وقت وآخر يذكر فيها ربه، ويحاسب فيها نفسه ويجاهدها لله، ويتقرب إليه بالأعمال التي يحبها الله - سبحانه وتعالى -، وشرع له مع ذلك عبادات أخرى بين هذه الأوقات، كصلاة الضحى وراتبة الظهر والمغرب والعشاء، والتهجد بالليل، إلى أنواع من العبادات، والصلاة، والأذكار، والاستغفار، والدعاء، تذكره بالله وتعينه على طاعته وذكره سبحانه وتعالى.
هذا كله من فضله - جل وعلا - وعظيم إحسانه، ثم جعل تعالى لهذه الصلاة نداء عظيما على رءوس الأشهاد ليتضمن تعظيم الله سبحانه بالتكبير والشهادة له بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، وفيه الدعوة إلى هذه الصلاة بقوله: حي على الصلاة(45/22)
حي على الفلاح، ثم التكبير لله، ثم الشهادة له بالوحدانية سبحانه وتعالى، فجعل أصل الدين: الذي هو الإقرار بالشهادتين دعوة للصلاة ونداء لها، فالعباد ينتبهون بهذا الذكر وبهذا النداء في بيوتهم، وفي مضاجعهم، وفي مراكبهم، وفي كل مكان ينبهون لهذه العبادة، ولحق الله وعظمته بهذا النداء العظيم الذي لا يسمعه شجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد لصاحبه يوم القيامة، كما جاء بذلك الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم شرع الله للناس أيضا زكاة، وجعلها حقا في أموالهم يربط الأغنياء بالفقراء ويصلهم بهم، وفي ذلك فوائد كثيرة منها مواساة الفقراء والإحسان إليهم، ومنها مواساة أبناء السبيل، ومنها مواساة المؤلفة قلوبهم، وتقوية إيمانهم، ودعوتهم إلى الخير، ومنها مساعدة الرقاب على العتق وفك الأسارى، ومنها أيضا مساعدة الغارمين على قضاء ديونهم، ومنها مساعدة الغزاة على الجهاد في سبيل الله، فهي حق عظيم في المال يزكي صاحبه، وينمي ثروته، ويرضي ربه، والله مع هذا يخلفه عليه سبحانه وتعالى بأحسن خلف، مع هذه الفوائد العظيمة، قال - عز وجل -: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) ، ففي هذه الفريضة وفي هذا الحق شكر لله - عز وجل - على نعمه، وقربة إليه - سبحانه وتعالى - بأداء هذا الحق والإنفاق من المال طاعة لله إخلاصا له وتقربا إليه - جل وعلا -، ومع ذلك في نفس الوقت فيه إحسان للعباد ومواساة لهم
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(45/23)
ومساعدة على كل خير.
أما الصوم فكلكم يعلم ما فيه من الخير العظيم والمصالح الكبيرة التي منها تطهير النفس من أشرها وبطرها وشحها وبخلها وكبرها، ومن ذلك أن الصائم يعرف بالصيام حاجته وضعفه وشدة ضرورته إلى ما أباح الله من الطعام والشراب وغيرهما، ومنها تذكير العبد بإخوانه الفقراء والمحاويج حتى يواسيهم ويحسن إليهم، ومنها تمرين العبد على مخالفة الهوى وتعويده الصبر على ما يشق على النفس إذا كان في ذلك طاعة ربه ورضاه، فالصائم في الصيام يخالف هواه ويجاهد نفسه ويعودها الصبر عما يوافق هواها من مأكل ومشرب ومنكح في طاعة ربها ومولاها - عز وجل -.
وفي الصوم من الفوائد والحكم والأسرار ما لا يحصيه إلا الله - عز وجل -، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، يقول الله - عز وجل -: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك (1) » ، والأحاديث في فضله وعظم شأنه كثيرة.
أما الحج ففيه من الفوائد العظيمة من الصلة بالله والتقرب إليه، ومفارقة الأوطان والأهل والعشيرة لأداء هذه الفريضة العظيمة وزيارة البيت العتيق ما لا تحيط به العبارة، فإنه في هذه العبادة يركب الأخطار، ويقطع الفيافي والقفار، ويشق الأجواء، يرجو رحمة ربه ويخاف عقابه سبحانه وتعالى، فما أحراه بالثواب الجزيل والأجر العظيم من المولى الكريم - عز وجل -، أما ما شرع الله - سبحانه - في هذه العبادة من الإحرام والتلبية، واجتناب كثير من العوائد، وكشف
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6773) ، صحيح مسلم الحدود (1706) ، سنن الترمذي الحدود (1443) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .(45/24)
الرجل رأسه وخلع الثياب المعتادة، والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفات، ورمي الجمار، والتقرب إلى الله سبحانه بذبح الهدايا، إلى غير ذلك مما شرع الله في الحج، فمما شهدت العقول الصحيحة والفطر المستقيمة بحسنه، وأنه لا حكمة فوق حكمة من شرعه وأمر به عباده. يضاف إلى ذلك ما في الحج من اتصال المسلمين بعضهم ببعض، وتشاورهم في كثير من أمورهم وتعاونهم في مصالحهم العاجلة والآجلة واستفادة بعضهم من بعض، إلى غير ذلك من الفوائد، فكل ذلك شاهد للذي شرعه بأنه سبحانه أرحم الراحمين، وأحكام الحاكمين، وكل ذلك من جملة منافع الحج التي أشار إليها سبحانه بقوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (1) .
فالحج مؤتمر إسلامي عظيم وفرصة للمسلمين ينبغي أن يستغلوها في شتى مصالحهم، وأن يستفيدوا منها لأمر دنياهم وأخراهم، فنسأل الله أن يوفقهم لذلك، وأن يجمع كلمتهم على الهدى، إنه خير مسئول وأكرم مجيب.
وقد سبق لنا أن ذكرنا أن الله - جل وعلا - أمر الرسل بإقامة الدين، فالرسل بعثوا لإقامة الدين ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - هو أكملهم في ذلك، وهو إمامهم وسيدهم وخاتمهم بعث لإقامة الدين أيضا.
فهذه العبادات وهذه التوجيهات من الله - عز وجل - كلها لإقامة الدين، وأن يكون عندك وازع إيماني يحملك على أداء الواجبات، ومعاملة إخوانك بأحسن المعاملات، وعلى إنصافهم وأداء حقوقهم، وعلى أداء الأمانة في كل شيء والرجوع إلى الله في كل شيء حتى تكون عبدا ممتثلا سائرا
__________
(1) سورة الحج الآية 28(45/25)
على الوجه الذي شرعه الله، لا تتبع هواك ولا تقف عند حظك.
ومما يتعلق بما تقدم قول النبي - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب (1) » فأخبر - عليه الصلاة والسلام - أن صلاح العبد بصلاح قلبه فمتى صلح قلبه استقام العبد مع الله - عز وجل - ومع العباد، ومتى خبث القلب وفسد؛ خبث العبد وفسدت حاله، وهذا يبين لنا ما تقدم من أن هذه الشريعة عنيت عناية عظيمة بأسباب إصلاح القلوب. وقال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (2) » فبين - عليه الصلاة والسلام - أن موضع النظر من ربنا - عز وجل - القلب والعمل، أما مالك وبدنك فلا قيمة لهما وليسا محل النظر إلا إذا استعملت مالك وبدنك في طاعة ربك، وإنما محل النظر قلبك وعملك، فإذا استقام قلبك على محبة الله وخشيته ومراقبته والإخلاص له استقامت أعمالك واستقام أمرك، وإن كانت الأخرى فسدت حالك وفسد عملك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، سنن أبو داود البيوع (3443) .(45/26)
ثم إن هذه الشريعة العظيمة أيضا نظمت العلاقات بين الأسرة في نفسها، أسرة الإنسان وقراباته بما شرع الله من: صلة الرحم، والمواريث، والتعاون فيما بين الأسرة حتى تكون مرتبطة متعاونة على ما يرضي ربنا - عز وجل -، متحابة فيما بينها، هذا من رحمته وإحسانه - جل وعلا - أن جعل بين ذوي القرابات صلة خاصة تصل بعضهم ببعض، وتجمع بعضهم إلى بعض، وتربط بعضهم ببعض، فشرع صلة الرحم، وحث على ذلك وتوعد على ترك ذلك، فقال النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح: «لا يدخل الجنة قاطع (1) »
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5984) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2556) ، سنن الترمذي البر والصلة (1909) ، سنن أبو داود الزكاة (1696) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) .(45/26)
يعني: قاطع رحم، وقال - جل وعلا - في كتابه العظيم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (1) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (2) ، وفي الحديث أيضا: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله، فليصل رحمه (3) » وهكذا شرع العلاقات الطيبة بين المسلمين في جميع المعاملات، فجعلهم إخوة يتحابون في الله، ويتعاونون على الخير في جميع المجالات. وهذه أعظم صلة وأعظم رابطة بين المسلمين، الرابطة الإسلامية والأخوة الإيمانية، وهي أعظم رابطة، وهي فوق رابطة القرابة والصداقات وكل رابطة بين الناس، فالرابطة الإسلامية والأخوة بين المسلمين فوقها، فالله - سبحانه وتعالى - جعل المسلمين فيما بينهم إخوة وأوجب عليهم أن يحب بعضهم لبعض الخير، ويكره له الشر، وأن يكونوا فيما بينهم متحابين متناصحين متعاونين حتى يكونوا كتلة واحدة، وجماعة واحدة، وصفا واحدا، وأمة واحدة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (4) ، ويقول - جل وعلا -: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (5) ، ويقول - عز وجل -: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (6) ، فيأمرهم بالاجتماع والاعتصام بحبل الله: وهو دينه سبحانه. ويقول - عز وجل -: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (7) .
__________
(1) سورة محمد الآية 22
(2) سورة محمد الآية 23
(3) صحيح البخاري الحدود (6778) ، صحيح مسلم الحدود (1707) ، سنن أبو داود الحدود (4486) ، سنن ابن ماجه الحدود (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (1/130) .
(4) سورة الأنبياء الآية 92
(5) سورة التوبة الآية 71
(6) سورة آل عمران الآية 103
(7) سورة المائدة الآية 2(45/27)
فبين سبحانه وتعالى أن الواجب على الجميع أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يكونوا أولياء لا غل بينهم، ولا حقد ولا حسد، ولا تباغض ولا تقاطع، لكن أولياء يتناصحون ويتعاونون على الخير. وهذا هو التضامن الإسلامي الذي يدعو إليه كل مسلم، وكل مخلص لدينه، وكل مؤمن، وكل محب للإسلام.
فالتضامن الإسلامي: هو التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق، والتناصح في الله، والتكافل والتكاتف على كل ما فيه صلاح المسلمين ونجاحهم وحفظ حقوقهم وإقامة كيانهم وصيانتهم من شر أعدائهم، هذا هو التضامن، وهذا هو التعاون: أن يكون المسلمون حكومات وشعوبا متعاونين على البر والتقوى متناصحين في الله، متحابين فيه، متكاتفين على كل ما يقيم دينهم، ويحفظ كيانهم، ويوحد صفوفهم، ويجمع كلمتهم، وينصفهم من عدوهم، ويورثهم العزة والكرامة.
فبهذا الاجتماع وهذا التعاون يحميهم الله من شر أعدائهم ومكائدهم ويجعل لهم الهيبة في قلوب الأعداء لاجتماعهم على الحق وتعاونهم وتكاتفهم وتناصرهم على دين الله مخلصين لله قاصدين وجهه الكريم لا لغرض آخر، كما قال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) ، وقال - عز وجل -: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (3) ، فهو سبحانه وتعالى علق نصرهم وحفظهم وحمايتهم بنصرهم دينه واجتماعهم على
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الحج الآية 40
(3) سورة الحج الآية 41(45/28)
دينه وتعاونهم واعتصامهم بحبل الله - عز وجل -. فبالتضامن الإسلامي والتعاون الإسلامي كل خير وكل عزة في الدنيا والآخرة للمسلمين إذا صدقوا في ذلك وتعاونوا عليه.(45/29)
ومن محاسن هذه الشريعة أيضا أن جعلت المؤمن أخا المؤمن ينصح له ويحب له الخير، يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويعينه على الخير ويمنعه من الشر، كما قال النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام -: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1) » ، وقال - جل وعلا -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (2) ، فالمؤمن أخو المؤمن يعينه على الخير ويدعوه إليه، وينهاه عن الشر ويأخذ على يديه، كما قال النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام -: «انظر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصره (3) » . فنصر الظالم: منعه والأخذ على يديه. فالمسلمون إذا قاموا بهذا وتعاونوا عليه حصل لهم الخير العظيم والعزة والكرامة وجمع الكلمة وهيبة الأعداء والعافية من مكائدهم.
ومن محاسن هذه الشريعة أيضا أنها جعلت للمعاملات بين المسلمين نظاما حكيما يتضمن العدل والإنصاف وإقامة الحق فيما بينهم دون محاباة لقريب أو صديق، بل يجب أن يكون الجميع تحت العدل وتحت شريعة الله لا يحابي هذا لقرابته، ولا هذا لصداقته، ولا هذا لوظيفته ولا هذا لغناه، أو فقره، ولكن على الجميع أن يتحروا العدل في معاملاتهم من الإنصاف والصدق وأداء الأمانة، كما قال - جل وعلا -:
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (13) ، صحيح مسلم الإيمان (45) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016) ، سنن ابن ماجه المقدمة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (3/272) ، سنن الدارمي الرقاق (2740) .
(2) سورة الحجرات الآية 10
(3) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .(45/29)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (1) ، وقال - جل وعلا -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} (2) أي بالعدل {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (3) ، وقال - جل وعلا -: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (4) ، فالله - سبحانه وتعالى - شرع للجميع أن يتعاملوا بالعدل والإنصاف، وأن يقيموا الحق فيما بينهم على طريق العدل والقسط من دون محاباة لزيد أو عمرو أو صديق أو قريب أو كبير أو صغير.
__________
(1) سورة المائدة الآية 8
(2) سورة النساء الآية 135
(3) سورة النساء الآية 135
(4) سورة الأنعام الآية 152(45/30)
ومن محاسن هذه الشريعة وعظمتها وصلاحها لكل أمة ولكل زمان ومكان أن علق سبحانه وتعالى معاملاتهم على جنس العقود وجنس البيع وجنس الإجارة، ونحو ذلك من دون أن يحدد لهذه العقود ألفاظا معينة خاصة، حتى يتعامل كل قوم وكل أمة بما تقتضيه عوائدهم وعرفهم ومقاصدهم ولغتهم، وما يقتضيه النظر في العواقب، فجعل لمعاملاتهم عقودا شرعها لهم سبحانه وتعالى ولم يحدد ألفاظا بل جعلها مطلقة، كما شرع لهم في أنكحتهم وطلاقهم ونفقاتهم ودعاواهم وخصوماتهم نظاما حكيما يتضمن الإنصاف والعدل، وأن تراعى في ذلك العوائد والعرف، والاصطلاحات والبينات، والمقاصد والظروف، والأزمنة والأمكنة في حدود الشريعة كاملة حتى لا يقضى على أحد بغير حق، فقال - جل وعلا -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) فأطلق العقود،
__________
(1) سورة المائدة الآية 1(45/30)
وقال - جل وعلا -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) ، وقال - جل وعلا -: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (2) ، وجاءت الأحاديث عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فيما يتعلق بالمساقاة والمزارعات، والشركات، والجعالات، والضمانات، والأوقاف، والوصايا، والنكاح والطلاق والرضاع غير ذلك بما يطابق ما جاء به القرآن الكريم.
وهذه الأنظمة التي جاء بها القرآن وصحت بها السنة أنظمة واضحة بينة، يستقيم عليها أمر العباد، وتصلح لهم في كل زمان ومكان، ولا تختلف عليهم، بل يكون لهؤلاء عرفهم في بيعهم وشرائهم ونكاحهم وطلاقهم وأوقافهم ووصاياهم وغير ذلك، حتى لا يربط هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء، كما قال - جل وعلا - تنبيها على هذا المعنى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (3) ، يعني: بالمتعارف. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث خطبته العظيمة في حجة الوداع: «ولهن عليكم (أي للزوجات) رزقهن (أي كسوتهن) بالمعروف (4) » ، وقال - جل وعلا -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (5) لإقامة الحجة وقطع المعذرة، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (6) ، وقال - عز وجل -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (7) فبين سبحانه وتعالى أنه لا بد من بيان، ولا بد من إقامة حجة حتى لا يؤخذ أحد إلا
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة الطلاق الآية 6
(3) سورة البقرة الآية 233
(4) صحيح البخاري الحدود (6778) ، سنن أبو داود الحدود (4486) ، سنن ابن ماجه الحدود (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (1/130) .
(5) سورة الإسراء الآية 15
(6) سورة التوبة الآية 115
(7) سورة النحل الآية 44(45/31)
بعد إقامة الحجة عليه. وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - في هذا المعنى في كتابه: (إعلام الموقعين) فصلا عظيما بين فيه أن الشريعة راعت عوائد الناس ومقاصدهم وعرفهم ولغتهم حتى تكون الأحكام والفتاوى على ضوء ذلك، فقد يكون عرف هذه البلدة وهذا الإقليم غير عرف الإقليم الآخر والبلدة الأخرى. وقد يكون لهذا الشخص من النيات والمقاصد ما ليس لشخص آخر ويكون لهؤلاء من العوائد ما ليس للآخرين، وقد تكون أزمان لا يليق أن يفعل فيها ما يليق أن يفعل في الزمن الآخر، كما كانت الدعوة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة غير حالها في المدينة؛ لاختلاف الزمان والمكان، والقوة والضعف، وهذا من عظيم حكمة الله - جل وعلا - ورعايته لأحوال عباده، فقد يقصد بعض الناس بألفاظ البيع والهبة ما يقصد به آخرون معنى آخر أو عقدا آخر، وهكذا في الطلاق والإجارة وغير ذلك.
وهكذا بعض الأزمان قد يسوغ فيها ما لا يسوغ في أزمان أخرى، ومثل لذلك بأمثلة منها إقامة الحد في أرض العدو إذا وجد من بعض الغزاة ما يوجب الحد في أرض العدو، فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إقامة الحد في أرض العدو. لماذا؟
لأنه قد يغضب ويستولي عليه الشيطان فيرتد عن دين الإسلام لذلك ولقربه من العدو. ومن ذلك عام المجاعة فإذا كان عام مجاعة واشتدت الحال بالناس لا ينبغي القطع في هذه الحالة للسارق إذا ادعى أن الذي حمله على ذلك الضيق والحاجة وعدم وجوده شيئا يقيم أوده ويسد حاجته؛ لأن هذا شبهة في جواز القطع، والحدود تدرأ بالشبهات. ولهذا أمر عمر - رضي الله عنه - وأرضاه في عام الرمادة بعدم القطع، وحكم بذلك - رضي الله عنه - وأرضاه لهذه الشبهة. وهكذا(45/32)
تعتبر العواقب، كما قال الله سبحانه: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (1) ، وقال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (2) ، وقال سبحانه: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (3) . فلا بد من رعاية العواقب. ولهذا ذكر ابن القيم - رحمه الله -: أن الإنسان إذا كان أمره بالمعروف في بعض الأحيان قد يفضي إلى وجود ما هو أنكر من المنكر الذي يريد أن ينهي عنه، فإنه لا يجوز له أن ينهي عن المنكر في هذه الحالة إذا كان إنكار المنكر يفضي إلى ما هو أنكر منه وأشد، فإنك في هذه الحالة لا تنكره لئلا يقع ما هو أنكر منه وهذا من باب مراعاة العواقب. فإذا كان إنسان مثلا يشرب الخمر ولكنك إذا نهيته عن ذلك ومنعته عن ذلك ومنعته منه اشتغل بقتل الناس، فحينئذ يكون ترك الإنكار عليه أولى؛ لأن شرب الخمر أسهل من كونه يتعدى على الناس بالقتل.
والمقصود أن الواجب الرعاية للعواقب كما تراعى عوائد الناس وظروفهم وأحوالهم، ومقاصدهم ونياتهم في عقودهم، وتصرفاتهم فيما بينهم، وفي إقامة الحدود، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يراعى في ذلك تحصيل المصالح ودرء المفاسد، وتحصيل المصلحة الراجحة بتفويت المصلحة المرجوحة، وتعطيل المفسدة الكبرى بارتكاب المفسدة الصغرى عند العجز عن تفويتهما جميعا، هذه أمور عظيمة جاءت بها هذه الشريعة الكاملة، ولاشك أن ذلك من محاسنها، ويجب على ولاة الأمور وعلى كل من له تصرف في أمر الناس أن
__________
(1) سورة الحشر الآية 2
(2) سورة هود الآية 49
(3) سورة الأنعام الآية 108(45/33)
يراعوها من قاض ومفت وأمير وغيرهم، هذا كله من محاسن هذه الشريعة العظيمة.(45/34)
ومن محاسنها أيضا أنها جعلت للناس الحرية في الكسب والأخذ والعطاء فيكتسب المسلم ويأخذ ويعطي في حدود الشريعة، كما قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (1) ، له غنم ما أخذ وعليه غرمه، كما قال النبي - عليه الصلاة والسلام - في الحديث الصحيح: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من سؤال الناس أعطوه أو منعوه (2) » ، فحث على الكسب وبين أنه خير من سؤال الناس. ولما سئل - عليه الصلاة والسلام - «أي الكسب أطيب؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور (3) » وقال - عليه الصلاة والسلام -: «ما أكل أحد طعاما أفضل من أن يأكل من عمل يده وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده (4) » - عليه الصلاة والسلام - فالشريعة الإسلامية حبذت الكسب والعمل، ودعت إلى الكسب والعمل، وجعلت العامل أحق بكسبه وماله، وحرمت على الإنسان دم أخيه وماله وعرضه إلا بحق.
وهذا كله من محاسن هذه الشريعة وعظمتها أنها صانت أموال الناس وأعراضهم كما صانت أبشارهم ودماءهم، وأمرتهم بالكسب وحثتهم عليه، كما قال النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام -: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا أو كذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل شيطان (5) » خرجه مسلم في صحيحه. ولو ذهبت أذكر
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/446) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (4/141) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (2/109) .
(5) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (79) ، مسند أحمد بن حنبل (2/370) .(45/34)
ما يتعلق بعظمة هذه الشريعة ومحاسنها ورعايتها لمصالح العباد في أمر المعاش والمعاد لطال بنا المقام كثيرا، ولكن هذه إشارة قليلة تكفي اللبيب في التعرف على عظمة هذه الشريعة، ورعايتها لأحوال العباد ومصالحهم في الحاضر والمستقبل.
ومن ذلك أيضا ما جاء في هذه الشريعة من الأمر بالتوبة؛ لأن فيها إصلاح الماضي والعافية من شره، وقد كان من توبة بعض الماضين قتل النفوس، فرحم الله هذه الأمة وجعل توبتهم الندم والإقلاع، والعزيمة على عدم العودة إلى السيئة، مع رد المظالم إلى أهلها، هذا من إحسان الله ورحمته - جل وعلا - لهذه الأمة، وهذا من محاسن هذه الشريعة أن جعلت لك أيها الإنسان فرجا ومخرجا من ذنوبك وسيئاتك بالتوبة النصوح والاستغفار والرجوع إليه - عز وجل - والعمل الصالح.
ومن تأمل هذه الشريعة في مواردها ومصادرها ونظر ما جاءت به من الأحكام العظيمة العادلة، والإحسان إلى الخلق، ورعاية الفقراء والمحاويج والصغار والكبار وغيرهم - حتى البهائم اعتنت بها الشريعة وحرمت ظلمها والتعدي عليها - عرف أنها شريعة من حكيم حميد خبير بأحوال عباده عليم بما يصلحهم، وعرف أيضا أنها من الدلائل القاطعة على وجوده سبحانه وتعالى وكمال قدرته وحكمته وعلمه، وعلى صدق رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه رسول الله حقا.
وهكذا من نظر في ما جاءت به الشريعة من رعاية في أحوال العباد أغنيائهم وفقرائهم، ملاكهم وعمالهم، حكامهم ومحكومهم، أفرادهم وجماعاتهم، قد راعتهم جميعا وجعلت لهم أحكاما مبنية على المصلحة، والعدالة والإنصاف، والإحسان والرحمة، فهذه الشريعة كلها مصالح، كلها حكم، كلها هدى، كلها عدل، وكل شيء خرج(45/35)
من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى العبث، ومن الرحمة إلى ضدها فليس من الشريعة في شيء وإن نسب إليها بالتأويل، كما ذكر ذلك العلامة ابن القيم - رحمه الله -، فالشريعة كلها رحمة وعدل وحكمة، وكلها رعاية لمصالح العباد بعيدة عن العبث والظلم والمشقة.(45/36)
ومن تأمل ما تقدم؛ عرف ما أردته في الشق الثاني من عنوان هذه الكلمة. وهو: أن البشر في أشد الضرورة إلى هذه الشريعة؛ لما اشتملت عليه من المصالح العظيمة، وأنها راعت مصالح العباد في المعاش والمعاد وهيأت لهم السبل التي توصلهم إلى النجاة والسعادة، وبين سبحانه وتعالى في كتابه أن شريعته صراط مستقيم، صراط واضح ومنهج قيم من استقام عليه نجا، ومن حاد عنه هلك، ومن تأمل هذا حق التأمل عرف أن هذه الشريعة كسفينة نوح - عليه السلام - من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، فهكذا هذه الشريعة العظيمة من تمسك بها واستقام عليها نجا، ومن حاد عنها هلك ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبذلك يتضح للبيب أن العباد جميعا في أشد الضرورة إلى هذه الشريعة، لما فيها من حل مشاكلهم، ولما فيها من أحكام عادلة، ولما فيها من التوسط بين الاشتراكية الإلحادية الماركسية المنحرفة وبين الرأسمالية الغاشمة الظالمة، فهي وسط في كل شيء، وسط في اقتصادها بين اشتراكية الملحدين وماديتهم، وبين الرأسمالية الغاشمة التي لا حدود لها، فهي وسط بين طرفين، عدل بين جورين، وكذلك وسط في جميع أمورها، لا تطرف في غلو ولا تطرف في جفاء، بل هي وسط في شأنها كله، هذه الشريعة العظيمة وسط في الإنفاق والإمساك لا إسراف وتبذير، ولا إمساك وتقتير، بل هي وسط بين ذلك، كما قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (1) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 29(45/36)
وكما قال سبحانه في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (1) . فمن تأمل هذا الأمر وعني به عرف أنها دين ودولة، ومصحف وسيف، عبادة وحسن معاملة، جهاد وأعمال صالحة، إنفاق وإحسان، وطاعة لله - عز وجل - والرسول - صلى الله عليه وسلم -، توبة من الماضي وعمل للمستقبل، فيها كل خير، فهي جمعت خير الدنيا والآخرة، لا يجوز أن يفصل ديننا عن دنيانا، ولا دنيانا عن ديننا بل ديننا ودنيانا مرتبطان ارتباطا وثيقا في هذه الشريعة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (2) ، فهي حاكمة على الناس كلهم، على الأمراء وغير الأمراء، على الأفراد وعلى الجماعات، عليهم جميعا أن يكونوا تحت حكمها وتحت سلطانها في كل شيء، ومن زعم فصل الدين عن الدولة، وأن الدين محله المساجد والبيوت، وأن للدولة أن تفعل ما يشاء وتحكم بما تشاء فقد أعظم على الله الفرية، وكذب على الله ورسوله، وغلط أقبح الغلط، بل هذا كفر وضلال بعيد، عياذا بالله من ذلك، بل جميع العباد مأمورون بالخضوع لأحكام الشريعة وتشريعاتها في العبادات وغيرها، ويجب على الدولة أن تكون منفذة لحكم الشريعة، سائرة تحت سلطانها في جميع تصرفاتها، وعلى هذا سار النبي الكريم - عليه الصلاة والسلام - وسار أصحابه الكرام - رضي الله عنهم - وأرضاهم - وسار عليه أئمة الإسلام بعد ذلك في كل شيء، وقد جعل الله هذه الشريعة
__________
(1) سورة الفرقان الآية 67
(2) سورة النساء الآية 58(45/37)
روحا ونورا وحياة للناس، وبهذا تعرف أنك في أشد الضرورة إلى هذه الشريعة، وأن البشر كلهم في ضرورة إليها؛ لأنها الحياة، ولأنها النور ولأنها الصراط المستقيم المفضي إلى النجاة، وما عداها فظلمة وموت وشقاء، قال الله - جل وعلا - في كتابه العظيم: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} (1) ، فجعل من خرج عن الشريعة ميتا، وجعل من هدي إليها حيا، وجعل من أبى الشريعة في ظلمة، وجعل من وفق لها في فوز وهدى، وقال - جل وعلا -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (2) ، فجعل الاستجابة لله ولرسوله حياة، وجعل عدم الاستجابة موتا، فعلم أن هذه الشريعة حياة للأمة، وهي سعادة للأمة، ولا حياة لهم ولا سعادة بدون ذلك. وقال - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (3) ، فجعل سبحانه ما جاء به محمد - عليه الصلاة والسلام - روحا للعباد تحصل به حياتهم، ونورا تحصل به بصيرهم ونجاتهم وسيرهم على الصراط المستقيم، فهذه الشريعة روح للأمة، بها حياتها وقيامها ونصرها، وهي أيضا نور لها تدرك به أسباب نجاتها وتهتدي به إلى الصراط المستقيم والصراط المستقيم هو: الطريق الواضح الذي من سار عليه وصل إلى النجاة، ومن حاد عنه هلك. وقال سبحانه وتعالى:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 122
(2) سورة الأنفال الآية 24
(3) سورة الشورى الآية 52(45/38)
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) ، فبين سبحانه أن من عمل العمل الصالح عن إيمان أحياه الله حياة طيبة سعيدة، وفي هذا إشارة إلى أن حياة الكفار الذين حادوا عن الشريعة ليست حياة طيبة، بل حياة خبيثة، حياة مملوءة بالهموم والغموم والأحزان والمشاكل العظيمة والفتن الكثيرة، فهي حياة تشبه حياة البهائم ليس لأهلها هم إلا شهواتهم وحظهم العاجل، فهي حياة من جنس حياة البهائم، بل أسوأ وأضل؛ لكونهم لم ينتفعوا بعقولهم التي ميزوا بها عن البهائم، كما قال جل وعلا: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (2) ، وقال جل وعلا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} (3) هذه حياة من حاد عن الشريعة، حياة في الحقيقة هي شبيهة بالموت لعدم إحساسهم بالواجب وعدم شعورهم بما خلقوا له، وهي حياة في ذاتها تشبه حياة البهائم؛ لكون البهيمة لا هم لها إلا شهواتها وحظها العاجل، فهكذا الكافر المعرض عن الشريعة ليس له هم إلا شهواته وحظه العاجل، ولهذا شبه الله أهل الإيمان والهدى بالمبصرين والسامعين، وشبه من حاد عن الشريعة بالأعمى والأصم، وشبه من وفق إلى الشريعة بالحي، وشبه من خالف الشريعة بالميت، وبهذا نعرف أيها الأخوة أن هذه الشريعة: حياة البشر، وسعادة البشر، ونجاة البشر في الدنيا والآخرة، وأنهم في أشد الضرورة إلى اعتناقها والتزامها والتمسك بها؛ لأن بها حياتهم ونصرتهم ونجاتهم وسعادتهم في الدنيا
__________
(1) سورة النحل الآية 97
(2) سورة الفرقان الآية 44
(3) سورة محمد الآية 12(45/39)
والآخرة، ولأن فيها الحكم بينهم بالحق وإنصاف مظلومهم من ظالمهم، ولهذا كانت هذه الشريعة العظيمة أعظم شريعة وأكمل شريعة، وكان البشر في أشد الضرورة إلى أن يعتنقوها ويلتزموها، ولا حل لمشاكلهم، ولا سعادة لهم أبدا، ولا نجاة للمسلمين مما وقعوا فيه اليوم، من التفرق والاختلاف والضعف والذل إلا بالرجوع إليها، والتمسك بها، والسير على تعاليمها ومنهاجها.
وأسأل الله - عز وجل - أن يوفقنا الله جميعا للفقه فيها والعمل بها، وأن يهدينا جميعا وسائر عباده للأخذ بها والسير على ضوئها والاهتداء بنورها إنه جواد كريم، كما أسأله - عز وجل - أن يصلح ولاة المسلمين جميعا، وأن يوفقهم للتمسك بهذه الشريعة والعمل بها والتحاكم إليها والحكم بها في كل شيء، وأن يعيذنا وإياهم من بطانة السوء ومن دعاة الضلال، إنه على كل شيء قدير. . وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(45/40)
بحث في نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم
إعداد:
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة الخامسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء من تأجيل البت في موضوع نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم مطلقا وعند استغناء فقراء الحرم، وأن يعد بحث في الموضوع ليتمكن من مناقشة الموضوع في الدورة السادسة عشرة، بناء على ذلك فقد جمعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية نقولا عن بعض فقهاء المذاهب الأربعة وهذه النقول مشتملة على بيان مذاهب الفقهاء فيمن يجب صرف اللحم لهم وحكم نقله للفقراء خارج الحرم. وفيما يلي ذكر النقول مرتبة على حسب المذاهب وبالله التوفيق:
الفقه الحنفي
1 - قال في بدائع الصنائع: وأما مكان هذا الدم فالحرم، لا يجوز في غيره لقوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (1) ، ومحله الحرم، والمراد منه هدي المتعة؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2) ، والهدي اسم لما يهدى إلى بيت الله
__________
(1) سورة الفتح الآية 25
(2) سورة البقرة الآية 196(45/41)
الحرام أي يبعث وينقل إليه (1) .
2 - ذكر في فتح القدير: (وقوله: (إليه) مرجع الضمير التوقف بالحرم، من قوله: (يذبح في الحرم) ، مع قوله: والإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان، والآية وهي قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (2) ، إما في الإحصار بخصوصه أو فيه وفي غيره أو هو من عموم اللفظ الوارد على سبب خاص فيتناول منع الحلق قبل الإعمال في الحصر وبعدها في غيره إلى أن يبلغ الهدي محله، ويبين محله بقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (3) .
3 - قوله: (ولا يجوز ذبح الهدايا إلا في الحرم) ، سواء كان تطوعا أو غيره، قال تعالى في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (4) ، فكان أصلا في كل دم وجب كفارة. وقال تعالى في دم الإحصار: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (5) وقال في الهدايا مطلقا: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (6) ؛ ولأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان فالإضافة ثابتة في مفهومه وهو الحرم بالإجماع، ويجوز الذبح في أي موضع شاء من الحرم ولا
__________
(1) بدائع الصنائع ص1205 ج3 لأبي بكر بن مسعود الكاساني الحنفي المتوفى عام 587هـ.
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) سورة الحج الآية 33
(4) سورة المائدة الآية 95
(5) سورة البقرة الآية 196
(6) سورة الحج الآية 33(45/42)
يختص بمنى ومن الناس من قال: لا يجوز إلا بمنى والصحيح ما قلنا. قال - عليه الصلاة والسلام -: «كل عرفة موقف وكل منى منحر وكل المزدلفة موقف وكل فجاج مكة طريق ومنحر (1) » رواه أبو داود وابن ماجه من حديث جابر، فتحصل أن الدماء قسمان: ما يختص بالزمان والمكان، وما يختص بالمكان فقط (2) .
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1937) ، سنن ابن ماجه المناسك (3048) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1879) .
(2) شرح فتح القدير ج2 ص323، 324.(45/43)
4 - قال السرخسي - رحمه الله - في جزاء الصيد: (وإذا قتل المحرم صيدا فعليه قيمة الصيد في الموضع الذي قتله فيه إن كان الصيد يباع ويشتري في ذلك الموضع، وإلا ففي أقرب المواضع من ذلك الموضع مما يباع ذلك الصيد ويشتري في ذلك الموضع، مما له نظير من النعم أو لا نظير له في قولي أبي حنيفة وأبي يوسف - رحمهما الله تعالى -، وقال محمد والشافعي - رحمهما الله تعالى - فيما له نظير: ينظر إلى نظيره من النعم الذي يشبهه في المنظر لا إلى القيمة) (1) .
5 - فإن اختار التكفير بالهدي فعليه الذبح في الحرم والتصدق بلحمه على الفقراء لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (2) فالهدي اسم لما يهدى إلى موضع معين، وإن اختار الإطعام اشترى بالقيمة طعاما، فيطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من حنطة (3) .
__________
(1) المبسوط ج2 ص82.
(2) سورة المائدة الآية 95
(3) المبسوط للسرخسي ج2 ص82.(45/43)
6 - قال السرخسي - رحمه الله - في المبسوط: الأصل في حكم الإحصار قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} (1) ، أي منعتم من إتمامها، {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (2) شاة تبعثونها إلى الحرم لتذبح، ثم تحلقون، لقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (3) فعلى المحصر إذا كان محرما بالحج أن يبعث بثمن هدي يشترى له بمكة فيذبح عنه يوم النحر فيحل من إحرامه، وهذا قول علمائنا - رحمهم الله تعالى - أن هدي الإحصار مختص بالحرم، وعلى قول الشافعي - رحمه الله - لا يختص بالحرم ولكن يذبح الهدي في الموضع الذي يحصر فيه، وحجته في ذلك حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج مع أصحابه - رضي الله عنهم - معتمرا فأحصر بالحديبية فذبح هداياه وحلق بها وقاضاهم على أن يعود من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام بغير سلاح فيقضي عمرته (4) » فإنما نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهدي في الموضع الذي أحصر فيه؛ ولأنه لو بعث بالهدي لا يأمن أن لا يفي المبعوث على يده، أو يهلك الهدي في الطريق، وإذا ذبحه في موضعه يتعفن بوصول الهدي إلى محله وخروجه من الإحرام بعد إراقة دمه فكان هذا أولى، وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (5) والمراد به الحرم بدليل قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (6) وبعد ما ذكر الهدايا ولأن التحلل بإراقة دم هو قربة، وإراقة الدم لا يكون قربة إلا في مكان
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) سورة البقرة الآية 196
(4) صحيح البخاري الصلح (2701) ، مسند أحمد بن حنبل (2/124) .
(5) سورة البقرة الآية 196
(6) سورة الحج الآية 33(45/44)
مخصوص وهو الحرم، أو زمان مخصوص وهو أيام النحر، ففي غير ذلك المكان والزمان لا تكون قربة، ونقيس هذا الدم بدم المتعة من حيث إنه تحلل به عن الإحرام وذلك يختص بالحرم فكذا هذا، وأما ما روي فقد اختلفت الروايات في نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الهدايا حين أحصر، فروي أنه بعث الهدايا على يدي ناجية لينحرها في الحرم حتى قال ناجية: ماذا أصنع فيما يعطب منها؟ قال: انحرها، واصبغ نعلها بدمها، واضرب بها صفحة سنامها، وخل بينها وبين الناس، ولا تأكل أنت ولا رفقتك منها شيئا، وهذه الرواية أقرب إلى موافقة الآية، قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (1) . فأما الرواية الثانية إن صحت فنقول: الحديبية من الحرم فإن نصفها من الحل، ونصفها من الحرم، ومضارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت في الحل، ومصلاه كان في الحرم، فإنما سيقت الهدايا إلى جانب الحرم منها، ونحرت في الحرم، فلا يكون للخصم فيه حجة، وقيل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مخصوصا بذلك؛ لأنه كان يجد في ذلك الوقت من يبعث الهدايا على يده إلى الحرم (2) .
7 - باب الهدي:
قوله (ما يهدي) مأخوذ من الهداية التي هي أعم من الهدي لا من الهدي، وإلا لزم ذكر المعرف في التعريف فلزم تعريف الشيء بنفسه، قلت: (لو أخذ من الهدي يكون تعريفا لفظيا وهو
__________
(1) سورة الفتح الآية 25
(2) المبسوط للسرخسي ج2 ص106 - 107.(45/45)
سائغ) واحترز بقوله: (إلى الحرم) عما يهدى إلى غيره نعما كان أو غيره، وبقوله (من النعم) عما يهدى إلى الحرم من غير النعم، فإطلاق الفقهاء في باب الأيمان والنذور والهدي على غيره مجاز، وبقوله (ليتقرب به) أي: بإراقة دمه فيه، أي: في الحرم عما يهدى من النعم إلى الحرم هدية لرجل، وأفاد به أنه لا بد فيه من النية أي ولو دلالة (1) .
__________
(1) رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين ج2، ص406 - 407.(45/46)
8 - قال الجصاص في تفسيره: (أحكام القرآن) باب المحصر، أين يذبح الهدي؟
قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) واختلف السلف في المحل ما هو؟ فقال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وعطاء وطاوس، ومجاهد، والحسن، وابن سيرين: هو الحرم. وهو قول أصحابنا والثوري. وقال مالك والشافعي: محله الموضع الذي أحصر فيه فيذبحه ويحل. والدليل على صحة القول الأول أن المحل اسم لشيئين: يحتمل أن يراد به الوقت، ويحتمل أن يراد به المكان. ألا ترى أن محل الدين هو وقته الذي تجب المطالبة به، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لضباعة بنت الزبير: «اشترطي في الحج وقولي محلي حيث حبستني (2) » فجعل المحل في هذا الموضع اسما للمكان، فلما كان محتملا للأمرين ولم يكن هدي الإحصار في العمرة مؤقتا عند الجميع وهو لا محالة مراد بالآية وجب أن يكون مراده للمكان، فاقتضى ذلك أن لا يحل حتى يبلغ
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) صحيح البخاري النكاح (5089) ، صحيح مسلم الحج (1207) ، سنن النسائي مناسك الحج (2768) ، مسند أحمد بن حنبل (6/202) .(45/46)
مكانا غير مكان الإحصار؛ لأنه لو كان موضع الإحصار محلا للهدي لكان بالغا محله بوقوع الإحصار، ولأدى ذلك إلى بطلان الغاية المذكورة في الآية؛ فدل ذلك على أن المراد بالمحل هو الحرم؛ لأن كل من لا يجعل موضع الإحصار محلا للهدي فإنما يجعل المحل الحرم، ومن جعل محل الهدي موضع الإحصار أبطل فائدة الآية وأسقط معناه، ومن جهة أخرى وهو أن قوله تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} (1) إلى قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) ودلالته على صحة قولنا في الحل من وجهين: أحدهما: عمومه في سائر الهدايا، والآخر: ما فيه من بيان معنى المحل الذي أجمل ذكره في قوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (3) فإذا كان الله قد جعل للمحل البيت العتيق، فغير جائز لأحد أن يجعل المحل غيره، ويدل عليه قوله تعالى في جزاء الصيد: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (4) فجعل بلوغ الكعبة من صفات الهدي فلا يجوز شيء منه دون وجوده فيه، كما أنه لما قال في الظهار وفي القتل: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (5) فقيدها بفعل التتابع لم يجز فعلهما إلا على هذا الوجه، وكذلك قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (6) لا يجوز إلا على الصفة المشروطة، وكذلك قال أصحابنا في سائر
__________
(1) سورة الحج الآية 30
(2) سورة الحج الآية 33
(3) سورة البقرة الآية 196
(4) سورة المائدة الآية 95
(5) سورة النساء الآية 92
(6) سورة النساء الآية 92(45/47)
الهدايا التي تذبح أنها لا تجوز إلا في الحرم. ويدل عليه أيضا قوله تعالى في سياق الخطاب بعد ذكر الإحصار: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (1) فأوجب على المحصر دما ونهاه عن الحلق حتى يذبح هديه، فلو كان ذبحه في الحل جائزا لذبح صاحب الأذى هديه عن الإحصار وحل به واستغنى عن فدية الأذى، فدل على أن الحل ليس بمحل الهدي، فإن قيل هذا فيمن لا يجد هدي الإحصار. قيل له لا يجوز أن يكون ذلك خطابا فيمن لا يجد الدم؛ لأنه خيره بين الصيام والصدقة والنسك، ولا يكون مخيرا بين الأشياء الثلاثة إلا وهو واجد لها؛ لأنه لا يجوز التخيير بين ما يجد وبين ما لا يجد، فثبت بذلك أن محل الهدي هو الحرم دون محل الإحصار. ومن جهة النظر لما اتفقوا في جزاء الصيد أن محله الحرم وأنه لا يجزئ في غيره، وجب أن يكون كذلك حكم كل دم تعلق وجوبه بالإحرام، والمعنى الجامع بينهما تعلق وجوبهما بالإحرام، فإن قيل قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (2) وذلك في شأن الحديبية، وفيه دلالة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه نحروا هديهم في غير الحرم لولا ذلك لكان بالغا محله، قيل له هذا من أول شيء على أن محله الحرم؛ لأنه لو كان موضع الإحصار هو الحل محلا للهدي لما قال تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (3) فلما أخبر عن منعهم
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) سورة الفتح الآية 25
(3) سورة الفتح الآية 25(45/48)
الهدي عن بلوغ محله دل ذلك على أن الحل ليس بمحل له، فإن قيل: فإن لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ذبحوا الهدي في الحل فما معنى قوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (1) قيل له: لما حصل أدنى منع جاز أن يقال إنهم منعوا، وليس يقتضي ذلك أن يكون أبدا ممنوعا، ألا ترى أن رجلا لو منع رجلا حقه جاز أن يقال: منعه حقه، كما يقال: حبسه، ولا يقتضي ذلك أن يكون أبدا محبوسا، فلما كان المشركون منعوا الهدي بديا من الوصول إلى الحرم جاز إطلاق الاسم عليهم بأنهم منعوا الهدي عن بلوغ محله وإن أطلقوا، ألا ترى أنه قد وصف المشركين بصد المسلمين عن المسجد الحرام، وإن كانوا قد أطلقوا إليهم بعد ذلك الوصول إليه في العام القابل، وقال الله - عز وجل -: {قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} (2) وإنما منعوه في وقت وأطلقوه في وقت آخر، فكذلك منعوا الهدي بديا ثم لما وقع الصلح بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبينهم أطلقوه حتى ذبحه في الحرم، وقيل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ساق البدن ليذبحها بعد الطواف بالبيت فلما منعوه من ذلك قال الله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (3) لقصوره عن الوقت المقصود فيه ذبحه، ويحتمل أن يريد به المحل المستحب فيه الذبح وهو عند المروة أو بمنى، فلما منع ذلك أطلق ما فيه ما وصفت. وقد ذكر المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم، وأن مضرب النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) سورة الفتح الآية 25
(2) سورة يوسف الآية 63
(3) سورة الفتح الآية 25(45/49)
كان في الحل، ومصلاه كان في الحرم، فإذا أمكنه أن يصلي في الحرم فلا محالة قد كان الذبح ممكنا فيه، وقد روي أن ناجية بن جندب الأسلمي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «ابعث معي الهدي حتى آخذ به في الشعاب والأودية فأذبحها بمكة، ففعل» ، وجائز أن يكون بعث معه بعضه ونحر هو بعضه في الحرم والله أعلم (1) .
__________
(1) الجصاص ج1 ص339 - 341. المتوفى سنة 370هـ.(45/50)
الفقه المالكي
1 - قال مالك في المدونة الكبرى: رسم في الدم ما يصنع به؟
قلت فهذا الدم كيف يصنع به في قول مالك؟ قال: قال مالك: يقلده ويشعره ويقف به في عرفة مع هدي تمتعه فإن لم يقف به بعرفة لمن يجزه إن اشتراه في الحرم إلا أن يخرجه إلى الحل فيسوقه من الحل إلى مكة ويصير منحره بمكة، قلت لابن القاسم: ولم أمره مالك أن يقف بهذا الهدي الذي جعله عليه لتأخير الحلاق بعرفة، وهو إن حلق من أذى لم يأمره بأن يقف بهديه؟ قال: قال مالك: ليس من وجب عليه الهدي لترك الحلاقة مثل من وجب عليه النسك من إماطة الأذى؛ لأن الهدي إذا وجب لترك الحلاقة فإنما هو هدي، وكل ما هو هدي فسبيله سبيل هدي المتمتع والصيام فيه إن لم يجد، ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعده، ذلك ويكون فيه الطعام، وأما نسك الأذى فهو مخير إن شاء أطعم وإن شاء صام وإن شاء نسك والصيام فيه(45/50)
ثلاثة أيام والنسك فيه شاة والطعام فيه لستة مساكين مدين مدين بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا فرق ما بينهما (1) .
2 - فيمن أحصر بمرض ومعه هدي:
قلت: أرأيت من أحصر بمرض معه هدي أينحره قبل يوم النحر أم يؤخره حتى يوم النحر، وهل له أن يبعث به ويقيم هو حراما؟ قال: إن خاف على هديه لطول مرضه بعث به فنحر بمكة وأقام هو على إحرامه. قال: وإن كان لا يخاف الهدي وكان أمرا قريبا حبسه حتى يسوقه معه. قال: وهذا رأيي.
قلت: أرأيت إن فاته الحج متى ينحر هدي فوات الحج في قول مالك. قال: في القضاء من قابل. قلت: فإن بعث به قبل أن يقضي حجه يجزئه، فقال: سألت مالكا عن ذلك فقال: لا يقدم هديه ولا ينحره إلا في حج قابل، قال فقلت له: وإن خاف الموت فلا ينحره إلا في حج قابل، قلت: فإن اعتمر بعد ما فاته حجه فنحر هدي فوات حجه في عمرته هل يجزئه؟ قال: أرى أن يجزئه في رأيي، وإنما رأيت ذلك؛ لأنه لو أهلك قبل أن يحج أهدي عنه لمكان ذلك ولو كان ذلك لا يجزئه إلا بعد القضاء ما أهدي عنه بعد الموت، قال ابن القاسم: وقد بلغني أن مالكا قد كان خففه ثم استثقله بعد، وأنا لا أحب أن يفعل إلا بعد، فإن فعل وحج أجزأ عنه، قلت أرأيت المحصر بمرض إذا أصابه أذى فحلق رأسه
__________
(1) المدونة الكبرى للإمام مالك ج1 ص393.(45/51)
فأراد أن يفتدي، أفينحر هدي الأذى الذي أماطه عنه بموضعه حيث هو أم يؤخر ذلك حتى يأتي مكة في قول مالك؟ قال: قال مالك: ينحره حيث أحب (1) .
3 - رسم في الكفارة بالصيام وفي جزاء الصيد:
قلت: أرأيت جزاء الصيد في قول مالك أن يكون بغير مكة. قال: قال لي مالك: كل من ترك من نسكه شيئا يجب عليه فيه الدم وجزاء الصيد أيضا، فإن ذلك لا ينحر ولا يذبح إلا بمكة أو بمنى، فإن وقف به فعرفة نحر بمنى وإن لم يوقف بعرفة سيق من الحل ونحر بمكة. قلت له: وإن كان قد وقف به بعرفة نحر بمنى وأن لم يوقف بعرفة سيق من الحل ونحر بمكة. قلت له: وإن كان قد وقف به بعرفة ولم ينحره أيام النحر بمنى نحره بمكة، ولا يخرجه إلى الحل ثانية. قال: نعم، قلت: وهذا قول مالك. قال: نعم (2) .
4 - قال في (جواهر الإكليل شرح مختصر خليل) : والجزاء بحكم عدلين فقيهين بذلك مثله من النعم أو إطعام بقيمة الصيد يوم التلف بمحله، وإلا فبقربه ولا يجزئ بغيره.
وذكر في الشرح (بمحله) أي: التلف إن كان له قيمة فيه ووجد به مساكين (وإلا) أي وإن لم يكن له قيمة بمحله أو لم يوجد به مساكين فيقوم أو يطعم (بقربه) أي محل التلف ولا يجزئ الإطعام بغيره أي محل التلف أو قربه مع الإمكان.
__________
(1) المدونة ج1 ص450.
(2) المدونة ج1 ص431.(45/52)
سند جملة ذلك أنه إن أخرج الجزاء هديا اختص بالحرم، أو صياما فحيث شاء أو طعاما اختص بمحل التقويم (1) .
5 - قال ابن رشد في بداية المجتهد: وأما اختلافهم في مكان الهدي عند من أوجبه، فالأصل فيه اختلافهم في موضع نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديه عام الحديبية، فقال ابن إسحاق: نحره في الحرم، وقال غيره: إنما نحره في الحل، واحتج بقوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (2) ، وإنما ذهب أبو حنيفة إلى من أحصر عن الحج أن عليه حجا وعمرة؛ لأن المحصر قد فسخ الحج في عمرة ولم يتم واحدا منهما فهذا هو حكم المحصر بعد، وعند الفقهاء (3) .
وقال في جزاء الصيد: وأما اختلافهم في الموضع فسببه الإطلاق، أعني أنه لم يشترط فيه موضع، فمن شبه بالزكاة في أنه حق للمساكين فقال: لا ينقل من موضعه، وأما من رأى أن المقصود بذلك إنما هو الرفق بمساكين مكة قال: لا يطعم إلا مساكين مكة، ومن اعتمد ظاهر الإطلاق قال: يطعم حيث شاء (4) .
6 - قال ابن عبد البر في الكافي: ولا ينحر الهدي إلا بمنى ومكة، ولا ينحر منه بمنى إلا ما وقف بعرفة، وإن فاته أن يقف بعرفة
__________
(1) جواهر الإكليل شرح مختصر خليل لصالح الأزهري ج1 ص198 - 199.
(2) سورة الفتح الآية 25
(3) بداية المجتهد لابن رشد ج1 ص384 المتوفى سنة 595.
(4) بداية المجتهد لابن رشد ج1 ص389.(45/53)
ساقه من الحل فينحره بمكة بعد خروجه من منى، وإن نحره بمكة في أيام منى أجزأه (1) .
7 - جزاء الصيد والحكم فيه:
وعند اختيار المثل يذبح في منى أو مكة، أما في غيرهما فلا يجزئ؛ لأنه يصير في حكم الهدي، وتصح القيمة طعاما من غالب قوت أهل البلد الذي يخرج فيه، وتعين القيمة والإخراج بمحل التلف ولا تجزئ الدراهم ولا يجزئ أكثر من مد ولا أقل ويعطي لمسكين (2) .
8 - الحكم في الصيد: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} (3) ، قال مالك - رحمه الله -: فالذي يصيد الصيد وهو حلال ثم يقتله وهو محرم بمنزلة الذي يبتاعه وهو محرم ثم يقتله، وقد نهى الله عن قتله فعليه جزاؤه، والأمر عندنا أن من أصاب الصيد وهو محرم حكم عليه بالجزاء. قال مالك: أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه أن يقوم الصيد الذي أصاب، فينظر كم ثمنه من الطعام، فيطعم كل مسكين مدا، أو يصوم مكان كل مد يوما، وينظر كم عدة المساكين فإن كانوا عشرة صام عشرة أيام، وإن كانوا عشرين مسكينا صام عشرين
__________
(1) الكافي لابن عبد البر ص404 ج1 المتوفى سنة 463.
(2) مرشد السالك في القرب من ملك الممالك لعبد الوهاب السيد رضوان ص130 - 131.
(3) سورة المائدة الآية 95(45/54)
يوما عددهم ما كانوا، وإن كانوا أكثر من ستين مسكينا. قال مالك: سمعت أنه يحكم على من قتل الصيد في الحرم وهو حلال، بمثل ما يحكم به على المحرم الذي يقتل الصيد في الحرم وهو محرم (1) .
9 - ما جاء فيمن أحصر بعدو:
حدثني يحيى عن مالك، قال: من حبس بعدو، فحال بينه وبين البيت، فإنه يحل من كل شيء وينحر هديه، ويحلق رأسه حيث حبس، وليس عليه قضاء.
وحدثني عن مالك أنه بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حل هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي، وحلقوا رءوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي ثم لم يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أحدا من أصحابه، ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا يعودوا لشيء.
وحدثني عن مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه قال حين خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة: إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهل بعمرة من أجل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل بعمرة عام الحديبية. ثم إن عبد الله نظر في أمره فقال: ما أمرهما إلا واحد، ثم التفت إلى أصحابه فقال: ما أمرهما إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة، ثم نفذ حتى جاء البيت فطاف طوافا واحدا، ورأى ذلك مجزيا
__________
(1) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ج1 والكتابة من الموطأ ص326 - 327 لجلال الدين السيوطي(45/55)
عنه وأهدى قال مالك: فهذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو. كما أحصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فأما من أحصر بغير عدو فإنه لا يحل دون البيت (1) .
10 - قال الله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (2)
قال الإمام القرطبي - رحمه الله - في تفسيره عن هذه الآية: الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة، أي لا تتحلوا من الإحرام حتى ينحر الهدي، والمحل: الموضع الذي يحل فيه ذبحه. فالمحل في حصر العدو عند مالك والشافعي موضع الحصر اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية قال الله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (3) قيل: محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق.
وعند أبي حنيفة محل الهدي في الإحصار الحرم لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (4) وأجيب عن هذا بأن المخاطب به الآمن الذي يجد الوصول إلى البيت، فأما المحصر فخارج من قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (5) بدليل نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هديهم بالحديبية، وليست من الحرم، واحتجوا من السنة بحديث ناجية بن جندب صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - «ابعث معي الهدي فأنحره بالحرم قال: فكيف تصنع به؟ فقال: أخرجه في الأودية لا يقدرون عليه فأنطلق به حتى أنحره في الحرم» ، وأجيب بأن هذا لا يصح، وإنما ينحر
__________
(1) تنوير الحوالك شرح الموطأ والكتابة من نص الموطأ ص329 - 330 ج1.
(2) سورة البقرة الآية 196
(3) سورة الفتح الآية 25
(4) سورة الحج الآية 33
(5) سورة الحج الآية 33(45/56)
حيث حل؛ اقتداء بفعله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية وهو الصحيح الذي رواه الأئمة ولأن الهدي تابع للمهدي والمهدي حل بموضعه فالمهدي أيضا يحل معه (1) .
__________
(1) القرطبي ص379 المتوفى سنة 671.(45/57)
الفقه الشافعي
1 - قال الشافعي في الأم: وحيثما نحره من منى أو مكة إذا أعطاه مساكين الحرم أجزأه وقال: (ولو أن رجلا نحر هديه فمنع المساكين دفعه إليهم أو نحره بناحية ولم يخل بين المساكين وبينه حتى ينتن كان عليه أن يبدله، والنحر يوم النحر وأيام منى كلها حتى تغيب الشمس من آخر أيامها، فإذا غابت الشمس فلا نحر إلا إن كان عليه هدي واجب نحره وأعطاه مساكين الحرم قضاء) انتهى.
وقال: (وفي أي الحرم ذبحه ثم أبلغه مساكين الحرم أجزأه وإن كان ذبحه إياه في غير موضع ناس. .) .
وقال: (ومتى أصابه أذى وهو يرجو أن يخلي، نحاه عنه وافتدى في موضعه كما يفتدي المحصر إذا خلي عنه في غير الحرم، وكان مخالفا لما سواه لمن قدر على الحرم، ذلك لا يجزيه إلا أن يبلغ هديه الحرم) .
وقال في الإحصار بالمرض وغيره: (وإن احتاج إلى دواء عليه فيه فدية أو تنحية أذى، فعله وافتدى، ويفتدي في الحرم بأن يفعله ويبعث بهدي إلى الحرم) (1) .
__________
(1) الأم للشافعي - رحمه الله - ج2 ص184 - 185.(45/57)
2 - (باب أين محل هدي الصيد) قال الشافعي - رحمه الله -: قال تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (1) قال الشافعي: (فلما كان كلما أريد به هدي من ملك ابن آدم هديا كانت الأنعام كلها وكل ما أهدي فهو بمكة - والله أعلم - ولو خفي عن أحد أن هذا هكذا ما انبغى - والله أعلم - أن يخفى عليه إذا كان الصيد إذا جزي بشيء من النعم لا يجزئ فيه، إلا أن يجري بمكة، فعلم أن مكة أعظم أرض الله تعالى حرمة وأولى أن تنزه عن الدماء لولا ما عقلنا من حكم الله في أنه للمساكين الحاضرين بمكة فإذا عقلنا هذا عن الله - عز وجل - فكان جزاء الصيد الطعام لم يجز - والله أعلم - إلا بمكة.
فلو أطعم في كفارة صيد بغير مكة لم يجز عنه، وأعاد الإطعام بمكة أو بمنى فهو من مكة لأنه كحاضر الحرم، ومثل هذا كل ما وجب على محرم بوجه من الوجوه من فدية أذى أو طيب أو لبس أو غيره، لا يخالفه في شيء لأنه كله من جهة النسك، والنسك إلى الحرم ومنافعه للمساكين الحاضرين الحرم.
وقال: (ومن حضر الكعبة حين يبلغها الهدي من النعم أو الطعام من مسكين كان له أهل بها أو غريب؛ لأنهم إنما أعطوا بحضرتها وإن قل، فكان يعطي بعضهم دون بعض، أجزأه أن يعطي مساكين الغرباء دون أهل مكة، ومساكين أهل مكة دون مساكين الغرباء، وأن يخلط بينهم ولو آثر به أهل مكة لأنهم يجمعون الحضور والمقام لكان كأنه أسرى إلى القلب والله أعلم (2) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 95
(2) الأم ص 157 للشافعي.(45/58)
3 - قال المصنف - رحمه الله - تعالى:
(إذا وجب على المحرم دم لأجل الإحرام كدم التمتع والقران، ودم الطيب وجزاء الصيد وجب عليه صرفه لمساكين الحرم لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (1) فإن ذبحه في الحل وأدخله الحرم، نظرت، فإن تغير وأنتن لم يجزئه؛ لأن المستحق لحم كامل غير متغير فلا يجزئه المنتن والمتغير، وإن لم يتغير ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجزئ لأن الذبح أمر مقصود به الهدي فاختص بالحرم كالتفرقة.
الثاني: يجزئه لأن المقصود هو اللحم وقد أوصل ذلك إليهم، وإن وجب عليه طعام لزمه صرفه إلى مساكين الحرم قياسا على الهدي، وإن وجب عليه صوم جاز أن يصوم في كل مكان؛ لأنه لا منفعة لأهل الحرم في الصيام. وإن وجب عليه هدي وأحصر عن الحرم جاز له أن يذبح ويفرق حيث أحصر، لما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج معتمرا فحالت كفار قريش بينه وبين البيت، فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية، وبين الحديبية وبين الحرم ثلاثة أميال؛ ولأنه إذا جاز أن يتحلل في غير موضع التحلل لأجل الإحصار جاز أن ينحر الهدي في غير موضع الهدي، فكما قال الأصحاب: الدماء الواجبة في الحج لها زمان ومكان.
وأما المكان فالدماء الواجبة على المحرم ضربان: واجب على المحصر بالإحصار، أو بفعل محظور أو الضرب واجب على غير المحصر، فيختص بالحرم، ويجب تفريقه على مساكين
__________
(1) سورة المائدة الآية 95(45/59)
الحرم سواء الغرباء الطارئون والمستوطنون، لكن الصرف إلى المستوطنين أفضل، وله أن يخص به أحد الصنفين، نص عليه الشافعي واتفقوا عليه، وفي اختصاص ذبحه بالحرم خلاف، حكاه المصنف وآخرون وجهين، وحكاه آخرون قولين (أصحهما) يختص، فلو ذبحه في طرف الحل ونقله في الحال طريا إلى الحرم لم يجزئه، والثاني: لا يختص، فيجوز ذبحه خارج الحرم بشرط أن ينقله ويفرقه في الحرم قبل تغير اللحم، وسواء في هذا كله دم التمتع والقران وسائر ما يجب بسبب في الحل أو الحرم، أو بسبب مباح كالحلق للأذى، أو بسبب محرم. وهذا هو الصحيح.
وفي القديم قول أن ما أنشئ سببه في الحل يجوز ذبحه وتفرقته في الحل قياسا على دم الإحصار، وممن حكى هذا القول وفي وجه ضعيف: أن ما وجب بسبب مباح لا يختص ذبحه وتفرقته بالحرم. وفيه وجه أنه لو حلق قبل وصوله الحرم وذبح وفرق حيث حلق جاز وكل هذا شاذ ضعيف والمذهب ما سبق.
قال الشافعي والأصحاب: يجوز الذبح في بقاع الحرم قريبها وبعيدها لكن الأفضل في حق الحاج الذبح بمنى وفي حق المعتمر المروة؛ لأنهما محل تحللهما وكذا حكم ما يسوقانه من(45/60)
الهدي (1) .
4 - قال القاضي حسين في الفتاوى لو لم يجد في الحرم مسكينا لم يجز نقل الدم إلى موضع آخر سواء جوزنا نقل الزكاة أم لا لأنه وجب لمساكين الحرم، كمن نذر الصدقة على مساكين بلد فلم يجد فيه مساكين، يصبر حتى يجدهم، ولا يجوز نقله بخلاف الزكاة على أحد القولين؛ لأنه ليس فيها نص صريح بتخصيص البلد لها بخلاف الهدي (2) .
5 - (ويجب صرف لحمه) وجلده وبقية أجزائه من شعره وغيره، فاقتصاره على اللحم؛ لأنه الأصل فيما يقصد منه فهو مثال لا قيد (إلى مساكينه) أي: الحرم وفقرائه القاطنين منه والغرباء والصرف إلى الأول أولى إلا أن تشتد حاجة الثاني فيكون أولى، وعلم من كلامه عدم جواز أكله شيئا منه، وبه صرح الرافعي في كتاب الأضحية وأنه لا فرق بين أن يفرق المذبوح عليهم أو يعطيه بجملته لهم وبه صرح الرافعي أيضا في الكلام على تحريم الصيد ويكفي الاقتصار على ثلاثة من فقرائه أو مساكينه وإن انحصروا؛ لأن الثلاثة أقل الجمع، فلو دفع إلى اثنين مع قدرته على ثالث ضمن له أقل متمول كنظيره من الزكاة، وإنما لم يجب استيعابهم عند الانحصار كما في الزكاة؛ لأن المقصود هنا حرمة البلد ثم سد الخلة وتجب النية عند التفرقة، كما قاله الروياني وغيره، ويؤخذ من التشبيه بالزكاة الاكتفاء بالمتقدمة عليها واقتصاره فيما
__________
(1) المجموع شرح المهذب ص411 - 413 ج 7.
(2) المجموع شرح المهذب ص 413 ج 7.(45/61)
مر على الدم الواجب بفعل حرام أوترك واجب مثال إذ دم التمتع والقرآن كذلك. ودفع الطعام لمساكين الحرم لا يتعين لكل منهم مد في دم التمتع ونحوه مما ليس دمه دم تخيير وتقدير، أما دم الاستمتاعات ونحوها مما دمه دم تخيير وتقدير، فلكل واحد من ستة مساكين نصف صاع من ثلاثة آصع كما مر، ولو ذبح الدم الواجب بالحرم ثم سرق أو غصب منه قبل التفرقة لم يجزئه. نعم هو مخير بين ذبح آخر وهو أولى، أو شراء بدله لحما والتصدق به؛ لأن الذبح قد وجد، وإنما لم يتقيد ذلك بما لو قصر في التفرقة وإلا فلا يضمن، كما لو سرق المال المتعلق به الزكاة؛ لأن الدم متعلق بالذمة والزكاة بعين المال، ولو عدم المساكين في الحرم أخر الواجب المالي حتى يجدهم وامتنع النقل، بخلاف الزكاة حيث جاز النقل فيها إلا أنه ليس فيها نص صريح بتخصيص البلد بها، بخلاف هذا وقوله: (إلي مساكينه) عبارة العباب: ويجب تفريق لحوم وجلود هذه الدماء وبدلها من الطعام على المساكين في الحرم، قال الشارح في شرحه: وقضيته أنه لا يجوز إعطاؤهم خارجه، والأوجه خلافه كما مر، تعليل الكفاية وغيرها؛ ذلك بأن القصد من الذبح هو إعظام الحرم بتفرقة اللحم فيه لا لتلويثه بالدم والفرث إذ هو مكروه. ا. هـ. ويجاب بأن المراد بتفرقة اللحم فيه صرفه لأهله وخالفهم - ر فصمم على أنه لا يجوز صرفه خارجه ولا لمن هو فيه بأن خرج هو وهم عنه ثم فرقه عليهم خارجه ثم دخلوه. ا. هـ. سم على حج. وقضية قول المصنف صرف لحمه إلى مساكينه أن المدار على صرفه لهم(45/62)
ولو في غير الحرم، لكن قول الشارح الآتي قبيل الباب، وكل هذه الدماء وبدلها تختص تفرقته بالحرم على مساكينه يوافق ما نقله - سم - عنه وصمم عليه (1) .
__________
(1) نهاية المحتاج ج 3 ص 437.(45/63)
الفقه الحنبلي
قال ابن قدامة في المغني:
1 - وإذا نحر الهدي فرقه على المساكين من أهل الحرم، وهو من كان في الحرم، فإن أطلقها لهم جاز كما روى أنس: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر خمس بدنات ثم قال: من شاء فليقتطع» رواه أبو داود. وإن قسمها فهو أحسن وأفضل ولا يعطي الجازر بأجرته شيئا منها، لما روي عن علي - رضي الله عنه - قال: «أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه وأن أقسم بدنه كلها جلودها وجلالها وأن لا أعطي الجازر منها شيئا، وقال: نحن نعطيه من عندنا (1) » . متفق على معناه، ولأنه بقسمها يكون على يقين من إفضائها إلى مستحقها، ويكفي المساكين مئونة النهب والزحام عليها، وإنما لم يعط الجازر أجرته منها؛ لأنه ذبحها فعوضه عليه، دون المساكين ولأن دفع جزء منها عوضا عن الجزارة كبيعه ولا يجوز بيع شيء منها (2) .
2 - قال ابن قدامة في المقنع: وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم إذا قدر على إيصاله إليهم إلا فدية الأذى واللبس ونحوها إذا وجد سببها في الحل فيفرقها حيث وجد سببها، ودم الإحصار
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1717) ، صحيح مسلم الحج (1317) ، سنن أبو داود المناسك (1769) ، سنن ابن ماجه المناسك (3099) ، مسند أحمد بن حنبل (1/154) ، سنن الدارمي المناسك (1940) .
(2) المغني ج 3 ص 433.(45/63)
يخرجه حيث أحصر.
3 - وقال في الحاشية على قوله: (إلا فدية الأذى) أي؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر كعبا بها بالحديبية وهي من الحل، واشتكى الحسين بن علي - رضي الله عنهما - رأسه فحلقه علي ونحر عنه جزورا بالسقيا، رواه مالك، ووقت ذبحه حين فعله وله الذبح قبل العذر.
4 - وعلى قوله: (ودم الإحصار) أي من حل أو إحرام نص عليه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما أحصر هو وأصحابه بالحديبية نحروا هديهم وحلوا لكن إذا كان قادرا على أطراف الحرم فوجهان، وعنه ليس للمحصر نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه إلى الحرم ويواطئ رجلا على نحره في وقت تحلله، روي عن ابن مسعود (1) .
5 - قال شيخ الإسلام: وكما أن المعتمر في أشهر الحج إذا أراد أن يحج في عامه مخير بين أن ينشئ للحج سفرا وبين أن يتركه لهدي التمتع، فهو مخير في إكمال الحج بالسفر أو بالهدي، ولهذا قلنا: ليس جبرانا؛ لأن دم الجبران لا يخير في سببه كترك الواجبات، وإنما هو هدي واجب، كأنه مخير بين العبادة البدنية المحضة والبدنية المالية وهو الهدي، ولكن قد يقال إذا كان واجبا فلا يؤكل منه بخلاف التطوع، قلنا: هدي النذر أيضا فيه خلاف، وما وجب معينا يأكل منه باتفاق؛ لأن نفس الذابح لله مهديا إلى بيته أعظم المقصودين؛ ولهذا اختلف العلماء في وجوب تفرقته في الحرم، وإن كنا نحن نوجب ذلك فيما هو
__________
(1) 1 / 1 \ المقنع \ ط \ 436 \ حاشية ابن الشيخ.(45/64)
هدي دون ما هو نسك ليظهر تحقيقه بتسميته هديا وهو الإهداء إلى الكعبة (1) .
6 - وكل هدي أو إطعام يتعلق بحرم أو إحرام: كجزاء صيد، وما وجب لترك واجب، أو فوات، أو بفعل محظور في الحرم، وهدي تمتع وقران ومنذور ونحوهما، يلزم ذبحه في الحرم، وتفرقة لحمه فيه، أو إطلاقه بعد ذبحه لمساكينه من المسلمين إن قدر على إيصاله إليهم بنفسه، أو بمن يرسله معه، وهم: من كان به، أو واردا إليه من حاج وغيره ممن له أخذ زكاة لحاجة، فإن دفع إلى فقير في ظنه فبان غنيا أجزأه، ويجزئ نحره في أي نواحي الحرم كان، قال أحمد: مكة ومنى واحد، ومراده: في الإجزاء لا في التساوي، ومنى كلها منحر، والأفضل أن ينحر في الحج بمنى وفي العمرة بالمروة، وإن سلمه إليهم فنحروه أجزأه، وإلا استرده ونحره، فإن أبى وعجز ضمنه، فإن لم يقدر على إيصاله إليهم جاز نحره في غير الحرم وتفرقته هو والطعام حيث نحره، وفدية الأذى واللبس ونحوهما كطيب، ودم المباشرة دون الفرج إذا لم ينزل، وما وجب بفعل محظور خارج الحرم ولو لغير عذر فله تفرقتها حيث وجد سببها، وفي الحرم أيضا ووقت ذبح فدية الأذى واللبس ونحوهما وما ألحق به حين فعله وله الذبح قبله لعذر، وكذلك ما وجب لترك واجب ولو أمسك صيدا أو جرحه ثم أخرج جزاءه ثم تلف المجروح أو الممسك أو قدم من أبيح له الحلق فديته قبل الحلق ثم حلق أجزأ، ودم الإحصار
__________
(1) الفتاوى لشيخ الإسلام ج 35 ص 321، 322.(45/65)
يخرجه حيث أحصر، وأما الصيام والحلق وهدي التطوع وما يسمى نسكا فيجزئه بكل مكان كأضحيته (1) .
7 - قال ابن هبيرة: اختلفوا في الدماء المتعلقة بالإحرام بم يختص تفريقها، فقال أبو حنيفة: الذبح كله يتعلق بالحرم ولا يختص تفريقه بأهله، وقال مالك: ما كان من فدية الأذى وفدية لبس المخيط فإنه نسك ينحره حيث شاء، ما عدا ذلك فإنه هدي ينحره ويختص بأهل الحرم، وقال الشافعي: الدماء المتعلقة بالإحرام تفرقتها بالحرم إلا دم الإحصار، وقال أحمد مثله وزاد عليه في الاستثناء دم الحلق (2) . هذا ما تيسر ذكره من النقول. .
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الإقناع ج 1 ص 372.
(2) الإفصاح لابن هبيرة 291.(45/66)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(45/67)
فتوى رقم 1979
سؤال: إني سمعت من علماء الإسلام أن الميت يصير حيا في القبر، ويجيب على سؤال الملائكة، ويعذب إذا بان منه الكفر وعدم الاستقامة في الإسلام في الحياة الدنيا، وإني كمسلم بمبادئ الإسلام لم أجد في القرآن الكريم برهانا صريحا يدل على سؤال صاحب القبر وعقابه، ويقول تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (1) {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (2) {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (3) {وَادْخُلِي جَنَّتِي} (4) حسب فهمي الضعيف أن النفس ترجع إلى ربها بعد خروجها من الجسد، ولم أفهم أن النفس تكون مع جسدها في القبر منعمة. وأيضا يقول الله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (5) إلخ، وأفهم من هذه الآية أيضا أن الإماتة مرتان وقت النطفة، ووقت خروج النفس من الجسد، كما أفهم أن الإحياء مرتان الحياة في بطن الأم ووقت البعث، ولم أفهم من الآية إشارة تدل على سؤال القبر وعذابه، يقول تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} (6) إلخ، وهذا يدل على أن الكفار نائمون والنوم في القبر ينافي العقاب فيه. وبالنهاية أرجو يا صاحب الفضيلة أن أجد منكم جوابا شافيا لظمئي كما كانت إجاباتكم الدينية دائما؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: أولا: أدلة الأحكام الشرعية كما تكون من القرآن تكون
__________
(1) سورة الفجر الآية 27
(2) سورة الفجر الآية 28
(3) سورة الفجر الآية 29
(4) سورة الفجر الآية 30
(5) سورة غافر الآية 11
(6) سورة يس الآية 52(45/68)
من السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولا أو فعلا أو تقريرا؛ لعموم أمره تعالى بأخذ ما جاءنا به من نصوص الكتاب والسنة، لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى إنما يشرع لنا بوحي من الله تعالى كما قال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (2) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3) {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (4) الآيات، ولأن اتباعه فيما جاء به عموما دليل على الإيمان بالله ومحبته سبحانه، ويترتب عليه محبة الله ومغفرته لمن اتبعه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) ، ولأمره تعالى بطاعته - صلى الله عليه وسلم - وحكمه بأن طاعته طاعة لله، قال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (6) ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (7) ، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (8) .
إلى غير ذلك من آيات القرآن التي أمرت بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه وأخذ ما ثبت عنه والعمل به، فالسنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - حجة
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة النجم الآية 3
(3) سورة النجم الآية 4
(4) سورة النجم الآية 5
(5) سورة آل عمران الآية 31
(6) سورة آل عمران الآية 32
(7) سورة النساء الآية 59
(8) سورة النساء الآية 80(45/69)
تثبت بها الأحكام عقيدة وعملا. كما أن القرآن حجة تثبت به الأحكام صراحة واستنباطا على مقتضى قواعد اللغة العربية وطريقة العرب في فهمهم للغتهم.
ثانيا: عذاب الكافرين في قبورهم ممكن عقلا وقد دل القرآن على وقوعه، من ذلك قوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} (1) {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (2) فهذا بيان واضح في إثبات العذاب في القبر بالنار؛ لأنه لا غدو ولا عشي يوم القيامة، ولقوله في ختام الآية: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (3) فإنما يدل على عذاب أدنى قبل قيام الساعة وهو عرضهم على النار. وما هو إلا عذاب القبر، وفرعون وآله ومن سواهم من الكافرين سواء في حكم الله وعدله في الجزاء، ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} (4) {يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (5) {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (6) فإنه يدل على تعذيب الكافرين عذابا أدنى قبل قيام الساعة وهو عام لما يصيبهم الله تعالى به في الدنيا وما يعذبهم به في قبورهم قبل أن يبعثوا منها إلى العذاب الأكبر، وثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستعيذ في صلاته من عذاب القبر ويأمر أصحابه بذلك، وثبت أنه بعد أن صلى صلاة كسوف الشمس وخطب الناس أمرهم أن
__________
(1) سورة غافر الآية 45
(2) سورة غافر الآية 46
(3) سورة غافر الآية 46
(4) سورة الطور الآية 45
(5) سورة الطور الآية 46
(6) سورة الطور الآية 47(45/70)
يستعيذوا بالله من عذاب القبر (1) ، واستعاذ بالله من عذاب القبر ثلاث مرات في بقيع الغرقد حينما كان يلحد لميت من أصحابه، ولو لم يكن عذاب القبر ثابتا لم يستعذ بالله منه ولا أمر أصحابه.
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (2) يدخل فيه تثبيت المؤمن وخذلان الكافر عند سؤال كل منهما في قبره، وأن المؤمن يوفق في الإجابة وينعم في قبره، وأن الكافر يخذل ويتردد في الإجابة ويعذب في قبره، وسيجيء ذلك في حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - قريبا. ومن أدلة عذاب القبر أيضا ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة فدعا بجريدة رطبة فشقها نصفين، وغرز على كل قبر واحدة وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا (3) » .
وقد تواترت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثبوت سؤال الميت في قبره وثبوت نعيمه فيه أو عذابه حسب عقيدته وعمله بما لا يدع مجالا للشك في ذلك، ولم يعرف عن الصحابة رضي الله
__________
(1) البخاري برقم 1049 و 1055 و 1272 و 6266، ومسلم برقم 903، والبيهقي في إثبات عذاب القبر 177 و 178.
(2) سورة إبراهيم الآية 27
(3) أحمد 2 \ 441، والبخاري برقم 1361 و 1378، ومسلم برقم 292، والبيهقي في إثبات عذاب القبر برقم 117 و 118 و 119 و 122 و 125 و 127 و 222، وابن أبي شيبة في المصنف 1 \ 112.(45/71)
عنهم في ثبوت ذلك خلاف، ولذا قال بثبوته أهل السنة والجماعة، ومما ورد في ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه والحاكم وأبو عوانة الاسفراييني في صحيحهما عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: «كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقعد وقعدنا حوله كأن على رءوسنا الطير وهو يلحد له، فقال: أعوذ بالله من عذاب القبر ثلاث مرات، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه الملائكة كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: يا أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون بها - يعني على ملأ من الملائكة- إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله، فيقول الله - عز وجل -: (اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى) قال: فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له ما(45/72)
علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وافتحوا له بابا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح فيقول: يا رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:، فيقول الله - عز وجل -: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا، ثم قرأ:، فتعاد في
__________
(1) أحمد 4 \ 287 و 288 و 295 و 297 و 296، ومسلم برقم 2871، وأبو داود برقم 4753، والحاكم في المستدرك 1 \ 37، والطيالسي في المسند برقم 753، وابن أبي شيبة في المصنف 3 \ 374، والبيهقي في إثبات عذاب القبر برقم 20 و 1 و 2، وهناد بن السري وعبد ابن حميد وابن مردويه كما في الدر المنثور 3 \ 453، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد رجال أحمد رجال الصحيح، وابن ماجه في السنن برقم 4269.
(2) سورة الأعراف الآية 40 (1) {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}(45/73)
جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه، هاه: لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب فافرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار. فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة (1) » . ا. هـ (2) .
ثالثا: ليس بمحال في العقول أن تسأل الملائكة الأموات في قبورهم، وأن يجيبهم الأموات أو يخذلوا جزاء وفاقا بما قدموا، وليس ببعيد في عظيم قدرة الله تعالى وعجائب سننه الكونية أن ينعم المؤمنون في قبورهم ويعذب الكافرون فيها، فإن من أمعن النظر في الكون وضح له عموم مشيئة الله ونفاذها وشمول قدرته تعالى وكمالها وإحكام خلقه ودقة تدبيره وإبداعه لما صوره، وسهل عليه اعتقاد ما وردت به النصوص الصحيحة في سؤال المقبورين ونعيمهم أو عذابهم، وقد ثبت فيها أن الله تعالى يعيد الروح إلى من مات بعد دفنه إعادة تجعله حيا حياة برزخية وسطا بين حياته
__________
(1) سورة الحج الآية 31 (2) {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}
(2) شرح الطحاوية 447 وما بعدها طبعة المكتب الإسلامي.(45/74)
في دنياه وحياته بعد أن يبعثه الله يوم القيامة، وهذه الحياة الوسط بين الحياتين تؤهله لسماع السؤال والإجابة عنه إذا وفق، وتجعله يحس بالنعيم أو العذاب، وقد تقدمت الأحاديث في ذلك ولله في تدبيره وخلقه شئون لا تحيط بها العقول لقصورها ولا تحيلها بل تحكم بإمكانها وإن كانت تحار في تعليلها، وتعجز عن الوقوف على كنهها وحقيقتها وعن معرفة مداها وغاياتها، فعلى الإنسان إذا عجز عن شيء وخفي عليه أمره أن يتهم نفسه بالقصور ولا يتهم ربه في علمه وحكمته وقدرته.
وما ذكر في السؤال من الآيات لا يتنافى مع سؤال الميت في القبر ونعيمه أو عذابه، أما قوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (1) {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} (2) {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (3) {وَادْخُلِي جَنَّتِي} (4) فإنه خطاب للنفس عند قيام الساعة لا عند خروجها من البدن في الدنيا بدليل ما سبق من قوله تعالى في نفس السورة: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} (5) {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (6) {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} (7) الآيات إلى قوله تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (8) وسؤال القبر ونعيمه أو عذابه إنما يكون بعد أن يدفن الميت وقبل أن يبعث يوم القيامة.
أما قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} (9) فإخبار من الله تعالى عن قول الكافرين وهم في النار
__________
(1) سورة الفجر الآية 27
(2) سورة الفجر الآية 28
(3) سورة الفجر الآية 29
(4) سورة الفجر الآية 30
(5) سورة الفجر الآية 21
(6) سورة الفجر الآية 22
(7) سورة الفجر الآية 23
(8) سورة الفجر الآية 27
(9) سورة غافر الآية 11(45/75)
يوم القيامة أنهم كانوا أمواتا قبل نفخ الروح فيهم وهم في الأرحام، ثم كانوا أحياء بتقدير الله بنفخ الروح فيها إلى انتهاء آجالهم في الدنيا، ثم صاروا أمواتا من حين انتهاء آجالهم إلى النفخ في الصور نفخة البعث بتقدير الله، ثم أحياهم الله يوم البعث والنشور فجرى عليهم الموت مرتين والحياة مرتين، وليس موتهم وهم في القبور يمانع من سؤالهم وجوابهم ولا من نعيمهم أو عذابهم؛ لأن الله يعيد إليهم أرواحهم نوع إعادة يتمكنون بها من سماع الأسئلة والإجابة عنها والإحساس بالنعيم أو العذاب كما تقدم تفصيله ودليله في حديث البراء، وليست هذه الحياة إحدى الحياتين المذكورتين في الآية بل هي حياة خاصة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله. وأما قوله تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} (1) فالمراد بمراقدهم مقابرهم التي كانوا فيها وهم أموات لا نيام، وموتهم لا يمنع من سماعهم سؤال الملائكة، ولا ينافي إحساسهم بالنعيم أو العذاب حسب عقائدهم وأعمالهم، لما تقدم في حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -، وليس بلازم أن ينص على سؤال الميت في القبر ونعيمه أو عذابه في كل موضع بل يكفي ذلك في بعض الآيات أو الأحاديث الصحيحة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة يس الآية 52(45/76)
من الفتوى رقم 6498.
السؤال الخامس: ما الحكم في أخذ جوائز في مسابقة لحفظ القرآن، وهل يجوز إقامة مسابقة للنساء في حفظ القرآن ويقمن بالتسميع للجنة تحكيم من الرجال، أم هذا الأمر بدعة ومثار فتنة، وهل أصلا يجوز إقامة مسابقة في هذا المجال؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: أ - لا حرج في ذلك ولا فرق بين الرجال والنساء في هذا الأمر.
ب - لا حرج، وعليها أن لا تخضع في القول؛ لقوله سبحانه وتعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (1) . وأن تكون محجبة التحجب الشرعي ولا يكون في ذلك خلوة بأجنبي. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 32(45/77)
من الفتوى رقم 189.
السؤال الخامس: حافظ القرآن يصلي بالناس أو يقرأ للميت بأجرة يستوفيها قبل القراءة فهل يجوز ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:(45/77)
الجواب: تلاوة القرآن من أفضل العبادات، والأصل في العبادات أن تكون خالصة لوجه الله لا يقصد بها سواه من دنيا يصيبها أو وجاهة يحظى بها، إنما يرجو بها الله ويخشى عذابه، قال الله تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (1) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (2) ، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) ، وفي الحديث عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (4) » رواه البخاري ومسلم، فلا يجوز لقارئ القرآن أن يأخذ على قراءته أجرا يستوفيه قبل القراءة أو بعدها، سواء أكانت هذه القراءة في الصلاة أم كانت على الميت، ولذا لم يرخص أحد من العلماء في الاستئجار على تلاوة القرآن، وليس من هذا أخذ أئمة المساجد والمؤذنين أجرا من بيت مال المسلمين، فإنه ليس على التلاوة ولا على نفس الصلاة. إنما يأخذه مقابل تفرغه عن شغله الخاص بواجب كفائي عن المسلمين، ونظيره أخذ خليفة المسلمين من بيت المال لاشتغاله بواجب أعمال الخلافة الإسلامية عن عمله الخاص الذي يكسب منه لنفسه، وكان عمر - رضي الله عنه - يعطي المجاهدين، ومن لهم قدم صدق في الإسلام من بيت المال كل على قدر سابقته، وما قدمه لجماعة المسلمين من نفع عميم، وآكد من هذا أن الله جعل للعاملين على الزكاة الجابين
__________
(1) سورة الزمر الآية 2
(2) سورة الزمر الآية 3
(3) سورة البينة الآية 5
(4) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(45/78)
لها نصيبهم في الزكاة، ولو كانوا أغنياء لقيامهم بواجب إسلامي للجماعة غنيهم وفقيرهم واشتغالهم بهذا مدة عن الكسب لأنفسهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/79)
من الفتوى رقم 4160
السؤال الأول: ما حكم أجرة المدرسين الذين يعلمون الناس كتاب الله؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: حكم أجرة المدرسين الذين يعلمون الناس كتاب الله ليس فيها شيء، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5737) .(45/79)
من الفتوى رقم 4264
السؤال الأول: هل يجوز أن يتعلم الرجل القرآن على يد شيخ نظير أجر معين يأخذه هذا الشيخ، مع العلم بأن الشيخ إن لم يأخذ هذا المال لن يعلمه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:(45/79)
الجواب: نعم يجوز أخذ الأجر على تعليم القرآن في أصح قولي العلماء، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله (1) » رواه البخاري، ولمسيس الحاجة إلى ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5737) .(45/80)
من الفتوى رقم 8862
السؤال الثالث: ما هو تفسير الحديث النبوي «اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به (1) » وهل يجوز أخذ أجرة على قراءة القرآن الكريم كما يفعل بعض القراء في مصر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بتلاوة القرآن وتدبره، ذكرا لله وعبادة له رجاء ثوابه وخوف عقابه وفهما لأحكامه والعمل بها والاتعاظ بمواعظه، ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن أخذ الأجرة على قراءته والتأكل به.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/428) .(45/80)
من الفتوى رقم 1268
السؤال الأول: نصه: إن حملة القرآن عندنا في المغرب يقرءونه من أجل التكسب على ما يظهر، وكلما أعدت لهم وليمة يأتون ويقرءونه من غير تمعن في ألفاظه واحترام لتلاوته، لعدم التجويد، وهناك عندما يقرأ قارئ تراهم أي الآخرين كل منهم يهمس في أذن صاحبه ويتكلمون في أمور خارج الموضوع، وهناك بعض القراءة التي يستعملونها يقال لها " تحزانت " عندنا، أي: يحدثون اعوجاجات في ألفاظه ويحدثون صداعا لا تكاد الأذن تحتمله عندما يريدون الوقوف عند فاصل أو غيره، ومما يظهر عليهم أيضا أنهم قد حفظوا القرآن لكن مع الأسف الشديد لا يفقهونه ولا يرشدونك ولا يعطونك أي دليل للإرشاد إلا أنهم استغنوا بحفظه فقط.
هذا فقلت إن أول ما يظهر عليهم أثناء حضورهم في هذه الوليمة هو التماس الأجرة وجمع الصدقات من الناس ليتبركوا بهم ثم يأخذون في الدعاء لهم ولآبائهم المتوفين، ثم الدعاء للمتصدق عليهم بالنجاح والعون وغير ذلك، وبعد جمعهم لتلك الصدقات يقسمونها بينهم ولا ينال منها أي فقير أو مسكين، فما حكم الشريعة الإسلامية في الصدقات التي يجمعونها ويفرقونها بينهم، وتلك القراءة التي يستعلمونها؟
ولقد عثرت في كتاب على حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من استعمل القرآن من أجل التكسب سيأتي يوم القيامة ووجهه عظم» أي: خال من اللحم، فهل هذا الحديث صحيح أم لا؟ وما معنى الآية الكريمة وهي قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} (1) ؟
__________
(1) سورة ص الآية 86(45/81)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: أولا: تلاوة القرآن عبادة محضة، وقربة يتقرب بها العبد إلى ربه، والأصل فيها وفي أمثاله من العبادات المحضة أن يفعلها المسلم ابتغاء مرضاة الله وطلبا للمثوبة عنده، فلا يبتغي بها المخلوق جزاء ولا شكورا، ولهذا لم يعرف عن السلف الصالح استئجار قوم يقرءون القرآن في حفلات أو ولائم، ولم يؤثر عن أحد من أئمة الدين أنه أمر بذلك أو رخص فيه، ولم يعرف أيضا عن أحد منهم أنه أخذ أجرا على تلاوة القرآن لا في الأفراح ولا في المآتم، بل كانوا يتلون كتاب الله رغبة فيما عنده سبحانه، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من قرأ القرآن أن يسأل الله به، وحذر من سؤال الناس، روى الترمذي في سننه عن عمران بن حصين أنه مر على قاص يقرأ ثم سأل فاسترجع ثم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس (1) » وأما أخذ الأجرة على تعليمه أو الرقية به ونحو ذلك مما نفعه متعد لغير القارئ فقد دلت الأحاديث الصحيحة على جوازه، كحديث أبي سعيد في أخذه قطيعا من الغنم جعلا على شفاء من رقاه بسورة الفاتحة، وحديث سهل في تزويج النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة لرجل بتعليمه إياها ما معه من القرآن، فمن أخذ أجرا على نفس التلاوة، أو استأجر جماعة لتلاوة القرآن فهو مخالف لما أجمع عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم.
ثانيا: القرآن كلام الله تعالى وفضله على كلام الخلق كفضل الله على عباده، وهو خير الأذكار وأفضلها، فينبغي لقارئه أن يكون
__________
(1) سنن الترمذي فضائل القرآن (2917) ، مسند أحمد بن حنبل (4/433) .(45/82)
مؤدبا في تلاوته خاشعا مخلصا قلبه لله، محكما لتلاوته متدبرا لمعانيه حسب قدرته، وألا يتشاغل عنها بغيرها، وألا يتكلف ولا يتقعر فيها، وألا يرفع صوته فوق الحاجة، وينبغي لمن حضر مجلسا يقرأ فيه القرآن أن ينصت ويستمع للقراءة ويتدبر معانيها، فلا يلغو ولا يتشاغل عنها بالحديث مع غيره ولا يشوش على القارئ ولا على الحاضرين، قال الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (1) وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (3) .
ثالثا: الناس متفاوتون في أفهامهم وأفكارهم، وكل مكلف عليه أن يعرف من الدين وأحكام الشريعة بقدر ما آتاه الله من الفهم وسعة الوقت، ليعمل به نفسه ويرشد به غيره، ومن أو ما ينبغي له أن يتفهمه ويلقي إليه باله ويحضر قلبه كتاب الله سبحانه، وما عجز عن فهمه بنفسه استعان فيه بالله، ثم بالعلماء حسب طاقته وقدرته، ثم لا حرج عليه بعد ذلك، فإن الله سبحانه لا يكلف نفسا إلا وسعها، ولا يمنعه من تلاوة القرآن عجزه عن فهمه بعد أن بذل وسعه، ولا يعاب بذلك لما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران (4) » .
رابعا: يجوز للفقير أن يأخذ من الصدقات ما يسد حاجته وحاجة
__________
(1) سورة المزمل الآية 4
(2) سورة الأعراف الآية 204
(3) سورة الأعراف الآية 205
(4) صحيح البخاري تفسير القرآن (4937) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (798) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2904) ، سنن أبو داود الصلاة (1454) ، سنن ابن ماجه الأدب (3779) ، مسند أحمد بن حنبل (6/170) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3368) .(45/83)
من يعول، ويسن له أن يدعو بالخير لمن تصدق عليه، أما أخذ المال على أنه أجرة لتلاوة القرآن، أو لكونه وعظهم وذكرهم، أو إعطاؤه لشخص رجاء بركته، أو جمعه لأشخاص رجاء بركتهم واستجداء لدعائهم فهو غير جائز، ولم يكن ذلك من هدي المسلمين في القرون الثلاثة الأولى التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها خير القرون.
خامسا: معنى قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} (1) أن الله تعالى أمر رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يخبر قومه بأنه لا يطلب منهم أجرا على تبليغهم ما أنزل إليه من ربه ودعوته إياهم إلى التوحيد الخالص وسائر أحكام الإسلام، إنما يقوم بالبلاغ والبيان للأمة تنفيذا لأمر الله وطاعة له ابتغاء مرضاته وحده ورجاء المثوبة والأجر الكريم منه سبحانه دون سواه، وذلك ليزيل ما قد يكون في نفوس المشركين من ظنون وأوهام كاذبة أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعاهم إلى اتباعه فيما شرع الله لهم ليتكسب بذلك، أو ينال رئاسة في قومه، فبين لهم أن دعوته إياهم إلى الحق خالصة لوجه الله الكريم، وهكذا جميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - لا يسألون الناس أجرا على دعوتهم إياهم، وقد تقدم في الفقرة الأولى من الجواب حديث عمران بن حصين في التحذير من التكسب بالقرآن وسؤال الناس به.
أما ما سألت عنه من عقوبته يوم القيامة بتساقط لحم وجهه فذلك وعيد لكل من سأل الناس وهو في غير حاجة تضطره إلى المسألة ولا مبرر يبيح له أن يسأل الناس، وسواء كان بقراءة
__________
(1) سورة ص الآية 86(45/84)
القرآن أم بدون قراءته، فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم (1) » وفي رواية عنه: «ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم (2) » متفق عليهما، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا فليستقل أو ليستكثر (3) » رواه مسلم، فمن سأل الناس بالقرآن صدق فيه الحديث المتقدم في الفقرة الأولى من الجواب إن كان فقيرا، أما إن كان غنيا فقد صدقت فيه هذه الأحاديث كلها، أما لفظ الحديث الذي ذكرته في السؤال فلا نعلم صحته بهذا اللفظ الذي ذكرته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1475) ، صحيح مسلم الزكاة (1040) ، سنن النسائي الزكاة (2585) ، مسند أحمد بن حنبل (2/15) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1475) ، صحيح مسلم الزكاة (1040) ، سنن النسائي الزكاة (2585) ، مسند أحمد بن حنبل (2/15) .
(3) صحيح مسلم الزكاة (1041) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1838) ، مسند أحمد بن حنبل (2/231) .(45/85)
من الفتوى رقم 968
السؤال السادس: عندي مصحف شريف أوراقه ممزقة فماذا أعمل به هل أقوم بدفنه في الأرض أم لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: يجوز لك أن تدفنه في أرض مسجد ما من المساجد، ويجوز لك أن تحرقه اقتداء بعثمان - رضي الله عنه -.(45/85)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(45/86)
فتوى رقم 4660
السؤال: سائل يسأل عن الطرق التي يحفظ بها ما تمزق من المصاحف والكتب التي بها آيات من القرآن؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: ما تمزق من المصاحف والكتب والأوراق التي بها آيات من القرآن يدفن بمكان طيب بعيد عن ممر الناس وعن مرامي القاذورات، أو يحرق صيانة ومحافظة عليه من الامتهان لفعل عثمان - رضي الله عنه -.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/86)
من الفتوى رقم 6252
السؤال السادس: المصاحف المغلوطة أيهما أفضل: حرقها أم دفنها في التراب؟ وهل المصحف يعتبر مغلوطا إذا كان هناك تقديم وتأخير في السورة؟(45/86)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: أولا: الواجب تصحيحه إن تيسر محافظة على القرآن وإبقاء على المال، فإن لم يتيسر تعديل الغلط منع نشره بالقضاء عليه إما بتحريقه أو دفنه.
ثانيا: من الغلط تقديم بعض آيات السورة على بعض وهو حرام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/87)
من الفتوى رقم 8381
السؤال الخامس: لقد وجدت قرآنا كريما قد أخطأت به المطبعة وذلك من ناحية ترتيب السور. فهل يجوز القراءة به، وإذا كان لا يجوز فماذا تنصحوني أن أفعل به، أحرقه أم أين أضعه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: احرقه أو ادفنه في مكان طاهر بعيد عن ممشى الناس ولا تصل القاذورات إليه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/87)
من الفتوى رقم 176
السؤال: هل يجوز إحراق المصاحف الممزقة أو التي فيها غلط ثم دفنها؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: إذا بليت أوراق المصحف وتمزقت من كثرة القراءة فيها مثلا، أو أصبحت غير صالحة للانتفاع بها، أو عثر فيها على أغلاط من إهمال من كتبها أو طبعها ولم يمكن إصلاحها جاز دفنها بلا تحريق، وجاز تحريقها ثم دفنها بمكان بعيد عن القاذورات ومواطئ الأقدام، صيانة لها من الامتهان وحفظا للقرآن من أن يحصل فيه لبس أو تحريف أو اختلاف؛ بانتشار المصاحف التي طرأت عليها أغلاط في كتابتها أو طباعتها، وقد ثبت في باب جمع القرآن من صحيح البخاري أن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أمر أربعة من خيار قراء الصحابة بنسخ مصاحف من المصحف الذي كان قد جمع بأمر أبي بكر - رضي الله عنهم -، فلما فرغوا من ذلك أرسل عثمان إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يحرق، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة إلا ما روي عن ابن مسعود، لكنه أنكر قصر الناس على المصحف الذي أرسل به عثمان إلى الآفاق ولم ينكر التحريق.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(45/88)
من الفتوى رقم 9850
السؤال السادس: القرآن والكتب الممزقة والذي لا يستعمل أيضا ماذا يفعل به، هل يحرق أو يدفن؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: ما تمزق من أوراق المصحف، وكذلك الكتب المحترمة مما فيه ذكر الله أو أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فلا حرج في دفنه في مكان طاهر أو إحراقه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/89)
من الفتوى رقم 3924
السؤال الأول: إني في كل صباح أقرأ القرآن الكريم، ويوجد مسجل في نفس المكان يقرأ القرآن، فهل يجوز ذلك نبئونا آجركم الله؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: نعم يجوز لك أن تقرأ القرآن ما دام صوت المسجل لا يشغلك عن تلاوتك ولا عن تدبر ما تقرأ.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/89)
من الفتوى رقم 7720
السؤال الثاني: هل تجوز قراءة القرآن الكريم لمن كان مضطجعا أو قائما أو ماشيا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: يجوز ذلك؛ لأن الأصل الجواز، ولم يوجد دليل يدل على المنع منه، ولعموم قول الله في وصف أولي الألباب: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (1) وقراءة القرآن من الذكر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة آل عمران الآية 191(45/90)
من الفتوى رقم 8925
السؤال الأول: هناك معهد وبالقرب منه مسجد يقرأ فيه كل ليلة - صلاة العشاء - طالب من المعهد جزءا من القرآن يهدف إلى تدريب الطلبة على الدعوة ومواجهة الجماهير، فهل التزام هذه القراءة يعد من البدع؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكر من القصد إلى تدريب الطلبة على الدعوة ومواجهة الجماهير فالتزام ذلك ليس ببدعة، بل هو لتنظيم شهور للدراسة بالمعاهد والجامعات، ووضع الجدول للدراسة يسير عليه المدرسون والطلاب لضبط العمل وتنظيمه.(45/90)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/91)
من الفتوى رقم 6914
السؤال: ما حكم قراءة القرآن في الأوقات المذكورة في حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صلاة التطوع لله سبحانه عند طلوع الشمس وعند غروبها؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: قراءة القرآن تجوز في أوقات النهي المذكورة في السؤال لعدم النهي عنها، والأصل مشروعية قراءته لحث الشرع على ذلك حتى يثبت ما ينقل عنه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/91)
من الفتوى رقم 3302
السؤال الرابع: ما حكم قراءة القرآن في المسجد جماعة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: السؤال فيه إجمال، فإذا كان المقصود أنهم يقرءون جميعا بصوت واحد ومواقف ومقاطع واحدة فهذا غير مشروع،(45/91)
وأقل أحواله الكراهة؛ لأنه لم يؤثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة - رضي الله عنهم -، لكن إذا كان ذلك من أجل التعليم فنرجو أن يكون ذلك لا بأس به، وإن كان المقصود أنهم يجتمعون على قراءة القرآن لتحفظه أو تعلمه، ويقرأ أحدهم وهم يستمعون، أو يقرأ كل منهم لنفسه غير ملتق بصوته ولا بمواقفه مع الآخرين فذلك مشروع؛ لما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وحفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده (1) » رواه مسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الصلاة (1455) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(45/92)
من الفتوى رقم 4394
السؤال الأول: ما حكم قراءة القرآن جماعة مع الدليل من الكتاب أو السنة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: قراءة قرآن عبادة ومن أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى، والأصل في أداء القراءة أن يكون على الصيغة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤديها عليها هو وأصحابه - رضي الله عنهم -، ولم يثبت عنه ولا عن أصحابه أنهم كانوا يقرءون جماعة بصوت واحد بل كل(45/92)
منهم يقرأ وحده أو يقرأ أحدهم ويستمع إلى قراءته من حضره، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي (1) » وقال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » ، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه أمر عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن يقرأ عليه القرآن فقال: يا رسول الله أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري (4) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(4) صحيح البخاري فضائل القرآن (5049) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (800) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3025) ، سنن أبو داود العلم (3668) ، سنن ابن ماجه الزهد (4194) ، مسند أحمد بن حنبل (1/433) .(45/93)
فتوى رقم 7423
السؤال: تعودنا منذ الصغر، ونحن نحفظ القرآن الكريم بالكتاب أن نتمايل يمينا وشمالا، أثناء القراءة بالذات، وهذا التمايل نشعر أنه يسهل علينا تلاوة القرآن، ولقد اعترض علينا بعض الإخوة مدعيا أن هذه بدعة لكنه لا يملك الدليل، لذا نرجو التكرم بإفادتنا عما إذا كانت بدعة لنتركها، جزاكم الله عنا خيرا وجعلكم عونا للمسلمين؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: لا بأس بما ذكرت من التمايل يمينا وشمالا عند القراءة، وليس هذا التمايل من العبادة حتى يكون بدعة في الدين، وإنما هو من عادات بعض الناس، والمنهي عنه الابتداع في الدين.(45/93)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » رواه البخاري ومسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(45/94)
من الفتوى رقم 3303
السؤال: ما حكم قول: (صدق الله العظيم) بعد الفراغ من قراءة القرآن؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: قول (صدق الله العظيم) بعد الانتهاء من قراءة القرآن بدعة؛ لأنه لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا الخلفاء الراشدون، ولا سائر الصحابة - رضي الله عنهم -، ولا أئمة السلف - رحمهم الله -، مع كثرة قراءتهم للقرآن، وعنايتهم ومعرفتهم بشأنه، فكان قول ذلك والتزامه عقب القراءة بدعة محدثة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » رواه البخاري ومسلم وقال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(45/94)
من الفتوى رقم 4310
السؤال الثالث: ما حكم قول: (صدق الله العظيم) بعد نهاية قراء القرآن الكريم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: قول القائل: (صدق الله العظيم) في نفسها حق، ولكن ذكرها بعد نهاية قراءة القرآن باستمرار بدعة؛ لأنها لم تحصل من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من خلفائه الراشدين فيما نعلم مع كثرة قراءتهم القرآن، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وفي رواية: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(45/95)
من الفتوى رقم 7306
السؤال الحادي عشر: لقد سمعت في بعض حلقات نور وهداية للشيخ علي الطنطاوي أن كلمة (صدق الله العظيم) بعد الفراغ من قراءة القرآن الكريم بدعة، فهل هذا صحيح؟ وإذا كان كذلك فماذا يقال بعد القراءة؟ وإذا كان ذلك جائزا فهل يجوز أن يقول القارئ: (صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم) ؟ وهل ورد ذلك عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: اتخاذ كلمة (صدق الله العظيم) ونحوها ختاما لتلاوة(45/95)
القرآن بدعة؛ لأنه لم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قالها عقب تلاوته القرآن، ولو كانت مشروعة ختاما للتلاوة لقالها عقبها، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » رواه البخاري ومسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(45/96)
من الفتوى رقم 4172
السؤال الثاني عشر: رأيت في الناس ما لم أسمع به قط ولا رأيت وهو تقبيل القرآن كما يقبل رجلان أحدهما الآخر.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: لا نعلم لتقبيل الرجل القرآن أصلا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/96)
من الفتوى رقم 8852
السؤال الثالث: ما حكم تقبيل القرآن؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: لا نعلم دليلا على مشروعية تقبيل القرآن الكريم(45/96)
وهو أنزل لتلاوته وتدبره وتعظيمه والعمل به.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/97)
من الفتوى رقم 9228
السؤال الرابع: نلاحظ أن بعض الإخوان عندما يقومون بقراءة القرآن الكريم يقوم بتقبيل المصحف ويمسح به على عينيه ووجهه. فهل هذا وارد في الشريعة أرجو إفادتي؟
الجواب: لا نعلم لذلك أصلا في الشرع المطهر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/97)
من الفتوى رقم 3863
السؤال الخامس: ما حكم سماع قراءة المرأة المسجل؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: يجوز سماعها للنساء ويجوز للرجال إذا لم يترتب عليه فتنة.(45/97)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/98)
من الفتوى رقم 2634
السؤال السادس: هل يجوز للمرأة أن تجهر بالقراءة في صلاة الصبح والمغرب والعشاء كالرجل أو هي بخلافه فتصلي بالقراءة سرا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: إن كانت خالية في بيتها أو مع محارمها أو نساء فقط فلها أن تجهر بالقراءة وإن أمت نساء في بيتها خالية بهن جهرت بالقراءة، أما إن كانت تصلي وحولها رجال أجانب يسمعون صوتها فالأفضل ألا تجهر بالقراءة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/98)
من الفتوى رقم 4909
السؤال الرابع: هل يجوز للمرأة المسلمة قراءة القرآن جهرا في بيتها بإذن زوجها؟ ثم ماذا يجوز لها في قراءة القرآن من أشياء كخفض الصوت وستر الجسم وطهارة المكان أم غير ذلك من الشروط والأسباب؟(45/98)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: نعم يجوز لها ذلك، إلا إذا حسنت صوتها بالتلاوة وجهرت جهرا يسمعه من ليس في بيتها من غير محارمها خشية الفتنة بجمال صوتها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/99)
من الفتوى رقم 5413
السؤال: ما هو الحكم في إقامة مباريات ترتيل القرآن الكريم بالنسبة للنساء بحضور الرجال؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: ترتيل البنات للقرآن بحضرة الرجال لا يجوز، لما يخشى في ذلك من الفتنة بهن، وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع المفضية للحرام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/99)
من الفتوى رقم 189
السؤال التاسع: ما حكم الاستماع إلى القرآن المذاع من(45/99)
الراديو؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: الراديو آلة لا حكم لها في نفسها، إنما الحكم لما يذاع بها، وإن أذيع من الراديو قرآن أو بيان حق لشرائع الله أو مواعظ ترقق القلوب أو أخبار سياسية عادلة يعرف منها الناس أحوال العباد والبلاد؛ ليكونوا على بينة من أمرهم ومما يراد بهم، وليتخذوا لأنفسهم موقفا سليما ناجحا ممن يواليهم ويعاديهم، أو أذيع منه أخبار تجارية يعرف منه الناس ما ينفعهم في حياتهم وفي معاشهم، إلى غير هذا من المصالح، كان السماع خيرا، وقد يكون واجبا أحيانا.
وإن أذيع منه غناء ماجن تخنث أو استهتار، أو أذيع منه أخبار سياسية كاذبة هوجاء سداها قلب الحقائق والتلبيس على الناس، ولحمتها بهرج للتهريج وإثارة العواطف بقول الزور والإثم والبهتان، إلى مثل هذا من الرذائل، كان ما أذيع باطلا، لا يليق بالمسلمين السكوت عنه، ولا الاستماع له، اللهم إلا أن يكون من يستمع للأخبار الكاذبة أو الآراء المغرضة والأقوال المنحرفة ممن عندهم وعي ولهم في الأمة شأن؛ ليقوموا بكشف زائفها وبيان دخلها، وقاية للأمة من قائلها، وصيانة لمن يخشى عليه أن ينخدع بزخرفها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(45/100)
فتوى رقم 833
السؤال: ترجمة القرآن أو بعض آياته إلى لغة أجنبية أو عجمية بقصد نشر الدعوة الحقة الإسلامية في بلاد غير المسلمين، هل في هذا العمل ما يخالف الشرع والدين؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: ترجمة القرآن أو بعض آياته والتعبير عن جميع المعاني المقصود إليها من ذلك غير ممكن، وترجمته أو بعضه ترجمة حرفية غير جائزة؛ لما فيها من إحالة المعاني وتحريفها، أما ترجمة الإنسان ما فهمه من معنى آية أو أكثر وتعبيره عما فهمه من أحكامه وآدابه بلغة إنجليزية أو فرنسية أو فارسية مثلا؛ لينشر ما فهمه من القرآن ويدعو الناس إليه فهو جائز، كما يفسر الإنسان ما فهمه من القرآن أو آيات منه باللغة العربية، وذلك بشرط أن يكون أهلا لتفسير القرآن، وعنده قدرة على التعبير عما فهمه من الأحكام والآداب بدقة، فمن لم تكن لديه وسائل تعينه على فهم القرآن، أو لم يكن لديه اقتدار على التعبير عنه بلغة عربية أو تعبيرا دقيقا، فلا يجوز له التعرض لذلك خشية أن يحرف كتاب الله عن مواضعه، فينعكس عليه قصده، ويصير قصده المعروف منكرا، وإرادته الإحسان إساءة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(45/101)
من الفتوى رقم 1997
السؤال الرابع: هل من الواجب أن يحتفظ بكتاب يحتوي على القرآن المترجم إلى الفرنسية مثل المصحف الكريم؟ وهل يجوز القراءة في كتاب القرآن مترجما إلى غير اللغة العربية؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: ترجمة معاني القرآن تفسير له، وليست قرآنا بإجماع أهل العلم ولا في حكمه، وعلى هذا لا يجوز القراءة بها في الصلاة، لا ترجمة الفاتحة وتفسيرها ولا ترجمة غير الفاتحة، ويجب أن يتعلم من القرآن باللغة العربية ما لا بد منه في عبادة الله كالفاتحة، وعلى من لا يحفظ الفاتحة بالعربية أن يحمد الله ويكبره ويسبح ويهلل حين قيامه في صلاته حتى يتعلم قراءة الفاتحة بالعربية. وكذلك لا يجوز له أن يتعبد بتلاوة القرآن وتفسير معانيه، وإنما يطالع ذلك ويدرسه لفهم أحكام الإسلام منه، ويطالع كتب الحديث أيضا ليعرف من ترجمتها إلى لغته أحكام الإسلام، ويتخير من كتب العقائد ما يبصره بعقيدة السلف الصالح من الصحابة، وسائر القرون الأولى التي شهد لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخيرية، ويجتهد قدر استطاعته أن يتعلم اللغة العربية ليتمكن من فهم نصوص الكتاب والسنة باللغة التي جاء بها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/102)
من الفتوى رقم 2882
السؤال الأول: بعض الناس في بلادنا يترجمون القرآن إلى لغات أخرى ويمسكونها بدون وضوء فهل فعلتهم هذه صحيحة أو لا؟ وهل يمكن ترجمة القرآن إلى لغة أخرى؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: نعم يجوز ترجمة معاني القرآن بلغة غير اللغة العربية، كما يجوز تفسير معانيه باللغة العربية ويكون ذلك بيانا للمعنى الذي فهمه المترجم من القرآن ولا يسمى قرآنا، وعلى هذا يجوز أن يمس الإنسان ترجمة معاني القرآن بغير اللغة العربية وتفسيره بالعربية وهو غير متوضئ.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/103)
صفحة فارغة(45/104)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
س 1: سؤال من أحد الإخوة السودانيين يقول فيه: توجد في بلدنا عادة وهي: أن المرء إذا شرع في بناء منزل له، يذبح ذبيحة إذا وصل البناء إلى النصف، أو تؤجل هذه الذبيحة حتى اكتمال البنيان وإرادة السكن في المنزل، فيدعى لهذه الذبيحة الأقارب والجيران. فما رأي فضيلتكم لهذا العمل؟ وهل هناك عمل مشروع يستحب عمله قبل السكن في المنزل الجديد؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
جـ 1: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فهذا التصرف فيه تفصيل، فإن كان المقصود من الذبيحة اتقاء الجن، أو مقصدا آخر يقصد به صاحب البيت أن هذا الذبح يحصل به كذا وكذا، كسلامته وسلامة ساكنيه، فهذا لا يجوز، فهو من البدع. وإن كان للجن فهو شرك أكبر؛ لأنه عبادة لغير الله. أما إن كان من باب الشكر على ما أنعم الله به عليه، من الوصول إلى السقف، أو عند إكمال البيت، فيجمع أقاربه وجيرانه، ويدعوهم لهذه الوليمة، فهذه لا بأس بها، وهذا يفعله كثير من الناس، من باب الشكر لنعم الله، حيث من عليهم بتعمير البيت، والسكن فيه، بدلا من الاستئجار، ومثل ذلك ما يفعله بعض الناس عند القدوم من السفر، يدعو أقاربه وجيرانه؛ شكرا لله على السلامة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر، نحر جزورا ودعا الناس لذلك، عليه الصلاة والسلام.(45/105)
س 2: الأخ م. أ. ن من ميت طريف - دقهلية - بمصر يقول في(45/105)
سؤاله: هل تصح الصلاة في المساجد التي يوجد فيها قبور؟
جـ 2: المساجد التي فيها قبور لا يصلى فيها، ويجب أن تنبش القبور، وينقل رفاتها إلى المقابر العامة، كل قبر في حفرة خاصة كسائر القبور، ولا يجوز أن يبقى فيها قبور، لا قبر ولي ولا غيره؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى وحذر من ذلك، ولعن اليهود والنصارى على عملهم ذلك. فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » ، قالت عائشة - رضي الله عنها -: (يحذر ما صنعوا) ، متفق عليه. «وقال عليه الصلاة والسلام لما أخبرته أم سلمة وأم حبيبة بكنيسة في الحبشة، فيها تصاوير فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح؛ بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (2) » ، متفق على صحته. وقال عليه الصلاة والسلام: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (3) » ، خرجه مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي. فنهى عن اتخاذ القبور مساجد عليه الصلاة والسلام، ولعن من فعل ذلك، وأخبر أنهم شرار الخلق. فالواجب الحذر من ذلك. ومعلوم أن من صلى عند قبر فقد اتخذه مسجدا، ومن بنى عليه مسجدا فقد اتخذه مسجدا فالواجب أن تبعد القبور عن المساجد وألا يجعل فيها قبور امتثالا لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وحذرا من اللعنة التي صدرت من ربنا - عز وجل - لمن بنى المساجد على القبور؛ لأنه إذا صلى في مسجد فيه قبور قد يزين له الشيطان دعوة الميت، أو الاستغاثة به، أو الصلاة له، أو السجود له، فيقع الشرك الأكبر؛ ولأن هذا من عمل اليهود والنصارى، فوجب أن نخالفهم، وأن نبتعد عن طريقهم، وعن
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3873) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(45/106)
عملهم السيئ، لكن لو كانت القبور هي القديمة، ثم بني عليها المسجد، فالواجب هدمه وإزالته؛ لأنه هو المحدث، كما نص على ذلك أهل العلم، حسما لأسباب الشرك، وسدا لذرائعه، والله ولي التوفيق.(45/107)
س 3: سائل يسأل ويقول: - أحسن الله إليكم - من الملاحظ أنه في المدة الأخيرة، يكثر سفر الكثير من الشباب إلى بلاد الكفر، إما للدراسة أو لغيرها، وبعضهم يكون حديث عهد بالإسلام، فهل ترون أنهم بحاجة إلى إدارة وهيئة خاصة تقوم بمتابعتهم، وتوجيههم إلى الوجهة الصحيحة، ورعاية شئونهم، فتكون هذه الإدارة إما مرتبطة بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، أو برابطة العالم الإسلامي؟
جـ 3: لا شك أن سفر الطلبة فيه خطر عظيم، سواء كانوا من أبناء المسلمين من الأساس، أو من المسلمين الجدد، لا شك أن هذا أمر خطير، يجب العناية به، والحذر من عاقبته الوخيمة، وقد كتبنا وحذرنا غير مرة من السفر إلى الخارج، وبينا أخطار ذلك، وإذا كان لا بد من السفر فليكونوا من الكبار الذين قد حصلوا على العلم الكثير، وتبصروا في دينهم، وأن يكون معهم من يلاحظهم ويراقبهم، ويلاحظ سلوكهم، حتى لا يذهبوا مذاهب تضرهم، وهذا يجب أن يعنى به، ويجب أن يتابع حتى يتم الأمر فيه؛ لأن الخطر كبير. وإذا ذهب طالب العلم من الثانوي أو المتوسط، أو من كان في حكم ذلك، أو في أثناء الدراسة العليا، فإن الخطر كبير في مثل هذا، فيجب أن يكون هناك تخصص في الداخل، يغني عن السفر إلى الخارج، وإذا كان لا بد من السفر إلى الخارج فليكن من أناس يختارون، يعرف فيهم(45/107)
الفضل والعلم، ورجاحة العقل، والاستقامة في الدين، ويكون هناك من يشرف عليهم، ويتابع خطاهم، ويعتني بهم حتى يرجعوا، بشرط أن يكون ذلك للتخصص الذي لا بد منه، ولا يوجد في الداخل ما يغني عنه.
ونسأل الله أن يوفق ولاة الأمور لكل خير، وأن يعين أهل العلم على أداء واجبهم.(45/108)
س 4: ما رأي فضيلة الشيخ في قضية كثيرا يسأل عنها، وهي محرجة للمسلمين، القضية هي قضية المرأة والطبيب. وبم تنصحون الأخوات المسلمات حول هذا، وكذلك أولياء الأمور؟
جـ 4: لا ريب أن قضية المرأة والطبيب قضية مهمة، وفي الحقيقة إنها متعبة كثيرا، ولكن إذا رزق الله المرأة التقوى والبصيرة، فإنها تحتاط لنفسها، وتعتني بهذا الأمر، فليس لها أن تخلو بالطبيب، وليس للطبيب أن يخلو بها، وقد صدرت الأوامر والتعليمات في منع ذلك من ولاة الأمور. فعلى المرأة أن تعتني بهذا الأمر، وأن تتحرى التماس الطبيبات الكافيات، فإذا وجدن فالحمد لله ولا حاجة إلى الطبيب، فإذا دعت الحاجة إلى الطبيب؛ لعدم وجود الطبيبات؛ فلا مانع عند الحاجة إلى الكشف والعلاج، وهذه من الأمور التي تباح عند الحاجة، لكن لا يكون الكشف مع الخلوة، بل يكون مع وجود محرمها أو زوجها، إن كان الكشف في أمر ظاهر: كالرأس واليد والرجل أو نحو ذلك. وإن كان الكشف في عورات، فيكون معها زوجها إن كان لها زوج أو امرأة، وهذا أحسن وأحوط، أو ممرضة أو ممرضتان تحضران. ولكن إذا وجد غير الممرضة امرأة تكون معها يكون ذلك أولى وأحوط وأبعد عن الريبة، وأما الخلوة فلا تجوز.(45/108)
س 5: يقولون: إن تعدد القراءات في القرآن معناه اختلاف في القرآن حيث يؤدي إلى معان ثانية، مثل آية الإسراء: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (1) عند يلقاه منشورا؟
جـ 5: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن «القرآن نزل من عند الله على سبعة أحرف (2) » ، أي: لغات من لغات العرب ولهجاتهم؛ تيسيرا لتلاوته عليهم، ورحمة من الله بهم. ونقل ذلك نقلا متواترا، وصدق ذلك واقع القرآن، وما وجد فيه من القراءات فهي كلها تنزيل من حكيم حميد.
ليس تعددها من تحريف أو تبديل، ولا لبس في معانيها ولا تناقض في مقاصدها ولا اضطراب، بل بعضها يصدق بعضا ويبين مغزاه، وقد تتنوع معاني بعض القراءات، فيفيد كل منها حكما يحقق مقصدا من مقاصد الشرع، ومصلحة من مصالح العباد، مع اتساق معانيها، وائتلاف مراسيها، وانتظامها في وحدة تشريع محكمة كاملة، لا تعارض بينها ولا تضارب فيها.
فمن ذلك ما ورد من القراءات في الآية التي ذكرها السائل، وهي قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (3) ، فقد قرئ: {وَنُخْرِجُ} (4) بضم النون وكسر الراء، وقرئ: {يَلْقَاهُ} (5) بفتح الياء والقاف مخففة، والمعنى: ونحن نخرج للإنسان يوم القيامة كتابا هو: صحيفة عمله، يصل إليه حال كونه مفتوحا، فيأخذه بيمينه إن كان سعيدا، أو بشماله إن كان شقيا، وقرئ: (يلقاه) والمعنى: ونحن نخرج للإنسان يوم القيامة كتابا - هو
__________
(1) سورة الإسراء الآية 13
(2) صحيح البخاري الخصومات (2419) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (818) ، سنن الترمذي القراءات (2943) ، سنن النسائي الافتتاح (938) ، سنن أبو داود الصلاة (1475) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) ، موطأ مالك النداء للصلاة (472) .
(3) سورة الإسراء الآية 13
(4) سورة الإسراء الآية 13
(5) سورة الإسراء الآية 13(45/109)
صحيفة عمله - يعطى الإنسان ذلك الكتاب، حال كونه مفتوحا. فمعنى كل من القراءتين يتفق في النهاية مع الآخر، فإن من يلقى إليه الكتاب فقد وصل إليه، ومن وصل إليه الكتاب فقد ألقي إليه.
ومن ذلك قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (1) ، قرئ: يكذبون بفتح الياء وسكون الكاف وكسر الذال، بمعنى: يخبرون بالأخبار الكاذبة عن الله والمؤمنين، قرئ: (يكذبون) بضم الياء وفتح الكاف وتشديد الذال المكسورة، بمعنى: يكذبون الرسل فيما جاءوا به من عند الله من الوحي. فمعنى كل من القراءتين لا يعارض الآخر، ولا يناقضه، بل كل منهما ذكر وصفا من أوصاف المنافقين، وصفتهم الأولى بالكذب في الخبر عن الله ورسله وعن الناس، ووصفتهم الثانية بتكذيبهم رسل الله، فيما أوحي إليهم من التشريع، وكل حق فإن المنافقين جمعوا بين الكذب والتكذيب.
ومن ذلك يتبين أن تعدد القراءات كان بوحي من الله لحكمة، لا عن تحريف وتبديل وأنه لا يترتب عليه أمور شائنة، ولا تناقض أو اضطراب، بل معانيها ومقاصدها متفقة. والله الموفق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 10(45/110)
س 6: ما القول في معاملة أصحاب الكبائر كاللواط والزنا وغيرها من الذنوب التي جاءت النصوص بالوعيد الشديد لمن يقترفها. هل يجوز الكلام مع أصحاب هذه الجرائم؟ وهل يجوز إلقاء السلام عليهم؟ وهل تجوز مصاحبتهم بقصد تذكيرهم بوعيد الله وأليم عقابه إذا كان فيهم بوادر التوبة؟(45/110)
جـ 6: من يتهم بهذه المعاصي تجب نصيحته، وتحذيره منها، ومن عواقبها السيئة، وأنها من أسباب مرض القلوب وقسوتها، وموتها وأما من أظهرها وجاهر بها فالواجب أن يقام عليه حدها، وأن يرفع أمره إلى ولاة الأمور، ولا تجوز صحبتهم ولا مجالستهم، بل يجب هجرهم؛ لعل الله يهديهم ويمن عليهم بالتوبة، إلا أن يكون الهجر يزيدهم شرا، فالواجب الإنكار عليهم دائما بالأسلوب الحسن، والنصائح المستمرة، حتى يهديهم الله. ولا يجوز اتخاذهم أصحابا، بل يجب أن يستمر في الإنكار عليهم وتحذيرهم من أعمالهم القبيحة، ويجب على ولاة الأمور في البلاد الإسلامية أن يأخذوا على أيديهم، وأن يقيموا عليهم الحدود الشرعية، ويجب على من يعرف أحوالهم أن يساعد الدولة في ذلك؛ لقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ، وقوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) الآية، وقوله سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) .
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (6) » ، رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (7) » ، أخرجه
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3
(6) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .
(7) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(45/111)
مسلم أيضا. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يوفقهم للتواصي بالحق والصبر عليه، وأن يجمع كلمتهم على الهدى، ويصلح ولاة أمرهم إنه خير مسئول.(45/112)
س 7: لي صديق كثيرا ما يتحدث في أعراض الناس، وقد نصحته ولكن دون جدوى، ويبدو أنها أصبحت عادة عنده، وأحيانا يكون كلامه في الناس عن حسن نية، فهل يجوز هجره؟
جـ 7: الكلام في أعراض المسلمين بما يكرهون منكر عظيم، ومن الغيبة المحرمة، بل من كبائر الذنوب؛ لقول الله سبحانه: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} (1) ، ولما روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أتدرون ما الغيبة؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: يا رسول الله: إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته (2) » ، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - «أنه لما عرج به، مر على قوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم (3) » ، أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد جيد عن أنس - رضي الله عنه -، وقال العلامة ابن مفلح: إسناده صحيح، قال: وخرج أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة مرفوعا: «أن من الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق (4) » .
__________
(1) سورة الحجرات الآية 12
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2589) ، سنن الترمذي البر والصلة (1934) ، سنن أبو داود الأدب (4874) ، مسند أحمد بن حنبل (2/458) ، سنن الدارمي الرقاق (2714) .
(3) سنن أبو داود الأدب (4878) .
(4) سنن أبو داود الأدب (4877) .(45/112)
والواجب عليك وعلى غيرك من المسلمين عدم مجالسة من يغتاب المسلمين مع نصيحته والإنكار عليه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » ، رواه مسلم في صحيحه. فإن لم يمتثل فاترك مجالسته؛ لأن ذلك من تمام الإنكار عليه.
أصلح الله حال المسلمين، ووفقهم لما فيه سعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(45/113)
س 8: في بعض الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أصاب عبدا هم ولا حزن ثم قال: اللهم إني عبدك وابن عبدك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك (1) » . . إلخ، هل المرأة تقول عبدك أو أمتك، وفي بعض الأدعية المشابهة لهذا؟
جـ 8: الأمر في هذا واسع إن شاء الله، والأحسن أن تقول: اللهم إني أمتك وابنة عبدك وابنة أمتك. . إلخ، وهذا يكون أنسب وألصق بها، ولو دعت باللفظ الذي جاء في الحديث لم يضر إن شاء الله؛ لأنها وإن كانت أمته فهي عبد أيضا من عباد الله.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/391) .(45/113)
س 9: سمعت بعض الناس يقول: إذا فعلت عملا كالصلاة أو الصوم أو أي عمل في الدين أو الدنيا، وسئلت: هل صليت أو صمت؟ لا تقل: إن شاء الله، بل قل: نعم؛ لأنك عملت فعلا. فما رأيكم؟
جـ 9: هذا فيه تفصيل؛ أما في العبادات فلا مانع أن يقول: إن شاء الله صليت، إن شاء الله صمت؛ لأنه لا يدري هل كملها وقبلت منه أم لا. وكان المؤمنون يستثنون في إيمانهم وفي صومهم؛ لأنهم لا يدرون هل أكملوا أم لا؟ فيقول الواحد منهم: صمت إن(45/113)
شاء الله، ويقول: أنا مؤمن إن شاء الله. أما الشيء الذي لا يحتاج إلى ذكر المشيئة، مثل أن يقول: بعت إن شاء الله، فهذا لا يحتاج إلى ذلك، أو يقول: تغديت أو تعشيت إن شاء الله، فهذا لا يحتاج أن يقول كلمة إن شاء الله؛ لأن هذه الأمور لا تحتاج إلى المشيئة في الخبر عنها، لأنها أمور عادية، قد فعلها وانتهى منها، بخلاف أمور العبادات، التي لا يدري هل وفاها أم بخسها حقها؟ فإذا قال إن شاء الله، فهو للتبرك باسمه سبحانه، والحذر من دعوى شيء لم يكن قد أكمله ولا أداه حقه.(45/114)
س 10: أرجو أن تدلوني على الكتب المفيدة النافعة في الدنيا والدين.
جـ 10: الكتب النافعة كثيرة، أعظمها وأهمها كتاب الله سبحانه وتعالى، فيه الهدى والنور، وفيه الدعوة إلى كل خير، وبيان مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وبيان ما أوجب الله، وما أعد لأهل طاعته من الخير، وبيان ما حرم الله، وما أعد لأهل معصيته من العقوبة. فأعظم كتاب وأشرف كتاب وأنفع كتاب هو: كتاب الله العظيم القرآن الكريم، ثم كتب السنة الصحيحة، كالبخاري ومسلم، وغيرهما من كتب السنة المعروفة؛ كأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وسنن الدارمي ومسند أحمد بن حنبل وموطأ مالك - رحمة الله على الجميع -، وهذه من أنفع الكتب، لكن بالنسبة إلى الطلبة الذين لم يتمكنوا من العلم، وهكذا الطالبات اللاتي لم يتمكن من العلم، فهؤلاء ننصحهم جميعا بحفظ كتاب الله الكريم، مع حفظ المؤلفات المختصرة في العقيدة والحديث الشريف؛ مثل كتاب: (التوحيد) للإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، و (ثلاثة الأصول) له أيضا، و (كشف الشبهات)(45/114)
له أيضا، و (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، و (بلوغ المرام) للحافظ ابن حجر، و (عمدة الحديث) للحافظ عبد الغني المقدسي، و (الأربعين النووية) وتكملتها للحافظ ابن رجب، و (آداب المشي إلى الصلاة) للشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -، ومطالعة الكتب الآتية: (فتح المجيد) و (رياض الصالحين) و (الوابل الصيب) و (زاد المعاد) و (جامع العلوم والحكم) للحافظ ابن رجب. . وأشباهها من الكتب المفيدة المختصرة.(45/115)
س 11: يوجد لدي ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية، فهل يجوز أن يمسها الكافر؟
جـ 11: لا حرج أن يمس الكافر ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية، أو غيرها من اللغات؛ لأن الترجمة تفسير لمعاني القرآن، فإذا مسها الكافر، أو من ليس على طهارة فلا حرج في ذلك؛ لأن الترجمة ليس لها حكم القرآن وإنما لها حكم التفسير، وكتب التفسير لا حرج أن يمسها الكافر، ومن ليس على طهارة، وهكذا كتب الحديث والفقه واللغة العربية. والله ولي التوفيق.(45/115)
س12: في هذه الأيام ونتيجة للاحتكاك مع الغرب والشرق وغالبهم من الكفار على اختلاف مللهم نراهم يرددون تحية الإسلام علينا حينما نقابلهم في أي مكان فماذا يجب علينا تجاههم؟ علي. ح. الرياض.
ج12: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام, وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (2) » متفق عليه ... وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى , وحكم بقية الكفار
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2167) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2700) .
(2) صحيح البخاري الاستئذان (6258) ، صحيح مسلم السلام (2163) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3301) ، سنن أبو داود الأدب (5207) ، سنن ابن ماجه الأدب (3697) ، مسند أحمد بن حنبل (3/218) .(45/115)
حكم اليهود والنصارى في هذا الأمر؛ لعدم الدليل على الفرق فيما نعلم.
فلا يبدأ الكافر بالسلام مطلقا , ومتى بدأ هو بالسلام وجب الرد عليه بقولنا: وعليكم , امتثالا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا مانع من أن يقال له بعد ذلك: كيف حالك وكيف أولادك , كما أجاز ذلك بعض أهل العلم, ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله , ولا سيما إذا اقتضت المصلحة الإسلامية ذلك كترغيبه في الإسلام وإيناسه بذلك ليقبل الدعوة ويصغي لها؛ لقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) , وقوله سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (2) الآية.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة العنكبوت الآية 46(45/116)
س 13: بعد دفن الميت، يقرأ بعض الناس من المصحف سورة (يس) عند القبر، ويضعون غرسا على القبر مثل الصبار، ويزرع سطح القبر بالشعير أو القمح، بحجة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وضع ذلك على قبرين من أصحابه، ما حكم ذلك؟
جـ 13: لا تشرع قراءة سورة (يس) ولا غيرها من القرآن على القبر بعد الدفن ولا عند الدفن، ولا تشرع القراءة في القبور؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك، ولا خلفاؤه الراشدون، كما لا يشرع الأذان والإقامة في القبر، بل كل ذلك بدعة، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ، خرجه الإمام
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(45/116)
مسلم في صحيحه. وهكذا لا يشرع غرس الشجر على القبور، لا الصبار ولا غيره، ولا زرعها بشعير أو حنطة أو غير ذلك؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك في القبور، ولا خلفاؤه الراشدون - رضي الله عنهم -. أما ما فعله مع القبرين اللذين أطلعه الله على عذابهما من غرس الجريدة، فهذا خاص به - صلى الله عليه وسلم - وبالقبرين؛ لأنه لم يفعل ذلك مع غيرهما، وليس للمسلمين أن يحدثوا شيئا من القربات لم يشرعه الله، للحديث المذكور، ولقول الله سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) الآية. وبالله التوفيق.
__________
(1) سورة الشورى الآية 21(45/117)
س 14: مطلوب من الإنسان ذكر الله في كل وقت، وعلى كل حال إلا في أماكن نهي عن ذكر الله فيها، كالحمام مثلا، فهل يقطع الإنسان ذكر الله في الحمام بتاتا، حتى ولو في قلبه؟
جـ 14: الذكر بالقلب مشروع في كل زمان ومكان، في الحمام وغيره، وإنما المكروه في الحمام ونحوه: ذكر الله باللسان؛ تعظيما لله سبحانه، إلا التسمية عند الوضوء، فإنه يأتي بها إذا لم يتيسر الوضوء خارج الحمام؛ لأنها واجبة عند بعض أهل العلم، وسنة مؤكدة عند الجمهور.(45/117)
س 15: يقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) ، هل هذه الآية خاصة باليهود والنصارى أم أنها عامة؟
__________
(1) سورة البقرة الآية 256(45/117)
جـ 15: للعلماء في الآية الكريمة قولان: أحدهما: أنها وأمثالها منسوخات بآية السيف، وهي قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، وما جاء في معناها مثل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (2) والقول الثاني: أنها في أهل الكتاب ومن في حكمهم، كالمجوس إذا سلموا الجزية فإنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام؛ لقول الله - عز وجل -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (3) ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر.
وبذلك يعلم أنه ليس فيها حجة لمن زعم عدم وجوب الجهاد في سبيل الله.
ويدل على هذا المعنى أيضا حديث بريدة بن الحصيب، المخرج في صحيح مسلم، وفيه أن «النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا، وفي آخره قال: فإن هم أبوا - أي الكفار - الدخول في الإسلام فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم (4) » .
وهذا محمول على أهل الكتاب، ومن في حكمهم، كالمجوس
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة الأنفال الآية 39
(3) سورة التوبة الآية 29
(4) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2612) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/358) ، سنن الدارمي السير (2439) .(45/118)
عند جمهور أهل العلم جميعا، بين هذا الحديث وبين آية التوبة المتقدم ذكرها وما في معناها.(45/119)
س 16: لقد أغواني الشيطان وفعلت جريمة الزنا، وأنا أعلم أنها جريمة بشعة، وأريد أن أتوب إلى الله - عز وجل -، فهل يتوب الله علي؟ علما أنني كنت أقول: سوف أفعلها ثم أتوب. فهل لي توبة؟
جـ 16: التوبة بابها مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها، فمن تاب إلى الله توبة نصوحا من الشرك فما دونه تاب الله عليه.
والتوبة النصوح هي: المشتملة على الإقلاع عن الذنوب، والندم على ما فات منها، والعزم الصادق على ألا يعود فيها؛ خوفا من الله سبحانه، وتعظيما له، ورجاء لعفوه ومغفرته، كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (1) ، وقال - عز وجل -: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) ، وقال - عز وجل -: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3) ، وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية نزلت في التائبين.
ويزاد على الشروط الثلاثة المذكورة في صحة التوبة شرط رابع فيما إذا كانت الحقوق لآدميين وهو: أن يؤدي إليهم حقوقهم من مال أو غيره أو يستحلهم منها؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان عنده لأخيه مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ من حسناته بقدر مظلمته فإن لم
__________
(1) سورة التحريم الآية 8
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة الزمر الآية 53(45/119)
يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه (1) » . خرجه البخاري في صحيحه.
والواجب على المسلم أن يحذر الشرك ووسائله وجميع المعاصي؛ لأنه قد يبتلى بشيء من ذلك، ثم لا يوفق للتوبة، فتعين عليه أن يحذر كل ما حرم الله عليه، وأن يسأل ربه العافية من ذلك، وألا يتساهل مع الشيطان، فيقدم على المعاصي بنية التوبة منها، ولا شك أن ذلك خداع من الشيطان، وتزيين منه للوقوع في المعاصي، بدعوى أنه سيتوب منها، وقد يعاقب العبد فيحال بينه وبين ذلك فيندم غاية الندامة، وتعظم حسرته حين لا ينفعه الندم.
وقد قال سبحانه: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (2) ، وقال سبحانه: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} (3) ، وقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (4) {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (5) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقاك الله شر نفسك وأعاذك من نزغات الشيطان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2449) ، مسند أحمد بن حنبل (2/506) .
(2) سورة البقرة الآية 40
(3) سورة آل عمران الآية 28
(4) سورة فاطر الآية 5
(5) سورة فاطر الآية 6(45/120)
الأمية في المنظور الإسلامي
بقلم \ مصطفى بن عيد الصياصنة (1)
كثيرة هي المفاهيم التي تحتاج اليوم إلى تصويب. .
ومن هذه المفاهيم الكثيرة: مفهوم الأمية.
فلو أن مسلما وقف اليوم قائلا: (نحن - أمة الإسلام - أمة أمية) ، لأفزع مثل هذا القول منه كثيرين، وقد تأخذ العصبية بعضهم، فيرفعون عقيرتهم في وجهه صائحين:
أو يقول مثل هذا الكلام - اليوم - عاقل؟
أو بقي - ونحن على أعتاب القرن الحادي والعشرين - من تسمح له نفسه، أن يتلفظ بمثل هذه الكلمات؟ !! يحارب الإسلام (الأمية) بكل صورها وأشكالها؟ !! .
أو لم يسع المسلمون - ولا يزالون - إلى القضاء على مثل هذه الآفة، بمختلف الوسائل والأساليب؟ ؟ ونحن بدورنا نقول لمثل هؤلاء الثائرين الغاضبين:
نعم، وألف نعم.
إن الإسلام حارب الأمية - الأمية التي بمعنى الجهالة - ولا يزال وليس هناك في الدنيا عاقل - لديه أدنى ذرة من عقل - يجرؤ على إنكار شيء من ذلك.
أسمعتم - ذات يوم - مسلما يقول: دعونا نرسف في أغلال
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد 39 ص 345.(45/121)
الجهالة، ونعب من أوحال التخلف، فنحن نرفض العلم، ونأبى الحضارة، ونمقت شموس المعرفة والثقافة.
إننا لن نختلف على شيء من ذلك، ولا يمكن لمثل هذا أن يكون. . ولكن. .
لكن. . على رسلكم أيها القوم. .
لقد ظلمتم (الأمية) حين جعلتموها لا تعني سوى الجهالة والغفلة والتخلف.
حين صورتموها للناس غولا بشعا، وسرطانا قاتلا، وداء فتاكا، يشل حركة الفرد ويعطل مسيرة الأمة عن سلوك مدارج التقدم والمدنية والرقي.
حين حجمتم مفهوم العبارة، وقزمتم مدلولها، بل وألزمتموها أن تلبس ثوبا واحدا، هو الثوب الذي فرضتموه عليها، وأجبرتموها أن تزهد في بقية ما لها من الأثواب الجميلة القشيبة البراقة.
لقد أخذتم بهذا المفهوم الضيق الضحل، ووقفتم عنده لا تتجاوزونه، وضربتم بكل ما لهذه الكلمة من مدلولات أخرى يزخر بها كتاب الله تعالى، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولغة العرب عرض الحائط، غير آبهين بواحد منها على الإطلاق.
هلا أتيتم معنا إلى كتاب الله تعالى، وإلى أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وإلى كتب الأصول، لنرى ما لهذه العبارة، وما عليها، فنحدد الرؤية، ونستوضح المفهوم، ونستبين الصواب.؟
من أجل هذا كله، كانت لنا هذه الوقفة، إضاءة بسيطة(45/122)
متواضعة، على طريق توضيح الرؤية، وجلاء الصورة، وإزالة بعض ما علق بمرآة الحق والصواب، من غبش وقتام وغبار، بعيدا عن كل أساليب المبالغة، وطرق التهويش، غير عابئين - إن شاء الله تعالى - بلغط العابثين، وصولة الحمقى، وزعيق جحافل لبلاب العلم وفلول المستهترين.(45/123)
النبي الأمي:
وردت النصوص القرآنية الكريمة، تصف نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأنه (النبي الأمي) ، جاعلة أميته - عليه الصلاة والسلام - دليلا على صدق نبوته، وشاهدا حيا لا جدال فيه، على قوة المعجزة التي أجراها الله - تبارك وتعالى - على يديه، ومبعث فخر واعتزاز له ولأمته - صلى الله عليه وسلم - إلى قيام الساعة، ويكفيه صدقا وفخرا عليه الصلاة والسلام، أنه - رغم كونه أميا لا يكتب ولا يقرأ من كتاب - كان يتلو على الناس كتاب الله الكريم، وبالنظم الذي أنزل عليه، دون تغيير أو تبديل، دون زيادة أو نقص، في حين أن أكثر الخطباء فحولة - من العرب - وأبلغهم فصاحة وبيانا، كان إذا ارتجل خطبة، ثم أعادها، زاد فيها ونقص، وغير وبدل، وعجز عن أن يأتي بها - مرة ثانية - على نظمها الأول، رغم كونها من إبداعه ونتاج فكره وجهده، وكونه قارئا مجيدا وكاتبا، فجاء حفظ الله تعالى لنبيه الأمي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، من أن يقع في شيء من ذلك دليلا آخر ناصعا على صدقه في تبليغه ما أوحي إليه من ربه تبارك وتعالى.
قال تعالى:(45/123)
(أ) {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (1) {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) .
(ب) {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3) .
(ج) {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (4) .
فهذه الآيات تصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه (النبي الأمي) ، وأن صفته هذه مذكورة في الكتب السماوية السالفة، وأهل الكتاب يعرفونها فيه عن طريق كتبهم، وقد بشرهم ببعثته أنبياؤهم، وأمروهم بمتابعته والإيمان به، وأن صفته هذه لم تزل في كتبهم، يعرفها علماؤهم وأحبارهم.
قال الإمام الطبري - رحمه الله -: (لا يعلم من رسول وصف
__________
(1) سورة الأعراف الآية 156
(2) سورة الأعراف الآية 157
(3) سورة الأعراف الآية 158
(4) سورة الجمعة الآية 2(45/124)
بهذه الصفة - أعني الأمي - غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم) (1) .
وقد فسر الإمام الشوكاني المراد بـ النبي الأمي في هذه الآيات فقال: (والأمي: إما نسبة إلى الأمة التي لا تكتب ولا تحسب وهم العرب، أو نسبة إلى الأم، والمعنى أنه باق على حالته التي ولد عليها لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وقيل: نسبة إلى أم القرى وهي مكة) (2) .
وفي موضع آخر من تفسيره قال: (أخرج ابن أبي حاتم عن النخعي في قوله: النبي الأمي قال: كان لا يقرأ ولا يكتب، وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال: (هو نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كان أميا لا يكتب) (3) .
وقال أبو السعود في تفسيره: (هو الذي لم يمارس القراءة والكتابة، ومع ذلك جمع علوم الأولين والآخرين) (4) . وقد ورد في القرآن الكريم ما يبين المراد بأميته - صلى الله عليه وسلم -، وذلك في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (5) .
فهذه الآية تبين أن المراد بـ النبي الأمي: الذي لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، ولولا أميته - صلى الله عليه وسلم - لارتاب الجهلة بما أنزل إليه، ولقالوا: إنما أوتيه عن الكتب التي هو يقرؤها، فلما كان أميا لا
__________
(1) تفسير الطبري 9 \ 56، طبعة 1398 هـ، دار الفكر ببيروت، وبهامشه تفسير النيسابوري.
(2) فتح القدير للشوكاني 2 \ 252، طبعة 1401 هـ، دار الفكر ببيروت
(3) فتح القدير 2 \ 254.
(4) تفسير أبي السعود 2 \ 414، تحقيق عبد القادر عطا، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
(5) سورة العنكبوت الآية 48(45/125)
يقرأ ولا يكتب، لم يكن هناك موضع ريبة، ولا محل للشك أبدا بل صار إنكار من أنكر مجرد عناد وجحود، بلا أدنى شبهة معقولة.
قال الطبري في تفسيرها: ما كنت يا محمد تقرأ من قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك، ولم تكن تكتب بيمينك، ولكن كنت أميا) .
ثم نقل عن ابن عباس قوله: (كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أميا، لا يقرأ شيئا ولا يكتب) .
وعن قتادة: (كان نبي الله لا يقرأ كتابا قبله، ولا يخطه بيمينه، كان أميا، والأمي الذي لا يكتب) (1) .
وقال ابن كثير: (قد لبثت في قومك يا محمد من قبل أن تأتي بهذا القرآن عمرا، لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب، وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دائما إلى يوم الدين، لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده، بل كان له كتاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم) (2) .
كما ورد في الحديث الصحيح، ما يثبت أميته - صلى الله عليه وسلم -، بمعنى: عدم قدرته على الكتابة، أو القراءة من كتاب:
فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه -: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يعتمر، أرسل إلى أهل مكة، يستأذنهم ليدخل مكة، فاشترطوا عليه
__________
(1) تفسير الطبري 21 \ 4.
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3 \ 357، بإشراف خليل الميس، الطبعة الثانية، دار الفكر، بيروت.(45/126)
أن لا يقيم بها إلا ثلاث ليال، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح، ولا يدعو منهم أحدا.
قال: فأخذ يكتب الشرط بينهم علي بن أبي طالب، فكتب: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقالوا: لو علمنا أنك رسول الله لم نمنعك ولتابعناك، ولكن اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقال: أنا والله محمد بن عبد الله، وأنا والله رسول الله، قال: وكان لا يكتب قال: فقال لعلي: امح رسول الله، فقال علي: والله لا أمحاه أبدا، قال: فأرنيه، قال: فأراه إياه، فمحاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده (1) » .
فقول الصحابي الجليل: (وكان لا يكتب) دليل على عدم معرفته - صلى الله عليه وسلم - لفن الكتابة، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: أرنيه دليل على عدم تمكنه من قراءة ما كتب، وإلا لكان بادر إلى محو العبارة التي يريد محوها، من غير أن يطلب من علي - رضي الله عنه - أن يحدد له موضعها، ويدله عليها.
وقد أجمعت الأمة سلفا وخلفا، على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أميا، لا يحسن الكتابة، ولا يقرأ من كتاب، وكان ذلك معروفا عنه - صلى الله عليه وسلم - بالعلم المستفيض في عصره، بين قومه، وبين غيرهم ممن جاورهم أو خالطهم وكان بعيدا عنهم، بحيث يستحيل معه إنكار ذلك، كما وكان ذلك معروفا عنه - صلى الله عليه وسلم -، لدى أهل الديانات الأخرى، لما
__________
(1) أخرجه البخاري 3184، في الجزية، والموادعة: المصالحة على ثلاثة أيام، واللفظ له، مسلم 1783، في الجهاد والسير، صلح الحديبية، أحمد 1 \ 86 و 4 \ 330 و 5 \ 291. أمحاه: لغة في أمحوه، وجلبان السلاح: السلاح مغمودا في جرابه.(45/127)
ذكرته لهم عنه كتبهم المتقدمة، وأشاعه بينهم على مر العصور علماؤهم وأحبارهم.(45/128)
ولكونه - صلى الله عليه وسلم - أميا لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، فقد ثبت أنه كان اتخذ لنفسه كتبة، يكتبون بين يديه الوحي، كما كانوا يكتبون له رسائله إلى الملوك وغيرهم.
ومن أشهر كتاب الوحي: الخلفاء الراشدون الأربعة، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، ومعاوية بن أبي سفيان، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
أما ما ذهب إليه بعض العلماء، من أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد أحسن الكتابة أواخر حياته، اعتمادا على الأثر الذي أخرجه ابن أبي شيبة، ونصه: (ما مات رسول الله حتى قرأ وكتب) . فهو مذهب شاذ ممخرق، لا يعضده دليل، ولا تدعمه حجة، ولا يسنده واقع حال.
ذلك أن هذا الأثر موضوع، حكم عليه من العلماء الشوكاني والسيوطي والألباني بالوضع، كما نقلوا قول الطبراني فيه: (هذا حديث منكر، أبو عقيل - راويه - ضعيف الحديث، وهذا معارض لكتاب الله) .
وقال الحافظ ابن كثير فيه: (وما أورده بعضهم من الحديث، أنه لم يمت - صلى الله عليه وسلم - حتى تعلم الكتابة، فضعيف لا أصل له) (1) .
__________
(1) تفسير ابن كثير 3 \ 357.(45/128)
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) عن الجمهور قولهم بضعفه.
وممن ذهب هذا المذهب الشاذ من العلماء: أبو الوليد الباجي، وأبو ذر الهروي، وأبو الفتح النيسابوري، وآخرون من علماء إفريقية وفقهائها المتأخرين.
وبالإضافة إلى اعتمادهم هذا الأثر الموضوع، في تقريرهم ما ذهبوا إليه، فقد اعتمد بعضهم على ما ورد في صحيح البخاري، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -، أنه قال: «لما اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة، فأبى عليه أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب، كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، قالوا: لا نقر لك بهذا، لو نعلم أنك رسول الله ما منعناك شيئا، ولكن أنت محمد بن عبد الله، فقال: أنا رسول الله، وأنا محمد بن عبد الله، ثم قال لعلي: امح رسول الله، قال علي: لا والله لا أمحوك أبدا، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكتاب - وليس يحسن يكتب - فكتب: هذا ما قاضى محمد بن عبد الله، لا يدخل مكة إلا السيف في القراب (1) » .
قالوا: هذا الحديث يدل ظاهره على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب الكتاب بيده الشريفة، لما امتنع علي - رضي الله عنه - عن الكتابة.
__________
(1) أخرجه البخاري 4251 في المغازي، عمرة القضاء.(45/129)
والصحيح أن هذا الحديث ليس على ظاهره كما قال الألباني (1) بل هو من باب (بنى الأمير المدينة) أي: أمر ببنائها.
وقد نقل الحافظ في (الفتح) عن السهيلي قوله: (والحق أن معنى قوله: (فكتب) أي: أمر عليا أن يكتب) .
ثم وافقه الحافظ قائلا: (ويجاب عن قصة الحديبية، بأن القصة واحدة، والكاتب فيها علي، وقد صرح في حديث المسور بأن عليا هو الذي كتب، فيحمل على أن النكتة في قوله: (فأخذ الكتاب - وليس يحسن يكتب - فكتب) لبيان أن قوله: (أرني إياها) أنه ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع علي من محوها، إلا لكونه كان لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك: فكتب) فيه حذف تقديره: فمحاها فأعادها لعلي فكتب، وبهذا جزم ابن التين، وأطلق (كتب) بمعنى: (أمر بالكتابة) ، وهو كثير، كقوله: كتب إلى قيصر، وكتب إلى كسرى) (2) .
والذي يبدو أن بعض القائلين بإتقان النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتابة، إنما أراد أنه أتقنها للحظة واحدة، وهي تلك اللحظة التي أمسك فيها بكتاب صلح الحديبية من علي، ومحا وغير، وأن ذلك إنما كان على سبيل جريان المعجزة الخارقة على يديه - عليه الصلاة والسلام -، أو أنه إنما كتب اسمه فقط، رغم كونه أميا، كعادة الكثير من الأميين، الذين يعرفون رسم أسمائهم، ولكن لو طلب إليهم أن يكتبوا غير ذلك لما استطاعوا، فلا يخرجهم ذلك عن كونهم أميين، لا يجيدون
__________
(1) السلسلة الضعيفة للألباني 1 \ 349، الطبعة الثانية، 1399 هـ المكتب الإسلامي، بيروت.
(2) فتح الباري 7 \ 567.(45/130)
قراءة ولا كتابة.
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -:
(من زعم من متأخري الفقهاء، كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه، أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: (ثم أخذ فكتب) ، ولذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب، على من قال بقول الباجي، وتبرءوا منه، وأنشدوا في ذلك أقوالا، وخطبوا في محافلهم، وإنما أراد الرجل - أعني الباجي فيما يظهر عنه - أنه كتب ذلك على وجه المعجزة، لا أنه كان يحسن الكتابة) (1) .
وقد روى الحافظ في الفتح قصة الباجي، وما ذهب إليه، وما كان له مع العلماء في زمنه، بسبب ما قاله، فقال:
(وقد تمسك بظاهر هذه الرواية - أي رواية البخاري - أبو الوليد الباجي، فادعى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب بيده، بعد أن لم يكن يحسن يكتب، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه، ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله يخالف القرآن، حتى قال قائلهم:
برئت ممن شرى دنيا بآخرة ... وقال إن رسول الله قد كتبا
فجمعهم الأمير، فاستظهر الباجي عليهم بما لديه من المعرفة، وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن؛ لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن، فقال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (2)
__________
(1) تفسير ابن كثير 3 \ 357.
(2) سورة العنكبوت الآية 48(45/131)
وبعد أن تحققت أميته، وتقررت بذلك معجزته، وأمن الارتياب في ذلك، لا مانع من أن يعرف الكتابة بعد ذلك، من غير تعليم، فتكون معجزة أخرى) .
ثم قال الحافظ مخففا من شدة وطء الحملة على الباجي وجماعته: (وعلى تقدير حمله - أي حديث البخاري - على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم - وهو لا يحسن الكتابة - أن يصير عالما بالكتابة، ويخرج من كونه أميا، فإن كثيرا ممن لا يحسن الكتابة يعرف تصور بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده، وخصوصا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا، ككثير من الملوك، ويحتمل أن يكون جرت يده بالكتابة حينئذ - وهو لا يحسنها - فخرج المكتوب على وفق المراد، فيكون معجزة أخرى، في ذلك الوقت خاصة، ولا يخرج بذلك عن كونه أميا، وبهذا أجاب أبو جعفر السمناني، وتبعه ابن الجوزي) .
ثم رد على السهيلي قوله، بأن جريان الكتابة على يده - عليه الصلاة والسلام - في ذلك الوقت فقط، يعارض القول بمعجزته - صلى الله عليه وسلم -، المتمثلة في أميته:
(وفي دعوى أن كتابة اسمه الشريف فقط على هذه الصورة، تستلزم مناقضة المعجزة، وتثبت كونه غير أمي نظر كبير) (1) .
قلت: وفيما ذهب إليه أصحاب هذا الاجتهاد تمحل واضح، ووقوف متصلب عند ظاهر النص، كان العلماء في غنى
__________
(1) فتح الباري، 7 \ 575- 576.(45/132)
عن الوقوف - طويلا - عنده واللجوء إلى البحث عن مسالك لتأويله، وتكلف الوجوه البعيدة لتوجيهه، وخاصة: مع عدم وجود نص آخر يسنده أولا، بل ووجود رواية أخرى للحديث توضح ما أشكل في عبارة هذه الرواية، التي جعلوها عمدة نقاشهم ومدار استنباطهم، وهي عند البخاري أيضا وعند غيره، وبالسند الصحيح والدلالة الواضحة ثانيا، هذا مع إجماع الأمة على القول بأميته - صلى الله عليه وسلم - ثالثا، فكان ذلك كله كافيا لحسم النقاش في المسألة، وعدم التوسع في ولوج باب التأويل، والاستفاضة في اختلاف الوجوه المتمحلة، والتي نحن في غنى عن الانجرار إلى غمارها.(45/133)
والآن ما الحكمة الكامنة وراء كونه - صلى الله عليه وسلم - بعث أميا، بهذه الرسالة الخاتمة؟ إن هناك حكما كثيرة ولا شك، تبعثها الأجواء العامة، التي تشعها النصوص المتحدثة عن أميته - صلى الله عليه وسلم -، في نفس مستطلعها.
ونحن إن كنا لا نستطيع حصر هذه الإشعاعات، فإن بإمكاننا أن نسجل ما برز - واضحا جليا - منها:
1 - المبالغة في توكيد ظاهرة جريان المعجزة على يديه - صلى الله عليه وسلم -، فهو مع كونه رجلا أميا، لا يجيد كتابة، ولا يقرأ مكتوبا، ولم يسبق له طيلة حياته أن قرأ كتابا مسطورا، فقد جاء بما أعجز كافة العرب - بل كافة البشر أجمعين - عن أن يأتوا بشيء من مثل ما أتاهم به، والمعجزة الباهرة لا تزال مستمرة شاخصة قائمة، ومع استمرارها يستمر العجز البشري - حيالها - ماثلا، لا يتقدم - قيد أنملة - أو يتزحزح(45/133)
إنه كلام الوحي المعجز - إلهيا كان أو نبويا - فيه من الحكم البالغة، وفيه من الإخبار عن الغيب، والإنباء عما كان وسيكون، وفيه من النظم والتوجيهات، ما يشمل جميع نواحي حياة البشر، بمختلف مشاربها وتوجهاتها، بحيث لا يصلح لهم سواها، ولا فلاح لهم إلا بها. وكل ذلك يأتي به رجل أمي - في مثل حال محمد - صلى الله عليه وسلم - - ما قرأ يوما كتابا، ولا خط بيده سطرا، ثم لا يكون ذلك في الذروة من شامخ المعجزات؟ والقمة من ساطع الآيات الباهرات؟
2 - موافقة ما ساقه ركب الأنبياء السابقين إلى أممهم، من بشارات مقدمه - صلى الله عليه وسلم -، رحمة عامة لكافة البشرية، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} (1) .
فالأنبياء بشروا أممهم بمقدم محمد - عليه الصلاة والسلام -، وذكروه لهم بأوصافه التي تميزه، وأوضح هذه الأوصاف وأجلاها. أنه (النبي الأمي) .
3 - ليكون في أميته مشاكلا لحال عامة قومه، مماثلا لغالب أفراد أمته، الذين بعث فيهم، وعندما يكون من جنسهم ومن جملتهم، يكون أقرب إلى موافقتهم، والالتصاق بهم، والنفوذ إلى أعماق نفوسهم. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} (2) . وهذا ما أفادته لفظة (منهم) في هذه الآية.
4 - لنفي سوء ظن مفاده: أنه تعلم ما جاء من الكتب التي
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة الجمعة الآية 2(45/134)
قرأها، فلما كان أميا، لا يقرأ مسطورا ولا يكتب سطرا، فسد مثل هذا الظن، وبطلت حجج مثيريه، وسحبت جميع البسط، من تحت أرجل المتشككين والمرجفين والمبطلين.
قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (1) .
ومع كل هذا، فقد اتهموه - صلى الله عليه وسلم - باكتتاب ما يتلو عليهم، وهم يعرفونه أميا لا يعرف كتابة: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (2) .
أرأيت - بعد هذا - إلى سماجتهم وبجاحتهم وائتفاكاتهم، إلى أي حد وصلت، وأي مبلغ بلغت؟ إنها الغواية، التي إذا تغلغلت في القلب، أعمت البصر، وأصمت السمع، وعطلت العقل والذهن.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 48
(2) سورة الفرقان الآية 5(45/135)
أمته - عليه الصلاة والسلام - أمة أمية:
وإذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا أميا، بنصوص الكتاب والسنة وانعقاد الإجماع وشهادة واقع الحال، فإن أمته - صلى الله عليه وسلم - كانت أمة أمية ولا تزال، وهذا وصفها في كتاب الله - عز وجل -، وفي سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام.
(أ) قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1) {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) .
__________
(1) سورة الجمعة الآية 2
(2) سورة الجمعة الآية 3(45/135)
فالأميون - هنا - هم العرب، يمتن الله عليهم، بأنه بعث إليهم رسولا من جنسهم ومن جملتهم، يتلو عليهم آيات الله، ويعلمهم الكتاب والحكمة، بما يؤهلهم لقيادة البشرية، والسير بها إلى شاطئ الهداية والنجاة.
قال الطبري: (الأميون: هم العرب، وعن مجاهد قال: هم العرب، وعن قتادة قال: كان هذا الحي من العرب أمة أمية، ليس فيها كتاب يقرءونه، فبعث الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - رحمة وهدى يهديهم به) (1) .
وقال ابن كثير: (الأميون: هم العرب، كما قال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} (2) ، وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر) (3) .
وقال الشوكاني: (المراد بالأميين: العرب، من كان يحسن الكتابة منهم ومن لا يحسنها؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب، والأمي في الأصل: الذي لا يكتب ولا يقرأ المكتوب، وكان غالب العرب كذلك) (4) . ونقل القرطبي عن ابن عباس قوله: (الأميون: العرب كلهم، من كتب منهم ومن لم يكتب؛ لأنهم لم يكونوا أهل
__________
(1) تفسير الطبري 28 \ 61.
(2) سورة آل عمران الآية 20
(3) تفسير ابن كثير 4 \ 317.
(4) فتح القدير للشوكاني 5 \ 224.(45/136)
كتاب) (1) .
وقال سيد قطب: (قيل: إن العرب سموا أميين؛ لأنهم كانوا لا يقرءون ولا يكتبون في الأعم الأغلب، واقتضت حكمة الله أن يكون هذا النبي من العرب، من الأميين، إذ علم الله أن يهود قد فرغ عنصرها من مؤهلات القيادة الجديدة الكاملة للبشرية، وأنها زاغت وضلت، وأنها لا تصلح لحمل الأمانة، بعد ما كان منها في تاريخها الطويل) (2) .
وقد ورد في بيان سبب نزول هاتين الآيتين، ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: «كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حين أنزلت سورة الجمعة، فتلاها، فلما بلغ: قال له رجل: يا رسول الله، من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فلم يكلمه حتى سأل ثلاثا، قال: وسلمان الفارسي فينا، فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده على سلمان، فقال: والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء (4) » .
وفي رواية: «لو كان الدين عند الثريا، لذهب به رجل من فارس - أو قال: من أبناء فارس - حتى يتناوله (5) » .
ومنطوق هذا الحديث يفيد: أن المراد بـ (الأميين) - في هاتين الآيتين - هم العرب، وبـ (الآخرين منهم) : الفرس، أو العجم
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 18 \ 91، الطبعة الثانية، 1954 م، دار الكتب المصرية.
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب 6 \ 3564، الطبعة الثامنة، 1399 هـ، دار الشروق.
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4898) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2546) ، سنن الترمذي المناقب (3933) ، مسند أحمد بن حنبل (2/417) .
(4) سورة الجمعة الآية 3 (3) {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ}
(5) رواه البخاري 4897 في تفسير سورة الجمعة، باب قوله: '' وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ''، مسلم 2546 في فضائل الصحابة، فضل فارس، الترمذي 3929 في المناقب في فضل العجم.(45/137)
عامة.
قال الحافظ ابن كثير: (ففي هذا الحديث دليل على عموم بعثته - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس؛ لأنه فسر قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} (1) بفارس، ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم، وقال مجاهد: هم الأعاجم وكل من صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير العرب) (2) .
وقال الشيخ محمد أمين الشنقيطي: (الأميون: العرب، وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن قوله تعالى: {وَآخَرِينَ} (3) نزلت في فارس قوم سلمان) (4) .
__________
(1) سورة الجمعة الآية 3
(2) تفسير ابن كثير 4 \ 318، وانظر قول مجاهد في تفسير الطبري 28 \ 62.
(3) سورة الجمعة الآية 3
(4) أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 8 \ 191- 192، طبعة 1403 هـ.(45/138)
(ب) وقد كان اليهود يسمون العرب (الأميين) ، ويقصدونهم بهذا الاسم في أحاديثهم، وقد حكى القرآن الكريم ذلك عنهم، قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) .
والمفسرون على أن المراد بالأميين - في هذه الآية - العرب.
قال الطبري: (يعني بذلك جل ثناؤه، من استحل الخيانة من اليهود وجحود حقوق العرب التي هي له عليه، فلم يؤد ما ائتمنه العربي عليه إليه، إلا ما دام عليه متقاضيا مطالبا، من أجل أنه يقول: لا حرج علينا فيما أصبنا من أموال العرب ولا إثم) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 75(45/138)
ونقل عن قتادة قوله: (قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل) .
وعن السدي: (يقال له: ما بالك لا تؤدي أمانتك؟ فيقول: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلها الله لنا) (1) .
وقال ابن كثير: (وإنما حملهم على جحود الحق، أنهم يقولون: ليس علينا في ديننا حرج، في أكل أموال الأميين، وهم العرب، فإن الله قد أحلها لنا) (2) .
وقال الشوكاني: (قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من مال العرب سبيل) (3) .
ونقل القرطبي ما يفيد أن المراد بالأميين - في هذه الآية - (المسلمون) عامة، قال - رحمه الله -: (قيل: إن اليهود كانوا إذا بايعوا المسلمين يقولون: ليس علينا في الأميين سبيل، أي: حرج في ظلمهم، لمخالفتهم إيانا، أو ادعوا أن ذلك في كتابهم، فأكذبهم الله - عز وجل -) (4) .
أما سيد قطب فيرى أن مراد اليهود بكلمة (أميين) : كل من كان غير يهودي، وإن كان استعمال هذه الكلمة - في هذه الآية - يراد به العرب.
قال - رحمه الله -: (إنهم يقولون هذا القول، ويجعلون للأخلاق
__________
(1) تفسير الطبري 3 \ 226.
(2) تفسير ابن كثير 1 \ 322.
(3) فتح القدير للشوكاني 1 \ 354.
(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 4 \ 118.(45/139)
مقاييس متعددة، فالأمانة بين اليهودي واليهودي، أما غير اليهود - ويمسونهم الأميين وكانوا يعنون بهم العرب - وهم في الحقيقة يعنون: كل من سوى اليهود، فلا حرج على اليهود في أكل أموالهم وغشهم وخداعهم والتدليس عليهم واستغلالهم، بلا تحرج من وسيلة ولا فعل ذميم) (1) .
__________
(1) في ظلال القرآن لسيد قطب 1 \ 417.(45/140)
(جـ) وقد ورد في الحديث الشريف، ما يفيد وصف (الأمة المسلمة) بأنها (الأمة الأمية) :
فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنا أمة أمية: لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا، يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين (1) » .
وفي رواية مسلم: «الشهر هكذا وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة، والشهر هكذا وهكذا، يعني تمام الثلاثين (2) » .
ومن الجلي - هنا - أن كون هذه الأمة لا تكتب ولا تحسب تفسير لاتصافها بصفة (الأمية) ، غير أن التفسير الذي يأتي على بيان بعض جوانب المفهوم، لا التفسير الذي يحاول الإحاطة بالمفهوم على سبيل الحصر والتحديد.
فالرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أراد - في هذا الحديث - أن يذكر ببعض خصائص أمية أمته، لا أن يأتي بتعريف جامع مانع لمفهوم (الأمة
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2141) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(2) البخاري 1913، في الصوم، قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: '' لا نكتب ولا نحسب ''، مسلم 1080 في الصوم، وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، أبو داود 2033، 2319، في الصوم، الشهر يكون تسعة وعشرين، النسائي 2021 و2022 في الصوم، ذكر الاختلاف على يحيى بن أبي كثير.(45/140)
الأمية) .
وقد ذكر عليه الصلاة والسلام من صفات هذه الأمة الأمية، أنها لا تكتب ولا تحسب، مشيرا بأصابع يديه الشريفتين إلى عدد أيام الشهر، ليبين بشكل واضح وجلي أنه قد رفع عن أمته إصر التكلف والغلو والتمحل، وأنها مأمورة بالأخذ بالأيسر والأسهل والأسمح، والذي لا يخرج - في غالبه - عن طوق عامة الناس وأبسطهم.
فهذه الأمة، من أول خصائصها التي صارت بها (أمة أمية) ، أنها لا تزال على ما ولدتها عليه أمهاتها، من السير على نهج الفطرة، والأخذ بمبدأ التيسير، والبعد عن كل مناحي التصلب والتعقيد، ولذا فهي مأمورة بأن لا تكلف نفسها، ما ليس في وسعها الفطري، وطاقتها البشرية السهلة المعهودة: فعن عبد الله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر رمضان فقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له (1) » .
وفي رواية: «فاقدروا له ثلاثين (2) » .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما (3) » هكذا، وبمنتهى البساطة والسهولة
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1906) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(2) مسلم 1080 في الصيام، صوم رمضان لرؤية الهلال، أبو داود 2034 \ 2325 في الصوم، الشهر يكون تسعا وعشرين.
(3) البخاري 1907 في الصوم، إذا رأيتم الهلال فصوموا، مسلم 1081 في الصوم، وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال.(45/141)
والوضوح: اعتمدوا في تحديد صومكم وفطركم، وفي تعيين أيام حجكم، ومعرفة شهوركم على الرؤية البصرية للهلال فحسب، وكفاكم هذا السبيل السهل، الميسر لغالب عامتكم. ولم يطلب - صلى الله عليه وسلم - من أمته - وهي أمة الفطرة - أن تتكلف تعلم علم حساب النجوم، والعمق في مسائله، والغوص في دقائقه، بغية الوصول إلى معرفة منازل الهلال، وتحديد مطالع الشهور ونهاياتها، وما كان هذا إلا تمشيا مع قاعدة (المشقة تجلب التيسير) التي هي من ألزم قواعد هذا الدين الحنيف وشريعته السمحة الغراء.
قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال.
«إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وبشروا ويسروا (3) » .
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما (4) » .
وقد تناول العلماء (حديث الأمة الأمية) ، وأسهبوا في بيان تعليق حكم الصوم - بناء على منطوقه - برؤية الهلال، دون تكلف الرجوع في ذلك إلى أهل التسيير والحساب.
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة الحج الآية 78
(3) النسائي 4661 في الإيمان، الدين يسر.
(4) البخاري 3560 في المناقب، صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، مسلم 2327 في الفضائل، مباعدته - صلى الله عليه وسلم - للآثام، أبو داود 4002 \ 4785 في الأدب، في التجاوز في الأمر.(45/142)
قال الحافظ ابن حجر: وقيل للعرب أميون؛ لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة، والمراد بالحساب - هنا - حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضا إلا النزر اليسير) .
ثم انتهى من ذلك إلى القول: بأن المعول في الصيام إنما يكون على الرؤية لا الحساب، ولو وجد في المسلمين من يتقن علم حساب النجوم.
قال: فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية، لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير، واستمر الحكم في الصوم، ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلا ويوضحه قوله في الحديث: فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين، ولم يقل: (فسلوا أهل الحساب) .
ثم قال: (وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك، وهم الروافض، ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم، قال الباجي: وإجماع السلف الصالح حجة عليهم، وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم؛ لأنها حدس وتخمين، ليس فيها قطع ولا ظن غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق، إذ لا يعرفها إلا القليل) (1) .
ثم نقل عن ابن بطال قوله: (في الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المعول رؤية الهلال، وقد نهينا عن التكلف ولا شك أن مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية
__________
(1) فتح الباري لابن حجر 4 \ 151.(45/143)
التكلف) (1) .
وقال السندي في حاشيته على سنن النسائي: (إذا كان الشهر مختلفا فالعبرة برؤية الهلال، ولذلك ما كلفنا الله تعالى بحساب أهل النجوم، ولا بالشهور الشمسية الخفية، بل كلفنا بالشهور القمرية الجلية، لكنها مختلفة، فالعبرة حينئذ للرؤية) (2) .
أما شيخ الإسلام ابن تيمية، فكان أسهب في بيان بطلان اعتماد علم الحساب أساسا لتقرير مواعيد العبادات عند المسلمين، مؤكدا على أن التزام رؤية الهلال، هي السنة التي ارتضاها الله لهذه الأمة، في أمور عباداتها.
قال - رحمه الله -: فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام، أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء، أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال، بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلا، ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة، زعم أنه إذا غم الهلال، جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا، وهذا القول - وإن كان مقيدا بالإغمام، ومختصا بالحاسب - فهو شاذ، مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو
__________
(1) فتح الباري 4 \ 152.
(2) سنن النسائي 4 \ 139- 140، الطبعة الأولى 1930 م، دار الفكر، بيروت، بشرح السيوطي وحاشية السندي.(45/144)
أو تعليق عموم الحكم العام به، فما قاله مسلم.
وقد يقارب هذا قول من يقول من الإسماعيلية بالعدد دون الهلال، وبعضهم يروي عن جعفر الصادق جدولا يعمل عليه، وهو الذي افتراه عليه عبد الله بن معاوية، وهذه الأقوال خارجة عن دين الإسلام، وقد برأ الله منها جعفرا وغيره.
قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (1) ، فأخبر أنها مواقيت للناس، وهذا عام في جميع أمورهم، وخص الحج بالذكر تمييزا له. فجعل الله الأهلة مواقيت للناس في الأحكام، فما ثبت من المؤقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له، وهذا يدخل فيه الصيام والحج، ومدة الإيلاء والعدة وصوم الكفارة.
وذلك أن الهلال أمر مشهود مرئي بالأبصار، ومن أصح المعلومات ما شوهد بالأبصار، ولهذا سموه هلالا، لأن هذه المادة تدل على الظهور والبيان، إما سمعا وإما بصرا، كما يقال: أهل بالعمرة، وأهل بالذبيحة لغير الله إذا رفع صوته، ويقال لوقع المطر: الهلل، ويقال: استهل الجنين، إذا خرج صارخا، ويقال: تهلل وجهه إذا استنار وأضاء.
فالمقصود أن المواقيت حددت بأمر ظاهر بين يشترك فيه الناس، ولا يشرك الهلال في ذلك شيء، فإن اجتماع الشمس والقمر، الذي هو تحاذيهما الكائن قبل الهلال، أمر خفي لا يعرف إلا بحساب ينفرد به بعض الناس، مع تعب وتضييع زمان كثير
__________
(1) سورة البقرة الآية 189(45/145)
واشتغال عما يعني الناس وما لا بد له منه، وربما وقع فيه الغلط والاختلاف.
وكذلك كون الشمس حاذت البرج الفلاني أو الفلاني، هذا أمر لا يدرك بالأبصار، وإنما يدرك بالحساب الخفي الخاص المشكل، الذي قد يغلط فيه، وإنما يعلم ذلك بالإحساس تقريبا، فظهر أنه ليس للمواقيت حد ظاهر عام المعرفة إلا الهلال) .
وبعد أن تناول عادات الأمم في معرفة شهورها وسنيها، قال: (فالذي جاءت به شريعتنا أكمل الأمور؛ لأنه وقت الشهر بأمر طبيعي ظاهر عام يدرك بالأبصار، فلا يضل أحد عن دينه، ولا يشغله مراعاته عن شيء من مصالحه، ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه، ولا يكون طريقا إلى التلبيس في دين الله، كما يفعل علماء أهل الملل بمللهم) .
وقد رد الشيخ عبد العزيز بن باز على من قال بقول الفلكيين، بأن كسوف الشمس لا يكون إلا في آخر الشهر، في ليالي استسرار القمر، وأنه يمكن الاستدلال بذلك على تحديد بداية الشهر، من غير الاعتماد على رؤية الهلال، فقال:
(أما قول الفلكيين إن كسوف الشمس لا يكون إلا في آخر الشهر، في ليالي استسرار القمر، فليس عليه دليل يعتمد عليه، ويسوغ من أجله أن تخالف الأحاديث الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد صرح جمع من أهل العلم، بأن كسوف الشمس يمكن وقوعه(45/146)
في غير آخر الشهر، وهكذا خسوف القمر يمكن وقوعه في غير ليالي الإبدار، والله سبحانه على كل شيء قدير، وكون العادة الغالبة وقوع كسوف الشمس في آخر الشهر، لا يمنع وقوعه في غيره) .
وأما بصدد وجوب اعتماد الرؤية في إثبات الأهلة والشهور، فقال: (وقد صحت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوجوب اعتماد الرؤية في إثبات الأهلة أو إكمال العدة وهي أحاديث مشهورة مستفيضة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين وغيرهما، وحكمه لا يختص بزمانه فقط، بل يعم زمانه وما يأتي بعده إلى يوم القيامة؛ لأنه رسول الله إلى الجميع، والله سبحانه أرسله إلى الناس كافة، وأمره أن يبلغهم ما شرعه لهم في إثبات هلال رمضان وغيره، وهو العالم بغيب السماوات والأرض، والعالم بما سيحدث بعد زمانه من المراصد وغيرها، ويعلم سبحانه ما يقع من الكسوفات، ولم يثبت عن رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه قيد العمل بالرؤية بموافقة مرصد أو عدم وجود كسوف، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنا أمة أمية: لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وخنس إبهامه في الثالثة، والشهر هكذا وهكذا وهكذا، وأشار بأصابعه العشر (1) » ، وصح عنه أنه قال: «لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة (2) » ، ولم يأمر بالرجوع إلى الحساب، ولم يأذن في إثبات الشهور بذلك.
ولست أقصد من هذا منع الاستعانة بالمراصد والنظارات على رؤية الهلال، ولكني أقصد منع الاعتماد عليها أو جعلها معيارا للرؤية، لا تثبت إلا إذا شهدت المراصد لها بالصحة، أو بأن
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2140) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .
(2) سنن النسائي الصيام (2126) ، سنن أبو داود الصوم (2326) ، مسند أحمد بن حنبل (4/314) .(45/147)
الهلال قد ولد، فهذا كله باطل، ولا يخفى على كل من له معرفة بأحوال الحاسبين من أهل الفلك، ما يقع بينهم من اختلاف في كثير من الأحيان، في إثبات ولادة الهلال أو عدمها، وفي إمكان رؤيته أو عدمها.
ولو فرضنا إجماعهم في وقت من الأوقات على ولادته أو عدم ولادته، لم يكن إجماعهم حجة؛ لأنهم ليسوا معصومين، بل يجوز عليهم الخطأ جميعا، وإنما الإجماع المعصوم الذي يحتج به، هو إجماع سلف الأمة في المسائل الشرعية) .
فالمراد بـ (الحساب) الذي أشارت إليه عبارة (لا نحسب) في الحديث، هو علم حساب النجوم، أو ما يسمى بـ (علم التسيير) ، وقد دل الحديث على أن هذه الأمة غير مكلفة بالأخذ بهذا العلم، وصولا إلى معرفة منازل القمر، وتحديد بدايات الشهور ونهاياتها، لما في ذلك من الكلفة والعنت، ولكونه علما يقوم على الحدس والتخمين، واحتمال الوقوع في الخطأ فيه كبير، وإنما المعول في ذلك كله على رؤية الهلال بالبصر المجرد، لما في ذلك من التيسير على عامة الأمة، ولكونه أمرا ظاهرا عاما بينا، يشترك فيه غالب الناس، والأخذ به أبعد عن الخطأ، وعن التلبيس في دين الله تعالى.
أما فيما يتعلق بمفهوم (الكتابة) - والمشار إليه في الحديث(45/148)
بعبارة (لا نكتب) - فإن أكثر العلماء قد وقفوا عند ظاهر اللفظ، لم يتجاوزوه، وحملوه على عدم إجادة الكتابة، باعتبار أن هذه المهارة كانت في هذه الأمة عزيزة نادرة، لا يتقنها إلا قلائل الأفراد.
غير أن شيخ الإسلام ابن تيمية، نظر إلى المسألة نظرة ثاقبة ذكية متعمقة، فذهب إلى أن أمة العرب كانت أمة أمية قبل القرآن؛ لأنه لم يكن لها كتاب تقرؤه، وظلت بعد نزوله أمية، باعتبار عدم احتياجها لحفظ دينها إلى كتابته، بل إن قرآنها محفوظ في صدور أبنائها، إضافة إلى تكفل الله سبحانه بحفظه - بنص الكتاب - إلى يوم الدين.
قال - رحمه الله -: (ويقال: (الأمي) لمن لا يقرأ ولا يكتب كتابا، ثم يقال لمن ليس لهم كتاب منزل من الله يقرءونه، وإن كان قد يكتب ويقرأ ما لم ينزل، وبهذا المعنى كان العرب كلهم أميين، فإنه لم يكن عندهم كتاب منزل من الله، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} (1) ، وقد كان في العرب كثير ممن يكتب ويقرأ المكتوب، وكلهم أميون.
فلما نزل القرآن عليهم، لم يبقوا أميين باعتبار أنهم لا يقرءون كتابا من حفظهم، بل هم يقرءون القرآن من حفظهم، لكن بقوا أميين باعتبار أنهم لا يحتاجون إلى كتابة دينهم، بل قرآنهم محفوظ في قلوبهم، كما في الصحيح عن عياض بن حمار المجاشعي مرفوعا، وفيه: «إني مبتليك ومبتل بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظانا (2) » .
__________
(1) سورة الجمعة الآية 2
(2) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) ، مسند أحمد بن حنبل (4/162) .(45/149)
فأمتنا ليست مثل أهل الكتاب الذين لا يحفظون كتبهم في قلوبهم، بل لو عدمت المصاحف كلها، كان القرآن محفوظا في قلوب الأمة، وبهذا الاعتبار فالمسلمون أمة أمية بعد نزول القرآن وحفظه، كما في الصحيح عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: «إنا أمة أمية: لا نحسب ولا نكتب، الشهر هكذا وهكذا (1) » ، فلم يقل: إنا لا نقرأ كتابا ولا نحفظ، بل قال: لا نكتب ولا نحسب فديننا لا يحتاج أن يكتب ويحسب، كما عليه أهل الكتاب، من أنهم يعلمون مواقيت صومهم وفطرهم بكتاب وحساب، ودينهم معلق بالكتب، لو عدمت لم يعرفوا دينهم (2) .
قلت: وعدم اعتماد هذه الأمة على الكتابة في حفظ كتابها - كحال الأمم السابقة في حفظ كتبها - يرجع إلى تكفل الله - عز وجل - بحفظ هذا الكتاب، الأمر الذي لم يتكفل به سبحانه لأي كتاب سماوي آخر، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) .
فالكتب السماوية السابقة إنما نزلت لأمد معين ووقت محدد، فإذا انقضى ذلك الأمد أو الوقت، الذي أنزل من أجله كل كتاب من تلكم الكتب، تعرض ذلك الكتاب لما تعرض له سابقوه من الكتب الأخرى، من عوامل الضياع، ومظاهر التلاشي والنسيان، وأصابه - ما أصابها - من النقص والتزيد والحذف والتغيير والتحريف، بما لا يجعله صالحا بعد تلك الفترة التي أنزل لها.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2141) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/125) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 17 \ 435 وما بعدها.
(3) سورة الحجر الآية 9(45/150)
أما كتاب هذه الأمة، فهو خاتم الكتب جميعا، وهو معجزة الله الخالدة بين يدي خلقه إلى قيام الساعة، ولذا تكفل سبحانه وتعالى بحفظه وصونه، كتب أم لم يكتب، حرص على جمعه وتدوينه أم لم يحرص، وهذا ما يوضحه الخطاب الإلهي التالي، الموجه إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، حين أخذ يسارع في حفظ القرآن ويلهج بترديده، مخافة نسيانه له، وضياعه منه، قال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (1) {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (2) {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (3) {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (4) .
فهذا الكتاب المبين محفوظ بحفظ الله له، وبتسخيره طائفة من عباده المؤمنين يحفظونه في صدورهم، ويتعاهدونه بالتلاوة والترديد، آناء الليل وأطراف النهار، وما كتابته - من قبل كتبة الوحي وفي المصاحف - إلا تزيدا في تثبيت هذا الحفظ، ومبالغة في تأكيد ذلك الصون لا أكثر.
لقد رفع - بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب (5) » - عن هذه الأمة إصران من الآصار التي تغل حياة غيرها من الأمم:
1 - إصر تكلف التزام الكتابة، لحفظ الكتاب والسنة، مخافة ضياعهما، ذلك لئلا تصير أصول ديننا - من كتاب وسنة - معلقة بالكتب، لو عدمت هذه الكتب ضاع أكثر تلك الأصول.
2 - إصر تقحم وعثاء علم حساب النجوم، لمعرفة مواقيت بعض العبادات والأحكام، من صوم، وفطر، وحج، وعدة، وإيلاء، وكفارات، وذلك كي لا تصبح أحكام ديننا معلقة بعلم حساب النجوم، الذي تشق معرفته على غالب جماهير الأمة، بل
__________
(1) سورة القيامة الآية 16
(2) سورة القيامة الآية 17
(3) سورة القيامة الآية 18
(4) سورة القيامة الآية 19
(5) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2140) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) .(45/151)
أمره محصور في أفراد قلائل معدودين.
وهذا كله يندرج تحت باب (الرحمة بهذه الأمة) ، باعتبارها أمة الفطرة، وباعتبار رسالتها الرسالة الخاتمة، التي تصلح لكل زمان ومكان وجيل.(45/152)
الإسلام وتعلم الكتابة:
وتمشيا مع مفهوم أن أمية هذه الأمة، لا تعني التقليل من دور الكتابة في حياتها بحال من الأحوال، وإنما للأمية دلالاتها المشرقة، ومعانيها الطيبة الحميدة، فقد حض الإسلام على تعلم الكتابة، وأولى هذا الجانب من حياة المسلمين جل اهتمامه وعظيم عنايته.
فلتعلم الكتابة - في الإسلام - شأن وأي شأن؟
ومن هنا، فقد ألح الإسلام على ضرورة تعلمها، باعتبارها إحدى وسائل نشر الدعوة إلى دين الله تعالى، ومدرجا مهما من مدارج تقدم البشرية ونمو حضارتها.
وعليه، فقد كان أول ما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الإلهي قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (2) {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (3) {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (4) {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (5) .
فالخطوة الأولى من خطوات الدعوة إلى الله اقرأ.
نعم، أن يقرأ باسم الله الخالق الكريم، الرب المعلم بـ (القلم) ، الذي علم الإنسان - عن طريق القلم وعن طريق غيره
__________
(1) سورة العلق الآية 1
(2) سورة العلق الآية 2
(3) سورة العلق الآية 3
(4) سورة العلق الآية 4
(5) سورة العلق الآية 5(45/152)
ما كان يجهله، ولا يتصور له - قبلا - أنه سيتعلمه.
فالقلم كان ولا يزال أوسع أدوات التعليم أثرا في حياة الإنسان، وهذا ما يفسر هذه الإشارة إليه - بل الإلحاح على ذكره - في أول لحظة من لحظات الوحي، وفي أول سورة من سور القرآن العظيم.
وفي القرآن الكريم سورة سميت بـ (القلم) . تأكيدا على دوره البالغ، وإصرارا على بيان قيمته ووزنه، في كل مجالات الدين والحياة، وفيها كانت البداءة القسم بالقلم وما يسطر القلم.
قال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (1) {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} (2) {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} (3) {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) .
يقول سيد قطب - رحمه الله -: يقسم الله سبحانه بنون وبالقلم، وبالكتابة، والعلاقة واضحة بين الحرف (ن) بوصفه أحد الحروف الأبجدية، وبين القلم والكتابة.
فأما القسم بما هو تعظيم لقيمتها، وتوجيه إليها، في وسط أمة لم تكن تتجه إلى التعليم عن هذا الطريق، وكانت الكتابة فيها متخلفة نادرة، في الوقت الذي كان دورها المقدر لها في علم الله، يتطلب نمو هذه المقدرة فيها، وانتشارها بينها، لتقوم بنقل هذه العقيدة - وما يقوم عليها من مناهج الحياة - إلى أرجاء الأرض، ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة.
وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة
__________
(1) سورة القلم الآية 1
(2) سورة القلم الآية 2
(3) سورة القلم الآية 3
(4) سورة القلم الآية 4(45/153)
الكبرى (1) .
وفي السنة النبوية الشريفة، نجد مثل هذا الحض على تعلم الكتابة، والتوجيه إلى ضرورتها:
(أ) عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: رب، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة (2) » .
(ب) وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قيدوا العلم بالكتاب (3) » .
وفي رواية للحاكم عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قيدوا العلم. قلت: وما تقييده؟ قال: كتابته (4) » .
(جـ) وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة القرشي: «أن رجلا من الأنصار خرجت به نملة، فدل أن الشفاء بنت عبد الله ترقي من النملة، فجاءها، فسألها أن ترقيه، فقالت: والله ما رقيت منذ أسلمت، فذهب الأنصاري إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره بالذي قالت الشفاء، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفاء، فقال: اعرضي علي، فعرضتها عليه، فقال: ارقيه وعلميها حفصة كما علمتها
__________
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب 6 \ 3654- 3655.
(2) أبو داود 3933 \ 4700 في السنة، القدر، واللفظ له، الترمذي 1749 \ 2258 في القدر، باب 16 أحمد 5 \ 317، البيهقي في الأسماء والصفات ص 271، السلسلة الصحيحة، الألباني رقم 133.
(3) رواه الطبراني في الكبير (رقم \ 700) ، وأبو نعيم في أخبار أصفهان: (2 \ 229) والحاكم في المستدرك (1 \ 106) ، وذكره الألباني في الصحيحة: (2026) ، وفي صحيح الجامع: (4310) .
(4) المرجع السابق.(45/154)
الكتاب - وفي رواية -: كما علمتها الكتابة (1) » .
(د) وعن عائشة بنت طلحة، قالت: (قلت لعائشة - وأنا في حجرها - وكان الناس يأتونها من كل مصر، فكان الشيوخ ينتابونني لمكاني منها، وكان الشباب يتأخونني فيهدون إلي، ويكتبون إلي من الأمصار، فأقول لعائشة: يا خالة، هذا كتاب فلان وهديته. فتقول لي عائشة: أي بنية، فأجيبيه، وأثيبيه، فإن لم يكن عندك ثواب أعطيتك. قالت: فتعطيني) .
قلت: ففي الحديث الأول أن القلم هو أول مخلوق، فليس قبله قطعا أي مخلوق، وفي هذا تشريف له ولدوره جد عظيم.
وفي الحديث الثاني أمر بتقييد العلم عن طريق كتابته وتسجيله، كي يحفظ، فلا يضيع أو ينسى أو تندثر أعلامه، ولا يكون ذلك إلا بإتقان الكتابة، وتوظيفها في جميع شئون العلم ومجالاته
__________
(1) أخرجه الحاكم 4 \ 56، وأحمد 6 \ 372، وأبو داود 3887 في الطب، باب الرقى، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2 \ 388، وذكره الألباني في الصحيحة 178. والنملة: قروح تخرج في الجنب. أما الحديث القائل: '' لا تعلموهن الكتابة، ولا تسكنوهن الغرف، وعلموهن سورة النور ''، فقد رده الألباني في الصحيحة حديث 178، من وجهين: الأول: أن هذا الحديث موضوع، كما قال الذهبي، وطرقه كلها واهية جدا. والآخر: لو كان المراد نهي من يخشى عليها الفساد من التعليم، لم يكن هناك فائدة من تخصيص النساء بالنهي؛ لأن الخشية لا تختص بهن. ثم قال: (والحق أن الكتابة والقراءة نعمة من نعم الله على البشر، وهي كسائر النعم التي امتن بها عليهم، وأراد منهم استعمالها في طاعته فإن وجد فيهم من يستعملها في غير مرضاته، فليس ذلك بالذي يخرجها من كونها نعمة كنعمة السمع والبصر وغيرها) .(45/155)
في الحديثين الأخيرين إشارة واضحة إلى مشروعية تعليم النساء الكتابة، فكيف - إذن - بمن هم فحول الرجال وشم الأنوف؟
ويبقى - هنا - سؤال مفاده:
إننا نلحظ إصرارا بالغا من الوحي - بشقيه: الإلهي، والنبوي - على إعلاء شأن القلم، والتوكيد على دوره البارز في مسيرة الحياة، والأمر بضرورة تقييد العلم عن طريق كتابته لتحفظ رسومه، والحض على تعلم فن الكتابة من قبل كافة المسلمين، رجالهم ونسائهم.
فهل كان هذا كله، من أجل محو صبغة (الأمية) عن هذه الأمة؟
أبدا، إن هذه الأمة كانت (أمية) قبل انتشار الكتابة فيها، وظلت أمية بعد ذيوع هذا الفن بين أبنائها، وستظل أمية إلى قيام الساعة.
وانتشار مهارة الكتابة لن يقدم - في هذه المسألة - شيئا ولن يؤخر؛ لأن (الأمية) هي الصبغة التي اختارها الله صفة لازمة لهذه الأمة، لا تزول عنها أبد الدهر ولا تحول، ففيها من أسرار الدلالات، ما يرفع من مقام هذه الأمة، ويذهب بها مقاما عليا:
قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} (1) .
هل كان من فداء أسرى بدر تعليمهم صبيان المسلمين الكتابة؟
__________
(1) سورة البقرة الآية 138(45/156)
وبمناسبة الحديث عن الكتابة، فإن هناك حادثة مزعومة، غالبا ما يستشهد بها الكتاب والدعاة والخطباء والوعاظ، في كل مناسبة يستجرون فيها للحديث عما يسمى اليوم بـ (مكافحة الأمية) ، استدلالا منهم على مدى حرص الإسلام على الخلاص من هذا (الوباء) ، ونشر تعليم الكتابة بين أبنائه، ألا وهي قصة أسرى بدر من المشركين، إذ يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل فداء بعض أسارى المشركين يوم بدر، أن يعلموا أولاد المسلمين الكتابة.
ففي مسند الإمام أحمد: عن علي بن عاصم قال: قال داود بن أبي هند: حدثنا عكرمة، عن ابن عباس قال: «كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فداءهم، أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، قال: فجاء يوما غلام يبكي إلى أبيه، فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بذحل بدر، والله لا تأتيه أبدا (1) » .
وهذه الرواية ليست ثابتة من وجهين:
الأول: من حيث سندها، ففيه، علي بن عاصم بن صهيب الواسطي شيخ الإمام أحمد وداود بن أبي هند.
أما علي بن عاصم، فقد قال فيه أبو حاتم: (لين الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به) .
__________
(1) رواه أحمد 1 \ 247 ورقم 2216 في طبعة شاكر، وذكره المجد ابن تيمية في منتقى الأخبار رقم 4387 عن أحمد، وهو في نيل الأوطار للشوكاني 7 \ 305، طبعة دار القلم ببيروت. والذحل: الثأر.(45/157)
كما ونقل عن يزيد بن زريع قوله: (أفادني علي بن عاصم أحاديث عن خالد الحذاء، فأتيت خالدا الحذاء فأنكرها، وما عرف منها واحدا، وأفادني عن هشام بن حسان، فأتيت هشاما، فسألته عنه، فأنكره وما عرف) .
وقال يحيى بن معين فيه: (علي بن عاصم ليس بثقة) (1) .
وقال الإمام أحمد: (خذوا من حديثه ما صح، ودعوا ما غلط أو أخطأ فيه) .
وقال ابنه عبد الله: (كان أبي يحتج بهذا، وكان يقول: كان يغلط ويخطئ، وكان فيه لجاج، ولم يكن متهما بالكذب) (2) .
وقال عنه الحافظ في التقريب: (علي بن عاصم بن صهيب الواسطي صدوق، يخطئ، ويصر، ورمي بالتشيع) (3) .
كما وضعفه الألباني في (السلسلة الضعيفة) وقال فيه: (ضعيف الحديث) (4) .
أما (داود بن أبي هند) ، فقد قال عنه الحافظ في التقريب: (داود بن أبي هند ثقة متقن، كان يهم بآخره) .
الثاني: أن الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في طريقة معالجته لمسألة الأسرى، أنه لم يكن يتجاوز مجموعة هذه المعالجات:
1 - القتل.
__________
(1) انظر قولي يزيد بن زريع وابن معين في: الجرح والتعديل: 6 \ 198.
(2) العلل في معرفة الرجال، أحمد بن حنبل: 1 \ 52.
(3) تقريب التهذيب، ابن حجر العسقلاني ص 247.
(4) انظر السلسلة الضعيفة 1 \ 328، طبعة المكتب الإسلامي 1398 هـ، 2 \ 358، طبعته أيضا سنة 1399 هـ.(45/158)
2 - المفاداة بمال.
3 - المفاداة بمن في أيدي المشركين من أسرى المسلمين.
4 - الاسترقاق.
5 - العفو.
ولم يرد في رواية صحيحة ثابتة، أنه جعل تعليم أسرى المشركين لأبناء المسلمين الكتابة فداء لهم من أسرهم، وهذه هي كتب السنة والسيرة والفقه، تتحدث عن فداء الأسرى، ولا تذكر شيئا غير الذي قلناه. ومن ذلك كله، يتبين سقوط الاحتجاج بهذه الرواية، في إثبات هذه المسألة.(45/159)
وللأمية مدلولاتها:
لو استعرضنا أقوال أهل العلم بالتفسير، وأهل الحديث، وأرباب اللغة العربية، لوجدنا أن للأمية مدلولاتها المتعددة، منها ما يدل على صفة محمودة ممدوحة، ومنها ما يدل على صفة قبيحة مذمومة.
1 - فالأمية: مصدر صناعي، والأمي: الذي لا يحسن الكتابة، ولا يقرأ من الكتاب.
ففي اللسان: (الأمي: الذي لا يكتب، قال أبو إسحاق: معنى الأمي: المنسوب إلى ما عليه جبلته أمه، أي لا يكتب، فهو في أنه لا يكتب أمي؛ لأن الكتابة مكتسبة، فكأنه نسب إلى ما يولد عليه، أي على ما ولدته أمه عليه، وقيل للعرب الأميون لأن الكتابة فيهم عزيزة أو عديمة، وقال الزجاج: الأمي الذي على خلقة الأمة(45/159)
لم يتعلم الكتاب فهو على جبلته) (1) .
وفي المعجم الوسيط: (الأمي: من لا يقرأ ولا يكتب، نسبة إلى الأم أو الأمة) (2) .
وبذا فسر بعضهم قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (3) .
قالوا: فهؤلاء لا علم لهم بالتوراة، لما هم عليه، من كونهم لا يكتبون ولا يقرءون المكتوب، فهي مجرد أماني وتخرصات لديهم يتمنونها، ويعللون بها أنفسهم ليس غير.
قال الطبري: يعني بالأميين: الذين لا يكتبون ولا يقرءون، وأرى أنه قيل للأمي أمي، نسبة له بأنه لا يكتب إلى أمه؛ لأن الكتاب كان في الرجال دون النساء، فنسب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه، في جهله بالكتاب دون أبيه) (4) .
وقال ابن كثير: (والأميون - هنا - جمع أمي: وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة) (5) .
وقال الشوكاني: (والأمي: منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادتها من أمهاتها، لم تتعلم الكتابة، ولا تحسن القراءة
__________
(1) لسان العرب، ابن منظور المصري: 1 \ 138، طبعة دار المعارف مصر 6 مجلدات، حسب أوائل الكلمات.
(2) المعجم الوسيط 1 \ 27، الطبعة الثانية، دار الفكر، بيروت.
(3) سورة البقرة الآية 78
(4) تفسير الطبري 1 \ 296.
(5) تفسير ابن كثير 1 \ 104.(45/160)
للمكتوب) (1) .
وقال أبو السعود: (الأمي: هو الذي لا يقدر على الكتابة والقراءة، واختلف في نسبته: فقيل إلى الأم، بمعنى أنه شبيه بها في الجهل بالكتابة والقراءة؛ لأنهما ليستا من شئون النساء، بل من خلال الرجال، بمعنى أنه على الحالة التي ولدته أمه في الخلو عن العلم والكتابة.
وقيل: إلى الأمة، بمعنى أنه باق على سذاجتها، خال من معرفة الأشياء) (2) .
قال الإمام القرطبي: (الأمي: من لا يكتب ولا يقرأ) (3) .
وبهذا فسر بعضهم - أيضا - قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ} (4) . فقالوا: هو الذي لا يحسن الكتابة، ولا يقرأ من كتاب.
قال القرطبي: (الأمي منسوب إلى الأمة الأمية، التي هي على أصل ولادتها لم تتعلم الكتابة ولا قراءتها، قال ابن عباس: كان نبيكم أميا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب) (5) .
وقال الراغب الأصفهاني: (قيل سمي بذلك لأنه لم يكن يكتب ولا يقرأ من كتاب، وذلك فضيلة له، لاستغنائه بحفظه، واعتماده على ضمان الله له بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} (6)) (7) .
__________
(1) فتح القدير للشوكاني 1 \ 104.
(2) تفسير أبي السعود 1 \ 199.
(3) الجامع لأحكام القرآن 2 \ 5.
(4) سورة الأعراف الآية 157
(5) الجامع لأحكام القرآن 7 \ 298.
(6) سورة الأعلى الآية 6
(7) معجم مفردات القرآن للراغب الأصفهاني ص 19، تحقيق نديم مرعشلي، دار الفكر، بيروت.(45/161)
ويلاحظ أنهم - جميعا - جعلوا نسبة (الأمي) التي بمعنى عدم معرفة الكتابة وقراءة المكتوب إلى أحد شيئين:
(أ) إما إلى (الأم) ، لكونها لا تعرف الكتابة ولا القراءة من كتاب في غالب أمرها؛ لأن الكتابة كانت عزيزة أكثر ما تكون في النساء، أو أنه لا يزال - في عدم معرفته الكتابة - على مثل ما ولدته عليه أمه، من جهله بها، وعدم إتقانه لها.
(ب) وإما إلى (الأمة) التي يغلب عليها الجهل بالكتابة وقراءة المكتوب، كما نسبوا إلى (عامة) فقالوا: (عامي) .(45/162)
2 - والأميون: العرب، وإنما سموا (أميين) لأحد سببين:
(أ) نسبة إلى (أم القرى) ، التي هي مكة المكرمة، وقد كانت حاضرة العرب على مدار تاريخهم، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر، والشوكاني، وأبو السعود، وصاحب عون المعبود، والراغب الأصفهاني. قال صاحب عون المعبود: (أي: منسوبون إلى أم القرى، وهي مكة، أي: إنا أمة مكية) .
(ب) لأن عامتهم كانوا لا يحسنون الكتابة ولا قراءة المكتوب، إذ كانت فيهم الكتابة عزيزة، بل تكاد أن تكون معدومة، فسموا بـ (الأميين) لذلك.
والأميون: الذين ليس لهم كتاب منزل يقرءونه، ولو كانوا(45/162)
يكتبون ويقرءون ما لم ينزل، ولذا سمي العرب أميين، باعتبار أنهم لم يكن لديهم كتاب منزل يقرءونه: قال الفراء: (الأميون: هم العرب، الذين لم يكن لهم كتاب) (1) .
وبهذا المعنى فسر بعضهم قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} (2) .
وقال الطبري: (الأميون - هنا -: الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب) (3) .
وقال الشوكاني: (والمراد بالأميين - هنا - مشركو العرب) (4) .
وعلى هذا المعنى، حمل الكثيرون لفظة (الأميين) في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} (5) .
فقالوا: المقصود بـ (الأميين) : العرب الذين ليس لهم كتاب سماوي، فبعث الله إليهم محمدا - صلى الله عليه وسلم -، بكتاب يقرؤه عليهم، ويعلمهم أحكامه.
نقل الطبري عن قتادة قوله: (كان هذا الحي من العرب أمة أمية، ليس فيها كتاب يقرءونه، فبعث الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - رحمة وهدى يهديهم به) .
__________
(1) معجم مفردات القرآن ص 19.
(2) سورة آل عمران الآية 20
(3) تفسير الطبري 3 \ 144.
(4) فتح القدير 1 \ 326.
(5) سورة الجمعة الآية 2(45/163)
وعن ابن زيد قوله: (إنما سميت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الأميين؛ لأنه لم ينزل عليهم كتابا) (1) . قال الشوكاني: (المراد بالأميين: العرب، من كان يحسن الكتابة منهم ومن لا يحسنها؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب) (2) .
وقال أبو السعود: (الأميون: الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب) (3) .
فأصل دلالة الأمي - حسب هذا التأويل - من ليس له كتاب منزل يقرؤه، ولما كان العرب في غالبهم، ليس لهم كتاب منزل يقرءونه، لذا سموا (أميين) ، مستبعدا - من هذه التسمية - من كان يهوديا منهم أو نصرانيا، باعتباره كتابيا، لا يشمله هذا الاسم.
__________
(1) تفسير الطبري 28 \ 61.
(2) فتح القدير 5 \ 224.
(3) تفسير أبي السعود 1 \ 456.(45/164)
4 - الأميون: هم المسلمون، والأمة الأمية: هي الأمة المسلمة. ففي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ} (1) .
قال الإمام القرطبي: (قيل: إن اليهود كانوا إذا بايعوا المسلمين يقولون: ليس علينا في الأميين سبيل، أي: حرج في ظلمهم، لمخالفتهم إيانا.
ويقال: إن اليهود كانوا قد استدانوا من الأعراب أموالا، فلما أسلم أرباب الحقوق، قالت اليهود: ليس علينا شيء؛ لأنكم تركتم دينكم، فسقط عنا دينكم، وادعوا أنه حكم التوراة) (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 75
(2) الجامع لأحكام القرآن 1 \ 354.(45/164)
ونقل صاحب (عون المعبود) عن الداودي قوله: (أمة أمية: لم تأخذ عن كتب الأمم قبلها، إنما أخذت عما جاءها به الوحي من الله عز وجل) (1) .
والمسلمون لهم كتاب يقرءونه، وإنما سموا (أميين) لأحد ثلاثة أسباب:
(أ) إما نسبة إلى (أم الكتاب) وهي سورة الفاتحة.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: (إنما قيل أميون، لنزول الكتاب عليهم، كأنهم نسبوا إلى أم الكتاب) (2) .
(ب) وإما نسبة إلى (النبي الأمي) ، فسميت هذه الأمة المسلمة بـ (الأمة الأمية) ، نسبة إلى رسولها النبي الأمي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ما ذهب إليه الشيخ ناصر الدين الألباني (3) .
(جـ) وإما لأنهم لم يعتمدوا في حفظ دينهم وكتابهم، على كتابتهم له، بل على حفظهم له في صدورهم، ولذا وصفوا من دون أتباع الأديان الأخرى، بأنهم الذين تكون أناجيلهم في قلوبهم، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث قال:
(فلما نزل القرآن عليهم، لم يبقوا أميين باعتبار أنهم لا يقرءون كتابا من حفظهم، بل هم يقرءون القرآن من حفظهم، وأناجيلهم في صدورهم، لكن بقوا أميين باعتبار أنهم لا يحتاجون إلى كتابة دينهم، بل قرآنهم محفوظ في قلوبهم، فأمتنا ليست مثل
__________
(1) عون المعبود 6 \ 433.
(2) نقله الشوكاني في فتح القدير 1 \ 104.
(3) قال ذلك في شرط مسجل له، من سلسلة أشرطة اللقاء بينه وبين أبي إسحاق الحويني.(45/165)
أهل الكتاب الذين لا يحفظون كتبهم في قلوبهم بل لو عدمت المصاحف كلها، كان القرآن محفوظا في قلوب الأمة.
وبهذا الاعتبار، فالمسلمون أمة أمية بعد نزول القرآن وحفظه؛ لأن ديننا لا يحتاج أن يكتب ويحسب، كما عليه أهل الكتاب) (1) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 17 \ 435 وما بعدها.(45/166)
5 - والأميون: ما سوى اليهود من الأمم والشعوب، والأمي: هو كل من كان غير يهودي، نسبة إلى (الأمم) ، ذلك أن اليهود كانوا يقولون عن غيرهم من الأمم، أنهم (جوييم) أي: أمميون، وهذا ما ذهب إليه سيد قطب في (الظلال) .
قال رحمه الله: (كان اليهود يقولون عن غيرهم من الأمم، أنهم (جوييم) باللغة العبرية، أي: أمميون، نسبة إلى الأمم، بوصفهم شعب الله المختار، وغيرهم هم الأمم، والنسبة في العربية إلى المفرد: أمة أميون) (1) .
__________
(1) في ظلال القرآن 6 \ 3564.(45/166)
6 - ويمكن أن يضاف إلى ذلك، أن الأمي: هو المنسوب إلى ما عليه جبلته الأولى، يوم ولدته أمه، فهو لا يزال على فطرته السليمة، لم يفسد، ولم ينحرف، ولم يتغير.
وعليه، فإن (الأمة الأمية) : هي الأمة التي لا تزال على فطرتها التي فطرها الله عليها، وعلى جبلتها الأولى، لم تنلها يد الفساد ورياح الانحراف، في مجال الطبائع والأخلاق والسلوك، كما نالت غيرها من الأمم الأخرى.(45/166)
وقد كان العرب في جاهليتهم أسلم الأمم، من غوائل الانحراف وعوادي الفساد، في الطبائع والنفس والأخلاق والسلوك، مع وجود ظواهر من هذا القبيل لا تنكر، إلا أنها - على كل حال - لا تقاس بالمفاسد والانحرافات، التي كانت عليها الأمم الأخرى، والتي وصل بها الحد إلى إباحة نكاح الأم والأخت، وتقديم الزوجة للضيف، بل وعبادة الفرج والنار، واتخاذ الزنا والبغاء سنة محمودة ووضعا سائدا لا يستنكر، بل إن حال العرب الجاهليين - في أخلاقهم وسلوكياتهم وعاداتهم وشعائرهم - هو أسلم بكثير من حال كثير من الأمم التي تعيش على ظهر الأرض اليوم، وتدعي أنها بلغت من التقدم والحضارة والرقي، ما تفخر به على باقي أمم الأرض، وتتيه وتختال.
وهذا ما يفسر قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: «إن الله عز وجل خلق الخلق، فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مضر، واختار من مضر قريشا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم (2) » .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 124
(2) ذكره ابن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم ص 155) ، تحقيق محمد حامد فقي، الطبعة الثانية، مكتبة السنة المحمدية، وذكره محب الدين الخطيب في كتابه (مع الرعيل الأول ص (19) ، الطبعة السابعة 1399 هـ، وقال: (قال الحافظ العراقي: وهو حديث حسن، أخرجه الحاكم في المستدرك، ورواه من غير هذا الإسناد أيضا، وروي نحوه من حديث أبي هريرة، ورواه الطبراني في الأوسط وقال: حديث صحيح)(45/167)
وهذه الأمة، لا تزال إلى اليوم أقرب أمم الأرض إلى الفطرة، رغم ما اعتراها من مفاسد وانحراف، فإنها - أيضا - لا تقاس بما عليه الأمم الأخرى، من عظيم المفاسد ومقيت الشرور والانحرافات.(45/168)
7 - كما وتعني الأمية: (الجهالة والغفلة) ، والأمي: هو المتصف بقلة المعرفة، العي الجلف، القليل الكلام، وهو قول قطرب (1) .
ونقل صاحب اللسان - في هذا المعنى - قول الشاعر:
ولا أعود بعدها كريا
أمارس الكهلة والصبيا
والعزب المنفه الأميا
وقال: (قيل له أمي؛ لأنه على ما ولدته عليه أمه، من قلة الحيلة وعجمة اللسان) .
وعلى هذا المعنى، يحمل معنى (الأمي) في اصطلاح الفقهاء، فهو عندهم (خلاف القارئ) ، وليس هو خلاف الكاتب، ويعنون به: من لا يحسن قراءة الفاتحة من القرآن الكريم (2) .
__________
(1) نقله عنه الراغب الأصفهاني في (معجم مفردات القرآن ص 19) ، وانظر مجموع فتاوى ابن تيمية 17 \ 434.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 17 \ 436.(45/168)
خطأ (المعجم الوسيط) في تحديد مفهوم الأمية:
فالأمية - إذن - مدلولاتها عديدة، وأكثر هذه المدلولات ذات دلالات حسنة ومعاني محمودة. ومن الغريب أن يتجاهل القائمون على إصدار (المعجم الوسيط) - وهو المعجم الذي قام على إعداده نخبة مختارة من أعضاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة - هذه الدلالات كلها لمفهوم (الأمية) ، ويذهبوا إلى حصر معناها، فيما هو نقص وسلب، غافلين عن إيراد كل ما هو مشرق وحميد.
قالوا: (الأمية: مؤنث الأمي، ومصدر صناعي، معناه: الغفلة أو الجهالة) .
وعرفوا الأمي، بأنه: (من لا يقرأ ولا يكتب، نسبة إلى الأم أو الأمة، أو العيي الجافي) (1) .
ولنا على هذا الكلام بعض الملاحظات:
1 - أنهم حصروا مفهوم (الأمية) بواحد فقط من مدلولاتها الكثيرة، التي وردت في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وهي معان وعاها المفسرون وأرباب اللغة، وأسهبوا في بيانها، وفصلوا الحديث عنها في أسفارهم.
فلماذا يختار أصحاب هذا المعجم هذا المدلول، ويصرون على ذكره دون غيره، ضاربين بجميع المدلولات الأخرى عرض الحائط؟
إنه انتقاء لا يستدعيه سبب وجيه، إضافة إلى أنه يساهم في تكريس الصورة البشعة لمفهوم (الأمية) في أذهان عامة الناس
__________
(1) المعجم الوسيط 1 \ 27.(45/169)
ويشارك في إقصائهم عن تلمس وجه الحق والصواب فيه.
2 - أنهم عرفوا (الأمي) بأنه: (من لا يقرأ ولا يكتب) ، وفي هذا تعميم يبعث على التشويش. فالقراءة قراءتان: قراءة من الحفظ، وقراءة من الكتاب، وقد كان العرب - ومنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وجم غفير من صحابته الكرام - رضوان الله عليهم أجمعين -، إضافة إلى من كان فيهم من الشعراء والخطباء والنبهاء - لا يحسنون في غالبهم القراءة من كتاب، إلا أنهم كانوا يقرءون من حفظهم، وقد شملتهم عبارة (الأمية) ، لا لكونهم لا يقرءون إطلاقا، وإنما لكونهم لا يحسنون القراءة من كتاب، ليس غير.
قال ابن تيمية في قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} (1) : (هو أمي باعتبار أنه لا يكتب، ولا يقرأ ما في الكتب، لا باعتبار أنه لا يقرأ من حفظه، بل كان يحفظ القرآن أحسن حفظ) .
وعليه وجب تحديد التعريف، بأن الأمي: (من لا يكتب، ولا يقرأ من كتاب) ، ليكون أكثر دقة، وأبعد عن التعميم المفضي إلى التشويش.
3 - ثم إذا كانت (الأمية) عند أصحاب المعجم الوسيط لا تعني إلا (الغفلة أو الجهالة) ، وإذا كان (الأمي) - عندهم - لا يعني إلا (من لا يقرأ ولا يكتب) أو (العيي الجافي) ، فهل يستطيع واحد منهم أن يتجرأ ويحصر تفسير أميته - صلى الله عليه وسلم - أو أمية هذه الأمة المسلمة، بأحد هذه المعاني التي ذكروها؟ !
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158(45/170)
لا أظن أن واحدا منهم يستطيع أن يتجرأ على شيء من ذلك أبدا.
لقد قصر المعجم في تحديد مفهوم (الأمية) ، إذ تناسى جميع مدلولاتها، التي تعج بذكرها كتب التفسير وشروح الحديث واللغة، وألزم نفسه الوقوف عند واحد منها - وهو المدلول الشائع الذائع بين الناس اليوم - مكرسا له، ومؤكدا عليه، بدل المساهمة في جلاء صورة الحق، وإيضاح أوجه الصواب.(45/171)
نعم نحن أمة أمية
وأخيرا. .
فإن الذي نبتغيه من وراء هذه الدراسة المتواضعة:
1 - أن يقف بالناس على المعاني الواسعة والكثيرة لمفهوم (الأمية) .
2 - وأن يتحرروا مما أراده أعداء هذا الدين وهذه الأمة، من تشويه صورة هذا المفهوم، عن طريق حصره في نطاق مفهوم الجهالة، وفقدان أدنى مقومات التدرج في سلم العلم والمعرفة - حسب رأيهم - أعني: افتقاد مهارة الكتابة وقراءة المكتوب.
3 - وأن يساعدهم ذلك على فهم المراد بأميته - صلى الله عليه وسلم -، وأمية أمته المسلمة الموحدة، وأن (الأمية) - هنا مجال فخر واعتزاز لهذه الأمة، على مدار الزمان.
4 - جلاء الحق وإيضاح رسومه، بحيث لا تختلط - لدى الناس - المفاهيم، وتتداخل الدلالات، وتستقر على ذلك، فلا يناقشها أحد، ولا يعيد الحق إلى نصابه منصف، فتقع الأمة - نتيجة(45/171)
ذلك - في غبش وتشويش، لا نجني - من ورائه - حصادا. إلا تبلبلا في الأفكار، واختلاطا في التصورات، وغوغائية في الثقافة والفكر.
إننا نحارب (الجهل) بكل صوره وأشكاله، إلا أننا لا نحارب. (الأمية) ؛ لأن (الجهل) مسبة وتخلف وانحطاط، وقصور عن مواكبة الجهد الساعي للبشرية، بل تدمير له ونسف وتحطيم.
أما (الأمية) فإن أمرها مختلف، بل إن فيها ما هو جد مشرق وساطع وحميد. وهل هناك أحمد من الانتساب إلى (النبي الأمي) محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي بعث هدى ورحمة للعالمين؟
أم هل هناك ما هو أفخر من الانتساب إلى (الأمة الأمية) أمة الإسلام، التي كانت خير أمة أخرجت للناس؟
هل هناك ما يمنع من الانتساب إلى (العرب) . الذي حملوا راية الإسلام، وكانوا - على مدار التاريخ - مادته الأولى، وعنصره الأساس، ودعامته الكبرى؟
أم أن الانتساب إلى (أم الكتاب) أو (أم القرى) فيه ما ينقص ويشين؟
هل في الانتساب إلى الفطرة السليمة والطبيعة المحمودة، التي فطر الله الناس عليها ما يغض ويؤذي ويضير؟
أم أن في اعتماد هذه الأمة المسلمة في حفظ كتابها على قوة حافظتها وانقداح ذاكرتها وتوقد قريحتها. أو اعتمادها في تحديد أحكام صومها وفطرها وحجها وكفاراتها على مجرد الرؤية السهلة الميسرة للكافة، بدل الخوض في غمار علم حساب النجوم الشائك(45/172)
المستعصي، ما يكون عارا عليها وسبة وشنارا؟
إن شيئا من ذلك لا يمكن أن يدعيه عاقل به ذرة من حكمة، أو تجرد، أو نصفة، أو بعد نظر، أو حتى بصيص شعاع من سلامة الفطرة.
وحتى الأمية، التي هي بمعنى (عدم إجادة الكتابة أو القراءة من كتاب) فإنها ليست نقصا في حد ذاتها، وعلى كل حال فقد كان من ديدن العرب، أنهم كانوا يعدون من كمال الرجل اعتماده على حفظ ما يعجبه من شعر وخطب ومثل، وتخزين ما يهمه ويخدم مصالحه وييسر سبل حياته واحتياجاته، من علوم الطب والأنساب والنجوم والأنواء على حافظته القوية، وبصيرته اللماحة، وذاكرته النشطة، وذهنه المتوقد. بل إنهم كانوا يعيبون على كل من يجعل المسطور عمدته في كل شيء؛ لأنه بذلك يعطل بصيرته، ويجمد فطانته، ويبلد ذهنه، ويهدر ما لديه من طاقات ومواهب وملكات، حتى صار قول قائلهم:
ليس بعلم ما حواه القمطر ... إنما العلم ما وعاه الصدر
وقول الآخر:
العلم في الصدور لا في السطور
مثلا سائرا بينهم، على مختلف عصورهم، وتباين طبقاتهم، لا يعترض عليه فيهم معترض، ولا يجافيه منهم مجاف أو معاند أو مكابر.
فهل يمكن أحدا كائنا من كان أن يصف بالقصور أو النقص، من أغناه توقد ذهنه وبريق حافظته، عن الارتماء في(45/173)
أحضان الأقلام والقراطيس؟
ما أظن منصفا يفعل ذلك.
لقد كان توقد ذهن هذه الأمة، وقوة حافظتها، وصفاء ذاكرتها، من المفاخر التي تعتز بها، على مدار تاريخها.
نعم إن (الأمية) - حتى بمعنى عدم إتقان الكتابة وقراءة المكتوب - ليست نقصا في حد ذاتها، إنها ما كانت في يوم من الأيام كذلك، ولا يمكن له في المستقبل أن تكون، ويكفينا أن نقرأ التاريخ، ونرصد الواقع، لنتحف بالصورة والشاهد والمثال.
فكم ممن يحمل أعلى الشهادات، وبلغ من سلم الهرم التعليمي القمة، أو كاد، وهو في حقيقة حاله ولب جوهره فارغ المعتقد، خاوي الفكر، هراء التصور، ضحل الثقافة، ركيك المعرفة.
وكم ممن لا يحسن كتابة أو قراءة من كتاب، هو مفخرة شعبه وأمته، بل وتعجز عن إنجاب مثله أمم بأكملها.
وهذا هو تاريخنا الإسلامي الحافل بأفذاذ الرجال وصناديد العظام، الذين سطروا في جبين الدهر، أنصع الأمجاد، وأبهى المحامد والفعال، بما عجزت البشرية عبر تاريخها الطويل أن تأتي ببعض ما أتوا، وهم كانوا ممن لا يحسن كتابة، ولا يقرأ مسطورا.
لقد ألححنا اليوم بل وبالغنا في الإلحاح، على جعل (الشهادات) مقياسا، لمدى ما لدى المرء من علم وثقافة ومعرفة، حتى غدت شوارعنا وأزقتنا وأسواقنا تعج بمئات الآلاف، ممن يحملون أرفع الشهادات على مختلف تخصصاتها ومستوياتها، وليس(45/174)
في أعماق أكثرهم أدنى استعداد لأن يبحث ذات يوم في مسألة من أبسط المسائل العلمية، أو يتطلع للوقوف على خفايا توجه أو ظاهرة، أو يطمح إلى سبر أغوار كتاب. بل لو طلبت إليه أن يكتب لك مقالا صغيرا، أو رسالة موجزة، لتعثر به القلم في كل سطر مرات ومرات.
هذا ناهيك عن أن يكون لديه أبسط اطلاع على أساسيات دينه، وأقل معرفة بحقيقة وجوده وغاية مآله، بما يدفعه إلى أن يكون صاحب موقف أو رسالة، في هذه الحياة.
فأين نتائج هذه المفاهيم المغلوطة، والاعتبارات المنكوسة، من نتاج غرس محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، ذلك الرسول النبي الأمي، الذي ربى - وفي بضع وعشرين سنة فقط - جيلا قرآنيا ربانيا فريدا من نوعه على مدار تاريخ البشرية جيلا أميا، إلا أنه الجيل الذي وسع العالم علما ومعرفة وتربية، كما وسعه خلقا وأدبا وسلوكا.
إننا من غير شك مع الدعوة الملحة إلى (إشاعة تعلم الكتابة) على أوسع نطاق، وبكل سبيل، وذلك باعتبارها مدرجا من مدارج العلم، وضرورة دعوية، وحاجة بشرية ضاغطة، وخاصة في هذا العصر، حيث اتسعت مجالات المعرفة، وتكاثرت فروعها، وتشعبت دقائقها، ودقت رموزها.
والإسلام شجع على (تعلم الكتابة) ، وعمل على نشرها، وهيأ لذلك السبل، ويسر الأسباب، وأوجد الحوافز، وألهب العزائم والهمم، ما في ذلك ريب، ولا يختلف حوله اثنان.
ولكن الذي نريده، أن نجعل الوصول إلى حقيقة العلم ولب(45/175)
المعرفة، شغلنا الشاغل وهمنا الحافز، فلا ننشغل بتمجيد الوسائل وتضخيم الأدوات، عن تحصيل الأهداف والسعي وراء الغايات.
هذا إضافة إلى ضرورة إنصاف المفاهيم، وتحري الدقة في تحديد الدلالات، فنفرق ما بين (الأمية) و (الجهالة) ، فالأمية شيء، والجهالة شيء آخر مختلف.
وإذا كانت (الجهالة) واحدة فقط، من المدلولات الكثيرة، التي يشملها مفهوم (الأمية) ذو الدلالات الواسعة العريضة، فإن هذا لا يبيح لنا بحال، أن نحصر مفهوم الأمية بهذا الحيز الضيق النكد المشين، متغافلين عما سواه، من دلالات أخرى. مشرقة ساطعة نيرة، دلت عليها نصوص الكتاب والسنة، وتضافر على ذكرها والتنبيه إليها المفسرون وشراح الحديث وأرباب اللغة.
إن حصر مفهوم (الأمية) بـ (الجهالة) هو طعن لمفهوم الأمية في الصميم.
والطعن بـ (الأمية) هو في حقيقة حاله طعن بشخص خاتم الأنبياء والمرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي اصطفى له ربه سبحانه وتعالى أن يكون من دون جميع الأنبياء والرسل موصوفا بأنه (النبي الأمي) .
وهو طعن بالتالي بهذه الأمة الكريمة الفاضلة، والتي أراد الله تعالى لها - كما وأراد لها ذلك رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم - أن تكون على مر العصور والأزمان (الأمة الأمية) ، التي تتميز بهذه الصفة، عن جميع أمم الأرض قاطبة، وإلى قيام الساعة.
وهذا هو الأمر، الذي نتمنى أن يتنبه له الغيورون، ويلتفت إليه المنصفون، فلا يقعوا - عن حسن نية وبراءة قصد - في شركه(45/176)
أو يرتكس أحدهم في حمأته الوبيئة الآسنة، مميزين للحق جاهرين بفصل الخطاب، لتظهر أمام أعين الجميع معالم الحقيقة جلية الحدود، بينة الصوى، واضحة الرسوم.
نعم إننا (أمة أمية) بنصوص الكتاب والسنة وشهادة واقع الحال، إلا أننا أمة العلم والمعرفة والهدى والنور، كنا كذلك وسنكون، ما شاء الله تعالى لنا أن نكون.(45/177)
رحمة الله
أسبابها وآثارها
للدكتور / مفسر بن سعيد بن دماس الغامدي
بين يدي البحث
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4) .
فبقراءتي للقرآن الكريم والسنة المشرفة لفت نظري كثرة ذكر (الرحمة) ، فرجعت إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم فوجدت حشدا من الآيات التي تناولت الرحمة ومشتقاتها، ورجعت إلى المعجم المفهرس لألفاظ الحديث فوجدته كذلك. ثم
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(45/179)
اطلعت على ما كتبه الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - في " ظلال القرآن " على أول سورة فاطر فدهشت لما وضحه وبينه وسطره، فخطر في بالي أن أجمع النصوص في هذا الباب رغبة في الاستزادة في العلم، ومشاركة في مجال المعرفة، أسأل الله أن يجعله علما نافعا وعملا صالحا.(45/180)
مفهوم الرحمة:
المعنى اللغوي لكلمة الرحمة:
قال ابن منظور: الرحمة: الرقة والتعطف.
والرحمة: المغفرة.
والرحمة: الرزق والغيث.
والرحمة في بني آدم: رقة القلب وعطفه.
ورحمة الله: عطفه، وإحسانه، ورزقه (1) .
أما في الاصطلاح: (2) فالرحمة صفة تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كرهتها نفسه، وشقت عليها، فهذه هي الرحمة الحقيقية، فأرحم الناس بك من أوصل إليك مصالحك، ودفع المضار عنك، ولو شق عليك في ذلك، فمن رحمة الأب بولده: أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل، ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره، ويمنعه شهواته التي تعود بضرره، ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به، وإن ظن أنه يرحمه، ويرفهه ويريحه، فهذه رحمة مقرونة بجهل، كرحمة بعض الأمهات.
__________
(1) لسان العرب لابن منظور 12 \ 230 ط مصادر.
(2) من كلام ابن القيم في كتابه '' إغاثة اللهفان '' جـ 2 ص 169- 175.(45/180)
ولهذا كان من تمام رحمة أرحم الراحمين: تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له، وامتحانه، ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته من رحمته به، لكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه تعالى إليه بابتلائه وامتحانه.
فمن رحمته سبحانه بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، فهو الغني الحميد، ولا بخلا منه عليهم بما نهاهم عنه، فهو الجواد الكريم.
ومن رحمته أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا، ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان فمنعهم ليعطيهم، وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم.
ومن رحمته بهم: أن حذرهم نفسه، لئلا يغتروا به، يعاملوه بما لا تحسن معاملته به، كما قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (1) .
قال غير واحد من السلف: من رأفته بالعباد، حذرهم من نفسه لئلا يغتروا به (2) .
والرحمة صفة من صفات الله ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 30
(2) إغاثة اللهفان 2 \ 169- 175.
(3) سورة الحديد الآية 28(45/181)
وقال سبحانه: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} (1) ، وقال جل شأنه: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، وقال عز من قائل: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} (3) ، وقال جل وعلا: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} (4) ، وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (5) ، وقال عز اسمه: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} (6) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعل الله الرحمة في مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن
__________
(1) سورة الأنعام الآية 12
(2) سورة الأنعام الآية 54
(3) سورة الأنعام الآية 133
(4) سورة الإسراء الآية 100
(5) سورة فاطر الآية 2
(6) سورة ص الآية 9(45/182)
تصيبه (1) » ، وقال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد (2) » .
وقد أجمع سلف هذه الأمة على وصف الله بأنه " رحيم " وعلى أن من صفاته " الرحمة "، وأثبتوا هذه الصفة، كما أثبتها سبحانه لنفسه وأثبتها له نبيه - صلى الله عليه وسلم -، بل هذا الأمر فطري لا يتوقف فيه إنسان ما، إذ كل حي يدرك أثر هذه الصفة في نفسه وفي غيره في الأرض وفي السماء، في كل لحظة ولمحة، وجميع القلوب تقر برحمة أرحم الراحمين.
فالرحمة ثابتة لله، بل قد ثبت أنه جل شأنه هو أرحم الراحمين: قال تعالى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (3) ، وقال سبحانه: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (4) ، وقال جل ذكره: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (5) ، وقال عز من قائل: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (6) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الصحيح 10 \ 431 رقم 6000 من حديث أبي هريرة، ومسلم في الصحيح 4 \ 2109 رقم 21، وأحمد في المسند 5 \ 5439، 2 \ 334، 3 \ 55، والترمذي في الجامع كتاب الدعوات \ 99، وابن ماجه في السنن 2 \ 1435 رقم 4293، 4294، وذكره الألباني في صحيح الجامع رقم 2168.
(2) أخرجه مسلم في الصحيح 4 \ 2109 رقم 2755 من حديث أبي هريرة.
(3) سورة الأعراف الآية 151
(4) سورة يوسف الآية 64
(5) سورة يوسف الآية 92
(6) سورة الأنبياء الآية 83(45/183)
وروى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله. . فيقول الله عز وجل: «شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط (1) » .
ولله تعالى اسمان مشتقان من الرحمة هما: الرحمن الرحيم، وسوف نفصل القول فيهما في المبحث التالي:
__________
(1) صحيح مسلم 1 \ 170 رقم 302، وأحمد 1 \ 5، وابن ماجه في السنن كتاب الزهد \ 35.(45/184)
أسرار اقتران اسم " الرحيم " بغيره من الأسماء الحسنى:
أولا: الرحمن الرحيم:
الرحمن: اسم من أسماء الله الحسنى، وقد ذكر الله تعالى هذا الاسم في القرآن الكريم في سبعة وخمسين موضعا.
والرحيم: اسم من أسماء الله الحسنى، وقد ذكر الله تعالى هذا الاسم في القرآن الكريم في مائة وتسعة عشر موضعا.
والرحمن الرحيم: اسمان مشتقان من الرحمة، وهما من أبنية المبالغة، ورحمن أبلغ من رحيم، والرحمن: خاص لله، ولا يسمى به غيره، ولا يوصف. والرحيم: يوصف به غير الله فيقال: رجل رحيم (1) .
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: (الرحمن: لجميع
__________
(1) النهاية لابن الأثير 2 \ 210.(45/184)
الخلق، والرحيم بالمؤمنين خاصة) (1) .
وأخرج ابن جرير قول العرزمي: الرحمن الرحيم: الرحمن لجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين، ولهذا قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) ليعم خلقه برحمته، وقال عز وجل: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (3) ، فخصهم باسمه الرحيم (4) .
هذا وقد ورد هذان الاسمان في القرآن الكريم مقترنين، كما أن كلا منهما قد ورد فيه منفردا، وكذلك فإن اسم الرحيم قد جاء في القرآن الكريم مقترنا ببعض الأسماء الحسنى الأخرى، وسوف نبين ذلك بالتفصيل فيما يأتي:
__________
(1) الدر المنثور 1 \ 34.
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة الأحزاب الآية 43
(4) تفسير ابن جرير 1 \ 126.(45/185)
1 - ورود الاسمين مقترنين:
ورد هذان الاسمان مقترنين في القرآن الكريم ست مرات: قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (1) ، وقال سبحانه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (3) ، وقال عز شأنه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (4) ، وقال جل وعلا: {حم} (5) {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (6) ، وقال عز
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 1
(2) سورة الفاتحة الآية 2
(3) سورة الفاتحة الآية 3
(4) سورة البقرة الآية 163
(5) سورة فصلت الآية 1
(6) سورة فصلت الآية 2(45/185)
من قائل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) ، وقال تبارك وتعالى {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (2) .
والعلاقة بينهما واضحة فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، رحمن جميع الخلق، ورحيم المؤمنين في الدنيا والآخرة، والاسمان مشتقان من الرحمة فما أقوى علاقتهما ببعضهما ودلالتهما مع بعضهما.
__________
(1) سورة الحشر الآية 22
(2) سورة النمل الآية 30(45/186)
2 - ورود اسم " الرحمن " منفردا:
ورد هذا الاسم في القرآن الكريم إحدى وخمسين مرة:
قال تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (1) ، وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (2) ، وقال عز شأنه: {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} (3) ، وقال تبارك اسمه حكاية عن أم عيسى - عليه السلام -: {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (4) ، وقال تعالى جده حكاية عن
__________
(1) سورة الرعد الآية 30
(2) سورة الإسراء الآية 110
(3) سورة مريم الآية 18
(4) سورة مريم الآية 26(45/186)
إبراهيم - عليه السلام -: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} (1) {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (2) ، وقال عز من قائل: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (3) ، وقال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} (4) ، وقال جلت قدرته: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} (5) ، وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} (6) ، وقال الحق سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} (7) {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} (8) ، وقال الكبير المتعال: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} (9) {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} (10) {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} (11) {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} (12) {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} (13) {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} (14) {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (15) {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} (16) {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (17) {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} (18) {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (19) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (20) .
__________
(1) سورة مريم الآية 44
(2) سورة مريم الآية 45
(3) سورة مريم الآية 58
(4) سورة مريم الآية 61
(5) سورة مريم الآية 69
(6) سورة مريم الآية 75
(7) سورة مريم الآية 77
(8) سورة مريم الآية 78
(9) سورة مريم الآية 85
(10) سورة مريم الآية 86
(11) سورة مريم الآية 87
(12) سورة مريم الآية 88
(13) سورة مريم الآية 89
(14) سورة مريم الآية 90
(15) سورة مريم الآية 91
(16) سورة مريم الآية 92
(17) سورة مريم الآية 93
(18) سورة مريم الآية 94
(19) سورة مريم الآية 95
(20) سورة مريم الآية 96(45/187)
وقال عز شأنه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} (2) ، وقال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (3) ، وقال سبحانه وتعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (4) {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (5) ، وقال عز شأنه: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} (6) ، وقال من هو على كل شيء قدير: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} (7) ، وقال أحكم الحاكمين: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (8) ، وقال من بيده الملك {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} (9) ، وقال من عنت له الوجوه: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (10) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (11) .
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة طه الآية 90
(3) سورة الأنبياء الآية 26
(4) سورة طه الآية 108
(5) سورة طه الآية 109
(6) سورة الأنبياء الآية 36
(7) سورة الأنبياء الآية 42
(8) سورة الأنبياء الآية 112
(9) سورة الفرقان الآية 26
(10) سورة الفرقان الآية 59
(11) سورة الفرقان الآية 60(45/188)
وقال أرحم الراحمين: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (1) ، وقال عز شأنه: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} (2) ، وقال الغفور الكريم: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} (3) ، وقال اللطيف المجيد: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} (4) ، وقال الأحد الصمد: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} (5) ، وقال الخالق العظيم: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (6) ، وقال العلي العظيم: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (7) ، وقال الملك الحق: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (8) {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (9) ، وقال تبارك اسمه: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (10) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 63
(2) سورة الشعراء الآية 5
(3) سورة يس الآية 11
(4) سورة يس الآية 15
(5) سورة يس الآية 23
(6) سورة يس الآية 52
(7) سورة الزخرف الآية 17
(8) سورة الزخرف الآية 19
(9) سورة الزخرف الآية 20
(10) سورة الزخرف الآية 33(45/189)
وقال الكبير المتعال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (1) ، وقال رب العالمين: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (2) ، وقال رب العرش العظيم: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} (3) ، وقال عز شأنه: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} (4) ، وقال بديع السماوات والأرض: {الرَّحْمَنُ} (5) {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (6) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} (7) ، وقال أحكم الحاكمين: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} (8) ، وقال من هو على كل شيء قدير: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} (9) {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} (10) ، وقال أرحم الراحمين: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (11) ، وقال من عنت له الوجوه: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} (12) {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} (13) .
__________
(1) سورة الزخرف الآية 36
(2) سورة الزخرف الآية 45
(3) سورة الزخرف الآية 81
(4) سورة ق الآية 33
(5) سورة الرحمن الآية 1
(6) سورة الرحمن الآية 2
(7) سورة الرحمن الآية 3
(8) سورة الملك الآية 3
(9) سورة الملك الآية 19
(10) سورة الملك الآية 20
(11) سورة الملك الآية 29
(12) سورة النبأ الآية 37
(13) سورة النبأ الآية 38(45/190)
3 - ورود اسم " الرحيم " منفردا:
اسم الله " الرحيم " لم يرد في القرآن منفردا إلا في ثلاثة مواضع هي:
أ- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (1) .
ب- {رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (2) .
ج- {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سورة الإسراء الآية 66
(3) سورة الأحزاب الآية 43(45/191)
ثانيا: ورود الاسمين الحسنيين " التواب، الرحيم " مقترنين:
وقد ورد هذان الاسمان في القرآن الكريم مقترنين تسع مرات.
قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (1) ، وقال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 37
(2) سورة البقرة الآية 54(45/191)
وقال تبارك اسمه: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) ، وقال عز شأنه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (3) ، وقال تعالى جده: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (4) ، وقال عز من قائل: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (5) {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (6) ، وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (7) ، وقال عز اسمه: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (8) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 127
(2) سورة البقرة الآية 128
(3) سورة البقرة الآية 160
(4) سورة التوبة الآية 104
(5) سورة التوبة الآية 117
(6) سورة التوبة الآية 118
(7) سورة الحجرات الآية 12
(8) سورة النساء الآية 16(45/192)
وقال أحكم الحاكمين: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (1) .
وسر اقتران هذين الاسمين ببعضهما - والله أعلم - أن الرحيم معناه: إكرام الله لعباده المؤمنين بالعطف عليهم والإحسان إليهم، ورزقهم في الدنيا وإدخالهم الجنة في العقبى.
أما التواب فمعناه: أنه هو الذي يتوب على من يشاء من عباده ويقبل توبته، وكلا الأمرين تفضل منه سبحانه، وكلاهما إكرام منه لعباده المؤمنين فقط في الدنيا والآخرة.
__________
(1) سورة النساء الآية 64(45/193)
ثالثا: ورود الاسمين الحسنيين " الرؤوف الرحيم " مقترنين:
ورد هذان الاسمان في القرآن الكريم مقترنين تسع مرات:
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) ، وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) ، وقال تبارك
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) سورة التوبة الآية 117(45/193)
اسمه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) ، وقال عز شأنه: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} (2) {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} (3) {أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (4) ، وقال سبحانه: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (5) {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} (6) {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (7) ، وقال تعالى جده: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (8) ، وقال عز وجل: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (9) ، وقال الملك الحق: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (10) ، وقال الرحمن المستعان: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (11) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 128
(2) سورة النحل الآية 45
(3) سورة النحل الآية 46
(4) سورة النحل الآية 47
(5) سورة النحل الآية 5
(6) سورة النحل الآية 6
(7) سورة النحل الآية 7
(8) سورة الحج الآية 65
(9) سورة النور الآية 20
(10) سورة الحديد الآية 9
(11) سورة الحشر الآية 10(45/194)
وسر اقترانهما أن الرأفة شدة الرحمة والرأفة تسمى رحمة، والرءوف هو الرحيم فمعناهما واحد، بل تختص الرأفة بمعنى زائد والله أعلم.(45/195)
رابعا: ورود الاسمين الحسنيين " الغفور الرحيم " مقترنين:
ورد هذان الاسمان في القرآن الكريم مقترنين اثنين وسبعين مرة.
قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، وقال سبحانه: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، وقال عز شأنه: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (3) {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) ، وقال تبارك اسمه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) ، وقال من بيده الملك: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (6) ، وقال تعالى جده: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (7) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 173
(2) سورة البقرة الآية 182
(3) سورة البقرة الآية 191
(4) سورة البقرة الآية 192
(5) سورة البقرة الآية 199
(6) سورة البقرة الآية 218
(7) سورة البقرة الآية 226(45/195)
وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، وقال عز شأنه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، وقال تبارك اسمه: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ، وقال الرحمن المستعان: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) ، وقال تبارك اسمه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) .
وقال سبحانه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (6) ، وقال أحكم الحاكمين: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (7) {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (8) ، وقال عز شأنه: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (9) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة آل عمران الآية 89
(3) سورة آل عمران الآية 129
(4) سورة النساء الآية 25
(5) سورة المائدة الآية 3
(6) سورة المائدة الآية 34
(7) سورة المائدة الآية 38
(8) سورة المائدة الآية 39
(9) سورة المائدة الآية 74(45/196)
وقال سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، وقال تعالى جده: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، وقال الرحمن المستعان: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ، وقال عز شأنه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) ، وقال تبارك اسمه: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) ، وقال الملك الحق: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (6) ، وقال الرحمن المستعان: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (7) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (8) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 98
(2) سورة الأنعام الآية 54
(3) سورة الأنعام الآية 145
(4) سورة الأنعام الآية 165
(5) سورة الأعراف الآية 153
(6) سورة الأعراف الآية 167
(7) سورة الأنفال الآية 69
(8) سورة الأنفال الآية 70(45/197)
وقال أحكم الحاكمين: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، وقال تعالى جده: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، وقال تبارك وتعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ، وقال تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) ، وقال عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) ، وقال من بيده الملك: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (6) ، وقال عز شأنه: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (7) ، وقال أحكم الحاكمين: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (8) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة التوبة الآية 27
(3) سورة التوبة الآية 91
(4) سورة التوبة الآية 99
(5) سورة التوبة الآية 102
(6) سورة يونس الآية 107
(7) سورة هود الآية 41
(8) سورة يوسف الآية 53(45/198)
وقال تبارك وتعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) ، وقال الملك الحق: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (3) ، وقال تبارك اسمه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) ، وقال عز شأنه: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) ، وقال جل شأنه: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (6) ، وقال من بيده الملك: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (7) ، وقال عز شأنه: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (8) ، وقال تعالى جده: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (9) .
__________
(1) سورة يوسف الآية 98
(2) سورة إبراهيم الآية 36
(3) سورة الحجر الآية 49
(4) سورة النحل الآية 18
(5) سورة النحل الآية 110
(6) سورة النحل الآية 115
(7) سورة النحل الآية 119
(8) سورة النور الآية 5
(9) سورة النور الآية 22(45/199)
وقال أحكم الحاكمين: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، وقال عز شأنه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، وقال عز شأنه: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} (3) {إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) ، وقال تبارك وتعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (5) ، وقال جل شأنه: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} (6) ، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (7) ، وقال أحكم الحاكمين: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (8) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (9) {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (10) .
__________
(1) سورة النور الآية 33
(2) سورة النور الآية 62
(3) سورة النمل الآية 10
(4) سورة النمل الآية 11
(5) سورة القصص الآية 16
(6) سورة سبأ الآية 2
(7) سورة الزمر الآية 53
(8) سورة فصلت الآية 30
(9) سورة فصلت الآية 31
(10) سورة فصلت الآية 32(45/200)
وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) ، وقال عز شأنه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2) ، وقال أحكم الحاكمين: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (3) {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) ، وقال جل شأنه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) ، وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (6) ، وقال الملك الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (7) ، وقال عز من قائل: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (8) .
__________
(1) سورة الشورى الآية 5
(2) سورة الأحقاف الآية 8
(3) سورة الحجرات الآية 4
(4) سورة الحجرات الآية 5
(5) سورة الحجرات الآية 14
(6) سورة الحديد الآية 28
(7) سورة المجادلة الآية 12
(8) سورة الممتحنة الآية 7(45/201)
وقال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) ، وقال الملك الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ، وقال عز شأنه: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) ، وقال أحكم الحاكمين: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (5) ، وقال العزيز الحكيم: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (6) {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (7) .
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 12
(2) سورة التحريم الآية 1
(3) سورة التغابن الآية 14
(4) سورة المزمل الآية 20
(5) سورة النساء الآية 23
(6) سورة النساء الآية 95
(7) سورة النساء الآية 96(45/202)
وقال جل شأنه: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) ، وقال تعالى {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) وقال تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) ، وقال عز شأنه: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) ؛ وقال أحكم الحاكمين: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (5) ، وقال تبارك وتعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (6) ، وقال جل شأنه: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (7) ، وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (8) ، وقال عز شأنه: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (9) .
__________
(1) سورة النساء الآية 100
(2) سورة النساء الآية 106
(3) سورة النساء الآية 110
(4) سورة النساء الآية 129
(5) سورة النساء الآية 152
(6) سورة الفرقان الآية 6
(7) سورة الفرقان الآية 70
(8) سورة الأحزاب الآية 5
(9) سورة الأحزاب الآية 24(45/203)
وقال الملك الحق: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) ، وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) ، وقال من عنت له الوجوه: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) ، وسر اقتران الاسمين ببعضهما: أن الرحمة إكرام من الله لعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة والغفور هو الذي يكثر من المغفرة لعباده المؤمنين وكلاهما إكرام وتفضل ونعمة خص الله بهما المؤمنين فقط.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 50
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) سورة الأحزاب الآية 73
(4) سورة الفتح الآية 14(45/204)
خامسا: ورود الاسمين الحسنيين " العزيز الرحيم " مقترنين:
ورد هذان الاسمان في القرآن الكريم مقترنين ثلاثة عشرة مرة:
قال عز شأنه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (1) ، وقال جل شأنه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (2) ، وقال تبارك وتعالى: {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (3) .
__________
(1) سورة الشعراء الآية 9
(2) سورة الشعراء الآية 217
(3) سورة الروم الآية 5(45/204)
وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (1) {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (2) ، وقال الملك الحق: {يس} (3) {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} (4) {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} (5) {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (6) {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} (7) ، وقال الرحمن المستعان: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} (8) {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (9) {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (10) .
وسر اقترانهما: أنه لا يغلب بل هو القادر القوي وقيل: الذي لا مثل له ولذلك يرحم عباده ولولا أنه قادر لما كان بالمؤمنين رحيما.
__________
(1) سورة السجدة الآية 5
(2) سورة السجدة الآية 6
(3) سورة يس الآية 1
(4) سورة يس الآية 2
(5) سورة يس الآية 3
(6) سورة يس الآية 4
(7) سورة يس الآية 5
(8) سورة الدخان الآية 40
(9) سورة الدخان الآية 41
(10) سورة الدخان الآية 42(45/205)
سادسا: ورود الاسمين الحسنيين " البر، الرحيم " مقترنين:
وقد ورد هذان الاسمان مقترنين في القرآن الكريم مرة واحدة فقط:
قال أحكم الحاكمين: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} (1) {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} (2) {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} (3) .
وسر اقترانهما أن كليهما عطاء من الله وتكرم فالرحيم:
__________
(1) سورة الطور الآية 26
(2) سورة الطور الآية 27
(3) سورة الطور الآية 28(45/205)
المريد إكرام عباده المؤمنين في الدنيا بالرزق والعطف والإحسان، وفي الآخرة بالجنة.
والبر: هو المحسن إلى خلقه؛ عمهم برزقه، وخص من شاء منهم بولايته، ومضاعفة الثواب له على طاعته والتجاوز عن معصيته، وكلا الاسمين فيهما إحسان وإكرام وعطاء وتفضل وكلا الاسمين نعمة وهذا كله رحمة.(45/206)
سابعا: مناسبة الاقتران:
واقتران الاسم الحسن الرحيم بالاسم الحسن الرحمن أو بغيره من الأسماء، إنما كان لعلاقات وجيهة بينه وبين الأسماء الأخرى.
وسواء ورد اسم " الرحمن " منفردا أو مقترنا باسم " الرحيم " فإن الله تعالى إذا رحم جميع المخلوقات فمن باب أولى يرحم المؤمنين.
وسواء ورد الاسم الحسن " التواب " منفردا أو مقترنا بالاسم الحسن " الرحيم " فالله يتوب على عباده وهذه عين الرحمة.
وسواء ورد الاسم الحسن " الرءوف " منفردا أو مقترنا بالاسم الحسن " الرحيم " فالله تعالى مستمر الغفران للعباد وهذه عين الرحمة.
وسواء ورد الاسم الحسن " العزيز " منفردا أو مقترنا بالاسم الحسن " الرحيم " فهو الغالب القادر القوي الذي يكون مع عباده وينصرهم ويحفظهم ويوفقهم وهذه عين الرحمة.(45/206)
وسواء ورد الاسم الحسن " البر " منفردا أو مقترنا مع الاسم الحسن " الرحيم " فالله هو المحسن إلى خلقه برزقه وبحفظه وبولايته لمن أطاعه والتجاوز عن معصيته وهذه عين الرحمة.
وفي الختام فإن اقتران هذه الأسماء الحسنى مع الاسم الحسن " الرحيم " له دلالة عظيمة(45/207)
سعة رحمة الله:
الله تعالى ذو رحمة واسعة فقد وسعت رحمته - سبحانه - كل شيء ووسع - جل شأنه - كل شيء رحمة وعلما.
قال سبحانه: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (1) ، وقال جل شأنه: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (2) ، وقال تبارك اسمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ، وقال عز من قائل: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} (4) ،
__________
(1) سورة الأعراف الآية 156
(2) سورة غافر الآية 7
(3) سورة الحديد الآية 28
(4) سورة الأنعام الآية 12(45/207)
وقال تبارك اسمه: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ، وقال تبارك وتعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} (2) ، وقال سبحانه: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (3) ، وقال أحكم الحاكمين: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} (4) ، وقال عز اسمه: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (5) .
وقال سبحانه: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} (6) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعل الله الرحمة في مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا، وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق، حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه (7) » ، وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله
__________
(1) سورة الأنعام الآية 54
(2) سورة الأنعام الآية 133
(3) سورة الأنعام الآية 147
(4) سورة الإسراء الآية 100
(5) سورة فاطر الآية 2
(6) سورة ص الآية 9
(7) صحيح البخاري 10 \ 431 رقم 6000، مسند أحمد 5 \ 439، 2 \ 334، 3 \ 55، صحيح مسلم توبة ص 17، جامع الترمذي دعوات \ 99، سنن ابن ماجه 2 \ 1435 رقم 4293، سنن الدارمي رقاق \ 69.(45/208)
مائة رحمة قسم منها رحمة بين جميع الخلائق فبها يتراحمون، وبها يتعاطفون، وبها تعطف الوحش على أولادها، وأخر تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة (1) » ، وعند مسلم من حديث سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة (2) » ، وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله مائة رحمة فمنها رحمة بها يتراحم الخلق بينهم، وتسعة وتسعون ليوم القيامة (3) » .
وروى مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد (4) » ، وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بالذي عند الله من العذاب لم يأمن
__________
(1) صحيح مسلم 4 \ 2108 رقم 19 من حديث أبي هريرة، سنن ابن ماجه 2 \ 1435، رقم 4293، صحيح الجامع رقم 2168.
(2) صحيح مسلم 4 \ 2109 رقم 21.
(3) صحيح مسلم 4 \ 2108 رقم 2753.
(4) الصحيح 4 \ 2109 رقم 2755.(45/209)
النار (1) » ، وروى ابن ماجه من حديث هشام بن عمار ثنا الوليد بن مسلم، ثنا إسحاق بن عبيد الله المدني قال: سمعت عبد الله بن أبي مليكة يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد» ، قال ابن أبي مليكة: (سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي) (2) .
هذا وعلى المسلم ألا يغتر بسعة رحمة الله تعالى فيعصي اتكالا على ذلك، بل عليه أن يتذكر قول الله - عز شأنه -: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (3) ، وقوله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} (4) ، فرحمته قريب لكن من المحسنين فقط، وهو يكتبها لكن للمتقين.
__________
(1) صحيح الجامع رقم 1759 ثم قال عنه الألباني: صحيح.
(2) سنن ابن ماجه 1 \ 557 رقم 1753 ثم علق المحقق فقال: في الزوائد: إسناده صحيح.
(3) سورة الأعراف الآية 56
(4) سورة الأعراف الآية 156(45/210)
سبق رحمة الله غضبه:
إن رحمة الله تعالى قد سبقت غضبه - هكذا كتب الله تعالى على نفسه - ويتضح هذا من آي الذكر الحكيم وأحاديث خاتم النبيين ففي القرآن الكريم:
(1) قوله تبارك وتعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} (1) .
(2) وقال عز من قائل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (2) .
__________
(1) سورة الكهف الآية 58
(2) سورة الزمر الآية 53(45/210)
(3) وقول أرحم الراحمين: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) .
(4) وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2) .
(5) وقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) .
وفي السنة:
(1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله حين خلق الخلق كتب بيده على نفسه: أن رحمتي تغلب غضبي (4) » .
(2) روى مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لما خلق الله الخلق، كتب في كتابه، فهو عنده فوق العرش: أن رحمتي تغلب غضبي (5) » .
(3) أخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق: أن
__________
(1) سورة النور الآية 14
(2) سورة النور الآية 21
(3) سورة الفرقان الآية 70
(4) أخرجه الترمذي 2 \ 271 واللفظ له، وأحمد 2 \ 433، وابن ماجه 4295 من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: (حديث حسن صحيح غريب) انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 1629.
(5) صحيح مسلم كتاب التوبة رقم 2751.(45/211)
رحمتي سبقت غضبي فهو مكتوب عنده فوق العرش (1) » .
(4) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا، ثم خرج يسأل، فأتى راهبا فسأله، فقال له: هل من توبة؟ قال: لا، فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل: إئت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له (2) » .
(5) أخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري في كتاب الإيمان باب الرؤية حديثا طويلا، وذكر من يشفع بإذن الله في إخراج أقوام من النار، ثم قال أبو سعيد الخدري: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (3) .
فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط، قد عادوا حمما فيلقيهم في نهر من أفواه الجنة، يقال له نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل. . الحديث (4) .
__________
(1) صحيح البخاري 13 \ 522 رقم 7554 (الفتح) .
(2) أخرجه البخاري في الصحيح 6 \ 512 رقم 3470 (الفتح) من حديث أبي سعيد الخدري، ومسلم في الصحيح، التوبة ص 46 والنسائي: جنائز ص 9 ابن ماجه ديات ص 2 وأحمد 3 \ 20.
(3) سورة النساء الآية 40
(4) صحيح مسلم 1 \ 170 رقم 302، وأحمد 1 \ 5، سنن ابن ماجه زهد \ 35.(45/212)
علاقة الرحم بالرحمن:
الرحم هي: القرابة.
وذو الرحم: هم الأقارب، وشجنة أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق.
وقد أمر الله تعالى بصلة الرحم، وحذر من قطعها، ووعد بالعطاء الجزيل على الصلة، وتوعد بالعذاب الأليم على القطيعة، ويتبين لنا هذا من كتاب ربنا ومن سنة نبينا.
فإذا استعرضنا كتاب الله وجدنا فيه:
(1) قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) .
(2) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) .
(3) وقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سورة الأنفال الآية 75
(3) سورة الأحزاب الآية 6(45/213)
(4) وقال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (1) .
وإذا تصفحنا كتب السنة وجدنا فيها:
(1) أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذلك لك، ثم قال أبو هريرة: (3) » .
(2) روى مسلم من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله (4) » .
(3) أخرج مسلم من حديث جبير بن مطعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يدخل الجنة قاطع رحم (5) » .
(4) أخرج البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الرحم شجنة من الرحمن، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته (6) » .
__________
(1) سورة محمد الآية 22
(2) صحيح البخاري 13 \ 465 رقم 7502، مسلم بر \ 16 وأحمد 2 \ 330.
(3) سورة محمد الآية 22 (2) {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
(4) صحيح مسلم 4 \ 1981 رقم 2555، وأحمد 2 \ 63.
(5) صحيح مسلم 4 \ 1981 رقم 19.
(6) صحيح البخاري 10 \ 417 رقم 5988، والترمذي كتاب البر \ 16، وأحمد 1 \ 190، 2 \ 295.(45/214)
(5) أخرج البخاري من حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الرحم شجنة، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته (1) » .
(6) روى الإمام أحمد من حديث عبد الله بن قارظ، أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف وهو مريض، فقال له عبد الرحمن: وصلتك رحم، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله عز وجل: أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن يصلها أصله ومن يقطعها أقطعه فأبته، أو قال: من يبتها أبته (2) » .
(7) أخرج الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله (3) » .
(8) أخرج البخاري من حديث عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها (4) » .
(9) وأخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أبر البر أن يصل الرجل ود أبيه (5) » .
__________
(1) صحيح البخاري 10 \ 417 رقم 5989.
(2) مسند الإمام أحمد 1 \ 191.
(3) جامع الترمذي 4 \ 324 رقم 1934، وأبو داود، أدب \ 58.
(4) صحيح البخاري 10 \ 423 رقم 5991، أبو داود، زكاة \ 45، الترمذي كتاب البر \ 10، وأحمد في المسند 2 \ 163، 190.
(5) صحيح مسلم 4 \ 1979 رقم 12، والترمذي، بر \ 5، وابن ماجه، جنائز \ 48، أحمد 2 \ 97.(45/215)
(10) وأخرج البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه (1) » .
فعلينا بصلة الرحم ولنحذر قطعها.
__________
(1) صحيح البخاري 4 \ 301 رقم 2067، صحيح مسلم، بر \ 20، 21، أبو داود، زكاة \ 45 وأحمد 3 \ 156، 247، 266.(45/216)
محمد - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة:
إن الرحمة صفة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أيضا فهو رحيم بالمؤمنين يعز عليه ما يشق عليهم، بل إنه - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة - جاء في القرآن الكريم:
1 - {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) .
2 - وقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) .
وجاء في السنة:
1 - أخرج مسلم في الصحيح من حديث جبير بن مطعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن لي أسماء، أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد (3) » .
__________
(1) سورة التوبة الآية 128
(2) سورة التوبة الآية 61
(3) صحيح مسلم 4 \ 1828 رقم 125.(45/216)
2 - أخرج مسلم وغيره من حديث أبي موسى الأشعري قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمي لنا نفسه أسماء، فقال: أنا أحمد، والمقفى، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة (1) » .
3 - أخرج مسلم أيضا من حديث عمران بن الحصين قال: «كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأسر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا من بني عقيل وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الوثاق قال: يا محمد، فأتاه، فقال: ما شأنك؟ فقال: بم أخذتني، وبم أخذت سابقة الحاج؟ فقال: إعظاما لذلك؛ أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف ثم انصرف عنه فناداه، فقال: يا محمد، يا محمد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحيما رقيقا. . . (2) » الحديث.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - رحيما في كل المواطن، وكانت عيناه تفيضان بالدموع عندما يفيض قلبه بالرحمة، وقد يسمع صوت بكائه عليه الصلاة والسلام ولم يفقد، بل لم تفارقه الرحمة حتى في المواقف التي يضطهد فيها، يضيق عليه أهل مكة الخناق هو وأصحابه، بل يؤذونه ويعذبون أصحابه فيقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون (3) » .
__________
(1) صحيح مسلم 4 \ 1829 رقم 2355. وأخرجه الترمذي في جامعه كتاب الدعوات \ 118، وابن ماجه في كتاب الإقامة 25، وأحمد 4 \ 138، وذكره الألباني في صحيح الجامع رقم 1486.
(2) أخرجه مسلم في الصحيح 3 \ 1262 رقم 1641، والبخاري في كتاب الأذان 17 \ 18 وأبو داود في كتاب الإيمان \ 21، والنسائي في الأذان \ 8 وأحمد 3 \ 436، 4 \ 433، 5 \ 53.
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3477) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1792) ، سنن ابن ماجه الفتن (4025) ، مسند أحمد بن حنبل (1/453) .(45/217)
وفي يوم الفتح صنع بمن حاربه السنين الطويلة ووقف في وجه الدعوة وقتل أصحابه فعل بهم كما فعل يوسف بإخوته عندما قال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (1) . وكانت رحمته - صلى الله عليه وسلم - تسع جميع الناس، ويحس بها كل الناس الضعفاء والأقوياء على حد سواء.
4 - كان رحيما بالأمهات وأطفالهن: أخرج الشيخان من حديث أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه (2) » .
5 - وذكر يوما رجلا أسود أو امرأة سوداء، أو فقده، فسأل عنه أو عنها، رحمة به أو بها، فقالوا: مات.
أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة «أن رجلا أسود - أو امرأة سوداء - كان يقم المسجد، فمات، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه فقالوا: مات قال: أفلا كنتم آذنتموني به، دلوني على قبره - أو قال: قبرها - فأتى قبره فصلى عليه (3) » .
6 - إن الذي سماه " رحيما " هو " الرحيم " الذي أنزل الرحمة في قلب عبده ومصطفاه حتى بلغت رحمته الحيوان.
روى الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن عبد الله قال:
__________
(1) سورة يوسف الآية 92
(2) أخرجه البخاري في الصحيح 2 \ 202 رقم 710، ومسلم في الصلاة \ 191، وأبو داود في الصلاة \ 133، والترمذي في الصلاة \ 159، والنسائي في الإقامة \ 35، وابن ماجه في الإقامة \ 49، وأحمد 3 \ 109.
(3) أخرجه البخاري في صحيحه 1 \ 552 رقم 458، ومسلم، وجنائز \ 71 وغيرها.(45/218)
«نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلا فانطلق إنسان إلى غيضة فأخرج منها بيض حمر، فجاءت الحمرة ترف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورءوس أصحابه، فقال: أيكم فجع هذه؟ فقال رجل من القوم: أنا أصبت لها بيضا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أردده (1) » .
7 - وصح أنه - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن قتل الصبر (2) » ، وفي رواية صحيحة أنه صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يقتل شيء من الدواب صبرا (3) » .
8 - وكان يقبل الصبيان رحمة بهم، روى مسلم من حديث عائشة قالت: «قدم ناس من الأعراب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم. فقالوا: لكنا والله ما نقبل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو أملك إن كان الله نزع منكم الرحمة (4) » .
9 - وثبت أنه قال صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحمه الله عز وجل (5) » .
10 - وروى الإمام أحمد من حديث ابن عباس قال: «قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم - ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك. قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم. قال: فدعا، فأتاه جبريل، فقال: إن ربك عز وجل يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابا لا أعذبه
__________
(1) مسند الإمام أحمد 1 \ 404 ورجاله ثقات عدا المسعودي صدوق.
(2) صحيح الجامع رقم 6846 ثم قال: صحيح.
(3) صحيح الجامع رقم 6716 ثم قال: صحيح
(4) صحيح مسلم 4 \ 1808 رقم 2317.
(5) أخرجه البخاري في الصحيح 10 \ 238 رقم 6013، صحيح مسلم 4 \ 1809 رقم 2319.(45/219)
أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال: بل باب التوبة والرحمة (1) » .
11 - وروى البخاري من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - «قال: أرسلت ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه: أن ابنا لي قبض فأتنا، فأرسل يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينا، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال. فرفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبي ونفسه تتقعقع - قال: حسبته أنه قال: كأنها شن - ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء (2) » .
12 - وأخرج الإمام مسلم من حديث أبي هريرة قال: «قيل: يا رسول الله، ادع على المشركين قال: إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة (3) » .
13 - وروى الإمام البخاري من حديث عائشة قالت: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال في الصوم رحمة لهم - (4) » الحديث.
14 - وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: «كان رسول
__________
(1) مسند الإمام أحمد 1 \ 242 ورجاله ثقات.
(2) صحيح البخاري 3 \ 151 رقم 1284، ومسلم، جنائز \ 11، وأبو داود، جنائز \ 24، والنسائي، جنائز \ 13، وابن ماجه، جنائز \ 53، وأحمد 1 \ 268، 5 \ 204، 6 \ 3
(3) صحيح مسلم 4 \ 2007 رقم 2599 وأبو داود، سنة \ 10، رقم 5 \ 81، 6 \ 64.
(4) صحيح البخاري 4 \ 202 رقم 1964 ومسلم، صيام \ 61.(45/220)
الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر ثم يضمهما ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما (1) » .
من خلال هذه الأمثلة المتقدمة تتضح الصورة، وتصح التسمية ويتأسى به - صلى الله عليه وسلم - في رحمته بأمته، ورحمته بالضعفاء، ورحمته بالنساء، ورحمته بالصغار، وبالحيوان، والرحمة بالأمة مطلب مهم، وصفة المؤمنين، وصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين بأنهم رحماء بينهم.
قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (2) ، وقال سبحانه: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (3) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى سائر جسده بالسهر والحمى (4) » .
__________
(1) صحيح البخاري 10 \ 434 رقم 6003، وأحمد في المسند 5 \ 205.
(2) سورة الفتح الآية 29
(3) سورة البلد الآية 17
(4) أخرجه البخاري في الصحيح 10 \ 438 رقم 6011 من حديث النعمان بن بشير، ومسلم في البر \ 66، وأحمد 4 \ 270.(45/221)
حاجة الأنبياء إلى الرحمة:
الرحمة مطلب ضروري للخلق، بدونها لا يسعدون، ولا يأمنون، بل يخسرون ويضلون ومن ثم تضرع الأنبياء لربهم سائلين الله تعالى رحمته.
قال تعالى حكاية عن آدم وحواء: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) ، وقال تعالى حكاية عن نوح: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) ، وقال تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} (3) ، وقال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (4) {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (5) ، وقال تعالى حكاية عن موسى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (6) .
وقال تعالى حكاية عن سليمان: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (7) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 23
(2) سورة هود الآية 47
(3) سورة الأعراف الآية 155
(4) سورة الأنبياء الآية 83
(5) سورة الأنبياء الآية 84
(6) سورة الأعراف الآية 151
(7) سورة النمل الآية 19(45/222)
وروى الإمام مسلم وغيره من حديث عائشة قالت: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في استغفاره لأهل البقيع: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون (1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «يرحمنا الله وأخا عاد (2) » .
وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن ينجي أحدا منكم عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا (3) » ، كما قال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: «دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت (4) » ، «وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا استسقى قال: اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت (5) » ، «وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به
__________
(1) صحيح مسلم 2 \ 671 رقم 103، والنسائي جنائز \ 103، وأحمد 6 \ 221.
(2) أخرجه ابن ماجه في السنن 2 \ 1266 رقم 3852 ثم قال المحقق: في الزوائد إسناده صحيح، رجاله ثقات.
(3) صحيح البخاري 11 \ 294 رقم 6463، صحيح مسلم، منافقون \ 77، ابن ماجه، زهد \ 20، الدارمي، رقاق \ 24، أحمد 2 \ 235.
(4) أخرجه أحمد 5 \ 42، وأبو داود - أدب \ 101 وذكره الألباني في صحيح الجامع رقم 3382 عن أبي بكرة ثم قال حسن.
(5) أخرجه أبو داود 1 \ 305 رقم 1176، ومالك في استسقاء، وأحمد 5 \ 60 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه وعن جده.(45/223)
به في صلاتي؟ ، قال: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم (1) » ، وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين (2) » .
وما دامت الرحمة مطلبا ضروريا للخلق حتى رأينا الأنبياء أنفسهم يتضرعون في طلبها، فعلينا أن نكثر من طلب الرحمة من أرحم الراحمين لعل الله تعالى يستجيب لنا فنسعد في الدنيا والآخرة.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصحيح 2 رقم 134، مسلم، فضائل الصحابة \ 85، وأبو داود صلاة \ 135، والترمذي، صلاة \ 95، والنسائي \ 59، وابن ماجه، إقامة \ 23، والموطأ، القرآن \ 28، وأحمد \ 4، 2 \ 67، 3 \ 472، 4 \ 353، 6 \ 303.
(2) صحيح البخاري 11 \ 126 رقم 6320، أبو داود، أدب \ 98، الترمذي، دعوات \ 20، أحمد 2 \ 246.(45/224)
مظاهر رحمة الله وآثارها:
قال سيد قطب في ظلاله على الآية: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) ، كلاما يظهر فيه مظاهر وآثار رحمة الله، ومن المفيد أن ننقله هنا بعينه ثم نفصل بعده القول في أنواع وآثار رحمة الله، وقد نقتبس بعض أفكار الشيخ عند هذا الفصل، وإليك أولا كلام الشيخ:
__________
(1) سورة فاطر الآية 2(45/224)
{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) .
وفي هذه الآية الثانية من السورة صورة من صور قدرة الله التي ختم بها الآية الأولى، وحين تستقر هذه الصورة في قلب بشري يتم فيه تحول كامل في تصوراته ومشاعره، واتجاهاته وموازينه وقيمه في هذه الحياة جميعا، إنها تقطعه عن شبهة كل قوة في السماوات والأرض وتصله بقوة الله، وتيئسه من مظنة كل رحمة في السماوات والأرض وتصله برحمة الله، وتوصد أمامه كل باب في السماوات والأرض وتفتح أمامه باب الله، وتغلق في وجهه كل طريق في السماوات والأرض، وتشرع له طريقه إلى الله.
ورحمة الله تتمثل في مظاهر لا يحصيها العد، ويعجز الإنسان عن مجرد ملاحقتها وتسجيلها في ذات نفسه وتكريمه بما كرمه، وفيما سخر له من حوله ومن فوقه ومن تحته، وفيما أنعم به عليه مما يعلمه ومما لا يعلمه وهو كثير.
ورحمة الله تتمثل في الممنوع تمثلها في الممنوح، ويجدها من يفتحها الله له في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حال، وفي كل مكان، يجدها في نفسه، وفي مشاعره، ويجدها فيما حوله، وحيثما كان، وكيفما كان. ولو فقد كل شيء مما يعد الناس فقده هو الحرمان. . ويفتقدها من يمسكها الله عنه في كل شيء، وفي كل وضع، وفي كل حالة، وفي كل مكان. ولو وجد كل شيء مما
__________
(1) سورة فاطر الآية 2(45/225)
يعده الناس علامة الوجدان والرضوان.
وما من نعمة - يمسك الله معها رحمته - حتى تنقلب هي بذاتها نقمة. وما من محنة - تحفها رحمة الله - حتى تكون هي بذاتها نعمة. . ينام الإنسان على الشوك مع رحمة الله - فإذا هو مهاد، وينام على الحرير - وقد أمسكت عنه - فإذا هو شوك القتاد - ويعالج أعسر الأمور - برحمة الله - فإذا هي هوادة ويسر. ويعالج أيسر الأمور - وقد تخلت رحمة الله - فإذا هي مشقة وعسر، ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام، ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار.
ولا ضيق من رحمة الله، إنما الضيق في إمساكها دون سواه، لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب، أو في شعاب الهلاك، ولا سعة مع إمساكها، ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم وفي مراتع الرخاء، فمن داخل النفس برحمة الله تتفجر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة، ومن داخل النفس في إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والنكد والمعاناة.
هذا الباب وحده يفتح وتغلق جميع الأبواب، وتوصد جميع النوافذ، وتسد جميع المسالك فلا عليك. فهو الفرج والفسحة، واليسر والرخاء. . وهذا الباب وحده يغلق وتفتح جميع الأبواب والنوافذ والمسالك فما هو بنافع. وهو الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء.
هذا الفيض يفتح، ثم يضيق الرزق، ويضيق السكن(45/226)
ويضيق العيش، وتخشن الحياة، ويشوك المضجع. . فلا عليك. فهو الرخاء والراحة والطمأنينة والسعادة. وهذا الفيض يمسك. ثم يفيض الرزق، ويقبل كل شيء فلا جدوى. وإنما هو الضنك والحرج والشقاوة والبلاء.
المال والولد، والصحة والقوة، والجاه والسلطان. . تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله. فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة، والسعادة والاطمئنان.
يبسط الله الرزق - مع رحمته - فإذا هو متاع طيب ورخاء، وإذا هو رغد في الدنيا وزاد إلى الآخرة، ويمسك رحمته، فإذا هو مثار قلق وخوف، وإذا هو مثار حسد وبغض، وقد يكون معه الحرمان ببخل أو مرض، وقد يكون معه التلف بإفراط أو استهتار.
ويمنح الله الذرية - مع رحمته - فإذا هي زينة في الحياة ومصدر فرح واستمتاع، ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله، ويمسك رحمته فإذا الذرية بلاء ونكد وعنت وشقاء وسهر بالليل وتعب بالنهار.
ويهب الله الصحة والقوة - مع رحمته - فإذا هي نعمة وحياة طيبة، والتذاذ بالحياة، ويمسك نعمته فإذا الصحة والقوة بلاء يسلطه الله على الصحيح القوي، فينفق الصحة والقوة فيما يحطم الجسد ويفسد الروح، ويدخر السوء ليوم الحساب.(45/227)
ويعطي الله السلطان والجاه - مع رحمته - فإذا هي أداة إصلاح، ومصدر أمن، ووسيلة لادخار الطيب الصالح من العمل والأثر. ويمسك الله رحمته فإذا الجاه والسلطان مصدر قلق على فوتهما، ومصدر طغيان وبغي بهما، ومثار حقد وموجدة على صاحبهما لا يقر له معهما قرار، ولا يستمتع بجاه ولا سلطان، ويدخر بهما للآخرة رصيدا ضخما من النار.
والعلم الغزير، والعمر الطويل، والمقام الطيب. كلها تتغير وتتبدل من حال إلى حال. . مع الإمساك ومع الإرسال. . وقليل من المعرفة يثمر وينفع، وقليل من العمر يبارك الله فيه. وزهيد من المتاع يجعل الله فيه السعادة.
والجماعات كالآحاد. والأمم كالأفراد، في كل أمر وفي كل وضع، وفي كل حال. . ولا يصعب القياس على هذه الأمثال، ومن رحمة الله أن تحس برحمة الله؛ فرحمة الله تضمك وتغمرك وتفيض عليك، ولكن شعورك بوجودها هو الرحمة. ورجاؤك فيها وتطلعك إليها هو الرحمة، وثقتك بها وتوقعها في كل أمر هو الرحمة، والعذاب هو العذاب في احتجابك عنها، أو يأسك منها، أو شكك فيها، وهو عذاب لا يصبه الله على مؤمن أبدا، قال تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (1) .
ورحمة الله لا تعز على طالب في أي مكان ولا في أي حال. وجدها إبراهيم - عليه السلام - في النار، ووجدها يوسف - عليه
__________
(1) سورة يوسف الآية 87(45/228)
السلام - في الجب كما وجدها في السجن، ووجدها يونس - عليه السلام - في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ووجدها موسى - عليه السلام - في اليم وهو طفل مجرد من كل قوة، ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له، متربص به، ويبحث عنه، ووجدها أصحاب الكهف في الكهف، حين افتقدوها في القصور، والدور، فقال بعضهم لبعض: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} (1) ، ووجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار، والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار. . ووجدها كل من آوى إليها يأسا من كل ما سواها، منقطعا عن كل شبهة في قوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصدا باب الله وحده دون الأبواب.
ثم إنه متى فتح الله أبواب رحمته فلا ممسك لها، ومتى أمسكها فلا مرسل لها ومن ثم فلا مخافة من أحد، ولا رجاء في أحد، ولا مخافة من شيء، ولا رجاء في شيء، ولا خوف من فوت وسيلة، ولا رجاء مع وسيلة، إنما هي مشيئة الله، ما يفتح الله فلا ممسك. وما يمسك فلا مرسل، والأمر مباشرة إلى الله. . وهو العزيز الحكيم،. . يقدر بلا معقب على الإرسال والإمساك. ويرسل ويمسك وفق حكمة تكمن وراء الإرسال والإمساك. قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} (2) .
وما بين الناس ورحمة الله إلا أن يطلبوها مباشرة منه، بلا وساطة وبلا وسيلة إلا التوجه إليه في طاعة وفي رجاء وفي ثقة وفي
__________
(1) سورة الكهف الآية 16
(2) سورة فاطر الآية 2(45/229)
استسلام. قال تعالى: {وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) .
فلا رجاء في أحد من خلقه، ولا خوف لأحد من خلقه، فما أحد بمرسل من رحمة الله ما أمسكه الله، أية طمأنينة؟ وأي قرار؟ وأي وضوح في التصورات، والمشاعر، والقيم، والموازين تقره هذه الآية في الضمير، آية واحدة ترسم الحياة، صورة جديدة، وتنشئ في الشعور قيما لهذه الحياة ثابتة، وموازين لا تهتز، ولا تتأرجح، ولا تتأثر بالمؤثرات كلها، ذهبت أم جاءت، كبرت أم صغرت، جلت أم هانت، كان مصدرها الناس، أو الأحداث أو الأشياء. صورة واحدة لو استقرت في قلب إنسان لصمد كالطود للأحداث، والأشياء، والأشخاص، والقوى، والقيم، والاعتبارات، ولو تضافر عليها الإنس والجن، وهم لا يفتحون رحمة الله حين يمسكها، ولا يمسكونها حين يفتحها. . وهو العزيز الحكيم.
وهكذا أنشأ القرآن بمثل هذه الآية، وهذه الصورة، تلك الفئة العجيبة من البشر في صدر الإسلام، الفئة التي صنعت على عين الله بقرآنه هذا لتكون أداة من أدوات القدرة، وتنشئ في الأرض ما شاء الله أن ينشئ من عقيدة، وتصور، وقيم، وموازين، ونظم، وأوضاع، وتقر في الأرض ما شاء الله أن يقر من نماذج الحياة الواقعة التي تبدو لنا اليوم كالأساطير والأحلام
__________
(1) سورة فاطر الآية 2(45/230)
الفئة التي كانت قدرا من قدر الله يسلطه على من يشاء في الأرض فيمحو ويثبت في واقع الحياة والناس ما شاء الله من محو ومن إثبات، ذلك أنها لم تكن تتعامل مع ألفاظ هذا القرآن، ولا مع المعاني الجميلة التي تصورها. . وكفى. . ولكنها كانت تتعامل مع الحقيقة التي تمثلها آيات القرآن وتعيش في واقعها بها، ولها. .
وما يزال هذا القرآن بين أيدي الناس، قادرا على أن ينشئ بآياته تلك أفرادا وفئات تمحو وتثبت في الأرض - بإذن الله - ما يشاء الله ذلك حين تستقر هذه الصور في القلوب، فتأخذها جدا، وتتمثلها حقا، حقا تحسه، كأنها تلمسه بالأيدي وتراه بالأبصار (1) .
__________
(1) في ظلال القرآن 5 \ 2921- 2924.(45/231)
هذا ومن أنواع الرحمة ومظاهرها وآثارها ما يلي:
1 - العصمة من السوء: الحول والقوة من الله وإليه، فمن حفظه ورعاه وعصمه فهو المرحوم، ومن أراد به سوءا فهو الشقي وهو الذي أمسك عنه رحمته. قال تعالى: {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} (1) ، وقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ} (2) ، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} (3) .
__________
(1) سورة هود الآية 43
(2) سورة النساء الآية 175
(3) سورة الأحزاب الآية 17(45/231)
2 - عدم الاختلاف: طبيعة البشر الاختلاف، لتفاوت قدراتهم وتصوراتهم وهممهم، لكن من يرحمهم الله فهم متفقون، يسيرون على منهج واحد، ويعبدون إلها واحدا.
قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (1) {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (2) .
3 - ترك النفس الأمر بالسوء: النفس البشرية مفطورة على حب الهوى، لكن الله بحكمته وتقديره اختار أنفسا معينه نقية طاهرة فرحمها وأصبح السوء عنها بعيدا.
قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} (3) .
4 - النصر: إن النصر الحقيقي من العزيز الرحيم، هو في ذلك اليوم العظيم، ومن رحمه الله هناك فهو المنصور، قال تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} (4) {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (5) {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (6) .
5 - وقاية الله تعالى العبد السيئات يوم القيامة: نعم، من رحمه الله يوم القيامة فقد وقاه السيئات، ومن حجب عنه رحمته فقد وقع في السيئات.
قال تعالى: {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (7) .
__________
(1) سورة هود الآية 118
(2) سورة هود الآية 119
(3) سورة يوسف الآية 53
(4) سورة الدخان الآية 40
(5) سورة الدخان الآية 41
(6) سورة الدخان الآية 42
(7) سورة غافر الآية 9(45/232)
6 - عدم رد بأس الله عن القوم المجرمين:
رحمة الله لا يعطيها إلا عباده وأولياءه، أما أعداؤه فإنه يمسك عنهم رحمته؛ لأنهم ليسوا أهلا لها، قال تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (1) ، وقال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (2) ، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (3) ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) .
7 - صرف العذاب عن المؤمنين يوم القيامة: الصراط يوم القيامة منصوب على جهنم، فمن كتب الله له الفوز فهو الذي يصرف عنه عذابه، ويعبر هذا الصراط، ولا يعبر هذا الصراط إلا من رحمهم الله، أما من غضب عليهم فهم سيتكردسون في جهنم؛ لأن الله رفع عنهم ومنع عنهم رحمته ولطفه، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (5) {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} (6) .
8 - عدم الخسران: إن حصول الرحمة للعبد هي الربح والفوز العظيم، وعدم الرحمة هو الخسران المبين، قال تعالى:
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 75
(2) سورة الأنعام الآية 147
(3) سورة الشورى الآية 8
(4) سورة العنكبوت الآية 23
(5) سورة الأنعام الآية 15
(6) سورة الأنعام الآية 16(45/233)
{وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) ، وقال تعالى: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) ، وقال تعالى: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) ، وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) .
9 - حصول الفرح: إن حصول رحمة الله للعبد أعظم ما يتمناه، بل يحصل له الفرح العظيم، وهو أعظم من كل شيء في الوجود، ورحمة الله أغلى من كل شيء، نعم، فضل الله ورحمته خير مما يجمعون، قال تعالى: {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (6) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (7) {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (8) ، وقال جل وعلا: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (9) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 23
(2) سورة هود الآية 47
(3) سورة الأعراف الآية 149
(4) سورة البقرة الآية 63
(5) سورة البقرة الآية 64
(6) سورة آل عمران الآية 157
(7) سورة يونس الآية 57
(8) سورة يونس الآية 58
(9) سورة الزخرف الآية 32(45/234)
10 - تبييض الوجوه يوم القيامة: يوم القيامة تنقسم الوجوه إلى بيضاء وسوداء، فمن أدركته رحمة الله فوجهه أبيض، وهذا غاية في الإكرام والعطاء من الله لعباده المرحومين، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) .
11 - اللين مع المؤمنين: إلانة الجانب للمؤمنين دليل على أن رحمة الله حصلت وأدركت هذا العبد الذي ألان جانبه لإخوانه وأحبابه. قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (2) .
12 - جمع الناس يوم القيامة: إن الحياة الدنيا فيها الظالم والمظلوم، ولو لم يكن هناك يوم للحساب لكان غاية في الغبن والظلم، وحاشا أن لا يكون، بل من رحمة أرحم الراحمين أن يكون يوم عظيم يقتص فيه من الظالم للمظلوم، وتؤخذ الحقوق وترد لأصحابها، قال تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ} (3) ، وقال تعالى: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (4) .
13 - النجاة من عذاب الدنيا: الله القادر الرحيم ينجي عباده من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، ينجيهم من الكافرين، وهذه عين رحمته سبحانه، فمن رحمته أن نجى أنبياءه ومن معهم من
__________
(1) سورة آل عمران الآية 107
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة الأنعام الآية 12
(4) سورة يس الآية 52(45/235)
العذاب الذي أصاب أقوامهم بسبب كفرهم، ونجاهم من بطش الطغاة والمجرمين برحمته التي وسعت كل شيء، قال تعالى عن هود: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} (1) ، وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} (2) ، وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (3) ، وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (4) ، وقال تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} (5) {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (6) ، وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (7) {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (8) {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (9) ، وقال تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} (10) {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} (11) ، وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (12) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 72
(2) سورة هود الآية 58
(3) سورة هود الآية 66
(4) سورة هود الآية 94
(5) سورة يس الآية 43
(6) سورة يس الآية 44
(7) سورة يونس الآية 84
(8) سورة يونس الآية 85
(9) سورة يونس الآية 86
(10) سورة الأنبياء الآية 74
(11) سورة الأنبياء الآية 75
(12) سورة النور الآية 14(45/236)
14 - قص القصص في القرآن: لما في القصص في القرآن من عبر يعتبر بها أولو الألباب كان هذا القصص رحمة من الله لعباده المؤمنين، حتى يقفوا على مصير الظالمين ومآلهم يتعرفوا على سنن الله وأيامه، إنها رحمة من الله حتى يهلك من هلك عن بينة وينجو من ينجو عن بينة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) .
__________
(1) سورة يوسف الآية 111(45/237)
15 - هبة الذرية الصالحة: إن الذرية الصالحة نعمة عظيمة بل رحمة من الله يهبها لمن يشاء من عباده ليستمر ذكره، ويستمر عمله الصالح بعد مماته، ويرثه، ويحقق الغريزة المفطور عليها الإنسان في حب الذرية والتمتع برؤيتها، قال تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} (1) {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} (2) {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} (3) {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} (4) {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} (5) {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} (6) ، وقال تعالى: {كهيعص} (7) {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} (8) {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (9) {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (10) {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} (11) {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} (12) {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} (13) .
__________
(1) سورة الحجر الآية 51
(2) سورة الحجر الآية 52
(3) سورة الحجر الآية 53
(4) سورة الحجر الآية 54
(5) سورة الحجر الآية 55
(6) سورة الحجر الآية 56
(7) سورة مريم الآية 1
(8) سورة مريم الآية 2
(9) سورة مريم الآية 3
(10) سورة مريم الآية 4
(11) سورة مريم الآية 5
(12) سورة مريم الآية 6
(13) سورة مريم الآية 7(45/237)
وقال تعالى: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (1) {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} (2) .
16 - إنزال الكتب: إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة للعالمين، وبخاصة المؤمنين الذين بسبب هذه الكتب أصبحوا مؤمنين وموحدين ومن أولياء الله وأحبابه، والذين استحقوا رحمة الله بالسير على منهج الله، والذي يتضمنه كلام الله. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (3) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (4) ، وقال تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} (5) {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} (6) ، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (7) {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (8) ، وقال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ} (9) .
__________
(1) سورة مريم الآية 20
(2) سورة مريم الآية 21
(3) سورة الإسراء الآية 82
(4) سورة القصص الآية 43
(5) سورة الإسراء الآية 86
(6) سورة الإسراء الآية 87
(7) سورة النمل الآية 76
(8) سورة النمل الآية 77
(9) سورة القصص الآية 86(45/238)
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) ، وقال تعالى: {الم} (2) {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (3) {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} (4) ، وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (5) ، وقال تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} (6) ، وقال تعالى: {حم} (7) {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (8) {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (9) ، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (10) .
17 - عدم تعجيل العقوبة لمستحقيها: من رحمته سبحانه أن من استحق العقوبة لا يعاجله بها، بل يمهله لعله يرجع لعله يرعوي، لكن له أجل معلوم إذا جاء وقته فإنه يقع وحينئذ لا يرد بأسه عن القوم المجرمين، قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا} (11) ، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا} (12) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 51
(2) سورة لقمان الآية 1
(3) سورة لقمان الآية 2
(4) سورة لقمان الآية 3
(5) سورة الجاثية الآية 20
(6) سورة الأحقاف الآية 12
(7) سورة فصلت الآية 1
(8) سورة فصلت الآية 2
(9) سورة فصلت الآية 3
(10) سورة النحل الآية 89
(11) سورة الكهف الآية 58
(12) سورة مريم الآية 75(45/239)
ومن كان من عباد الله كان من أصحاب رحمة الله: قال تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (1) .
18 - عدم تضييع أبناء الصالحين: العبد المؤمن الصالح يتولاه الله حتى بعد مماته رحمة منه، وخاصة ما ترك من الذرية، قال تعالى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} (2) .
19 - منع المفسدين من الإفساد: ومن رحمته أن يمنع أهل الفساد من الإفساد رحمة بالمؤمنين. قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} (3) {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} (4) .
__________
(1) سورة الكهف الآية 65
(2) سورة الكهف الآية 82
(3) سورة الكهف الآية 97
(4) سورة الكهف الآية 98(45/240)
20 - إرسال الأنبياء: إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الله للعالمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من يحيي عن بينة ولتقوم الحجة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) ، وقال سبحانه: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (2) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) سورة القصص الآية 46(45/240)
21 - هبة الزوجات: إن نعمة الزوجات من أعظم النعم بل هي رحمة الله كيف لا، فيها السكن والمودة والرحمة، ومنها الأبناء الصالحين والذين هم من نعم الله ورحمته، وبها تستقر الأسر والحياة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) ، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (2) {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} (3) {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (4) .
__________
(1) سورة الروم الآية 21
(2) سورة ص الآية 41
(3) سورة ص الآية 42
(4) سورة ص الآية 43(45/241)
22 - إنزال المطر وإحياء الأرض: جعل الله رحمته في الماء فبه يحيي جميع الموات والأرض موات حتى ينزل الماء عليها فيحييها فإذا هي جنان تؤتي ثمارها وأكلها، وأيضا آية على إحياء موات الإنسان بعد أن يموت، قال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) ، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (2) .
وأخرج مسلم من حديث عائشة قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يوم الريح والغيم، عرف ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر،
__________
(1) سورة الروم الآية 50
(2) سورة الشورى الآية 28(45/241)
فإذا أمطرت سر به، وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته فقال: إني خشيت أن يكون عذابا سلط على أمتي، ويقول إذا رأى المطر: رحمة (1) » ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت (2) » ، روى الإمام مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني قال: «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في أثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب (3) » .
23 - ليلة القدر المباركة: ومن رحمة الله بهذه الأمة أن جعل لها هذا الشهر العظيم وجعل في هذا الشهر هذه الليلة المباركة والتي أنزل فيها القرآن رحمة للعالمين وهي تعادل أكثر من ثمانين سنة، قال تعالى: {حم} (4) {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} (5) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (6) {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (7) {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (8) {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (9) .
24 - التمكين في الأرض: من رحمته لعباده المحسنين أن مكن لهم في الأرض ليحكموا بالعدل وليقيموا شريعة الله على أرض الله
__________
(1) صحيح البخاري 20 \ 616 رقم 899.
(2) سنن أبي داود 1205 رقم 1176، الموطأ الاستسقاء \ 2 أحمد 5 \ 60.
(3) صحيح مسلم 1 \ 84 رقم 71، صحيح البخاري أذان \ 156، أبو داود، طب \ 22 والموطأ الاستسقاء \ 4.
(4) سورة الدخان الآية 1
(5) سورة الدخان الآية 2
(6) سورة الدخان الآية 3
(7) سورة الدخان الآية 4
(8) سورة الدخان الآية 5
(9) سورة الدخان الآية 6(45/242)
في عباد الله، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (1) .
__________
(1) سورة يوسف الآية 56(45/243)
25 - عدم اتباع الشيطان: ومن رحمته بعباده المؤمنين عدم تسليط الشيطان عليهم رغم محاولات الشيطان وخطواته، فلم يستجيبوا لخطوات الشيطان، قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) ، وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (3) .
26 - البعد عن الضلال: من تولاه الله ورحمه يمنعه ويحجزه عن الضلال، ويمنع من أراد إضلاله من أن يضله، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} (4) .
27 - إرسال الرياح: إرسال الرياح المبشرات والتي تسوق السحاب ليرحم الله به بلدا ميتا هي من رحمة الله أيضا، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (5) ، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (6) .
__________
(1) سورة النساء الآية 83
(2) سورة النور الآية 20
(3) سورة النور الآية 21
(4) سورة النساء الآية 113
(5) سورة الأعراف الآية 57
(6) سورة الفرقان الآية 48(45/243)
وقال تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) ، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تسبوا الريح فإنها من روح الله، تأتي بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها (3) » .
28 - التزكية: من رحمته سبحانه بعباده المؤمنين أن زكاهم وطهرهم من الذنوب والمعاصي، وهذا فضل الله يختص به من شاء وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (4) .
29 - الهداية: الظلمات كثيرة بل في البر ظلمات وفي البحر ظلمات والهادي هو الله وهذا من رحمته، قال تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (5) .
__________
(1) سورة النمل الآية 63
(2) سورة الروم الآية 46
(3) أخرجه ابن ماجه 2 \ 1228 رقم 3727، أحمد من حديث أبي هريرة، وقال الألباني: صحيح (صحيح الجامع رقم 7193) .
(4) سورة النور الآية 21
(5) سورة النمل الآية 63(45/244)
30 - جعل الليل لباسا والنهار معاشا: تقديره سبحانه المحكم رحمة منه لعباده فالليل رحمة منه للسكن والهدوء، والنهار رحمة منه لطلب المعاش والسير في الأرض وابتغاء فضله، قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) .
__________
(1) سورة القصص الآية 73(45/245)
31 - جريان الفلك: ومن آياته ورحمته إرسال الرياح مبشرات ولتسير الفلك على الماء لطلب الرزق والفضل من الله، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) .
32 - الحفظ والصون من الزلل: نعم، الحافظ هو الله، وهو أرحم الراحمين هذه عقيدة راسخة في قلوب أوليائه، ومهما حدث فإنه بتقدير الله الحكيم الذي رحمته سبقت غضبه، قال تعالى: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (2) .
33 - خلق الإنسان وتعليمه القرآن: إن خلق الإنسان رحمة، وتعليمه رحمة وخاصة القرآن الكريم، قال تعالى: {الرَّحْمَنُ} (3) {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (4) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} (5) .
34 - إمساك الطير في الهواء: قال تعالى:
__________
(1) سورة الروم الآية 46
(2) سورة يوسف الآية 64
(3) سورة الرحمن الآية 1
(4) سورة الرحمن الآية 2
(5) سورة الرحمن الآية 3(45/245)
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} (1) {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} (2) .
35 - خلق الجنة رحمة الله: أخرج البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم! قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي. . . (3) » الحديث.
36 - إخراج بعض من أصبح حمما في جهنم منها: روى الترمذي من حديث جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يعذب ناس من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا فيها حمما ثم تدركهم الرحمة فيخرجون ويطرحون على أبواب الجنة، قال: فترش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل ثم يدخلون الجنة (4) » .
37 - قبض النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الأمة: أخرج مسلم من حديث أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله عز وجل إذا أراد رحمة أمة من عباده، قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه
__________
(1) سورة الملك الآية 19
(2) سورة الملك الآية 20
(3) صحيح البخاري 8 \ 595 رقم 4850، مسلم، جنة \ 34- 36، والترمذي، جنة \ 22 وأحمد في المسند 2 \ 276.
(4) أخرجه الترمذي في الجامع 4 \ 713 رقم 2597 ثم قال: حديث حسن صحيح.(45/246)
بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره (1) » .
38 - الدموع لفقدان الأحبة: إن رحمة الله إذا أنزلها في قلوب عباده كان لها مظاهر، ومن مظاهرها الدموع لفقدان الأحبة، البكاء المشروع رحمة من الله، والله لا يرحم إلا من يرحم. أخرج البخاري من حديث أسامة بن زيد قال: «أرسلت ابنة النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه: أن ابنا لي قبض، فأتنا، فأرسل يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب. فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، ورجال، فرفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبي ونفسه تتقعقع - قال: حسبته أنه قال: كأنها شن - ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء (2) » .
__________
(1) صحيح مسلم 4 \ 1791 رقم 2288.
(2) صحيح البخاري 3 \ 151 رقم 1284، ومسلم، جنائز \ 11، وأبو داود، جنائز \ 24، والنسائي، جنائز \ 13، وابن ماجه، جنائز \ 53، وأحمد 1 \ 268، 5 \ 204، 6 \ 3(45/247)
39 - الموت: الموت نهاية المطاف لكنه إما رحمة للمؤمنين حيث يستريح من نصب الدنيا وعنائها أو يستريح العباد والبلاد من الميت الآخر الذي حياته تعب وعناء للآخرين، فهو - أي الموت - رحمة على أي حال.
«قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما مر عليه بجنازة قال: مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله ما المستريح والمستراح منه؟ فقال: العبد المؤمن يستريح من أذى الدنيا ونصبها إلى رحمة الله(45/247)
والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب (1) » .
40 - دخول الجنة: نعم سبب دخول الجنة العمل الصالح، ولكن العمل الصالح على أي حال لا يوازي نعمة دخول الجنة ابتداء ولا يوازي النعيم المقيم في الجنة، لكن رحمة الله هي التي سبقت، فدخل العبد بها جنة ربه ابتداء وبرحمة ربه تنعم في الجنة بأنواع النعيم.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن ينجي أحدا منكم عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، ألا أن يتغمدني الله برحمته، سددوا وقاربوا واغدوا، وروحوا، وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا (2) » .
41 - محبة لقاء الله: إن حب لقاء الله علامة من علامات رحمة الله؛ لأن لقاء الله يعني النعيم المقيم يعني رضوان الله، يعني الجنة، وهذا كله لا يكون إلا إذا كانت رحمة الله أدركت هذا المحب للقاء الله، وروى الترمذي وغيره من حديث عائشة: أنها ذكرت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالت: فقلت يا رسول الله كلنا نكره الموت، قال: ليس ذلك، ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته، أحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وأن الكافر إذا
__________
(1) صحيح مسلم 2 \ 656 رقم 950، وأحمد 5 \ 296، والموطأ، جنائز \ 55.
(2) صحيح البخاري 11 \ 294 رقم 6463 من حديث أبي هريرة، مسلم، منافقين 77، وغيرهما وعند البخاري أيضا برقم 6467 من حديث عائشة.(45/248)
بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه (1) » .
42 - النهي عن الوصال في الصوم: العبادة رحمة من الله، والله لم يكلف العباد إلا بما يستطيعون والوصال فيه عنت ومشقة، بل يعتبر خارج طاقة العبد، ولذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه رحمة بالمؤمنين، أخرج البخاري من حديث عائشة قالت: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل، قال: إني لست كهيئتكم: إني يطعمني ربي ويسقين (2) » .
43 - ابتلاء المؤمنين بالطاعون: ابتلاء المؤمنين بأي بلاء رحمة من الله، وأمر المؤمن كله خير إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، والطاعون على الأعداء عذاب، وعلى المؤمنين رحمة من الله؛ لأن المؤمن عنده يقين أنه لا يصيبه إلا ما كتبه الله له.
أخرج البخاري من حديث عائشة «أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون، فأخبرها نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان عذابا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد وقع الطاعون فيمكث في بلده صابرا ويعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتبه الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد (3) » .
__________
(1) جامع الترمذي 3 \ 371 رقم 1067، ابن ماجه في السنة كتاب الزهد \ 31، والنسائي في السنن كتاب الجنائز \ 10، ومسلم في الصحيح كتاب الذكر رقم 15.
(2) صحيح البخاري 4 \ 202 رقم 1964، صحيح مسلم كتاب الصيام \ 61.
(3) صحيح البخاري 10 \ 1192 رقم 5734، وأحمد 5 \ 81، 6 \ 64.(45/249)
أسباب الرحمة:
إن الرحمة لها أسباب تستجلب بها، فرحمة الله تعالى وإن وسعت كل شيء إلا أن لنيلها أسبابا، نعم إن الله تعالى يتفضل بالرحمة ابتداء على من شاء، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) ، وقال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} (2) ، وقال تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} (3) ، وقال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (4) ، وقال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} (5) ، وقال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (6) ، وقال تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (7) .
__________
(1) سورة فاطر الآية 2
(2) سورة فصلت الآية 50
(3) سورة الشورى الآية 48
(4) سورة البقرة الآية 105
(5) سورة النور الآية 10
(6) سورة الفتح الآية 25
(7) سورة الإنسان الآية 31(45/250)
ومع هذا فللرحمة - كما قلنا - أسباب ومنها:
1 - الإيمان: إن رحمة الله لا تحصل إلا لمن آمن، الإيمان الحقيقي بجميع أركانه الستة: الإيمان بالله، بملائكته، وبكتبه، ورسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، قال تعالى: {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (1) ، ولهذا كان هذا الفريق من عباد الله يدعون، ويتوسلون إليه بالإيمان ليحصل لهم الغفران ولتحصل لهم الرحمة؛ لأن الله هو مصدرهما فهو يغفر ويرحم؛ لأنه أرحم الراحمين، وقال تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) ، وقال جل وعلا: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} (3) ، نعم إن شرط حصول الرحمة - رحمة الله التي وسعت كل شيء - هو الإيمان فإذا انتهى الإيمان انتهت رحمة الله، وإذا انتهت رحمة الله فإن الشقاء والعذاب هو المتعين ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2 - الإخلاص: إن فضل الله ورحمته تنال بالإخلاص لله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (4) {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (5) {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} (6) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 109
(2) سورة الأعراف الآية 203
(3) سورة الجاثية الآية 30
(4) سورة مريم الآية 51
(5) سورة مريم الآية 52
(6) سورة مريم الآية 53(45/251)
3 - طاعة الله ورسوله: إن ما عند الله لا ينال إلا بطاعة الله، قال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) ، وقال جل وعلا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) .
4 - اتباع الكتاب والسنة: إن اتباع كتاب الله هو الخير كل الخير، والسنة لا يصح اتباع الكتاب إلا باتباعها؛ لأنها شارحة ومبينة للكتاب. قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) .
5 - التقوى: فسر بعض الصحابة التقوى بأنها: العمل بالتنزيل والخوف من الجليل والاستعداد ليوم الرحيل، وقال بعضهم: هي الحذر والتشمير. . إن التقوى شرط لحصول الرحمة من الله، ولا يمكن أن تحصل الرحمة والفضل والخير للفاجر العاصي، قال الله تعالى: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) ، وقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (5) ، وقال عز اسمه: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (6) ، وقال تعالى:
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة آل عمران الآية 132
(3) سورة الأنعام الآية 155
(4) سورة الأعراف الآية 63
(5) سورة يس الآية 45
(6) سورة الحجرات الآية 10(45/252)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .
6 - الاستماع إلى القرآن الكريم والإنصات له وتعلمه: القرآن الكريم كلام الله هو كله بركة ورحمة وفضل وكلما اقترب منه العبد كلما حصل له الفضل والبر والرحمة، قال عز من قائل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «. . . وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه (3) » .
7 - الاستغفار والتوبة: الإنسان محل الخطأ فهو ينسى وينام ويضعف ويكسل ويظلم ويجهل، لكن الله بلطفه ورحمته وإحسانه وتكرمه شرع الاستغفار والتوبة من جميع الذنوب كبيرها وصغيرها، جليلها وحقيرها فكان فضله وبره ورحمته، قال سبحانه: {لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) ، وقال تعالى ذكره: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) .
__________
(1) سورة الحديد الآية 28
(2) سورة الأعراف الآية 204
(3) أخرجه مسلم في الصحيح 4 \ 2074 رقم 2699 من حديث أبي هريرة، الترمذي \ قرآن \ 10.
(4) سورة النمل الآية 46
(5) سورة الأنعام الآية 54(45/253)
وقال عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) ، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (2) ، وقال نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم -: «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا ثم خرج يسأل، فأتى راهبا فسأله، فقال له: هل من توبة؟ قال: لا، فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا فأدركه الموت فنأى بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر فغفر له (3) » .
8 - الصبر: إن طبيعة دار الحياة الدنيا تختلف عن طبيعة دار البرزخ، ودار الآخرة، فالأولى دار ابتلاء والأخرى دار جزاء، والابتلاء يكون بالخير والشر، والصبر ضروري لدار الابتلاء بأنواعه الثلاثة. ولكن نتيجة الصبر محمودة، بل الصابرون هم الذين تنالهم رحمة الله، قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (4) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (5) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (6) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 53
(2) سورة غافر الآية 7
(3) أخرجه البخاري في الصحيح 6 \ 512 رقم 3470، ومسلم في الصحيح كتاب التوبة باب 46، وأحمد 3 \ 20.
(4) سورة البقرة الآية 155
(5) سورة البقرة الآية 156
(6) سورة البقرة الآية 157(45/254)
9 - العفو والرحمة: العبد مأمور بالعفو عن إخوانه المسلمين، ومأمور أيضا بالرحمة لخلق الله، وكما أن غيره محل الخطأ والضعف فهو أيضا محل الخطأ والضعف ومحتاج إلى عفو الله ورحمته، فإذا رحم خلق الله فهو يتسبب في تنزل رحمات الله عليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله (2) » .
10 - الهجرة والجهاد: ترك الأوطان ومفارقة الأحبة، والتعرض للموت في سبيل الله من أشق العبادات على النفوس، والتي بسببها يحصل العبد على الدرجات العلا والمغفرة والرحمة والرضوان، قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) ، وقال عز وجل: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (4) {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 178
(2) أخرجه الترمذي في الجامع 4 \ 323 رقم 1924 ثم قال: حديث حسن صحيح من حديث عبد الله بن عمر.
(3) سورة البقرة الآية 218
(4) سورة النساء الآية 95
(5) سورة النساء الآية 96(45/255)
وقال عز من قائل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (1) {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (2) .
11 - الإحسان: إن الإحسان هو مراقبة الله تعالى في العبادة فمن راقبه فإن رحمة الله قريبة منه، قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (3) .
12 - الالتزام بشرع الله: في أي مجتمع كبر أو صغر أو أي شخص التزم بشرع الله حصلت له رحمة الله، قال الرحيم عن آل إبراهيم: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} (4) .
13 - خشية الله: إن الخوف من الله مع الرجاء في الله يورثان فضل الله ورحمة الله وغفرانه، قال عز وجل: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} (5) ، وأخرج البخاري من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن رجلا كان قبلكم رغسه الله مالا - أي رزقه - فقال لبنيه لما حضر: أي أب كنتم لكم؟ قالوا: خير أب. قال فإني لم أعمل خيرا قط، فإذا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم ذروني في يوم عاصف، ففعلوا، فجمعه الله عز وجل فقال: ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته (6) » .
__________
(1) سورة التوبة الآية 20
(2) سورة التوبة الآية 21
(3) سورة الأعراف الآية 56
(4) سورة هود الآية 73
(5) سورة الأعراف الآية 154
(6) صحيح البخاري 6 \ 514 رقم 3478.(45/256)
14 - اللجوء إلى الله تعالى والتضرع إليه: من يلجأ إلى الله ويتضرع إليه يرحمه أرحم الراحمين، قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (1) {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (2) ، وقال سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (3) .
15 - قرن العلم بالعمل: العالمون العاملون هم المرحومون، قال عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} (4) .
16 - تطبيق الولاء والبراء: موالاة أولياء الله والبراء من أعداء الله أصل من أصول الدين، بل لا يتم ولا يصح إيمان المرء إلا بهما ولذلك من والى في الله وعادى في الله منحه الله الرحمة، قال جل وعلا عن إبراهيم: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} (5) {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (6) ، وقال عز من قائل:
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 83
(2) سورة الأنبياء الآية 84
(3) سورة الروم الآية 33
(4) سورة الزمر الآية 9
(5) سورة مريم الآية 49
(6) سورة مريم الآية 50(45/257)
{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} (1) .
17 - الصلاح: إن الصالحين هم الأنبياء والرسل وأتباعهم وهم الذين بصلاحهم يستحقون أن يدخلهم الله في رحمته، قال عز وجل: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} (2) {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (3) .
18 - الإنفاق في سبيل الله: إن الإنسان جبل على الإمساك، لكن المؤمن الذي يرجو ما عند الله ينفق ولا يخشى الفقر؛ لأنه يرجو ما وعد الله به عباده من فضل ورحمة، قال سبحانه: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) ، وقال تعالى عن موسى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (5) .
19 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص هذه الأمة، بل هو من مهام الأنبياء والرسل ولذلك استحق من يفعله الرحمة، قال تبارك
__________
(1) سورة الكهف الآية 16
(2) سورة الأنبياء الآية 85
(3) سورة الأنبياء الآية 86
(4) سورة التوبة الآية 99
(5) سورة الأعراف الآية 156(45/258)
اسمه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(45/259)
الخاتمة
قال ابن القيم - رحمه الله -: (ولما كان نصيب كل عبد من الرحمة على قدر نصيبه من الهدى، كان أكمل المؤمنين إيمانا، أعظمهم رحمة، كما قال تعالى في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (1) .
وكان الصديق - رضي الله عنه - من أرحم الأمة، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر (2) » .
وهكذا الرجل كلما اتسع علمه، اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمة وعلما، فوسعت رحمته كل شيء وأحاط بكل شيء علما، فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها بل هو أرحم بالعبد من نفسه. .) (3) .
هذا ونسأل الله أن يرحمنا برحمته التي وسعت كل شيء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) سورة الفتح الآية 29
(2) أخرجه الترمذي في الجامع 2 \ 309، وابن ماجه \ 154، وابن حبان 2218، 2219، والحاكم 3 \ 422 من حديث أنس، وقال الترمذي عنه: حسن صحيح وذكره الألباني في الصحيحة رقم 1224.
(3) إغاثة اللهفان 2 \ 169- 175.(45/259)
صفحة فارغة(45/260)
الفتنة والابتلاء
عبيد بن عبد العزيز السلمي (1)
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله الله إلى الناس كافة، خير من ابتلي وخير من صبر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فإن من أراد تحقيق أمور الدين جميعها، من التوحيد والإيمان والإسلام والإحسان، لا بد له من الابتلاء والفتنة، كما قال تعالى: {الم} (2) {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (3) .
وجماع معنى الفتنة: الابتلاء والامتحان والاختبار، وأصلها مأخوذة من قولك: فتنت الفضة والذهب، إذا أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد (4) .
والفتنة كالبلاء في أنهما يستعملان فيما يدفع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا، وقد قال الله تعالى فيهما: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (5) .
__________
(1) الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
(2) سورة العنكبوت الآية 1
(3) سورة العنكبوت الآية 2
(4) لسان العرب لابن منظور 13 \ 317، وانظر القاموس المحيط 4 \ 254.
(5) سورة الأنبياء الآية 35(45/261)
وللفتنة وجوه منها: الشرك والضلالة والنفاق والبلاء وعذاب الناس والحرق بالنار والصد والاستنزال والمعذرة والافتتان والإعجاب والقتل، وقد ورد في القرآن دليل لكل وجه (1) .
قال ابن القيم: ولفظ الفتنة في كتاب الله تعالى يراد بها: الامتحان الذي لم يفتتن صاحبه، بل خلص من الافتتان. ويراد بها: الامتحان الذي حصل معه افتتان. فمن الأول قوله تعالى لموسى: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (2) . ومن الثاني: قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (3) ، وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (4) . ويطلق على ما يتناول الأمرين كقوله تعالى: {الم} (5) {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (6) {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (7) .
__________
(1) المفردات للراغب الأصبهاني: 371.
(2) سورة طه الآية 40
(3) سورة البقرة الآية 193
(4) سورة التوبة الآية 49
(5) سورة العنكبوت الآية 1
(6) سورة العنكبوت الآية 2
(7) سورة العنكبوت الآية 3(45/262)
ويطلق على أعم من ذلك كقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (1) ، قال مقاتل: أي بلاء وشغل عن الآخرة (2) .
والفتنة بحسب إضافتها، فيقال: فتنة المال، وفتنة الأولاد. وقد تطلق على أشياء خاصة كالنفاق والكفر والصد، حيث إن أصل الفتنة الاعتبار، ثم استعملت فيما أخرجته المحنة والاختبار إلى المكروه، ثم أطلقت على كل مكروه أو آيل إليه كالكفر والإثم والتحريق والفضيحة والفجور وغير ذلك (3) .
لذا فهي بحسب ما يضاف إليها؛ لأن كل شيء فتنة فيقال: فتنة الحياة، وفتنة الموت، وفتنة الشرك، وفتنة الغفلة والابتلاء. والفتنة من أقدار الله عز وجل التي لا بد من الإيمان بها (4) . وأعظم فتنة هي الكفر كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} (5) ، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس قد ضيعوا وأنت ابن عمر
__________
(1) سورة التغابن الآية 15
(2) إغاثة اللهفان 2 \ 159.
(3) فتح الباري: 13 \ 3.
(4) انظر المفردات للراغب: 371 وانظر فتح الباري: 13 \ 3.
(5) سورة البقرة الآية 193(45/263)
وصاحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي. فقالا: ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (1) ؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.
__________
(1) سورة البقرة الآية 193(45/264)
المبحث الأول: كونها سنة
قد أشار الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، إلى أن الابتلاء سنة كونية من سننه في هذا الخلق، فقال سبحانه: {الم} (1) {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (2) {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (3) . فلا بد من الابتلاء بما يؤذي الناس فلا خلاص لأحد منه. والابتلاء يكون بالسراء والضرار لقوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (4) . فلا بد للمؤمن من الصبر والشكر ولا بد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أم كفرت لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة (5) . أما الكافر فقد تنقطع عنه الفتنة في الدنيا ولكنه يصير إلى الألم في الآخرة، كما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثل المؤمن
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 1
(2) سورة العنكبوت الآية 2
(3) سورة العنكبوت الآية 3
(4) سورة الأنبياء الآية 35
(5) الفوائد لابن القيم: 201- 204. وانظر إغاثة اللهفان: 2 \ 193.(45/264)
كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها فإذا سكنت اعتدلت وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء ومثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء (2) » . والله سبحانه حذر من الدنيا وفتنتها؛ ليحذرها المؤمن العارف بربه، قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (3) . فالجميع مبتلى فيها، فمن لم يؤمن فإنه يمتحن في الآخرة بالعذاب ويفتن به، وهي أعظم المحنتين، هذا إن سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها، أو عقوباتها التي أوقعها الله بمن لم يتبع رسله وعصاهم، فلا بد من المحنة في هذه الدار، وفي البرزخ لكل أحد، لكن المؤمن أخف محنة وأسهل بلية، فإن الله يدفع عنه بالإيمان (4) ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (5) . ولكن البلاء يشتد عليه بحسب إيمانه؛ ليعلم صدقه من كذبه، فإن صبر وأجاب داعي الله فإن له عند الله الفوز والنعيم. وقد سئل الشافعي رحمه الله: أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى فقال: لا يمكن حتى يبتلى فإن الله ابتلى
__________
(1) البخاري: 8 \ 191: كتاب التوحيد باب في المشيئة والإرادة واللفظ له صحيح مسلم: 4 \ 2163: كتاب صفات المنافقين باب مثل المؤمن باب (14) كما أخرجه الإمام أحمد والدارمي.
(2) الأرز: ضرب من البر وقيل شجر الصنوبر. اللسان: مادة أرز: 5 \ 306. (1)
(3) سورة العنكبوت الآية 64
(4) إغاثة اللهفان: 2 \ 192.
(5) سورة الحج الآية 38(45/265)
نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا - صلى الله وسلم عليه وعليهم أجمعين -، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة (1) . وقد أجمل الله عز وجل الابتلاء، وأنه لا بد منه بقوله سبحانه: {الم} (2) {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (3) {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (4) . ثم فصل سبحانه بعض الذين ابتلوا من قبلنا، وقد ابتلي نبينا - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون من الصحابة ومن كان قبلهم والكفار مما يدل على استمرار الفتنة والابتلاء.
__________
(1) الفوائد: 203.
(2) سورة العنكبوت الآية 1
(3) سورة العنكبوت الآية 2
(4) سورة العنكبوت الآية 3(45/266)
فمن سنية الابتلاء أن الله ابتلى أفضل خلقه وهم رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهم أفضل الدعاة إلى توحيده سبحانه، فابتلاهم بالمرسل إليهم حين يدعونهم إلى الحق والصبر على أذاهم، وتحمل المشاق في تبليغ رسالات ربهم (1) . فهذا محمد - صلى الله عليه وسلم - بين الله عز وجل في هذه السورة أنه ابتلي بقوم جحدوا آيات الله مع علمهم بها، قال تعالى عنهم: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (2) كما اتهم بالسحر والتعلم من الكهنة، حتى أخرج هذا الكتاب، فالله عز وجل نفى عنه هذه التهمة بقوله سبحانه: {وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (3) . والواقف على
__________
(1) إغاثة اللهفان 2 \ 161.
(2) سورة العنكبوت الآية 50
(3) سورة العنكبوت الآية 48(45/266)
سيرته - صلى الله عليه وسلم - يرى ما حصل له من فتنة وبلاء أشد من هذا، كالحصار في الشعب، ووفاة عمه أبي طالب، وزوجه خديجة وغير ذلك، ولكنه كان صابرا محتسبا، كما ابتلي نبي الله نوح بكفر قومه واستهزائهم به مع طول لبثه فيهم، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (1) فهذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: ابتلي النبيون قبلك بالكفار فصبروا (2) ، كما ابتلي نوح بابنه وفلذة كبده، حيث كان ممن أعرض عن دعوته، كما هو مذكور في سورة هود. كما ابتلي بزوجته حيث خانته، كما في سورة التحريم، وكذلك ابتلي نبي الله إبراهيم عليه السلام بقومه الذين لم يقبلوا دعوته، وحاولوا الانتقام منه ولكن الله أنجاه فقال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) . ومما ابتلي به كذلك إعراض أبيه عن الاستجابة لدعوة التوحيد.
ونبي الله لوط ابتلي بقوم لا يعبأون بأمر الله مستهزئون به وبدعوته، حيث أتوا أمرا عظيما لم يسبقهم إليه أحد، قال تعالى عنهم: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (4) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 14
(2) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 13 \ 332، وانظر زاد السير لابن الجوزي 6 \ 261.
(3) سورة العنكبوت الآية 24
(4) سورة العنكبوت الآية 29(45/267)
ومما نزل عليه من البلاء أنه كان يخاف على ضيوفه من أذى قومه وشرهم قال تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} (1) ، فمن عظيم ما مر عليه من البلاء أن زوجته وأقرب الناس إليه لم تستجب لنداء الله.
كما ابتلى الله شعيبا حيث لم يستجب له قومه قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (2) {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (3) .
كما ابتلي نبي الله موسى بأنواع البلايا، منها: تجرؤ فرعون وقارون وهامان وتسلطهم على عباد الله، حتى وصل الحد بفرعون إلى أن ادعى الربوبية، قال تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} (4) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 33
(2) سورة العنكبوت الآية 36
(3) سورة العنكبوت الآية 37
(4) سورة العنكبوت الآية 39(45/268)
وكما حصل للرسل من بلاء ومحنة امتحن الله المرسل إليهم بهم، هل يطيعونهم وينصرونهم ويصدقونهم؟ أم يكفرون بهم ويردون عليهم ويقاتلونهم؟ فأقوام الرسل الذين لم يستجيبوا لدعوتهم أصيبوا بأعظم(45/268)
بلية وأعظم فتنة وهي الكفر الذي تدوم محنته، وقد قال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (1) .
قال ابن كثير رحمه الله: (أي لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإيمان أنهم يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان، فإن وراءهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأعظم) (2) . وكما ابتلي الأنبياء وأقوامهم الذين لم يستجيبوا لهم كذلك ابتلي أتباع الأنبياء، فقد ورد عن خباب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون (3) » . كما أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاقوا من الابتلاء والمحن ما الله به عليم، حتى أن أول سورة العنكبوت نزل بهم، وهو قوله تعالى:
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 4
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 3 \ 645.
(3) صحيح البخاري: 8 \ 56 كتاب الإكراه - باب من اختار الضرب والقتل والهون على الكفر، واللفظ له سنن أبي داود: 3 \ 108: كتاب الجهاد - باب في الأسير يكره على الكفر: 107: مسند أحمد 5 \ 109- 111.(45/269)
{الم} (1) {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (2) . قال ابن عباس وغيره: يريد بالناس قوما من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام، كسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وعمار بن ياسر، وأبيه وسمية أمه، وعدة من بني مخزوم وغيرهم (3) . كما فتن بعض الصحابة بأحبابه وذويه، مثل سعد بن أبي وقاص حيث نزل بسببه قوله سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (4) . فعن مصعب بن سعد عن أبيه أنه نزلت فيه آيات من القرآن قال: «حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، قال: مكثت ثلاثا حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له عمارة، فسقاها فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (5) وفيها: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (6) » الحديث. قال الواحدي: قال
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 1
(2) سورة العنكبوت الآية 2
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 13 \ 323.
(4) سورة العنكبوت الآية 8
(5) سورة لقمان الآية 15
(6) سورة لقمان الآية 15(45/270)
المفسرون: نزلت في سعد بن أبي وقاص، وذاك أنه لما أسلم قالت له أمه حمنة: يا سعد بلغني أنك صبوت، فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح (1) والريح ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد، وترجع إلى ما كنت عليه، فأبى سعد، وصبرت هي ثلاثة أيام ولم تأكل ولم تشرب ولم تستظل بظل حتى غشي عليها، فأتى سعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وشكا ذلك إليه؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية والتي في سورتي لقمان والأحقاف (2) .
__________
(1) الضح: الشمس وقيل ضوؤها وقيل ضوؤها إذا استمكن من الأرض) لسان العرب 2 \ 524.
(2) أسباب النزول للواحدي: 394.(45/271)
وقد ابتلي صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما حصل لهم من فراق الأهل والوطن والمال، حينما أمروا بالهجرة. قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (1) . ومن سنة الابتلاء والفتنة استمراره في هذه الدنيا، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، ففي سورة العنكبوت دلالة واضحة على استمراره إلى يوم المعاد. قال تعالى: {الم} (2) {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (3) {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (4) . قال ابن عطية.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 56
(2) سورة العنكبوت الآية 1
(3) سورة العنكبوت الآية 2
(4) سورة العنكبوت الآية 3(45/271)
وهذه الآية نزلت بهذا السبب أو ما في معناه من الأقوال فهي باقية في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله تعالى باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك، وإذا اعتبر أيضا كل موضع ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن (1) . وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} (2) .
فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (3) . ومما يدل على استمرار الابتلاء من الله للناس أمره لهم بأن يتعظوا بما حصل لمن قبلهم كما في قوله تعالى عن سفينة نوح: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (4) ، وقوله تعالى في قصة إبراهيم: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (5) ، كذلك قوله تعالى في قصة لوط: {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (6) .
__________
(1) أحكام القرآن للقرطبي: 13 \ 324.
(2) سورة العنكبوت الآية 10
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 15 \ 364، 16 \ 148، الإتقان في علوم القرآن 1 \ 85.
(4) سورة العنكبوت الآية 15
(5) سورة العنكبوت الآية 24
(6) سورة العنكبوت الآية 35(45/272)
وكذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (1) . ففي هذه الآيات إشارة إلى استمرار البلاء والفتنة، وأن الإنسان لا بد أن يبتلى ويمتحن، فإن كان من العارفين بالله وصبر وثبت على إيمانه فإنه سيحصل له من الفوز والفلاح ما حصل للمؤمنين قبله، الذين قص الله علينا قصصهم، وإن أعرض ولم يتعظ ولم يعتبر كما أمر فنهايته للهلاك والفتنة العظيمة التي لا فتنة بعدها، وهي عذاب الله كما قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} (2) {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} (3) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 43
(2) سورة الذاريات الآية 13
(3) سورة الذاريات الآية 14(45/273)
وقد نبه - صلى الله عليه وسلم - على فتن عامة تكون في آخر الزمان في أحاديث كثيرة؛ لذلك بوب غالب العلماء في كتبهم بابا خاصا بها سموه (أبواب الفتن) وذلك كالبخاري ومسلم والترمذي وأبي داود وغيرهم، ساقوا فيها ما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما يقع من الفتن. والإنسان يشاهد الفتن دائما لا تنقطع عنه، ولكنها تختلف حسب شدتها وضعفها فمثلا الأمراض والمجاعات والجوائح وفقد الأحبة حتى الشوكة يشاكها المسلم، فقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها (1) » .
__________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه: 7 \ 3 المرضى: باب أشد الناس بلاء الأنبياء واللفظ له. صحيح مسلم: 4 \ 1991 - البر باب ثواب المؤمن.(45/273)
كل ما اتصل بالإنسان من أهله وولده ووالديه وأصحابه وعشيرته ومن يتعامل معهم كل هؤلاء، فهل يقوم بواجبه نحوهم من جلب خير أو دفع شر؟ وهل يكف يده عن حقهم وبصره عما متعوا به ويسأل الله من فضله، (1) ويكف لسانه عن غيبتهم وبهتهم؟ فقد ورد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: «خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل الحسن والحسين - رضي الله عنهما - عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما فصعد بهما المنبر ثم قال: صدق الله رأيت هذين فلم أصبر ثم أخذ في الخطبة (3) » . وقد ورد عن حذيفة قال: (كنا جلوسا عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الفتنة؟ قلت: أنا كما قاله، قال: إنك عليه أو عليها لجريء، قلت: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصوم والصدقة والأمر والنهي، قال: ليس هذا أريد، ولكن الفتنة التي تموج كموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال: أيكسر أم يفتح؟ قال: يكسر، قال: إذا لا يغلق أبدا، قلنا:
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان: 2 \ 160.
(2) سنن أبي داود: 1 \ 663 كتاب الصلاة باب الإمام يقطع الخطبة لأمر يحدث واللفظ له، سنن النسائي: 3 \ 108 كتاب الجمعة باب نزول الإمام عن المنبر 3 \ 193 كتاب العيدين باب نزول الإمام، مسند أحمد: 5 \ 354، مستدرك الحاكم: 4 \ 189- 190 كتاب اللباس وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
(3) سورة التغابن الآية 15 (2) {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}(45/274)
أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما أن دون الغد الليلة، إني حدثته بحديث ليس بالأغاليط. فهبنا أن نسأل حذيفة، فأمرنا مسروق فسأله فقال: الباب عمر) . ففي هذا الحديث عمر لم ينكر على حذيفة وقوع الفتن الصغيرة، وحذيفة أجابه إلى سؤاله بالنسبة للفتن الكبيرة.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فإنه ليس منكم أحد إلا وهو مشتمل على فتنة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (1) . فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن) .
والله عز وجل يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} (2) . وهذا عام في جميع الخلق
__________
(1) سورة الأنفال الآية 28
(2) سورة الفرقان الآية 20(45/275)
امتحن بعضهم ببعض، كما تقدم امتحان الرسل بأقوامهم وبالعكس، كما امتحن العلماء بالجهال، هل يعلمونهم وينصحونهم ويصبرون على ذلك، وبالعكس هل يطيع الجهال العلماء ويهتدون بهم؟ وامتحن الملوك بالرعية وبالعكس، كما امتحن الفقراء بالأغنياء وبالعكس، وكما امتحن الأقوياء بالضعفاء، والسادة بالأتباع، والمالك بمملوكه، والرجل بامرأته، والرجال بالنساء، والمؤمنين بالكفار، والآمرون بالمعروف بمن يأمرونهم وعلى العكس من هؤلاء جميعا فإنهم فتنوا بأضدادهم (1) فمن صبر على الفتنة كانت رحمة في حقه، ونجا بصبره من فتنة أعظم منها، وإن لم يصبر وقع في فتنة أشد منها (2) .
__________
(1) إغاثة اللهفان: 2 \ 161.
(2) إغاثة اللهفان: 2 \ 162.(45/276)
المبحث الثاني
الحكمة من الفتنة والابتلاء
وما دام أن الله سبحانه جعل الابتلاء سنة في هذا الكون على جميع الخلق برهم وفاجرهم، فأفعاله كلها حكمة، فلا تكون إلا عن علم وحكمة، منها ما نعرفه ومنها ما تقصر عقولنا وأفعالنا وأفهامنا عنه، وحسبنا أن نقول: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (1) . والابتلاء والفتن من أفعال
__________
(1) سورة البقرة الآية 285(45/276)
الله عز وجل وتقديراته التي كلها حكمة ورحمة بخلاف ما إذا كانت من العبد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وليست البلايا والمصائب تأتي من طاعة الله ورسوله، كما يظن بعض الجهال، فإن هذه جزاء أصحابها خير الدنيا والآخرة. ولكن قد تصيب المؤمنين بالله ورسوله مصائب بسبب ذنوبهم لا بما أطاعوا فيه الله ورسوله، كما لحقهم يوم أحد بسبب ذنوبهم لا بسبب طاعتهم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك ما ابتلوا به من السراء والضراء والزلزال، ليس هو بسبب نفس إيمانهم وطاعتهم، لكن امتحنوا به ليتخلصوا مما فيهم من الشر، وفتنوا به كما يفتن الذهب بالنار ليتميز خبيثه من طيبه، والنفوس فيها شر، والامتحان يمحص المؤمن من ذلك الشر الذي في نفسه (1) ؛ لذلك كان من حكمة الابتلاء التمحيص، وهو كما قال الراغب: أصل المحص تخليص الشيء مما فيه عيب، قال تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (2) ، وقال سبحانه: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (3) .
__________
(1) انظر الحسنة والسيئة لابن تيمية ص 44.
(2) سورة آل عمران الآية 141
(3) سورة آل عمران الآية 154(45/277)
فالتمحيص هنا كالتزكية والتطهير ونحو ذلك من الألفاظ، ويقال في الدعاء: اللهم محص عنا ذنوبنا، أي: أنزل ما علق بنا من الذنوب (1) . فالمؤمن يمحص حتى يصدق ويبتلى ويختبر حتى يخلص بالبلاء الذي نزل به وكيف صبره ويقينه (2) . والله يمحص المؤمنين بما يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به (3) . فهو تنقية لهم من الذنوب وآفات النفوس، كما أنه تخليص لهم من المنافقين، وتمييزهم عنهم، فيحصل لهم تمحيصان: تمحيص من نفوسهم وتمحيص ممن كان يظهر أنه من المسلمين (4) . وهذا ما سأوضحه في حكمة (التمييز بين المؤمنين والكفار) فالتمحيص للمؤمنين يكون:
1 - بتكفير السيئات.
__________
(1) المفردات للراغب: 464.
(2) جامع البيان عن تأويل القرآن: 4 \ 107.
(3) انظر تفسير القرآن العظيم: 1 \ 612.
(4) زاد المعاد 3 \ 223.(45/278)
2 - أو برفعة الدرجات.
3 - أو بالتعويض من الله.
أولا: تكفير السيئات: قد أخبر الله سبحانه أنه يريد تمحيص المؤمنين أي تخليصهم من ذنوبهم بالتوبة والرجوع إليه واستغفاره من الذنوب التي أديل بها عليهم العدو (1) . وقد بين الله سبحانه وتعالى تكفيره لسيئات المؤمنين في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) . وقد بين الله سبحانه أن لا بد للمؤمن من الابتلاء كما تقدم.
قال ابن القيم: إن ابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو أنقصت ثوابه وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر وعلو المنزلة، ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه (3) . كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له (4) » . فهذا الخير العظيم ليس إلا للمؤمن؛ لأنه هو الذي يشكر
__________
(1) إغاثة اللهفان: 2 \ 191.
(2) سورة العنكبوت الآية 7
(3) إغاثة اللهفان 2 \ 88.
(4) صحيح مسلم: 4 \ 2295 كتاب الزهد باب المؤمن أمره كله خير 13 واللفظ له، مسند أحمد: 4 \ 332- 333 \ 6 \ 15- 16، مجمع الزوائد للهيثمي 7 \ 209، وقال: رواه أحمد بأسانيد، ورجالها كلها رجال الصحيح السنن الكبرى للبيهقي: 3 \ 376.(45/279)
ويصبر فبذلك تكفر سيئاته كما بين ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة منها: ما روته عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها (1) » وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما يصيب المسلم من نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها عن خطاياه (2) » . وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل من الناس يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه وما يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة (3) » .
فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن المصائب والفتن التي تصيب المؤمن أنها من الله، حيث لا يقع في الكون كائن بغير مشيئته الحكمية،
__________
(1) البخاري: 7 \ 2 كتاب المرضى باب ما جاء في كفارة المرضى، صحيح مسلم: 4 \ 1992 كتاب البر باب ثواب المؤمن فيما يصيبه كما أخرجه الترمذي ومالك وأحمد.
(2) صحيح البخاري: 7 \ 2 كتاب المرضى باب ما جاء في كفارة المرضى واللفظ له، صحيح مسلم: 4 \ 1992 كتاب البر باب ثواب المؤمن فيما يصيبه.
(3) مسند أحمد: 1 \ 172 بهذا اللفظ: 1 \ 172، 180، 185، سنن الترمذي: 4 \ 601 كتاب الزهد باب 56 وقال: هذا حديث حسن صحيح، سنن ابن ماجه: 2 \ 1334 كتاب الفتن باب الصبر على البلاء: 23 السنن الكبرى للبيهقي: 3 \ 374، المستدرك: 1 \ 41، المنتخب لعبد بن حميد: 1 \ 180 سنن الدارمي: 2 \ 228 باب في أشد الناس بلاء.(45/280)
ومن ذلك أن الله أعد للمؤمن فيها خيرا عظيما، سواء بتكفير السيئات أو برفعة الدرجات إن صبر واحتسب، وإلا فيكون فتنة لغيره لذلك أورد بعض العلماء مسائل على هذه الأحاديث وأمثالها:
أولا: هل التكفير للصغائر أم للصغائر والكبائر؟
ثانيا: هل المصائب تكفر الخطايا فقط أم أنها تكفر الخطايا وترفع الدرجات؟
ثالثا: هل تكفير الخطايا أو رفع الدرجات يحصل بمجرد المصيبة أم لا بد من الصبر عليها؟(45/281)
المسألة الأولى: هل التكفير خاص بالصغائر أم للصغائر والكبائر؟ قال ابن حجر عند إيراده لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيرا يصب منه (1) » وما قبله من الأحاديث السابقة: وفي هذه الأحاديث بشارة عظيمة لكل مؤمن؛ لأن الآدمي لا ينفك غالبا من ألم بسبب مرض أو هم أو نحو ذلك مما ذكر، وأن الأمراض والأوجاع والآلام بدنية كانت أو قلبية تكفر ذنوب من تقع له، وسيأتي في الباب الذي بعده من حديث ابن مسعود: «ما من مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه (2) » ، وظاهره تعميم جميع الذنوب لكن الجمهور خصوا
__________
(1) صحيح البخاري: 7 \ 3 كتاب المرضى باب ما جاء في كتاب المرضى (1) ، مسند أحمد: 2 \ 237، الموطأ: 2 \ 941 كتاب العين باب ما جاء في أجر المريض.
(2) جزء من حديث في صحيح البخاري: 7 \ 3 كتاب المرضى باب ما شدة المرض واللفظ له، صحيح مسلم 4 \ 1991 كتاب البر، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه (14) مسند أحمد: 4 \ 70 بمعناه.(45/281)
ذلك بالصغائر، للحديث «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر (1) » . فحملوا المطلقات الواردة في التكفير على هذا المقيد، ويحتمل أن يكون معنى الأحاديث التي ظاهرها التعميم أن المذكورات صالحة لتكفير الذنوب فيكفر الله بها ما شاء من الذنوب ويكون كثرة التكفير وقلته باعتبار شدة البلاء وخفته (2) .
والذي يظهر أن المصائب مكفرات للصغائر والكبائر لعموم الأحاديث المتقدمة، وأما هذا الحديث فهو خاص بالأعمال المذكورة ولا وجه لدخول عموم التكفير بالنسبة للمصائب بهذا إلا بدليل؛ لذلك قال بعض العلماء إن المصائب مع تكفيرها السيئات ترفع الدرجات.
__________
(1) صحيح مسلم: 1 \ 209 كتاب الطهارة باب الصلوات الخمس. . (5) واللفظ سنن الترمذي: 1 \ 418 كتاب الصلاة باب ما جاء في فضل الصلوات الخمس (160) سنن ابن ماجه: 1 \ 196 كتاب الطهارة باب تحت كل شعرة جنابة، مسند أحمد: 2 \ 359، 400، 414، 484.
(2) فتح الباري: 10 \ 108.(45/282)
المسألة الثانية: هل المصائب مكفرات أو مثيبات؟
قال النووي رحمه الله تعالى بعد سياقه للأحاديث المتقدمة: وفي(45/282)
هذه الأحاديث بشارة عظيمة للمسلمين فإنه قلما ينفك الواحد منهم ساعة من شيء من هذه الأمور وفيه تكفير الخطايا بالأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلت مشقتها وفيه رفع الدرجات بهذه الأمور وزيادة الحسنات وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء وحكى القاضي عياض عن بعضهم أنها تكفر الخطايا فقط ولا ترفع درجة وتكتب حسنة قال: وروي نحوه عن ابن مسعود، وقال أيضا: والوجع لا يكتب به أجر لكن تكفر به الخطايا فقط. واعتمد على الأحاديث التي فيها تكفير الخطايا ولم تبلغه الأحاديث التي ذكرها مسلم المصرحة برفع الدرجات وكتب الحسنات (1) .
وقال المنبجي رحمه الله. احتجت طائفة من العلماء إلى أنه يثاب على كل مصيبة بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (2) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي: 16 \ 128.
(2) سورة التوبة الآية 120(45/283)
ثم ساق حديث أبي سعيد المتقدم وقال: وروى الحاكم في المستدرك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المصاب من حرم الثواب (1) » . وفي صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من الناس من مسلم يتوفى له ثلاث لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم (2) » ثم ساق كلام النووي المتقدم وقال: ويؤيد ذلك قول عائشة - رضي الله عنها -: «ما رأيت رجلا أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) » ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إني لأوعك مثل رجلين منكم (4) » «وإنك لتوعك وعكا شديدا (5) » . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل (6) » . قال جماعة من العلماء: والحكمة
__________
(1) ذكره المنبجي ولم أجده في المستدرك.
(2) صحيح البخاري: 2 \ 72 كتاب الجنائز باب فضل من مات له ولد (6) واللفظ له وبنحوه في صحيح مسلم: 4 \ 2028، كتاب البر باب فضل من يموت له ولد (47) سنن الترمذي: 3 \ 364، كتاب الجنائز باب ما جاء في ثواب من قدم ولدا.
(3) مسند أحمد: 6 \ 173، سنن الترمذي: 4 \ 601. كتاب الزهد باب ما جاء في الصبر (56) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(4) جزء من الحديث الذي قبله.
(5) جزء من الحديث الذي قبله.
(6) جزء من حيث تقدم تخريجه.(45/284)
في كون الأنبياء أشد بلاء ثم الأمثل فالأمثل، أنهم مخصوصون بكمال الصبر وصحة الاحتساب، والأنبياء معصومون من الخطايا، ولهم الثواب والله أعلم.
وفي حديث المرأة التي كانت تصرع. دليل على أن الصرع يثاب عليه أكمل ثواب وفي صحيح مسلم قالت امرأة: «يا رسول الله دفنت ثلاثة قال: دفنت ثلاثة؟ قالت: نعم، قال: لقد احتظرت بحظار شديد من النار (1) » .
قال بعض السلف: فقد الثواب على المصيبة أعظم من المصيبة فإنه قد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المصاب من حرم الثواب (2) » . واحتجت الطائفة الأخرى من العلماء ممن أطلق القول بأن المصائب لا يثاب عليها وإنما يثاب على الصبر عليها بقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (3) .
__________
(1) صحيح مسلم: 4 \ 2030 كتاب البر باب فضل من يموت له ولد (47) مسند أحمد: 2 \ 419.
(2) تقدم تخريجه.
(3) سورة الزمر الآية 10(45/285)
قال ابن عبد السلام. في (قواعده) : الثواب إنما يكون على فعل العبد لا على فعل الله فيه قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (1) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (2) ، فما حصل لهم من صلاة الله عليهم ورحمته لهم وهدايته إياهم بقولهم: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (3) فالاسترجاع هو سبب في حصول ما ذكر (4) . وكذلك حديث الضحاك بن عبد الرحمن بن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله عز وجل لملك الموت يا ملك الموت قبضت ولد عبدي قبضت قرة عينيه وثمرة فؤاده، قال: نعم قال: فما قال: قال حمدك واسترجع قال: ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد (5) » . فحمده واسترجاعه هو سبب بناء البيت له في الجنة وتسمية البيت كافية (6) ، وقد تقدم نقل القاضي عياض (7) رحمه الله ولشيخ الإسلام
__________
(1) سورة البقرة الآية 156
(2) سورة البقرة الآية 157
(3) سورة البقرة الآية 156
(4) انظر قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1 \ 126.
(5) مسند أحمد: 4 \ 415، سنن الترمذي: 3 \ 332 كتاب الجنائز باب فضل المصيبة إذا احتسب (36) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(6) تسلية أهل المصائب: 222.
(7) تقدم ترجمته.(45/286)
ابن تيمية تفصيل في المسألة، فبعد أن ذكر ما أصيب به الرسول والمؤمنون من المصائب بسبب اختيارهم طاعة الله فقال: (وإن كان صاحب المصائب يثاب على صبره ورضاه، وتكفر عنه الذنوب بمصائبه، فإن هذا (1) أصيب وأوذي باختياره طاعة الله، يثاب على نفس المصائب، ويكتب له بها عمل صالح قال تعالى: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (2) . بخلاف المصائب التي تجري بلا اختيار العبد، كالمرض وموت العزيز عليه، وأخذ اللصوص ماله، فإن تلك إنما يثاب على الصبر عليها، لا على نفس ما يحدث من المصيبة، وما يتولد عنها، والذين يؤذون على الإيمان وطاعة الله ورسوله، ويحدث لهم بسبب ذلك حرج أو مرض أو حبس أو فراق وطن وذهاب مال وأهل أو ضرب أو شتم أو نقص رياسة ومال، وهم في ذلك على طريقة الأنبياء وأتباعهم المهاجرين الأولين، فهؤلاء يثابون على ما يؤذون به ويكتب لهم به عمل صالح، كما يثاب المجاهد على ما يصيبه من الجوع والعطش والتعب وعلى غيظة الكفار، وإن
__________
(1) هذا إشارة إلى ذكر متقدم وهو المؤمن الذي اختار الأذى بسبب طاعته لله وهو صاحب المصائب.
(2) سورة التوبة الآية 120(45/287)
كانت هذه الآثار ليست عملا فعله ويقوم به، لكنها متسببة عن فعله الاختياري وهي التي يقال لها متولدة (1) ا. هـ.
فتبين من كلام شيخ الإسلام أن المصائب مكفرات ومثيبات وإن كانت بسبب طاعة الله فإنه يثاب عليها وعلى ما يتولد منها، وهذا ما دلت عليه النصوص، فقد تقدم جملة من الأدلة على تكفير السيئات.
أما الأدلة العامة على رفع الدرجات فمنها: عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه خطيئة (2) » . وفي لفظ: «ما من شيء يصيب المؤمن حتى الشوكة تصيبه إلا كتب الله له حسنة أو حطت عنه بها خطيئة (3) » . وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط (4) » . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من يرد الله به خيرا يصب منه (5) » . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول الله تعالى: ما
__________
(1) أمراض القلوب وشفاؤها: 20.
(2) صحيح مسلم: 3 \ 1991 كتاب البر ثواب المؤمن فيما يصيبه (14) واللفظ له.
(3) صحيح مسلم: 4 \ 1992 كتاب البر ثواب المؤمن فيما يصيبه (14) .
(4) سنن الترمذي: 4 \ 601 كتاب الزهد باب ما جاء في الصبر على البلاء: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، سنن ابن ماجه: 2 \ 1338 كتاب الفتن باب الصبر على البلاء (23) وحسنه الألباني في صحيح الجامع: 1 \ 216، وسلسلة الأحاديث الصحيحة: 1 \ 227 رقم 146.
(5) تقدم.(45/288)
لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة (1) » . ومع هذا الأجر العظيم الذي دلت عليه الأحاديث فإنها تدل كذلك على التعويض من الله، سواء في الدنيا أو الآخرة، لدلالة الأحاديث المتقدمة والآيات الواردة في ذلك منها قوله سبحانه: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) . وقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) . فهذه الآية كما تقدم في تكفير السيئات أن المؤمن لا بد له من ابتلاء حتى عمله ابتلاء من الله هل يصبر ويعمله باحتساب أم لا، فإن كان عمله أشغله عن لذة من لذات الدنيا فإن العوض من الله خير، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله قال إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة (4) » يريد عينيه. والمتتبع لسير المرسلين وأتباعهم، وما أصيبوا به من أذى، يرى أن العاقبة كانت لهم، سواء في العاجل أو الآجل.
فهذا إبراهيم - عليه السلام - لما صبر على بلاء قومه عوضه الله بذرية
__________
(1) صحيح البخاري: 7 \ 172 كتاب الرقاق باب العمل الذي يبتغي به وجه الله تعالى، مسند أحمد: 2 \ 417.
(2) سورة العنكبوت الآية 5
(3) سورة العنكبوت الآية 7
(4) صحيح البخاري: 7 \ 4 كتاب المرضى باب فضل من ذهب بصره واللفظ له، مسند أحمد: 3 \ 144 سنن الترمذي: 4 \ 603 كتاب الزهد باب ما جاء في ذهاب البصر 7 \ 457.(45/289)
بارة مطيعة كما قال سبحانه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (1) . ولما ترك المهاجرون ديارهم لله وأوطانهم التي هي أحب شيء إليهم حيث أمرهم الله قال: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (2) . أعاضهم الله أن فتح عليهم الدنيا، وملكهم شرق الأرض وغربها، فمن اتقى الله عز وجل وترك الشيء له لأجله سبحانه، عوضه الله خيرا عظيما، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما ترك عبد شيئا لله لا يتركه إلا له عوضه الله منه ما هو خير له منه في دينه ودنياه (3) » . ويقول سبحانه وتعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (4) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (5) . وكما ترك يوسف الصديق امرأة العزيز لله، واختار السجن على الفاحشة، عوضه الله أن مكنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.
وقد بين الله سبحانه وتعالى أن المجاهد في الله يهديه الله سبله
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 27
(2) سورة العنكبوت الآية 56
(3) كشف الخفا: 2 \ 239- 312 الرقم 2119- 2428 واللفظ له مسند أحمد: 5 \ 78.
(4) سورة الطلاق الآية 2
(5) سورة الطلاق الآية 3(45/290)
ومعلوم أن المجاهد لله لا بد أن يترك كثيرا من الملذات والشهوات ويقبل على الله فعوضه الله أن هداه سبيله وكان معه خاصة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) . وقد عزى الله المؤمنين حين اختاروا الألم المنقطع على الألم العظيم المستمر بقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) . فضرب لمدة هذا الألم لا بد أن يأتي وهو يوم لقائه، فيلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمل من الألم من أجله وفي مرضاته، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمل من الألم في الله ولله، وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه؛ ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحمل مشقة الألم العاجل، كما عزاهم تعالى بعزاء آخر وهو أن جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم، وثمرته عائدة عليهم، وأنه غني عن العالمين. .، ثم أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين (3) كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} (4) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2) سورة العنكبوت الآية 5
(3) زاد المعاد: 3 \ 16.
(4) سورة العنكبوت الآية 9(45/291)
ثالثا: هل التكفير حاصل بمجرد المصيبة أم لا بد من الصبر؟(45/291)
الناس بالنسبة لأقدار الله أربعة أقسام:
الأول: من يرضى عن ربه فيها لمزيد من حبه والشوق إليه، وهذا نشأ من مشاهدتهم للطف الله فيهم، وبره وإحسانه العاجل والآجل.
الثاني: من يشكر الله عز وجل على المصائب كما يشكر على النعم. وهذا فوق الرضا، إلا أنه غالبا ما يكون على النعم، فهو في فتنة السراء أظهر.
الثالث: من يصبر على أقدار الله، وهم المقصودون، ولا يتحقق الرضا والشكر إلا بالصبر.
الرابع: الجزع والتسخط والتشكي، واستبطاء الفرج، واليأس من الروح، والجزع الذي يفوت الأجر (1) .
وعلى هذا التقسيم فلا بد للمصاب أن يكون من الصابرين فما فوق، أم من الساخطين، وقد ذكر ابن حجر أن الأجر حاصل بمجرد المصيبة، فقال عند سياقه للحديث الأول - حديث عائشة السابق ذكره: (وفي هذا الحديث تعقب على الشيخ عز الدين بن عبد السلام (2) حيث قال: ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور إنما هو على الكسب، وهو خطأ صريح؛ فإن الثواب والعقاب إنما هو على الكسب، والمصائب ليست منها، بل الأجر على الصبر والرضا) (3) .
__________
(1) انظر طريق الهجرتين: 218.
(2) تقدمت ترجمته في ص: 286.
(3) قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 1 \ 127.(45/292)
ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد حصول المصيبة، وأما الصبر والرضا فقدر زائد يمكن أن يثاب عليهما زيادة على ثواب المصيبة، قال القرافي: المصائب كفارات جزما، سواء اقترن بها الرضا أم لا، لكن إن اقترن بها الرضا عظم التكفير وإلا قل، كذا قال: والتحقيق أن المصيبة كفارة لذنب يوازيها، وبالرضا يؤجر على ذلك، فإن لم يكن للمصاب ذنب عوض عن ذلك من الثواب بما يوازيه (1) ا. هـ.
والذي يظهر لي بعد هذا النقل أن الأجر لا يحصل إلا مع الصبر، لا بد للإنسان أن يصبر أو يسخط، ولا أعرف مرتبة بينهما، إلا أن الصبر إما أن يكون لله ومع الله فإنه يؤجر على ذلك؛ للآيات والأحاديث التي تحث على الصبر وتأمر به، وإما أن يكون لغير ذلك من غاياته في الدنيا، أو يجبر على الصبر كصبر البهائهم، ويسلي نفسه كصبر الكفار، فإن هذا لا أجر له.
قال ابن القيم بعد أن تكلم على الصبر فقال: المراتب أربعة:
أحدها: مرتبة الكمال، وهي مرتبة أولي العزائم، وهي الصبر لله وبالله، فيكون في صبره مبتغيا وجه الله، صابرا به، متبرئا من حوله
__________
(1) فتح الباري: 10 \ 105، وانظر 109.(45/293)
وقوته، فهذا أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها.
الثانية: أن لا يكون فيه لا هذا ولا هذا، فهو أخس المراتب، وأردأ الخلق، وهو جدير بكل خذلان وبكل حرمان.
الثالثة: مرتبة من فيه صبر بالله، وهو مستعين متوكل على حوله وقوته، متبرئ من حوله هو وقوته، ولكن صبره ليس لله؛ إذ ليس صبره فيما هو مراد الله الديني منه، فهذا ينال مطلوبه ويظفر به، ولكن لا عاقبة له، وربما كانت عاقبته شر العواقب.
الرابعة: من فيه صبر لله لكنه ضعيف النصيب من الصبر به، والتوكل عليه، والثقة به والاعتماد عليه، فهذا له عاقبة حميدة، ولكنه ضعيف عاجز (1) .
وإن حصل مع الصبر على المصائب رضى وشكر فإنه أعظم للأجر، فالرضى بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته، مما لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره، مستحب وهو من مقامات أهل الإيمان، بخلاف الرضى بالقدر الجاري عليه باختياره، مما يكرهه الله ويسخطه وينهي عنه، كالظلم والفسوق والعصيان، فإن هذا حرام يعاقب عليه، وهو مخالفة لله تعالى (2) . وكذلك الشكر؛ حيث إن الله أمر به وأثنى على أهله ونهى عن ضده، من ذلك قوله تعالى عن إبراهيم في دعوة قومه: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3) .
__________
(1) مدار السالكين 2 \ 177.
(2) انظر مدارج السالكين: 2 \ 202.
(3) سورة العنكبوت الآية 17(45/294)
وقال سبحانه: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (1) . إلا أن الغالب في الشكر أن يكون على السراء وهي من الفتن العامة التي ينبغي للمسلم أن يشكر الله عليها، وليست من المصائب النازلة المقصودة في هذا الموضوع.
فتبين أنه لا أجر بدون الصبر فما فوقه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (المصائب التي تجري بلا اختيار العبد، كالمرض وموت العزيز عليه، وأخذ ماله، فإن تلك إنما يثاب على الصبر عليها، لا على نفس ما يحدث من المصيبة وما يتولد عنها) (2) . وأما إن حصل ضد الصبر وهو الجزع والتسخط والتشكي، فإن هذا لا يؤجر، بل قد يحصل له الإثم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط (3) » . وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «برئ من الصالقة
__________
(1) سورة سبأ الآية 13
(2) أمراض القلوب وشفاؤها: 21.
(3) مسند أحمد: 5 \ 427- 429 سنن الترمذي: 4 \ 601 وقال حديث حسن غريب من هذا الوجه.(45/295)
والحالقة والشاقة (1) » .
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية (2) » .
ومن حكم الابتلاء التمييز بين المؤمنين والكفار كما تقدمت الإشارة إلى ذلك عند التمحيص. فالتمييز: من مزت الشيء أميزه ميزا: عزلته وفرزته، وكذلك ميزته تمييزا فانماز، وامتاز، وتميز، واستماز كله بمعنى، يقال: امتاز القوم إذا تميز بعضهم من بعض، وفلان يكاد يتميز من الغيظ أي ينقطع (3) . هذا معنى التمييز في اللغة، فالمراد هنا تمييز المؤمن من الكافر، وقد ثبت ذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (4) . قال الطبري - رحمه الله تعالى -: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} (5) منهم، في قولهم: آمنا، {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (6) منهم في قولهم ذلك، والله عالم بذلك منهم قبل الاختبار، وفي حال الاختبار، وبعد الاختبار، ولكن معنى ذلك:
__________
(1) صحيح البخاري: 2 \ 83 كتاب الجنائز باب ما ينهى الحلق عند المصيبة (38) صحيح مسلم: 1 \ 100 كتاب الإيمان باب تحريم ضرب الخدود (44) . الصالقة: هي التي ترفع صوتها عند المصيبة. الحالقة: هي التي تحلق شعرها.
(2) صحيح البخاري: 2 \ 83 كتاب الجنائز باب ليس منا من ضرب الخدود (39) صحيح مسلم: 1 \ 99 كتاب الإيمان باب تحريم ضرب الخدود (44) ودعوى الجاهلية: هي النياحة وندبة الميت والدعاء بالويل وشبهه، النووي على مسلم: 2 \ 110.
(3) الصحاح للجوهري: 3 \ 897.
(4) سورة العنكبوت الآية 3
(5) سورة العنكبوت الآية 3
(6) سورة العنكبوت الآية 3(45/296)
وليظهرن الله الصادق منهم في قوله: آمنا بالله، من كذب الكاذب منهم، بابتلائه إياه؛ ليعلم صدقه من كذبه أولياؤه (1) .
والله عز وجل بين في كتابه عن تمام حكمته، وأن حكمته لا تقضي أن كل من قال: أنه مؤمن، وادعى لنفسه الإيمان؛ أن يبقوا في حالة يسلمون فيها من الفتن والمحن، ولا يعرض لهم ما يشوش عليهم إيمانهم وفروعه، فإنهم لو كان الأمر كذلك لم يتميز الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل، ولكن سنته تعالى في الأولين وفي هذه الأمة أن يبتليهم بالسراء والضراء، والعسر واليسر، والمنشط والمكره، والغني والفقر، وإدالة الأعداء عليهم في بعض الأحيان، ومجاهدة الأعداء بالقول والعمل، ونحو ذلك من الفتن التي ترجع كلها إلى فتنة الشبهات المعارضة للعقيدة، والشهوات المعارضة للإرادة.
فمن كان عند ورد الشبهات يثبت إيمانه ولا يتزلزل، ويدفعها بما معه من الحق، وعند ورود الشهوات الموجبة والداعية إلى المعاصي والذنوب، أو الصارفة عن ما أمر الله به ورسوله، يعمل بمقتضى الإيمان، ويجاهد شهوته دل ذلك على صدق إيمانه وصحته، ومن كان عند ورود الشبهات تؤثر في قلبه شكا وريبا، وعند اعتراض الشهوات تصرفه إلى المعاصي أو تصدفه عن الواجبات، دل ذلك على عدم صحة إيمانه وصدقه (2) . فعلى هذا يكون الابتلاء تخليص الخير من الشر وتمييزه
__________
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 20 \ 129.
(2) تيسير الكريم الرحمن: 6 \ 66.(45/297)
سواء في الدنيا الآخرة، كما قال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1) ، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: - صلى الله عليه وسلم -: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه (3) » . وعلى هذا فهل يمكن تمييز الخبيث من الطيب بدون ابتلاء؟ إنه لا بد للتمييز من ابتلاء، فما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وأذاه له في بعض الأحيان أمر لازم لا بد منه، وهو كالحر الشديد والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار، حتى الأطفال والبهائم، لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين، فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر والنفع من الضر واللذة عن الألم لكان عالما غير هذا ونشأة أخرى غير هذه النشأة (4) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 37
(2) صحيح مسلم: 1 \ 128 كتاب الإيمان باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا: 65 واللفظ له، مسند أحمد: 5 \ 386: 405.
(3) المرباد: هو شدة البياض في سواد (أو شبه البياض) والكوز مجخيا أي منكوسا: صحيح مسلم: 1 \ 130. (2)
(4) إغاثة اللهفان: 2 \ 189.(45/298)
إذا لا بد من الابتلاء، فلو كان المؤمنون دائما منصورين قاهرين غالبين لدخل معهم من ليس قصده الدين ومتابعة الرسول، فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة، ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائما لم يدخل معهم أحد، فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارة وعليهم تارة، فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه (1) . وقد مرت حوادث على الأمة الإسلامية تميز فيها الصادق من المنافق، ومن أبرزها ما حصل في غزوة أحد حين خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى أحد، قال ابن إسحاق حتى إذا كانوا بالشوط (2) بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بن أبي سلول بثلث الناس وقال: (أطاعهم وعصاني، ما ندري علام نقتل هاهنا أيها الناس) ، فرجع بمن اتبعه من قومه من أهل النفاق والريب (3) ، وقد ذكر ابن القيم من الحكم في غزوة أحد فقال: (ومنها أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر وطالهم الصيب، ودخل معهم في الإسلام ظاهرا من ليس معهم فيه
__________
(1) انظر: إغاثة اللهفان: 2 \ 190.
(2) اسم حائط يعني بستانا في المدينة بينها وبين أحد. معجم البلدان: 3 \ 372.
(3) السيرة النبوية لابن هشام: 3 \ 68 وانظر المغازي للواقدي: 1 \ 219.(45/299)
باطنا، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رءوسهم في هذه الغزوة وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخبأتهم وعاد تلويحهم تصريحا، وانقسم الناس إلى كافر ومؤمن ومنافق انقساما ظاهرا) (1) ، وكما في قصة الأقرع والأعمى والأبرص، التي ميز الله فيها بين الغني الشاكر والكافر، وقد ميز الله بين المؤمنين والمنافقين وقد بين سبحانه أن المنافقين لا يتحملون أي أذى يصيبهم في ادعائهم الإيمان، فهم لا يصبرون ويعدون أي أذى كأنه هو عذاب الله، الذي بين سبحانه أنه شديد. قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} (2) .
__________
(1) زاد المعاد: 3 \ 219.
(2) سورة العنكبوت الآية 10(45/300)
الناس في الابتلاء ينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن، فإن رده ذلك الابتلاء والامتحان إلى ربه، وجمعه عليه وطرحه ببابه، فهو علامة سعادته وإرادة الخير به، فمن حكمة الابتلاء بالنسبة للمؤمنين: تكميل العبودية لله في السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم، فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالتين عبودية، بمقتضى تلك الحال، لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم(45/300)
القلب بدونها، كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد والجوع والعطش والتعب والنصب وأضدادها، فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني، والاستقامة المطلوبة منه، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع (1) . ومن العبودية أن يشكو العبد إلى ربه ويتضرع إليه ويدعوه، فالله يحب ذلك من العبد، (فهو سبحانه يرى عباده إذا نزل بهم ما يختبرهم به من المصائب وغيرها، ويعلم خائنة أعينهم وما تخفي صدورهم، فيثيب كل عبد على قصده ونيته، وقد ذم الله تعالى من لم يتضرع إليه، ولم يستكن له وقت البلاء) (2) . كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (3) . فالله عز وجل يذيق عبده ألم الحجاب عنه والبعد، وزوال ذلك الأنس والقرب ليمتحن عبده، فإن أقام على الرضى بهذه الحال، ولم يجد نفسه تطالبه بحالها الأولى مع الله، بل اطمأنت وسكنت إلى غيره، علم أنه لا يصلح فوضعه في مرتبته التي تليق به.
وإن استغاث به استغاثة الملهوف، وتعلق تعلق المكروب، ودعاء دعاء المضطر، وعلم أنه قد فاتته حياته حقا، فهو يهتف بربه أن يرد عليه حياته، ويعيد عليه ما لا حياة له بدونه، علم أنه موضع لما هو أهل له، فرد أحوج ما هو إليه، فعظمت به فرحته، وكملت به لذته، وتمت
__________
(1) إغاثة اللهفان: 2 \ 190.
(2) تسلية أهل المصائب: 217- 218.
(3) سورة المؤمنون الآية 76(45/301)
به نعمته، واتصل به سروره، وعلم حينئذ مقداره، فعض عليه بالنواجذ، وثنى عليه الخناصر، وكان حاله كحال ذلك الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذ وجدها بعد معاينة الهلاك (1) .
فما أعظم موقع ذلك الوجدان عنده، ولله أسرار وحكم ومنبهات وتعريفات لا تنالها عقول البشر.
القسم الثاني: إذا ابتلي الإنسان ولم يرده ذلك البلاء إلى الله، بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق، وأنساه ذكر ربه، والضراعة إليه، والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه، فهو علامة شقاوته، وإرادة الشر به، فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته، وسلطان شهوته، ومرحه وفرحه، فجاءت طبيعته عند القدرة بأنواع من الشر والبطر، والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء، كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء، فبلية هذا وبال عليه، وعقوبة ونقص في حقه (2) . ويرد على هذا:
مسألة: هل المصائب في الدنيا للمؤمنين فقط؟
وأقول: إنها ليست خاصة بالمؤمنين، فما يرى فيه الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه، فهو دون ما يحصل للمؤمنين بكثير، بل باطن ذلك ذل وكسر وهوان، وإن كان في الظاهر بخلافه. قال الحسن البصري رحمه الله: (أما والله لئن تدقدقت بهم الهماليح، ووطئت
__________
(1) مفتاح دار السعادة: 1 \ 296.
(2) طريق الهجرتين، 964.(45/302)
الرجال أعقابهم، إن ذل المعصية لفي قلوبهم، ولقد أبى الله أن يعصيه عبد إلا أذله) (1) . وقد يشكل على بعض الناس حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر (2) » . ولكن يزول هذا الإشكال إذا علم أن المؤمن على ما هو فيه بالدنيا من العزة والنصر بالنسبة إلى ما يلاقيه عند الله في الجنة من النعيم المقيم كأنه كان في سجن، أما الكافر لما هو فيه في هذه الدنيا على أي حال بالنسبة لما أعده الله له من الجحيم والنكال العظيم فكأنه في جنة (3) .
__________
(1) حلية الأولياء: 2 \ 149.
(2) صحيح مسلم: 4 \ 2272 كتاب الزهد (1) سنن الترمذي: 4 \ 562 كتاب الزهد باب ما جاء أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر سنن ابن ماجه: 2 \ 1378 كتاب الزهد باب الهم بالدنيا (3) مسند أحمد: 2 \ 323- 389.
(3) انظر النووي على مسلم: 18 \ 93.(45/303)
المبحث الثالث:
هل للمسلم أن يستدعي البلاء على نفسه؟
تقدم في حكمة الابتلاء والفتن أن فيها أجرا عظيما وتكفيرا للسيئات، فهل للمسلم أن يستدعي البلاء على نفسه؛ طلبا لهذا الفضل العظيم، أو يترك ما أوجبه الله عليه خوفا من الفتنة؟ وهذا يرجع إلى الحكمة في الأمور والعمل لكل وقت بما يناسبه، فالمتتبع لسيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو أكمل المؤمنين إيمانا وأقوى توكلا وأعظم داعية يرى أنه لا يستدعي البلاء على نفسه، ولا يترك ما أوجبه الله عليه، وإنما جمع بين التوكل والعمل بالأسباب، فقام بالدعوة إلى الله خير قيام، حسب(45/303)
مقتضى الظروف والأحوال المقرونة بحكمة الله وأمره وشرعه، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه دخل بعد رجوعه من الطائف بجوار المطعم بن عدي ليجيره من أذى قريش، حتى يبلغ رسالة ربه (1) ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى القبائل أيام الموسم ويدعوهم إلى الإسلام ويقول: «ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي (2) » . كذلك هجرته - صلى الله عليه وسلم - وهجرة أصحابه الأولى إلى الحبشة، والثانية إلى المدينة، تدل دلالة واضحة على أنه لا يجوز للمسلم أن يستدعي البلاء على نفسه، حيث لم يستمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في مواجهة القوم كما أنه كان يحمي نفسه من الأعداء في المعارك، وينهى الصحابة من تعرضهم للبلاء، وإيجابهم على أنفسهم ما لم يوجبه الله عليهم، فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا ينبغي للمسلم أن يذل نفسه، قالوا: وكيف يذل نفسه قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق (3) » . وقال - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سمرة: «يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها
__________
(1) انظر السيرة النبوية لابن هشام 2 \ 20.
(2) سنن الترمذي: 5 \ 184 كتاب فضائل القرآن باب 24، سنن أبي داود: 5 \ 103، كتاب السنة في القرآن: 22، سنن ابن ماجه: 1 \ 73، المقدمة باب في ما أنكرت الجهمية (13) ، حديث (201) مسند أحمد: 3 \ 390، سنن الدارمي: 2 \ 317، كتاب فضائل القرآن باب القرآن كلام الله.
(3) مسند أحمد: 5 \ 405 سنن الترمذي: 4 \ 523 كتاب الفتن باب 67 وقال: هذا حديث حسن غريب سنن ابن ماجه: 2 \ 1332 كتاب الفتن باب قوله تعالى: '' يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم '' المعجم الكبير للطبراني عن حذيفة وصححه الألباني في صحيح الجامع: 6 \ 253 رقم 7674 وسلسلة الأحاديث الصحيحة: 2 \ 172 رقم 613.(45/304)
من غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير (1) » . ويقول - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها (2) » وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف (3) » . وتعوذ - صلى الله عليه وسلم - من فتنة الغنى والفقر والدنيا والنار، وغير ذلك، قال العلماء: أراد - صلى الله عليه وسلم - مشروعية ذلك لأمته (4) . يقول ابن تيمية بعدما ساق هذه الأحاديث: (وأمثال ذلك مما يقتضي أن الإنسان لا ينبغي له أن يسعى فيما يوجب عليه أشياء، ويحرم عليه أشياء، فيبخل بالوفاء، كما يفعل كثير ممن يعاهد الله عهودا على أمور، وغالب هؤلاء يبتلون بنقض العهود، ويقتضي أن الإنسان إذا ابتلي فعليه أن يصبر ويثبت، ولا ينكل حتى يكون من الرجال الموقنين القائمين
__________
(1) صحيح البخاري: 8 \ 106 كتاب الأحكام باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله وفي الكفارات والأيمان والنذور. صحيح مسلم: 3 \ 1273 كتاب الأيمان باب ندب من حلف يمينا (3) والإمارة باب النهي عن طلب الإمارة (3) كما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد: 5 \ 62- 63.
(2) صحيح البخاري: 4 \ 1737 كتاب الطب باب ما يذكر في الطاعون واللفظ له، صحيح مسلم: 4 \ 1737 كتاب السلام باب الطاعون والطير.
(3) صحيح البخاري: 4 \ 24 كتاب الجهاد باب لا تتمنوا لقاء العدو، صحيح مسلم: 3 \ 1363 كتاب الجهاد باب كراهة تمني لقاء العدو (6) سنن أبي داود كتاب الجهاد: 3 \ 95 باب في كراهية لقاء العدو.
(4) فتح الباري: 13 \ 44 مسند أحمد: 1 \ 182- 194، 5 \ 201، 208.(45/305)
بالواجبات، ولا بد في جميع ذلك من الصبر) (1) . ا. هـ.
وهذا لا يسقط الواجب على المسلم، بل عليه أن يؤدي ما أوجبه الله عليه حسب استطاعته، فإن ابتلي صبر واحتسب، ولذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (2) » . فإذا تعين على المسلم واجب فعليه أن يسلك السبل التي تعينه على الواجب، ولا يلقي بنفسه في التهلكة، ولا يترك الواجب لشيء دونه فيكون كمن قال الله تعالى فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (3) ، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (4) . فالفتنة قسمت الناس إلى صادق وكاذب، ومؤمن ومنافق، وطيب وخبيث، فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه، ونجا بصبره من فتنة أعظم منها، ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها؛ لأنه وقع بالمعصية وفر من الواجب إلى ما يميل له طبعه وهواه، كما قال
__________
(1) التحفة العراقية في أعمال القلوب لابن تيمية ص 46، وانظر الزهد والورع والعبادة له ص 18.
(2) صحيح مسلم: 1 \ 69 كتاب الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان سنن النسائي: 8 \ 111، كتاب الإيمان باب تفاضل أهل الإيمان - سنن أبي داود: 1 \ 677 كتاب الصلاة باب خطبة يوم العيد: 248 - مسند أحمد: 3 \ 20، - سنن ابن ماجه: 1 \ 406 كتاب إقامة الصلاة باب ما جاء في صلاة العيدين.
(3) سورة التوبة الآية 49
(4) سورة العنكبوت الآية 3(45/306)
تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (1) . يقول الجد بن قيس لما ندبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك يقول: ائذن لي في القعود ولا تفتني بتعريضي لبنات بني الأصفر، فإني لا أصبر عنهن، فالذين استأذنوا لهذا السبب وقعوا في فتنة النفاق، وفروا إليها من فتنة بنات الأصفر، فالفتنة التي فر منها - بزعمه - هي فتنة محبة النساء وعدم صبره عنهن، والفتنة التي وقع فيها هي فتنة الشرك والكفر في الدنيا، والعذاب في الآخرة (2) . يقول ابن تيمية ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يتعرض به المرء للفتنة صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك، بأنه يطلب السلامة من الفتنة (3) . ويقول نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه، وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد، فتنة عظيمة قد سقط فيها فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته، والله تعالى يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (4) ، فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة، فهو
__________
(1) سورة التوبة الآية 49
(2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 10 \ 148: أسباب النزول للواحدي: 284، زاد المعاد 3 \ 169.
(3) الاستقامة: 2 \ 287.
(4) سورة الأنفال الآية 39(45/307)
في الفتنة سقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده، وتركه ما أمر الله به من الجهاد، فتدبر هذا فإن هذا مقام خطر (1) . فالله عز وجل أمر المسلم أن يقوم بالواجب، وأن خوفه من الفتن لا يعفيه منه، كما قال تعالى: {الم} (2) {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} (3) ، وبين سبحانه أن من قام بالواجب أعانه الله عليه، كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (4) . فعلى المسلم أن يسلك سبيل الدعوة إلى الله بالطرق التي بينها الله، وإذا حصل له ضرر فعليه أن يدفعه بكل وسيلة مشروعة، كما تقدم من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. وعليه أن يصبر ويحتسب فإنه أعظم لأجره.
__________
(1) الاستقامة: 2 \ 289.
(2) سورة العنكبوت الآية 1
(3) سورة العنكبوت الآية 2
(4) سورة العنكبوت الآية 69(45/308)
المبحث الرابع: أنواع الفتن:
للفتن صور وأنواع عدة، كما تقدم في تعريفها وأنها بحسب ما يضاف إليها، وقد بين الله عز وجل عدة أنواع للفتنة وهي بمجملها تنقسم إلى قسمين:
الأول: الشبهات.
الثاني: الشهوات.
وقد تجتمع الفتنتان كما في الدجال الذي هو أعظم فتنة حذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - منها.(45/308)
فالأولى هي المعارضة للعقيدة، التي لا يسلم منها إلا من عرف الله ورسوله، وهي تأتي من ضعف البصيرة وقلة العلم، وخاصة إذا اقترن بذلك فساد القصد وحصول الهوى، وهي تؤدي إلى الكفر والنفاق والبدع، وهذا هو الضلال الذي من اتباع الفتن والشبهات ومنها:
1 - شبهة إيذاء الناس بترك ما أوجبه الله.
2 - عبادة الأصنام وتزيين الشيطان.
3 - شبهة الخوف من الموت وفوات الرزق بترك ما أوجبه الله.
ومن أنواع الفتن فتنة الناس، وهي من فتن الشبهات، فالناس يؤذون وتختلف درجاتهم في هذا الإيذاء، والله سبحانه ذكر صنفا من الناس لا يتحملون أي أذى في سبيل الله، فهؤلاء إيمانهم ليس بصادق وذلك لضعف إيمانهم، فإذا أوذي أحدهم بضرب أو أخذ مال أو تعيير ليرتد عن دينه ويرجع إلى الباطل - ويظن أن ما حصل له من هذا الأذى مثل عذاب الله وشتان - فإن هذا يجزع من عذاب الناس وأذاهم، ولا يصبر عليهم فيطيعهم (1) . كطاعة الخائف من الله لله، وإيذاء الكفار للمؤمنين من أنواع الابتلاء والفتن، فالمنافقون الذين يقولون آمنا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم إذا حصل للمسلمين من الكفار أذى وهم معهم، جعلوا فتنة الناس أي أذاهم (2) مع ضعفها وانقطاعها كعذاب الله الأليم الدائم، فمن في قلبه مرض اشتبه عليه الأمر، فظن أن العذابين
__________
(1) انظر تفسير البغوي: 3 \ 462: وتيسير الكريم الرحمن 6 \ 70.
(2) انظر أضواء البيان: 6 \ 462.(45/309)
سواء، فآثر الراحة، فالناس يفتن بعضهم بعضا عن الإيمان، ويصرف بعضهم بعضا عن الحق، ويردي بعضهم بعضا في الباطل، إما بالقوة والغلبة، أو بالإغواء والإغراء والأماني، ولكن المؤمنين لا يضيرهم ذلك بل يزداد إيمانهم ويقينهم مهما كان الإيذاء وكانت درجاته. وإليك صورا رائعة من صبرهم: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (1) ، فعند هذه الآية يذكر المفسرون أصحاب الأخدود وما حصل لهم من أذى وفتنة، فعن صهيب الرومي - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاما أعلمه السحر، فبعث إليه غلاما يعلمه فكان في طريقه إذا سلك راهب، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان إذا أتى الساحر مر الراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب:
__________
(1) سورة البروج الآية 10(45/310)
أي بني أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليس للملك كان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة فقال: ما هاهنا لك أجمع، إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله تعالى، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن بالله فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي قال: ولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدعي بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك فقيل له ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعدوا به الجبل
__________
(1) صحيح مسلم: 4 \ 2299 كتاب الزهد باب قصة أصحاب الأخدود واللفظ له، مسند أحمد: 6 \ 17، جامع البيان عن تأويل القرآن: 30 \ 133 حيث أوردها الطبري بسنده.(45/311)
فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقورة فيها، أو قيل له اقتحم، ففعلوا حتى جاءت
__________
(1) الأكمه: الذي خلق أعمى - النووي على مسلم: 18 \ 130. (1)(45/312)
امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمه اصبري فإنك على الحق (1) » .
وقد أوذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته رضوان الله عليهم حتى تركوا ديارهم وأموالهم وهاجروا إلى المدينة.
__________
(1) (1) . فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خذ سهما من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، ثم ارمني، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع، ثم أخذ سهما من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: باسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفوه السكك فخدت، وأضرم النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فاحموه(45/313)
ومن فتن الشبهات: شبهة عبادة الأصنام وتزيين الشيطان.
فعباد الأصنام ظنوا أن هذه الأصنام تقربهم إلى الله، كما قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (1) . فهم يقولون تشفع لنا، فهم يخاطبون الأصنام ويقولون: إنا نخاطب أصحابها وهذا مما لم يشرعه الله (2) . فأصل المشركين صنفان: قوم نوح، وقوم إبراهيم، فشبهة قوم نوح تعظيم الصالحين والعكوف على قبورهم، حتى وصل الأمر بهم إلى الشرك. وشبهة قوم إبراهيم في الكواكب والشمس والقمر مما زينته لهم الشياطين (3) ، ومما يعتقدون فيها من المودة بينهم، كما قال تعالى عنهم: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} (4) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 3
(2) انظر فتاوى ابن تيمية: 1 \ 15.
(3) انظر فتاوى ابن تيمية: 1 \ 157.
(4) سورة العنكبوت الآية 25(45/313)
كما أن الشياطين يزينون كل سوء ومنكر، فهم يعينون عباد الأصنام ويتزينون لهم في صور صالحة تشبيها وتلبيسا عليهم، فيقول أحدهم أنا إبراهيم أنا المسيح أنا محمد أنا الخضر، وقد يقول بعضهم عن بعض هذا هو النبي وهذا هو الخضر، ويكون أولئك كلهم جنا يشهد بعضهم لبعض (1) . وفتنة الشيطان من أعظم الفتن وخاصة إذا هم الإنسان بالخير أو دخل به، فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟ قال: فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالغرس في الطول؟ قال: فعصاه فهاجر، قال: ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له: هو جهد النفس والمال، فقال: فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟ قال: فعصاه فجاهد (2) » . لذلك حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - منه وبين أن من عصاه فقد نجا وفاز، وهذا ما يدل عليه بقية الحديث حيث قال: «. . فمن فعل ذلك منهم فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو قتل كان حقا على
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1 \ 157.
(2) مسند الإمام أحمد: 3 \ 483 واللفظ له، سنن النسائي: 6 \ 21 الجهاد مصنف ابن أبي شيبة 5 \ 293 صحيح ابن حبان (الترتيب) : 7 \ 57 السير باب إيجاب الجنة للمهاجر والغازي انظر صحيح الجامع: 2 \ 72.(45/314)
الله - عز وجل - أن يدخله الجنة وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة (1) » .
__________
(1) إكمال للحديث الذي قبله.(45/315)
وشبهات الشيطان التي يلقيها في القلوب كثيرة؛ لذلك أمرنا بالاستعاذة منه كثيرا وخاصة عند قراءة القرآن؛ لأنه من أهم أعمال الخير وفيه فلاحنا ونجاحنا.
وقد بين الله أن في هذه السورة أناسا وقعوا في فتنة الشيطان أغراهم فهلكوا قال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} (1) فحسن لهم الشيطان كفرهم بالله، وتكذيبهم رسله فصدهم عن السبيل فردهم بتزيينه لهم ما زين لهم من الكفر والصد عن سبيل الله، التي هي الإيمان به وبرسله (2) . مع ما لهم من العقول وما لديهم من دلائل الهدى، ولكن الشيطان بقوة فتنته جاءهم من باب غرورهم بأنفسهم وإعجابهم بما يأتون من الأعمال، وما هو فيه من مال ومتاع، فضيع عليهم الفرص مع ما يملكون من التبصر (3) . كما وصفهم الله بذلك في آخر الآية فقال: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} (4) .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 38
(2) جامع البيان عن تأويل القرآن: 20 \ 150.
(3) انظر في ظلال القرآن: 5 \ 2735.
(4) سورة العنكبوت الآية 38(45/315)
ومن الشبهات التي تعترض الإنسان: شبهة الخوف من الموت، وشبهة الخوف من الرزق، فالإنسان لا يجوز له أن يترك ما أمره الله به خوفا من أن يأتيه الموت، أو ينقطع رزقة، فإن الموت لا بد حاصل، وكذلك الرزق، لذلك ذكرها الله بعد الأمر بالهجرة، وهون عليهم أمرها لئلا يكونا سببا في التأخر عن أمر الله، فقال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (1) {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (2) . سواء من هاجر أو جلس، والأجل محدد، كما قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (3) . وكذلك الرزق المقسوم سيأتي الإنسان، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أم سعيد، ثم ينفخ فيه الروح. فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة (4) » . ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 56
(2) سورة العنكبوت الآية 57
(3) سورة الأعراف الآية 34
(4) صحيح البخاري: 4 \ 78 كتاب بدء الخلق باب ذكر الملائكة وكتاب القدر: 7 \ 210، باب (1) وكتاب التوحيد: 8 \ 188 باب ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين واللفظ له، صحيح مسلم: 4 \ 2036 كتاب القدر باب كيفية الخلق الآدمي (1) كما أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه.(45/316)
كريهة لديها بين الله سبحانه أن المكروه واقع لا محالة إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت. فأولى أن يكون في سبيل الله كما أن الرزق حاصل وأسباب البحث عنه متوفرة في جميع بلاد الله الواسعة، فلا يكون طلبه في بقعة معينة سببا في ترك أمر الله بالهجرة.
فالله حقر أمر الدنيا عموما لئلا ينظر المؤمن إلى عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه أن يموت أو يجوع أو نحو هذا (1) . فالموت حاصل، والرزق جار، فالبدار إلى طاعة الله والهجرة إليه، فإن الله لما أمر بالهجرة ذكر بعدها الموت، ثم ذكر الرزق وأن البهائم على ضعفها وعدم تكفيرها قد تكفل الله برزقها، فكيف بابن آدم الذي أعطاه الله أسباب المعاش، وهيئه لعبادته، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (2) . وبعد أن حث على العمل والصبر ذكر الرزق فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (3) ، فالرزق للجميع يستوي في ذلك: الحريص، والمتوكل، والراغب، والقانع، والحيول، والعاجز، حتى لا يغتر الجلد أنه مرزوق بجلده، ولا يتصور العاجز أنه ممنوع بعجزه (4) . ومن فتن الشبهات التي عمت في هذا الزمن، وانخدع بها كثير من الناس، الفتنة بالكفار، وفتنتهم بنا نحن
__________
(1) انظر أحكام القرآن للقرطبي: 13 \ 358.
(2) سورة العنكبوت الآية 57
(3) سورة العنكبوت الآية 60
(4) انظر أحكام القرآن للقرطبي: 13 \ 360.(45/317)
المسلمين. فالمسلمون يدعون الإسلام ويأتون بما يبرأ منه الإسلام، ويعتقدون أن ذلك من صميمه، وكما يوجد في كثير من بلاد المسلمين من الجهل والفقر والذل، فظن الكفار أن هذا هو الإسلام فنفروا منه وسخروا به، فكان ذلك فتنة عظيمة لهم، وحجابا كثيفا إلا من نظر منهم نظر علم وإنصاف، فإنه يعرف أن هذا ليس هو الإسلام. والكفار يراهم المسلمون الجهال في عز وسيادة وتقدم علمي وعمراني، فينظرون إلى تلك الناحية، فيندفعون في تقليدهم في كل شيء، حتى معائبهم ومفاسدهم، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ (1) » . فصار المسلمون يزدرون أعز عزيز لديهم إلا من رحم الله ونظر بعين العلم، وعرف أن كل ما عندهم من علم هو عندنا، وفي ديننا وتاريخنا، وما عندهم من شر فهو شر على حقيقته. فكانوا فتنة للمسلمين الذين تهمهم المظاهر، فتسلبهم إداركهم فلا يفرقوا بين اللب والقشور (2) .
__________
(1) صحيح البخاري: 4 \ 144، كتاب الأنبياء باب ما ذكر عن بني إسرائيل وكتاب الاعتصام: 8 \ 151، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لتتبعن سنن من كان قبلكم واللفظ له في الأول. صحيح مسلم: 4 \ 3054، كتاب العلم باب اتباع سنن اليهود والنصارى.
(2) انظر مجالس الذكر والتأنيس لابن باديس: 67، دار الفكر - الطبعة الثانية.(45/318)
فتنة اتباع المتشابه:
يجب على كل مسلم الإيمان بالله جل وعلا، وبأسماه وصفاته وأنه(45/318)
يجب الإيمان بها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولكن هناك من انحرف عن هذا الطريق واتبع ما تشابه، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) ، وسبب نزول هذه الآية: أن وفدا من نصارى نجران تخاصموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ (2) ، قال: بلى، قالوا: فحسبنا ما أنزل الله - عز وجل - {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ} (3) ، ثم إن الله جل ثناؤه أنزل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} (4) (5) ، وقيل غير ذلك. وقال آخرون: بل عنى الله - عز وجل - بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفة لما ابتعث به رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - يتأوله من بعض آي القرآن المختلفة التأويلات، وإن كان الله قد أحكم بيان ذلك، إما في كتابه أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - (6) .
وهذا ما يدل عليه عموم الآية وإن كانت نزلت بسبب خاص فأهل
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) يقصدون عيسى بن مريم انظر أسباب النزول ص: 128.
(3) سورة آل عمران الآية 7
(4) سورة آل عمران الآية 59
(5) جامع البيان عن تأويل القرآن 3 \ 177، وانظر أسباب النزول للواحدي 128.
(6) جامع البيان عن تأويل القرآن 3 \ 177.(45/319)
الضلال الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا هم كما قال مجاهد: أهل البدع والشبهات يتمسكون بما هو بدعة في الشرع ومشتبه في العقل، كما قال فيهم الإمام أحمد: هم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب يحتجون بالمتشابه من الكلام ويضللون الناس بما يشبهون عليهم (1) .
قال ابن تيمية: (المتشابه الموجود في القرآن تشابه نسبي فقد يتشابه عند هذا ما لا يتشابه عند غيره) (2) . يؤيد هذا قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب (3) » . ومن قال من السلف أن المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله فقد أصاب أيضا ومراده بالتأويل ما استأثر الله بعلمه مثل وقت الساعة ومجيء
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 13 \ 142.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 13 \ 144.
(3) صحيح البخاري: 1 \ 19 كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه واللفظ له، صحيح مسلم: 3 \ 1219 كتاب المساقاة باب أخذ الحلال وترك الشبهات، كما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي وأحمد: 4 \ 269.(45/320)
أشراطها ومثل كيفية نفسه وما أعده في الجنة لأوليائه (1) . أما الذين في قلوبهم زيغ يدعون المحكم الذي لا اشتباه فيه مثل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (2) . {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (3) . وغير هذه الآيات ويتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة؛ ليفتنوا به الناس إذا وضعوه على غير مواضعه وابتغاء تأويله وهو الحقيقة التي أخبر عنها (4) . فمن الفتنة بالمتشابه ما أحدثه أهل الكلام في أسماء الله وصفاته حيث أولوا وحرفوا الكلم عن مواضعه فمما أنكروا السمع فقالوا: إنه لم يجئ خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يسمع بسمع ويبصر ببصر) (5) . كما أنكروا العلم والقدر.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 13 \ 144.
(2) سورة البقرة الآية 163
(3) سورة طه الآية 14
(4) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 13 \ 277.
(5) رد الإمام الدارمي على بشر المريسي: 46.(45/321)
فتن الشهوات:
فتن الشهوات هي المعارضة للإرادة وقد تجر فتنة الشهوة إلى شبهة، فالشهوات هي الغي واتباع الهوى فالإنسان إذا تمادى مع نفسه وأطلق لها العنان في كل ما تشتهيه فإن ذلك سيجره إلى تلبية الهوى حتى في الأمور الاعتقادية أو الأحكام الشرعية مما يجعله يبني أحكاما توافق هوى نفسه وشهوته فيقع في الشبهات.(45/321)
ومن فتن الشهوات:
1 - فتنة الأهل والأحباب:
فالإنسان يخشى على أهله وأحبابه أن يصيبهم الضرر بسببه وهو لا يملك الدفاع عنهم وهم ينازعونه ما هو فيه من أمر الدين ليتنازل من أجلهم باسم الحب والقرابة وصلة الرحم ولكن هل يستجيب لهم أم لا؟ إن هذا يتوقف على قوة إيمانه وضعفه فهذا سعد بن أبي وقاص كما تقدم حاولت أمه أن تفتنه عن دينه ولكنه أعرض عنها مع ما كانت تكن له من الرعاية والحب فكان في رغد من العيش يلبس أحسن الثياب يتقلب في النعمة والثراء ولكن لما دخل الإيمان في قلبه لم يعبأ بشيء من ذلك فهو يقول: «لقد رأيتنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى يضع أحدنا كما تضع الشاة (1) » . والله - عز وجل - يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (2) . ويقول سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (3) .
وعداوتهم قد تكون بالمحاربة والمبارزة كما حصل لبعض الصحابة مع أهلهم في بدر فهذه العداوة لأجل العقيدة والدين وقد تكون العداوة والفتنة ليست ظاهرة كذلك وإنما هي سبب لغفلته وتثاقله من أمر الله
__________
(1) الحلية لأبي نعيم: 1 \ 92، مسند الطيالسي: 1 \ 29.
(2) سورة التغابن الآية 15
(3) سورة الأنفال الآية 28(45/322)
من الجهاد وغيره.
وعن أبي بريدة قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا إذ جاء الحسن والحسين - رضي الله عنهما - عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله:، فنظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما (2) » .
والإنسان بطبعه يحب الجاه والأموال والأولاد والرياسة فهذه من الأحباب التي قد يفتتن بها الإنسان وهي من متاع الحياة الدنيا الزائل لذلك حذرنا الله من الدنيا عموما فقال سبحانه: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (3) .
ومن فتن الشهوات: فتنة الجاه وحب التعالي كما امتنع بعض كفار قريش عن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - جحدا لرسالته مع اعترافهم بها بقرارة أنفسهم كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} (4) . والجحود لا يكون إلا بعد المعرفة (5) . وكان من
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) سورة الأنفال الآية 28 (1) {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
(3) سورة العنكبوت الآية 64
(4) سورة العنكبوت الآية 47
(5) انظر تفسير الطبري 21 \ 4.(45/323)
أسباب ذلك خوفهم من نزول جاههم وسلطانهم (فقد ورد أن أبا جهل بن هشام حين جاءه الأخنس وقال له: يا أبا الحكم ما رأيتك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاذبنا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه) (1) . وكذلك فرعون حبه للتعالي والعدوان أعماه عن اتباع موسى فهذه الفتنة أوقعته في فتنة أشد ووقع في فتنة الشبهة حتى وصل به الأمر أنه ادعى الربوبية حيث قال تعالى عنه: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} (2) قال تعالى: {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} (3) .
__________
(1) سيرة ابن هشام: 1 \ 337.
(2) سورة النازعات الآية 24
(3) سورة العنكبوت الآية 39(45/324)
ومن فتن الشهوات كذلك: فتنة قوم لوط كما قال تعالى عنهم: {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (1) .
ومن فتن الشهوات كذلك: حب الوطن والركون إلى الراحة
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 29(45/324)
والدعة والخوف على الأموال لذلك حذرنا الله - عز وجل - من هذه أن تكون سببا في تركنا لأمر الله، قال تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} (1) {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (2) . وجماع ذلك كله في حب الدنيا وزهرتها كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذه الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ألا فاتقوا الدنيا واتقوا النساء (3) » . والله - عز وجل - لما أمر المؤمنين بترك الأوطان والاعتماد على الله في طلب الرزق وعدم الخوف من الموت حذرنا من الدنيا وبين أنها كظل زائل مهما طال. قال تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (4) . وما يكون من فتن الشهوات فتنة الإغراء من قبل الكفار فهم يغرون بما عندهم من أموال ومن جاه وغير ذلك كما حدث للرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما بدأ بالدعوة فقد ورد أن عتبة بن ربيعة قال للرسول - صلى الله عليه وسلم -: يا بن أخي إنك منا حيث علمت من السطة في العشيرة والمكان في النسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت بمن مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 56
(2) سورة العنكبوت الآية 57
(3) مسند أحمد: 3 \ 19 وهو جزء من خطبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ص (28) سنن الترمذي: (4 \ 483) كتاب الفتن باب ما جاء ما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بما هو كائن يوم القيامة (26) ابن ماجه: 2 \ 135 كتاب الفتن باب فتنة النساء.
(4) سورة العنكبوت الآية 64(45/325)
منها بعضها قال: فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل يا أبا الوليد اسمع، قال: يا بن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا (1) . إلى آخر ما عرض عليه ولكن الرسول لم تغره تلك العروض واستمر على دعوته. ومن إغراء الكفار كما كانوا يغرون المسلمين قال الله تعالى عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (2) . وهذا إغراء معنوي بتحمل ما يكون على من ترك هذا الدين.
وهذه شبهة قد تعترض من قصر علمه وإرادته فيصدقها وينخرط معهم في غيهم وضلالهم.
ومن إغرائهم ما حدث للنفر الذين خلفوا حين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك فقد جاء إلى كعب بن مالك كتاب من ملك غسان قال كعب: فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها.
__________
(1) سيرة ابن هشام: 1 \ 313.
(2) سورة العنكبوت الآية 12(45/326)
الحديث. وفتنة الشهوات إذا تمادى بها الإنسان قد تقوده إلى فتنة الشبهات فيهلك وقد تجتمع الفتنتان كما في أشد فتنة حذرنا منها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي فتنة المسيح الدجال كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال (1) » . والمراد أكبر فتنة: أعظم شوكة (2) . فإن أمره قد يشتبه على من في قلبه مرض فيظن أن ما معه من القوة تخوله بأن يكون هو الرب، فيكفر بالله ولذلك حذرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من شبهاته فقال: «من سمع بالدجال فلينأ منه فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فلا يزال به لما معه من الشبه حتى يتبعه (3) » . كما أن ما بعده من ملاذ الدنيا وما يتبعه منها شهوة يفتن بها الإنسان فقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لأنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران يجريان أحدهما رأي العين ماء أبيض والآخر رأي العين نار تأجج، فإما أدركن أحدا فليأت النهر الذي يراه نارا وليغمض ثم يطأطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد، وإن الدجال ممسوح العين عليها ظفرة (4) غليظة، مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب
__________
(1) صحيح مسلم: 4 \ 2267 كتاب الفتن باب في بقية من أحاديث الدجال واللفظ له، مسند أحمد: 4 \ 21، مصنف ابن أبي شيبة: 15 \ 133.
(2) النووي على مسلم: 18 \ 87.
(3) مسند أحمد: 4 \ 431، سنن أبي داود: 4 \ 495، كتاب الملاحم باب خروج الدجال، مستدرك الحاكم: 4 \ 531 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه، وصححه الألباني في صحيح الجامع: 5 \ 303 رقم 6177.
(4) صحيح مسلم: 4 \ 2249 كتاب الفتن باب ذكر الدجال واللفظ له، ورواه البخاري مختصرا: 8 \ 103 كتاب الفتن باب ذكر الدجال، المسند: 5 \ 386، 405، سنن أبي داود: 4 \ 494: الملاحم باب خروج الدجال.(45/327)
وغير كاتب» .(45/328)
ومن شدة فتنته أن الأنبياء كانوا يخوفون قومهم منه فعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: «قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم ذكر الدجال فقال: إني لأنذركموه ما من نبي إلا وقد أنذره قومه لقد أنذره نوح قومه ولكن أقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه، تعلموا إنه أعور وإن الله تبارك ليس بأعور (2) » . حتى إن الصحابة حينما خوفهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظنوه قد خرج فعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: «ذكر رسول الله (الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: ما شأنكم؟ قلنا يا رسول الله، ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال: غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم إنه شاب قطط. عينه طافية إني أشبهه بعبد العزى بن قطن فمن أدركه
__________
(1) صحيح مسلم: 4 \ 2245: كتاب الفتن باب ذكر ابن الصياد واللفظ له، صحيح البخاري: 8 \ 172: كتاب التوحيد باب قوله تعالى: '' ولتصنع على عيني '' سنن أبي داود: 4 \ 494: كتاب الملاحم باب خروج الدجال، مسند أحمد 1 \ 195، 2 \ 135.
(2) تعلموا بمعنى اعلموا، النووي على مسلم: 18 \ 56. (1)
(3) جزء من حديث في صحيح مسلم: 4 \ 2250 كتاب الفتن باب ذكر الدجال واللفظ له، سنن الترمذي: 4 \ 510 كتاب الفتن باب ما جاء في فتنة الدجال، سنن ابن ماجه 2 \ 1356: كتاب الفتن باب فتنة الدجال، مسند أحمد: 4 \ 181، سنن أبي داود: 4 \ 496: كتاب الملاحم باب خروج الدجال.(45/328)
منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج خلة بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا، يا عباد الله فاثبتوا، قلنا: يا رسول الله، وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يوما: يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا اقدروا له قدره، قلنا يا رسول الله، وما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتمر عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا. وأسبغه ضرعا وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحوا ممحلين ليس بأيديهم من أموالهم شيء ويمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل يتهلل وجهه يضحك، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كتفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ
__________
(1) قطط: بفتح القاف والطاء أي شديد جعودة الشعر مباعد للجعود المحبوبة، النووي على مسلم: 18 \ 65. (3)
(2) العيث الفساد أو أشد والإسراع فيه، النووي على مسلم: 18 \ 65. (1)
(3) ذرا: هي الآجال والأسنمة ذروة. (2)
(4) هي ذكور النحل وعبر عنها لأنه إذا طار الذكر تبعته جماعته. (3)
(5) أي يجعل بين القطعتين مقدار رمية الغرض. (4)(45/329)
رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان (2) » . الحديث. وقد ورد عن المصطفى (أحاديث كثيرة في التحذير منه نسأل الله أن يعصمنا من فتنته. وما يتعرض له الإنسان من المصائب والآلام والأحزان من فقد مال أو ولد أو جاه أو نحو ذلك فإنها ليست داخلة في النوعين أي الشبهات والشهوات، فإنها بالنسبة للمؤمن الذي يصبر عليها أجر وغنيمة، أما ما تحدثه من جزع وتسخط فإن هذا مرض بالقلب قد يدخل معه شبهة تصده عن دين الله كتسخط القدر وإنكاره أو أنها تدعوه إلى شهوة مما حرم الله - عز وجل - كالسرقة واغتصاب حقوق الغير إذا فقد ماله. فنسأل الله أن يعصم المسلمين من مضلات الفتن ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم مطابقة لسنة نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) مهرودتين: أي ثوبين مصبوغين بورس ثم زعفران، وقيل شقتان والشقة نصف الملاءة. (5)
(2) (1) كاللؤلؤ ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطلبه بباب لد فيقتله(45/330)
بيان من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
حول المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين الذي أوصى بالنساء خيرا فقال: «استوصوا بالنساء خيرا (1) » وقال: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي (2) » ، فكان بأقواله وأفعاله داعيا إلى الرحمة وهو نبي الرحمة، وبعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية قد اطلع في دورته الاستثنائية التاسعة المعقودة في مدينة الطائف ابتداء بيوم الثلاثاء 3 \ 4 \ 1416 هـ. على مذكرة منهاج عمل مؤتمر المرأة المقرر عقده في بكين عاصمة الصين، وتأمل منهاج هذا المؤتمر وأهدافه، ورأى مناقضات بعض مواد هذا المنهاج لبعض مواده، وتعمية متعمدة، والتواء في العبارات واضح، والهدف منه إطلاق الرغبات من كل قيد، وإفساح المجال للممارسات البعيدة عن ضوابط الأخلاق، وفطرة الله التي فطر الناس عليها، وشريعته التي شرعها لعباده، للانفلات وراء الرغبات الجنسية وإعداد الفتيات لهذه النزوات تحت ستار حرية المرأة، والرفق بالمرأة، ومشكلة المرأة.
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3331) ، صحيح مسلم الرضاع (1468) .
(2) سنن الترمذي المناقب (3895) ، سنن الدارمي النكاح (2260) .(45/331)
ومعلوم أن المرأة المسلمة لا تواجهها مشكلة من حيث مكانتها في المجتمع، فهي أم وزوجة وأخت وبنت، كفلت لها شريعة الإسلام جميع الحقوق، وصانتها عن الابتذال والإذلال بكل معاني الصيانة والاحترام، وأعطتها من الحقوق كل ما يناسب تكوينها الذي منحها إياه خالقها كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
وفضل الرجل عليها في أحكام كثيرة كالإرث والشهادة وأمور أخرى، كما قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (2) ، الآية من سورة النساء، وقال سبحانه في سورة النساء أيضا: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (3) ، وقال سبحانه في آخرها: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) ، وقال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (5) ، الآية من سورة البقرة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) سورة النساء الآية 34
(3) سورة النساء الآية 11
(4) سورة النساء الآية 176
(5) سورة البقرة الآية 282(45/332)
ووثيقة منهاج عمل مؤتمر المرأة فيها المصادمة الصريحة لما شرعه الله والإلزام بنبذ كل ما جاء عن الله؛ إذا كان يخالف ما يدعو إليه هذا المؤتمر، وفي ذلك مصادمة لشرع الله، وتحطيم للأسرة، ومحادة لله ورسوله ولكافة رسله وأنبيائه، وإباحة صريحة لممارسات الزنا وغيره من الفواحش، وقضاء على ما بقي لدى الأمم من الأخلاق والقيم، وبذل لأموال طائلة في سبيل هذا الهدف الخبيث البعيد عن فطرة الله التي فطرة الناس عليها وعن شرع الله الحكيم، مما لو بذل بعضه لإغاثه أمم منكوبة أو حماية أمم مقهورة بالظلم والعدوان لكفى، وما هذا المؤتمر إلا عقدة في سلسلة عقد سابقة ولاحقة يترتب عليها تدمير الكيان الاجتماعي السليم، أو الباقي على شيء من القيم الكريمة.
ولكل ما تقدم فإن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية يدعو المسلمين: حكومات وشعوبا وعلماء ومنظمات وجماعات وأفرادا للتنديد بمنهاج هذا المؤتمر، والتحذير منه، ودعوة الجميع للرد على أهدافه التي تقدمت الإشارة إليها، إنكارا لما أنكره الله ورسوله وحماية للمسلمين عن الوقوع فيها. والله ولي التوفيق.(45/333)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية(45/334)
تحذير وبيان عن مؤتمر بكين للمرأة
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته ومن اهتدى بهديهم واستن سننهم إلى يوم الدين. . أما بعد:
فقد نشر في وسائل الإعلام خبر انعقاد المؤتمر الدولي الرابع المعني بالمرأة من 9 إلى 20 \ 4 عام 1416 هـ الموافق 4 \ 15 سبتمبر عام 1995 م في بكين عاصمة الصين، واطلعت على الوثيقة المعدة لهذا المؤتمر المتضمنة 362 مادة في 177 صفحة، وعلى ما نشر من عدد من علماء بلدان العالم الإسلامي في بيان مخاطر هذا المؤتمر، وما ينجم عنه من شرور على البشرية عامة وعلى المسلمين خاصة، وتأكد لنا أن هذا المؤتمر من واقع الوثيقة المذكورة هو امتداد لمؤتمر السكان والتنمية المنعقد في القاهرة في شهر ربيع الثاني عام 1415 هـ. وقد صدر بشأنه قرار هيئة كبار العلماء، وقرار المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، كلاهما برئاستي واشتراكي، وقد تضمن القراران إدانة المؤتمر المذكور بأنه مناقض لدين الإسلام ومحادة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لما فيه من نشر للإباحية وهتك للحرمات وتحويل المجتمعات إلى قطعان بهيمية، وأنه تتعين مقاطعته. . إلى آخر ما تضمنه القراران المذكوران.
والآن يأتي هذا المؤتمر في نفس المسار والطريق الذي سار عليه المؤتمر المذكور متضمنا التركيز على مساواة المرأة بالرجل والقضاء على جميع أشكال التمييز بين الرجل والمرأة في كل شيء. وقد تبنت مسودة الوثيقة المقدمة للمؤتمر من الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة على مبادئ كفرية، وأحكام ضالة في سبيل تحقيق ذلك منها:
الدعوة إلى إلغاء أي قوانين تميز بين الرجل والمرأة على أساس(45/335)
الدين، والدعوة إلى الإباحية باسم: الممارسة الجنسية المأمونة، وتكوين الأسرة عن طريق الأفراد، وتثقيف الشباب والشابات بالأمور الجنسية، ومكافحة التمييز بين الرجل والمرأة، ودعوة الشباب والشابات إلى تحطيم هذه الفوارق القائمة على أساس الدين. وأن الدين عائق دون المساواة. . إلى آخر ما تضمنته الوثيقة من الكفر، والضلال المبين، والكيد للإسلام وللمسلمين، بل للبشرية بأجمعها، وسلخها من العفة، والحياء، والكرامة.
لهذا فإنه يجب على ولاة أمر المسلمين، ومن بسط الله يده على أي من أمورهم أن يقاطعوا هذا المؤتمر، وأن يتخذوا التدابير اللازمة لمنع هذه الشرور عن المسلمين، وأن يقفوا صفا واحدا في وجه هذا الغزو الفاجر، وعلى المسلمين أخذ الحيطة والحذر من كيد الكائدين، وحقد الحاقدين.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد كيد الأعداء إلى نحورهم، وأن يبطل عملهم هذا، وأن يوفق المسلمين وولاة أمرهم إلى ما فيه صلاحهم، وصلاح أهليهم رجالا ونساء، وسعادتهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
والمفتي العام للمملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(45/336)
حكم الإسلام في شعر الرأس الصناعي
المسمى اليوم (الباروكة)
لسماحة الشيخ / عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد ثبت في الصحيحين: عن معاوية - رضي الله عنه - «أنه خطب الناس على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتناول قصة من الشعر، كانت بيد حرسي، فقال: (أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهي عن مثل هذه ويقول: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم (1) » ، وفي لفظ لمسلم: «إنما عذب بنو إسرائيل لما اتخذ هذه نساؤهم (2) » .
وفي الصحيحين أيضا، واللفظ لمسلم، عن سعيد بن المسيب قال: «قدم معاوية المدينة فخطبنا، وأخرج كبة من شعر فقال: ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغه فسماه: الزور (3) » .
وفي لفظ آخر لمسلم: «أن معاوية - رضي الله عنه - قال ذات يوم: إنكم قد أحدثتم زي سوء، وإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الزور (4) » .
قال النووي - رحمه الله - في شرح مسلم، عند كلامه على هذا
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3468) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2127) ، سنن الترمذي الأدب (2781) ، سنن النسائي الزينة (5245) ، سنن أبو داود الترجل (4167) ، مسند أحمد بن حنبل (4/95) ، موطأ مالك الجامع (1765) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3468) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2127) ، سنن الترمذي الأدب (2781) ، سنن النسائي الزينة (5245) ، سنن أبو داود الترجل (4167) ، مسند أحمد بن حنبل (4/95) ، موطأ مالك الجامع (1765) .
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3468) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2127) ، سنن الترمذي الأدب (2781) ، سنن النسائي الزينة (5246) ، سنن أبو داود الترجل (4167) ، مسند أحمد بن حنبل (4/91) ، موطأ مالك الجامع (1765) .
(4) صحيح مسلم اللباس والزينة (2127) ، سنن النسائي الزينة (5248) ، مسند أحمد بن حنبل (4/91) .(45/337)
الحديث: (قوله: قصة من شعر، قال الأصمعي وغيره: هي شعر مقدم الرأس المقبل على الجبهة، وقيل: شعر الناصية) ، قال: (وقوله أخرج كبة من شعر هي: بضم الكاف وتشديد الباء، وهي شعر مكفوف بعضه على بعض، وقال صاحب القاموس: القصة بالضم شعر الناصية) .
وفي هذا الحديث الدلالة الصريحة على تحريم اتخاذ الرأس الصناعي، المسمى: (الباروكة) ؛ لأن ما ذكره معاوية - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح، في حكم القصة والكبة، ينطبق عليه، بل ما اتخذه الناس اليوم ما يسمى: (الباروكة) ، أشد في التلبيس وأعظم في الزور، إن لم يكن هو عين ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بني إسرائيل فليس دونه، بل هو أشد منه في الفتنة والتلبيس والزور، ويترتب عليه من الفتنة ما يترتب على القصة والكبة، إن لم يكن هو عينها، ولا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى؛ لأن العلة تعمهما جميعا.
وبذلك يكون محرما من وجوه أربعة:
أحدها: أنه من جملة الأمور التي نهى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأصل في النهي التحريم؛ لقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1)
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم (2) » الحديث متفق على صحته.
الثاني: أنه زور وخداع.
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الفضائل (1337) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(45/338)
الثالث: أنه تشبه باليهود، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم (1) » .
الرابع: أنه من موجبات العذاب والهلاك؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما هلكت بنوا إسرائيل لما اتخذ مثل هذه نساؤهم (2) » .
ويؤيد ما ذكرنا من تحريم اتخاذ هذا الرأس: أنه أشد في التلبيس والزور والخداع من وصل الشعر بالشعر، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين وغيرهما: «أنه لعن الواصلة والمستوصلة (3) » .
والواصلة هي: التي تصل شعرها بشعر آخر، ولهذا ذكر البخاري - رحمه الله - هذا الحديث، أعني حديث معاوية في باب وصل الشعر، تنبيها منه - رحمه الله - أن اتخاذ مثل هذا الرأس الصناعي في حكم الواصل، وذلك يدل على فقهه - رحمه الله - وسعة علمه ودقة فهمه، ووجه ذلك: أنه إذا كان وصل المرأة شعرها بما يطوله أو يكثره ويكبره حراما تستحق عليه اللعنة؛ لما في ذلك من الخداع والتدليس والزور، فاتخاذ رأس كامل مزور أشد في التدليس، وأعظم في الزور والخداع، وهذا بحمد الله واضح.
فالواجب على المسلمين محاربة هذا الحدث الشنيع، وإنكاره، وعدم استعماله، كما يجب على ولاة الأمور- وفقهم الله - منعه والتحذير منه؛ عملا بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتنفيذا لمقتضاها، وحسما لمادة الفتنة، وحذرا من أسباب الهلاك والعذاب، وحماية المسلمين من مشابهة أعداء الله اليهود، وتحذيرا لهم مما يضرهم في العاجل والآجل.
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4031) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5933) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2127) ، سنن الترمذي الأدب (2781) ، سنن النسائي الزينة (5245) ، سنن أبو داود الترجل (4167) ، مسند أحمد بن حنبل (4/95) ، موطأ مالك الجامع (1765) .
(3) صحيح البخاري اللباس (5933) .(45/339)
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يفقههم في الدين، وأن يعيذهم من كل ما يخالفه، وأن يوفق ولاة أمرهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، في المعاش والمعاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(45/340)
كشاف مجلة البحوث الإسلامية
من العدد الواحد والثلاثين إلى الخامس والأربعين
1411 - 1416 هـ
إعداد عبد الله بن محمد القعود (1)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فنظرا لما للكشاف من أهمية جمة في مختلف المطبوعات من صحف ومجلات وغيرها وخاصة الإسلامية منها، وبوجه أخص ما يختص بنشر الفتاوى والبحوث والمقالات والتوجيهات في شتى جوانب الشريعة الإسلامية من علوم العقيدة والكتاب والسنة والفقه وأصوله. . إلخ، ولما في ذلك من تيسير على القارئ والباحث من الوصول إلى ما يحتاجه من الموضوعات بأقل جهد وأدنى عناء، وذلك عند الرغبة في البحث والدراسة والاطلاع، والحاجة إلى الدوريات، وكذلك الكشف عما فيه زيادة فائدة وتنمية معرفة.
وسيرا على النهج الذي سارت عليه مجلة البحوث الإسلامية بنشر كشاف للمجلة عند نهاية كل خمسة عشر عددا تصدرها المجلة، حيث سبق نشر كشافين للمجلة: تناول الكشاف الأول: الأعداد من
__________
(1) محضر بحوث شرعية بمجلة البحوث الإسلامية.(45/341)
1 - 15، والذي نشر في العدد الخامس عشر من المجلة، والكشاف الثاني: تناول الأعداد من 16- 30، والذي نشر في العدد الثلاثين. والذين قام بإعدادهما مشكورا الأستاذ أمين سليمان سيدو، لذا يسرني القيام بإعداد الكشاف الثالث للمجلة ويتناول الأعداد من 31- 45، والذي ينشر في هذا العدد الخامس والأربعين من المجلة.
وقد اتبعت في منهجي هذا ما يلي:
1 - سرت على منهج الأستاذ أمين سيدو في الكشافين السابقين ومنهج بعض المجلات الإسلامية مثل مجلة (البيان) ، من خلال الكشافين الذين صدرا للمجلة: الأول: للأعداد من 1- 36، والثاني: من 37- 56، ومجلة (الفرقان) للأعوام من 1989- 1994 م وغير ذلك من الكشافات والفهارس للمجلات الأخرى ذات الاهتمامات المشابهة.
2 - تم تقسيم كشاف المجلة بترتيب الموضوعات التي تناولتها أعداد المجلة هجائيا، وبعد نهاية الموضوعات قمت بوضع ثلاث كشافات:
الأول: كشاف بالموضوعات، والثاني: كشاف بالأعلام، والثالث: كشاف بالهيئات والمؤسسات.
3 - تم تحديد الموضوعات ثم تدوين البيانات للمقالات والموضوعات والبحوث التي نشرت بالمجلة من 30- 45، وشملت البيانات (اسم الكاتب - عنوان المقال - رقم العدد - الشهر - السنة - عدد الصفحات) .
4 - تم ترتيب رءوس الموضوعات هجائيا، وكذلك إذا تعدد الكتاب أو البحوث لكل كاتب تحت الموضوع الواحد.
5 - تم اختصار الصفحات بالنسبة للصفحة الواحدة بالرمز (ص) والصفحات من كذا إلى كذا بالرمز (ص ص) مثل: من صفحة 20 إلى نهاية صفحة 31 بالرمز (ص ص 20- 31) ، والعدد بالرمز (ع) .
6 - المدخل الرئيسي لكل مادة يبدأ باسم العائلة أو الشهرة مثل الفوزان - صالح بن فوزان، بدلا من: صالح بن فوزان الفوزان، وتم ترتيبها هجائيا تحت رءوس الموضوعات المستخدمة.(45/342)
7 - (أل) التعريف و (آل) و (ابن) و (أبو) لا تحتسب في الترتيب الهجائي.
8 - حذف الألقاب الدينية والعلمية والاجتماعية من الترتيب.
9 - قد يتكرر الموضوع أكثر من مرة مثل: " ابن الجوزي ومنهجه في التفسير " جاء في موضوع (ابن الجوزي) وفي موضوع (التفسير) .
10 - قمت بترقيم المواد تسلسليا من 1 \ 257، ليسهل الرجوع إليها من خلال: كشاف الموضوعات أو الأعلام أو الهيئات والمؤسسات.(45/343)
وفيما يلي كشاف المجلة:
الابتلاء
1 - السلمي - عبيد بن عبد العزيز.
" الفتنة والابتلاء " ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416) ص ص 261- 330.
أحكام شرعية
2 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم " ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) حاشية ص ص 126-129.
2 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار " ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 351- 359.
4 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حكم الإسلام في شعر الرأس الصناعي [الباروكة] " ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 337- 340.(45/343)
5 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حكم من يسخر من القرآن وأهله " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412) ص ص 337- 340) .
6 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" فضل صيام رمضان وقيامه مع بيان أحكام مهمة " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 317- 323.
7 - الجبرين - عبد الله بن عبد العزيز.
" جمعية الموظفين وأحكامها في الفقه الإسلامي " ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 243- 284.
8 - الجبرين - عبد الله بن عبد العزيز.
" سجود الشكر وأحكامه في الفقه الإسلامي " ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 267- 309.
9 - الحريري - محمد بن علي بن حسين.
" قيمة النقود وأحكام تغييراتها في الفقه الإسلامي " ع 40 (رجب - شوال 1414 هـ) ص ص 299- 348.
10 - ابن رجب - عبد الرحمن بن أحمد.
" أحكام الاختلاف في رؤية هلال ذي الحجة " تحقيق ودراسة عبد الله بن عبد العزيز الجبرين، ع 41 (ذو القعدة - صفر 1414- 1415 هـ) ص ص 235- 282.
11 - سلمان - محمد عوده.
" الرضاع وأحكامه " ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 319- 349.
12 - الشريف - شرف بن علي.
" الطواف وأهم أحكامه " ع 44 (ذو القعدة - صفر 1415- 1416 هـ) ص ص 177- 256.(45/344)
13 - العيسى - سليمان بن فهد بن عيسى.
" حكم الطلاق في الحيض " ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 211- 246.
14 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" حكم استعمال المياه النجسة " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 35- 59.
15 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" حول استقدام العمالة الأجنبية وما يتعلق بها من أحكام " ع 41 (ذو القعدة - صفر 1414- 1415 هـ) ص ص 39- 60.
16 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" حكم إقامة المسافر التي تقطع السفر " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 33- 77.
17 - المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
" القرار الثاني حكم الإحرام من جدة للواردين إليها من غيرها " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412 هـ ص ص 331- 333.
18 - المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
" القرار الثالث: حكم نقل الدم من امرأة إلى طفل دون سن الحولين هل يأخذ حكم الرضاع المحرم أو لا؟ وهل يجوز أخذ العوض عن هذا الدم أو لا؟ " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 343- 344.
19 - المنيع - عبد الله بن سليمان.
" بحث في حكم زكاة المال الحرام " ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 247- 268.
20 - المنيع - عبد الله بن سليمان.
" بحث في الوعد وحكم الإلزام بالوفاء به ديانة وقضاء " ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 129- 161.(45/345)
21 - المنيع - عبد الله بن سليمان.
" حكم بيع العربون " ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 159- 182.
22 - هيئة كبار العلماء.
" قرار رقم (84) وتاريخ 11 \ 11 \ 1401 هـ في بيان حكم حد الزاني المحصن " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 322- 325.
23 - هيئة كبار العلماء.
" قرار رقم (71) وتاريخ 21 \ 10 \ 1399 هـ بشأن حكم كتابة القرآن بطريقة الإملاء العادية " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 326- 328.
24 - هيئة كبار العلماء.
" قرار رقم (77) وتاريخ 21 \ 10 \ 1400 هـ حكم نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 304- 306.
أحمد بن حنبل
25 - آل فريان - الوليد بن عبد الرحمن بن محمد.
(مصطلحات الإمام أحمد - رحمه الله - تعالى) ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 327- 347.
الأخفش الأوسط
26 - الأسعد - عبد الكريم بن محمد
" الأخفش الأوسط أمقلد هو أم مجدد؟ " ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413 - 1414 هـ) ص ص 273- 352.
الادخار
27 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" الادخار [القسم الأول] " ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 27- 90.(45/346)
" الادخار [القسم الثاني] " ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 21- 89.
" الادخار [القسم الثالث] " ع 44 (ذو القعدة - صفر 1415 - 1416 هـ) ص ص 41- 116.
28 - الشويعر - محمد بن سعد.
" حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 157- 183.(45/347)
أسباب النزول
29 - الوهيبي - عبد الله بن إبراهيم.
" أسباب النزول وأثرها في تفسير القرآن الكريم " ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413 - 1414 هـ) ص ص 177- 200.
الاستشراق
30 - طه - عزيه علي.
" من افتراءات المستشرقين على أساليب المحدثين في العناية بمتون الأحاديث "
ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 279- 352.
الاستعانة بالكفار
31 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار " ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 351- 359.
استقدام العمال
32 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" حول استقدام العمالة الأجنبية وما يتعلق بها من أحكام " ع 41 (ذو القعدة - صفر 1414 - 1415 هـ) ص ص 39- 60.
33 - هيئة كبار العلماء.
" قرار رقم 103 وتاريخ 28 \ 3 \ 1403 هـ موضوع استقدام العمال(45/347)
وتشغيلهم عند غير المستقدمين " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 341- 242.
أسماء الله الحسنى
34 - البدر - عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد.
" إثبات أن المحسن اسم من أسماء الله الحسنى) ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 363- 376.
الأسهم
35 - المنيع - عبد الله بن سليمان.
" بحث في زكاة أسهم الشركات المساهمة) ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411 - 1412 هـ) ص ص 123- 148.
36 - مجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي.
" قرار رقم (3) بشأن زكاة الأسهم في الشركات " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 339- 340.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
37 - الطريقي - عبد الله بن عبد المحسن.
" الإنكار " ع 43 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 183- 228.
الأمية
38 - الصياصنة - مصطفى عيد.
" الأمية في المنظور الإسلامي " ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 121- 177.
أهل السنة
39 - المعتق - عواد بن عبد الله.
" وسطية أهل السنة في القدر " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 213- 251.(45/348)
40 - الفوزان - صالح بن فوزان.
" من أصول أهل السنة والجماعة " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412 - 1413 هـ) ص ص 141- 155.
الإيمان باليوم الآخر
41 - جلي - أحمد محمد أحمد.
" الإيمان باليوم الآخر أدلته وأثره في حياة الإنسان " ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 311- 334.
البيع
42 - سلمان - محمد عوده.
" التسعير في الفقه الإسلامي " ع 44 (ذو القعدة - صفر 1415- 1416 هـ) ص ص 337- 356.
43 - اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء.
" أنواع البيوع التي يستعملها كثير من الناس " ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 21- 112.
44 - مجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي.
" قرار رقم 76 \ 3 \ د 8 بشأن بيع العربون " ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص 182.
45 - المنيع - عبد الله بن سليمان.
" حكم بيع العربون " ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 159- 182.
تأويل الصفات
46 - النيبالي - بدر الزمان محمد شفيع.
" تأويل الصفات في كتب غريب الحديث " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 259- 277.(45/349)
تحذير
47 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" تحذير من كلمة منسوبة للشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف بعنوان [هذه وصية من الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف] " ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413 - 1414 هـ) حاشية ص ص 112- 118.
48 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" تحذير وبيان عن مؤتمر بكين للمرأة " ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 335- 336.
49 - ابن عبد الوهاب - عبد الرحمن بن حسن بن محمد.
" مخطوطة حجة التحذير في المنع من لبس الحرير " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن آل فريان، ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 167- 192.(45/350)
تحقيق النصوص
50 - ابن تيمية - أحمد.
" ذم خميس النصارى " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان، ع 44 (ذو القعدة - صفر 1415 - 1416 هـ) ص ص 357- 378.
51 - ابن رجب - عبد الرحمن بن أحمد.
" أحكام الاختلاف في رؤية هلال ذي الحجة " تحقيق ودراسة عبد الله بن عبد العزيز الجبرين، ع 41 (ذو القعدة - صفر 1414- 1415 هـ) ص ص 235- 282.
52 - ابن رجب - عبد الرحمن بن أحمد.
" فصل في وجوب إخراج الزكاة على الفور " تحقيق عبد الله بن محمد بن أحمد الطريقي، ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 119- 142.(45/350)
53 - الطوفي - سليمان بن عبد القوي.
" إيضاح البيان عن معنى أم القرآن " تحقيق علي حسين البواب، ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 335- 361.
54 - ابن عبد الوهاب - سليمان بن عبد الله بن محمد.
" الطريق الوسط في بيان عدد الجمعة المشترط " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان، ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 301- 335.
55 - ابن عبد الوهاب - عبد الرحمن بن حسن بن محمد.
" مخطوطة حجة التحذير في المنع من لبس الحرير " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن آل فريان، ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 167- 192.
56 - ابن عبد الوهاب - عبد الرحمن بن حسن بن محمد.
" الرد العادل على الجهمي الجاهل " تحقيق عبد العزيز بن عبد الله الزير آل حمد، ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413 - 1414 هـ) ص ص 147- 175.
57 - ابن عبد الوهاب - عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد.
" ذم الغلو والطعن في الولاية بغير حق " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان، ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 179- 195.
58 - ابن عبد الوهاب - محمد.
" تفسير سورة الناس " تحقيق وتعليق فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي، ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 143- 179.
التراث الإسلامي
59 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" العناية بالتراث الإسلامي " ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 7- 19.(45/351)
الترجمة
60 - الحسيسي - أحمد السيد.
" حول الترجمة الفارسية لمعاني القرآن الكريم " ع 40 (رجب - شوال 1414 هـ) ص ص 281- 298.
التشريح
61 - هيئة كبار العلماء.
" قرار رقم (47) وتاريخ 20 \ 8 \ 1396 هـ بشأن تشريح جثة الآدمي " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 319- 320.
التشريع الإسلامي
62 - أبو سعد - محمد بن محمد شتا.
" بيان الحكمة في التشريع الإسلامي " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 169- 211.
التصوف
63 - البريكان - إبراهيم بن محمد.
" التصوف في ميزان النقل والعقل " ع 41 (ذو القعدة - صفر 1414- 1415 هـ) ص ص 139- 234.
تعدد الزوجات
64 - الزهراني - محمد بن مسفر بن حسين.
" تعدد الزوجات في الإسلام " ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 227- 266.
التفسير
65 - الحسن - محمد بن علي.
" القراءات القرآنية وموقف المفسرين منها " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 185- 245.(45/352)
66 - الصالح - محمد بن أحمد.
" الوصايا العشر كما جاءت في سورة الأنعام " ع 44 (ذو القعدة - صفر 1415- 1416 هـ) ص ص 309- 336.
67 - الطوفي - سليمان بن عبد القوي.
" إيضاح البيان عن معنى أم القرآن " تحقيق علي حسين البواب، ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 335- 361.
68 - ابن عبد الوهاب - محمد.
" تفسير سورة الناس " تحقيق وتعليق فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي، ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 143- 179.
69 - مطر - أحمد فهيم.
" ابن الجوزي ومنهجه في التفسير " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 229- 258.
70 - الوهيبي - عبد الله بن إبراهيم.
" أسباب النزول وأثرها في تفسير القرآن الكريم " ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413 - 1414 هـ) ص ص 177- 200.
التقوى
71 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" وجوب التعاون على البر والتقوى " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 339- 345.
72 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
(وجوب عبادة الله وتقواه) ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 7- 19.
تنبيه
73 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" تنبيه على نشرة مكذوبة يروجها بعض الجهلة " ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 377- 379.(45/353)
التوحيد
74 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" التوحيد وأنواعه " ع 40 (رجب - شوال 1414 هـ) ص ص 7- 29.
75 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حقيقة التوحيد والشرك " ع 39 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1414 هـ) ص ص 7- 26.
التيجانية
76 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" الطريقة التيجانية " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) حاشية ص ص 71- 80.(45/354)
ابن تيمية
77 - الشويعر - محمد بن سعد.
" ابن تيمية والدفاع عن الإسلام " ع 44 (ذو القعدة - صفر 1415- 1416 هـ) ص ص 257- 308.
78 - الفريوائي - عبد الرحمن بن عبد الجبار.
" شيخ الإسلام ابن تيمية علومه ومعارفه ودعوته في شبه القارة الهندية " ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 163- 189.
جرير بن عبد الله البجلي
79 - خطاب - محمود شيت.
" جرير بن عبد الله البجلي السفير القائد " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 215- 248.
جمال الدين القاسمي
80 - الدبسي - عدنان بن صادق.
" جمال الدين القاسمي علامة الشام " ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 285- 310.(45/354)
جمعية الموظفين
81 - الجبرين - عبد الله بن عبد العزيز.
" جمعية الموظفين وأحكامها في الفقه الإسلامي " ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 243- 284.
الجهاد في سبيل الله
82 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار " ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 351- 359.
83 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حول اجتياح حاكم العراق للكويت " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 7- 32.
84 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" ليس الجهاد للدفاع فقط " ع 41 (ذو القعدة - صفر 1414- 1415 هـ) ص ص 7- 37.
85 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" وجوب نصر المسلمين المظلومين في البوسنة وغيرها على جميع المسلمين وغيرهم حسب الاستطاعة " ع 39 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1414 هـ) ص ص 383- 385.
86 - البيان الختامي لمهرجان الجهاد بجامعة الإمام.
" الشهادة بالحق في مهرجان الجهاد " ع 31 (رجب - شوال 1411- 1412 هـ) ص ص 353- 368.
87 - الشويعر - محمد بن سعد.
" مفهوم الجهاد في الإسلام " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411 - 1412 هـ) ص ص 149- 173.(45/355)
الجهمية
88 - ابن عبد الوهاب - عبد الرحمن بن حسن بن محمد.
" الرد العادل على الجهمي الجاهل " تحقيق عبد العزيز بن عبد الله الزير آل حمد، ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413 - 1414 هـ) ص ص 147- 175.
ابن الجوزي
89 - مطر - أحمد فهيم.
" ابن الجوزي ومنهجه في التفسير " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 229 - 258.
الحج
90 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" إلى حجاج بيت الله الحرام " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 229- 258.
91 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" بيان خطأ من جعل جدة ميقاتا لحجاج الجو والبحر " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 383- 387.
92 - الشريف - شرف بن علي.
" الطواف وأهم أحكامه " ع 44 (ذو القعدة - صفر 1414 - 1415 هـ) ص ص 177- 256.
93 - الفوزان - صالح بن فوزان.
" من منافع الحج وآدابه " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 141- 150.
94 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم " ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 41- 66.(45/356)
95 - مجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي.
" قرار رقم (3) بشأن الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411 - 1412 هـ) ص 335.
96 - المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي.
" القرار الثاني حكم الإحرام من جدة للواردين إليها من غيرها " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412 هـ) ص ص 331- 333.
97 - هيئة كبار العلماء.
" قرار هيئة كبار العلماء رقم (76) وتاريخ 22 \ 6 \ 1400 هـ في موضوع الاستفادة من اللحوم التي تكون في منى أيام الحج " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 297- 299.
98 - هيئة كبار العلماء.
" قرار رقم (33) وتاريخ 21 \ 10 \ 1399 هـ بشأن جعل جدة ميقاتا لركاب الطائرات الجوية والسفن البحرية " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411 - 1412 هـ) ص ص 328- 330.
99 - هيئة كبار العلماء.
" قرار رقم (77) وتاريخ 21 \ 10 \ 1400 هـ حكم نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 304- 306.
100 - هيئة كبار العلماء.
" قرار رقم (31) وتاريخ 21 \ 8 \ 1394 هـ بشأن ما لاحظ المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي وقوعه كل سنة عند رمي الجمار من الازدحام المميت " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 302- 303.(45/357)
الحديث النبوي
101 - البلوشي - عبد الغفور بن عبد الحق بن حسين.
" تفصيل المقال على حديث «كل أمر ذي بال (1) » ع 39 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1414 هـ) ص ص 151- 237.
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) .(45/357)
102 - طه عزيز علي.
" من افتراءات المستشرقين على أساليب المحدثين في العناية بمتون الأحاديث " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 279- 352.
103 - مزهر - عبد الغني بن أحمد جبر.
" أصول التصحيح والتضعيف " ع 41 (ذو القعدة - صفر 1414 - 1415 هـ) ص ص 329- 365.
104 - معتوق - صالح بن يوسف.
" ضرورة توثيق الحديث من مصادره " ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 191- 210.
105 - النيبالي - بدر الزمان محمد شفيع.
" تأويل الصفات في كتب غريب الحديث " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 259- 277.
الحق
106 - ضميرية - عثمان بن جمعة.
" الحق في الشريعة الإسلامية " ع 40 (رجب شوال 1414 هـ) ص ص 349- 377.
الحيض
107 - العيسى - سليمان بن فهد بن عيسى.
" حكم الطلاق في الحيض " ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 211- 246.
الخمر
108 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" حول الخمر والكلونيا " ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413 - 1414 هـ) ص ص 23- 84.(45/358)
الدعوة إلى الله
109 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" الدعوة إلى الله " ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 7- 26.
110 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" الدعوة إلى الله وأسلوبها المشروع " ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413- 1414 هـ) ص ص 201- 212.
111 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نصيحة للدعاة وطلبة العلم) ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 309- 312.
112 - الزيد - زيد بن عبد الكريم.
" أولويات الدعوة في منهج الأنبياء " ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 229- 242.
113 - الصالح - محمد بن أحمد.
" الدعوة إلى الله منهجها ومقوماتها " ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 163- 178.
114 - الفوزان - صالح بن فوزان.
" الدعوة إلى الله مكانتها وكيفيتها وثمراتها " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 151- 166.
الدولة
115 - ضميرية - عثمان بن جمعة.
" وظيفة الدولة في الشريعة الإسلامية) ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413 - 1414 هـ) ص ص 213 - 232.
الديات
116 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" مقدار دية الكفار من غير الكتابيين " ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة) ص ص 21- 63.(45/359)
الرأس الصناعي (الباروكة)
117 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حكم الإسلام في شعر الرأس الصناعي [الباروكة] " ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 337- 340.(45/360)
الربا
118 - الحصين - صالح بن عبد الرحمن.
" تعليق عن التفريق بين الفائدة البنكية والربا " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 123- 140.
119 - الحصين - صالح بن عبد الرحمن.
" المحاولات التوفيقية لتأنيس الفائدة) ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 101- 140.
120 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" الفوائد الربوية " ع 39 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1414 هـ) ص ص 27- 75.
الرحمة
121 - الغامدي - مسفر بن سعيد دماس.
(رحمة الله أسبابها وآثارها) ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 179- 259.
ردود
122 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" بيان خطأ من جعل جدة ميقاتا لحجاج الجو والبحر " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 383- 387.
123 - ابن عبد الوهاب - عبد الرحمن بن حسن بن محمد.
" الرد العادل على الجهمي الجاهل " تحقيق عبد العزيز بن عبد الله الزير آل حمد، ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413- 1414 هـ) ص ص 147- 175.(45/360)
ردود على شبهات
124 - ابن حميد - صالح بن عبد الله.
" بحث تلبيس مردود " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412 هـ) ص ص 175- 220.
الرضاع
125 - سلمان - محمد عوده.
" الرضاع وأحكامه " ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 319- 349.
126 - المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
" القرار الثالث: حكم نقل الدم من امرأة إلى طفل دون سن الحولين هل يأخذ حكم الرضاع المحرم أو لا؟ " وهل يجوز أخذ العوض عن هذا الدم أو لا؟ " ع 35 (ذو القاعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 343- 344.
الرفق بالحيوان
127 - العبودي - عبد الله بن حمد.
" وجوب الرفق بالحيوان " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 149- 168.
رؤية الهلال
128 - ابن رجب - عبد الرحمن بن أحمد.
" أحكام الاختلاف في رؤية هلال ذي الحجة " تحقيق ودراسة عبد الله بن عبد العزيز الجبرين، ع 41 (ذو القعدة - صفر 1414 - 1415 هـ) ص ص 235- 282.
الزراعة
129 - مزهر - عبد الغني.
" فضل الزراعة في الإسلام " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 181- 214.
الزكاة
130 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نصح وتذكير بفريضة الزكاة " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 333- 337.(45/361)
131 - الحريري - محمد بن علي بن حسين.
" أوراق النقود ونصاب الورق النقدي " ع 39 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1414 هـ) ، ص ص 239- 343.
132 - ابن رجب - عبد الرحمن بن أحمد.
" فصل في وجوب إخراج الزكاة على الفور " تحقيق عبد الله بن محمد بن أحمد الطريقي، ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 119- 142.
133 - المنيع - عبد الله بن سليمان.
" بحث في زكاة أسهم الشركات المساهمة " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412 هـ) ص ص 123- 148.
134 - المنيع - عبد الله بن سليمان.
" بحث في حكم زكاة المال الحرام " ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 247- 268.
135 - مجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي.
" قرار رقم (3) بشأن زكاة الأسهم في الشركات " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412 - 1413 هـ) ص ص 339- 340.
136 - المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
" القرار الأول بشأن زكاة أجور العقار " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 300- 301.
الزنا
137 - هيئة كبار العلماء.
" قراء رقم (84) وتاريخ 11 \ 11 \ 1401 هـ في بيان حكم حد الزاني المحصن " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 322- 325.
الزواج
138 - الجبرين - عبد الله بن عبد العزيز.
" ولاية تزويج الصغيرة " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 249- 284.(45/362)
139 - الزهراني - محمد بن مسفر بن حسين.
" تعدد الزوجات في الإسلام " ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 227- 266.
140 - شهوان - رجب سعيد.
" حكمة الزواج ومنافعه " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 285- 320.
زيارة قبور الأولياء
141 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" زيارة قبور الأولياء " ع 41 (ذو القعدة - صفر 1414 - 1415 هـ) ص ص 367- 369.
زيد بن ثابت
142 - قلعجي - محمد رواس.
" الفقيه المفتي زيد بن ثابت - رضي الله عنه - مفتي الصحابة " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 193- 227.
سجود الشكر
143 - الجبرين - عبد الله بن عبد العزيز.
" سجود الشكر وأحكامه في الفقه الإسلامي " ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 267- 309.(45/363)
السفر
144 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" حكم إقامة المسافر التي تقطع السفر " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 33- 77.
الشاطبي - أبو القاسم
145 - الأمين - محمد سيدي محمد.
" بغية الطالبي في ترجمة أبي القاسم الشاطبي " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 247- 300.(45/363)
الشرك
146 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حقيقة التوحيد والشرك " ع 39 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1414 هـ) ص ص 7- 26.
147 - المعتق - عواد بن عبد الله.
" بعض أنواع الشرك الأصغر " ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 197- 246.
الشركات
148 - الأطرم - صالح بن عبد الرحمن.
" شركة الأبدان " ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 349- 381.
149 - مجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي.
" قرار رقم (3) بشأن زكاة الأسهم في الشركات " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412 - 1413 هـ) ص ص 339- 340.
150 - المنيع - عبد الله بن سليمان.
" بحث في زكاة أسهم الشركات المساهمة) ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412 هـ) ص ص 123- 148.
الشريعة الإسلامية
151 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" بيان كفر وضلال من زعم أنه يجوز لأحد الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - " ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 373- 379.
152 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" الشريعة الإسلامية ومحاسنها وضرورة البشر إليها " ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 7- 40.
153 - ضميرية - عثمان بن جمعة.
" الحق في الشريعة الإسلامية " ع 40 (رجب - شوال 1414 هـ) ص ص 349- 377.(45/364)
154 - ضميرية - عثمان بن جمعة.
" وظيفة الدولة في الشريعة الإسلامية " ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413 - 1414 هـ) ص ص 213 - 232.
الشعر
155 - الصياصنة - مصطفى عيد.
" ذميم الشعر في التصور الإسلامي " ع 39 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1414 هـ) ص ص 345- 377.
الشهادة بالحق
156 - البيان الختامي لمهرجان الجهاد - جامعة الإمام.
" الشهادة بالحق في مهرجان الجهاد " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 353- 368.
الشهادة في سبيل الله
157 - الغامدي - مسفر بن سعيد دماس.
" الشهادة في سبيل الله في الكتاب والسنة " ع 41 (ذو القعدة - صفر 1414 - 1415 هـ) ص ص 283- 328.
الصلاة
158 - المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
" القرار الثالث حول أوقات الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية الدرجات " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 369- 372.
صلاة الاستسقاء
159 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نصيحة في فضل صلاة الاستسقاء " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 313- 315.(45/365)
صلاة الجمعة
160 - ابن عبد الوهاب - سليمان بن عبد الله بن محمد.
" الطريق الوسط في بيان عدد الجمعة المشترط " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان، ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412 - 1413 هـ) ص ص 301- 335.(45/366)
الصيام
161 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" فضل صيام رمضان وقيامه مع بيان أحكام مهمة " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 317- 323.
162 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نصيحة تتعلق بفضل صيام رمضان وقيامه " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412 هـ) ص ص 315- 320.
163 - المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
" القرار الثالث حول أوقات الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية الدرجات " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 369- 372.
الطب
164 - المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
" القرار الثالث: حكم نقل الدم من امرأة إلى طفل دون سن الحولين هل يأخذ حكم الرضاع المحرم أو لا؟ وهل يجوز أخذ العوض عن هذا الدم أو لا؟ " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 343- 344.
165 - هيئة كبار العلماء.
" قرار رقم (47) وتاريخ 20 \ 8 \ 1396 هـ بشأن تشريح جثة الآدمي " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 319- 320.(45/366)
الطلاق
166 - العيسى - سليمان بن فهد بن عيسى.
" حكم الطلاق في الحيض " ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 211- 246.
الظروف الطارئة
167 - المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
" القرار السابع بشأن الظروف الطارئة وتأثيرها في الحقوق والالتزامات العقدية " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411 هـ) ص ص 321- 327.
عادات وافدة
168 - الشويعر - محمد بن سعد.
" عادات وافدة يجب الحذر منها " ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413- 1414 هـ) ص ص 233- 271.
العبادة
169 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
(وجوب عبادة الله وتقواه) ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 7- 19.
عبد الله القرعاوي
170 - الشويعر - محمد بن سعد.
" الشيخ عبد الله القرعاوي مجدد الدعوة في الجنوب 1315- 1389 هـ " ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 269- 325.
العلم
171 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" العلم وأخلاق أهله " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412 هـ) ص ص 7- 15.(45/367)
172 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نصيحة للدعاة وطلبة العلم " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 309- 312.
عمرو بن شعيب
173 - الجاسم - عبد العزيز بن أحمد.
" عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وتحقيق القول فيه " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411 - 1412 هـ) ص ص 299- 313.
العمل الصالح
174 - السوالمة - عبد الله بن مرحول.
" المبادرة والمسابقة إلى الأعمال الصالحة وأثره على الرعيل الأول من هذه الأمة " ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 247- 297.
عمل المرأة
175 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حول توظيف النساء في الدوائر الحكومية " ع 39 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1414 هـ) ص ص 379- 382.
الغلو
176 - ابن عبد الوهاب - عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد.
" ذم الغلو والطعن في الولاية بغير حق " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان، ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 179- 195.(45/368)
الفتاوى
177 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز "،
ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 109- 121.
ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412 هـ) ص ص 109- 121.
ع 33) (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 105- 117.
ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 133- 147.(45/368)
ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412 - 1413 هـ) ص ص 93- 100.
ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 121- 128.
ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 167- 177.
ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413- 1414 هـ) ص ص 129- 146.
ع 39 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1414 هـ) ص ص 133- 150.
ع 40 (رجب - شوال 1414 هـ) ص ص 135- 166.
ع 41 (ذو القعدة - صفر 1414- 1415 هـ) ص ص 117- 137.
ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 131- 162.
ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 135- 157.
ع 44 (ذو القعدة - صفر 1415 - 1416 هـ) ص ص 161- 176.
ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 105- 120.
178 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ".
ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 67- 108.
ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412 هـ) ص ص 67- 108.
ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 53- 104.
ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 79- 132.
ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 61- 92.
ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 65- 120.
ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 131- 166.
ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413- 1414 هـ) ص ص 85- 128.
ع 39 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1414 هـ) ص ص 77- 132.
ع 40 (رجب - شوال 1414 هـ) ص ص 85- 134.
ع 41 (ذو القعدة - صفر 1414- 1415 هـ) ص ص 61- 115.
ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 91- 130.
ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 91- 134.
ع 44 (ذو القعدة - صفر 1415 - 1416 هـ) ص ص 117- 160.
ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 67- 103.(45/369)
الفتن
179 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" موقف المؤمن من الفتن " ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 7- 20.
180 - السلمي - عبيد بن عبد العزيز.
" الفتنة والابتلاء " ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 261- 330.
الفقه الإسلامي
181 - الجبرين - عبد الله بن عبد العزيز.
" جمعية الموظفين وأحكامها في الفقه الإسلامي " ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 243- 284.
182 - الجبرين - عبد الله بن عبد العزيز.
" سجود الشكر وأحكامه في الفقه الإسلامي " ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 267- 309.
183 - الحريري - محمد بن علي بن حسين.
" قيمة النقود وأحكام تغييراتها في الفقه الإسلامي " ع 40 (رجب - شوال 1414 هـ) ص ص 299- 348.
184 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة الحكم به [القسم الأول] " ع 31 (رجب - شوال 1411) ص ص 17- 57.
" تدوين الراجح من أقوال الفقهاء. . [القسم الثاني] " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411 - 1412 هـ) ص ص 19- 65.
" تدوين الراجح من أقوال الفقهاء. . [القسم الثالث " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 19- 52.
185 - هيئة كبار العلماء.
" قرار هيئة كبار العلماء رقم (8) تدوين الراجح من أقوال(45/370)
الفقهاء لإلزام القضاة العمل به " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 58- 65.
القرآن الكريم
186 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حكم من يسخر من القرآن وأهله " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412 هـ) ص ص 337- 340.
187 - الحسن - محمد بن علي.
" القراءات القرآنية وموقف المفسرين منها " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 185- 245.
188 - الحسيسي - أحمد السيد.
" حول الترجمة الفارسية لمعاني القرآن الكريم " ع 40 (رجب - شوال 1414 هـ) ص ص 281- 298.
189 - المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
" القرار الثامن بشأن تسجيل القرآن على شريط الكاسيت " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412 - 1413 هـ) ص ص 337- 338.
190 - هيئة كبار العلماء.
" قرار رقم (71) وتاريخ 21 \ 10 \ 1399 هـ بشأن حكم كتابة القرآن بطريقة الإملاء العادية " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 326- 328.(45/371)
القضاء
191 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة الحكم به [القسم الأول] " ع 31 (رجب - شوال 1411) ص ص 17- 57.(45/371)
" تدوين الراجح من أقوال الفقهاء. . [القسم الثاني] " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412 هـ) ص ص 19- 65.
" تدوين الراجح من أقوال الفقهاء. . [القسم الثالث] " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 19- 52.
192 - هيئة كبار العلماء.
" قرار هيئة كبار العلماء رقم (8) تدوين الراجح من أقوال الفقهاء لإلزام القضاة العمل به " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 58- 65.
القضاء والقدر
193 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" القضاء والقدر " ع 44 (ذو القعدة - صفر 1415- 1416 هـ) ص ص 379- 386.
194 - المعتق - عواد بن عبد الله.
" وسطية أهل السنة في القدر " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 213- 251.
كبائر الذنوب
195 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412 (1413 هـ) ص ص 345- 349.
كتب نقد وتعريف
196 - حياني - محمد بن عبد الله.
" بعض ما يلاحظ على كتاب مفتاح كنوز السنة " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 253- 295.
197 - النيبالي - بدر الزمان محمد شفيع.
" تأويل الصفات في كتب غريب الحديث " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 259- 277.(45/372)
لبس الحرير
198 - ابن عبد الوهاب - عبد الرحمن بن حسن بن محمد.
" مخطوطة حجة التحذير من لبس الحرير " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن الفريان، ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 167- 192.
اللحوم
199 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم " ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 41- 66.
200 - هيئة كبار العلماء.
" قرار هيئة كبار العلماء رقم (76) وتاريخ 22 \ 6 \ 1400 هـ في موضوع الاستفادة من اللحوم التي تكون في منى أيام الحج " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 297- 299.
201 - هيئة كبار العلماء.
" قرار رقم (77) وتاريخ 21 \ 10 \ 1400 هـ حكم نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 304- 306.
المال الحرام
202 - المنيع - عبد الله بن سليمان.
" بحث في حكم زكاة المال الحرام " ع 42 (رجب - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 247- 268.
المجاز
203 - الصياصنة - مصطفى عيد.
" بطلان أدلة المجاز " ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 299- 317.
المخدرات
204 - السدلان - صالح بن غانم.
" المخدرات والعقاقير النفسية أضرارها وسلبياتها السيئة على الفرد والمجتمع وطرق مكافحتها والوقاية منها " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411 - 1412 هـ) ص ص 221- 297.(45/373)
المرأة
205 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" تحذير وبيان عن مؤتمر بكين للمرأة " ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 335- 336.
206 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حول توظيف النساء في الدوائر الحكومية " ع 39 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1414 هـ) ص ص 379- 382.
207 - هيئة كبار العلماء.
" بيان من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية حول المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة " ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة) ص ص 331- 334.
المصارف
208 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" الادخار [القسم الأول] " ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 27- 90.
" الادخار [القسم الثاني] " ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 21- 89.
" الادخار [القسم الثالث] " ع 44 (ذو القعدة - صفر 1415- 1416 هـ) ص ص 41- 116.
209 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" التحويلات المصرفية " ع 40 (رجب - شوال 1414 هـ) ص ص 31- 84.
مصطلحات الحنابلة
210 - آل فريان - الوليد بن عبد الرحمن بن محمد.
" مصطلحات الإمام أحمد رحمه الله تعالى " ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 327- 347.(45/374)
المعاملات
211 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" وجوب الصدق والنصح في المعاملات " ع 40 رجب - شوال 1414 هـ) ص ص 379- 380.
مناهي شرعية
212 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" بيان كفر وضلال من زعم أنه يجوز لأحد الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - " ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 373- 379.
213 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" تحذير وبيان عن مؤتمر بكين للمرأة " ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 335- 336.
214 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حكم من يسخر من القرآن وأهله " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412) ص ص 337- 340.
215 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" زيارة قبور الأولياء " ع 41 (ذو القعدة - صفر 1414 - 1415 هـ) ص ص 367- 369.
216 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نصيحة مهمة عامة حول بعض الأمور المنكرة التي وقع فيها كثير من الناس " ع 33 (ربيع الأول جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 7- 17.
217 - ابن تيمية - أحمد.
" ذم خميس النصارى " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان، ع 44 (ذو القعدة - صفر 1415 - 1416 هـ) ص ص 357- 378.
218 - ابن عبد الوهاب - عبد الرحمن بن حسن بن محمد.
" مخطوطة حجة التحذير من لبس الحرير " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن الفريان، ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 167- 192.(45/375)
219 - ابن عبد الوهاب - عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد.
" ذم الغلو والطعن في الولاية بغير حق " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان، ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 179- 195.
220 - الشويعر - محمد بن سعد.
" عادات وافدة يجب الحذر منها " ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413- 1414 هـ) ص ص 233- 271.
مؤتمر
221 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" تحذير وبيان عن مؤتمر بكين للمرأة " ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 335- 336.
222 - هيئة كبار العلماء.
" بيان من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية حول المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة " ع 45 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1416 هـ) ص ص 331 - 334.
223 - هيئة كبار العلماء.
" بيان هيئة كبار العلماء بالمملكة رقم (179) وتاريخ 23 \ 3 \ 1415 هـ حول المؤتمر الدولي للسكان والتنمية " ع 42 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1415 هـ) ص ص 383- 388.
مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -
224 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" حكم الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - " ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) حاشية ص ص 126- 129.
المياه
225 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" حكم استعمال المياه النجسة " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 35- 59.(45/376)
نداء
226 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نداء من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لكافة المسلمين " ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413 - 1414 هـ) ص ص 7- 21.
النصرانية
227 - ابن تيمية - أحمد.
" ذم خميس النصارى " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان، ع 44 (ذو القعدة - صفر 1415- 1416 هـ) ص ص 357- 378.
228 - ابن حميد - صالح بن عبد الله.
" بحث تلبيس مردود " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412 هـ) ص ص 175- 220.
229 - الشويعير - محمد بن سعد.
" عادات وافدة يجب الحذر منها " ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413 - 1414 هـ) ص ص 233- 271.
نصيحة
230 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نصح وتذكير بفريضة الزكاة " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الثاني 1412 هـ) ص ص 233- 237.
231 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نصيحة تتعلق بفضل صيام رمضان وقيامه " ع 32 (ذو القعدة - صفر 1411- 1412 هـ) ص ص 315- 320.
232 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب " ع 35 (ذو الحجة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 345- 349.
233 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نصيحة في فضل صلاة الاستقاء " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 313- 315.(45/377)
234 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نصيحة للدعاة وطلبة العلم " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 309- 312.
235 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نصيحة مهمة عامة حول بعض الأمور المنكرة التي وقع فيها كثير من الناس " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 7- 17.
236 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نصيحة هامة إلى جميع الأمة " ع 44 (ذو القعدة - صفر 1415 هـ) ص ص 7- 40.
واجب المسلمين
237 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" واجب المسلمين تجاه دينهم ودنياهم " ع 35 (ذو القعدة - صفر 1412- 1413 هـ) ص ص 7- 34.
238 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" وجوب التعاون على البر والتقوى " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 339- 345.
239 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" وجوب الصدق والنصح في المعاملات " ع 40 (رجب - شوال 1414 هـ) ص ص 379- 380.
240 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
(وجوب عبادة الله وتقواه) ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 7- 19.
241 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" وجوب نصر المسلمين المظلومين في البوسنة وغيرها على جميع المسلمين وغيرهم حسب الاستطاعة " ع 39 (ربيع الأول - جمادى الآخرة) ص ص 383- 385.(45/378)
242 - ابن رجب - عبد الرحمن بن أحمد.
" فصل في وجوب إخراج الزكاة على الفور " تحقيق عبد الله بن محمد بن أحمد الطريقي، ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 119- 142.
الورق النقدي
243 - الحريري - محمد بن علي بن حسين.
" أوراق النقود ونصاب الورق النقدي " ع 39 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1414 هـ) ص ص 239- 343.
244 - الحريري - محمد بن علي بن حسين.
" قيمة النقود وأحكام تغييراتها في الفقه الإسلامي " ع 40 (رجب - شوال 1414 هـ) ص ص 299- 348.
245 - المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
" القرار السادس حول العملة الورقية " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 373- 375.
246 - هيئة كبار العلماء.
" قرار هيئة كبار العلماء رقم (10) بشأن الأوراق النقدية " ع 31 (رجب - شوال 1411 هـ) ص ص 373- 375.
الوسطية في الإسلام
247 - المعتق - عواد بن عبد الله.
" وسطية أهل السنة في القدر " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 213- 251.
الوصايا
248 - الصالح - محمد بن أحمد.
" الوصايا العشر كما جاءت في سورة الأنعام " ع 44 (ذو القعدة - صفر 1415- 1416 هـ) ص ص 309- 336.(45/379)
الوعد
249 - المنيع - عبد الله بن سليمان.
" بحث في الوعد وحكم الإلزام بالوفاء به ديانة وقضا " ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 129- 161.
الوقف
250 - الزيد - عبد الله بن أحمد.
" أهمية الوقف وحكمة مشروعيته " ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1413 هـ) ص ص 179- 225.
251 - المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.
" القرار الحادي عشر بشأن صرف ريع الوقف " ع 34 (رجب - شوال 1412 هـ) ص ص 307- 308.
الولاية
252 - ابن عبد الوهاب - عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد.
" ذم الغلو والطعن في الولاية بغير حق " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان، ع 37 (رجب - شوال 1413 هـ) ص ص 179- 195.
253 - الجبرين - عبد الله بن عبد العزيز.
" ولاية تزويج الصغيرة " ع 33 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1412 هـ) ص ص 249- 284.
اليهود
254 - ابن باز - عبد العزيز بن عبد الله.
" نداء من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة للمسلمين كافة من العرب وغيرهم في كل مكان " ع 38 (ذو القعدة - صفر 1413- 1414 هـ) ص ص 7- 21.(45/380)
يوم القيامة
255 - جلي - أحمد محمد أحمد.
" الإيمان باليوم الآخر وأدلته وأثره في حياة الإنسان " ع 36 (ربيع الأول - جمادى الآخرة " ص ص 311- 334.
256 - الحارثي - دوخي بن زيد بن علي.
" من أحوال يوم القيامة " ع 40 (رجب - شوال 1414 هـ) ص ص 167 - 217.
257 - الحارثي - دوخي بن زيد بن علي.
" من مشاهد يوم القيامة " ع 43 (رجب - شوال 1415 هـ) ص ص 311- 372.(45/381)
أولا: كشاف بالموضوعات
الابتلاء
1 أحكام شرعية
2 - 24 أحمد بن حنبل
25 الأخفش الأوسط
26 الادخار
27 أسامة بن زيد
28 أسباب النزول
29 الاستشراق
30 الاستعانة بالكفار
31 استقدام العمال
23 -33 أسماء الله الحسنى
34 الأسهم
35 -36 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
37 الأمية
38 أهل السنة
39 - 40 الإيمان باليوم الآخر
41 البيع
42 - 45 تأويل الصفات
46 تحذير
47 - 49 تحقيق النصوص
50 - 58 التراث الإسلامي
59 الترجمة
60 التشريح
61(45/382)
التشريع الإسلامي
62 التصوف
63 تعدد الزوجات
64 التفسير
65 - 70 التقوى
71 -72 تنبيه
73 التوحيد
74 - 75 التيجانية
76 ابن تيمية
77 - 78 جرير بن عبد الله البجلي
79 جمال الدين القاسمي
80 جمعية الموظفين
81 الجهاد في سبيل الله
82 -87 الجهمية
88 ابن الجوزي
89 الحج
90 -100 الحديث النبوي
101 - 105 الحق
106 الحيض 10750 الخمر
108 الدعوة إلى الله
109 - 114 الدولة
115 الديات
116 الرأس الصناعي (الباروكة)
117 الربا
118 - 120(45/383)
الرحمة
121 ردود
122 - 123 ردود على شبهات
124 الرضاع
125 - 126 الرفق بالحيوان
127 رؤية الهلال
128 الزراعة
129 الزكاة
130 - 136 الزنا
137 الزواج
138 - 140 زيارة قبور الأولياء
141 زيد بن ثابت
142 سجود الشكر
143 السفر
144 الشاطبي: أبو القاسم
145 الشرك
146 - 147 الشركات
148 - 150 الشريعة الإسلامية
151 - 154 الشعر
155 الشهادة بالحق
156 الشهادة في سبيل الله
157 الصلاة
158 صلاة الاستسقاء
159 صلاة الجمعة
160 الصيام
161 - 163(45/384)
الطب
164 - 165 الطلاق
166 الظروف الطارئة
167 عادات وافدة
168 العبادة
169 عبد الله القرعاوي
170 العلم
171 - 172 عمرو بن شعيب
173 العمل الصالح
174 عمل المرأة
175 الغلو
176 الفتاوى
177 - 178 الفتن
179 - 180 الفقه الإسلامي
181 - 185 القرآن الكريم
186 - 190 القضاء
191 - 192 القضاء والقدر
193 - 194 كبائر الذنوب
195 كتب: نقد وتعريف
196 - 197 لبس الحرير
198 اللحوم
199 - 201 المال الحرام
202 المجاز
203 المخدرات
204 المرأة
205 - 207(45/385)
المصارف
208 - 209 مصطلحات الحنابلة
210 المعاملات
211 مناهي شرعية
212 - 220 مؤتمر
221 - 223 مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -
224 المياه
225 نداء
226 النصرانية
227 - 229 نصيحة
230 - 236 واجب المسلمين
237 - 242 الورق النقدي
243 - 246 الوسطية في الإسلام
247 الوصايا
248 الوعد
249 الوقف
250 - 251 الولاية
252 - 253 اليهود
254 يوم القيامة
255 - 257(45/386)
ثانيا: كشاف بالأعلام
الأخفش الأوسط
26 الأسعد: عبد الكريم بن محمد.
26 الأطرم: صالح بن عبد الرحمن.
148 الأمين: محمد سيدي محمد.
145 ابن باز: عبد العزيز بن عبد الله (بحوث ومقالات) .
2 - 6، 31، 47، 48، 59، 71 -75، 82 - 85، 90، 91، 109، 111، 117، 122، 130، 141، 146، 151، 152، 159، 161، 162، 169، 171، 172، 175، 179، 188، 193، 195، 205، 206، 211 - 216، 221، 224، 226، 230 - 241، 254. ابن باز: عبد العزيز بن عبد الله (فتاوى) .
177 البجلي: جرير بن عبد الله.
79 البدر: عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد.
34 البريكان: إبراهيم بن محمد البريكان.
63 البلوشي: عبد الغفور بن عبد الحق بن حسين.
101 البواب: علي بن حسين.
53، 67 ابن تيمية
50، 77، 78، 217، 227 ابن ثابت: زيد
142 الجاسم: عبد العزيز بن أحمد.
173 الجبرين: عبد الله بن عبد العزيز.
7، 8، 10، 51، 81، 128، 138، 143، 181، 182، 253(45/387)
جلي: أحمد محمد أحمد.
41، 255 ابن الجوزي.
69، 89 الحارثي: دوخي بن زيد بن علي.
256، 257 الحريري: محمد بن علي بن حسين.
9، 131، 184، 243، 244 الحسن: محمد بن علي.
65، 187 الحسيسي: أحمد السيد.
60، 188 الحصين: صالح بن عبد الرحمن.
118، 119 آل حمد: عبد العزيز بن عبد الله الزير.
56، 88، 123 ابن حميد: صالح بن عبد الله.
124، 228 ابن حنبل: أحمد.
25، 210 حياني: محمد بن عبد الله.
196 خطاب: محمود شيت.
79 الدبسي: عدنان بن صادق.
80 ابن رجب: عبد الرحمن بن أحمد.
10، 51، 52، 128، 132، 242، الزهراني: محمد بن مسفر بن حسين.
64، 139 ابن زيد: أسامة.
28 الزيد: زيد بن عبد الكريم.
112 الزيد: عبد الله بن أحمد.
250 السدلان: صالح بن غانم.
204 أبو سعد: محمد بن محمد شتا.
62 سلمان: محمد عوده.
11، 42، 125 السلمي: عبيد بن عبد العزيز.
1، 180 السوالمه: عبد الله بن مرحول.
174 الشاطبي: أبو القاسم.
145 الشريف: شرف بن علي.
12، 92(45/388)
ابن شعيب: عمرو
173 شهوان: رجب سعيد
140 الشويعر: محمد بن سعد
28، 77، 87، 168، 170، 220، 229 الصالح: محمد بن أحمد
66، 113، 249 الصياصنة: مصطفى عيد
38، 155 ضميرية: عثمان بن جمعة
106، 115، 153، 154، الطريقي: عبد الله بن عبد المحسن
37 الطريقي: عبد الله بن محمد بن أحمد
52، 132، 242 طه: عزيه علي
30، 102 الطوفي: سليمان بن عبد القوي
53، 67 ابن عبد الوهاب: سليمان بن عبد الله بن محمد
54، 160 ابن عبد الوهاب: عبد الرحمن بن حسن بن محمد
49، 55، 56، 88، 123، 198، 218 ابن عبد الوهاب: عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد
57، 176، 219، 252 ابن عبد الوهاب: محمد
58، 68 العبودي: عبد الله بن حمد
126 العيسى: سليمان بن فهد بن عيسى
13، 107، 165 الغامدي: مسفر بن سعيد دماس
156 آل فريان: الوليد بن عبد الرحمن
25، 49، 50، 54، 55، 57، 159، 174، 208، 215، 217، 226، 250 الفريوائي: عبد الرحمن بن عبد الجبار
78 الفوزان: صالح بن فوزان
40، 93، 114 القاسمي: جمال الدين
80(45/389)
القرعاوي: عبد الله
169 قلعجي: محمد رواس
141 مزهر: عبد الغني بن أحمد جبر
103، 128 مطر: أحمد فهيم
69، 89 المعتق: عواد بن عبد الله
39، 146، 192، 245 معتوق: صالح بن يوسف
104 المنيع: عبد الله بن سليمان
19 - 21، 35، 45، 132، 133، 149، 200، 247 النيبالي: بدر الزمان محمد شفيع
46، 105، 195 الوهيبي: عبد الله بن إبراهيم
29، 70(45/390)
كشاف بالهيئات والمؤسسات
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
86، 156 اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (بحوث)
14 - 16، 27، 32، 76، 94، 116، 120، 144، 184، 191، 199، 208، 209، 225 اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (فتاوى)
178 مجمع الفقه الإسلامي بمنظمة المؤتمر الإسلامي
36، 44، 95، 135، 149 المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي
17، 18، 96، 126، 136، 158، 163، 164، 167، 189، 245، 251 هيئة كبار العلماء (بيان)
207، 222، 223 هيئة كبار العلماء (قرار)
22 - 24، 33، 61، 97 - 100، 137، 165، 185، 190، 192، 200، 226(45/390)
حديث شريف
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم: هل رأيت خيرا قط، هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط، هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط (1) » .
رواه مسلم
__________
(1) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2807) ، مسند أحمد بن حنبل (3/203) .(45/391)
بسم الله الرحمن الرحيم
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (1)
(سورة آل عمران الآية 110)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110(46/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(46/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(46/3)
المحتويات
الافتتاحية
هكذا حج رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتمر لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة
من صور البورصة (القسم الأول) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 19
الفتاوى
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 141
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 189(46/4)
البحوث
بحث في الربا والصرف للشيخ / عبد الله بن سليمان المنيع 203
تقرير عن المنجد في اللغة والأعلام للدكتور / محمد بن أحمد الصالح 243
مصادر العقيدة الإسلامية ودور العقل للشيخ / عثمان بن جمعة ضميرية 251
رسالة في العمل بالخطوط عند الحكام للدكتور / عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودي 299
الاختلاف في الدين أسبابه وأحكامه للدكتور / إبراهيم بن محمد البريكان 325
نصيحة مهمة عامة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 369(46/5)
صفحة فارغة(46/6)
الافتتاحية
هكذا حج رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتمر
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون من حجاج بيت الله الحرام:
أسأل الله لنا ولكم التوفيق لما يرضيه، والعافية من مضلات الفتن، كما أسأله سبحانه أن يوفقكم جميعا لأداء مناسككم على الوجه الذي يرضيه، وأن يتقبل منكم وأن يردكم إلى بلادكم سالمين موفقين إنه خير مسئول.
أيها المسلمون: إن وصيتي للجميع هي: تقوى الله سبحانه في جميع الأحوال، والاستقامة على دينه والحذر من أسباب غضبه. وإن أهم الفرائض وأعظم الواجبات هو توحيد الله والإخلاص له في جميع العبادات، مع العناية باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأعمال، وأن تؤدوا مناسك الحج وسائر العبادات على الوجه الذي شرعه الله لعباده على لسان رسوله وخليله وصفوته من خلقه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وإن أعظم المنكرات وأخطر الجرائم هو الشرك بالله سبحانه، وهو صرف(46/7)
العبادة أو بعضها لغيره سبحانه؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ، وقوله سبحانه يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) .
حجاج بيت الله الحرام: إن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد هجرته إلى المدينة إلا حجة واحدة وهي حجة الوداع، وذلك في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وقد علم الناس فيها مناسكهم بقوله وفعله، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم (3) » .
فالواجب على المسلمين جميعا أن يتأسوا به في ذلك، وأن يؤدوا مناسكهم على الوجه الذي شرعه لهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المعلم المرشد وقد بعثه الله رحمة للعالمين، وحجة على العباد أجمعين، وأمر الله عباده بأن يطيعوه، وبين أن اتباعه هو سبب دخول الجنة والنجاة من النار، وأنه الدليل على صدق حب العبد لربه، وعلى حب الله للعبد، كما قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (4) ، وقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (5) ، وقال عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (6) ، وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (7)
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة الزمر الآية 65
(3) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) سورة النور الآية 56
(6) سورة النساء الآية 80
(7) سورة الأحزاب الآية 21(46/8)
وقال سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2) ، وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3) ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فوصيتي لكم جميعا ولنفسي: تقوى الله في جميع الأحوال، والصدق في متابعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، لتفوزوا بالسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.
حجاج بيت الله الحرام، إن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الثامن من ذي الحجة توجه من مكة المكرمة إلى منى ولم يأمر بطواف الوداع، فدل ذلك على أن السنة لمن أراد الحج من أهل مكة وغيرهم من المقيمين فيها، ومن المحلين من عمرتهم وغيرهم من الحجاج أن يتوجهوا إلى منى في اليوم الثامن ملبين بالحج،
__________
(1) سورة النساء الآية 13
(2) سورة النساء الآية 14
(3) سورة الأعراف الآية 158
(4) سورة آل عمران الآية 31(46/9)
وليس عليهم أن يذهبوا إلى المسجد الحرام للطواف بالكعبة طواف الوداع.
ويستحب للمسلم عند إحرامه بالحج أن يفعل ما يفعله في الميقات عند الإحرام من الغسل والطيب والتنظيف، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بذلك لما أرادت الإحرام بالحج، وكانت قد أحرمت بالعمرة فأصابها الحيض عند دخول مكة، وتعذر عليها الطواف قبل خروجها إلى منى، فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتهل بالحج ففعلت ذلك، فصارت قارنة بين الحج والعمرة.
وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في منى الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، والفجر، قصرا دون جمع، وهذا هو السنة تأسيا به صلى الله عليه وسلم، ويسن للحجاج في هذه الرحلة أن يشتغلوا بالتلبية، وبذكر الله عز وجل، وقراءة القرآن، وغير ذلك من وجوه الخير: كالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإحسان إلى الفقراء. فلما طلعت الشمس يوم عرفة توجه صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى عرفات منهم من يلبي ومنهم من يكبر، فلما وصل عرفات نزل بقبة من شعر ضربت له بنمرة غربي عرفة واستظل بها عليه الصلاة والسلام، فدل ذلك على جواز أن يستظل الحجاج بالخيام والشجر ونحوها.
فلما زالت الشمس ركب دابته عليه الصلاة والسلام وخطب الناس وذكرهم وعلمهم مناسك حجهم، وحذرهم من الربا وأعمال الجاهلية، وأخبرهم أن دماءهم وأموالهم وأعراضهم عليهم حرام،(46/10)
وأمرهم بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم أنهم لن يضلوا ما داموا معتصمين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالواجب على جميع المسلمين أن يلتزموا بهذه الوصية، وأن يستقيموا عليها أينما كانوا، ويجب على حكام المسلمين جميعا أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يحكموهما في جميع شئونهم، وأن يلزموا شعوبهم بالتحاكم إليهما، وذلك هو طريق العزة والكرامة والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة. وفق الله الجميع لذلك.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم صلى بالناس الظهر والعصر قصرا وجمعا، جمع تقديم بأذان وإقامتين بعد زوال الشمس، ولم يصل بينهما شيئا، ثم توجه إلى الموقف واستقبل القبلة ووقف على دابته يذكر الله ويدعوه ويرفع يديه بالدعاء حتى غابت الشمس، وكان مفطرا ذلك اليوم. فعلم بذلك أن المشروع للحجاج أن يفعلوا كفعله صلى الله عليه وسلم في عرفات، وأن يشتغلوا بذكر الله والدعاء والتلبية إلى غروب الشمس، وأن يرفعوا أيديهم بالدعاء، وأن يكونوا مفطرين لا صائمين، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من يوم أكثر عتقا من النار من يوم عرفة وإنه سبحانه ليدنو فيباهي بهم ملائكته (1) » ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم: «أن الله يقول يوم عرفة لملائكته: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا يرجون رحمتي، أشهدكم أني قد غفرت لهم (2) » ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف (3) » ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الغروب توجه ملبيا إلى مزدلفة وصلى بها المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين، بأذان واحد
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1348) ، سنن النسائي مناسك الحج (3003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3014) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/224) .
(3) صحيح مسلم الحج (1218) ، سنن أبو داود المناسك (1907) .(46/11)
وإقامتين قبل حط الرحال، ولم يصل بينهما شيئا. فدل ذلك على أن المشروع لجميع الحجاج المبادرة بصلاة المغرب والعشاء جمعا وقصرا بأذان واحد وإقامتين، من حين وصولهم إلى مزدلفة قبل حط الرحال، ولو كان ذلك في وقت المغرب تأسيا به صلى الله عليه وسلم وعملا بسنته. ثم بات بها وصلى بها الفجر مع سنتها بأذان وإقامة. ثم أتى المشعر فذكر الله عنده وكبره وهلله ودعا ورفع يديه وقال: «وقفت هاهنا وجمع كلها موقف (1) » ، فدل ذلك على أن جميع مزدلفة موقف للحجاج، يبيت كل حاج في مكانه ويذكر الله ويستغفره في مكانه، ولا حاجة إلى أن يتوجه إلى موقف النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مزدلفة للضعفة أن ينصرفوا إلى منى بليل، فدل ذلك: على أنه لا حرج على الضعفة؛ من النساء، والمرضى، والشيوخ، ومن تبعهم في التوجه من مزدلفة إلى منى في النصف الأخير من الليل عملا بالرخصة وحذرا من مشقة الزحمة. ويجوز لهم أن يرموا الجمرة ليلا، كما ثبت ذلك عن أم سلمة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم.
وذكرت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للنساء بذلك، ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعدما أسفر جدا دفع إلى منى ملبيا، فقصد جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم نحر هديه، ثم حلق رأسه، ثم طيبته عائشة رضي الله عنها، ثم توجه إلى البيت فطاف به.
«وسئل صلى الله عليه وسلم في يوم النحر عمن ذبح قبل أن يرمي، ومن حلق
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1218) .(46/12)
قبل أن يذبح، ومن أفاض إلى البيت قبل أن يرمي، فقال: لا حرج، قال الراوي: فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج (1) » .
فعلم بهذا أن السنة للحجاج أن يبدءوا برمي الجمرة يوم العيد ثم ينحروا إذا كان عليهم هدي، ثم يحلقوا أو يقصروا والحلق أفضل من التقصير؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بالمغفرة والرحمة ثلاث مرات للمحلقين ومرة واحدة للمقصرين، وبذلك يحصل للحاج التحلل الأول، فيلبس المخيط ويتطيب، ويباح له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، ثم يذهب إلى البيت فيطوف به في يوم العيد أو بعده، ويسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعا، وبذلك يحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام حتى النساء.
أما إن كان الحاج مفردا أو قارنا فإنه يكفيه السعي الأول والذي أتى به مع طواف القدوم، فإن لم يسع مع طواف القدوم وجب عليه أن يسعى مع طواف الإفاضة.
ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى منى فأقام بها بقية يوم العيد واليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، يرمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال، يرمي كل جمرة بسبع حصيات ويكبر مع كل حصاة ويدعو ويرفع يديه بعد الفراغ من الجمرة الأولى والثانية ويجعل الأولى عن يساره حين الدعاء والثانية عن يمينه ولا يقف عند الثالثة، ثم دفع صلى الله عليه وسلم في اليوم الثالث عشر بعد رمي الجمرات فنزل بالأبطح وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
ثم نزل إلى مكة في آخر الليل وصلى الفجر بالناس- عليه
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1736) ، صحيح مسلم الحج (1306) ، سنن الترمذي الحج (916) ، سنن أبو داود المناسك (2014) ، سنن ابن ماجه المناسك (3051) ، مسند أحمد بن حنبل (2/192) ، موطأ مالك الحج (959) ، سنن الدارمي المناسك (1907) .(46/13)
الصلاة والسلام- وطاف للوداع قبل الصلاة، ثم توجه بعد الصلاة إلى المدينة في صبيحة اليوم الرابع عشر، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
فعلم من ذلك؛ أن السنة للحاج أن يفعل كفعله صلى الله عليه وسلم في أيام منى، فيرمي الجمار الثلاث بعد الزوال، في كل يوم، كل واحدة بسبع حصيات، ويكبر مع كل حصاة، ويشرع له أن يقف بعد رميه الأولى ويستقبل القبلة ويدعو يرفع يديه ويجعلها عن يساره ويقف بعد رمي الثانية كذلك ويجعلها عن يمينه، وهذا مستحب وليس بواجب، ولا يقف بعد رمي الثالثة، فإن لم يتيسر له الرمي بعد الزوال وقبل غروب الشمس رمى في الليل عن اليوم الذي غابت شمسه إلى آخر الليل في أصح قولي العلماء؛ رحمة من الله سبحانه بعباده وتوسعة عليهم، ومن شاء أن يتعجل في اليوم الثاني عشر بعد رمي الجمار فلا بأس، ومن أحب أن يتأخر حتى يرمي الجمار في اليوم الثالث عشر فهو أفضل، لكونه موافقا لفعل النبي صلى الله عليه وسلم.
والسنة للحاج أن يبيت في منى ليلة الحادي عشر والثاني عشر. وهذا المبيت واجب عند كثير من أهل العلم، ويكفي أكثر الليل إذا تيسر ذلك، ومن كان له عذر شرعي، كالسقاة والرعاة ونحوهم فلا مبيت عليه، أما ليلة الثالث عشر فلا يجب على الحجاج أن يبيتوها بمنى إذا تعجلوا ونفروا من منى قبل الغروب في اليوم الثاني عشر، أما من أدركه المبيت بمنى فإنه يبيت ليلة الثالث عشر ويرمي الجمار بعد الزوال ثم ينفر، وليس على أحد(46/14)
رمي بعد الثالث عشر ولو أقام بمنى.
ومتى أراد الحاج السفر إلى بلاده وجب عليه أن يطوف بالبيت للوداع سبعة أشواط، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينفر أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت (1) » ، إلا الحائض والنفساء فلا وداع عليه، لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض (2) » متفق على صحته. والنفساء مثلها، ومن أخر طواف الإفاضة فطاف عند السفر أجزأه عن الوداع؛ لعموم الحديثين المذكورين. وأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يتقبل منا ومنكم ويجعلنا وإياكم من العتقاء من النار، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وبما ذكرنا من صفة حجه صلى الله عليه وسلم انتهى الكلام على أعمال الحج.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .
(2) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .(46/15)
صفة العمرة
أما العمرة: فهي واجبة كالحج مرة في العمر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر رضي الله عنه لما «سأله جبريل عليه السلام عن الإسلام قال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج وتعتمر (1) » الحديث رواه ابن خزيمة والحاكم بإسناد صحيح، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «على النساء جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة (2) » أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/27) .
(2) صحيح البخاري الحج (1520) ، سنن النسائي مناسك الحج (2628) ، سنن ابن ماجه المناسك (2901) .(46/15)
وقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر: إحداهن عام الحديبية، وقد صده المشركون عن أداء مناسكها فصالحهم ونحر هديه، وحلق رأسه لكونه محصرا، ورجع إلى المدينة هو وأصحابه رضي الله عنهم، وأنزل الله في ذلك قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) الآية، ثم اعتمر عمرة القضاء في عام سبع من الهجرة، ثم اعتمر عمرته الثالثة من الجعرانة عام الفتح سنة ثمان من الهجرة، ثم اعتمر عمرته الرابعة قارنا لها مع حجه.
والعمرة: هي زيارة البيت للطواف والسعي والحلق أو التقصير. وليس لها وقت معين، بل هي مشروعة في جميع السنة، وهي في رمضان تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهي واجبة في العمر مرة كالحج وما زاد فهو تطوع.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (2) » ، متفق على صحته.
وصفتها: إن كان المعتمر خارج المواقيت فليحرم بها من الميقات الذي يمر عليه، ويستحب له عند ذلك الغسل والطيب، كما يستحب له ذلك عند إحرامه بالحج.
وإذا توضأ وصلى ركعتين وأحرم بعدهما كان أفضل، وإن أحرم بعد الصلاة المفروضة كفى ذلك، ويستحب له أن يلبي بها بعد النية إذا ركب دابته أو سيارته في الميقات.
__________
(1) سورة البقرة الآية 196
(2) صحيح البخاري الحج (1773) ، صحيح مسلم الحج (1349) ، سنن الترمذي الحج (933) ، سنن النسائي مناسك الحج (2622) ، سنن ابن ماجه المناسك (2888) ، مسند أحمد بن حنبل (2/246) ، موطأ مالك الحج (776) ، سنن الدارمي المناسك (1795) .(46/16)
أما إذا كان في الجو فإنه يلبي بها عند محاذاته ميقاته، ثم يشتغل بالتلبية الشرعية التي كان يلبي بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك (1) »
وإن لبى قبل أن يركب دابته أو سيارته فلا بأس، ولكن الأفضل أن تكون التلبية بعد الركوب، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا وصل إلى البيت طاف بالبيت سبعة أسواط كطوافه في الحج، ويرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، ويمشي في الأربعة الباقية، ويضطبع في جميع طواف القدوم، وذلك بأن يجعل وسط ردائه تحت إبطه الأيمن وطرفيه على عاتقه الأيسر. وبعد الفراغ من الطواف يجعل رداءه على كتفيه قبل أن يصلي ركعتي الطواف. ويكبر كلما حاذى الحجر الأسود، ويستلمه ويقبله إن تيسر ذلك، فإن لم يتيسر تقبيله استلمه بيده وقبلها، فإن لم يتيسر ذلك أشار إليه عند المحاذاة وكبر.
ويستلم الركن اليماني في كل شوط إذا تيسر ذلك بدون تقبيل، ويقول (بسم الله والله أكبر) ، فإن لم يتيسر ذلك مضى في طوافه ولم يشر إليه؛ لأنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يشير إليه.
ثم يصلي ركعتين، هما ركعتا الطواف، يقرأ فيهما بعد الفاتحة بسورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (2) في الأولى، وبسورة
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1549) ، صحيح مسلم الحج (1184) ، مسند أحمد بن حنبل (2/120) .
(2) سورة الكافرون الآية 1(46/17)
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) في الثانية، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم يتوجه إلى المسعى فيسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط يبدأ بالصفا، ويختم بالمروة،، كما يفعل في الحج، ويكبر الله ويذكره، ويدعو على الصفا والمروة ثلاث مرات رافعا يديه كما يفعل في سعيه في الحج.
ويستحب أن يهرول الرجل في السعي بين العلمين، ويمشي فيما قبلهما وما بعدهما كما فعل في الحج.
أما المرأة فلا رمل عليها في الطواف، ولا تشرع لها الهرولة في السعي، لأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته رضي الله عنهم فيما نعلم، وإنما نقل ذلك في حق الرجال، وقد حكى ابن المنذر رحمه الله الإجماع على أن الرمل في الطواف والهرولة في السعي بين العلمين لا يشرعان للنساء، ولأن المرأة عورة والمشي أستر لها وأبعد عن الفتنة.
ثم يحلق أو يقصر والحلق أفضل، إلا إذا كان أداؤه للعمرة قرب الحج، فإنه يقصر فيها، ويترك الحلق للحج. وبهذا تنتهي أعمال العمرة.
أسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين لما يرضيه، وأن يتقبل منا ومنهم، ويجعلنا وإياهم من العتقاء من النار إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1(46/18)
من صور البورصة
(القسم الأول)
بحث من إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الحادية والعشرين في شهر ربيع الأول عام 1453 هـ بمدينة الرياض، من إعداد بحث يشتمل على ما تيسرت معرفته من صور البورصة، وبيان حكمها تفصيلا مع الأدلة، ونقل ما تيسر من كلام أهل العلم في الموضوع بعد ظهور هذه المعاملة؛ بناء على ذلك أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا يشتمل على ما يلي:
1 - مقدمة في أن كل مطلب شرعي لا بد في إثباته من دليل شرعي، وتحقيق مناطه فيه.
2 - نصوص من القرآن والسنة يرجع إليها في الحكم بالربا عند التطبيق في الجزئيات، وتحقيق المناط فيها.
3 - نقول عن بعض فقهاء المذاهب يستنار بها في التطبيق وفهم الحكم في المسائل الربوية.(46/19)
4 - نص ما جاء من مؤسسة النقد السعودي بالرياض في بيان معنى البورصة، وبيان صورها مع التعليق عليه.
5 - نقول عن العلماء المعاصرين: في بيان معنى البورصة، ونشأتها، وصورها، والحكم فيها مع التعليق عليها.
6 - خلاصة لما تقدم.
وفيما يلي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى:
أولا: المقدمة:
كل مسألة يراد إثبات حكمها لا بد لها من دليل مشتمل على مقدمتين: إحداهما: كلية مسلمة، سواء كانت؛ شرعية، أم لغوية، أم طبية أم غير ذلك، وذلك لقيام ما يوجب تسليمها؛ شرعا، أو عقلا، أو لغة. . إلى آخره، والمقدمة الأخرى: تتضمن تحقيق المناط وذلك بإثبات مناط حكم الكلية في المسألة الجزئية المطلوب إثبات الحكم فيها، وقد أفاض الشاطبي القول في ذلك مع التوضيح بالأمثلة، فاستحسنا نقله بنصه:
قال رحمه الله تعالى: (المسألة السادسة) كل دليل شرعي مبني على مقدمتين إحداهما راجعة إلى تحقيق مناط الحكم، والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي، فالأولى: نظرية وأعني بالنظرية هاهنا ما سوى النقلية سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر، ولا أعني بالنظرية مقابل الضرورية، والثانية: نقلية، وبيان ذلك ظاهر في كل مطلب شرعي، بل هذا جاء في(46/20)
كل مطلب عقلي أو نقلي، فيصح أن نقول: الأولى: راجعة إلى تحقيق المناط، والثانية: راجعة إلى الحكم. ولكن المقصود هنا بيان المطالب الشرعية، فإذا قلت: إن كل مسكر حرام. فلا يتم القضاء عليه حتى يكون بحيث يشار إلى المقصود منه ليستعمل أو لا يستعمل؛ لأن الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون، فإذا شرع المكلف في تناول الخمر مثلا قيل له: أهذا خمر أم لا؟ فلا بد من النظر في كونه خمرا أم غير خمر، وهو معنى تحقيق المناط، فإذا وجد فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظر معتبر قال: نعم هذا خمر، فيقال له: كل خمر حرام الاستعمال، فيجتنبه. وكذلك إذا أراد أن يتوضأ بماء فلا بد من النظر إليه: هل هو مطلق أم لا؟ وذلك برؤية اللون، وبذوق الطعم، وشم الرائحة، فإذا تبين أنه على أصل خلقته فقد تحقق مناطه عنده وأنه مطلق، وهي المقدمة النظرية، ثم يضيف إلى هذه المقدمة ثانية نقلية، وهي أن كل ماء مطلق فالوضوء به جائز.
وكذلك إذا نظر هل هو مخاطب بالوضوء أم لا؟ فينظر هل هو محدث أم لا؟ فإن تحقق الحدث فقد حقق مناط الحكم، فيرد عليه أنه مطلوب بالوضوء، وإن تحقق فقده فكذلك فيرد عليه أنه غير مطلوب بالوضوء، وهي المقدمة النقلية.
فالحاصل أن الشارع حكم على أفعال المكلفين مطلقة ومقيدة، وذلك مقتضى إحدى المقدمتين وهي النقلية، ولا ينزل الحكم بها إلا على ما تحقق أنه مناط ذلك الحكم على الإطلاق أو التقييد، وهو مقتضى المقدمة النظرية. والمسألة ظاهرة في(46/21)
الشرعيات، وفي اللغويات والعقليات، فإنا إذا قلنا: (ضرب زيد عمرا) وأردنا أن نعرف الذي يرفع من الاسمين وما الذي ينصب، فلا بد من معرفة الفاعل من المفعول، فإذا حققنا الفاعل وميزناه حكمنا عليه بمقتضى المقدمة النقلية وهي أن كل فاعل مرفوع، ونصبنا المفعول كذلك؛ لأن كل مفعول منصوب، وإذا أردنا أن نصغر عقربا حققنا أنه رباعي فيستحق من أبنية التصغير بنية فعيعل؛ لأن كل رباعي على هذه الشاكلة تصغيره على هذه البنية، وهكذا في سائر علوم اللغة. وأما العقليات فكما إذا نظرنا في العالم هل هو حادث أو لا؟ فلا بد من تحقيق مناط الحكم وهو العالم، فنجده متغيرا وهي المقدمة الأولى، ثم نأتي بمقدمة مسلمة وهو قولنا: (كل متغير حادث) .
لكنا قلنا في الشرعيات وسائر النقليات: أنه لا بد أن تكون إحدى المقدمتين نظرية، وهي المفيدة لتحقيق المناط، وذلك مطرد في العقليات أيضا، والأخرى نقلية، فما الذي يجري في العقليات مجرى النقليات؛ هذا لا بد من تأمله، والذي يقال فيه: أن خاصية المقدمة النقلية أن تكون مسلمة إذا تحقق أنها نقلية فلا تفتقر إلى نظر وتأمل إلا من جهة تصحيحها نقلا، ونظير هذا في العقليات المقدمات المسلمة، وهي الضروريات وما تنزل منزلتها مما يقع معلما عند الخصم، فهذه خاصة إحدى المقدمتين، وهي أن تكون مسلمة، وخاصية الأخرى أن تكون تحقيق مناط الأمر المحكوم عليه، ولا حاجة إلى البسط هنا فإن التأمل يبين حقيقة الأمر فيه، وأيضا في فصل السؤال والجواب له بيان آخر(46/22)
وبالله التوفيق) . انتهى ص 26- 27- 28 من ج3 من كتاب الموافقات ط. محمد علي صبيح.(46/23)
ثانيا: نصوص من القرآن والسنة يرجع إليها في الحكم بالربا عند تحقيق المناط، والتطبيق على الجزئيات:
1 - نصوص من القرآن معها تفسيرها:
أ- قال أبو بكر الجصاص رحمه الله في تفسير آيات الأحكام: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1) إلى قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) .
قال أبو بكر: أصل الربا في اللغة: هو الزيادة، ومنه الرابية لزيادتها على ما حواليها من الأرض، ومنه الربوة من الأرض، وهي المرتفعة، ومنه قولهم أربى فلان على فلان في القول أو الفعل إذا زاد عليه.
وهو في الشرع يقع على معان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى النساء ربا، في حديث أسامة بن زيد، فقال: «إنما الربا في النسيئة (3) » ، وقال عمر بن الخطاب: إن من الربا أبوابا لا تخفى منها السلم في السن. يعني الحيوان. وقال عمر أيضا: إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبينه لنا فدعوا الربا والريبة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(46/23)
فثبت بذلك أن الربا قد صار اسما شرعيا؛ لأنه لو كان باقيا على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر لأنه كان عالما بأسماء اللغة؛ لأنه من أهلها، ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نساء ربا، وهو ربا في الشرع، وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة، نحو الصلاة والصوم والزكاة، فهو مفتقر إلى البيان ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود إلا فيما قامت دلالته أنه مسمى في الشرع بذلك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا من مراد الله بالآية نصا وتوفيقا، ومنه ما بينه دليلا، فلم يخل مراد الله من أن يكون معلوما عند أهل العلم والاستدلال، والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به، ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد وإذا كان متفاضلا من جنس واحد، هذا كان المتعارف المشهود بينهم؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (1) ، فأخبر سبحانه أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين؛ لأنه لا عوض لها من جهة المقرض؛ وقال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (2) إخبارا عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط
__________
(1) سورة الروم الآية 39
(2) سورة آل عمران الآية 130(46/24)
الزيادة أضعافا مضاعفة، فأبطل الله تعالى الربا الذي كانوا يتعاملون به، وأبطل ضروبا أخبر من البياعات وسماها ربا، فانتظم قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) تحريم جميعها؛ لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة، واسم الربا في الشرع يعتريه معان:
أحدها: الربا الذي كان عليه أهل الجاهلية.
والثاني: التفاضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون على قول أصحابنا، ومالك بن أنس يعتبر مع الجنس أن يكون مقتاتا مدخرا، والشافعي يعتبر الأكل مع الجنس، فصار الجنس معتبرا عند الجميع فيما يتعلق به من تحريم التفاضل عند انضمام غيره إليه على ما قدمنا.
والثالث: النساء وهو على ضروب منها في الجنس الواحد من كل شيء لا يجوز بيع بعضه ببعض نساء سواء كان من المكيل، أو من الموزون، أو من غيره، فلا يجوز عندنا بيع ثوب مروي بثوب مروي نساء لوجود الجنس، ومنها وجود المعنى المضموم إليه الجنس في شرط تحريم التفاضل وهو الكيل والوزن في غير الأثمان التي هي الدراهم والدنانير، فلو باع حنطة بجص نساء لم يجز لوجود الكيل، ولو باع حديدا بصفر نساء لم يجز لوجود الوزن والله تعالى الموفق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(46/25)
ومن أبواب الربا الشرعي السلم في الحيوان:
قال عمر رضي الله عنه: إن من الربا أبوابا لا تخفى، منها السلم في السن، ولم تكن العرب تعرف ذلك ربا، فعلم أنه قال ذلك توقيفا، فجملة ما اشتمل عليه اسم الربا في الشرع النساء والتفاضل في شرائط قد تقرر معرفتها عند الفقهاء. والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحنطة بالحنطة مثلا بمثل، يدا بيد، والفضل ربا، والشعير بالشعير مثلا بمثل، يدا بيد، والفضل ربا (1) » وذكر اسم التمر والملح والذهب والفضة فسمى الفضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون ربا، وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد الذي رواه عنه عبد الرحمن بن عباس: «إنما الربا في النسيئة (2) » وفي بعض الألفاظ: «لا ربا إلا في النسيئة (3) » ، فثبت أن اسم الربا في الشمع يقر على التفاضل تارة وعلى النساء أخرى، وقد كان ابن عباس يقول: لا ربا إلا في النسيئة.
ويجوز بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا، ويذهب فيه إلى حديث أسامة بن زيد، ثم لما تواتر عنده الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم التفاضل في الأصناف الستة رجع عن قوله. قال جابر بن زيد: رجع ابن عباس عن قوله في الصرف، وعن قوله
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1588) ، سنن النسائي البيوع (4559) ، سنن ابن ماجه التجارات (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(46/26)
في المتعة، وإنما معنى حديث أسامة النساء في الجنسين، كما روي في حديث عبادة بن الصامت وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد (1) » وذكر الأصناف الستة ثم قال: «بيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم يدا بيد (2) » ، وفي بعض الأخبار: «وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد (3) » . فمنع النساء في الجنسين من المكيل والموزون وأباح التفاضل، فحديث أسامة بن زيد محمول على هذا، ومن الربا المراد بالآية شرى ما يباع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن، والدليل على أن ذلك ربا حديث يونس بن إسحاق عن أبيه عن أبي العالية قال: كنت عند عائشة فقالت لها امرأة: إني بعت زيد بن أرقم جارية لي إلى عطائه بثمانمائة درهم، وإنه أراد أن يبيعها فاشتريتها منه بستمائة، فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب فقالت: يا أم المؤمنين، أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي، فقالت: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (4) فدلت تلاوتها لآية الربا عند قولها: أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي، أن ذلك كان عندها من الربا، وهذه التسمية طريقها التوقيف، وقد روى ابن المبارك عن حكم بن زريق عن سعيد بن المسيب قال: سألته عن رجل باع طعاما من رجل إلى أجل فأراد الذي اشترى الطعام أن يبيعه بنقد من الذي باعه منه، فقال: هو ربا. ومعلوم أنه أراد
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1588) ، سنن النسائي البيوع (4559) ، سنن ابن ماجه التجارات (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) .
(4) سورة البقرة الآية 275(46/27)
شراءه بأقل من الثمن الأول، إذ لا خلاف أن شراءه بمثله أو أكثر منه جائز، فسمى سعيد بن المسيب ذلك ربا، وقد روي النهي عن ذلك عن ابن عباس والقاسم بن محمد ومجاهد وإبراهيم والشعبي. وقال: الحسن وابن سيرين في آخرين: إن باعه بنقد جاز أن يشتريه، فإن كان باعه بنسيئة لم يشتره بأقل منه إلا بعد أن يحل الأجل، وروي عن ابن عمر أنه إذا باعه ثم اشتراه بأقل من ثمنه جاز، ولم يذكر فيه قبض الثمن وجائز أن يكون مراده إذا قبض الثمن، فدل قول عائشة وسعيد بن المسيب أن ذلك ربا فعلمنا أنهما لم يسمياه ربا إلا توقيفا إذ لا يعرف ذلك اسما له من طريق اللغة فلا يسمى به إلا من طريق الشرع، وأسماء الشرع توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب.
ومن أبواب الربا الدين بالدين:
وقد روى موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن الكالئ بالكالئ،» وفي بعض الألفاظ عن الدين بالدين وهما سواء، وقال في حديث أسامة بن زيد: «إنما الربا في النسيئة (1) » إلا أنه في العقد عن الدين بالدين، وأنه معفو عنه بمقدار المجلس؛ لأنه جائز له أن يسلم دراهم في كر حنطة، وهما دين بدين إلا أنهما إذا افترقا قبل قبض الدراهم بطل العقد، وكذلك بيع الدراهم بالدنانير جائز وهما دينان، وإن افترقا قبل التقابض بطل.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(46/28)
ومن أبواب الربا الذي تضمنت الآية تحريمه:
الرجل يكون عليه ألف درهم دين مؤجل، فيصالحه منه على خمسمائة حالة فلا يجوز، وقد روى سفيان عن حميد عن ميسرة قال: سألت ابن عمر، يكون لي على الرجل الدين إلى أجل فأقول: عجل لي وأضع عنك، فقال: هو ربا.
وروي عن زيد بن ثابت أيضا النهي عن ذلك، وهو قول سعيد بن جبير والشعبي والحكم، وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء، وقال ابن عباس وإبراهيم النخعي: لا بأس بذلك.
والذي يدل على بطلان ذلك شيئان:
أحدهما: تسمية ابن عمر إياه ربا، وقد بينا أن أسماء الشرع توقيف، والثاني: أنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلا من الأجل فأبطله الله تعالى وحرمه، وقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1) ، وقال تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) حظر أن يؤخذ للأجل عوض، فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة فوضع عنه على أن يعجله فإنما جعل الحط بحذاء الأجل، فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله تعالى على تحريمه، ولا خلاف أنه لو كان عليه ألف درهم حالة فقال له: أجلني وأزيدك فيها مائة درهم، لا يجوز؛ لأن المائة عوض من الأجل، كذلك الحط في معنى
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 278(46/29)
الزيادة إذ جعله عوضا من الأجل، هذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الأبدان عن الآجال، ولذلك قال أبو حنيفة فيمن دفع إلى خياط ثوبا فقال: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غدا فلك نصف درهم، أن الشرط الثاني باطل، فإن خاطه غدا فله أجر مثله، لأنه جعل الحط بحذاء الأجل والعمل في الوقتين على صفة واحدة فلم يجزه؛ لأنه بمنزلة بيع الأجل على النحو الذي بيناه.
ومن أجاز من السلف إذا قال: عجل لي وأضع عنك، فجائز أن يكون أجازه إذا لم يجعله شرطا فيه، وذلك بأن يضع عنه بغير شرط ويعجل الآخر الباقي بغير شرط، وقد ذكرنا الدلالة على أن التفاضل قد يكون ربا على حسب ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأصناف الستة، وأن النساء قد يكون ربا في البيع بقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد (1) » ، وقوله: «إنما الربا في النسيئة (2) » ، وأن السلم في الحيوان قد يكون ربا بقوله: «إنما الربا في النسيئة (3) » ، وقوله: «إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد (4) » ، وتسمية عمر إياه ربا وشراء ما بيع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن لما بينا وشرط التعجيل مع الحط، وقد اتفق الفقهاء على تحريم التفاضل في الأصناف الستة التي ورد بها الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة، وهو عندنا في حيز التواتر لكثرة رواته واتفاق الفقهاء على استعماله، واتفقوا أيضا في أن مضمون هذا النص معني به تعلق الحكم يجب اعتباره في غيره، واختلفوا فيه بعد اتفاقهم على اعتبار الجنس على الوجوه التي
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) .(46/30)
ذكرنا فيما سلف من هذا الباب وأن حكم تحريم التفاضل غير مقصور على الأصناف الستة.
قد قال قوم هم شذوذ عندنا لا يعدون خلافا: أن حكم تحريم التفاضل مقصور على الأصناف التي ورد فيها التوقيف دون تحريم غيرها. ولما ذهب إليه أصحابنا في اعتبار الكيل والوزن دلائل من الأثر والنظر وقد ذكرناها في مواضع، ومما يدل عليه من فحوى الخبر قوله: «الذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل كيلا بكيل (1) » فأوجب استيفاء المماثلة بالوزن في الموزون وبالكيل في المكيل، فدل ذلك على أن الاعتبار في التحريم الكيل والوزن مضموما إلى الجنس.
ومما يحتج به المخالف من الآية على اعتبار الأكل قوله عز وجل. {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2) ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} (3) فأطلق اسم الربا على المأكول، قالوا: فهذا عموم في إثبات الربا في المأكول. وهذا عندنا لا يدل على ما قالوا من وجوه:
أحدها: بما قدمنا من إجمال لفظ الربا في الشرع وافتقاره إلى البيان فلا يصح الاحتجاج بعمومه وإنما يحتاج إلى أن يثبت بدلالة أخرى أنه ربا حتى يحرمه بالآية ولا يأكله.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة آل عمران الآية 130(46/31)
والثاني: أن أكثر ما فيه إثبات الربا في مأكول وليس فيه أن جميع المأكولات فيها ربا ونحن قد أثبتنا الربا في كثير من المأكولات، وإذا فعلنا ذلك فقد قضينا عهدة الآية، ولما ثبت بما قدمنا من التوقيف والاتفاق على تحريم بيع ألف بألف ومائة، كما بطل بيع ألف بألف إلى أجل فجرى الأجل المشروط مجرى النقصان في المال، وكان بمنزلة بيع ألف بألف ومائة، وجب أن لا يصح الأجل في القرض، كما لا يجوز قرض ألف بألف ومائة، إذا كان نقصان الأجل كنقصان الوزن وكان الربا تارة من جهة نقصان الوزن وتارة من جهة نقصان الأجل، وجب أن يكون القرض كذلك، فإن قال قائل: ليس القرض في ذلك كالبيع؛ لأنه يجوز له مفارقته في القرض قبل قبض البدل ولا يجوز مثله في بيع ألف بألف. قيل له: إنما يكون الأجل نقصانا إذا كان مشروطا.
فأما إذا لم يكن مشروطا، فإن ترك القبض لا يوجب نقصا في أحد المالين وإنما بطل البيع لمعنى آخر غير نقصان أحدهما عن الآخر، ألا ترى أنه لا يختلف الصنفان والصنف الواحد في وجوب التقابض في المجلس، أعني الذهب بالفضة مع جواز التفاضل فيهما، فعلمنا أن الموجب لقبضهما ليس من جهة أن ترك القبض موجب للنقصان في غير المقبوض، ألا ترى أن رجلا لو باع من رجل عبدا بألف درهم ولم يقبض ثمنه سنين، جاز للمشتري بيعه مرابحة على ألف حالة، ولو كان باعه بألف إلى شهر ثم حل الأجل لم يكن للمشتري بيعه مرابحة بألف حالة حتى يبين أنه اشتراه بثمن مؤجل، فدل ذلك على أن الأجل(46/32)
المشروط في العقد يوجب نقصا في الثمن، ويكون بمنزلة نقصان الوزن في الحكم، فإذا كان كذلك فالتشبيه بين القرض والبيع من الوجه الذي ذكرنا صحيح لا يعترض عليه هذا السؤال.
ويدل على بطلان التأجيل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الربا في النسيئة (1) » ، ولم يفرق بين البيع والقرض فهو على الجميع، ويدل عليه أن القرض لما كان تبرعا لا يصح إلا مقبوضا أشبه الهبة فلا يصح فيه التأجيل كما لا يصح في الهبة. وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم التأجيل فيها بقوله: «من أعمر عمرى فهي له ولورثته من بعده (2) » ، فأبطل التأجيل المشروط في الملك، وأيضا فإن قرض الدراهم عاريتها وعاريتها قرضها؛ لأنها تمليك المنافع إذ لا يصل إليها إلا باستهلاك عينها، ولذلك قال أصحابنا: إذا أعاره دراهم فإن ذلك قرض، ولذلك لم يجيزوا استيجار الدراهم لأنها قرض فكأنه استقرض دراهم على أن يرد عليه أكثر منها فلما لم يصح الأجل في العارية لم يصح في القرض، ومما يدل على أن قرض الدراهم عارية حديث إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تدرون أي الصدقة خير؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " خير الصدقة المنحة أن تمنح أخاك الدراهم، أو ظهر الدابة، أو لبن الشاة (3) » ، والمنحة: هي العارية، فجعل قرض الدراهم عاريتها، ألا ترى إلى قوله في حديث آخر: «والمنحة مردودة (4) » ، فلما لم يصح التأجيل في العارية لم يصح في القرض. وأجاز الشافعي التأجيل في القرض. وبالله التوفيق ومنه الإعانة.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(2) صحيح مسلم الهبات (1625) ، سنن الترمذي الأحكام (1350) ، سنن النسائي العمرى (3747) ، سنن أبو داود البيوع (3551) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2380) ، مسند أحمد بن حنبل (3/386) ، موطأ مالك الأقضية (1479) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/463) .
(4) سنن الترمذي الوصايا (2120) ، سنن أبو داود البيوع (3565) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2398) .(46/33)
باب البيع
قوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) ، عموم في إباحته سائر البياعات؟ لأن لفظ البيع موضوع لمعنى معقول في اللغة وهو تمليك المال بمال بإيجاب وقبول عن تراض منهما، وهذا هو حقيقة البيع في مفهوم اللسان، ثم منه جائز ومنه فاسد إلا أن ذلك غير مانع من اعتبار عموم اللفظ متى اختلفنا في جواز بيع أو فساده، ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية، وإن كان مخرجها مخرج العموم فقد أريد به الخصوص؛ لأنهم متفقون على حظر كثير من البياعات، نحو بيع ما لم يقبض، وبيع ما ليس عند الإنسان، وبيع الغرر والمجاهيل وعقد البيع على المحرمات من الأشياء، وقد كان لفظ الآية يوجب جواز هذه البياعات، وإنما خصت منها بدلائل إلا أن تخصيصها غير مانع اعتبار عموم لفظ الآية فيما لم تقم الدلالة على تخصيصه، وجائز أن يستدل بعمومه على جواز البيع الموقوف؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (2) والبيع اسم للإيجاب والقبول، وليست حقيقته وقوع الملك به للعاقد، ألا ترى أن البيع المعقود على شرط خيار المتبايعين لم يوجب ملكا وهو بيع، والوكيلان يتعاقدان البيع ولا يملكان. وقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) حكمه ما قدمناه من الإجمال والوقف على ورود البيان، فمن الربا ما هو بيع ومنه ما ليس ببيع وهو ربا أهل الجاهلية، وهو القرض المشروط فيه
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275(46/34)
الأجل وزيادة مال على المستقرض وفي سياق الآية ما أوجب تخصيص ما هو ربا من البياعات من عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) وظن الشافعي أن لفظ الربا لما كان مجملا أنه يوجب إجمال لفظ البيع وليس كذلك عندنا؛ لأن ما لا يسمى ربا من البياعات فحكم العموم جار فيه، وإنما يجب الوقوف فيما شككنا أنه ربا أو ليس بربا فأما ما تيقنا أنه ليس بربا فغير جائز الاعتراض عليه بآية تحريم الربا، وقد بينا ذلك في أصول الفقه، وأما قوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (2) ، حكاية عن المعتقدين لإباحته من الكفار فزعموا أنه لا فرق بين الزيادة المأخوذة على وجه الربا وبين سائر الأرباح المكتسبة بضروب البياعات وجهلوا ما وضع الله أمر الشريعة عليه من مصالح الدين والدنيا فذمهم الله على جهلهم، وأخبر عن حالهم يوم القيامة وما يحل بهم من عقابه.
قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (3) يحتج به في جواز بيع ما لم يره المشتري ويحتج فيمن اشترى حنطة بحنطة بعينها متساوية أنه لا يبطل بالافتراق قبل القبض؛ وذلك لأنه معلوم من ورود اللفظ لزوم أحكام البيع وحقوقه من القبض والتصرف والملك وما جرى مجرى ذلك، فاقتضى ذلك بقاء هذه الأحكام مع ترك التقابض، وهو كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة النساء الآية 23(46/35)
المراد: تحريم الاستمتاع بهن.
ويحتج أيضا لذلك بقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) من وجهين:
أحدهما: ما اقتضاه من إباحة الأكل قبل الافتراق وبعده من غير قبض.
والآخر: إباحة أكله لمشتريه قبل قبض الآخر بعد الفرقة.
وأما قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) فالمعنى فيه أن من انزجر بعد النهي فله ما سلف من المقبوض قبل نزول تحريم الربا ولم يرد به ما لم يقبض؛ لأنه قد ذكر في نسق التلاوة حظر ما لم يقبض منه وإبطاله بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) ، فأبطل الله من الربا ما لم يكن مقبوضا وإن كان معقودا قبل نزول التحريم، ولم يتعقب بالفسخ ما كان منه مقبوضا بقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (4) وقد روي ذلك عن السدي وغيره من المفسرين، وقال تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (5) فأبطل منه ما بقي مما لم
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 278(46/36)
يقبض ولم يبطل المقبوض ثم قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1) ، وهو تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه ولا زيادة، وروي عن ابن عمر وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته يوم حجة الوداع بمكة، وقال جابر بعرفات: «إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب (2) » ، فكان فعله صلى الله عليه وسلم مواطئا لمعنى الآية في إبطال الله تعالى من الربا ما لم يكن مقبوضا وإمضائه ما كان مقبوضا.
وفيما روي في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ضروب من الأحكام:
أحدها: أن كل ما طرأ على عقد البيع قبل القبض مما يوجب تحريمه، فهو كالموجود في حال وقوعه، وما طرأ بعد القبض مما يوجب تحريم ذلك العقد لم يوجب فسخه، وذلك نحو النصرانيين إذا تبايعا عبدا بخمر فالبيع جائز عندنا، وإن أسلم أحدهما قبل قبض الخمر بطل العقد، وكذلك لو اشترى رجل مسلم صيدا ثم أحرم البائع أو المشتري بطل البيع؛ لأنه قد طرأ عليه ما يوجب تحريم العقد قبل القبض، كما أبطل الله تعالى من الربا ما لم يقبض؛ لأنه طرأ عليه ما يوجب تحريمه قبل القبض، وإن كانت الخمر مقبوضة ثم أسلما أو أحرما لم يبطل البيع كما لم يبطل الله الربا المقبوض حين أنزل التحريم، فهذا جائز في نظائره من المسائل ولا يلزم عليه أن يقبل العبد البيع
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) صحيح البخاري التمني (7230) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .(46/37)
قبل القبض، ولا يبطل البيع، وللمشتري اتباع الجاني من قبل أنه لم يطرأ على العقد ما يوجب تحريم العقد؛ لأن العقد باق على هيئته التي كان عليها والقيمة قائمة مقام المبيع، وإنما يعتبر المبيع، وللمشتري الخيار فحسب. وفيها دلالة على أن هلاك المبيع في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد، وهو قول أصحاب الشافعي، وقال مالك: لا يبطل، والثمن لازم للمشتري إذا لم يمنعه، ودلالة الآية ظاهرة في أن قبض المبيع من تمام البيع وأن سقوط القبض يوجب بطلان العقد، وذلك لأن الله تعالى لما أسقط قبض الربا أبطل العقد الذي عقداه وأمر بالاقتصار على رأس المال، فدل ذلك على أن قبض المبيع من شرائط صحة العقد بأنه متى طرأ على العقد ما يسقطه أوجب ذلك بطلانه، وفيها الدلالة على أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ، وإن كانت معقودة على فساد؛ لأنه معلوم أنه قد كان بين نزول الآية وبين خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ووضعه الربا الذي لم يكن مقبوضا عقود من عقود الربا بمكة قبل الفتح ولم يتعقبها بالفسخ ولم يميز ما كان منها قبل نزول الآية مما كان منها بعد نزولها، فدل ذلك على أن العقود الواقعة في دار الحرب بينهم وبين المسلمين إذا ظهر عليها الإمام لا يفسخ منها ما كان مقبوضا وقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (1) يدل على ذلك أيضا؛ لأنه قد جعل له ما كان مقبوضا منه قبل الإسلام، وقد قيل: أن معنى قوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} (2) من ذنوبه على معنى أن الله يغفرها
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275(46/38)
له، وليس هذا كذلك؛ لأن الله تعالى قد قال {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) يعني فيما يستحقه من عقاب أو ثواب، فلم يعلمنا حكمه في الآخرة، ومن جهة أخرى أنه لو كان هذا مرادا لم ينتف به ما ذكرنا فيكون على الأمرين جميعا لاحتماله لهما، فيغفر الله ذنوبه ويكون له المقبوض من ذلك قبل إسلامه، وذلك يدل على أن بياعات أهل الحرب كلها ماضية إذا أسلموا بعد التقابض فيها؛ لقوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) .
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4) ، قال أبو بكر: يحتمل ذلك معنيين:
أحدهما: إن لم تقبلوا أمر الله تعالى ولم تنقادوا له.
والثاني: إن لم تذروا ما بقي من الربا بعد نزول الأمر كله بتركه فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن اعتقدوا تحريمه.
وقد روي عن ابن عباس، وقتادة، والربيع بن أنس، فيمن أربى: أن الإمام يستتيبه فإن تاب وإلا قتله، وهذا محمول على أن يفعله مستحلا له؛ لأنه لا خلاف بين أهل العلم أنه ليس بكافر إذا اعتقد تحريمه.
وقوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (5) لا يوجب إكفارهم؛ لأن ذلك قد يطلق على ما دون الكفر من المعاصي،
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) سورة البقرة الآية 279(46/39)
قال زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عمر رأى معاذا يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة (1) » ، فأطلق اسم المحاربة عليه وإن لم يكفر، وروى أسباط، عن السدي، عن صبيح مولى أم سلمة، عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم: «أنا حرب لمن حاربتم سلم لمن سالمتم (2) » ، وقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3) ، والفقهاء متفقون على أن ذلك حكم جار في أهل الملة، وأن هذه السمة تلحقهم بإظهارهم قطع الطريق، وقد دل على أنه جائز إطلاق اسم المحاربة لله ورسوله على من عظمت معصيته وفعلها مجاهرا بها، وإن كانت دون الكفر، وقوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4) إخبار منه بعظم معصيته وأنه يستحق بها المحاربة عليها، وإن لم يكن كافرا وكان ممتنعا على الإمام، فإن لم يكن ممتنعا عاقبه الإمام بمقدار ما يستحقه من التعزيز والردع، وكذلك ينبغي أن يكون حكم سائر المعاصي التي أوعد الله عليها العقاب إذا أصر الإنسان عليها وجاهر بها، وإن كان ممتنعا حورب عليها هو ومتبعوه وقوتلوا حتى ينتهوا، وإن كانوا غير
__________
(1) سنن ابن ماجه كتاب الفتن (3989) .
(2) سنن الترمذي المناقب (3870) ، سنن ابن ماجه المقدمة (145) .
(3) سورة المائدة الآية 33
(4) سورة البقرة الآية 279(46/40)
ممتنعين عاقبهم الإمام بمقدار ما يرى من العقوبة، وكذلك حكم من يأخذ أموال الناس من المتسلطين الظلمة وآخذي الضرائب واجب على كل المسلمين قتالهم وقتلهم إذا كانوا ممتنعين، وهؤلاء أعظم جرما من آكلي الربا لانتهاكهم حرمة النهي وحرمة المسلمين جميعا، وآكل الربا إنما انتهك حرمة الله تعالى في أخذ الربا ولم ينتهك لمن يعطيه ذلك حرمة لأنه أعطاه بطيبة نفسه، وأخذوا الضرائب في معنى قطاع الطريق المنتهكين لحرمة نهي الله تعالى وحرمة المسلمين إذ كانوا يأخذونه جبرا وقهرا لا على تأويل ولا شبهة، فجائز لمن علم من المسلمين إصرار هؤلاء على ما هم عليه من أخذ أموال الناس على وجه الضريبة أن يقتلهم كيف أمكنه قتلهم، وكذلك أتباعهم وأعوانهم الذين بهم يقومون على أخذ الأموال، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة لموافقة من الصحابة إياه على شيئين: أحدهما: الكفر، والآخر: منع الزكاة، وذلك لأنهم امتنعوا من قبول فرض الزكاة ومن أدائها، فانتظموا به معنيين:
أحدهما: الامتناع من قبول أمر الله تعالى وذلك كفر.
والآخر: الامتناع من أداء الصدقات المفروضة في أموالهم إلى الإمام، فكان قتاله إياهم للأمرين جميعا؛ ولذلك قال: (لو منعوني عقالا- وفي بعض الأخبار عناقا- مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه) ، فإنما قلنا: إنهم كانوا كفارا ممتنعين من قبول فرض الزكاة؛ لأن الصحابة سموهم أهل(46/41)
الردة، وهذه السمة لازمة لهم إلى يومنا هذا، وكانوا سبوا نساءهم وذراريهم ولو لم يكونوا مرتدين لما سار فيهم هذه السيرة، وذلك شيء لم يختلف فيه الصدر الأول ولا من بعدهم من المسلمين؟ أعني في أن القوم الذين قاتلهم أبو بكر كانوا أهل ردة، فالمقيم علي أكل الربا إن كان مستحلا له فهو كافر، وإن كان ممتنعا بجماعة تعضده سار- فيهم الإمام بسيرته في أهل الردة إن كانوا قبل ذلك من جملة أهل الملة وإن اعترفوا بتحريمه وفعلوه غير مستحلين له قاتلهم الإمام إن كانوا ممتنعين حتى يتوبوا، وإن لم يكونوا ممتنعين ردعهم عن ذلك بالضرب والحبس حتى ينتهوا.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران، - وكانوا ذمة نصارى: «إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله» ، وروى أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدثني أيوب الدمشقي، قال: حدثني سعدان بن يحيى، عن عبد الله بن أبي حميد، عن أبي مليح الهذلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل نجران فكتب إليهم كتابا في آخره: «على أن لا تأكلوا الربا، فمن أكل الربا فذمتي منه بريئة» ، فقول الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) عقيب قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) ، هو عائد عليهما جميعا من رد الأمر
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 278(46/42)
على حاله، ومن الإقامة على أكل الربا مع قبول الأمر، فمن رد الأمر قوتل على الردة، ومن قبل الأمر وفعله محرما له قوتل على تركه إن كان ممتنعا ولا يكون مرتدا، وإن لم يكن ممتنعا عزر بالحبس والضرب على ما يرى الإمام.
قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) إعلام بأنهم إن لم يفعلوا ما أمروا به. في هذه الآية فهم محاربون لله ورسوله، وفي ذلك إخبار منه بمقدار عظم الجرم وأنهم يستحقون به هذه السمة وهي أن يسموا محاربين لله ورسوله وهذه السمة يعتريها معنيان:
أحدهما: الكفر إذا كان مستحلا.
والآخر: الإقامة على أكل الربا مع اعتقاد التحريم على ما بيناه، ومن الناس من يحمله على أنه إعلام منه بأن الله تعالى يأمر رسوله والمؤمنين بمحاربتهم ويكون إيذانا لهم بالحرب حتى لا يؤتوا على غرة قبل العلم بها، كقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (2) ، فإذا حمل على هذا الوجه كان الخطاب بذلك متوجها إليهم إذا كانوا ذوي منعة، وإذا حملناه على الوجه الأول دخل كل واحد من فاعلي ذلك في الخطاب وتناوله الحكم المذكور فيه فهو أولى.
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة الأنفال الآية 58(46/43)
ب- قال أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف: بابن العربي في كتابه أحكام القرآن: الآية السابعة والثمانون قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} (1) ، هذه الآية من أركان الدين، وفيها
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(46/43)
خمس مسائل:
(المسألة الأولى) : في سبب نزولها: ذكر من فسر أن الله تعالى لما حرم الربا، قالت ثقيف: وكيف ننتهي عن الربا وهو مثل البيع. فنزلت فيهم الآية.
(المسألة الثانية) : قال علماؤنا: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} (1) كناية عن استيجابه في البيع وقبضه باليد؛ لأن ذلك إنما يفعله المربي قصدا لما يأكله فعبر بالأكل عنه، وهو مجاز من باب التعبير عن الشيء بفائدته وثمرته، وهو أحد قسمي المجاز كما بيناه في غير موضع.
(المسألة الثالثة) : قال علماؤنا: الربا في اللغة: هو الزيادة، ولا بد في الزيادة من مزيد عليه تظهر الزيادة به.
فلأجل ذلك اختلفوا، هل هي عامة في تحريم كل ربا أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها؟
والصحيح أنها عامة؛ لأنهم كانوا يتبايعون ويربون وكان الربا عندهم معروفا يبايع الرجل الرجل إلى أجل، فإذا حل الأجل قال: أتقضي أم تربي؟ يعني أم تزيدني على ما لي عليك وأصبر أجلا آخر، فحرم الله تعالى الربا وهو الزيادة، ولكن لما كان كما قلنا: لا تظهر الزيادة إلا على مزيد عليه، ومتى قابل الشيء غير جنسه في المعاملة لم تظهر الزيادة، وإذا قابل جنسه لم تظهر
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(46/44)
الزيادة أيضا إلا بإظهار الشرع، ولأجل هذا صارت الآية مشكلة على الأكثر، معلومة لمن أيده الله تعالى بالنور الأظهر، وقد فاوضت فيها علماء وباحثت رفعاء فكل منهم أعطى ما عنده حتى انتظم فيها سلك المعرفة بدرره وجوهرته العليا.
إن من زعم أن هذه الآية مجملة فلم يفهم مقاطع الشريعة، فإن الله تعالى أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم إلى قوم هو منهم بلغتهم، وأنزل عليهم كتابه تيسيرا منه بلسانه ولسانهم، وقد كانت التجارة والبيع عندهم من المعاني المعلومة فأنزل عليهم مبينا لهم ما يلزمهم فيهما ويعقدونهما عليه، فقال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) ، والباطل كما بيناه في كتب الأصول: هو الذي لا يفيد وقع التعبير به عن تناول المال بغير عوض في صورة العوض. والتجارة: هي مقابلة الأموال بعضها ببعض، وهو البيع وأنواعه في متعلقاته بالمال كالأعيان المملوكة أو ما في معنى المال كالمنافع، وهي ثلاثة أنواع:
1 - عين بعين وهو بيع النقد.
2 - أو بدين مؤجل وهو السلم، أو حال وهو يكون في الثمن، أو على رسم الاستصناع.
3 - أو بيع عين بمنفعة، وهو الإجارة.
والربا في اللغة: هو الزيادة، والمراد به في الآية: كل زيادة لم يقابلها عوض، فإن الزيادة ليست بحرام لعينها بدليل جواز
__________
(1) سورة النساء الآية 29(46/45)
العقد عليها على وجهه، ولو كانت حراما ما صح أن يقابلها عوض ولا يرد عليها عقد كالخمر، والميتة، وغيرهما، وتبين أن معنى الآية: وأحل الله البيع المطلق الذي يقع فيه العوض على صحة القصد والعمل، وحرم منه ما وقع على وجه الباطل، وقد كانت الجاهلية تفعله كما تقدم، فتزيد زيادة لم يقابلها عوض، وكانت تقول: إنما البيع مثل الربا، أي: إنما الزيادة عند حلول الأجل آخرا مثل أصل الثمن في أول العقد، فرد الله تعالى عليهم قولهم، وحرم ما اعتقدوه حلالا عليهم، وأوضح أن الأجل إذا حل، ولم يكن عنده ما يؤدي أنظر إلى الميسرة تخفيفا، يحققه أن الزيادة إنما تظهر بعد تقدير العوضين فيه، وذلك على قسمين:
أحدهما: تولى الشرع تقدير العوض فيه وهو الأموال الربوية فلا تحل الزيادة فيه، وأما الذي وكله إلى المتعاقدين فالزيادة فيه على قدر مالية العوضين عند التقابل على قسمين: أحدهما: ما يتغابن الناس بمثله فهو حلال بإجماع، ومنه ما يخرج عن العادة، واختلف علماؤنا فيه فأمضاه المتقدمون وعدوه من فن التجارة، ورده المتأخرون ببغداد ونظرائها وحدوا المردود بالسلف، والذي أراه أنه إذا وقع عن علم المتعاقدين فإنه حلال ماض لأنها يفتقران إلى ذلك في الأوقات، وهو داخل تحت قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) ، وإن وقع
__________
(1) سورة النساء الآية 29(46/46)
عن جهل من أحدهما فإن الآخر بالخيار، وفي مثله ورد الحديث: أن رجلا كان يخدع في البيوع، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا بايعت فقل: لا خلابة (1) » زاد الدارقطني وغيره «ولك الخيار ثلاثا» وقد مهدناه في شرح الحديث ومسائل الخلاف فهذا أصل علم هذا الباب. فإن قيل: أنكرتم الإجمال في الآية، وما أوردتموه من البيان والشروط هو بيان ما لم يكن في الآية مبينا ولا يوجد عنها من القول ظاهرا.
قلنا: هذا سؤال من لم يحضر ما مضى من القول ولا ألقى إليه السمع وهو شهيد، وقد توضح في مسائل الكلام أن جميع ما أحل الله لهم أو حرم عليهم كان معلوما عندهم؛ لأن الخطاب جاء فيه بلسانهم فقد أطلق لهم حل ما كانوا يفعلونه من بيع وتجارة ويعلمونه، وحرم عليهم أكل المال بالباطل، وقد كانوا يفعلونه ويعلمونه ويتسامحون فيه، ثم إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم زيادة فيما كان عندهم من عقد أو عوض لم يكن عندهم جائزا فألقى إليهم وجوه الربا المحرمة في كل مقتات، وثمن الأشياء مع الجنس متفاضلا، وألحق به بيع الرطب بالتمر والعنب بالزبيب والبيع والسلف، وبين وجوه أكل المال بالباطل في بيع الغرر كله، أو ما لا قيمة له شرعا فيما كانوا يعتقدونه متقوما؛ كالخمر، والميتة، والدم، وبيع الغش، ولم يبق في الشريعة بعد هاتين الآيتين بيان يفتقر
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2117) ، صحيح مسلم البيوع (1533) ، سنن النسائي البيوع (4484) ، سنن أبو داود البيوع (3500) ، مسند أحمد بن حنبل (2/116) ، موطأ مالك البيوع (1393) .(46/47)
إليه في الباب، وبقي ما وراءهما على الجواز إلا أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يصح ستة وخمسون معنى نهى عنها، الأول والثاني: ثمن الأشياء جنسا بجنس، والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع: بيع المقتات، أو ثمن الأشياء جنسا بجنس متفاضلا، أو جنسا بغير جنسه نسيئة، أو بيع الرطب بالتمر أو العنب بالزبيب، أو بيع المزابنة على أحد القولين، أو عن بيع وسلف، وهذا كله داخل في الربا وهو مما تولى الشرع تقدير العوض فيه فلا تجوز الزيادة عليه، الثامن: بيعتان في بيعة، التاسع: بيع الغرر، وورد بيع الملامسة، والمنابذة، والحصاة، وبيع الثنيا، وبيع العريان، وما ليس عندك، والمضامين، والملاقيح، وحيل حيلة ويتركب عليهما من وجه بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وبيع السنبل حتى يشتد والعنب حتى يسود وهو مما قبله، وبيع المحاقلة، والمعاومة، والمخابرة، والمحاصرة، وبيع ما لم يقبض، وربح ما لم يضمن، وبيع الطعام قبل أن يستوفى من بعض ما تقدم، والخمر، والميتة وشحومها، وثمن الدم، وبيع الأصنام، وعسيب الفحل، والكلب، والسنور، وكسب الحجام، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وبيع المضطر، وبيع الولاء، وبيع الولد أو الأم فردين، أو الأخ والأخ فردين، وكراء الأرض والماء والكلأ والنجش، وبيع الرجل على بيع أخيه، وخطبته على خطبة أخيه، وحاضر لباد، وتلقي السلع، والقينات.
فهذه ستة وخمسون معنى حضرت الخاطر مما نهي عنه أوردناها حسب نسقها في الذكر.(46/48)
وهي ترجع في التقسيم الصحيح الذي أوردناه في المسائل إلى سبعة أقسام: ما يرجع إلى صفة العقد، وما يرجع إلى صفة المتعاقدين، وما يرجع إلى العوضين، وإلى حال العقد، والسابع وقت العقد كالبيع وقت نداء يوم الجمعة، أو في آخر جزء من الوقت المعين للصلاة، ولا تخرج عن ثلاثة أقسام وهي: الربا والباطل والغرر. ويرجع الغرر بالتحقيق إلى الباطل فيكون قسمين على الآيتين، وهذه المناهي تتداخل ويفصلها المعنى، ومنها أيضا ما يدخل في الربا والتجارة ظاهرا، ومنها ما يخرج عنها ظاهرا، ومنها ما يدخل فيها باحتمال، ومنها ما ينهى عنها مصلحة للخلق وتألفا بينهم لما في التدابر من المفسدة.
(المسألة الرابعة) : قد بينا أن الربا على قسمين: زيادة في الأموال المقتاتة والأثمان والزيادة في سائرها، وذكرنا حدودها، وبينا أن الربا فيما جعل التقدير فيه للمتعاقدين جائز بعلمهما ولا خلاف فيه، وكذلك يجوز الربا في هبة الثواب، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب فهو على هبته حتى يرضى منها) فهو مستثنى من الممنوع الداخل في عموم التحريم، وقد انتهى القول في هذا الغرض هاهنا وشرحه في تفسير الحديث ومسائل الخلاف، ومنه ما تيسر على آيات القران في هذا القسم من الأحكام.
(المسألة الخامسة) : من معنى هذه الآية، وهي في التي بعدها قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1) ذهب
__________
(1) سورة البقرة الآية 279(46/49)
بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحل ولم يطب؛ لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال والذي بقي هو الحرام، وهو غلو في الدين فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليته لا عينه، ولو تلف لقام المثل مقامه والاختلاط إتلاف لتميزه، كما أن الإهلاك إتلاف لعينه، والمثل قائم مقام الذاهب، وهذا بين حسا، بين معنى، والله أعلم) .(46/50)
ج- قال أبو الفداء إسماعيل بن كثير في تفسيره: قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات المخرجين الزكوات المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات وأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم، فقال سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2) أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياما منكرا، وقال
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275(46/50)
ابن عباس: (آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق) رواه ابن أبي حاتم، قال: وروي عن عوف بن مالك، وسعيد بن جبير، والسدي، والربيع بن أنس، وقتادة، ومقاتل بن حيان نحو ذلك، وحكي عن عبد الله بن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان أنهم قالوا في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1) يعني لا يقومون يوم القيامة، وكذا قال ابن أبي نجيح، عن مجاهد، والضحاك، وابن زيد، وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن أبي مريم، عن ضمرة بن حنيف، عن أبي عبد الله بن مسعود، عن أبيه أنه كان يقرأ: (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة) .
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا ربيعة بن كلثوم، حدثنا أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب وقرأ {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2) وذلك حين يقوم من قبره، وفي حديث أبي سعيد في الإسراء، كما هو مذكور في سورة {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} (3) أنه عليه السلام مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت فسأل عنهم،
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة الإسراء الآية 1(46/51)
فقيل: هؤلاء أكلة الربا. رواه البيهقي مطولا. وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا الحسن بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي الصلت، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات تجري من خارج بطونهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا (1) » ، ورواه الإمام أحمد، عن حسن وعفان كلاهما، عن حماد بن سلمة به، وفي إسناده ضعف، وقد روى البخاري، عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل: «فأتينا على نهر- حسبت أنه كان يقول- أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه حجرا (2) » ، وذكر في تفسيره أنه آكل الربا.
وقوله تبارك وتعالي: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) أي: إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه، وليس هذا قياسا منهم للربا على البيع؛ لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع وإنما قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (4) أي هو نظيره. فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع أي هذا مثل هذا، وقد أحل هذا وحرم هذا.
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2273) .
(2) صحيح البخاري التعبير (7047) ، مسند أحمد بن حنبل (5/9) .
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 275(46/52)
وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) يحتمل أن يكون من تمام الكلام ردا عليهم، أي على ما قالوه من الاعتراض مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما، وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها وما ينفع عباده فيبيحه لهم وما يضرهم فينهاهم عنه، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل ولهذا قال سبحانه: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) أي من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة؛ لقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} (3) ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول ربا أضع ربا العباس (4) » ، ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية، بل عفا عما سلف، كما قال تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (5) قال: سعيد بن جبير والسدي: فله ما سلف: ما كان أكل من الربا قبل التحريم. وقال ابن أبي حاتم: قرأ علي محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن أبي إسحاق الهمداني، عن أم يونس- يعني امرأته العالية بنت أبقع - أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم بحنة أم ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين، أتعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم. قالت: فإني بعته عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة المائدة الآية 95
(4) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(5) سورة البقرة الآية 275(46/53)
محل الأجل بستمائة، فقالت: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب، قالت: فقلت أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة، قالت: نعم: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (1) وهذا الأثر مشهور، وهو دليل لمن حرم مسألة العينة مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة المقررة في كتاب الأحكام. ولله الحمد والمنة.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ عَادَ} (2) أي إلى الربا، ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحجة؛ ولهذا قال سبحانه {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3) وقد قال أبو داود: حدثنا يحيى أبو داود، حدثنا يحيى بن معين، أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: «لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله (5) » ، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي خيثم، قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وإنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة: وهي اشتراء الرطب في رءوس النخل بالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة: وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها؛ حسما لمادة الربا لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء:
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) صحيح البخاري المساقاة (2381) ، صحيح مسلم كتاب البيوع (1536) ، سنن الترمذي البيوع (1290) ، سنن النسائي البيوع (4523) ، سنن أبو داود البيوع (3406) ، مسند أحمد بن حنبل (3/392) .
(5) سورة البقرة الآية 275 (4) {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}(46/54)
الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (1) وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا - يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا- والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه (2) » ، وفي السنن عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (3) » ، وفي الحديث الآخر: «الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس (4) » ، وفي رواية: «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك (5) » . وقال الثوري، عن عاصم، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: آخر ما نزل على
__________
(1) سورة يوسف الآية 76
(2) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(3) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2553) ، سنن الترمذي الزهد (2389) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) ، سنن الدارمي الرقاق (2789) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (4/228) ، سنن الدارمي البيوع (2533) .(46/55)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: آية الربا رواه البخاري عن قبيصة بن عقبة. وقال أحمد: عن يحيى، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، أن عمر قال: من آخر ما نزل آية الربا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا، فدعوا الربا والريبة، وقال: رواه ابن ماجه، وابن مردويه، عن طريق هياج بن بسطام عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم، وآمركم بأشياء لا تصلح لكم، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم.
وقد قال ابن أبي عدي بالإسناد موقوفا فذكره، ورده الحاكم في مستدركه، وقد قال ابن ماجه: حدثنا عمرو بن علي الصيرفي، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن زيد، عن إبراهيم، عن مسروق، عن عبد الله هو ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والربا ثلاثة وسبعون بابا (1) » ، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عمرو بن علي الفلاس بإسناد مثله، وزاد: «أيسرها أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم (2) » ، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال ابن ماجه: حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الربا سبعون حوبا أيسرها أن ينكح الرجل أمه (3) » ، وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، عن عباد بن راشد، عن سعيد بن أبي خيرة، حدثنا
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2275) .
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2274) .
(3) سنن ابن ماجه التجارات (2274) .(46/56)
الحسن منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا " قال: قيل له: الناس كلهم؟ قال: " من لم يأكله منهم ناله من غباره (1) » ، وكذا رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من غير وجه، عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن به، ومن هذا القبيل- تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات - الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن عائشة قالت: «لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأهن فحرم التجارة في الخمر (2) » ، وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي من طرق عن الأعمش به، وهكذا لفظ رواية البخاري عند تفسير هذه الآية فحرم التجارة، وفي لفظ له عن عائشة قالت: «لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ثم حرم التجارة في الخمر (3) » ، قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة: لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها (4) » ، وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما عند لعن المحلل في تفسير قوله سبحانه: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (5)
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4455) ، سنن أبو داود البيوع (3331) ، سنن ابن ماجه التجارات (2278) ، مسند أحمد بن حنبل (2/494) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4540) ، صحيح مسلم المساقاة (1580) ، سنن النسائي البيوع (4665) ، سنن أبو داود البيوع (3490) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (6/127) ، سنن الدارمي البيوع (2569) .
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4540) ، صحيح مسلم المساقاة (1580) ، سنن النسائي البيوع (4665) ، سنن أبو داود البيوع (3490) ، مسند أحمد بن حنبل (6/127) ، سنن الدارمي البيوع (2569) .
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3460) ، صحيح مسلم المساقاة (1582) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4257) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3383) ، مسند أحمد بن حنبل (1/25) ، سنن الدارمي الأشربة (2104) .
(5) سورة البقرة الآية 230(46/57)
قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه (1) » قالوا: وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا، فالاعتبار بمعناه لا بصورته لأن الأعمال بالنيات، وفي الصحيح: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (2) » .
وقد صنف الإمام العلامة: أبو العباس ابن تيمية كتابا في إبطال التحليل، تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل، وقد كفى في ذلك وشفى فرحمه الله ورضي عنه.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1597، 1598) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) .(46/58)
وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (1) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) .
يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا: أي يذهبه إما: بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه، أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به، بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة، كما قال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (3) ، وقال تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} (4) ، وقال سبحانه: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (5) الآية
__________
(1) سورة البقرة الآية 276
(2) سورة البقرة الآية 277
(3) سورة المائدة الآية 100
(4) سورة الأنفال الآية 37
(5) سورة الروم الآية 39(46/58)
وقال ابن جرير: في قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (1) وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل) ، وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا حجاج حدثنا شريك عن الركين بن الربيع عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل (2) » ، وقد رواه ابن ماجه عن العباس بن جعفر، عن عمرو بن عون، عن يحيى بن أبي زائدة، عن إسرائيل، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري، عن أبيه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قل (3) »
وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود، كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا الهيثم بن نافع الظاهري، حدثني أبو يحيى رجل من أهل مكة، عن فروخ مولى عثمان، أن عمر وهو يومئذ أمير المؤمنين خرج من المسجد فرأى طعاما منشورا، فقال: ما هذا الطعام؟ فقالوا: طعام جلب إلينا. قال: بارك الله فيه وفيمن جلبه. قيل: يا أمير المؤمنين إنه قد احتكر. قال: من احتكره؟ قالوا: فروخ مولى عثمان، وفلان مولى عمر، فأرسل إليهما فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالا: يا أمير المؤمنين، نشتري بأموالنا ونبيع. فقال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله
__________
(1) سورة البقرة الآية 276
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2279) ، مسند أحمد بن حنبل (1/395) .
(3) سنن ابن ماجه التجارات (2279) .(46/59)
بالإفلاس أو بجذام (1) » فقال فروخ عند ذلك: أعاهد الله وأعاهدك أن لا أعود في طعام أبدا، وأما مولى عمر فقال: إنما نشتري بأموالنا ونبيع، قال أبو يحيى: فقد رأيت مولى عمر مجذوما. ورواه ابن ماجه من حديث الهيثم بن رافع به، ولفظه: «من احتكر على المسلين طعامهم ضربه الله بالإفلاس والجذام (2) » . وقوله عز وجل: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (3) قرئ بضم الياء والتخفيف من ربا الشيء يربو وأرباه يربيه: أي كثره ونماه ينميه، وقرئ (يربي) بالضم والتشديد من التربية.
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن كثير، أخبرنا كثير سمع أبا النضر، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل (4) » كذا رواه في كتاب الزكاة، وقال في كتاب التوحيد، وقال خالد بن مخلد بن سليمان بن بلال، عن عبد الله بن دينار فذكر بإسناده نحوه، وقد رواه مسلم في الزكاة، عن أحمد بن عثمان بن حكيم، عن خالد بن مخلد فذكره، قال البخاري: ورواه مسلم بن أبي مريم، وزيد بن أسلم، وسهيل عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قلت: أما رواية مسلم بن أبي مريم فقد تفرد البخاري بذكرها، وأما طريق زيد بن أسلم فرواها مسلم في صحيحه، عن أبي الظاهر بن السرح، عن أبي
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2155) ، مسند أحمد بن حنبل (1/21) .
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2155) ، مسند أحمد بن حنبل (1/21) .
(3) سورة البقرة الآية 276
(4) صحيح البخاري الزكاة (1410) ، صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (661) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) .(46/60)
وهب، عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم به، وأما حديث سهيل فرواه مسلم، عن قتيبة، عن يعقوب بن عبد الرحمن، عن سهيل به. والله أعلم.
قال البخاري: وقال: ورقاء عن ابن دينار، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ: أبو بكر البيهقي، عن الحاكم وغيره، عن الأصم عن العباس المروزي، عن أبي الزناد هاشم بن القاسم، عن ورقاء وهو ابن عمر اليشكري، عن عبد الله بن دينار، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل أحد (1) » ، وهكذا روى هذا الحديث مسلم، والترمذي، والنسائي جميعا عن قتيبة، عن الليث بن سعد، عن سعيد المقبري، وأخرجه النسائي من رواية مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري، ومن طريق يحيى القطان، عن محمد بن عجلان، ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر، فقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي، حدثنا وكيع، عن عباد بن منصور، حدثنا القاسم بن محمد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1410) ، صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (661) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) .(46/61)
مهره أو فلوه حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد (1) » ، وتصديق ذلك في كتاب الله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (2) وكذا رواه أحمد عن وكيع وهو في تفسير وكيع، ورواه الترمذي عن أبي كريب عن وكيع به، وقال: حسن صحيح، وكذا رواه الترمذي عن عباد بن منصور به، ورواه أحمد أيضا، عن خلف بن الوليد، عن ابن المبارك، عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن منصور، كلاهما عن أبي نضرة، عن القاسم به، وقد رواه ابن جرير عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه فيأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله، وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله أو قال في كف الله حتى تكون مثل أحد فتصدقوا (3) » ، وهكذا رواه أحمد عن عبد الرزاق، وهذا طريق غريب صحيح الإسناد ولكن لفظه عجيب، والمحفوظ ما تقدم، وروي عن عائشة أم المؤمنين، فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد عن ثابت، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد (4) » ، تفرد به أحمد من هذا الوجه، وقال البزار: حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور، حدثنا إسماعيل، حدثني أبي عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الضحاك بن عثمان، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتصدق
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1410) ، صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (662) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/404) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) .
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) مسند أحمد بن حنبل (2/268) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (6/251) .(46/62)
بالصدقة من الكسب الطيب ولا يقبل الله إلا الطيب فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه "، أو قال: " فصيله (1) » ، ثم قال: لا نعلم أحدا رواه عن يحيى بن سعيد، عن عمرة إلا أبا أويس.
وقوله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (2) أي: لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي: أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم يأكل أموال الناس بالباطل، ثم قال تعالى مادحا للمؤمنين بربهم المطيعين أمره، المؤدين شكره، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مخبرا عما أعد لهم من الكرامة وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون فقال:
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (5) {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (7) .
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1410) ، صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (661) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/541) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) .
(2) سورة البقرة الآية 276
(3) سورة البقرة الآية 277
(4) سورة البقرة الآية 278
(5) سورة البقرة الآية 279
(6) سورة البقرة الآية 280
(7) سورة البقرة الآية 281(46/63)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه ناهيا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} (1) أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رءوس الأموال بعد هذا الإنذار {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك.
وقد ذكر زيد بن أسلم، وابن جريج، ومقاتل بن حيان، والسدي: أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن ثقيف وبني المغيرة من بني مخزوم كان بينهم ربا في الجاهلية، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم فتشاوروا، وقالت بنو المغيرة: لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (4) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (5) فقالوا: نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا، فتركوه كلهم، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار، قال ابن جريج: قال ابن عباس: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} (6) أي فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله، وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، ثم قرأ {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (7) وقال علي بن
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 278
(5) سورة البقرة الآية 279
(6) سورة البقرة الآية 279
(7) سورة البقرة الآية 279(46/64)
أبي طلحة: عن ابن عباس: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع وإلا ضرب عنقه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي، عن الحسين، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا هشام بن حسان، عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: (والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا، وإنهم قد آذنوا بحرب من الله ورسوله، ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح) ، وقال قتادة: أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون وجعلهم بهرجا أينما أتوا، فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا، فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة. رواه ابن أبي حاتم، وقال الربيع بن أنس: (أوعد الله آكل الربا بالقتل) رواه ابن جرير، وقال السهيلي: ولهذا قالت عائشة لأم بحنة مولاة زيد بن أرقم في مسألة العينة: (أخبريه أن جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم قد أبطل إلا أن يتوب) فخصت الجهاد؛ لأنه ضد قوله {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (2) قال: وهذا المعنى ذكره كثير، قال: ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف.
ثم قال تعالى {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} (3) أي بأخذ الزيادة: ولا تظلمون أي بوضع رءوس الأموال أيضا؛ بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن أشكاب، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن شبيب بن غرقدة
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 279(46/65)
البارقي، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله (1) » ، كذا وجده سليمان بن الأحوص، وقد قال ابن مردويه: حدثنا الشافعي، حدثنا معاذ بن المثنى، أخبرنا مسدد، أخبرنا أبو الأحوص، حدثنا شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (2) » ، وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي حمزة الرقاشي، عن عمرو هو ابن خارجة فذكره وقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء فقال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (4) لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: (إما أن تقضي وإما أن تربي) ثم يندب إلى الوضع عنه ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل، فقال سبحانه: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) أي وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1785) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(2) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .
(3) سورة البقرة الآية 280
(4) سورة البقرة الآية 280
(5) سورة البقرة الآية 280(46/66)
2 - نصوص من أحاديث أحكام الربا مع شرحها
أ- نصوص من صحيح البخاري مع شرحها لابن حجر رحمه الله:
باب بيع التمر بالتمر:
حدثنا أبو الوليد حدثنا الليث، عن ابن شهاب عن مالك بن أوس سمع عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء (1) » .
قوله: (باب بيع التمر بالتمر) أورد فيه حديث عمر مختصرا. وسيأتي الكلام عليه بعد باب بيع الزبيب بالزبيب، والطعام بالطعام.
حدثنا إسماعيل، حدثني مالك، عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة. والمزابنة بيع التمر بالتمر كيلا وبيع الزبيب بالكرم كيلا (2) » .
حدثنا أبو النعمان، حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة. قال: والمزابنة أن يبيع التمر بكيل: إن زاد فلي وإن نقص فعلي (3) » . قال: وحدثني زيد بن ثابت «أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا بخرصها (4) » .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2170) ، صحيح مسلم المساقاة (1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243) ، سنن النسائي البيوع (4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578) .
(2) صحيح البخاري كتاب البيوع (2171) ، صحيح مسلم البيوع (1542) ، سنن الترمذي البيوع (1300) ، سنن النسائي البيوع (4549) ، سنن ابن ماجه التجارات (2265) ، مسند أحمد بن حنبل (2/123) ، موطأ مالك كتاب البيوع (1317) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2173) ، صحيح مسلم البيوع (1542) ، سنن الترمذي البيوع (1300) ، سنن النسائي البيوع (4533) ، سنن ابن ماجه التجارات (2265) ، مسند أحمد بن حنبل (2/108) ، موطأ مالك كتاب البيوع (1317) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2173) ، سنن الترمذي البيوع (1300) .(46/67)
قوله: (باب بيع الزبيب بالزبيب والطعام بالطعام) : ذكر فيه حديث ابن عمر في النهي عن المزابنة من طريقين: وسيأتي الكلام عليه بعد خمسة أبواب. وفي الطريق الثانية حديث ابن عمر عن زيد بن ثابت في العرايا وسيأتي الكلام عليه بعد سبعة أبواب. وذكر في الترجمة الطعام بالطعام وليس في الحديث الذي ذكره للطعام ذكر. وكذلك ذكر فيها الزبيب بالزبيب والذي في الحديث الزبيب بالكرم. قال الإسماعيلى: (لعله أخذ ذلك من جهة المعنى قال: ولو ترجم للحديث ببيع التمر في رءوس الشجر بمثله من جنسه يابسا لكان أولى) انتهى.
ولم يخل البخاري بذلك كما سيأتي بعد ستة أبواب، وأما هنا فكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه من ذكر الطعام. وهو في رواية الليث عن نافع كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وروى مسلم من حديث معمر بن عبد الله مرفوعا: «الطعام بالطعام مثلا بمثل (1) » .
باب بيع الشعير بالشعير:
حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك عن ابن شهاب، عن مالك بن أوس أخبره أنه التمس صرفا بمائة دينار. فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا، حتى اصطرف مني، فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك. فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .(46/68)
وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء (1) » .
وقوله: (باب بيع الشعير بالشعير) أي ما حكمه؟ قوله: (إنه التمس صرفا) بفتح الصاد المهملة أي من الدراهم بذهب كان معه، وبين ذلك الليث في روايته عن ابن شهاب، ولفظه عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أقبلت أقول: من يصطرف الدراهم؟ قوله: (فتراوضنا) بضاد معجمة أي تجارينا الكلام في قدر العوض بالزيادة والنقص، كأن كلا منهما كان يروض صاحبه ويسهل خلفه. وقيل: المراوضة هنا: المواصفة بالسلعة. وهو أن يصف كل منهما سلعته لرفيقه.
قوله: (فأخذ الذهب يقلبها) أي الذهبة. والذهب يذكر ويؤنث فيقال ذهب وذهبة. أو يحمل على أنه ضمن الذهب معنى العدد المذكور وهو المائة فأنثه لذلك. وفي رواية الليث، فقال طلحة: (إذا جاء خادمنا نعطيك ورقك) ولم أقف على تسمية الخازن الذي أشار إليه طلحة.
قوله: (من الغابة) بالغين المعجمة وبعد الألف موحده يأتي شرح أمرها في أواخر الجهاد في قصة تركة الزبير بن العوام، وكأن طلحة كان له بها مال من نخل وغيره، وأشار إلى ذلك ابن عبد البر.
قوله: (حتى تأخذ منه) أي عوض الذهب، في رواية الليث: (والله لتعطينه ورقه أو لتردن إليه ذهبه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2134) ، صحيح مسلم المساقاة (1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243) ، سنن النسائي البيوع (4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578) .(46/69)
قال: فذكره) .
قوله: (الذهب بالورق ربا) قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك فيه وحمله عنه الحفاظ حتى رواه يحيى بن أبي كثير عن الأوزاعي عن مالك، وتابعه معمر والليث وغيرهما. وكذلك رواه الحفاظ عن ابن عيينة. وشذ أبو نعيم عنه فقال: (الذهب بالذهب) ، كذلك رواه ابن إسحاق عن الزهري. ويجوز في قوله: (الذهب بالورق) الرفع أي بيع الذهب بالورق فحذف المضاف للعلم به أو البعض الذهب يباع بالذهب، ويجوز النصب أي بيعوا الذهب، والذهب يطلق على جميع أنواعه المضروبة وغيرها، والورق: الفضة، وهو بفتح الواو وكسر الراء وبإسكانها على المشهور، ويجوز فتحهما. وقيل: بكسر الواو المضروبة وبفتحها المال. والمراد هنا جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة.
قوله: (إلا هاء وهاء) بالمد فيهما وفتح الهمزة، وقيل: بالكسر، وقيل: السكون، وحكي القصر بغير همز وخطأها الخطابي، ورد عليه النووي، وقال: هي صحيحة لكن قليلة والمعنى خذ وهات. وحكي (هاك) بزيادة كاف مكسورة، ويقال: (هاء بكسر الهمزة بمعنى هات، وبفتحها بمعنى خذ بغير تنوين) ، وقال ابن الأثير: (هاء وهاء هو أن يقول كل واحد من البيعين هاء فيعطيه ما في يده، كالحديث الآخر (إلا يدا بيد) يعني مقابضه في المجلس. وقيل: معناه خذ وأعط. قال: وغير(46/70)
الخطابي يجيز فيها السكون على حذف العوض ويتنزل منزلة (ها) التي للتنبيه.
وقال ابن مالك: ها اسم فعل بمعنى خذ. وإن رفعت بعد إلا فيجب تقدير قول قبله يكون به محكيا، فكأنه قيل: (ولا الذهب بالذهب إلا مقولا عنده من المتبايعين هاء وهاء) .
وقال الخليل: كلمة تستعمل عند المناولة.
والمقصود من قوله: (هاء وهاء) أن يقول كل واحد من المتعاقدين لصاحبه هاء فيتقابضان في المجلس. قال ابن مالك: حقها أن لا تقع بعد إلا كما لا يقع بعدها خذ، قال: فالتقدير لا تبيعوا الذهب بالورق إلا مقولا بين المتعاقدين هاء وهاء. واستدل به على اشتراط التقابض في الصرف في المجلس وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
وعن مالك: لا يجوز الصرف إلا عند الإيجاب بالكلام ولو انتقلا من ذلك الموضع إلى آخر لم يصح تقابضهما. ومذهبه: أنه لا يجوز عنده تراخي القبض في الصرف سواء كانا في المجلس أو تفرقا. وحمل قول عمر: (لا يفارقه) على الفور حتى لو أخر الصيرفي القبض حتى يقوم إلى قعو دكانه ثم يفتح صندوقه لما جاز.
قوله: (البر بالبر) بضم الموحدة ثم راء من أسماء الحنطة، والشعير بفتح أوله معروف، وحكي جواز كسره.(46/71)
واستدل به على أن البر والشعير صنفان وهو قول الجمهور. وخالف في ذلك مالك، والأوزاعي فقالوا: هما صنف واحد.
قال ابن عبد البر: في هذا الحديث أن الكبير يلي البيع والشراء لنفسه وإن كان له وكلاء وأعوان يكفونه، وفيه المماكسة في البيع والمراوضة وتقليب السلعة، وفائدته الأمن من الغبن، وأن من العلم ما يخفى على الرجل الكبير القدر حتى يذكره غيره. وأن الإمام إذا سمع أو رأى شيئا لا يجوز، ينهى عنه ويرشد إلى الحق، وأن من أفتى بحكم حسن أن يذكر دليله، وأن يتفقد أحوال رعيته ويهتم بمصالحهم. وفيه اليمين لتأكيد الخبر، وفيه الحجة بخبر الواحد، وأن الحجة على من خالف في حكم من الأحكام التي في كتاب الله أو حديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه أن النسيئة لا تجوز في بيع الذهب بالورق، وإذا لم يجز فيهما مع تفاضلهما بالنسيئة، فأحرى أن لا يجوز في الذهب بالذهب وهو جنس واحد، وكذا الورق بالورق.
يعنى إذا لم تكن رواية ابن إسحاق ومن تابعه محفوظة، فيؤخذ الحكم من دليل الخطابي، وقد نقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على هذا الحكم، أي التسوية في المنع بين الذهب بالذهب وبين الذهب بالورق فيستغنى حينئذ بذلك عن القياس.(46/72)
باب بيع الذهب بالذهب:
حدثنا صدقة بن الفضل، أخبرنا إسماعيل ابن علية، قال:(46/72)
حدثني يحيى بن أبي إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: قال أبو بكرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء والفضة بالفضة إلا سواء بسواء وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم (1) » .
قوله: (باب بيع الذهب بالذهب) تقدم حكمه في الباب الذي قبله، وذكر المصنف فيه حديث أبي بكرة، ثم أورده بعد ثلاثة أبواب من وجه آخر عن يحيى بن أبي إسحاق، ورجال الإسنادين بصريون كلهم، وأخذ حكم بيع الذهب بالورق من قوله: «وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم (2) » ، وفي الرواية الأخرى: «وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا (3) » . . الحديث، وسيأتي الكلام عليه.
باب بيع الفضة بالفضة:
حدثنا عبيد الله بن سعد، حدثنا عمي، حدثنا ابن أخي الزهري عن عمه قال: حدثني سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أبا سعيد الخدري حدثه مثل ذلك حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه عبد الله بن عمر فقال: (يا أبا سعيد، ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) فقال أبو سعيد في الصرف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الذهب بالذهب مثلا بمثل، والورق بالورق مثلا بمثل (4) » .
حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن نافع عن أبي سعيد
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2175) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4579) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2175) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4579) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .
(3) صحيح البخاري كتاب البيوع (2182) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4578) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(46/73)
الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (1) » .
قوله: (باب بيع الفضة بالفضة) تقدم حكمه أيضا. قوله: (حدثني عبيد الله بن سعد) زاد في رواية المستملي. وهو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. وابن أخي الزهري هو محمد بن عبد الله بن مسلم.
قوله: (عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أبا سعيد الخدري حدثه مثل ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيه عبد الله بن عمر فقال: (يا أبا سعيد، ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ، فقال أبو سعيد في الصرف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. .) فذكر الحديث. هكذا ساقه وفيه اختصار وتقديم وتأخير، وقد أخرجه الإسماعيلي من وجهين عن يعقوب بن إبراهيم شيخ شيخ البخاري فيه بلفظ أن أبا سعيد حدثه حديثا مثل حديث عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصرف، فقال أبو سعيد فذكره فظهر بهذه الرواية معنى قوله: (مثل ذلك) أي مثل حديث عمر، أي حديث عمر الماضي قريبا في قصة طلحة بن عبيد الله. وتكلف الكرماني هنا فقال: قوله: (مثل ذلك) أي مثل حديث أبي بكرة في وجوب المساواة ولو وقف على رواية
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(46/74)
الإسماعيلي لما عدل عنها. وقوله: (فلقيه عبد الله) أي بعد أن كان سمع منهم الحديث فأراد أن يستثبته فيه، وقد وقع لأبي سعيد مع ابن عمر في هذا الحديث قصة وهي هذه، ووقعت له فيه مع ابن عباس قصة أخرى كما في الباب الذي بعده.
فأما قصته مع ابن عمر فانفرد بها البخاري عن طريق سالم، وأخرجها مسلم من طريق الليث عن نافع ولفظه: أن ابن عمر قال له رجل من بني ليث: إن أبا سعيد الخدري يأثر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نافع: فذهب عبد الله وأنا معه والليث حتى دخل على أبي سعيد الخدري فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل (1) » . الحديث فأشار أبو سعيد بإصبعيه إلى عينيه وأذنيه فقال: (أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل (2) » الحديث، ولمسلم من طريق أبي نضرة في هذه القصة لابن عمر مع أبي سعيد أن ابن عمر نهى عن ذلك بعد أن كان أفتى به لما حدثه أبو سعيد بنهي النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما قصة أبي سعيد مع ابن عباس فسأذكرها في الباب الذي يليه.
قوله في الرواية الأولى (الذهب بالذهب) يجوز في الذهب الرفع والنصب وقد تقدم توجيهه، ويدخل في الذهب جميع أصنافه من مضروب ومنقوش، وجيد ورديء، وصحيح ومكسر، وحلي وتبر، وخالص ومغشوش، ونقل النووي تبعا لغيره في
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، مسند أحمد بن حنبل (3/51) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/73) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(46/75)
ذلك الإجماع.
قوله: (مثل بمثل) كذا في رواية أبي ذر بالرفع، ولغير أبي ذر: (مثلا بمثل) وهو مصدر في موضع الحال أي الذهب يباع بالذهب موزونا بموزون. أو مصدر مؤكد أي يوزن وزنا بوزن، وزاد مسلم في رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه: «إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء (1) » .
قوله: (ولا تشفوا) بضم أوله وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء أي تفضلوا، وهو رباعي من أشف والشف بالكسر الزيادة، وتطلق على النقص.
قوله: (ولا تبيعوا منها غائبا بناجز) بنون وجيم وزاي مؤجلا بحال، أي المراد بالغائب أعم من المؤجل كالغائب عن المجلس مطلقا مؤجلا كان أو حالا، والناجز الحاضر، قال ابن بطال: فيه حجة للشافعي في قوله: من كان له على رجل دراهم ولآخر عليه دنانير لم يجز أن يقاص أحدهما الآخر بما له لأنه يدخل في معنى بيع الذهب بالورق دينا لأنه إذا لم يجز غائب بناجز فأحرى أن لا يجوز غائب بغائب، وأما الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن عن ابن عمر قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع: أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " لا بأس به إذا كان بسعر يومه ولم تفترقا وبينكما شيء (2) » فلا يدخل في بيع الذهب بالورق دينا، لأن النهي بقبض الدراهم عن الدنانير لم
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1584) ، مسند أحمد بن حنبل (3/9) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .(46/76)
يقصد إلى التأخير في الصرف قاله ابن بطال، واستدل بقوله: (مثلا بمثل) على بطلان البيع بقاعدة مد عجوة، وهو أن يبيع مد عجوة ودينارا بدينارين مثلا، وأصرح من ذلك في الاستدلال على المنع حديث فضالة بن عبيد عند مسلم في رد البيع في القلادة التي فيها خرز وذهب حتى تفصل أخرجه مسلم. وفي رواية أبي داود فقلت: إنما أردت الحجارة، ففال: لا، حتى تميز بينهما.(46/77)
باب بيع الدينار بالدينار نساء:
حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا الضحاك بن مخلد، قال: أخبرني عمرو بن دينار أن أبا صالح الزيات أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم، فقلت له: فإن ابن عباس لا يقوله، فقال أبو سعيد: سألته فقلت سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أو وجدته في كتاب الله؟ قال: كل ذلك لا أقول، وأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولكن أخبرني أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ربا إلا في النسيئة (1) » .
قوله: (باب بيع الدينار بالدينار نساء) بفتح النون المهملة والمد والتنوين منصوبا. أي مؤجلا مؤخرا. يقال أنساه نساء ونسيئة، قوله: (الضحاك بن مخلد) هو أبو عاصم شيخ البخاري، وقد حدث في مواضع عنه بواسطة كهذا الموضع. قوله: (سمع أبا سعيد الخدري يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم) كذا وقع في هذه الطريق. وقد أخرجه مسلم من طريق
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(46/77)
ابن عيينة، عن عمرو بن دينار فزاد فيه: (مثلا بمثل) من زاد أو ازداد فقد أربى.
قوله: (إن ابن عباس لا يقوله) في رواية مسلم: (يقول غير هذا) .
قوله: (فقال أبو سعيد سألته) في رواية مسلم: (لقد لقيت ابن عباس فقلت له) . قوله: (فقال كل ذلك لا أقول) بنصب (كل) على أنه مفعول مقدم، وهو في المعنى نظير قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين: «كل ذلك لم يكن (1) » فالمنفي هو المجموع وفي رواية مسلم: (فقال: لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا وجدته في كتاب الله عز وجل) ، ولمسلم من طريق عطاء (أن أبا سعيد لقي ابن عباس) فذكر نحوه وفيه: (فقال: كل ذلك لا أقول) أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله فلا أعلمه) أي لا أعلم هذا الحكم فيه. وإنما قال لأبي سعيد أنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني لكون أبي سعيد وأنظاره كانوا أسن منه وأكثر ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي السياق دليل على أن أبا سعيد وابن عباس متفقان على أن الأحكام الشرعية لا تطلب إلا من الكتاب والسنة.
قوله: «لا ربا إلا في النسيئة (2) » في رواية مسلم: «الربا في النسيئة (3) » وله من طريق عبيد الله بن أبي يزيد وعطاء جميعا عن ابن عباس: «إنما الربا في النسيئة (4) » زاد في رواية عطاء: «ألا إنما الربا (5) » ، وزاد في رواية طاوس عن ابن عباس: «لا ربا فيما كان
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (482) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (573) ، سنن الترمذي الصلاة (399) ، سنن النسائي السهو (1226) ، سنن أبو داود الصلاة (1008) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1214) ، مسند أحمد بن حنبل (2/460) ، موطأ مالك النداء للصلاة (211) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/200) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(5) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(46/78)
يدا بيد (1) » وروى مسلم من طريق أبي نظرة قال: (سألت ابن عباس عن الصرف فقال: أيدا بيد؟ قلت نعم، قال: فلا بأس، فأخبرت أبا سعيد فقال: أوقال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه) ، وله من وجه آخر عن أبي نضرة: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا، فإني لقاعد عند أبي سعيد فسألته عن الصرف فقال: ما زاد فهو ربا. فأنكرت ذلك لقولهما، فذكر الحديث قال: (فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه) .
والصرف بفتح المهملة؛ دفع ذهب وأخذ فضة وعكسه، وله شرطان: منع النسيئة مع اتفاق النوع واختلافه وهو المجمع عليه، ومنع التفاضل في النوع الواحد منهما وهو قول الجمهور. وخالف فيه ابن عمر ثم رجع، وابن عباس واختلف في رجوعه. وقد روى الحاكم من طريق حيان العدوي وهو بالمهملة والتحتانية: (سألت أبا مجلز عن الصرف فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا من عمره ما كان منه عينا بعين يدا بيد، وكان يقول: إنما الربا في النسيئة، فلقيه أبو سعيد فذكر القصة والحديث وفيه: «التمر بالتمر والذهب بالذهب والفضة بالفضة يدا بيد مثلا بمثل، فمن زاد فهو ربا (2) » ، فقال ابن عباس: أستغفر الله وأتوب إليه، فكان ينهى عنه أشد النهي) واتفق العلماء على صحة حديث أسامة. واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد فقيل: منسوخ، لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وقيل المعنى في قوله: (لا ربا) الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/200) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/262) .(46/79)
عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره. وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل، وأيضا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم. فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛ لأن دلالته بالمنطوق ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر كما تقدم والله أعلم.
وقال الطبري: معنى حديث أسامة: «لا ربا إلا في النسيئة (1) » إذا اختلفت أنواع البيع والفضل فيه يدا بيد ربا، جمعا بينه وبين حديث أبي سعيد.
(تنبيه) : وقع في نسخة الصنعاني هنا: (قال أبو عبد الله) يعني البخاري (سمعت سليمان بن حرب يقول: لا ربا إلا في النسيئة هذا عندنا في الذهب بالورق والحنطة بالشعير متفاضلا ولا بأس به يدا بيد ولا خير فيه نسيئة) قلت: وهذا موافق. وفي قصة أبي سعيد مع ابن عمر ومع ابن عباس أن العالم يناظر العالم، ويوقعه على معنى قوله، ويرده من الاختلاف إلى الاجتماع، ويحتج عليه بالأدلة، وفيه إقرار الصغير للكبير بفضل التقدم.
باب بيع الورق بالذهب نسيئة:
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة قال: أخبرني حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت أبا المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهما عن الصرف، فكل واحد منهما يقول: هذا خير مني، فكلاهما يقول: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(46/80)
الذهب بالورق دينا (1) » .
قوله: (باب بيع الورق بالذهب نسيئة) البيع كله إما بالنقد أو بالعرض حالا أو مؤجلا، فهي أربعة أقسام: فبيع النقد إما بمثله وهو المراطلة، أو بنقد غيره وهو الصرف. وبيع العرض بنقد يسمى النقد ثمنا والعرض عوضا، وبيع العرض بالعرض يسمى مقايضة. والحلول في جميع ذلك جائز، وأما التأجيل فإن كان النقد بالنقد مؤخرا فلا يجوز، وإن كان العرض جاز، وإن كان العرض مؤخرا فهو السلم، وإن كانا مؤخرين فهو بيع الدين بالدين وليس بجائز إلا في الحوالة عند من يقول إنها بيع، والله أعلم.
قوله: (عن الصرف) أي بيع الدراهم بالذهب أو عكسه، وسمي به لصرفه عن مقتضى البياعات من جواز التفاضل فيه، وقيل من الصريف وهو تصويتهما في الميزان. وسيأتي في أوائل الهجرة من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي المنهال قال: (باع شريك لي دراهم أي بذهب في السوق نسيئة. فقلت: سبحان الله أيصلح هذا؟ فقال: لقد بعتها في السوق فما عابه علي أحد. فسألت البراء بن عازب فذكره.
قوله: (هذا خير مني) في رواية سفيان المذكورة، قال: فالق زيد بن أرقم فاسأله فإنه كان أعظمنا تجارة، فسألته، فذكره. وفي رواية الحميدي في مسنده من هذا الوجه عن سفيان. فقال صدق البراء، وقد تقدم في (باب التجارة في البر)
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2181) ، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4575) ، مسند أحمد بن حنبل (4/289) .(46/81)
من وجه آخر عن أبي المنهال بلفظ (إن كان يدا بيد فلا بأس، وإن كان نسيئا فلا يصلح) . وفي الحديث ما كان عليه الصحابة من التواضع. وإنصاف بعضهم بعضا. ومعرفة أحدهم حق الآخر. واستظهار العالم في الفتيا بنظيره في العلم. وسيأتي بعد الكلام على هذا الحديث في الشركة إن شاء الله تعالى.
باب بيع الذهب بالورق يدا بيد:
حدثنا عمران بن ميسرة، حدثنا عباد بن العوام، أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا والفضة بالذهب كيف شئنا (1) » .
قوله: (باب الذهب بالورق يدا بيد) ذكر فيه حديث أبي بكرة الماضي قبل بثلاثة أبواب وليس فيه التقييد بالحلول. وكأنه أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه: فقد أخرجه مسلم عن أبي الربيع عن عباد الذي أخرجه البخاري من طريقه وفيه: (فسأله رجل فقال: يدا بيد. . فقال: هكذا سمعت) ، وأخرجه مسلم من طريق يحيى بن أبي كثير عن يحيى بن أبي إسحاق فلم يسق لفظه فساقه أبو عوانة في مستخرجه فقال في آخره: «والفضة بالذهب كيف شئتم يدا بيد (2) » ، واشتراط القبض في الصرف متفق عليه، وإنما وقع الاختلاف في التفاضل بين الجنس الواحد واستدل به على بيع الربويات بعضها ببعض إذا كان يدا بيد.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب البيوع (2182) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4578) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2175) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4579) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .(46/82)
وأصرح منه حديث عبادة بن الصامت عند مسلم بلفظ: «فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) .(46/83)
نصوص أخرى منه مع الشرح المذكور:
حدثني عمرو بن زرارة، أخبرنا إسماعيل ابن علية، أخبرنا ابن أبي نجيح. عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم المدينة والناس يسلفون في التمر العام والعامين- أو قال عامين أو ثلاثة- شك إسماعيل فقال صلى الله عليه وسلم: من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم (1) » .
حدثنا محمد، أخبرنا إسماعيل، عن ابن أبي نجيح بهذا: «في كيل معلوم ووزن معلوم (2) » .
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب السلم في كيل معلوم) ، كذا في رواية المستملي وبالبسملة متقدمة عنده ومتوسطة في رواية الكشميهني بين كتاب وباب، وحذف النسفي كتاب السلم وأثبت الباب وأخر البسملة عنه. والسلم بفتحتين: السلف وزنا ومعنى. وذكر الماوردي: أن السلف لغة أهل العراق والسلم لغة أهل الحجاز - وقيل: السلف: تقديم رأس المال، والسلم: تسليمه في المجلس. فالسلف أعم.
والسلم شرعا: بيع موصوف في الذمة، ومن قيده بلفظ السلم زاده في الحد ومن زاد فيه ببدل يعطى عاجلا، فيه نظر
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2239) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/217) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .
(2) صحيح البخاري السلم (2239) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .(46/83)
لأنه ليس داخلا في حقيقته.
واتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب. واختلفوا في بعض شروطه. واتفقوا على أنه يشترط له ما يشترط للبيع، وعلى تسليم رأس المال في المجلس. واختلفوا هل هو عقد غرر جوز للحاجة أم لا؟
وقول المصنف: (باب السلم في كيل معلوم) أي فيما يكال، واشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل متفق عليه من أجل اختلاف المكاييل، إلا أن لا يكون في البلد سوى كيل واحد فإنه ينصرف إليه عند الإطلاق.
ثم أورد حديث ابن عباس مرفوعا: «من أسلف في شيء (1) » . .) الحديث عن طريق ابن علية. وفي الباب الذي بعده من طريق ابن عيينة كلاهما عن ابن أبي نجيح. وذكره بعد من طرق أخرى عنه، ومداره على عبد الله بن كثير وقد اختلف فيه، فجزم القابسي، وعبد الغني، والمزي بأنه المكي القارئ المشهور، وجزم الكلاباذي، وابن طاهر، والدمياطي بأنه ابن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي. وكلاهما ثقة. والأول أرجح فإنه مقتضى صنيع المصنف في تاريخه. وأبو المنهال شيخه هو عبد الرحمن بن مطعم الذي تقدمت روايته قريبا عن البراء وزيد بن أرقم.
قوله: (عامين أو ثلاثة شك إسماعيل) يعني ابن علية، ولم يشك سفيان فقال: (وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث) ،
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2241) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) .(46/84)
وقوله: عامين، وقوله: السنتين، منصوب إما على نزع الخافض أو على المصدر.
قوله: (من سلف في تمر) كذا لابن علية. بالتشديد. وفي رواية ابن عيينة: (من أسلف في شيء) وهي أشمل.
وقوله: (ووزن معلوم) الواو بمعنى أو (والمراد اعتبار الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن) .
قوله: (حدثنا محمد أخبرنا إسماعيل) هو ابن علية، واختلف في محمد، فقال الجياني: لم أره منسوبا، وعندي أنه ابن سلام وبه جزم الكلاباذي، زاد السفيانان: (إلى أجل معلوم) وسيأتي البحث فيه في بابه.
باب السلم في وزن معلوم:
حدثنا صدقة أخبرنا ابن عيينة أخبرنا ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (1) » .
حدثنا علي حدثنا سفيان قال: حدثني ابن أبي نجيح وقال: «فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم (2) » .
حدثنا قتيبة، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2241) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .
(2) صحيح البخاري السلم (2241) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/217) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .(46/85)
يقول: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: «في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (1) » .
حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة عن ابن أبي المجالد، وحدثنا يحيى حدثنا وكيع، عن شعبة، عن محمد بن أبي المجالد، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة قال: أخبرني محمد أو عبد الله بن أبي المجالد قال: (اختلف عبد الله بن شداد بن الهاد وأبو بردة في السلف فبعثوني إلى ابن أبي أوفى رضي الله عنه فسألته فقال: «إنا كنا نسلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزبيب والتمر (2) » وسألت ابن أبزى فقال مثل ذلك.
قوله: (باب السلم في وزن معلوم) أي فيما يوزن، وكأنه يذهب إلى أن ما يوزن لا يسلم فيه مكيلا وبالعكس، وهو أحد الوجهين والأصح عند الشافعية الجواز، وحمله إمام الحرمين على ما يعد الكيل في مثله ضابطا، واتفقوا على اشتراط تعيين المكيل فيما يسلم فيه من الكيل كصاع الحجاز، وقفيز العراق وإردب مصر، بل مكاييل هذه البلاد في نفسها مختلفة، فإذا أطلق صرف إلى الأغلب، وأورد فيه حديثين: أحدهما حديث ابن عباس الماضي في الباب قبله ذكره عن ثلاثة من مشايخه. حدثوه به عن ابن عيينة. قال في الأولى: «من أسلف في شيء ففي كيل معلوم (3) » الحديث. وقال في الثانية: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم (4) » ولم يذكر الوزن.
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2241) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .
(2) صحيح البخاري السلم (2243) ، سنن النسائي البيوع (4615) ، سنن أبو داود البيوع (3464) ، سنن ابن ماجه التجارات (2282) .
(3) صحيح البخاري السلم (2241) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .
(4) صحيح البخاري السلم (2241) .(46/86)
وذكره في الثالثة.
وصرح في الطريق الأولى بالإخبار بين ابن عيينة وابن أبي نجيح، وقوله: (في شيء) أخذ منه جواز السلم في الحيوان إلحاقا للعدد بالكيل والمخالف فيه الحنفية. وسيأتي القول بصحته عن الحسن بعد ثلاثة أبواب.
ثانيهما: حديث ابن أبي أوفى. قوله: (عن ابن أبي المجالد) كذا أبهمه أبو الوليد عن شعبة وسماه غيره عنه محمد بن أبي المجالد، ومنهم من أورده على الشك، محمد أو عبد الله، وذكر البخاري الروايات الثلاث، وأورده النسائي من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة عن عبد الله، وقال مرة (محمدا) ، وقد أخرجه البخاري في الباب الذي يليه من رواية عبد الواحد بن زياد وجماعة عن أبي إسحاق الشيباني فقال: (عن محمد بن أبي المجالد) ، ولم يشك في اسمه، وكذلك ذكره البخاري في تاريخه في المحمدين، وجزم أبو داود بأن اسمه عبد الله، وكذا قال ابن حبان ووصفه بأنه كان صهر مجاهد، وبأنه كوفي ثقة وكان مولى عبد الله بن أبي أوفى، وثقه أيضا يحيى ابن معين وغيره، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد.
قوله: (اختلف عبد الله بن شداد) أي ابن الهاد الليثي، وهو من صغار الصحابة (وأبو بردة) أي ابن أبي موسى الأشعري. قوله: (في السلف) أي هل يجوز السلم إلى من ليس عنده(46/87)
السلم فيه في تلك الحالة أم لا؟ وقد ترجم له كذلك في الباب الذي يليه.
قوله: (وسألت ابن أبزى) هو عبد الرحمن الخزاعي أحد صغار الصحابة. ولأبيه أبزى صحبة على الراجح. وهو بالموحدة والزاي وزن أعلى، ووجه إيراد هذا الحديث في باب السلم في وزن معلوم، الإشارة إلى ما في بعض طرقه وهو في الباب الذي يليه بلفظ: (فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت؛ لأن الزيت من جنس ما يوزن) قال ابن بطال: (أجمعوا على أنه إن كان في السلم ما يكال أو يوزن فلا بد فيه من ذكر الكيل المعلوم والوزن المعلوم، فإن كان فيما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم) . قلت: أو ذرع معلوم، والعدد والذرع ملحق بالكيل والوزن للجامع بينهما، وهو عدم الجهالة بالمقدار. ويجري في الذرع ما تقدم شرطه في الكيل والوزن من تعيين الذراع لأجل اختلافه في الأماكن، وأجمعوا على أنه لا بد من معرفة صفة الشيء المسلم فيه صفة تميزه عن غيره وكأنه لم يذكر في الحديث لأنهم كانوا يعملون به وإنما تعرض لذكر ما كانوا يهملونه.
باب السلم إلى من ليس عنده أصل:
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الشيباني، حدثنا محمد بن أبي المجالد قال: (بعثني عبد الله بن شداد، وأبو بردة إلى عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما فقالا:(46/88)
سله هل كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون في الحنطة؟ قال عبد الله: كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة والشعير والزبيب في كيل معلوم إلى أجل معلوم. قلت: إلى من كان أصله عنده؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك. ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزى فسألته، فقال: «كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسلفون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم نسألهم ألهم حرث أم لا؟ (1) » . حدثنا إسحاق، حدثنا خالد بن عبد الله عن الشيباني عن محمد بن أبي مجالد بهذا وقال: (فنسلفهم في الحنطة والشعير) وقال: عبد الله بن الوليد عن سفيان، حدثنا الشيباني وقال: (والزيت) حدثنا قتيبة، حدثنا جرير عن الشيباني وقال: (في الحنطة والشعير والزبيب) .
حدثنا آدم، حدثنا شعبة، أخبرنا عمرو قال: سمعت أبا البختري الطائي، قال: (سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن السلم في النخل فقال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يؤكل منه وحتى يوزن (2) » . فقال رجل: وأي شيء يوزن؟ قال رجل إلى جانبه: حتى يحرز) وقال معاذ: حدثنا شعبة عن عمرو، قال أبو البختري: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما (نهى النبي صلى الله عليه وسلم) مثله.
قوله: (باب السلم إلى من ليس عنده أصل) أي مما أسلم فيه، وقيل: المراد بالأصل أصل الشيء الذي يسلم فيه، فأصل الحب مثلا الزرع، وأصل الثمر مثلا الشجر، والغرض من
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2245) ، سنن النسائي البيوع (4615) ، سنن أبو داود البيوع (3464) ، سنن ابن ماجه التجارات (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/380) .
(2) صحيح البخاري السلم (2248) ، صحيح مسلم البيوع (1537) ، مسند أحمد بن حنبل (1/341) .(46/89)
الترجمة أن ذلك لا يشترط، وأورد المصنف حديث ابن أبي أوفى من طريق الشيباني فأورده أولا من طريق عبد الواحد وهو ابن زياد عنه، فذكر الحنطة والشعير والزيت، ومن طريق خالد عن الشيباني ولم يذكر الزيت، ومن طريق جرير عن الشيباني فقال الزبيب بدل الزيت، ومن طريق سفيان عن الشيباني فقال- وذكره بعد ثلاثة أبواب من وجه آخر عن سفيان - كذلك.
قوله: (نبيط أهل الشام) في رواية سفيان: (أنباط من أنباط الشام) وهم قوم من العرب دخلوا في العجم والروم واختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم، وكان الذين اختلطوا بالعجم منهم ينزلون البطائح بين العراقين، والذين اختلطوا بالروم ينزلون في بوادي الشام، ويقال لهم النبط، بفتحتين والنبيط بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية، والأنباط قيل: سموا بذلك لمعرفتهم بإنباط الماء أي استخراجه لكثرة معالجتهم الفلاحة. قوله: (قلت إلى من كان أصله عنده) أي المسلم فيه، وسيأتي من طريق سفيان بلفظ: (قلت: أكان لهم زرع أو لم يكن لهم؟) .
قوله: (ما كنا نسألهم عن ذلك) كأنه استفاد الحكم من عدم الاستفصال وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
قوله: (وقال عبد الله بن الوليد) وهو العدني. وسفيان هو الثوري. وطريقه موصولة في (جامع سفيان) من طريق علي بن(46/90)
الحسن الهلالي، عن عبد الله بن الوليد المذكور. واستدل بهذا الحديث على صحة السلم إذا لم يذكر مكان القبض، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وبه قال مالك وزاد: ويقبضه في مكان السلم، فإن اختلفا فالقول قول البائع. وقال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي: لا يجوز السلم فيما له حمل ومئونة إلا أن يشترط في تسليمه مكانا معلوما. واستدل به على جواز السلم فيما ليس موجودا في وقت السلم إذا أمكن وجوده في وقت حلول السلم وهو قول الجمهور. ولا يضر انقطاعه قبل المحل وبعده عندهم. وقال أبو حنيفة: لا يصح فيما ينقطع قبله ولو أسلم فيما يعم فانقطع في محله لم ينفسخ البيع عند الجمهور. وفي وجه الشافعية ينفسخ واستدل به على جواز التفرق في السلم قبل القبض لكونه لم يذكر في الحديث، وهو قول مالك إن كان بغير شرط، وقال الشافعي والكوفيون: يفسد بالافتراق قبل القبض لأنه يصير من باب بيع الدين بالدين. وفي حديث ابن أبي أوفى جواز مبايعة أهل الذمة والسلم إليهم، ورجوع المختلفين عند التنازع إلى السنة. والاحتجاج بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم، وأن السنة إذا وردت بتقرير حكم كان أصلا برأسه لا يضره مخالفة أصل آخر.
ثم أورد المصنف في الباب حديث ابن عباس الآتي في الباب الذي يليه، وزعم ابن بطال أنه غلط من الناسخ وأنه لا مدخل له في هذا الباب إذ لا ذكر للسلم فيه، وغفل عما وقع في السياق من قول الراوي أنه سأل ابن عباس عن السلم في النخل، وأجاب ابن المنير: أن الحكم مأخوذ بطريق المفهوم، وذلك أن ابن عباس(46/91)
لما سئل عن السلم مع من له نخل في ذلك النخل رأى أن ذلك من قبيل بيع الثمار قبل بدو الصلاح، فإذا كان السلم في النخل المعين لا يجوز تعين جوازه في غير المعين للأمن فيه من غائلة الاعتماد على ذلك النخل بعينه لئلا يدخل في باب بيع الثمار قبل بدو الصلاح، ويحتمل أن يريد بالسلم معناه اللغوى: أي السلف لما كانت الثمرة قبل بدو صلاحها، فكأنها موصوفة في الذمة.
قوله: (أخبرنا عمرو) في رواية مسلم: (عمرو بن مرة) وكذلك أخرجه الإسماعيلي من طرق عن شعبة. قوله: (فقال رجل: ما يوزن) لم أقف على اسمه، وزعم الكرماني أنه أبو البختري نفسه؛ لقوله في بعض طرقه: (فقال له الرجل، بالتعريف) .
قوله: (فقال له رجل إلى جانبه) لم أقف على اسمه، وقوله: (حتى يحرز) بتقديم الراء على الزاي أي يحفظ ويصان، وفي رواية الكشميهني، بتقديم الزاي على الراء أو يوزن أو يخرص، وفائدة ذلك معرفة كمية حقوق الفقراء قبل أن يتصرف فيه المالك، وصوب عياض الأول ولكن الثاني أليق بذكر الوزن. ورأيته في رواية النسفي: (حتى يحرر) براءين الأولى ثقيلة ولكنه رواه بالشك.
قوله: (وقال معاذ حدثنا شعبة) وصله الإسماعيلي، عن يحيى بن محمد، عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه به.(46/92)
باب السلم في النخل:
حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، عن عمرو، عن أبي البختري قال: (سألت ابن عمر رضي الله عنهما عن السلم في النخل فقال: «نهي عن بيع النخل حتى يصلح، وعن بيع الورق نساء بناجز (1) » وسألت ابن عباس عن السلم في النخل فقال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يؤكل منه أو يأكل منه حتى يوزن (2) » . حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن عمرو عن أبي البختري (سألت ابن عمر رضي الله عنهما عن السلم في النخل فقال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يصلح، ونهى عن الورق بالذهب نساء بناجز (3) » . وسألت ابن عباس فقال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يأكل أو يؤكل وحتى يوزن (4) » . قلت: وما يوزن؟ قال رجل عنده: حتى يحرز) .
قوله: (باب السلم في النخل) أي في ثمر النخل. قوله: (فقال) أي ابن عمر (نهي عن بيع النخل حتى يصلح) أي نهي عن بيع ثمر النخل. واتفقت الروايات في هذا الموضع على أنه نهي على البناء للمجهول واختلف في الرواية الثانية وهي رواية غندر: فعند أبي ذر وأبي الوقت فقال: (نهى عمر عن بيع الثمر) الحديث وفي رواية غيرهما (نهى النبي صلى الله عليه وسلم) ، واقتصر مسلم على حديث ابن عباس.
قوله: (وعن بيع الورق) أي بالذهب كما في الرواية
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2248) ، صحيح مسلم البيوع (1537) ، مسند أحمد بن حنبل (1/341) ، موطأ مالك البيوع (1303) .
(2) صحيح مسلم البيوع (1537) ، مسند أحمد بن حنبل (1/341) .
(3) صحيح البخاري السلم (2250) .
(4) صحيح البخاري السلم (2246) ، صحيح مسلم البيوع (1537) ، مسند أحمد بن حنبل (1/341) .(46/93)
الثانية. قوله: (نساء) بفتح النون والمهملة والمد أي تأخيرا. تقول: نسأت الدين أي أخرته نساء أي تأخيرا وسيأتي البحث في اشتراط الأجل في السلم في الباب الذي يليه.
وحديث ابن عمر إن صح فمحمول على السلم الحال عند من يقول به أو ما قرب أجله. واستدل به على جواز السلم في النخل المعين من البستان المعين لكن بعد بدو صلاحه وهو قول المالكية. وقد روى أبو داود وابن ماجه من طريق النجراني عن ابن عمر قال: «لا يسلم في نخل قبل أن يطلع، فإن رجلا أسلم في حديقة نخل قبل أن تطلع فلم تطلع ذلك العام شيئا، فقال المشتري: هو لي حتى تطلع، وقال البائع: إنما بعتك هذه السنة، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اردد عليه ما أخذت منه ولا تسلموا في نخل حتى يبدو صلاحه (1) » ، وهذا الحديث فيه ضعف، ونقل ابن المنذر اتفاق الأكثر على منع السلم في بستان معين لأنه غرر، وقد حمل الأكثر الحديث المذكور على السلم الحال، وقد روى ابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث عبد الله بن سلام في قصة إسلام زيد بن سعنة بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة بعدها نون، أنه «قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك أن تبيعني تمرا معلوما إلى أجل معلوم من حائط بني فلان؟ قال صلى الله عليه وسلم: " لا أبيعك من حائط مسمى بل أبيعك أوسقا مسماة إلى أجل مسمى (2) » .
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2284) .
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2281) .(46/94)
باب الكفيل في السلم:
حدثني محمد بن سلام، حدثنا يعلى، حدثنا الأعمش عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما من يهودي بنسيئة ورهنه درعا له من حديد (1) » .
باب الرهن في السلم:
حدثني محمد بن محبوب حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش قال: تذاكرنا عند إبراهيم الرهن في السلف فقال: حدثني الأسود عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما إلى أجل معلوم، وارتهن منه درعا من حديد (2) » .
قوله: (باب الكفيل في السلم) أورد فيه حديث عائشة: «اشترى النبي صلى الله عليه وسلم طعاما من يهودي نسيئة ورهنه درعا من حديد (3) » ، ثم ترجم له: (باب الرهن في السلم) وهو ظاهر فيه وأما الكفيل فقال الإسماعيلى: ليس في هذا الحديث ما ترجم به، ولعله أراد إلحاق الكفيل بالرهن؛ لأنه حق ثبت الرهن به فيجوز أخذ الكفيل فيه.
قلت: هذا الاستنباط بعينه سبق إليه إبراهيم النخعي راوي الحديث، وإلى ذلك أشار البخاري في الترجمة فسيأتي في الرهن (عن مسدد، عن عبد الواحد، عن الأعمش قال: تذاكرنا عند إبراهيم الرهن والكفيل في السلف، فذكر إبراهيم هذا الحديث فوضح أنه هو المستنبط لذلك. وأن البخاري أشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث على عادته وفي الحديث الرد
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2251) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .
(2) صحيح البخاري السلم (2252) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2068) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .(46/95)
على من قال: إن الرهن في السلم لا يجوز. وقد أخرح الإسماعيلي من طريق ابن نمير عن الأعمش أن رجلا قال لإبراهيم النخعي: إن سعيد بن جبير يقول: إن الرهن في السلم هو الربا المضمون، فرد عليه إبراهيم بهذا الحديث، وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الرهن إن شاء الله تعالى.
قال الموفق: رويت كراهة ذلك عن ابن عمر، والحسن، والأوزاعي، وإحدى الروايتين عن أحمد، ورخص فيه الباقون، والحجة فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) إلى قوله {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2) ، واللفظ عام فيدخل السلم في عمومه، لأنه أحد نوعي البيع، واستدل لأحمد بما رواه أبو داود من حديث أبي سعيد: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (3) » ، وجه الدلالة منه: أنه لا يأمن هلاك الرهن في يده بعدوان فيصير مستوفيا لحقه من غير المسلم فيه، وروى الدارقطني من حديث ابن عمر رفعه: «من أسلف في شيء فلا يشترط على صاحبه غير قضائه (4) » ، وإسناده ضعيف ولو صح فهو محمول على شرط ينافي مقتضى العقد. والله أعلم.
باب السلم إلى أجل معلوم:
وبه قال ابن عباس، وأبو سعيد، والحسن، والأسود، قال ابن عمر: لا بأس في الطعام الموصوف بسعر معلوم إلى أجل
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 283
(3) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .
(4) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .(46/96)
معلوم ما لم يكن ذلك في زرع لم يبد صلاحه.
حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث فقال: " أسلفوا في الثمار في كيل معلوم إلى أجل معلوم (1) » . وقال عبد الله بن الوليد: حدثنا سفيان، حدثنا ابن أبي نجيح وقال: «في كيل معلوم ووزن معلوم (2) » .
حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا سفيان، عن سليمان الشيباني، عن محمد بن أبي مجالد قال: (أرسلني أبو بردة، وعبد الله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزي، وعبد الله بن أبي أوفى فسألتهما عن السلف؟ فقالا: «كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى. قال: قلت: أكان لهم زرع، أو لم يكن لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم من ذلك (3) » . قوله: (باب السلم إلى أجل معلوم) يشير إلى الرد على من أجاز السلم الحال، وهو قول الشافعية، وذهب الأكثر إلى المنع وحمل من أجاز الأمر في قوله: (إلى أجل معلوم) على العلم بالأجل فقط، فالتقدير عندهم من أسلم إلى أجل فليسلم إلى أجل معلوم لا مجهول.
وأما السلم لا إلى أجل فجوازه بطريق الأولى، لأنه إذا جاز
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2253) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .
(2) صحيح البخاري السلم (2239) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .
(3) صحيح البخاري السلم (2255) ، سنن النسائي البيوع (4614، 4615) ، سنن أبو داود البيوع (3464، 3466) ، سنن ابن ماجه التجارات (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/354، 4/380) .(46/97)
مع الأجل وفيه الغرر فمع الحال أولى لكونه أبعد عن الغرر. وتعقب بالكتابة، وأجيب بالفرق لأن الأجل في الكتابة شرع لعدم قدرة العبد غالبا.
قوله: (وبه قال ابن عباس) أي باختصاص السلم بالأجل، وقوله: (وأبو سعيد) هو الخدري، والحسن (أي البصري) والأسود (أي ابن يزيد النخعي) فأما قول ابن عباس فوصله الشافعي من طريق أبي حسان الأعرج عن ابن عباس قال: (أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) وأخرجه الحاكم من هذا الوجه وصححه، وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس، قال: (لا تسلف إلى العطاء ولا إلى الحصاد واضرب أجلا) .
ومن طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس بلفظ آخر سيأتي. وأما قول أبي سعيد فوصله عبد الرزاق من طريق نبيح بنون وموحدة ومهملة مصغر وهو العنزي بفتح المهملة والنون ثم الزاي الكوفي عن أبي سعيد الخدري قال: السلم بما يقوم به السعر ربا ولكن أسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم) .
وأما قول الحسن فوصله سعيد بن منصور من طريق يونس بن عبيد عنه: (أنه كان لا يرى بأسا بالسلف في الحيوان إذا
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(46/98)
كان شيئا معلوما إلى أجل معلوم) .
وأما قول الأسود: فوصله ابن أبي شيب من طريق الثوري، عن أبي إسحاق عنه قال: (سألته عن السلم في الطعام فقال: لا بأس به. كيل معلوم إلى أجل معلوم) .
ومن طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس قال: (إذا سميت في السلم قفيزا وأجلا فلا بأس) ، وعن شريك، عن أبي إسحاق، عن الأسود مثله. واستدل بقول ابن عباس الماضي: (لا تسلف إلى العطاء) لاشتراط تعيين وقت الأجل بشيء لا يختلف فإن زمن الحصاد يختلف ولو بيوم وكذلك خروج العطاء، ومثله قدوم الحاج، وأجاز ذلك مالك، ووافقه أبو ثور. واختار ابن خزيمة من الشافعية تأقيته إلى الميسرة، واحتج بحديث عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي ابعث لي ثوبين إلى الميسرة (1) » ، وأخرجه النسائي. وطعن ابن المنذر في صحته بما وهم فيه. والحق أنه لا دلالة فيه على المطلوب؛ لأنه ليس في الحديث إلا مجرد الاستدعاء فلا يمتنع أنه إذا وقع العقد قيد بشروطه، ولذلك لم يصف الثوبين.
قوله: (وقال ابن عمر: لا بأس في الطعام الموصوف بسعر معلوم إلى أجل معلوم ما لم يكن ذلك في زرع لم يبد صلاحه) ، وصله مالك في (الموطأ) عن نافع، عنه قال: (لا بأس أن يسلف الرجل في الطعام الموصوف) فذكر مثله وزاد (أو ثمرة لم يبد صلاحها) وأخرجه ابن أبي شيبة، من طريق عبيد الله بن
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1213) ، سنن النسائي البيوع (4628) ، مسند أحمد بن حنبل (6/147) .(46/99)
عمر، عن نافع نحوه. وقد مضى حديث ابن عمر في ذلك مرفوعا في الباب الذي قبله، ثم أورد المصنف حديث ابن عباس المذكور في أول أبواب السلم.
قوله: (وقال عبد الله بن الوليد: حدثنا سفيان، حدثنا ابن أبي نجيح) هو موصول في (جامع سفيان) من طريق عبد الله بن الوليد المذكور وهو العدني عنه، وأراد المصنف بهذا التعليق بيان التحديث، لأن الذي قبله مذكور بالعنعنة، ثم أورد حديث ابن أبي أوفى وابن أبزى، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى عن قريب.
باب السلم إلى أن تنتج الناقة:
حدثني موسى بن إسماعيل أخبرنا جويرية، عن نافع، عن عبد الله رضي الله عنه قال: «كانوا يتبايعون الجزور إلى حبل الحبلة فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه (1) » فسره نافع: إلى أن تنتج الناقة ما في بطنها.
قوله: (باب السلم إلى أن تنتج الناقة) أورد فيه حديث ابن عمر في النهي عن بيع حبل الحبلة وقد تقدمت مباحثه في كتاب البيوع. ويؤخذ منه ترك جواز السلم إلى أجل غير معلوم ولو أسند إلى شيء يعرف بالعادة، خلافا لمالك ورواية عن أحمد
(خاتمة) اشتمل كتاب السلم على واحد وثلاثين حديثا، المعلق منها أربعة والبقية موصولة، الخالص منها خمسة أحاديث والبقية مكررة، وافقه مسلم على تخريج حديثي ابن عباس خاصة، وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين ستة آثار.
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2256) ، صحيح مسلم البيوع (1514) ، مسند أحمد بن حنبل (2/144) .(46/100)
ب- أحاديث من منتقى الأخبار لأبي البركات ابن تيمية معها شرحها من نيل الأوطار للشوكاني:
عن ابن مسعود «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه (1) » رواه الخمسة وصححه الترمذي غير أن لفظ النسائي «آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة (2) » .
وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية (3) » ، رواه أحمد.
حديث ابن مسعود أخرجه أيضا ابن حبان، والحاكم وصححاه، وأخرجه مسلم من حديث جابر بلفظ: «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعن آكل الربا، ومؤكله، وشاهديه هم سواء (4) » .
وفي الباب عن علي عليه السلام عند النسائي، وعن أبي جحيفة تقدم في أوله البيع، وحديث عبد الله بن حنظلة، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط والكبير قال في مجمع الزوائد: (ورجال أحمد رجال الصحيح) . ويشهد له حديث البراء عند ابن جرير بلفظ: «الربا اثنان وستون بابا أدناها مثل إتيان الرجل أمه (5) » ، وحديث أبي هريرة عند البيهقي بلفظ: «الربا سبعون بابا أدناها الذي يقع على أمه (6) » ، وأخرج ابن جرير عنه نحوه، وكذلك
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1597) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .
(2) سنن النسائي الزينة (5102) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/225) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .
(5) سنن ابن ماجه التجارات (2274) .
(6) سنن ابن ماجه التجارات (2274) .(46/101)
أخرج عنه نحوه ابن أبي الدنيا. وحديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم وصححه بلفظ: «الربا ثلاثة وسبعون بابا أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم (1) » .
وقوله: (آكل الربا) بمد الهمزة، ومؤكله بسكون الهمزة بعد الميم، ويجوز إبدالها واوا: أي ولعن مطعمه غيره، وسمي آخذ المال آكلا ودافعه مؤكلا؛ لأن المقصود منه الأكل وهو أعظم منفعة وسببه إتلاف أكثر الأشياء.
قوله: (وشاهديه) رواية أبي داود بالإفراد والبيهقي (وشاهديه أو شاهده) .
قوله: (وكاتبه) فيه دليل على تحريم كتابة الربا إذا علم ذلك وكذلك الشاهد لا يحرم عليه الشهادة إلا مع العلم، فأما من كتب أو شهد غير عالم فلا يدخل في الوعيد، ومن جملة ما يدل على تحريم كتابة الربا وشهادته وتحليل الشهادة، والكتابة في غيره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (3) أمر بالكتابة والإشهاد فيما أحله وفهم منه تحريمها فيما حرمه.
قوله: (أشد من ست وثلاثين. . إلخ) يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور بل أشد منها.
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2275) .
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) سورة البقرة الآية 282(46/102)
ولا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح، وأقبح منها استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم ولهذا جعلها الشارع أربى الربا. وبعد فالرجل يتكلم بالكلمة التي لا يجد لها لذة ولا تزيد في ماله ولا جاهه فيكون إثمه عند الله أشد من إثم من زنى ستا وثلاثين زنية. هذا ما لا يصنعه بنفسه عاقل، نسأل الله تعالى السلامة آمين آمين.
باب ما يجري فيه الربا:
عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض. ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض. ولا تبيعوا منهما غائبا بناجز (1) » متفق عليه، وفي لفظ: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل يدا بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى. الآخذ والمعطي فيه سواء (2) » رواه أحمد والبخاري. وفي لفظ: «لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، إلا وزنا بوزن مثلا بمثل، سواء بسواء (3) » رواه أحمد ومسلم.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال.
«الذهب بالذهب وزنا بوزن، مثلا بمثل، والفضة بالفضة وزنا بوزن، مثلا بمثل (4) » رواه أحمد ومسلم والنسائي.
وعن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2176، 2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1584، 1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241، 1241) ، سنن النسائي البيوع (4565، 4565) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (3/50، 3/97) ، موطأ مالك البيوع (1324، 1324) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1588) ، سنن النسائي البيوع (4559) ، سنن ابن ماجه التجارات (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) ، موطأ مالك البيوع (1323) .(46/103)
قال: «التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح مثلا بمثل، يدا بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه (1) » رواه مسلم.
وعن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن (2) » رواه مسلم والنسائي وأبو داود.
قوله: (الذهب بالذهب) يدخل في الذهب جميع أنواعه من مضروب ومنقوش، وجيد ورديء، وصحيح ومكسر، وحلي وتبر، وخالص ومغشوش، وقد نقل النووي وغيره الإجماع على ذلك.
قوله: (إلا مثلا بمثل) هو مصدر في موضع الحال: أي الذهب يباع بالذهب موزونا بموزون، أو مصدر مؤكد: أي يوزن وزنا بوزن. وقد جمع بين المثل والوزن في رواية مسلم المذكورة.
قوله: (ولا تشفوا) بضم أوله وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء رباعي من أشف والشف بالكسر: الزيادة، ويطلق على النقص والمراد هنا: لا تفضلوا.
قوله: (بناجز) بالنون والجيم والزاي أي لا تبيعوا مؤجلا بحال، ويحتمل أن يراد بالغائب أهم من المؤجل كالغائب عن المجلس مطلقا مؤجلا كان أو حالا، والناجز: الحاضر.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1588) ، سنن النسائي البيوع (4559) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3353) ، مسند أحمد بن حنبل (6/22) .(46/104)
قوله: (والفضة بالفضة) يدخل في ذلك جميع أنواع الفضة كما سلف في الذهب.
قوله: (والبر بالبر) بضم الباء وهو الحنطة، والشعير بفتح أوله ويجوز الكسر، وهو معروف، وفيه رد على من قال: إن الحنطة والشعير صنف واحد، وهم: مالك، والليث، والأوزاعي. وتمسكوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الطعام بالطعام (1) » كما سيأتي، ويأتي الكلام على ذلك.
قوله: (فمن زاد. . إلخ) فيه التصريح بتحريم ربا الفضل وهو مذهب الجمهور للأحاديث الكثيرة المذكورة في الباب وغيرها فإنها قاضية بتحريم بيع هذه الأجناس بعضها ببعض متفاضلا.
وروي عن ابن عمر أنه كان يجوز ربا الفضل ثم رجع عن ذلك، وكذلك روي عن ابن عباس، واختلف في رجوعه فروى الحاكم أنه رجع عن ذلك لما ذكر له أبو سعيد حديثه الذي في الباب واستغفر الله، وكان ينهى عنه أشد النهي، وروي مثل قولهما عن أسامة بن زيد، وابن الزبير، وزيد بن أرقم، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير واستدلوا على جواز ربا الفضل بحديث أسامة عند الشيخين وغيرهما بلفظ: «إنما الربا في النسيئة (2) » . زاد مسلم في رواية عن ابن عباس: «ولا ربا فيما كان يدا بيد (3) » . وأخرج الشيخان والنسائي عن أبي المنهال قال: سألت زيد بن أرقم، والبراء بن عازب، عن الصرف؟ فقالا: «نهى
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/200) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(46/105)
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا (1) » . وأخرج مسلم عن أبي نضرة قال: سألت ابن عباس عن الصرف؟ فقال: (إلا يدا بيد) قلت: نعم، قال: (فلا بأس) ، فأخبرت أبا سعيد فقال: (أوقال ذلك، إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه) .
وله من وجه آخر عن أبي نضرة: سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا، وإني لقاعد عند أبي سعيد، فسألته عن الصرف فقال: (ما زاد فهو ربا) فأنكرت ذلك لقولهما فذكر الحديث قال: فحدثني أبو الصبياء، أنه سأل ابن عباس عنه فكرهه.
قال في الفتح: (واتفق العلماء على صحة حديث أسامة، واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد فقيل: إن حديث أسامة منسوخ، لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وقيل: المعنى في قوله: (لا ربا) ، الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه العقاب الشديد كما تقول العرب: (لا عالم في البلد إلا زيد) مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل، وأيضا نفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد لأن دلالته بالمنطوق، ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر) اهـ.
ويمكن الجمع أيضا بأن يقال: مفهوم حديث أسامة عام؛ لأنه يدل على نفي ربا الفضل عن كل شيء سواء كان من الأجناس المذكورة في أحاديث الباب أم لا، فهو أعم منها مطلقا
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2181) ، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4575) ، مسند أحمد بن حنبل (4/289) .(46/106)
فيخصص هذا المفهوم بمنطوقها، وأما ما أخرجه مسلم عن ابن عباس (أنه لا ربا فيما كان يدا بيد) كما تقدم فليس ذلك مرويا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تكون دلالته على نفي ربا الفضل منطوقه، ولو كان مرفوعا لما رجع ابن عباس واستغفر لما حدثه أبو سعيد كما تقدم. وقد روى الحازمي رجوع ابن عباس واستغفاره عندما سمع عمر بن الخطاب وابنه عبد الله يحدثان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما يدل على تحريم ربا الفضل وقال: (حفظتما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم أحفظ) .
وروى عنه الحازمي أيضا أنه قال: (كان ذلك برأيى، وهذا أبو سعيد الخدري يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتركت رأيي إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) .
وعلى تسليم أن ذلك الذي قاله ابن عباس مرفوع فهو عام مخصص بأحاديث الباب؛ لأنها أخص منه مطلقا، وأيضا الأحاديث القاضية بتحريم ربا الفضل ثابتة عن جماعة من الصحابة في الصحيحين أو غيرهما.
قال الترمذي بعد أن ذكر حديث أبي سعيد: (وفي الباب عن أبي بكر وعمر وعثمان وأبي هريرة وهشام بن عامر والبراء وزيد بن أرقم وفضالة بن عبيد وأبي بكرة وابن عمر وأبي الدرداء وبلال) اهـ.
وقد ذكر المصنف بعض ذلك في كتابه هذا، وخرج الحافظ(46/107)
في التلخيص بعضها، فلو فرض معارضة حديث أسامة لها من جميع الوجوه وعدم إمكان الجمع أو الترجيح بما سلف لكان الثابت عن الجماعة أرجح من الثابت عن الواحد.
قوله: (ولا الورق بالورق) بفتح الواو وكسر الراء وبإسكانها على المشهور ويجوز فتحهما كذا في الفتح وهو الفضة، وقيل: بكسر الواو المضروبة وبفتحها المال، والمراد هنا جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة.
قوله: (إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء) الجمع بين هذه الألفاظ لقصد التأكيد أو للمبالغة.
قوله: (إلا ما اختلفت ألوانه) المراد: أنهما اختلفا في اللون اختلافا يصير به كل واحد منهما جنسا غير جنس مقابله، فمعناه معنى ما سيأتي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم (1) » وسنذكر- إن شاء الله- ما يستفاد منه.
عن أبي بكرة قال: «نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا (2) » أخرجاه، وفيه دليل على جواز الذهب بالفضة مجازفة.
وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) صحيح البخاري كتاب البيوع (2182) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4579) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .(46/108)
إلا هاء وهاء (1) » متفق عليه.
وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد. فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (2) » رواه أحمد ومسلم. وللنسائي وابن ماجه وأبي داود نحوه. وفي آخره: «وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا (3) » ، وهو صريح في كون البر والشعير جنسين.
وعن معمر بن عبد الله قال: «كنت أسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (4) » الطعام بالطعام مثلا بمثل «وكان طعامنا يومئذ الشعير (5) » رواه أحمد ومسلم.
وعن الحسن عن عبادة، وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا، وما كيل فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان فلا بأس به» رواه الدارقطني.
حديث أنس وعبادة أشار إليه في التلخيص ولم يتكلم عليه، وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره وضعفه جماعة، وقد أخرج هذا الحديث البزار أيضا، ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولا وغيره من الأحاديث.
قوله: (كيف شئنا) ، هذا الإطلاق مقيد بما في حديث
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2134، 2134) ، صحيح مسلم المساقاة (1586، 1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243، 1243) ، سنن النسائي البيوع (4558، 4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348، 3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253، 2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45، 1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333، 1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578، 2578) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .
(5) صحيح البخاري الزكاة (1510) .(46/109)
عبادة، من قوله: (إذا كان يدا بيد) ، فلا بد في بيع بعض الربويات من التقابض ولا سيما في الصرف وهو بيع الدراهم بالذهب وعكسه فإنه متفق على اشتراطه. وظاهر هذا الإطلاق والتفويض إلى المشيئة أنه يجوز بيع الذهب بالفضة والعكس، وكذلك سائر الأجناس الربوية إذا بيع بعضها ببعض من غير تقييد بصفة من الصفات غير صفة القبض، ويدخل في ذلك بيع الجزاف وغيره.
قوله: (إلا هاء وهاء) بالمد فيهما وفتح الهمزة، وقيل: بالكسر، وقيل بالسكون، وحكي القصر بغير همزة وخطأها الخطابي، ورد عليه النووي وقال: هي صحيحة لكن قليلة، والمعنى: خذ وهات، وحكي بزيادة كاف مكسورة ويقال: هاء بكسر الهمزة بمعنى هات، وبفتحها بمعنى خذ. وقال ابن الأثير: هاء وهاء: هو أن يقول كل واحد من البيعين: هاء فيعطيه ما في يده، وقيل: معناهما: خذ وأعط. قال: وغير الخطابي يجيز فيه السكون، وقال ابن مالك: هاء اسم فعل بمعنى خذ. وقال الخليل: هاء كلمة تستعمل عند المناولة. والمقصود من قوله هاء وهاء أن قول كل واحد من المتعاقدين لصاحبه هاء فيتقابضان في المجلس. قال: فالتقدير: لا تبيعوا الذهب بالورق إلا مقولا بين المتعاقدين هاء وهاء.
قوله: (فإذا اختلفت هذه الأصناف. . إلخ) ظاهر هذا أنه لا يجوز بيع جنس ربوي بجنس آخر إلا مع القبض، ولا يجوز(46/110)
مؤجلا ولو اختلفا في الجنس والتقدير كالحنطة والشعير بالذهب والفضة، وقيل: يجوز مع الاختلاف المذكور وإنما يشترط التقابض في الشيئين المختلفين جنسا المتفقين تقديرا، كالفضة بالذهب، والبر بالشعير.
إذا لا يعقل التفاضل والاستواء إلا فيما كان كذلك، ويجاب بأن مثل هذا لا يصلح لتخصيص النصوص وتقييدها، وكون التفاضل والاستواء لا يعقل في المختلفين جنسا وتقديرا ممنوع، والسند أن التفاضل معقول لو كان الطعام يوزن أو النقود تكال ولو في بعض الأزمان والبلدان، ثم إنه قد يبلغ ثمن الطعام إلى مقدار من الدراهم كثير عند شدة الغلاء بحيث يعقل أن يقال: الطعام أكثر من الدراهم وما المانع من ذلك؟ وأما الاستدلال على جواز ذلك بحديث عائشة عند البخاري ومسلم وغيرهما قالت: «اشترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يهودي طعاما بنسيئة. وأعطاه درعا له رهنا (1) » فلا يخفى أن غاية ما فيه أن يكون مخصصا للنص المذكور لصورة الرهن. فيجوز في هذه الصورة لا في غيرها لعدم صحة إلحاق ما لا عوض فيه عن الثمن بما فيه عوض عنه وهو الرهن. نعم إن صح الإجماع الذي حكاه المغربي في شرح بلوغ المرام فإنه قال: (وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلا أو مؤجلا كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير، وغيره من المكيل) اهـ.
كان ذلك هو الدليل على الجواز عند من كان يرى حجية
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2068) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .(46/111)
الإجماع، وأما إذا كان الربوي يشارك مقابله في العلة. فإن كان بيع الذهب بالفضة أو العكس فقد تقدم أنه يشترط التقابض إجماعا، وإن كان في غير ذلك من الأجناس كبيع البر بالشعير أو بالتمر أو العكس فظاهر الحديث عدم الجواز وإليه ذهب الجمهور.
وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن علية: لا يشترط. والحديث يرد عليه. وقد تمسك مالك بقوله: (إلا يدا بيد) ، وبقوله: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء (1) » على أنه يشترط القبض في الصرف عند الإيجاب بالكلام، ولا يجوز التراخي ولو كانا في المجلس. وقال الشافعي وأبو حنيفة والجمهور: إن المعتبر التقابض في المجلس وإن تراخى عن الإيجاب، والظاهر الأول: لكن أخرج عبد الرزاق وأحمد وابن ماجه عن ابن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «اشتر الذهب بالفضة فإذا أخذت واحدا منهما فلا تفارق صاحبك وبينكما لبس (2) » فيمكن أن يقال: إن هذه الرواية تدل على اعتبار المجلس.
قوله: (إن بيع البر بالشعير. . إلخ) فيه كما قال المصنف تصريح بأن البر والشعير جنسان وهو مذهب الجمهور، وحكي عن مالك والليث والأوزاعي كما تقدم أنها جنس واحد. وبه قال معظم علماء المدينة وهو محكي عن عمر وسعد وغيرهما من السلف وتمسكوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الطعام بالطعام (3) » ، كما في حديث معمر بن عبد الله المذكور.
ويجاب عنه بما في آخر الحديث من قوله: (كان طعامنا
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2134) ، صحيح مسلم المساقاة (1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243) ، سنن النسائي البيوع (4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .(46/112)
يومئذ الشعير) ، فإنه في حكم التقييد لهذا المطلق، وأيضا التصريح بجواز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا كما في حديث عبادة، وكذلك عطف أحدهما على الآخر كما في غيره من أحاديث الباب مما لا يبقى معه ارتياب في أنهما جنسان.
واعلم أنه قد اختلف هل يلحق بهذه الأجناس المذكورة في الأحاديث غيرها؟ فيكون حكمه حكمها في تحريم التفاضل والنساء من الاتفاق في الجنس. وتحريم النساء فقط من الاختلاف في الجنس والاتفاق في العلة.
فقالت الظاهرية: إنه لا يلحق بها غيرها في ذلك، وذهب من عداهم من العلماء إلى أنه يلحق بها ما يشاركها في العلة، ثم اختلفوا في العلة ما هي؟
وقال الشافعي: هي الاتفاق في الجنس والطعم فيما عدا النقدين، وأما هما فلا يلحق بهما غيرهما من الموزونات، واستدل على اعتبار الطعم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الطعام بالطعام (1) » .
وقال مالك في النقدين كقول الشافعي وفي غيرهما العلة: الجنس والتقدير والاقتيات، وقال ربيعة: بل اتفاق الجنس ووجوب الزكاة، وقالت العترة جميعا: بل العلة في جميعها اتفاق الجنس والتقدير بالكيل والوزن، واستدلوا على ذلك بذكره صلى الله عليه وآله وسلم للكيل وللوزن في أحاديث الباب، ويدل على ذلك أيضا حديث أنس المذكور فإنه حكم فيه على
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .(46/113)
كل موزون مع اتحاد نوعه. وعلى كل مكيل كذلك بأنه مثل بمثل. فأشعر بأن الاتفاق في أحدهما مع اتحاد النوع موجب لتحريم التفاضل بعموم النص لا بالقياس، وبه يرد على الظاهرية؛ لأنهم إنما منعوا من الإلحاق لنفيهم للقياس، ومما يؤيد ذلك ما سيأتي في حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الميزان مثل ما قال في المكيل على ما سيبينه المصنف- إن شاء الله تعالى- وإلى مثل ما ذهبت إليه العترة ذهب أبو حنيفة وأصحابه كما حكى ذلك عنه المهدي في البحر وحكي عنه أنه يقول العلة في الذهب الوزن، وفي الأربعة الباقية كونها مطعومة موزونة أو مكيلة.
والحاصل أنه قد وقع الاتفاق بين من عدا الظاهرية بأن جزء العلة الاتفاق في الجنس واختلفوا في تعيين الجزء الآخر على تلك الأقوال، ولم يعتبر أحد منهم للعدد جزءا من العلة مع اعتبار الشارع له كما في روايته من حديث أبي سعيد (ولا درهمين بدرهم) ، وفي حديث عثمان عند مسلم: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين (1) » .
(وعن أبي سعيد وأبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب، فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة فقال: "لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا (2) » ، وقال في الميزان مثل ذلك رواه البخاري. الحديث أخرجه أيضا مسلم.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1585) .
(2) صحيح البخاري الوكالة (2303) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، سنن ابن ماجه التجارات (2256) ، موطأ مالك البيوع (1315) ، سنن الدارمي البيوع (2577) .(46/114)
قوله: (رجلا) صرح أبو عوانة والدارقطني أن اسمه سواد بن غزية بمعجمة فزاي فياء مشددة كعطية.
قوله: (جنيب) بفتح الجيم وكسر النون وسكون التحتية وآخره موحدة. اختلف في تفسيره فقيل: هو الطيب، وقيل: الصلب، وقيل: ما أخرج منه حشفه ورديئه، وقيل: ما لا يختلط بغيره، وقال في القاموس: إن الجنيب تمر جيد.
قوله: (بع الجمع) بفتح الجيم وسكون الميم. قال في الفتح: هو التمر المختلط بغيره. وقال في القاموس: هو الدقل أو صنف من التمر، والحديث يدل على أنه لا يجوز بيع رديء الجنس بجيده متفاضلا، وهذا أمر مجمع عليه لا خلاف بين أهل العلم فيه، وأما سكوت الرواة عن فسخ المذكور فلا يدل على عدم الوقوع إما ذهولا وإما اكتفاء بأن ذلك معلوم، وقد ورد في بعض طرق الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «هذا هو الربا» فرده كما نبه على ذلك في الفتح.
وقد استدل أيضا بهذا الحديث على جواز بيع العينة، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يشتري بثمن الجمع جنيبا، ويمكن أن يكون بائع الجنيب منه هو الذي اشترى منه الجمع. فيكون قد عادت إليه الدراهم التي هي عين ماله، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره بأن يشتري الجنيب من غير من باع منه الجمع وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم.
قال في الفتح: (وتعقب بأنه مطلق والمطلق لا يشمل فإذا(46/115)
عمل به في صورة سقط الاحتجاج به في غيرها فلا يصح الاستدلال به على جواز الشراء ممن باع منه تلك السلعة بعينها) انتهى. وسيأتي الكلام على بيع العينة.
قوله: (وقال في الميزان مثل ذلك) أي مثل ما قال في المكيل من أنه لا يجوز بيع بعض الجنس منه ببعضه متفاضلا، وإن اختلفا في الجودة والرداءة بل يباع رديئه بالدراهم ثم يشترى بهذا الجيد، والمراد بالميزان هنا الموزون، وقال المصنف رحمه الله: وهو حجة في جريان الربا في الموزونات كلها: لأن قوله: (في الميزان) أي في الموزون وإلا فنفس الميزان ليست من أموال الربا) انتهى.(46/116)
باب في أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل:
عن جابر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر (1) » رواه مسلم والنسائي، وهو يدل بمفهومه على أنه لو باعها بجنس غير التمر لجاز.
قوله: (الصبرة) قال في القاموس: الصبرة بالضم: ما جمع من الطعام بلا كيل ووزن. انتهى.
قوله: (لا يعلم كيلها) صفة كاشفة للصبرة: لأنه لا يقال لها صبرة إلا إذا كانت مجهولة الكيل، والحديث فيه دليل على أنه لا يجوز أن يباع جنس بجنسه. وأحدهما مجهول المقدار؛
__________
(1) صحيح مسلم البيوع (1530) ، سنن النسائي البيوع (4547) .(46/116)
لأن العلم بالتساوي مع الاتفاق في الجنس شرط لا يجوز البيع بدونه. ولا شك أن الجهل بكلا البدلين أو بأحدهما فقط مظنة للزيادة والنقصان. وما كان مظنة للحرام وجب تجنبه وتجنب هذه المظنة إنما يكون بكيل المكيل ووزن الموزون من كل واحد من البدلين.
باب من باع ذهبا وغيره بذهب:
عن فضالة بن عبيد قال: «اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا، فيها ذهب وخرز ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لا يباع حتى يفصل (1) » رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه، وفي لفظ «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة دنانير فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا حتى تميز بينه وبينة" فقال: إنما أردت الحجارة. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لا حتى تميز بينهما" قال: فرده حتى ميز بينهما (2) » رواه أبو داود. الحديث قال في التلخيص: له عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جدا في بعضها: (قلادة فيها خرز وذهب) ، وفي بعضها: (ذهب وجوهر) ، وفى بعضها: (خرز وذهب) ، وفي بعضها: (خرز معلقة بذهب) ، وفي بعضها: (باثني عشر دينارا) ، وفي بعضها: (بتسعة دنانير) ، وفي أخرى: (بسبعة دنانير) ، وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاط بأنها كانت بيوعا شهدها فضالة.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/21) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .(46/117)
قال الحافظ: (والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه وهو النهي عن بيع ما لم يفصل. وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحال ما يوجب الحكم بالاضطراب، وحينئذ ينبغي الترجيح بين رواتها، وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم فتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة) انتهى، وبعض هذه الروايات التي ذكرها الطبراني في صحيح مسلم وسنن أبي داود.
قوله: (ففصلتها) بتشديد الصاد. الحديث استدل به على أنه لا يجوز بيع الذهب مع غيره بذهب حتى يفصل من ذلك الغير ويميز عنه ليعرف مقدار الذهب المتصل بغيره، ومثله الفضة مع غيرها بفضة، وكذلك سائر الأجناس الربوية لاتحادها في العلة وهي تحريم بيع الجنس بجنسه متفاضلا، ومما يرشد إلى استواء الأجناس الربوية في هذا ما تقدم من النهي عن بيع الصبرة من التمر بالكيل المسمى من التمر، أو كذلك نهيه عن بيع التمر بالرطب خرصا لعدم التمكن من معرفة التساوي على التحقيق وكذلك في مثل مسألة القلادة يتعذر الوقوف على التساوي من دون فصل، ولا يكفي مجرد الفصل بل لا بد من معرفة مقدار المفصول والمقابل له من جنسه.
وإلى العمل بظاهر الحديث ذهب عمر بن الخطاب، وجماعة من السلف، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن الحكم المالكي، وقالت الحنفية، والثوري، والحسن بن صالح، والعترة:(46/118)
إنه يجوز إذا كان الذهب تابعا لغيره بأن يكون الثلث فما دون، وقال حماد بن أبي سليمان: إنه يجوز بيع الذهب مع غيره بالذهب مطلقا سواء كان المنفصل مثل المتصل أو أقل أو أكثر، واعتذرت الحنفية ومن قال بقولهم عن الحديث: بأن الذهب كان أكثر من المنفصل واستدلوا بقوله: (ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا) والثمن إما سبعة أو تسعة، وأكثر ما روي أنه اثنا عشر، وأجيب عن ذلك بما تقدم عن البيهقي من أن القصة التي شهدها فضالة كانت متعددة فلا يصح التمسك بما وقع في بعضها وإهدار البعض الآخر، وأجيب أيضا: بأن العلة هي عدم الفصل، وظاهر ذلك عدم الفرق بين المساوي والأقل والأكثر والغنيمة وغيرها، وبهذا يجاب عن الخطابي حيث قال: إن سبب النهي كون تلك القلادة كانت من الغنائم مخافة أن يقع المسلمون في بيعها.
وقد أجاب الطحاوي عن الحديث بأنه مضطرب. قال السبكي: وليس ذلك باضطراب قادح ولا ترد الأحاديث الصحيحة بمثل ذلك. انتهى.
وقد عرفت مما تقدم أنه لا اضطراب في محل الحجة والاضطراب في غيره لا يقدح فيه. وبهذا يجاب أيضا على ما قاله مالك.
وأما ما ذهب إليه حماد بن أبي سليمان فمردود بالحديث على جميع التقادير. ولعله يعتذر عنه بمثل ما قال الخطابي أو لم يبلغه. قوله: (حتى تميز) بضم تاء المخاطب في أوله وتشديد(46/119)
الياء المكسورة بعد الميم.
قوله: (إنما أردت الحجارة) يعني الخرز الذي في القلادة ولم أرد الذهب.
باب مرد الكيل والوزن:
وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكة (1) » رواه أبو داود والنسائي. الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وأخرجه أيضا البزار، وصححه ابن حبان، والدارقطني، وفي رواية عن ابن عباس مكان ابن عمر.
قوله: (المكيال مكيال أهل المدينة. . إلخ) فيه دليل على أنه يرجع عند الاختلاف في الكيل إلى مكيال المدينة. وعند الاختلاف في الوزن إلى ميزان مكة، أما مقدار ميزان مكة فقال ابن حزم: بحثت غاية البحث عن كل من وثقت بتمييزه فوجدت كلا يقول: إن دينار الذهب بمكة وزنه اثنتان وثمانون حبة وثلاثة أعشار حبة بالحب من الشعير، والدرهم سبعة أعشار المثقال. فوزن الدرهم سبع وخمسون حبة وستة أعشار حبة وعشر حبة. فالرطل: مائة وثمانية وعشرون درهما بالدرهم المذكور، وأما مكيال المدينة فقد قدمنا تحقيقه في الفطرة. ووقع في رواية لأبي داود من طريق الوليد بن مسلم عن حنظلة بن أبي سفيان الجهمي قال: وزن المدينة ومكيال مكة. والرواية المذكورة في الباب من طريق سفيان الثوري عن حنظلة عن طاوس عن ابن عمر وهي
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2520) ، سنن أبو داود البيوع (3340) .(46/120)
أصح. وأما الرواية التي ذكرها أبو داود، عن ابن عباس فرواها أيضا الدارقطني من طريق أبي أحمد الزبيري، عن سفيان، عن حنظلة، عن طاوس، عن ابن عباس، ورواه من طريق أبي نعيم، عن الثوري، عن حنظلة، عن سالم بدل طاوس، عن ابن عباس قال الدارقطني: أخطأ أبو أحمد فيه.(46/121)
ومن أحاديثه أيضا مع شرحها من نيل الأوطار:
عن ابن عباس قال: «قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (1) » رواه الجماعة، وهو حجة في السلم في منقطع الجنس حالة العقد. قوله: (كتاب السلم) هو بفتح السين المهملة واللام كالسلف وزنا ومعنى، وحكي في الفتح عن الماوردي أن السلف لغة أهل العراق، والسلم لغة أهل الحجاز. وقيل: السلف: تقديم رأس المال. والسلم: تسليمه في المجلس. فالسلف أعم.
قال في الفتح: والسلم شرعا: (بيع موصوف في الذمة) وزيد في الحد (ببدل يعطى عاجلا) وفيه نظر؛ لأنه ليس داخلا في حقيقته. قال: واتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب. واختلفوا في بعض شروطه. واتفقوا على أنه يشترط له ما يشترط للبيع وعلى تسلم رأس المال في المجلس. واختلفوا هل هو عقد غرر جوز للحاجة أم لا؟ ا. هـ.
قوله: (يسلفون) بضم أوله. قوله: (السنة والسنتين)
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2253) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .(46/121)
في رواية البخاري: (عامين أو ثلاثة) والسنة: بالنصب على الظرفية أو المصدر، وكذلك لفظ سنتين وعامين.
قوله: (في كيل معلوم) احترز بالكيل عن السلم في الأعيان وبقوله: (معلوم) عن المجهول من المكيل والموزون. وقد كانوا في المدينة حين قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسلمون في ثمار نخيل بأعيانها فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر. إذ قد تصاب تلك النخيل بعاهة فلا تثمر شيئا.
قال الحافظ: (واشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل متفق عليه من أجل اختلاف المكاييل إلا أن لا يكون في البلد سوى كيل واحد فإنه ينصرف إليه عند الإطلاق) .
قوله: (إلى أجل معلوم) فيه دليل على اعتبار الأجل في السلم. وإليه ذهب الجمهور. وقالوا: (لا يجوز السلم حالا) وقالت الشافعية: (يجوز قالوا: لأنه إذا جاز مؤجلا مع الغرر فجوازه حالا أولى وليس ذكر الأجل في الحديث لأجل الاشتراط بل معناه إن كان لأجل فليكن معلوما وتعقب بالكتابة فإن التأجيل شرط فيها) وأجيب بالفرق؛ لأن الأجل في الكتابة شرع لعدم قدرة العبد غالبا، واستدل الجمهور على اعتبار التأجيل بما أخرجه الشافعي والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أحله الله في كتابه وأذن فيه ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(46/122)
يجاب: بأن هذا يدل على جواز السلم إلى أجل، ولا يدل على أنه لا يجوز إلا مؤجلا، وبما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه قال: (لا تسلف إلى العطاء ولا إلى الحصاد واضرب أجلا) ويجاب بأن هذا ليس بحجة لأنه موقوف عليه.
وكذلك يجاب من قول أبي سعيد الذي علقه البخاري ووصله عبد الرزاق بلفظ: (السلم بما يقوم به السعر ربا ولكن السلف في كيل معلوم إلى أجل وقد اختلف الجمهور في مقدار الأجل فقال أبو حنيفة: لا فرق بين الأجل القريب والبعيد، وقال أصحاب مالك: لا بد من أجل تتغير فيه الأسواق وأقله عندهم ثلاثة أيام، وكذا عند الهادوية، وعند ابن القاسم خمسة عشر يوما، وأجاز مالك السلم إلى العطاء والحصاد ومقدم الحاج، ووافقه أبو ثور، واختار ابن خزيمة تأقيته إلى الميسرة، واحتج بحديث عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث إلى يهودي: ابعث إلي ثوبين إلى الميسرة (1) » وأخرجه النسائي، وطعن ابن المنذر في صحته وليس في ذلك دليل على المطلوب؛ لأن التنصيص على نوع من أنواع الأجل لا ينفى غيره، وقال المنصور بالله: أقله أربعون يوما، وقال الناصر: أقله ساعة. والحق ما ذهبت إليه الشافعية من عدم اعتبار الأجل لعدم ورود دليل يدل عليه فلا يلزم التعبد بحكم بدون دليل، وأما ما يقال من أنه يلزم مع عدم الأجل أن يكون بيعا للمعدوم ولم يرخص فيه إلا في السلم ولا فارق بينه وبين البيع إلا الأجل، فيجاب عنه: بأن الصيغة فارقة وذلك كاف.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1213) ، سنن النسائي البيوع (4628) .(46/123)
واعلم أن للسلم شروطا غير ما اشتمل عليه الحديث مبسوطة في كتب الفقه، ولا حاجة لنا في التعرض لما لا دليل عليه إلا أنه وقع الإجماع على اشتراط معرفة صفة الشيء المسلم فيه على وجه يتميز بتلك المعرفة عن غيره.
(وعن عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى قالا: «كنا نصيب المغانم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى، قيل: أكان لهم زرع أو لم يكن؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك (1) » رواه أحمد والبخاري، وفي رواية: «كنا نسلف على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزيت والتمر وما نراه عندهم (2) » رواه الخمسة إلا الترمذي.
(وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (3) » رواه أبو داود وابن ماجه.
(وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أسلف شيئا فلا يشرط على صاحبه غير قضائه» . وفي لفظ: «من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله» رواهما الدارقطني. واللفظ الأول: دليل امتناع الرهن والضمين فيه، والثاني: يمنع الإقالة في البعض.
حديث أبي سعيد في إسناده عطية بن سعد العوفي. قال
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2255) ، سنن النسائي البيوع (4615) ، سنن أبو داود البيوع (3464) ، سنن ابن ماجه التجارات (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/380) .
(2) صحيح البخاري السلم (2243) ، سنن النسائي البيوع (4614) ، سنن أبو داود البيوع (3464) ، سنن ابن ماجه التجارات (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/380) .
(3) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .(46/124)
المنذري: لا يحتج بحديثه.
قوله: (ابن أبزى) بالموحدة والزاي على وزن أعلى وهو الخزاعي أحد صغار الصحابة ولأبيه أبزى صحبة، (قوله: أنباط) جمع نبط: وهم قوم معروفون كانوا ينزلون بالبطائح من العراق قاله الجوهري، وأصلهم قوم من العرب دخلوا في العجم واختلطت أنسابهم وفسدت ألسنتهم، ويقال لهم: النبط بفتحتين والنبيط بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية وإنما سموا بذلك لمعرفتهم بإنباط الماء؛ أي استخراجه لكثرة معالجتهم الفلاحة، وقيل هم نصارى الشام، وهم عرب دخلوا في الروم ونزلوا بوادي الشام، ويدل على هذا قوله: (من أنباط الشام) وقيل: هم الطائفتان: طائفة اختلطت بالعجم ونزلوا البطائح، وطائفة اختلطت بالروم ونزلوا الشام.
قوله: (فنسلفهم) بضم النون وإسكان السين المهملة وتخفيف اللام من الإسلاف. وقد تشدد اللام مع فتح السين من التسليف. قوله: (ما كنا نسألهم عن ذلك) فيه دليل على أنه لا يشترط في المسلم فيه أن يكون عند المسلم إليه وذلك مستفاد من تقريره صلى الله عليه وآله وسلم مع ترك الاستفصال. قال ابن رسلان: وأما المعدوم عند المسلم إليه وهو موجود عند غيره فلا خلاف في جوازه.
قوله: (وما نراه عندهم) لفظ أبي داود: (إلى قوم ما هو عندهم) أي ليس عندهم أصل من أصول الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وقد اختلف العلماء في جواز السلم فيما ليس بموجود(46/125)
في وقت السلم إذا أمكن وجوده في وقت حلول الأجل، فذهب إلى جوازه الجمهور قالوا: ولا يضر انقطاعه قبل الحلول، وقال أبو حنيفة: لا يصح فيما ينقطع قبله، بل لا بد أن يكون موجودا من العقد إلى المحل، ووافقه الثوري والأوزاعي فلو أسلم في شيء فانقطع في محله لم ينفسخ عند الجمهور، وفي وجه للشافعية ينفسخ. واستدل أبو حنيفة ومن معه بما أخرجه أبو داود عن ابن عمر.
«أن رجلا أسلف رجلا في نخل فلم يخرج تلك السنة شيئا فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: "بم تستحل ماله؟ اردد عليه ماله، ثم قال لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه (1) » . وهذا نص في التمر. وغيره قياس عليه. ولو صح هذا الحديث لكان المصير إليه أولى؛ لأنه صريح في الدلالة على المطلوب، بخلاف حديث عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى فليس فيه إلا مظنة التقرير منه صلى الله عليه وآله وسلم مع ملاحظة تنزيل ترك الاستفصال منزلة العموم، ولكن حديث ابن عمر هذا في إسناده رجل مجهول فإن أبا داود رواه، عن محمد بن سفيان، عن كثير عن أبي إسحاق عن رجل نجراني عن ابن عمر، ومثل هذا لا تقوم به حجة، قال القائلون بالجواز: ولو صح هذا الحديث لحمل على بيع الأعيان أو على السلم الحال عند من يقول به أو على ما قرب أجله. قالوا: ومما يدل على الجواز ما تقدم من أنهم كانوا يسلفون في الثمار السنتين والثلاث، ومن المعلوم أن الثمار لا تبقى هذه المدة، ولو اشترط الوجود لم يصح السلم في الرطب إلى هذه المدة، وهذا أولى ما يتمسك به في الجواز.
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2248) ، سنن أبو داود البيوع (3467) ، موطأ مالك البيوع (1344) .(46/126)
قوله: (فلا يصرفه إلى غيره) الظاهر أن الضمير راجع إلى المسلم فيه لا إلى ثمنه الذي هو رأس المال، والمعنى: أنه لا يحل جعل المسلم فيه ثمنا لشيء قبل قبضه ولا يجوز بيعه قبل القبض: أي لا يصرفه إلى شيء غير عقد السلم، وقيل: الضمير راجع إلى رأس مال السلم، وعلى ذلك حمله ابن رسلان في شرح السنن وغيره. أي ليس له صرف رأس المال في عوض آخر كأن يجعله ثمنا لشيء آخر. فلا يجوز له ذلك حتى يقبضه. وإلى ذلك ذهب مالك، وأبو حنيفة، والهادوية، والمؤيد بالله، وقال الشافعي وزفر: يجوز ذلك؛ لأنه عوض عن مستقر في الذمة فجاز كما لو كان قرضا، ولأنه مال عاد إليه بفسخ العقد على فرض تعذر السلم فيه فجاز أخذ العوض عنه، كالثمن في المبيع إذا فسخ العقد.
قوله: (فلا يشرط على صاحبه غير قضائه) فيه دليل على أنه لا يجوز شيء من الشروط في عقد السلم غير القضاء. واستدل به المصنف على امتناع الرهن. وقد روي عن سعيد بن جبير أن الرهن في المسلم هو الربا المضمون. وقد روي نحو ذلك عن ابن عمر، والأوزاعي، والحسن، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ورخص فيه الباقون. واستدلوا بما في الصحيح من حديث عائشة «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى طعاما من يهودي نسيئة ورهنه درعا من حديد (1) » . وقد ترجم عليه البخاري: باب الرهن في السلم، وترجم عليه أيضا في كتاب السلم: باب الكفيل في السلم، واعترض عليه الإسماعيلي بأنه
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2068) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .(46/127)
ليس في هذا الحديث ما ترجم به ولعله أراد إلحاق الكفيل بالرهن؛ لأنه حق ثبت الرهن به فجاز أخذ الكفيل به. والخلاف في الكفيل كالخلاف في الرهن.
قوله: (فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه. . إلخ) فيه دليل لمن قال: إنه لا يجوز صرف رأس المال إلى شيء آخر، وقد تقدم الخلاف في ذلك.(46/128)
ومن أحاديث المنتقى مع شرحها من نيل الأوطار:
(باب النهي عن بيع ما لا يملكه ليمضي فيشتريه ويسلمه)
عن حكيم بن حزام قال: «قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق فقال: لا تبع ما ليس عندك (1) » رواه الخمسة.
الحديث أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: (حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن حكيم) انتهى.
وفي بعض طرقه عبد الله بن عصمة. زعم عبد الحق أنه ضعيف جدا، ولم يتعقبه ابن القطان، بل نقل عن ابن حزم أنه مجهول. وقال الحافظ: (وهو جرح مردود فقد روى عنه ذلك ثلاثة كما في التلخيص. وقد احتج به النسائي. وفي الباب عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عند أبي داود والترمذي، وصححه، والنسائي، وابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (2) » .
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .(46/128)
قوله: (ما ليس عندك) أي ما ليس في ملكك وقدرتك، والظاهر أنه يصدق على العبد المغصوب الذي لا يقدر على انتزاعه ممن هو في يده، وعلى الآبق الذي لا يعرف مكانه، والطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه. ويدل على ذلك معنى (عند) لغة قال الرضي: (إنها تستعمل في الحاضر القريب وما هو في حوزتك وإن كان بعيدا) انتهى.
فيخرج عن هذا ما كان غالبا خارجا عن الملك أو داخلا فيه خارجا عن الحوزة، وظاهره أنه يقال لما كان حاضرا وإن كان خارجا عن الملك. فمعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تبع ما ليس عندك (1) » أي ما ليس حاضرا عندك ولا غائبا في ملكك وتحت حوزتك.
قال البغوي: النهي في هذا الحديث عن بيوع الأعيان التي لا يملكها، أما بيع شيء موصوف في ذمته فيجوز فيه السلم بشروط، فلو باع شيئا موصوفا في ذمته عام الوجود عند المحل المشروط في البيع جاز، وإن لم يكن المبيع موجودا في ملكه حالة العقد كالسلم.
قال: وفي معنى بيع ما ليس عنده في الفساد بيع الطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه إلى محله فإن اعتاد الطائر أن يعود ليلا لم يصح عند الأكثر إلا النحل، فإن الأصح فيه الصحة كما قاله النووي في زيادات الروضة، وظاهر النهي تحريم ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلا تحت مقدرته، وقد استثنى من ذلك السلم فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم، وكذلك إذا كان
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .(46/129)
المبيع في ذمة المشتري إذ هو كالحاضر المقبوض.
ثم قال: باب النهي عن بيع الدين بالدين وجوازه بالعين ممن هو عليه:
عن ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» رواه الدارقطني، وعن ابن عمر قال «أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير. فقال: "لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء (1) » رواه الخمسة. وفي لفظ بعضهم: «أبيع بالدنانير، وآخذ مكانها الورق، وأبيع بالورق، وآخذ مكانها الدنانير (2) » وفيه دليل على جواز التصرف في الثمن قبل قبضه، وإن كان في مدة الخيار وعلى أن خيار الشرط لا يدخل الصرف.
الحديث الأول صححه الحاكم على شرط مسلم وتعقب بأنه تفرد به موسى بن عبيدة الربذي كما قال الدارقطني وابن عدي، وقد قال فيه أحمد: لا تحل الرواية عنه عندي ولا أعرف هذا الحديث عن غيره، وقال: ليس في هذا أيضا حديث يصح. ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين.
وقال الشافعي: (أهل الحديث يوهنون هذا الحديث) اهـ. ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم «نهى عن بيع كالئ بكالئ دين بدين» ولكن في إسناده موسى المذكور فلا يصلح شاهدا.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .(46/130)
والحديث الثاني صححه الحاكم، وأخرجه ابن حبان، والبيهقي وقال الترمذي: "لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث سماك بن حرب وذكر أنه روي عن ابن عمر موقوفا) ، وأخرجه النسائي موقوفا عليه أيضا.
قال البيهقي: (والحديث تفرد برفعه سماك بن حرب) وقال شعبة: (رفعه لنا سماك وأنا أفرقه) .
قوله: (الكالئ بالكالئ) وهو مهموز. قال الحاكم عن أبي الوليد حسان: هو بيع النسيئة بالنسيئة، كذا نقله أبو عبيد في الغريب، وكذا نقله الدارقطني عن أهل اللغة وروى البيهقي عن نافع قال: (هو بيع الدين بالدين) .
وفيه دليل على عدم جواز بيع الدين بالدين، وهو إجماع كما حكاه أحمد في كلامه السابق، وكذا لا يجوز بيع كل معدوم بمعدوم.
قوله: (بالبقيع) قال الحافظ: (بالباء الموحدة كما وقع عند البيهقي في بقيع الغرقد) ، قال النووي: (ولم يكن إذ ذلك قد كثرت فيه القبور) . وقال ابن باطيش: (لم أر من ضبطه والظاهر أنه بالنون) حكي ذلك عنه في التلخيص وابن رسلان في شرح السنن.
قوله: (لا بأس. . إلخ) فيه دليل على جواز الاستدلال عن الثمن الذي في الذمة بغيره، وظاهره أنهما غير حاضرين جميعا(46/131)
بل الحاضر أحدهما وهو غير اللازم فيدل على أن ما في الذمة كالحاضر.
قوله: (ما لم تفترقا وبينكما شيء) فيه دليل على أن جواز الاستدلال مقيد بالتقابض في المجلس؛ لأن الذهب والفضة مالان ربويان فلا يجوز أحدهما بالآخر إلا بشرط وقوع التقابض في المجلس وهو محكي عن عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما، والحسن، والحكم، وطاوس، والزهري، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وأحمد وغيرهم، وروي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب، وهو أحد قولي الشافعي أنه مكروه: أي الاستبدال المذكور، والحديث يرد عليهم.
واختلف الأولون فمنهم من قال: (يشترط أن يكون بسعر يومها كما وقع في الحديث) وهو مذهب أحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي: (إنه يجوز بسعر يومها وأغلى أو أرخص) وهو خلاف ما في الحديث من قوله: "بسعر يومها" وهو أخص من حديث: «إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » فيبنى العام على الخاص.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(46/132)
باب نهي المشتري عن بيع ما اشتراه قبل قبضه:
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه (1) » رواه أحمد ومسلم.
وعن أبي هريرة قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وآله
__________
(1) صحيح مسلم البيوع (1529) ، مسند أحمد بن حنبل (3/327) .(46/132)
وسلم أن يشترى الطعام ثم يباع حتى يستوفى (1) » رواه أحمد ومسلم، ولمسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله (2) » ، وعن حكيم بن حزام قال: «قلت: يا رسول الله، إني أشتري بيوعا، فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: "إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه (3) » رواه أحمد.
وعن زيد بن ثابت: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحرزها التجار إلى رحالهم (4) » رواه أبو داود والدارقطني.
وعن ابن عمر قال: «كانوا يبتاعون الطعام جزافا بأعلى السوق فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه (5) » رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه. وفي لفظ في الصحيحين: (حتى يحولوه) والجماعة إلا الترمذي: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (6) » ولأحمد: «من اشترى طعاما بكيل ووزن فلا يبعه بقبضه (7) » ولأبي داود، والنسائي: «نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه (8) » .
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (9) » قال ابن عباس: (ولا أحسب كل شيء إلا مثله) رواه الجماعة إلا الترمذي، وفي لفظ في الصحيحين: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله (10) » .
حديث حكيم بن حزام أخرجه أيضا الطبراني في الكبير وفي
__________
(1) صحيح مسلم البيوع (1528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/329) .
(2) صحيح مسلم البيوع (1528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/349) .
(3) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4603) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2187) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2167) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك العتق والولاء (1520) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(6) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1336) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(7) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4604) ، سنن أبو داود البيوع (3495) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، مسند أحمد بن حنبل (2/111) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(8) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4604) ، سنن أبو داود البيوع (3495) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(9) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/22) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(10) صحيح البخاري البيوع (2126) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3492) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(46/133)
إسناده العلاء بن خالد الواسطي، وثقه ابن حسان، وضعفه موسى بن إسماعيل، وقد أخرج النسائي بعضه وهو طرف من حديثه المتقدم في باب النهي عن بيع ما لا يملكه. وحديث زيد بن ثابت أخرجه أيضا الحاكم وصححه، وابن حبان وصححه أيضا.
قوله: (إذا ابتعت طعاما) وكذا قوله في الحديث الثاني: (نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. . إلخ) وكذا قوله: (من اشترى طعاما) وكذلك بقية فيه التصريح بمطلق الطعام في حديث الباب في جميعها دليل على أنه لا يجوز لمن اشترى طعاما أن يبيعه حتى يقبضه من غير فرق بين الجزاف وغيره، وإلى هذا ذهب الجمهور، وروي عن عثمان البتي أنه يجوز بيع كل شيء قبل قبضه، والأحاديث ترد عليه، فإن النهي يقتضي التحريم بحقيقته، ويدل على الفساد المرادف للبطلان كما تقرر في الأصول.
وحكي في الفتح عن مالك في المشهور عنه الفرق بين الجزاف وغيرهن فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، واحتجوا بأن الجزاف يرى فيكفي فيه التخلية، والاستبقاء إنما يكون في مكيل أو موزون. وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا: «من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبيعه حتى يقبضه (1) » رواه أبو داود، والنسائي بلفظ: «نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه (2) » كما ذكره المصنف.
وللدارقطني من حديث جابر: «نهى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4604) ، سنن أبو داود البيوع (3495) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، مسند أحمد بن حنبل (2/111) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4604) ، سنن أبو داود البيوع (3495) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(46/134)
البائع وصاع المشتري (1) » ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة، قال في الفتح: بإسناد حسن. قالوا: وفي ذلك دليل على أن القبض إنما يكون شرطا في المكيل والموزون دون الجزاف، واستدل الجمهور بإطلاق أحاديث الباب وبنص حديث ابن عمر فإنه صرح فيه بأنهم كانوا يبتاعون جزافا الحديث- ويدل لما قالوا حديث حكيم بن حزام المذكورة لأنه يعم كل مبيع، ويجاب عن حديث ابن عمر وجابر اللذين احتج بهما مالك ومن معه: بأن التنصيص على كون الطعام المنهي عن بيعه مكيلا أو موزونا لا يستلزم عدم ثبوت الحكم في غيره. نعم لو لم يوجد في الباب إلا الأحاديث التي فيها إطلاق لفظ الطعام لأمكن أن يقال إنه يحمل المطلق على المقيد بالكيل والوزن. وأما بعد التصريح بالنهي عن بيع الجزاف قبل قبضه كما في حديث ابن عمر فيحتم المصير إلى أن حكم الطعام متحد من غير فرق بين الجزاف وغيره، ورجح صاحب (ضوء النهار) أن هذا الحكم: أعني تحريم بيع الشيء قبل قبضه مختص بالجزاف دون المكيل والموزون وسائر المبيعات من غير الطعام، وحكي هذا عن مالك.
ويجاب عنه بما تقدم من إطلاق الطعام والتصريح بما هو أعم منه كما في حديث حكيم، والتنصيص على تحريم بيع المكيل من الطعام والموزون كما في حديث ابن عمر وجابر، وما حكاه عن مالك خلاف ما حكاه عنه غيره، فإن صاحب الفتح حكي عنه ما تقدم، وهو مقابل لما حكاه عنه، وكذلك يروي عن مالك ما يخالف ذلك ابن دقيق العيد، وابن القيم، وابن رشد في
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2228) .(46/135)
بداية المجتهد وغيرهم. وقد سبق صاحب (ضوء النهار) إلى هذا المذهب ابن المنذر، ولكنه لم يخصص بعض الطعام دون بعض. بل سوى بين الجزاف وغيره، ونفى اعتبار القبض عن غير الطعام. وقد حكى ابن القيم في: (بدائع الفوائد) عن أصحاب مالك، كقول ابن المنذر، ويكفي في رد هذا المذهب حديث حكيم فإنه يشمل بعمومه غير الطعام، وحديث زيد بن ثابت فإنه مصرح بالنهي في السلع، وقد استدل من خصص هذا الحكم بالطعام لما في البخاري من حديث ابن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اشترى من عمر بكرا كان ابنه راكبا عليه، ثم وهبه لابنه قبل قبضه» ويجاب عن هذا بأنه خارج عن محل النزاع لأن البيع معاوضة بعوض، وكذلك الهبة إذا كانت بعوض وهذه الهبة الواقعة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست على عوض. وغاية ما في الحديث جواز التصرف في المبيع قبل قبضه بالهبة بغير عوض، ولا يصح الإلحاق للبيع وسائر التصرفات بذلك؛ لأنه مع كونه فاسد الاعتبار قياس مع الفارق، وأيضا قد تقرر في الأصول أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمر الأمة أو نهاها أمرا أو نهيا خاصا بها ثم فعل ما يخالف ذلك ولم يقم دليل يدل على التأسي في ذلك الفعل بخصوصه كان مختصا به لأن هذا الأمر أو النهي الخاصين بالأمة في مسألة مخصوصة هما أخص من أدلة التأسي العامة مطلقا فيبنى العام على الخاص، وذهب بعض المتأخرين إلى تخصيص التصرف الذي نهى عنه قبل القبض بالبيع دون غيره، قال: (فلا يحل البيع ويحل غيره من التصرفات) وأراد بذلك الجمع بين(46/136)
أحاديث الباب وحديث شرائه صلى الله عليه وآله وسلم للبكر ولكنه يعكر عليه أن ذلك يستلزم إلحاق جميع التصرفات التي بعوض وبغير عوض، كالهبة بغير عوض، وهو إلحاق مع الفارق، وأيضا إلحاقها بالهبة المذكورة دون البيع الذي وردت بمنعه الأحاديث تحكم، والأولى الجمع بإلحاق التصرفات بعوض بالبيع، فيكون فعلها قبل القبض غير جائز، وإلحاق التصرفات والتي لا عوض فيها بالهبة المذكورة وهذا هو الراجح.
ولا يشكل عليه ما قدمنا من أن ذلك الفعل مختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم: لأن ذلك إنما هو على طريق التنزل مع ذلك القائل، بعد فرض أن فعله صلى الله عليه وآله وسلم يخالف ما دلت عليه أحاديث الباب، وقد عرفت أنه لا مخالفة فلا اختصاص.
ويشهد لما ذهبنا إليه إجماعهم على صحة الوقف والعتق قبل القبض.
ويشهد له أيضا ما علل به النهي فإنه أخرج البخاري عن طاوس قال: (قلت لابن عباس: كيف ذلك؟ قال: دراهم بدراهم، والطعام مرجا) استفهمه عن سبب النهي، فأجابه بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باع دراهم بدراهم، ويبين ذلك ما أخرجه مسلم عن ابن عباس أنه قال لما سأله طاوس: (ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام مرجا) ؛ وذلك لأنه إذا اشترى طعامه بمائة دينار ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام، ثم باع الطعام إلى آخر بمائة وعشرين مثلا فكأنه اشترى بذهبه ذهبا أكثر منه، ولا يخفى أن مثل هذه العلة لا تنطبق على ما كان من التصرفات(46/137)
بغير عوض، وهذا التعليل أجود ما علل به النهى؛ لأن الصحابة أعرف بمقاصد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا شك أن المنع من كل تصرف قبل القبض من غير فرق بين ما كان بعوض وما لا عوض فيه لا دليل عليه إلا الإلحاق لسائر التصرفات بالبيع، وقد عرفت بطلان إلحاق ما لا عوض فيه بما فيه عوض، ومجرد صدق اسم التصرف على الجميع لا يجعله مسوغا للقياس عارف بعلم الأصول.
قوله: (حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) فيه دليل على أنه لا يكفي مجرد القبض، بل لا بد من تحويله إلى المنزل الذي يسكن فيه المشتري أو يضع فيه بضاعته، وكذلك يدل على هذا قوله في الرواية الأخرى: (حتى يحولوه) ، وكذلك ما وقع في بعض طرق مسلم عن ابن عمر بلفظ: «كنا نبتاع الطعام فبعث علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (1) » وقد قال صاحب الفتح أنه لا يعتبر الإيواء إلى الرحال، لأن الأمر به خرج مخرج الغالب، ولا يخفى أن هذه دعوى تحتاج إلى برهان، لأنه مخالفة لما هو الظاهر، ولا عذر لمن قال: أنه يحمل المطلق على المقيد من المصير إلى ما دلت إليه هذه الروايات.
قوله: (جزافا) بتثليث الجيم والكسر أفصح من غيره وهو ما لم يعلم قدره على التفصيل، قال ابن قدامة: (يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا إذا جهل البائع والمشتري قدرها) .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4605) ، سنن أبو داود البيوع (3493) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/113) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(46/138)
قوله: (ولا أحسب كل شيء إلا مثله) استعمل ابن عباس القياس، ولعله لم يبلغه النص المقتضي لكون سائر الأشياء كالطعام كما سلف.
قوله: (حتى يكتاله) قيل: المراد بالاكتيال: القبض والاستيفاء كما في سائر الروايات، ولكنه لما كان الأغلب في الطعام ذلك صرح بلفظ الكيل وهو خلاف الظاهر كما عرفت، والظاهر أن من اشترى شيئا مكايلة أو موازنة فلا يكون قبضه إلا بالكيل والوزن فإن قبضه جزافا كان فاسدا، وبهذا قال الجمهور كما حكاه الحافظ عنهم في الفتح، ويدل عليه حديث اختلاف الصاعين.
باب النهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان:
عن جابر قال: «نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع وصاع المشتري (1) » رواه ابن ماجه، والدارقطني.
وعن عثمان قال: «كنت أبتاع التمر من بطن من اليهود يقال لهم بنو قينقاع وأبيعه بربح فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا عثمان، إذا ابتعت فاكتل إذا بعت فكل (2) » رواه أحمد، وللبخاري مثله بغير إسناد كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. حديث جابر أخرجه أيضا البيهقي، وفي إسناده ابن أبي ليلى قال البيهقي: (وقد روي من وجه آخر) .
وفي الباب عن أبي هريرة عند البزار بإسناد حسن، وعن أنس، وابن عباس عند ابن عدي بإسنادين ضعيفين جدا كما قال الحافظ.
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2228) .
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (1/62) .(46/139)
وحديث عثمان أخرجه عبد الرزاق، ورواه الشافعي، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا، قال البيهقي: (روي موصولا من أوجه إذا ضم بعضها إلى بعض قوي) وقال في (مجمع الزوائد) : إسناده حسن. واستدل بهذه الأحاديث على أن من اشترى شيئا مكايلة وقبضه ثم باعه إلى غيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا. وإليه ذهب الجمهور كما حكاه في الفتح عنهم.
قال: (وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقا) وقيل: إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول، وإن باعه بنسيئة لم يجز بالأول. والظاهر ما ذهب إليه الجمهور من غير فرق بين بيع وبيع للأحاديث المذكورة في الباب التي تفيد بمجموعها ثبوت الحجة، وهذا إنما هو إذا كان الشراء مكايلة، وأما إذا كان جزافا فلا يعتبر الكيل المذكور عندما يبيعه المشتري.
(انتهى القسم الأول ويليه القسم الثاني في العدد 47)(46/140)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية(46/141)
فتوى رقم 11627
س: ما هو المقصود بالمحكم والمتشابه في آيات القرآن الكريم، وكيف ندفع الإشكال الذي يورده البعض من أنه إذا كان القرآن الكريم تبيانا لكل شيء وهدى للعالمين، فما هو وجه التوفيق بين ذلك وبن قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (1) وما المقصود بالراسخين في العلم؟ وما الفرق بين تأويل القرآن وتفسيره؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: يطلق الإحكام بمعنى الإتقان، فإحكام الكلام إتقانه ووضوح معناه فيتميز به الصدق من الكذب في الأخبار، والرشد من الغي في الأوامر، والقرآن كله محكم بهذا المعنى، واضح لا التباس فيه على أحد، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (2) وقال سبحانه: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (3) .
ثانيا: التشابه في الكلام يطلق على تماثله وتناسبه، بمعنى أنه يصدق بعضه بعضا في أوامره، فلا يأمر بشيء في موضع وينهى عنه في موضع آخر، ويصدق بعضه بعضا في أخباره فإذا أخبر بثبوت شيء في موضع لم يخبر بنفيه في موضع آخر، والقرآن كله متشابه بهذا المعنى فلا تناقض فيه ولا اضطراب، قال الله تعالى:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) سورة هود الآية 1
(3) سورة لقمان الآية 2(46/142)
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (1) ، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (2) .
والتشابه بهذا المعنى لا ينافي الإحكام بالمعنى العام، بل يصدق كل منهما الآخر ولا يتناقضان.
ثالثا: التشابه بالمعنى الخاص هو مشابهة الشيء غيره من وجه ومخالفته له من وجه، وفي القرآن آيات متشابهات بهذا المعنى، تحتمل دلالتها على ما يوافق الآيات المحكمة وتحتمل الدلالة على ما يخالفها فيلتبس المقصود منها على كثير من الناس، ومن رد المتشابهات بهذا المعنى الخاص إلى الآيات المحكمات الواضحات بنفسها تبين له المقصود من المتشابهات وتعين له وجه الصواب، ومن وقف من العلماء عند الآيات المتشابهات ولم يرجع بها إلى المحكمات الواضحات ارتكس في الباطل وضل عن سواء السبيل، كالنصارى في احتجاجهم على أن عيسى ابن الله، بقول الله تعالى فيه إنه كلمة ألقاها إلى مريم وروح منه، وتركهم الرجوع إلى قوله تعالى في عيسى عليه السلام: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} (3) ، وقوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (4) ، وقوله سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (5) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (6) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (7) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (8) ، وقد دل على هذا النوع من
__________
(1) سورة النساء الآية 82
(2) سورة الزمر الآية 23
(3) سورة الزخرف الآية 59
(4) سورة آل عمران الآية 59
(5) سورة الإخلاص الآية 1
(6) سورة الإخلاص الآية 2
(7) سورة الإخلاص الآية 3
(8) سورة الإخلاص الآية 4(46/143)
التشابه الخاص، والإحكام الخاص، وبين اختلاف الناس في موقفهم منه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) .
وبهذا يعلم أن القرآن تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، ويتبين التوفيق بين النصوص، وأن الراسخين في العلم هم الذين يبتغون الحق فيرجعون بالمتشابه من الآيات المحكمات، تحكيما لها فيزول الالتباس فيما تشابه من الآيات بالمعنى الخاص ويتعين المقصود منها، بخلاف من في قلوبهم شك وزيغ فهم الذين يركبون رءوسهم ويتبعون أهواءهم فيقصدون إلى المتشابه من النصوص دون رجوع به إلى المحكم ابتغاء الفتنة ورغبة في التلبيس على الناس وإضلالهم عن سواء السبيل.
أما الفرق بن تأويل القرآن وتفسيره فتأويله قد يراد به تفسيره بكلام يشرحه ويوضح المقصود منه، ولو برده إلى المحكم منه، وعلى هذا يصح الوقف على كلمة العلم في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (2) فإن الراسخين في العلم يعلمون معنى المتشابه من آيات القرآن والمقصود منها برده إلى المحكم من الآيات ويفسرونها ويبينون معناها فتكون الواو في قوله
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) سورة آل عمران الآية 7(46/144)
تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ} (1) عاطفة على لفظ الجلالة، وقد يراد بتأويل القرآن حقيقته ومآله والواقع الذي يئول إليه الكلام كما في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} (2) وكما ذكر تعالى في قصة يوسف - لما سجد له أبواه وإخوته - عن يوسف عليه السلام أنه قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} (3) فجعل عين ما وجد في الخارج تأويل رؤياه أي مآلها وحقيقتها التي وقعت، ومن ذلك كيفيات الصفات التي أثبتها الله تعالى لنفسه كالاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) وكمجيئه يوم القيامة والملائكة صفا صفا، قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (5) ، فكل من معنى الاستواء والمجيء معلوم للراسخين في العلم، أما كيفية ذلك فلا يعلمها إلا الله وحده.
وعلى هذا يكون الوقوف على لفظ الجلالة في قوله سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} (6) وكل من القولين في الوقف صحيح؛ لأن كلا منهما مبني على اعتبار معنى في بيان التأويل صحيح.
ومما يمثل به للتأويل بمعنى بيان المآل والحقيقة ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) سورة الأعراف الآية 53
(3) سورة يوسف الآية 100
(4) سورة طه الآية 5
(5) سورة الفجر الآية 22
(6) سورة آل عمران الآية 7(46/145)
يتأول القرآن (1) » ، تعنى قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} (2) ، فالتأويل في كلامها بمعنى المآل والحقيقة التي آل إليها الكلام.
وقد يراد بتأويل القرآن ونحوه من النصوص الشرعية صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به وهذا اصطلاح كثير ممن تكلم في الفقه وأصوله، وهو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات، وقد نقد شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك في آخر القاعدة الخامسة من كتاب التدمرية فليرجع إليه من أراد التوسع في الموضوع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 6، 43، 49، 190، البخاري برقم 817، 4967، ومسلم برقم 484
(2) سورة النصر الآية 3(46/146)
من الفتوى رقم 5086
السؤال الثاني: هل يصح أو يجوز للفرد أن يتكلم بما فتح الله عليه من تدبر الآيات كما يسميه بعض العلماء بلطائف التفسير، بالرغم من أن هذا ليس مستندا لأثر موقوف على صحابي أو حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟(46/146)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يجوز لعالم بما يحيل المعاني ممن لديه معرفة باللغة العربية وبقواعد الشريعة العامة أن يفسر القرآن مستعينا في ذلك بتفسير بعضه لبعض وبتفسير السنة الصحيحة له وسلف الأمة المعتبرين.
أما تفسيره بمجرد الرأي والهوى فحرام، لما روى ابن جرير وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد في المسند 1 \ 233، 269، 323، والترمذي برقم 2951، 2952، والطبري في تفسيره برقم 73، 74(46/147)
من الفتوى رقم 7720
السؤال السادس: هل يجوز أن نشرح دليلا من الآيات الكريمة دون أن نذكر نص الآيات؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يجوز شرح الآيات وذكر معناها دون قراءة نصها إذا كان الشارح ثقة مأمونا عالما بتفسير الآيات على طريقة أهل السنة والجماعة.(46/147)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(46/148)
من الفتوى رقم 2872
السؤال الثاني: في بعض الآيات القرآنية يقول الله عن نفسه: (نحن) ، وفي بعضها يقول: (هو) ، أي أنه يذكر نفسه بالجمع أحيانا، وبالمفرد أحيانا، فما معنى هذا؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: من أساليب اللغة العربية أن الشخص يعبر عن نفسه بضمير (نحن) للتعظيم، ويذكر نفسه بضمير المتكلم الدال على المفرد، كقوله: (أنا) ، وبضمير الغيبة، نحو (هو) ، وهذه الأساليب الثلاثة جاءت في القرآن، والله يخاطب العرب بلسانهم.
وأما زعم النصارى أن مثل قوله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (1) وما أشبهها تقتضي التثليث، فهو زعم باطل، تدل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع أهل العلم والإيمان على بطلانه، مثل قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (2) ، وقوله سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (4) . . . إلخ
__________
(1) سورة الحجر الآية 9
(2) سورة البقرة الآية 163
(3) سورة الإخلاص الآية 1
(4) سورة الإخلاص الآية 2(46/148)
السورة، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(46/149)
من الفتوى رقم 2677
السؤال السابع: ما هو الكتاب الأجود في التفسير من الكتب الموجودة حاليا وسابقا؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أجود كتب التفسير يختلف باختلاف طاقة القارئ ووسعه، وعلى كل حال أجودها في نفسها كتاب تفسير ابن جرير الطبري، وكتاب تفسير ابن كثير، ونحوهما من كتب التفسير بالأثر؛ فإنها أسهل تعبيرا وأعدل في فهم المراد، وألمس لمعاني القرآن، وأقرب إلى إصابة الحق وبيان مقاصد الشريعة، مع ذكر ما يشهد لذلك من الأحاديث والآثار الثابتة، ورد المتشابه من الآيات إلى المحكم منها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(46/149)
من الفتوى رقم 6395
السؤال الأول: أرجو من سماحتكم أن تفهموني بعض معاني الآيات مثل (حم- الم- المص- حم- عسق) وهل تقرأ هذه عين، لأن المدرسين يقولون هكذا، وهل هي معجزة يريد الله بها إعجاز فصحاء قريش أم لا يعلم معناها إلا الله؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: فيه آراء للعلماء، والراجح أنها ذكرت هذه الحروف والله أعلم في أول السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن؛ وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وهذا هو الذي نصره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وارتضاه أبو الحجاج المزي رحمه الله.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(46/150)
الفتوى رقم 9247
السؤال الثالث: ما حكم الشرع في التفاسير التي تسمى بالتفاسير العلمية؟ وما مدى مشروعية ربط آيات القرآن ببعض الأمور العلمية التجريبية، فقد كثر الجدل حول هذه المسائل؟(46/150)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إذا كانت من جنس التفاسير التي تفسر قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (1) بأن الأرض كانت متصلة بالشمس وجزءا منها ومن شدة دوران الشمس انفصلت عنها الأرض ثم برد سطحها وبقي جوفها حارا، وصارت من الكواكب التي تدور حول الشمس. إذا كانت التفاسير من هذا النوع فلا ينبغي التعويل ولا الاعتماد عليها.
وكذلك التفاسير التي يستدل مؤلفوها بقوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (2) على دوران الأرض، وذلك أن هذه التفاسير تحرف الكلم عن مواضعه وتخضع القرآن الكريم لما يسمونه نظريات علمية، وإنما هي ظنيات أو وهميات وخيالات.
وهكذا جميع التفاسير التي تعتمد على آراء جديدة ليس لها أصل في الكتاب والسنة ولا في كلام سلف الأمة لما فيها من القول على الله بغير علم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 30
(2) سورة النمل الآية 88(46/151)
من الفتوى رقم 9841
السؤال الأول: إذا مر القارئ على آية سجدة فهل يلزمه أن يكون على طهارة أثناء السجود أم لا؟ هل يشرع لسجود التلاوة استقبال القبلة للقارئ وللمستمعين أم لا؟
هل كل سجدة في القرآن يشرع فيها السجود أم أن الثابت سجدات دون سجدات؟ وما هي السجدات الثابتة والتي يشرع لها السجود؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
ج: أولا: سبق أن صدر منا فتوى في سجود التلاوة برقم 1500 هذا نصها: (من أهل العلم من يرى أنه صلاة ويبني على ذلك اشتراط الطهارة واستقبال القبلة والتكبير عند السجود وعند الرفع منه والسلام، ومنهم من يرى أنه عبادة ولكن ليس كالصلاة ويبني على ذلك عدم اشتراط الطهارة والتوجه إلى القبلة وغير ذلك مما سبق وهذا القول أرجح، لأننا لا نعلم دليلا يدل على اشتراط الطهارة واستقبال القبلة، لكن متى تيسرا: استقبال القبلة حين السجود وأن يكون على طهارة فهو أولى خروجا من خلاف العلماء.
ثانيا: أن السجدات المشروع لها السجود في القرآن الكريم أربع عشرة سجدة في آخر الأعراف، وفي الرعد، والنحل، وبني إسرائيل (الإسراء) ، وسجدتين في الحج، وسجدة في(46/152)
الفرقان، والنمل، والم تنزيل (السجدة) ، وسورة ص، وفصلت، والنجم، والانشقاق، واقرأ باسم ربك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(46/153)
من الفتوى رقم 5433
السؤال الثالث: سمعت حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول لغلام في المسجد لأعلمك كلمة ينفعك الله بها، فلما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال له الغلام: ألا قلت: تعلمني كلمة بعد خروجك من المسجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم ألا وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني " فهل هذا صحيح؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
ج: الحديث صحيح ونصه عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: «كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه حتى صليت ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتي؟ فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال:: ألم يقل الله: ثم قال لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج " فذهب رسول
__________
(1) أحمد 3 \ 450، 4 \ 211، والبخاري برقم 4474 و 4647، 703، 5006، وأبو داود برقم 1458، والنسائي في المجتبى برقم 914، وابن ماجه 3785(46/153)
الله صلى الله عليه وسلم ليخرج فقلت له: ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قال: السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته (2) » . رواه البخاري وغيره.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنفال الآية 24 (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}
(2) سورة الفاتحة الآية 2 (1) {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}(46/154)
من الفتوى رقم 6304
السؤال الخامس: قال تعالى {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (1) في سورة الفاتحة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (2) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (3) آمين، أريد معرفة معنى الصراط المستقيم، ومن الذين أنعم الله عليهم بهذا الصراط، وما معنى آمين؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: معنى الصراط المستقيم هو: الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، فقيل: هو القرآن، وقيل الإسلام، وقيل هو النبي صلى الله عليه وسلم، والكل حق، فإن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم فقد اتبع الإسلام ومن اتبع الإسلام فقد اتبع القرآن، والذين أنعم الله عليهم، قال ابن
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 1
(2) سورة الفاتحة الآية 6
(3) سورة الفاتحة الآية 7(46/154)
كثير في تفسيره: "قال الضحاك عن ابن عباس: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (1) بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين وذلك نظير ما قال ربنا تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (2) ، ومعنى آمين: اللهم استجب.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 7
(2) سورة النساء الآية 69(46/155)
من الفتوى رقم 9644
السؤال السادس: هل يجوز كتابة (بسم الله الرحمن الرحيم) في بداية كتابة أي شيء؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: يسن كتابتها في بداية كتابة كل شيء له بال وأهمية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ بها كتبه، ولما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله فهو أجزم (1) » .
__________
(1) الخطيب في الجامع 2 \ 128، وابن السمعاني في آداب الإملاء (51) ، والسبكي في الطبقات 1 \ 6 من حديث أبي هريرة، وعبد الرزاق في المصنف برقم 20208 من حديث رجل من الأنصار(46/155)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(46/156)
فتوى رقم 5658
س: رجل في باكستان يسمى: محمد أمين، يدعي أن سورة الفاتحة لا تتضمن إلا حكمين فقط، الحكم الأول ينتهي بقوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) والثاني بقوله: {وَلَا الضَّالِّينَ} (2)
الأول: فيه بيان التوحيد، والثاني: فيه إثبات التقليد.
فهل هذا التفسير ثبت من الرسول صلى الله عليه وسلم أو من التابعين أو من أتباعهم؟ وفي أي كتاب يوجد هذا التفسير؟ وإذا كان الجزء الثاني يثبت التقليد فهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم مقلدا؟ - معاذ الله من ذلك - وهل يجوز تفسير القرآن بالقياس؟ وما الحكم في الرجل الذي يفسر القرآن برأيه وقياسه؟ هل هو مسلم أو كافر؟ والرجل يصر على هذا التفسير، أرجو الإجابة في ضوء القرآن والسنة، جزاكم الله خيرا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: سورة الفاتحة تشتمل على أحكام كثيرة، بل تشتمل إجمالا على جميع ما في القرآن من أحكام؛ ولذلك سميت أم القرآن، وسماها النبي صلى الله عليه وسلم بما سماها الله به: القرآن العظيم، وذلك فيما رواه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه، قال: «مر
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة الفاتحة الآية 7(46/156)
بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي فدعاني، فلم آته حتى صليت، ثم أتيت، فقال: ما منعك أن تأتي؟ فقلت: كنت أصلي. فقال: ألم يقل الله تعالى:. ثم قال: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟ فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج من المسجد فذكرته، فقال: وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته (3) » .
وما رواه البخاري أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم (4) » .
لكن هذه الأحكام مع كثرتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام، كما في الحديث القدسي:
الأول: حق محض لله وهو ما اشتملت عليه الآيات الثلاث الأولى من توحيد الربوبية والأسماء والصفات.
والثاني: حق محض للعبد، وهو ما تضمنته الآيات: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (5) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (6) والثالث: يتضمن حق الله وحق العبد وهو آية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (7) وكلاهما يسمى توحيد العبادة، ودليل ذلك ما رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال:
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4703) ، سنن النسائي الافتتاح (913) ، سنن أبو داود الصلاة (1458) ، سنن ابن ماجه الأدب (3785) ، مسند أحمد بن حنبل (4/211) ، سنن الدارمي الصلاة (1492) .
(2) سورة الأنفال الآية 24 (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}
(3) سورة الفاتحة الآية 2 (2) {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(4) البخاري برقم 4704، وأبو داود برقم 1457، والترمذي برقم 3123.
(5) سورة الفاتحة الآية 6
(6) سورة الفاتحة الآية 7
(7) سورة الفاتحة الآية 5
(8) أحمد 2 \ 241، 242، 285، 460، ومسلم برقم 395، وأبو داود برقم 821، والترمذي برقم 2953، والنسائي 2 \ 135، وابن ماجه برقم 3846، والدارقطني 1 \ 312.(46/157)
قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: قال الله: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل (5) » .
وبهذا تبين أنه مصيب في قوله: إن أول سورة الفاتحة إلى آخر آية: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (6) في التوحيد. ثانيا: دعواه أن بقية السورة في إثبات التقليد غير صحيحة، ولم يثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة ولا التابعين فيما نعلم رضي الله عنهم، بل القول بدلالتها على إثبات التقليد تحريف للمراد بهذه الآيات وقول على الله بغير علم، وإنما المراد منها تعليم العباد كيف يدعون ربهم، ويطلبون منه إرشادهم إلى طريق الحق والصراط المستقيم، وتوفيقهم لاتباعه: عقيدة وقولا، وأن يجنبهم طريق من غضب الله عليهم، وهم الذين عرفوا الحق وأعرضوا عنه كاليهود، وطريق من ضل عن الحق وعميت بصائرهم فلم يتبعوه كالنصارى.
وبذلك يتبين أن الاستدلال بهذه الآيات على إثبات التقليد من باب التفسير بمحض الرأي قول على الله بغير علم وهو حرام،
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 2 (8) {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
(2) سورة الفاتحة الآية 3 (1) {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
(3) سورة الفاتحة الآية 5 (2) {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
(4) سورة الفاتحة الآية 6 (3) {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
(5) سورة الفاتحة الآية 7 (4) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}
(6) سورة الفاتحة الآية 5(46/158)
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) . وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأعراف الآية 33(46/159)
من الفتوى رقم 1733
السؤال الثاني: ما تقولون رحمكم الله في أنني طالعت كتابا عنوانه "جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد" الجزء الثاني في باب (فضائل سور القرآن) فوجدت ما نصه: عن الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران -إلى قوله-: بلغني أن البطلة: السحرة (1) » . ثم قال بعد ذلك (زاد في رواية) «ما من عبد يقرأ بها في ركعة قبل أن يسجد ثم سأل الله شيئا إلا أعطاه، إن كانت لتستقصى الدين كله» ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذه الزيادة ذكرها ابن الأثير في جامع الأصول 8 \ 470
__________
(1) أحمد 5 \ 249، 255، 257، ومسلم برقم 804 من حديث أبي أمامة الباهلي(46/159)
ولا نعلم لها أصلا، قال المحشي على جامع الأصول: هذه الزيادة لم نجدها عند مسلم ولعلها من زيادات الحميدي.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(46/160)
من الفتوى رقم 5167
السؤال السادس: قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
كيف عرفت الملائكة أن هذا الخليفة يفسد في الأرض، ولا يعلم الغيب إلا الله؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لعل الملائكة عرفت أن هذا الخليفة سيفسد في الأرض ويسفك الدماء إما بعلم خاص من الله أو بما فهموه من الطبيعة البشرية؛ فإنه أخبرهم سبحانه أنه يخلق هذا الصنف من صلصال، أو فهموه من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم أو يردعهم عن المحارم والمآثم، وقيل: إنهم علموا ذلك من أعمال الخلق الذين كانوا قبل آدم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 30(46/160)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(46/161)
من الفتوى 6450
السؤال الأولى: عندي مشكلة في تفسير آية قرآنية وهي: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} (1) أرجو من فضيلتكم التشرف بشرحها بتفصيل؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: قال ابن كثير - رحمه الله تعالى- في بيان تفسير هذه الجملة المسئول عنها: (يقول لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية، وقال أيضا: وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة (2) » (3) . فأما تعليم العلم بأجرة فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب فهو كما لو
__________
(1) سورة البقرة الآية 41
(2) أبو داود برقم 3664، وأحمد في المسند 5 \ 338 من حديث أبي هريرة
(3) ابن كثير في تفسيره 15291 (ط. الأرقم)(46/161)
لم يتعين، وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء كما في صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم في قصة المخطوبة: «زوجتكها بما معك من القرآن (2) » . فأما حديث عبادة بن الصامت أنه علم رجلا من أهل الصفة شيئا من القرآن فأهدى له قوسا فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله (3) » . رواه أبو داود وروي مثله عن أبي بن كعب مرفوعا، فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء، منهم أبو عمر بن عبد البر على أنه لما علمه لله لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس، فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما في حديث اللديغ، وحديث سهل في المخطوبة والله أعلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5737) .
(2) أحمد 5 \ 336، والبخاري برقم 5149، ومسلم 1425 من حديث سهل بن سعد
(3) أحمد 5 \ 324، وأبو داود برقم 31417، والحاكم في المستدرك 3 \ 356(46/162)
فتوى رقم 6889
س: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون(46/162)
على أستاههم فبدلوا وقالوا: حطة حبة في شعرة (1) » .، صحيح البخاري المجلد الثاني باب {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} (2) الآية ص 643، قال محمد حفظ الرحمن في تصنيفه قصص القرآن الجزء الثاني صفحة 17: أن يفهم من رواية البخاري أن بني إسرائيل يزحفون على أستاههم ولكن ليس هذا مشي المتكبرين مروجا ومعقولا في العالم بل شبههم هكذا أضحوكة للناس، فالتفسير الصحيح لعبد الله بن مسعود أنه قال: إن بني إسرائيل يمشون مرحا وتبخترا رافعين برءوسهم حين دخلوا البلد ويحركون أستاههم ويميلون صدورهم يمينا وشمالا كما يمشي المتكبرون كذا في قصص القرآن لمحمد حفظ الرحمن، فماذا ترى في هذا الباب، أتفسير البخاري حق أم تفسير عبد الله بن مسعود؟ فصل فيه القول بالقرآن والسنة فجزاكم الله عنا وعن جميع المسلمين جزاء حسنا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أمر الله تعالى بني إسرائيل أن يدخلوا باب بيت المقدس خاشعين شكرا له تعالى، وأن يقولوا يا ربنا حط عنا ذنوبنا حطا - أي اغفر لنا ذنوبنا مغفرة - ووعدهم سبحانه إن هم امتثلوا أمره أن يغفر لهم خطاياهم ويكفر عنهم سيئاتهم، ولكنهم لم يمتثلوا أمره بل بدلوا ما أمروا به من القول والعمل فدخلوا يزحفون على
__________
(1) أحمد 2 \ 318، والبخاري برقم 4479، ومسلم برقم 3015، والطبري في التفسير برقم 1019
(2) سورة البقرة الآية 58(46/163)
أستاههم قائلين: حبة في شعرة أو في شعيرة، تلاعبا منهم بأمر الله تعالى، وسخرية واستهزاء وتبديلا لتشريعه سبحانه قولا وعملا، بدلا من طاعته والخضوع لأوامره شكرا لنعمته، فأنزل على الذين ظلموا منهم بأسه، وأذاقهم عذابه، جزاء وفاقا بتبديلهم وتحريفهم لشرعه وتمردهم عليه، كما جاء في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرا للآيتين: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} (1) {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (2) وتفسيرها بما جاء في الحديث هو الصحيح؟ لأنه عن النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، وعملهم مع كونه سخرية واستهزاء متضمن للتمرد على الله والاستكبار عن طاعته وبهذا يعلم خطأ تفسير الآية بمجرد الكبر والخيلاء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 58
(2) سورة البقرة الآية 59(46/164)
من الفتوى رقم 5566
السؤال الأول: لقد بدأت قراءة تفسير ابن كثير الذي استقرضت من صديق لي، اقرأ التفسير لسورة البقرة الآية 60(46/164)
أولا ثم أجب عن هذا السؤال: هل انفجار الماء اثنتا عشرة عينا أثناء رحيل بني إسرائيل في التيه أربعين (40) عاما أو بعد فتح بيت المقدس، لأنه غير واضح في التفسير هو أثناء رحيلهم قبل فتح بيت المقدس أو بعد ذلك أو هو كان حجرا طوريا يحملونه معهم حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: قال الله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (1) ، أمر الله تعالى رسوله وكليمه موسى عليه الصلاة والسلام حين استسقاه أن يضرب بعصاه الحجر فلما ضربه انفجر منه اثنتا عشرة عينا على عدد الأسباط توسعة عليهم حتى لا يتزاحموا ولا يتناحروا على الماء، فكان ذلك من الله تعالى معجزة لموسى عليه السلام ورحمة منه بموسى ومن معه من بني إسرائيل، وهذا هو مكان الحجة والتأييد وموضع النعمة والعبرة، ولم يخبرنا سبحانه عن سائر أحوال الحجر وتفصيلها، ولو كان في ذكر ذلك خير لنا لبينه الحكيم العليم وما كان ربك نسيا، ولم يثبت في تفصيل أحواله حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم ولو كان فيه خير لأوحى به اللطيف الخبير إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ليبلغه الناس رحمة بهم، وقد نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية عن الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن
__________
(1) سورة البقرة الآية 60(46/165)
ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن ضرب موسى الحجر بعصاه كان في التيه فصار اثنتي عشرة عينا من ماء، لكل سبط منهم عين يشربون منها، ونقل عن مجاهد نحوه (1) .، وبالجملة فالخير للمسلم الاستغناء بما ذكر الله تعالى أو ثبت في السنة ولا يخوض فيما لم يثبت فيه نص من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) راجع تفسير ابن كثير ج1 ص 181 (ط. الأرقم)(46/166)
من الفتوى رقم 1542
السؤال الثاني: ما تفسير هذه الآية: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: بعد أن وصف سبحانه بأنه لا إله إلا هو الحي الذي لا يموت، وأنه القيوم بشئون عباده فلا وجود لهم ولا استقامة لأحوالهم إلا به مع غناه عنهم، وأنه العليم بكل شيء لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، أقام الدليل على ذلك بأنه وحده الذي يخلق الناس في أرحام أمهاتهم كيف يشاء على صور شتى وأحوال مختلفة من ذكر وأنثى وحسن وقبيح وشقي وسعيد،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 6(46/166)
لا إله إلا هو له العزة وكمال القوة والغلبة، وله الحكمة البالغة في كل ما شرعه وخلقه وقضى به وقدره، ومن ذلك خلقه لعيسى وتقديره سبحانه أن تحمل به أمه بلا أب، وأن يكون آية للناس على كمال علم الله وقدرته وبالغ حكمته، كما خلق آدم من تراب وقال له كن فكان كما أراد الله فلا حق لهما من العبادة؛ بل هو حق لرب العالمين وحده لا شريك له، لا إله إلا هو القوي الذي لا يغلب ولا يعجزه شيء، الحكيم في تدبيره، وفي خلقه وتشريعه، وفيها الرد على النصارى القائلين بأن عيسى عليه الصلاة والسلام هو ابن الله؛ لأن الله هو الذي صوره في رحم أمه مريم فكيف يكون ابنا له أو إلها معه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(46/167)
من الفتوى رقم 6238
السؤال الرابع: المباهلة التي حصلت بين الرسول صلى الله عليه وسلم والنصارى في عهده، والتي وردت في قوله تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} (1) إلى آخر الآية الكريمة، هل هي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم تكن كذلك فهل هي خاصة مع النصارى؟
__________
(1) سورة آل عمران الآية 61(46/167)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ليست المباهلة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم مع النصارى، بل حكمها عام له ولأمته مع النصارى وغيرهم، لأن الأصل في التشريع العموم، وإن كان الذي وقع منها في زمنه صلى الله عليه وسلم في طلبه المباهلة من نصارى نجران (1) ، فهذه جزئية تطبيقية لمعنى الآية لا تدل على حصر الحكم فيها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) قصة المباهلة مع نصارى نجران، ذكرها الطبري في تفسيره برقم 7161 والبيهقي في الدلائل 5 \ 385(46/168)
فتوى رقم 2537
س: هل الآيتان التاليتان، الثانية ناسخة للأولى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) . {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: اختلف المفسرون من الصحابة وغيرهم في الآية الأولى هل هي محكمة أو منسوخة، فابن عباس ومن وافقه يقولون إنها
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة التغابن الآية 16(46/168)
محكمة، ويفسرون: {حَقَّ تُقَاتِهِ} (1) بأن يجاهدوا في سبيله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ويقومون بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم (2) .
وذهب سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم إلى أنها منسوخة بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) والأظهر أنه لا شيء في الآية، وأن تقوى الله حق تقاته يراد به ما دلت عليه الآية الأخرى وهي قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (4) وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) انظر تفسير ابن جرير برقم 7553، وتفسير ابن كثير 2 \ 72
(3) سورة التغابن الآية 16
(4) سورة التغابن الآية 16(46/169)
من الفتوى رقم 6150
السؤال الرابع: ما هو تفسير (الملائكة المسومين) الذين ورد ذكرهم في الآية (125) من سورة آل عمران؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: تكلم ابن جرير وابن كثير وغيرهما من المفسرين على المراد بالملائكة المسومين، فذكر ابن جرير قراءتين في (مسومين فتح الواو وكسرها واختار قراءة الكسر، وهذا نص اختياره قال: (أولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ بكسر الواو؛(46/169)
لتظاهر الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل التأويل منهم ومن التابعين بعدهم بأن الملائكة هي التي سومت أنفسها، من غير إضافة تسويمها إلى الله عز وجل أو إلى غيره من خلقه) ، انتهى المقصود.
وبعد أن ذكر ابن جرير جملة من الأقوال التي تبين العلامات التي صارت مميزة لهم قال: (قال أبو جعفر: فهذه الأخبار التي ذكرنا بعضها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: «تسوموا فإن الملائكة قد تسومت» وقول أبي أسيد: خرجت الملائكة في عمائم صفر طرحوها بين أكتافهم. وقول من قال منهم (مسومين) معلمين، ينبئ جميع ذلك عن صحة ما اخترنا من القراءة في ذلك، وأن التسويم كان من الملائكة بأنفسها على نحو ما قلنا في ذلك فيما مضى) انتهى. هذا وننصحك بالرجوع إلى كلام ابن جرير وابن كثير وغيرهما على الآيتين لمزيد الفائدة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(46/170)
الفتوى رقم 4272
السؤال الخامس: قد يتطاول البعض على كتاب الله فيجعلون تفسير الآيات حسب أهوائهم ليضلوا الناس عن ذلك، مثال ذلك في سورة آل عمران قوله تعالى: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (1) فيفسرون ذلك على الرقص في
__________
(1) سورة آل عمران الآية 191(46/170)
الأذكار والهمهمة، ومن يتمتم بكلمات غير مفهومة ويميل يمينا ويسارا وهو يقول الله حي الله حي وهكذا، وأمور أخرى، فيحللون تحديد النسل والغناء للنساء والمدح للرسول، ويستعملون في ذلك آلات الغناء والمجون، فنريد منكم التبصير بأمور ديننا وفهمها على حق، والرد على المبتدعين على الدين والكتب الشافية بذلك؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الطريقة السليمة لتفسير القرآن هي أن يفسر القرآن بالقرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان، والاستعانة على ذلك بأساليب اللغة ومقاصد التشريع، وأما التفسير الذي ذكرته لقوله تعالى: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (1) وأن بعض الناس يفسره بالرقص والأذكار والهمهمة ويتمتم بكلمات غير مفهومة ويميل يمينا ويسارا وهو يقول: الله حي، مما سبق ذكره في السؤال، فهذا تفسير باطل ليس له أصل مطلقا، ونوصيك بمراجعة تفسير ابن جرير وابن كثير والبغوي وأشباهها في تفسير هذه الآية المذكورة في السؤال وأشباهها، لتعرف الحق في ذلك من كلام أهل التفسير المأمونين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة آل عمران الآية 191(46/171)
من الفتوى رقم 7929
السؤال الثاني: قول الله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ} (1) ما تفسير هذه الآية الكريمة؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: (وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة، ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدمون عليهم، وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم، نسأل الله الجنة، وقال محمد بن إسحاق: (ويستبشرون) أي ويسرون بلحوق من لحقهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم، قال السدي: يؤتى الشهيد بكتاب فيه: يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا، فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم.
قال سعيد بن جبير: لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة، فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة، وأخبرهم- أي ربهم- أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه فاستبشروا بذلك
__________
(1) سورة آل عمران الآية 170(46/172)
فذلك قوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ} (1) الآية.
وقد ثبت في الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة، وقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم، قال أنس: ونزل فيهم قرآنا قرأناه حتى رفع: (أن بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة آل عمران الآية 170(46/173)
فتوى رقم 2290
س: أرجو التكرم بشرح الآيات من الآية رقم 115 إلى 119 من سورة المائدة، هل هذا السؤال عندما وجه إلى سيدنا عيسى من الله سبحانه وتعالى هل كان في حياته وهو الذي جاوبه الله في الحال أم هذا السؤال مؤجل إلى يوم القيامة، عليه أرجو التكرم بشرح هذه الآيات الكريمة والرد لي كتابيا؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: اختلف المفسرون في الوقت الذي يوجه فيه هذا السؤال إلى عيسى عليه السلام، فذهب ابن جرير ومن وافقه من(46/173)
المفسرين إلى أنه في الدنيا، وكان ذلك حين رفعه إلى السماء، واحتج له بمعنيين، أحدهما: أن الكلام بلفظ الماضي. والثاني: قوله تعذبهم وإن تغفر لهم.
والقول الثاني: أن هذا مما يخاطب الله به عبده ورسوله عيسى ابن مريم قائلا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (1) .
وهذا القول قال به ابن كثير ومن وافقه من المفسرين.
وعلى التفسيرين يترتب معنى قوله سبحانه عن عيسى:
{فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (2) الآية، فعلى القول بأن هذا السؤال وقع في الدنيا يكون المعنى: فلما قبضتني يعني بالرفع إلى السماء، وعلى القول الثاني يكون المعنى: فلما توفيتني بالموت.
ثانيا: أما تفسير الآيات فقد ذكره ابن جرير وابن كثير وغيرهما من المفسرين فيمكنكم الرجوع إلى ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 116
(2) سورة المائدة الآية 117(46/174)
من الفتوى رقم 9407
س3: ما تفسير هذه الآية يقول الله في كتابه المجيد:(46/174)
{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا} (1) إلى قوله: {إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (2) .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: هذه الآية تكملة للآية التي قبلها في حكم شهادة غير المسلم في الوصية في السفر، ومعنى هذه الآية: إن اطلع وظهر أن الوصيين قد استوجبا الإثم بسبب الخيانة وأيمانهما الكاذبة، فيقوم مقامهما اثنان من ورثة الميت، فيحلفان بالله أن أيمانهما أصدق من الوصيين، ثم يقضى للورثة، وبإمكانك مراجعة تفصيلية على هذه الآية في تفسير ابن جرير والبغوي وابن كثير رحمهم الله جميعا.
س5: ما المراد بقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (3) الآية؟
ج: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) أمر الله سبحانه المؤمنين بالتقوى وبطلب الوسيلة إليه والقرب منه سبحانه بفعل الطاعات وبجهاد الكفار لإعلاء كلمة الله، رجاء أن يفوزوا عند الله.
يقول الخازن في تفسيره رحمه الله: ومجامع التكاليف محصورة في نوعين لا ثالث لهما، أحد النوعين: ترك المنهيات، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ} (5) والثاني: التقرب إلى الله تعالى بالطاعات، وإليه الإشارة بقوله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (6)
__________
(1) سورة المائدة الآية 107
(2) سورة المائدة الآية 107
(3) سورة المائدة الآية 35
(4) سورة المائدة الآية 35
(5) سورة المائدة الآية 35
(6) سورة المائدة الآية 35(46/175)
والوسيلة (فعيلة) من وسل إليه إذا تقرب منه وإليه، وقيل معنى الوسيلة: المحبة، أي تحببوا إلى الله عز وجل، وبهذا تعلم أن المراد بقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (1) هو التقرب إليه بما شرع من الطاعات، كالصلاة والصوم والصدقة وأنواع الذكر وغير ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 35(46/176)
فتوى رقم 6612
س: من هو أبو سيدنا إبراهيم عليه السلام، لأني سمعت بعض العلماء يقولون: إن آزر ليس أبا إبراهيم الذي ولده بل هو أخو أبيه، وقد جاء بحجة في القرآن والحديث الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «خرجت من كابر إلى كابر ولم يمسسني شيء من سفاح الجاهلية» ولذلك قالوا: إن آزر ليس أبا إبراهيم؛ لأن إبراهيم من أجداد الرسول وكيف يكون أبوه كافرا، ولهذا قالوا إن آزر ليس أبا إبراهيم، وأما أنا وبعض إخواني الطلاب سمعنا أيضا من عالم آخر يقول: إن آزر هو أبو إبراهيم الذي ولده، وقال: إن في القرآن آية تدل على ذلك وهي: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ} (1) ولذلك أرجو منكم بيانا واضحا لتطمئن قلوبنا لأننا طلاب؟
__________
(1) سورة الأنعام الآية 74(46/176)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: إن الحق هو ما ذكره العالم الثاني، من أن آزر هو أبو إبراهيم، لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} (1) وهذا نص قطعي صريح لا يحتاج إلى اجتهاد، ورجح ذلك الإمام ابن جرير وابن كثير، أما الحديث فذكر السيوطي في الجامع الصغير، عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء» رواه الطبراني في الأوسط، وابن عدي، وقال الهيثمي: فيه محمد بن جعفر بن محمد، صحح له الحاكم، وقد تكلم فيه، وبقية رجاله ثقات. فالحديث يفيد طهارة سلسلة نسبه صلى الله عليه وسلم فقط، ولم يتعرض للكفر والإسلام في آبائه، ولا يلزم من كفر آزر أن يكون نكاحه سفاحا، وعلى فرض صحة الحديث المذكور لا يلزم من كون آزر كافرا أن يكون نكاحه سفاحا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 74(46/177)
من الفتوى رقم 6292
السؤال العاشر: بسم الله الرحمن الرحيم(46/177)
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} (1) .
ما معنى هذه الآيات؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: قال ابن جرير رحمه الله في تفسيره: يقول جل ذكره: وحرمنا على اليهود كل ذي ظفر، وهو من البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع، كالإبل والنعام والإوز والبط، وقوله: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} (2) أخبر سبحانه أنه حرم على اليهود من البقر والغنم شحومهما، إلا ما استثناه منها، مما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم فكل شحم سوى ما استثناه الله في كتابه من البقر والغنم فإنه كان محرما عليهم.
وأما قوله تعالى: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} (3) فإنه يعني إلا شحوم الجنب وما علق بالظهر، فإنها لم تحرم عليهم.
وقوله: {أَوِ الْحَوَايَا} (4) جمع حاوية وهي ما تحوى من البطن فاجتمع واستدار وهي المباعر، وقوله تعالى: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} (5) وإلا ما اختلط بعظم فهو لهم أيضا حلال.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 146
(2) سورة الأنعام الآية 146
(3) سورة الأنعام الآية 146
(4) سورة الأنعام الآية 146
(5) سورة الأنعام الآية 146(46/178)
من الفتوى رقم 4933
السؤال الثاني: ما تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ذكر الله تعالى أصول الإسلام في الآيتين اللتين قبل هذه الآية فقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2) {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (3) ثم أمر سبحانه باتباع هذه الأصول في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (4) ونهى عن اتباع السبل أي الطرق المخالفة لسبيله، وبين سبحانه أنهم إن اتبعوا غير صراطه وهديه الذي شرعه لهم تفرقت بهم السبل وضلوا عن سواء السبيل، وقد شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فيما رواه الإمام أحمد والحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما، وخط عن يمينه وشماله ثم قال: هذه السبل، ليس
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة الأنعام الآية 151
(3) سورة الأنعام الآية 152
(4) سورة الأنعام الآية 153(46/179)
منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: (2) » وقال الحاكم: صحيح ولم يخرجاه، رواه النسائي والترمذي عن النواس بن سمعان رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن غريب.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6417) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2454) ، سنن ابن ماجه الزهد (4231) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) ، سنن الدارمي الرقاق (2729) .
(2) سورة الأنعام الآية 153 (1) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}(46/180)
من الفتوى رقم 4009
السؤال الثاني: لماذا لم تبدأ سورة التوبة بـ بسم الله الرحمن الرحيم؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: اختلف في سبب ذلك، فروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قلت لعثمان رضي الله عنه: ما حملكم إلى أن عمدتم إلى الأنفال " وهي من المثاني، وإلى "براءة" وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال، فما حملكم على ذلك؟ قال عثمان رضي الله عنه: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أنزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: " ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا" وتنزل عليه الآيات فيقول "ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا (1) » وكانت " الأنفال " من
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3086) ، سنن أبو داود الصلاة (786) ، مسند أحمد بن حنبل (1/57) .(46/180)
أوائل ما أنزل و" براءة " من آخر القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها وظننت أنها منها، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، وخرجه أبو عيسى الترمذي وقال: هذا حديث حسن.
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه لم لم يكتب في "براءة، بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان. وروى معناه عن المبرد قال: ولذلك لم يجمع بينهما فإن بسم الله الرحمن الرحيم رحمة و"براءة" نزلت سخطة، ومثله عن سفيان قال سفيان بن عيينه: إنما لم تكتب في صدر هذه السورة بسم الله الرحمن الرحيم لأن التسمية رحمة والرحمة أمان وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف ولا أمان للمنافقين (1) ، والصحيح أن التسمية لم تكتب لأن جبريل عليه السلام ما نزل بها في هذه السورة، قاله القشيري (2) انتهى. من تفسير القرطبي لأول سورة براءة بتصرف، فارجع إليه وإلى تفسير ابن
__________
(1) أخرجه الثعلبي في تفسيره كما في تفسير ابن عيينة 257، وذكره القرطبي في التفسير 8 \ 63.
(2) كلام القرطبي عن سبب تسمية السورة في تفسره ج 8 ص 61.(46/181)
كثير لسورة براءة إن أردت التوسع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(46/182)
من الفتوى رقم 8941
السؤال الرابع: على من أنزل الله سورة التوبة، وما أسباب نزولها؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: لم تنزل سورة براءة جملة واحدة بل نزلت على فترات لعدة أسباب، فنزل أولها حينما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وهم بالحج، وذكر له أن المشركين يحضرون عامهم هذا على عادتهم في ذلك، وأنهم يطوفون بالبيت عراة وكره مخالطتهم، وبعث أبا بكر رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة، ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين ألا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادي فيهم: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) فلما توجه إلى مكة أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه عصبة له.
__________
(1) سورة التوبة الآية 1(46/182)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(46/183)
فتوى رقم 7918
س1: ورد في سورة التوبة قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (1) الآية، المطلوب تفسير الآية الكريمة وكيف طريقة الإعراب عند النحويين وأن يكون ضمن الجواب إعراب؛ لأنها لازم لكل إنسان لا يلم بقواعد النحو وأنا في مجال النحو مبتدئ ولا أكاد أحفظ الآجرومية، أفتونا مأجورين؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج 1: يقول تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (2) أي إعلام وإنذار إلى الناس يوم الحج الأكبر الذي هو يوم النحر وأفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها، تؤدى فيه كثير من مناسك الحج، من رمي جمرة العقبة والنحر والحلق وطواف الإفاضة، مع ما يتبع ذلك من ذكر وتكبير ونحو ذلك.
وقوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) أي أعلم الناس وأنذرهم
__________
(1) سورة التوبة الآية 3
(2) سورة التوبة الآية 3
(3) سورة التوبة الآية 3(46/183)
يا محمد أن الله بريء من المشركين وأن رسوله كذلك منهم بريء، فرسوله في الآية مرفوع قطعا ونقلا عن القراء بالعطف على الضمير المستتر في بريء وتقديره هو يعود على الله سبحانه.
وهذا هو معنى ما قاله ابن كثير عن الآية (1) وغيره من علماء التفسير.
س 2: ما تفسير قوله تعالى في الآية (71) في سورة مريم: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (2) ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الورود في الآية الكريمة هو المرور على الصراط المنصوب على متن جهنم، فقد دلت الأحاديث والآثار الكثيرة على أن الصراط ينصب على جهنم ويمر الناس عليه على قدر أعمالهم، ونوصيك بمراجعة تفسير ابن كثير في ذلك لمزيد الفائدة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) ابن كثير. في تفسيره 4 \ 46 (ط. الشعب) .
(2) سورة مريم الآية 71(46/184)
فتوى رقم 6246
س: هناك من يفسر المراد بقوله تعالى: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} (1)
__________
(1) سورة هود الآية 78(46/184)
أن النبي لوطا عليه السلام كان يقصد بذلك تعالوا وافعلوا الفاحشة - أي الزنا- مع بناتي من صلبي، وأن ما ورد عن المفسرين من تفسير الآية أن لوطا عليه السلام أب لجميع المؤمنات، وأنه كان يقصد الزواج الشرعي يخالف ذلك ظاهر سياق الآية، ويعلل ذلك بأن الزنى أقرب إلى الفطرة من اللواط وأقل شذوذا، وبالتالي درءا لأعظم المفسدتين وهو اللواط بارتكاب أقل الضررين وهو الزنا حسب القاعدة المشهورة، فما قولكم في هذا التفسير والحكم على الشخص؟ الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: المراد بجملة {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} (1) ، ندب هؤلاء الكفار إلى التزوج بالنساء ووطئهن في الحلال- سواء كن بناته أم بنات قومه، فإن بنات قومه بناته حكما لكونه رسولا إليهم- واجتناب اللواط والاعتداء على ضيف لوط بالفاحشة، وعلى كل حال لم يرد الإذن لهم في الزنا ببناته ولا ببنات أمته فإنه من كبائر الذنوب في جميع شرائع الله تعالى، فينزه النبي عن الإذن فيه، ومن قال إنه أذن فيه لأنه أخف من اللواط فقد أخطأ وغلط غلطا عظيما.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة هود الآية 78(46/185)
فتوى رقم 5285
س: بعد الاطلاع على تفسير القرآن لابن كثير، وأيضا الجلالين وجدت في تفسير سورة يوسف أن إخوة يوسف قد باعوه، ولكن توجد مجموعة كبيرة من المسلمين هنا تعارض ذلك وتفيد أن إخوة يوسف لم يبيعوه، أرجو الإفادة بالحقيقة، وأيضا إفادتنا بالكتاب الذي يوضح هذه القصة على الحقيقة لكي أشتريه ولكم جزيل الشكر والاحترام وجعلكم ذخرا للدين والمسلمين
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الصحيح في تفسير هذه الآية: أن السيارة الذين وجدوا يوسف عليه السلام في البئر، هم الذين باعوه كما يفهم من السياق ومن ظاهر القصة، وهذا قول قتادة وغيره، لا إخوته، وقد ذكر هذا القول عدد من المفسرين منهم القرطبي وابن الجوزي وابن كثير وابن جرير وغيرهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(46/186)
من الفتوى رقم 4488
السؤال الأول عاد الإمام من مصر بعد زيارة لابنه وقال بأنه جالس العلماء هناك ولاحظ بعض الأخطاء التي يقع فيها، ومثل لذلك أن في سورة يوسف قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} (1) أنه كان يفكر أن المقصود بذلك همت به وهم بها في عمل الجنس الذي يقع بين المرأة والرجل، ولكن فهم في مصر من العلماء أن المقصود غير العادة الجنسية، فهل هذا صحيح علما بأن الآيات تدل أن المقصود هو عمل الجنس لولا أن رأى برهان ربه؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الصحيح من أقوال العلماء في ذلك أن الهم الذي وجد من يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام هو الميل الجنسي الطبيعي الذي يوجد مع أي إنسان عند وجود سببه، وقد صرفه الله سبحانه وتعالى عنه بقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (2) ولا يجوز صرف الآية عن ظاهرها إلا بدليل، وليس هنا دليل فيما نعلم يوجب صرفها عن
__________
(1) سورة يوسف الآية 24
(2) سورة يوسف الآية 24(46/187)
ظاهرها، والهم بالسيئة لا يضر المسلم إذا لم يفعل بل يكتب له بذلك حسنة إذا ترك الفعل من أجل الله، كما صح بذلك الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(46/188)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
س: هل يجوز وصف الميت بأنه مغفور له أو مرحوم؟
ج: الحمد لله والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى اله وصحبه، أما بعد:
فقد كثر الإعلان في الجرائد عن وفاة بعض الناس، كما كثر نشر التعازي لأقارب المتوفين، وهم يصفون الميت فيها بأنه مغفور له أو مرحوم أو ما أشبه ذلك من كونه من أهل الجنة، ولا يخفى على كل من له إلمام بأمور الإسلام وعقيدته بأن ذلك من الأمور التي لا يعلمها إلا الله، وأن عقيدة أهل السنة والجماعة أنه لا يجوز أن يشهد لأحد بجنة أو نار إلا من نص عليه القرآن الكريم كأبي لهب، أو شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كالعشرة من الصحابة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنهم ونحوهم، ومثل ذلك في المعنى الشهادة له بأنه مغفور له أو مرحوم، لذا ينبغي أن يقال بدلا منها: غفر الله له أو رحمه الله أو نحو ذلك من كلمات الدعاء للميت.
وأسأل الله سبحانه أن يهدينا جميعا سواء السبيل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(46/189)
س: إذا دخل المسجد عدة أشخاص ووجدوا شخصا يصلي منفردا وقد مضى بعض صلاته هل يقتدون به إماما لهم أو يتقدم بهم واحد منهم أفيدونا؟(46/189)
ج: الحمد لله إن المشروع لهؤلاء أن يصلوا جماعة بل هذا هو الواجب عليهم فإن رأوا أن من سبقهم أهلا للإمامة وصلوا خلفه فلا بأس وعليهم أن يقضوا ما فاتهم بعد سلامه.(46/190)
س: إذا تقدم الإمام وصلى بعض الصلاة ثم ذكر بأنه لم يتوضأ وانصرف هل يبني المأمومون على ما مضى أو يستأنفون الصلاة؟
ج: الصواب أنه يستخلف من يصلي بهم كما فعل عمر رضي الله عنه لما طعن، وإن لم يستخلف واستخلفوا من أكمل بهم صحت صلاتهم هذا هو الراجح من أقوال العلماء وإن صلوا فرادى وأتموا لأنفسهم فلا بأس. أما إذا كان قد أكمل بهم ثم تذكر أنه صلى بغير وضوء صحت صلاتهم ويعيد لنفسه.(46/190)
س: عند دخولي في الصلاة يخيل إلي أنه يخرج مني ريح ولا أشعر بصوت ولا برائحة ولكني عندما أحس بهذا فإني أتحكم وأضغط على نفسي حتى تنتهي الصلاة فماذا علي؟
ج: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد الشيء في الصلاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1) » ، وفي لفظ آخر: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (2) » فالذي يخيل إليه أنه خرج منه شيء لا يبطل وضوءه وصلاته بل هو على حاله من صحة الوضوء وصلاته صحيحة. وإذا علم يقينا أنه خرج منه ريح أو بول بطلت الطهارة وبطلت الصلاة. أما إن كان مجرد شك فصلاته ووضوءه صحيحان لأن هذا من وساوس الشيطان.
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (137) ، صحيح مسلم الحيض (361) ، سنن النسائي الطهارة (160) ، سنن أبو داود الطهارة (176) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (513) ، مسند أحمد بن حنبل (4/39) .
(2) صحيح مسلم الحيض (362) ، سنن الترمذي كتاب الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطهارة (177) ، مسند أحمد بن حنبل (2/330) ، سنن الدارمي الطهارة (721) .(46/190)
س: لقد كانت زوجتي حاملا في شهرها الخامس وحدث لها ألم بالظهر ووصفت لها إحدى أقاربها أن تشرب الخل ليزيل الألم وبعد شراب الخل نزل الجنين في الحال فهل على زوجتي إثم وإذا كان عليها فما الحكم أم أن الإثم على من وصفت لها هذه الوصفة؟
ج: يسأل الأطباء المختصون عن هذا الشيء فإذا كانوا يرون أن شرب الخل يسقط الجنين فهذا حكمه حكم القتل خطأ فعليها الدية والكفارة وهي مخطئة حينما أخذت الوصف بغير معرفة طبيب مؤتمن، وأما إن كان لا يضر الجنين بمعرفة الأطباء المختصين فإنه لا يكون عليها شيء لأنه قدر من الله بدون سبب منها.(46/191)
س: يوجد اثنان في صلاة الجماعة فقدم فرد ثالث بعد دخولهما في الصلاة فتقدم الإمام لأنه لا يوجد مكان بالخلف حتى يرجع أحد الرجلين فهل يجوز للإمام أن يتقدم خاصة أننا نعلم من الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه بأن يتأخر واحد من الشخصين ولا يتقدم الإمام؟
ج: إذا كان الإمام في محل يمكنه أن يصلي فيه ويتأخران تأخرا وصليا خلفه، أما إن كان الإمام في محل لا يمكن تأخيرهما فيه فإنه يتقدم هو ولا حرج، وعلى كل حال فالمشروع في مثل هذه المسألة أن يكون الرجلان خلفه سواء تقدم هو أو تأخرا عنه وإن صلوا جميعا صفا واحدا وهما عن يمينه أو أحدهما عن يمينه والثاني عن شماله صحت الصلاة وتركوا الأفضل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «كان يصلي وحده فجاء جابر وجبار فوقفا عن يمينه وعن شماله(46/191)
فأخرهما وجعلهما خلفه» وهكذا قصته مع أنس واليتيم جعلهما خلفه.(46/192)
س: هناك من يدخل والصلاة تقام ولكنه يعرف من الإمام أنه يطيل في الركعة الأولى فيصلي ركعتي الفجر قبل أن يدخل مع الإمام فما حكم ذلك؟
ج: هذا لا يجوز لأن السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على أن المأموم إذا دخل والإمام قد دخل في الصلاة أن يصف ولا يصلي راتبة الفجر ولا غيرها، بل يصف مع الإمام لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (1) » خرجه مسلم في صحيحه فالواجب على من دخل والإمام قد أقام الصلاة أن يصلي مع الإمام ويؤجل السنة إلى ما بعد الصلاة أو بعد طلوع الشمس أما أن يصليها والإمام يصلي فهذا لا يجوز للحديث المذكور.
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (710) ، سنن الترمذي الصلاة (421) ، سنن النسائي الإمامة (865) ، سنن أبو داود الصلاة (1266) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1151) ، مسند أحمد بن حنبل (2/455) ، سنن الدارمي الصلاة (1448) .(46/192)
س: هناك من يحتج على ترك الأسباب بحديث السبعين ألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فما هو الرد عليهم؟
ج: هؤلاء السبعون ما تركوا الأسباب إنما تركوا شيئين وهما الاسترقاء والكي، والاسترقاء: هو طلب الرقية من الناس.
وهذا الحديث يدل على أن ترك الطلب أفضل وهكذا ترك الكي أفضل، لكن عند الحاجة إليهما لا بأس بالاسترقاء والكي لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمر عائشة أن تسترقي من مرض أصابها وأمر أم أولاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهي أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن تسترقي لهم فدل ذلك على أنه لا حرج في(46/192)
ذلك عند الحاجة إلى الاسترقاء ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: «الشفاء في ثلاث: كية نار، أو شرطة محجم، أو شربة عسل، وما أحب أن أكتوي (1) » وقد كوى عليه الصلاة والسلام بعض أصحابه لما دعت الحاجة إلى الكي لأنه سبب مباح عند الحاجة إليه، والاسترقاء: طلب الرقية أما إن رقى من دون سؤال فهو من الأسباب أيضا لا بأس به ولا كراهة في ذلك وهكذا بقية الأسباب المباحة كالأدوية المباحة من إبر وحبوب وشراب وغير ذلك أما الطيرة المذكورة في حديث السبعين فهي التشاؤم ببعض المرئيات أو المسموعات وهي محرمة ومن الشرك الأصغر إذا ردت المتشائم عن حاجته، لقول الله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة (3) » وقوله صلى الله عليه وسلم أيضا: «الطيرة شرك الطيرة شرك (4) » وقوله صلى الله عليه وسلم لما ذكرت عنده الطيرة: «أحسنها الفأل ولا تردن مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك (5) » وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: " أن تقول اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك (6) » رواه أحمد.
فعلم مما ذكرنا من الأدلة أن التوكل لا يمنع تعاطي الأسباب، فالإنسان يأكل ويشرب فالأكل سبب للشبع ولقوام هذا البدن وسلامته، وهكذا الشرب، ولا يجوز للإنسان أن يقول أنا لا آكل ولا أشرب وأتوكل على الله في حياتي وأبقى
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5680) ، سنن ابن ماجه الطب (3491) ، مسند أحمد بن حنبل (1/246) .
(2) سورة الأنفال الآية 2
(3) صحيح البخاري الطب (5753) ، صحيح مسلم السلام (2225) ، سنن ابن ماجه الطب (3540) .
(4) سنن الترمذي السير (1614) ، سنن أبو داود الطب (3910) ، سنن ابن ماجه الطب (3538) ، مسند أحمد بن حنبل (1/440) .
(5) سنن أبو داود الطب (3919) .
(6) مسند أحمد بن حنبل (2/220) .(46/193)
صحيحا سليما، فهذا لا يقوله عاقل وهكذا يلبس الثياب الثقيلة في الشتاء للدفء لأنه يضره البرد، وهكذا يتعاطى الأسباب الأخرى من إغلاق الباب حذرا من السراق، ويحمل السلاح عند الحاجة وكل هذه أسباب مأمور بها الإنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين، في أحد لبس السلاح وفي بدر كذلك، وفي أحد ظاهر بين درعين ولبس اللامة، وعليه المغفر حين دخل مكة وكل هذه أسباب فعلها صلى الله عليه وسلم وهكذا أصحابه رضي الله عنهم.(46/194)
س: ما صحة حديث: ما رفع مسلم منزله فوق سبعة أذرع إلا قيل له: إلى أين يا فاسق؟
ج: هذا ليس بحديث ولعله من قول بعض السلف. ولكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر التطاول في البنيان من أشراط الساعة ولكن ليس فيه النهي عن ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك من أشراط الساعة أن تلد الأمة ربتها، والمراد بذلك التسري حتى تلد الأمة ربتها يعني سيدتها، وفي لفظ آخر ربها سمي بذلك لأن ولد سيدها سيد لها في المعنى، ومعلوم أن التسري جائز ولو كانت كثرته من أشراط الساعة ولا يمنع ذلك كونه من أشراط الساعة وقد تسرى النبي صلى الله عليه وسلم جاريته مارية فولدت له ابنه إبراهيم وهكذا الصحابة رضي الله عنهم تسروا، وهكذا من بعدهم من السلف الصالح والله ولي التوفيق.(46/194)
س: لي أخت مر عليها عدة أعوام لم تقض ما أفطرته في العادة الشهرية لسبب جهلها بالحكم سيما أن بعض العامين قالوا لها ليس(46/194)
عليها قضاء في الإفطار فماذا عليها؟
ج: عليها أن تستغفر الله وتتوب إليه، وعليها أن تصوم ما أفطرت من أيام وتطعم عن كل يوم مسكينا كما أفتى بذلك جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نصف صاع مقدار كيلو ونصف، ولا يسقط عنها ذلك بقول بعض الجاهلات لها أنه لا شيء عليها. قالت عائشة رضي الله عنها: (كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) متفق عليه. فإذا جاء رمضان الثاني قبل أن تقضي أثمت وعليها القضاء والتوبة وإطعام مسكين عن كل يوم إن كانت قادرة، فإن كانت فقيرة ولا تستطيع الإطعام أجزأها الصوم مع التوبة وسقط عنها الإطعام. وإن كانت لا تحصي الأيام التي عليها عملت بالظن وتصوم الأيام التي تظن أنها أفطرتها من رمضان ويكفيها ذلك، لقول الله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ومن رحمة الله سقوط الصلاة عنها لما في قضائها من المشقة.
وعلى المرضى أن يحرصوا على الصلاة على حسب استطاعتهم حتى لو صلوا في ثيابهم التي بها نجاسة إذا لم يستطيعوا غسلها ولم يجدوا ثيابا طاهرة، وعليهم أن يصلوا بالتيمم إذا لم يستطيعوا الوضوء بالماء للآية السابقة وهي قوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) ولو كانوا لغير القبلة إذا عجزوا عن استقبالها، وعلى المريض أن يصلي حسب طاقته قائما أو قاعدا أو على جنبه أو مستلقيا لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين وكان مريضا: «صل
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة التغابن الآية 16(46/195)
قائما فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب، فإن لم تستطع فمستلقيا (1) » رواه البخاري في صحيحه والنسائي في سننه وهذا لفظ النسائي. إلا إذا كان المريض قد ذهب عقله فإنه لا قضاء عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصغير حتى يبلغ (2) » ولكن إذا كان ذهاب العقل يومين أو ثلاثة بسبب المرض ثم أفاق، فإنه يقضي لأنه والحال ما ذكر يشبه النائم والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1117) ، سنن أبو داود الصلاة (952) .
(2) سنن الترمذي الحدود (1423) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (1/140) .(46/196)
س: إذا أراد الإنسان الوضوء في حمام وهو مخصص لقضاء الحاجة، فهل يذكر اسم الله في هذا المكان؟
ج: إذا دعت الحاجة إلى الوضوء في الحمامات فلا بأس لأن التسمية واجبة عند جمع من أهل العلم فلا يترك الواجب لشيء مكروه فإذا علم الواجب زالت الكراهية فإذا لم يتيسر له الوضوء خارج الحمام سمى باسم الله وبدأ الوضوء ولا حرج، وإن تيسر له الوضوء خارج الحمام خرج وتوضأ خارجه، أما الشهادة فالأولى أن يؤخرها عن الوضوء حتى يخرج ويتشهد خارج الحمام وهي: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء (1) » أخرجه مسلم في صحيحه وهذا لفظه،
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الطهارة باب الذكر المستحق عقب الوضوء، ط. دار الفكر ج 3 ص 118. والترمذي كتاب الطهارة، باب ما يقال بعد الوضوء ج1 ص 77 حديث 55.(46/196)
والترمذي.(46/197)
س: هل يجوز أن أصلي صلاتين بوضوء واحد؟
ج: يجوز، وأكثر من صلاة، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء واحد عدة صلوات.(46/197)
س: هل سجود السهو مشروع في صلاة النفل والسنن الرواتب كالفرض؟
ج: سجود السهو مشروع في جميع الصلوات نافلة أو فريضة لعموم الأحاديث.(46/197)
س: هل آكل مع رجل لا يصلي؟
ج: لا حرج في ذلك إذا دعت الحاجة إليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع اليهود ومن مائدة اليهود لكن مع بغضهم في الله وعداوتهم وعدم محبتهم وعدم موالاتهم.(46/197)
س: ما هي فضيلة أربع ركعات بعد العشاء؟
ج: الراتبة اثنتان فإن صلى أربعا فلا بأس، فقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد العشاء أحيانا أربعا ثم ينام ثم يقوم فيتهجد صلى الله عليه وسلم.(46/197)
س: ما حكم أداء الجماعة ثانية لفرض من الفروض لمسجد له(46/197)
إمام راتب ومؤذن راتب؟
ج: إذا جاء الإنسان وقد صلى الناس ووجد جماعة في المسجد لم يصلوا فعليه أن يصلي معهم جماعة ولا يصلي منفردا لأن الجماعة مطلوبة حث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم من غير تقييد بالجماعة الأولى فعمم الرسول وأطلق صلى الله عليه وسلم فقال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة (1) » وفي رواية: «بخمس وعشرين ضعفا (2) » وروى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الاثنين أزكى من صلاته مع الرجل وما كان أكثر فهو أحب إلى الله عز وجل (3) » وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلا دخل المسجد والناس قد صلوا فقال لبعض الحاضرين: «من يتصدق على هذا فيصلي معه (4) » فقام بعض الصحابة وصلى معه جماعة، وثبت عن بعض الصحابة كأنس أنه إذا أتى المسجد والناس قد صلوا صلى بأصحابه جماعة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (645) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (650) ، سنن الترمذي الصلاة (215) ، سنن النسائي الإمامة (837) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (789) ، مسند أحمد بن حنبل (2/65) ، موطأ مالك النداء للصلاة (290) .
(2) صحيح البخاري الأذان (646) ، سنن أبو داود الصلاة (560) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (788) ، مسند أحمد بن حنبل (3/55) .
(3) سنن النسائي الإمامة (843) ، سنن أبو داود الصلاة (554) ، مسند أحمد بن حنبل (5/140) ، سنن الدارمي الصلاة (1269) .
(4) سنن أبو داود الصلاة (574) ، مسند أحمد بن حنبل (3/85) ، سنن الدارمي الصلاة (1368) .(46/198)
س: يقولون إن الدعاء في صلاة الفريضة لا يجوز للوالدين، والقرآن لا يجوز أن يجعل ثواب الختمة لوالديه، وإذا طاف لا يجوز أن يجعل ثواب السبع لوالديه؟
ج: الدعاء في الصلاة لا بأس به سواء كان لنفسه أو لوالديه أو لغيرهما بل هو مشروع. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء (1) » خرجه مسلم في صحيحه. وقال عليه الصلاة والسلام: «أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (482) ، سنن النسائي التطبيق (1137) ، سنن أبو داود الصلاة (875) ، مسند أحمد بن حنبل (2/421) .(46/198)
السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (1) » خرجه مسلم أيضا، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علمه التشهد قال: «ثم ليختر من الدعاء أعجبه إليه فيدعو (2) » وفي رواية: «ثم ليختر من المسألة ما شاء (3) » والمراد بذلك قبل أن يسلم، فإذا دعا في سجوده أو في آخر الصلاة لنفسه أو لوالديه أو للمسلمين فلا بأس لعموم هذه الأحاديث وغيرها.
وأما تثويب القراءة أو الطواف لوالديه أو لغيرهما من المسلمين فهذا محل خلاف بين العلماء، والأفضل تركه لعدم الدليل عليه، والعبادات توقيفية لا يفعل منها إلا ما جاء به الشرع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » متفق على صحته، وفي رواية أخرى: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5) » خرجه مسلم في الصحيح والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (479) ، سنن النسائي التطبيق (1045) ، سنن أبو داود الصلاة (876) ، مسند أحمد بن حنبل (1/219) ، سنن الدارمي الصلاة (1326) .
(2) صحيح البخاري الأذان (835) ، صحيح مسلم الصلاة (402) ، سنن النسائي السهو (1298) ، سنن أبو داود الصلاة (968) ، مسند أحمد بن حنبل (1/428) ، سنن الدارمي الصلاة (1340) .
(3) صحيح البخاري الأذان (831) ، صحيح مسلم الصلاة (402) ، سنن الترمذي الصلاة (289) ، سنن النسائي السهو (1298) ، سنن أبو داود الصلاة (968) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (899) ، مسند أحمد بن حنبل (1/423) ، سنن الدارمي الصلاة (1340) .
(4) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(5) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(46/199)
س: سائل يسأل عن حجز الأماكن يوم الجمعة وحبسها لأناس خلف الإمام ومنع من جاء ليجلس فيها. . . إلخ، وعن موقف المأمومين خلف الجنازة؟
ج: المسجد لمن سبق، فلا يجوز لأحد أن يحجز مكانا في المسجد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا (1) » أي لاقترعوا، فحجزه أمر لا يجوز وغصب للمكان ولا حق لمن غصبه فالسابق أولى منه وأحق به حتى يتقدم الناس إلى الصلاة بأنفسهم.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (615) ، صحيح مسلم الصلاة (437) ، سنن الترمذي الصلاة (225) ، سنن النسائي الأذان (671) ، مسند أحمد بن حنبل (2/303) ، موطأ مالك النداء للصلاة (295) .(46/199)
والناس في الجنائز يكونون خلف الإمام والجنائز يتسامح في صفوفها لما روى أبو داود والترمذي وابن ماجه رحمهم الله عن مالك بن هبيرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب (1) » ولهذا كان مالك المذكور رضي الله عنه إذا استقل الجماعة جعلهم ثلاثة صفوف ولو كانت غير تامة.
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الجنائز (1028) ، سنن أبو داود الجنائز (3166) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1490) ، مسند أحمد بن حنبل (4/79) .(46/200)
س: ما حكم الأذان لصلاة الفجر قبل دخول الوقت؟
ج: لا حرج في ذلك إذا كان هناك مؤذن يؤذن بعد طلوع الفجر، أو كان المؤذن الذي يؤذن قبل طلوع الفجر يعيد الأذان بعد طلوع الفجر حتى لا يشتبه الأمر على الناس.
وإذا أذن للفجر أذانين شرع له في الأذان الذي بعد طلوع الفجر أن يقول: الصلاة خير من النوم بعد الحيعلة حتى يعلم من يسمعه أنه الأذان الذي يوجب الصلاة ويمنع الصائم من تناول الطعام والشراب. والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم (1) » متفق على صحته، وقول أنس رضي الله عنه: «من السنة إذا قال المؤذن في الفجر حي على الفلاح أن يقول الصلاة خير من النوم (2) » أخرجه ابن خزيمة في صحيحه والدارقطني بإسناد صحيح ولأنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا محذورة أن يقول في أذان الفجر: الصلاة خير من النوم.
وجاء في بعض روايات حديث أبي محذورة في الأذان الأول
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (617) ، صحيح مسلم الصيام (1092) ، سنن الترمذي الصلاة (203) ، سنن النسائي الأذان (637) ، مسند أحمد بن حنبل (2/73) ، موطأ مالك النداء للصلاة (164) ، سنن الدارمي الصلاة (1190) .
(2) سنن النسائي الأذان (647) ، سنن أبو داود الصلاة (500) .(46/200)
للصبح والمراد به الأذان بعد طلوع الفجر وسمي بالأول لأن الإقامة هي الأذان الثاني.
كما دل على ذلك حديث عائشة المخرج في صحيح البخاري رحمه الله، ودل على ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: «بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة وقال في الثالثة: " لمن شاء (1) » .
وأما الأذان الأول المذكور في حديث ابن عمر «إن بلالا يؤذن بليل (2) » فالمقصود منه التنبيه لهم على قرب الفجر فلا يشرع فيه أن يقول الصلاة خير من النوم لعدم دخول وقت الصلاة ولأنه إذا قال ذلك في الأذانين التبس على الناس. فتعين أن يقول ذلك في الأذان الذي يؤذن به بعد طلوع الفجر.
والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (627) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (838) ، سنن الترمذي الصلاة (185) ، سنن النسائي الأذان (681) ، سنن أبو داود الصلاة (1283) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1162) ، مسند أحمد بن حنبل (4/86) ، أول مسند البصريين (5/54، 5/56، 5/57) ، سنن الدارمي الصلاة (1440) .
(2) صحيح البخاري الأذان (617) ، صحيح مسلم الصيام (1092) ، سنن الترمذي الصلاة (203) ، سنن النسائي الأذان (637) ، مسند أحمد بن حنبل (2/73) ، موطأ مالك النداء للصلاة (164) ، سنن الدارمي الصلاة (1190) .(46/201)
حكم صلاة المنفرد خلف الصف
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم د \ ش. ع. ع
سلمه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 3231 وتاريخ 15 \ 8 \ 1407هـ الذي تسأل فيه عن رأينا(46/201)
بالنسبة لما اطلعت عليه من رأي ابن تيمية في حكم صلاة المنفرد خلف الصف. .؟
وأفيدك بأنني قد اطلعت على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي أرفقته بالرسالة وهو القول بصحة صلاة المنفرد خلف الصف للحاجة إذا لم يجد من يصف معه وهو قول قوي بلا شك ولكن الأصح منه والأوفق لظاهر السنة عدم الصحة لأمور ثلاثة:
أولها: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف (1) » ولم يفصل.
ثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم أمر من صلى خلف الصف وحده أن يعيد ولم يستفصل منه هل وجد أحدا أم لم يجد ولو كان معذورا عند عدم وجود من يصف معه لاستفصله ومعلوم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز عند أهل العلم.
ثالثها: أن في ذلك سدا لذريعة التساهل بالصلاة خلف الصف منفردا بدعوى أنه لم يجد فرجة في الصف والغالب أنه لو لم يستعجل لوجد فرجة في الصف أو تمكن من الوقوف عن يمين الإمام.
وفق الله الجميع لما فيه رضاه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (230) ، سنن أبو داود الصلاة (682) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1004) ، مسند أحمد بن حنبل (4/228) ، سنن الدارمي الصلاة (1285) .(46/202)
بحث في الربا والصرف
إعداد فضيلة الشيخ \ عبد الله بن سليمان المنيع
الحمد لله الواهب المعين، وصلى الله وسلم على رسول رب العالمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. . . وبعد:
فاستجابة للرغبة العلمية في الكتابة في موضوع الربا والصرف فعلى بركة الله والاستعانة به تعالى أبدأ، مستمدا منه العون والتوفيق فهو وحده المستعان.
معنى الربا في اللغة والاصطلاح الشرعي:
الربا من ربا يربو من باب نصر ينصر والمصدر منه ربا وهو في اللغة بمعنى الزيادة، يقال ربا المال إذا زاد ونما. وربا السويق إذا صب عليه الماء وانتفخ. وربا الرابية إذا علاها. قال في القاموس: ربا ربوا كعلو، وربا زاد ونما، وارتبيته. والرابية علاها والفرس ربوا انتفخ من عدو أو فزع. اهـ.
وقال في مختار الصحاح: قال الفراء في قوله تعالى: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} (1) أي زائدة كقولك أربي إذا أخذت أكثر مما أعطيت. وقال الزمخشري في كتابه أساس البلاغة: ربا المال يربو زاد. وأرباه الله ويربي الصدقات، وأربت الحنطة أربحت. وأربى فلان في السباب وأربى عليه زاد، وأربى على الخمسين. اهـ.
ومن ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (2)
__________
(1) سورة الحاقة الآية 10
(2) سورة الحج الآية 5(46/203)
وقوله تعالى: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} (1) ومنه ما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم: «فلا والله ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها (2) » .
أما في الاصطلاح الشرعي فقد اختلف في تعريفه تبعا للاختلاف في تحديد مفهومه. فعرفه بعضهم (3) : بأنه تفاضل في أشياء ونسا في أشياء مختص بأشياء. وبعضهم عرفه (4) : بأنه اسم لمقابلة عوض بعوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو تأخير في البدلين أو في أحدهما. وبعضهم عرفه فعرف ربا الفضل (5) : بأنه زيادة عين مال شرطت في عقد البيع على المعيار الشرعي، وهو الكيل أو الوزن في الجنس. وعرف ربا النسيئة بأنه فضل الحلول على الأجل، وفضل العين على الدين في المكيلين أو الموزونين عند اختلاف الجنس، أو غير المكيلين أو الموزونين عند اتحاد الجنس.
وهناك من يقول بإطلاق الربا في الشرع على البيوع الباطلة، ويعزى هذا القول إلى عائشة رضي الله عنها، فقد قالت لما نزلت آيات الربا في آخر سورة البقرة: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحرم التجارة في الخمر (6) » . وإلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال: إن من الربا بيع التمرة وهي معصفة قبل أدن تطيب (7) .
__________
(1) سورة الرعد الآية 17
(2) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (602) ، صحيح مسلم الأشربة (2057) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3270) ، مسند أحمد بن حنبل (1/197) .
(3) ج 3 من كشاف القناع عن متن الإقناع، ص 205.
(4) تكملة مجموع النووي للسبكي، ج10 ص22.
(5) ج5 ص 183 من بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني.
(6) صحيح البخاري تفسير القرآن (4541) ، صحيح مسلم المساقاة (1580) ، سنن النسائي البيوع (4665) ، سنن أبو داود البيوع (3490) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (6/100) ، سنن الدارمي البيوع (2569) .
(7) تكملة مجموع النووي للسبكي، ج10 ص 21.(46/204)
مما تقدم نستطيع أن نجد العلاقة بين معنيي الربا في اللغة، وفي الاصطلاح الشرعي في غاية الارتباط. فالمعنيان يدوران حول الزيادة. وإذا كان بعض العلماء يرى أن الربا يطلق على كل البيوع الباطلة، فالربا الباطل متحقق، لأن كل بيع باطل مشتمل على زيادة غير مشروعة، إما لأن أحد العوضين ليس مالا مباحا، فيكون بذل العوض الآخر في غير مقابلة. لأن هذا المال المحرم في حكم المعدوم لحرمة الانتفاع به شرعا، وإما أنه غير متكافئ مع مقابله، فما بينهما من فرق زيادة في غير مقابلة عوض.
على أي حال فلسنا في مجال التفضيل بين تعاريف الربا، ولا تصحيح بعضها وتخطئة البعض الآخر، وإنما يكفينا منها الاتفاق على أن الربا زيادة في غير مقابلة عوض. أما الاختلاف بين أهل العلم فيما يجري فيه الربا عن بعض الأموال فلأنه يرى أن زيادة بعضها على بعض في مقابلة عوض مشروع. ومن أثبته رأى أن زيادة بعضها على بعض في مقابلة عوض غير مشروع.
فالربا بعبارة مختصرة هو الزيادة في غير مقابلة عوض مشروع. أو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاواه: (وحرم الربا لأنه متضمن للظلم، فإنه أخذ فضل بلا مقابل له (1) اهـ.
فكل معاملة استهدفت هذه الزيادة بصفة مباشرة، أو كانت وسيلة إليها فهي معاملة ربوية، وبالتالي فهي محرمة، لأن زيادة أحد العوضين على الآخر في غير مقابلة مشروعة تعتبر من أكل
__________
(1) ج20، ص341.(46/205)
أموال الناس بالباطل، وأكل أموال الناس بالباطل يعتبر عدوانا اجتماعيا، يهدد العالم بالفوضى والفساد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) .
وفي مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية إشارة إلى سر تحريم الربا حيث يقول (3) : (وأما آخذ الربا فإنما مقصوده أن يأخذ دراهم بدراهم إلى أجل، فيلزم الآخذ أكثر مما أخذ بلا فائدة حصلت له، لم يبع ولم يتجر. والمربي آكل مالا بالباطل بظلمه، ولم ينفع الناس لا بتجارة ولا بغيرها، بل ينفق دراهمه بزيادة بلا منفعة حصلت له ولا للناس، فإذا كان هذا مقصوده فبأي شيء توصلوا إليه حصل الفساد والظلم) اهـ.
على أن القول بأن تحريم الربا دفع للظلم المحقق وقوعه عن طريق المعاملات الربوية، لا يعني انحصار حكمة التحريم في دفع الظلم، فهناك معان إنسانية أخرى كانت من أسباب تحريمه، تظهر هذه المعاني فيما يكون عليه المرابي من الغلظة في الطباع، والشح في الإنفاق، والعزوف عن الصدقات، والبعد عن فعل الخيرات. يدل على هذا أنه لا تكاد توجد آية من آيات الربا إلا وهي مسبوقة أو متبوعة بآيات الحض على الإنفاق والصدقة، والعطف على الفقراء والمساكين. فهذه آيات الربا في البقرة مسبوقة بأربع عشرة آية كلها ترغب في الصدقات، وتحض على
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) ج 20، ص 349.(46/206)
الإنفاق في سبيل الله.
على أن هناك حكمة تختص بجريان الربا في النقدين، أشار إليها ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين حيث يقول (1) : (فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات. والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودا مضبوطا لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع، لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره. إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس ويقع الخلاف، ويشتد الضرر، كما رأيت من فساد معاملاتهم، والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح، فعم الضرر وحصل الظلم. ولو جعلت ثمنا واحدا لا يزداد ولا ينقص، بل تقوم به الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس- إلى أن قال- فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس. وهدا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات) اهـ.
وذكر الغزالي في كتابه: (إحياء علوم الدين) ، ونقلها عنه صاحب تفسير المنار في معرض تفسير آيات الربا، ولتمام الفائدة نستحسن نقل قول الغزالي فيها قال رحمه الله: (من نعم الله تعالى
__________
(1) ج 2، ص 137، 138 من الإعلام.(46/207)
خلق الدراهم والدنانير، وبهما قوام الدنيا، وهما حجران لا منفعة في أعيانهما، ولكن يضطر الخلق إليها، من حيث إن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته، وقد يعجز عما يحتاج إليه ويملك ما يستغني عنه، كمن يملك الزعفران مثلا، وهو محتاج إلى جمل يركبه، ومن يملك الجمل ربما يستغني عنه ويحتاج إلى الزعفران، فلا بد بينهما من معاوضة، ولا بد في مقدار العوض من تقدير، إذ لا يبذل صاحب الجمل جمله بكل مقدار من الزعفران، ولا مناسبة بين الزعفران والجمل حتى يقال يعطي منه مثله في الوزن أو الصورة. وكذلك من يشتري دارا بثياب، أو عبدا بخف أو دقيقا بحمار، فهذه الأشياء لا تناسب فيها. فلا يدري أن الجمل كم يساوي بالزعفران، فتتعذر المعاملات جدا، فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة إلى متوسط بينها، يحكم فيها بحكم عدل، فيعرف من كل واحد رتبته ومنزلته، حتى إذا تقررت المنازل، وترتبت الرتب، علم بذلك المساوي من غير المساوي.
فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال، حتى تقدر الأموال بهما، فيقال هذا الجمل يساوي مائة دينار، وهذا القدر من الزعفران يساوي مائة. فهما من حيث إنهما متساويان بشيء واحد إذن متساويان. وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض لأعيانهما. ولو كان في أعيانهما غرض ربما اقتضى خصوص ذلك الغرض في حق صاحب الغرض ترجيحا، ولم يقتض ذلك في حق من لا غرض له، فلا ينتظم الأمر. فإذن خلقهما الله تعالى لتتداولهما الأيدي، ويكونا حاكمين بين الأموال(46/208)
بالعدل، ولحكمة أخرى وهي: التوصل بهما إلى سائر الأشياء، لأنهما عزيزان في أنفسهما، ولا غرض في أعيانهما. ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة، فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء. لا كمن ملك ثوبا فإنه لم يملك إلا الثوب، فلو احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب، لأن غرضه في دابة مثلا. فاحتيج إلى شيء هو في صورته كأنه ليس بشيء، وهو في معناه كأنه كل الأشياء. والشيء إنما تستوي نسبته إلى المختلفات إذا لم تكن له صورة خاصة تفيدها بخصوصها، كالمرآة، لا لون لها وتحكي كل لون، فكذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض، وكالحرف لا معنى له في نفسه وتظهر به المعاني في غيره، فهذه هي الحكمة الثانية.
وفيهما أيضا حكم يطول ذكرها، فكل من عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم، بل يخالف الغرض المقصود بالحكم فقد كفر نعمة الله تعالى فيهما. فإن من كنزهما فقد ظلمهما وأبطل الحكمة فيهما، وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه، لأنه إذا كنز فقد ضيع الحكم. ولا يحصل الغرض المقصود به، وما خلقت الدراهم والدنانير لزيد خاصة، إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما، فإنهما حجران، وإنما خلقا لتتداولهما الأيدي، فيكونا حاكمين بين الناس- إلى أن قال-: وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم، لأنهما خلقا لغيرهما لا لأنفسهما، إذ لا غرض في عينيهما، فإذا اتجر في عينيهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة، إذ(46/209)
طلب النقد لغير ما وضع له ظلم) (1) اهـ.
بعد هذا نستطيع القول أن لجريان الربا في النقدين أكثر من معنى موجب لذلك، وأن من أبرز المعاني في جريانه فيهما كونهما محلا للظلم والعدوان، وأخذ أموال الناس بالباطل، ولما يحصل للعباد من ارتباك واضطراب في معاملاتهم، حينما يتخذ النقدان سلعا تباع وتشترى، فيطرأ عليهما ما يطرأ على السلع من ارتفاع في القيمة، أو انخفاض تبعا لطبيعة العرض والطلب، والعدم والوجود، حيث تفسد بذلك ثمنيتهما على العباد، فيقعون في ضرر بالغ واضطراب مخل. ولا شك أن ما حل محلهما في الثمنية كالأوراق النقدية أو الفلوس، تتحقق فيه هذه المعاني، فيجري فيه الربا كجريانه فيهما، إذ كل ثمن محل للظلم والعدوان، وإيقاع الناس في ارتباك واضطراب، حينما يتخذ ذلك الثمن سلعة تباع وتشترى، والحال أنه معيار لتقويم السلع وتقديرها. فتحريم الربا في النقدين وما حل محلهما في الثمنية دفع لهذه المفاسد، وهذه حكمة ذلك ومقتضاه.
__________
(1) ج 3 من تفسير المنار، ص110- 112.(46/210)
معنى الصرف في اللغة والاصطلاح الشرعي:
الصرف من صرف يصرف صرفا من باب ضرب يضرب، قال في القاموس المحيط: (من الصرف في الدراهم وهو فضل بعضه على بعض في القيمة) اهـ.
ومعناه في الاصطلاح الشرعي ما ذكره بعض أهل العلم فقد ذكر بعضهم أن للصرف أسماء تتفق مع نوعية المصارفة، فقالوا:(46/210)
فإذا بيع الذهب بالفضة أو العكس سمي ذلك صرفا لصرفه عن البيوع الأخرى التي يجوز فيها التفاضل والتفرق قبل القبض والتأجيل، وقيل من صريف الذهب والفضة وهو تصويتهما في الميزان، وقيل سمي هذا النوع من البيوع صرفا لما فيه من معنى الرد والنقل، يقال صرفته عن كذا رددته، سمي صرفا لاختصاصه برد البدل ونقله من يد إلى يد، وقيل يحتمل أن تكون التسمية لمعنى الفضل، إذ الصرف يذكر بمعنى الفضل، وفي الحديث «لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا (1) » ، فالصرف الفضل وهو النافلة، والعدل الفريضة.
وقد ذكر العلماء لصيغ بيوع الصرف مجموعة من التسميات فقالوا: إن بيع ذهب بذهب أو فضة بفضة وزنا، فهذا النوع من الصرف يسمى مراطلة حيث إن الأصل في ذلك أن يجعل كل ذهب في كفة من كفتي الميزان.
وإن بيع الذهب بذهب أو فضة بفضة عددا سمي هذا الصرف مبادلة. وإن بيع الذهب بالفضة أو العكس سمي ذلك صرفا
__________
(1) سنن أبو داود الفتن والملاحم (4270) .(46/211)
حكم الربا:
الربا محرم بنص كتاب الله تعالى وبما ثبت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (3)
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279(46/211)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (2) وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (3) .
وما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (4) » رواه مسلم. وفي لفظ عند مسلم: «فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء (5) » . وروى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله (6) » قال: قلت: وكاتبه وشاهديه. قال: إنما نحدث بما سمعنا. وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: " هم سواء (7) » .
وقد جاء النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الربا من الموبقات ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات " قالوا: وما هن يا رسول الله قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 130
(2) سورة الروم الآية 39
(3) سورة البقرة الآية 276
(4) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، مسند أحمد بن حنبل (3/97) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(6) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .
(7) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .(46/212)
وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (1) » .
ولم يتوعد الله على شيء من المنكرات والموبقات كما توعد على أكل الربا، فقد آذن الله ورسوله بحرب من لم يرتدع ويجتنب أكل الربا. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (3) وقد جعل الله تعالى من أسباب عقوبة بني إسرائيل ومسخهم قردة وخنازير وأن الله أعد للكافرين منهم عذابا أليما جعل من أسباب ذلك أخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل. وجعل أكلة الربا في وضع متدن من الهوان والهوس وشبه الجنون قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (4) .
لقد تناولت أبحاث الفقهاء قديما وحديثا العلة المناسبة لجريان الربا بنوعيه في المعاملات التبادلية على سبيل البيع والصرف. ونظرا لأهمية العلة في إدراك صور المعاملات الربوية فسيكون من تمام البحث التوسع في الحديث عنها.
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 275(46/213)
علة الربا في الأموال الربوية:
لا أدري لعل غيري كان يتساءل كما كان مني التساؤل منذ كنت في المرحلة الثانوية أدرس ضمن دراستي مادة الفقه مسائل الربا، وذلك حينما أجد الفقهاء رحمهم الله يعبرون عن ضابط ما يجري فيه الربا بالعلة فيقولون: علة الربا في النقدين الوزن،(46/213)
وفي غيرهما الكيل، فأي مناسبة في الوزن لجريان الربا في النقدين، وفي الكيل لجريانه في غيرهما من الأصناف الأربعة الواردة في حديث عبادة بن الصامت؟ . الواقع أن التعليل بالوزن أو الكيل لجريان الربا تعليل بوصف طردي لا حكمة فيه، والتعليل بالوصف الطردي ممتنع لدى جمهور علماء الأصول ومحققيهم. قال الآمدي في كتابه الأحكام في بحثه القياس وشروطه (1) :
(اختلفوا في جواز كون العلة في الأصل بمعنى الأمارة المجردة، والمختار أنه لا بد أن تكون العلة في الأصل بمعنى الباعث. أي مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم، وإلا فلو كانت وصفا طرديا لا حكمة فيه، بل أمارة مجردة فالتعليل بها في الأصل ممتنع لوجهين:
الأول: أنه لا فائدة في الأمارة سوى تعريف الحكم، والحكم في الأصل معروف بالخطاب، لا بالعلة المستنبطة منه. الثاني: أن علة الأصل مستنبطة من حكم الأصل ومتفرعة عنه، فلو كانت معرفة لحكم الأصل لكان متوقفا عليها ومتفرعا عنها وهذا دور ممتنع) اهـ.
وقال الأستاذ علي حسب الله في كتابه (أصول التشريع الإسلامي) نقلا عن صاحب (شرح التلويح) ما نصه (2) :
(إن جمهور العلماء على أن الوصف لا يصير علة بمجرد الاطراد، بل لا بد لذلك من معنى يعقل بأن يكون صالحا لبناء
__________
(1) ج3 ص12
(2) ص22 من الكتاب(46/214)
الحكم عليه) اهـ.
وفي مسودة آل تيمية جاء ما نصه (1) :
(مسألة: قال ابن برهان: لا يجوز القياس والإلحاق إلا بعلة مناسبة أو شبه يغلب على الظن عند أصحابنا وأكثر الحنفية - إلى أن قال- وكذلك ذكر المسألة أبو الخطاب صاحبنا والقاضي، وهو منصوص أحمد ولفظه في المجرد: ولا يجوز رد الفرع إلى أصل حتى تجمعها علة معينة تقتضي إلحاقه، فأما أن يعتبر ضرب من التنبيه فلا) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في معرض انتقاده التعليل بالوزن لجريان الربا في النقدين ما نصه (2) :
(وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض) اهـ
ففي انتقاده التعليل بالوزن لعدم وجود مناسبة، إشارة إلى أنه رحمه الله يشترط المناسبة في العلة كغيره من محققي علماء الأصول، وفي انتقاد القول بأن علة الربا في النقدين الوزن وفي غيرهما الكيل، يقول الأستاذ محمد رشيد رضا في كتابه (يسر الإسلام وأصول التشريع العام) ما نصه (3) :
(ولم أر مثلا لجعل الكيل والوزن علة الربا بأظهر من جعل
__________
(1) ص 377 من المسودة.
(2) ج2 من الإعلام ص 137.
(3) ص 62 من الكتاب.(46/215)
الدخول في الجوف علة لتحريم الأكل والشرب على الصائم، في كون كل من العلتين لا يدل عليهما الشرع ولا اللغة ولا العقل المدرك للحكم والمصالح) اهـ.
وهناك من العلماء من أجاز التعليل بالوصف الطردي، واعتبره بمثابة المناط. ففي المستصفى للغزالي ما نصه (1) :
(لا معنى لعلة الحكم إلا أنها علامة منصوبة على الحكم، ويجوز أن ينصب الشرع السكر علامة لتحريم الخمر، ويقول اتبعوا هذه العلامة واجتنبوا كل مسكر. ويجوز أن ينصبه علامة للتحليل أيضا، ويجوز أن يقول: من ظن أنه علامة للتحليل فقد حللت له كل مسكر ومن ظن أنه علامة للتحريم فقد حرمت عليه كل مسكر) اهـ.
وقال في موضع آخر في المستصفى (2) : (وأما الفقهيات فمعنى العلة فيها العلامة) اهـ.
وقال في كتابه شفاء العليل حسبما نقله عنه الدكتور سعيد رمضان في كتابه (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) ما نصه (3) :
(فكل ما جعل علة للحكم فإنما جعل علة لأن الشارع جعله علة لا لمناسبة) اهـ.
__________
(1) ج2 من المستصفي، ص57.
(2) ج2، ص 93.
(3) ص 92(46/216)
وقال ابن قدامة رحمه الله في كتابه (روضة الناظر) ما نصه (1) :
(ومعنى العلة الشرعية العلامة. ويجوز أن تكون حكما شرعيا - إلى أن قال - وتكون مناسبا وغير مناسب) اهـ.
على أي حال فليس هذا موضوع بحثنا، وإنما ذكرنا ذلك استطرادا وتبريرا لتساؤلنا. وعلى أي حال فسواء أكثر القائلون بجواز التعليل بالوصف الطردي أم قلوا؛ فإن هذا لا يغير ما نحن بصدده من ذكر أقوال الفقهاء رحمهم الله في علة الربا في النقدين، ومناقشتهما واختيار ما نراه أقرب إلى الصواب منها.
لقد اختلف العلماء في تعليل تحريم الربا في الذهب والفضة، نتيجة اختلاف مفاهيمهم في حكمة تحريمه فيهما. فمن تعذر عليه إقامة دليل يرضاه على حكمة التحريم، قصر العلة فيهما مطلقا. سواء أكانا تبرا أو مسكوكين أو مصنوعين. وهذا مذهب أهل الظاهر، ونفاة القياس، وابن عقيل من الحنابلة حيث إنه يرى العلة فيهما ضعيفة لا يقاس عليها. فلا ربا عند هؤلاء في الفلوس، ولا في الأوراق النقدية، ولا في غيرهما مما يعد نقدا، والأمر في تحريم الربا فيهما أمر تعبدي.
وغير أهل الظاهر ومن قال بقولهم فهموا للتحريم حكمة تتفق مع مراعاة الشريعة بتحقيق العدل والرحمة والمصلحة بين العباد في الأحكام، وتتفق مع ما لهذه الشريعة من شمول
__________
(1) ج2 من الروضة، ص313.(46/217)
واستقصاء، فاعتبروا النص على جريان الربا بنوعيه في الذهب والفضة من قبيل التمثيل بهما لما ينتج التعامل به في حال التفاضل أو الإنظار من الفساد والظلم والقسوة بين العباد، فاستخرجوا مناطا تنضبط به قاعدة ما يجري فيه الربا، إلا أنهم اختلفوا في تخريج المناط.
فذهب بعضهم إلى أن علة الربا في النقدين الوزن، فطردوا القاعدة في جريان الربا في كل ما يوزن، كالحديد والنحاس والرصاص والذهب والفضة والصوف والقطن والكتان وغيرها. وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد وهو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي. وقد اختلفوا فيما أخرجته الصناعة عن الوزن ما لم يكن ذهبا أو فضة، كاللجم والإبر والأسطال والقدور والسكاكين والألبسة من قطن أو حرير أو كتان، وكالفلوس، فذهب جمهورهم إلى عدم جريان الربا فيها. وذهب بعض العلماء إلى أن علة الربا في الذهب والفضة غلبة الثمنية. وهذا الرأي هو المشهور عن الإمامين مالك والشافعي. فالعلة عندهما في الذهب والفضة قاصرة عليهما. والقول بالغلبة احتراز عن الفلوس إذا راجت رواج النقدين فالثمنية عندهما طارئة عليها فلا ربا فيها. وذهب فريق ثالث إلى أن العلة فيهما مطلق الثمنية، وهذا القول إحدى الروايات عن الإمام مالك وأبي حنيفة وأحمد. قال أبو بكر: روى ذلك عن أحمد جماعة. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من محققي العلماء.(46/218)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه (1) :
(والمقصود هنا الكلام في علة الربا في الدنانير، والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية لا الوزن، كما قال جمهور العلماء - إلى أن قال- والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارا يتوصل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها. فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية. واشتراط الحلول والمقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوصل بها إلى تحصيل المطالب، فإن ذلك إنما يحصل بقبضها لا بثبوتها في الذمة، مع أنها ثمن من طرفين، فنهى الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى أجل، فإذا صارت الفلوس أثمانا صار فيها المعنى فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل) .
__________
(1) ج29 من الفتاوى، ص473، 474.(46/219)
نقاش هذه الآراء:
لقد استعرضنا بصورة سريعة ومختصرة جدا أشهر آراء العلماء في مناط الربا في النقدين الذهب والفضة، دون مناقشة أي من هذه الآراء، ونحب الآن مناقشة هذه الآراء لتظهر لنا حقيقتها، وليترجح لنا منها ما يتفق مع حكمة حظر الربا على الأمة الإسلامية، لتكون هذه المناقشة عونا ومبررا لنا في توجيهنا ما نراه(46/219)
علة للربا في الذهب.
لقد أورد بعض أهل العلم على القائلين بالوزن علة لجريان الربا في النقدين إيرادا ملخصه أن العلماء متفقون على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، وفي جواز ذلك نقض للعلة. قال أبو محمد عبد الله بن قدامة رحمه الله في المغني في معرض توجيهه قول القائلين بالثمنية (1) :
(ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلامهما في الموزونات، لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النساء) اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع فتاواه في معرض توجيه القول بالثمنية (2) :
(ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل. فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا. والمنازع يقول: جواز هذا استحسان وهو نقيض للعلة ويقول: إنه جوز هذا للحاجة مع أن القياس تحريمه) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) في
__________
(1) ج4 من المغني، ص4.
(2) ج29 من الفتاوى، ص471.(46/220)
معرض توجيهه القول بالثمنية وتصحيحه ما نصه (1) :
(فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد ونحوهما. فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا. فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء. والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها. وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض) اهـ.
وقد أجاب القائلون بهذا من الحنابلة عن إيراد اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، مع أنه بيع موزون بموزون إلى أجل باستثناء هذه الجزئية من القاعدة للحاجة الماسة إلى الإسلام بأحد النقدين. فقالوا بجريان ربا النسيئة في كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل ليس أحدهما نقدا. أما الحنفية فوضعوا قيدا ليدفعوا به هذا الاعتراض، فقالوا بجريان ربا النسيئة في كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل وطريقته، وقالوا إن مسألة السلم لا تنقض قاعدتنا. حيث إن النقدين موزونان بالميزان، أما ما يسلم فيه مما يوزن فوزنه بالقبان، فاختلف الميزان فجاز (2) ولا يخفى ما في هذا القيد من تكلف ظاهر.
وأورد أيضا على القائلين بالوزن علة لجريان الربا في النقدين إيراد آخر ملخصه: إن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة
__________
(1) ج2 من الإعلام، ص 137.
(2) ج5 من بدائع الصنائع للكاساني، ص 186.(46/221)
على ما يوزن. بل هي متعدية إلى غيره مما يعد ثمنا كالفلوس والورق النقدي، بل إن الظلم المراعى إبعاده في تحريم الربا في النقدين واقع في التعامل بالورق النقدي، وبشكل واضح في غالبه تتضاءل معه صورة الظلم الواقع في التعامل بالذهب والفضة متفاضلا في الجنس أو نسيئة في الجنسين، نظرا لارتفاع القيمة الثمنية في بعضها كفئات الخمسمائة ريال والألف دولار.
فليس التعليل بالوزن جامعا لأجزاء ما يجري فيه الربا من أنواع الأثمان. فتعين المصير إلى مناط جامع مانع.
أما القائلون بغلبة الثمنية علة لجريان الربا في النقدين، فأورد عليهم أن العلة عندكم قاصرة على النقدين الذهب والفضة، والعلة القاصرة لا يصح التعليل بها في اختيار أكثر أهل العلم. قال النووي في مجموعه: (شرح المهذب) في معرض سياقه الرد على الشافعية لقولهم بالعلة القاصرة:
(وعندكم في العلة القاصرة وجهان لأصحاب الشافعي. أحدهما: أنها فاسدة لا يجوز التعليل بها لعدم الفائدة فيها، فإن حكم الأصل قد عرفناه وإنما مقصود العلة أن يلحق بالأصل غيره. والوجه الثاني: أن القاصرة صحيحة ولكن المتعدية أولى. قالوا: فعلتكم مردودة على الوجهين لأن حكم الذهب والفضة عرفناه بالنص. قالوا: ولأن علتكم قد توجد ولا حكم، وقد يوجد الحكم ولا علة كالفلوس بخراسان وغيرها، فإنها أثمان ولا ربا فيها عندكم والثاني كأواني الذهب والفضة يحرم الربا فيها(46/222)
مع أنها ليست أثمانا) اهـ (1) .
وأورد عليهم أيضا ما أورد على القائلين بالوزن علة من أن حكمة تحريم الربا ليست مقصورة على النقدين، بل تتعداهما إلى غيرهما من الأثمان كالفلوس والورق النقدي إلى آخر الاعتراض المتقدم قريبا.
__________
(1) ج 9 من المجموع، ص 445.(46/223)
أما القائلون بأن علة الربا في النقدين مطلق الثمنية، فقد استخرجوا مناطا جامعا مانعا متفقا مع الحكمة في جريان الربا في الذهب والفضة.
وما ذكره ابن مفلح رحمه الله في كتابه الفروع من قوله، بأنها علة قاصرة لا يصلح التعليل بها في اختيار الأكثر، منقوضة طردا بالفلوس، لأنها أثمان وعكسا بالحلي. فهذا الإيراد لا يتجه إلا على القائلين بغلبة الثمنية، أما القائلون بمطلق الثمنية فلم يخرجوا الفلوس الرائجة عن حكم النقدين بل اعتبروها نقدا يجري فيه الربا بنوعيه كما يجري الربا بنوعيه في الذهب والفضة.
كما أنهم لم يقولوا بجريان الربا في الحلي المصنوع من الذهب أو الفضة لأن الصناعة قد نقلته من مادة الثمنية إلى جنس السلع والثياب. ولهذا لا تجب فيه الزكاة على القول المشهور مع أنه من مادة الذهب والفضة.
وفي امتناع جريان الربا في الحلي المباح من الذهب(46/223)
والفضة يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين) ما نصه (1) :
وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا، فإن ما حرم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد، وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته محرمة، كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره علي ومعاوية، فإنه يتضمن، مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز كالات الملاهي، وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحلية النساء، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها، فإنه سفه وإضاعة للصنعة، والشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك، فالشريعة لا تأتي به ولا تنهى بالمنع من بيع ذلك وشرائه، لحاجة الناس إليه. فلم يبق إلا أن يقال لا يجوز بيعها بجنسها ألبتة، بل بيعها بجنس آخر، وفي هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر، والحيل باطلة في الشرع وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر، لشهوة الرطب. وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه؟ فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلع، فلو لم يجز بيعه بالدرهم فسدت مصالح
__________
(1) ج2 من الإعلام، ص140، 141.(46/224)
الناس. والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع. وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة، ولا ينكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي، وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة، والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحيلة. ولا سيما فإن لفظ النصوص في الموضعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير، كقوله: «الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير» . وفي الزكاة قوله: «في الرقة ربع العشر (1) » . والرقة هي الورق، وهي الدراهم المضروبة. وتارة بلفظ الذهب والفضة فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيا عن الربا في النقدين، وإيجابا للزكاة فيهما، ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما بل فيه تفصيل. فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها، وفي هذا توفية الأدلة حقها، وليس فيه مخالفة شيء لدليل منها.
يوضحه أن الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وسائر السلع، وإن كانت من غير جنسها، فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان وأعدت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي) . كما لا يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل. ولا ريب أن هذا قد يقع فيها، لكن لو سد على الناس ذلك لسد عليهم باب الدين، وتضرروا بذلك غاية الضرر. يوضحه أن
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1454) ، سنن النسائي كتاب الزكاة (2455) ، سنن أبو داود كتاب الزكاة (1567) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1800) ، مسند أحمد بن حنبل (1/12) .(46/225)
الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم كانوا يتخذون الحلية، وكان النساء يلبسنها، وكن يتصدقن بها في الأعياد وغيرها. ومن المعلوم بالضرورة أنه كان يعطيها للمحاويج ويعلم أنهم يبيعونها. ومعلوم قطعا أنها لا تباع بوزنها فإنه سفه. ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة لا تساوي دينارا، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله وأفقه في دينه، وأعلم بمقاصد رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس. يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحلي إلا بغير جنسه أو بوزنه، والمنقول عنهم إنما هو في الصرف، يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدا للذريعة كما تقدم بيانه، وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أبيح النظر للخاطب، والشاهد والطبيب، والمعامل من جملة النظر المحرم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال، حرم لسد ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك إلى آخر ما ذكره.
وقد يرد على ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله من أن الحلية المصوغة لا يجري فيها الربا، ما رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي «عن فضالة بن عبيد قال: اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا، فيها ذهب وخرز. ففصلتها فوجدت أكثر من اثني(46/226)
عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا يباع حتى يفصل (1) » . وفي لفظ لأبي داود «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة أو سبعة دنانير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا حتى تميز بينه وبينه " فقال: إنما أردت الحجارة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا حتى تميز بينهما " قال فرده حتى ميز بينهما (2) » .
ووجه الإيراد أن القلادة حلية فيها ذهب، وقد اشتريت بذهب، ومع هذا فقد اعترض صلى الله عليه وسلم على صحة هذا البيع وأمر برده حتى يفصل. وقد يكون من الجواب عليه أن ذهب القلادة كان أكثر من ثمنها، حيث ذكر فضالة أنه فصلها فوجد فيها أكثر من اثني عشر دينارا، وأكثر ما روي في ثمنها أنه اثنا عشر دينارا، وقد روي أنه اشتراها بسبعة دنانير أو تسعة، فإذا كان ما فيها من الذهب أكثر من ثمنها لم يكن للصياغة فيها مقابل. وآل الأمر فيها إلى بيع ذهب بذهب متفاضلا، لم يكن لزيادة بعضه على بعض مقابل. وابن القيم رحمه الله يشترط أن يكون ثمن الحلية أكثر منها وزنا، ليكون الزائد على وزنها من الثمن في مقابلة الصياغة، وقد مر بنا قوله: (وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها) . وقال رحمه الله بعد هذا في معرض الدفاع عن هذا الرأي (3) :
(فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصناعة) اهـ.
وأجاب بنحو هذا شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .
(3) ج2 من الإعلام، ص 142.(46/227)
جوابه عن جواز بيع الأكاديس الإفرنجية بالدراهم الإسلامية مع القطع بأن بينهما تفاوتا في الوزن فقال رحمه الله في مجموع فتاواه ما نصه (1) :
(وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي بل يخرص خرصا، مثل القلادة التي بيعت يوم حنين، وفيها خرز معلق بذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تباع حتى تفصل (2) » فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد. فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون، فيكون قد باع ذهبا بذهب مثله (3) وزيادة خرز وهذا لا يجوز.
وإذا علم المأخذ فإن كان المقصود بيع دراهم بدراهم مثلها، وكان المفرد أكثر من المخلوط كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة، بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط، لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء، إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها، ولا هو بما يحتمل أن تكون فيه ذلك فيجوز التفاوت) اهـ.
ومما أجيب به عن هذا الحديث أن فيه اضطرابا واختلافا، يوجب ترك الاحتجاج به، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه " تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير " ما نصه (4) :
__________
(1) ج 29، ص453.
(2) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن الترمذي البيوع (1255) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3352) ، مسند أحمد بن حنبل (6/21) .
(3) هكذا في المطبوع ولعل الصواب '' قد باع ذهبا بذهب مثله وزيادة وخرز ''.
(4) ج 3، ص 9.(46/228)
(وله عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جدا. في بعضها: قلادة فيها خرز وذهب. وفي بعضها: ذهب وجوهر. وفي بعضها: خرز وذهب. وفي بعضها: خرز معلق بذهب، وفي بعضها: باثني عشر دينارا. وفي أخرى: تسعة دنانير، وفي أخرى: بسبعة دنانير. وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاف بأنها كانت بيوعا شهدها فضالة) اهـ.
وذكر الحافظ ابن حجر أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل. وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحالة ما يوجب الحكم بالاضطراب. اهـ.
قلت: قد رأيت لبعض المتأخرين من محدثي الهند تعقيبا على ابن حجر - رحمه الله - في جوابه هذا، فقد ذكر المفتي عبد اللطيف الرحماني في شرحه: (جامع الترمذي) الجزء الثاني ص 709 ما نصه:
(وأما ما أجاب به الحافظ بأن المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل، ففيه أيضا أنه غير محفوظ بما روى البيهقي في السنن عن فضالة بن عبيد، قال: «كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر نبايع اليهود الأوقية(46/229)
من الذهب بالدينارين والثلاثة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا بوزن (1) » ففي هذا الحديث ليس للقلادة ذكر، ولي فيه النهي عن بيع ما لم يفصل، بل فيه النهي عن بيع الذهب بالدينار إلا مماثلا. وأما ما قال الحافظ من أنه ينبغي الترجيح بين رواتها، وإن كان الجميع ثقات، فنحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم؛ ففيه أنهم إذا كانوا كلهم سواء في الحفظ والضبط فكيف الترجيح؟ وأيضا لا يجوز تغليط ثقة؛ لأن عليه الاعتماد.
فعلى هذا لا حجة في هذا الحديث لاضطرابه، وكيف وفيه حرج عظيم ومشقة على الأمة، إذا حكم بفصل الذهب والفضة عن الأشياء التي تحلى بالذهب والفضة؛ لأن بعض الأشياء بعد نزوع الذهب والفضة منها تنقص قيمتها كثيرا، بل بعضها لا يكون لها قيمة، فكيف يحكم بهذا الشارع ويحكم بإبطال الصنع وهو حكيم؟) اهـ.
أقول: في اعتراضه - رحمه الله - بقوله: ففيه أنهم إذا كانوا كلهم سواء في الحفظ والضبط فكيف الترجيح؟ . في قوله هذا نظر ملخصه: هل تحقق أن رواة هذه الروايات المختلفة كلهم سواء في الحفظ والضبط؟ كما أن قوله: لا يجوز تغليط ثقة لأن عليه الاعتماد. ليس على إطلاقه بل إذا روى الثقة حديثا يخالف ما روى الناس اعتبرت روايته هذه شاذة، وتعين التوقف فيها وعدم الاحتجاج بها. قال ابن كثير - رحمه الله - في كتابه (الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث) في معرض تعريفه الشاذ ما نصه (2) :
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3353) ، مسند أحمد بن حنبل (6/22) .
(2) ص61 من الكتاب.(46/230)
(قال الشافعي: وهو أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس، وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره. وقد حكاه الحافظ أبو يعلى الخليل القزويني عن جماعة من الحجازيين أيضا، قال: والذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ به ثقة أو غير ثقة، فيتوقف فيما شذ به الثقة، ولا يحتج به، ويرد ما شذ به غير الثقة - إلى أن قال: - فإذن الذي قاله الشافعي أولا هو الصواب: أنه إذا روى الثقة شيئا قد خالفه فيه الناس فهو الشاذ. يعني: المردود) اهـ.(46/231)
ومن المسائل التطبيقية لهذه المسألة ما ذكره ابن حجر - رحمه الله - في كتابه: (هدي الساري) مقدمة فتح الباري: من قوله (1) :
(قال الدارقطني: أخرجا جميعا حديث مالك عن الزهري عن أنس قال: كنا نصلي العصر، ثم يذهب الذاهب منا إلى قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة. وهذا مما ينتقد به على مالك؛ لأنه رفعه، وقال فيه إلى قباء. وخالفه عدد كثير، منهم شعيب بن أبي حمزة، وصالح بن كيسان، وعمرو بن الحارث، ويونس بن يزيد، ومعمر، والليث بن سعد، وابن أبي ذئب وآخرون) انتهى.
وقد تعقبه النسائي أيضا على مالك، وموضع التعقب منه قوله: إلى قباء، والجماعة كلهم قالوا: إلى العوالي. ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث لا سيما وقد
__________
(1) ج1 من هدي الساري، ص111.(46/231)
أخرجا الرواية المحفوظة) اهـ.
فقول ابن حجر - رحمه الله -: ومثل هذا الوهم اليسير لا يلزم منه القدح في صحة الحديث يدل على أنه يرى كغيره من حفاظ الحديث أن الثقة إذا شذ عن الجماعة برواية خالفهم فيها وترتب على هذه الرواية وهم غير يسير؛ لزم من ذلك القدح في صحة الرواية، وإن كان الثقة مالكا أو من يدانيه، فضلا عمن هو دونه.
كما أنه قد يورد مورد اعتراض على القائلين بمطلق الثمنية، بأن إجماع العلماء منعقد على جريان الربا بنوعيه، في الذهب والفضة، سواء أكانا سبائك أو كانا مسكوكين، فما سك منهما نقدا فلا إشكال في جريان الربا فيه لكونه ثمنا، وإنما الإشكال في جريان الربا بنوعيه في سبائكهما، مع أنهما في حال كونهما سبائك ليسا ثمنا، إلا أنه يمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن الثمنية في الذهب والفضة موغلة فيهما، وشاملة لسبائكهما ومسكوكهما، بدليل أن السبائك الذهبية كانت تستعمل نقدا قبل سكها نقودا. وقد كان تقدير ثمنيتها بالوزن، ومن ذلك ما رواه الخمسة وصححه الترمذي عن سويد بن قيس قال.
«جلبت أنا ومخرمة العبدي بزا من هجر، فأتينا به مكة، فجاءنا رسول الله يمشي، فساومنا سراويل فبعناه، وثم رجل يزن بالأجرة، فقال له: زن وأرجح (1) » . ومثله حديث جابر في بيعه جمله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قال: «يا بلال اقضه وزده. فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا (2) » . وقد أشار شيخ الإسلام ابن
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1305) ، سنن النسائي البيوع (4592) ، سنن أبو داود البيوع (3336) ، سنن ابن ماجه التجارات (2220) ، مسند أحمد بن حنبل (4/352) ، سنن الدارمي البيوع (2585) .
(2) صحيح البخاري كتاب الوكالة (2309) ، صحيح مسلم المساقاة (715) ، سنن الترمذي النكاح (1100) ، سنن النسائي البيوع (4639) ، سنن أبو داود النكاح (2048) ، سنن ابن ماجه النكاح (1860) ، مسند أحمد بن حنبل (3/314) ، سنن الدارمي النكاح (2216) .(46/232)
تيمية - رحمه الله - إلى هذا فجاء في مجموع الفتاوى (1) :
(إن الناس في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يتعاملون بالدراهم والدنانير تارة عددا وتارة وزنا) اهـ.
ويمكن أن يجاب أيضا بما ذكره ابن القيم - رحمه الله - في كتابه (إعلام الموقعين) في معرض توجيهه جريان الربا في الأصناف الستة الواردة في حديث عبادة بن الصامت وغيره فقال (2) :
(وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها، لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات. وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين، لأن التبر ليس فيه صنعة لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع ألا يفاضل بينها، ولهذا قال: تبرها وعينها سواء) اهـ.
ولابن القيم - رحمه الله - توجيه رائع للتعليل بالثمنية يحسن بنا ونحن نرى أن التعليل بالثمنية أصوب الأقوال وأصحها أن نذكره كختام لمبحثنا هذا. قال - رحمه الله - في كتابه: (إعلام الموقعين) ما نصه (3) :
(وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة: العلة فيهما كونهما
__________
(1) ج19، ص 248.
(2) ج 2 من الإعلام، ص 140.
(3) ج 2 من الإعلام، ص137.(46/233)
موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه، ومذهب أبي حنيفة. وطائفة قالت: العلة: فيهما الثمنية. وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى. وهذا هو الصحيح بل الصواب.
فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا، فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء.
والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها.
وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية.
فإن الدراهم والدنانير أثمان مبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودا مضبوطا، لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجات الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره. إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس - إلى أن قال: - فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير، مثل أن يعطي صحاحا ويأخذ مكسرة، أو خفافا ويأخذ ثقالا أكثر منها، لصارت متجرا،(46/234)
وجر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد. فالأثمان لا تقصد لأعيانها، بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في نفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول مختص بالنقود ولا يتعدى إلى سائر الموزونات) اهـ.
ومن خلاصة البحث في علة الربا وما تم ارتضاؤه والاطمئنان إلى إصابته الحق أو أنه أقرب الأقوال إلى ذلك من خلاصة ذلك القول بأن علة الربا في الأثمان مطلق الثمنية، وفي غيرها من الأموال الربوية الطعم مع صلاحه للادخار.
والأثمان جمع ثمن، وقد تعددت تعريفاته من قبل بعض أهل العلم، إلا أن أقرب تعريف له من حيث الجمع والمنع والشمول هو: الثمن: كل شيء يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل مهما كان ذلك الشي وعلى أي حال يكون (1) .
وهذا التعريف يتفق مع ما ذكره مجموعة من أهل العلم فقد جاء في المدونة الكبرى للإمام مالك - رحمه الله - من كتاب الصرف ما نصه:
(ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نسيئة) اهـ.
وفي مجموع شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ما نصه (2) :
(وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي
__________
(1) انظر الورق النقدي لمؤلفه الشيخ عبد الله المنيع، ص 19- 20.
(2) ج19، ص 251 من الفتاوى.(46/235)
بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به.
والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها ولهذا كانت أثمانا- إلى أن قال- والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت) اهـ.
ففي قوله - رحمه الله -: والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيف ما كانت، في قوله هذا إشارة إلى أن الثمن هو ما يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل على أي صورة كان ومن أي مادة اتخذ، وعلى هذا فإن من الأثمان الذهب والفضة والفلوس والأوراق النقدية. وحيث إن صحة الصرف تستلزم تحقق شرطين في حال اتحاد الجنس بين العوضين هما التماثل والتقابض في مجلس العقد. وفي حال اختلاف العوضين جنسا فتصح المصارفة بشرط التقابض في مجلس العقد، والأصل في ذلك أحاديث أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وغيرهما: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » .
هذا الحكم في الصرف يقتضي منا البحث في الأثمان من حيث الجنس.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(46/236)
لا شك أن الذهب جنس مغاير لجنس الفضة، وأن الأثمان المعدنية من نحاس أو نيكل أو غيرهما جنس مغاير لجنسي الذهب والفضة، وهذا من الوضوح بحال لا يحتاج منا إلى مزيد بيان لوضوح اختلاف بعضها عن بعض من حيث الجنس. وعليه فتجوز مصارفة الذهب بالفضة والعكس أو بأي ثمن من الأثمان المعدنية - الفلوس- متماثلا في الوزن أو متفاضلا بشرط الحلول والتقابض في مجلس العقد.
وأما مصارفة هذه الأثمان المعدنية بأي ثمن من الأثمان الورقية أو مصارفة هذه الأثمان الورقية بعضها ببعض فإن معرفة حكم ذلك يحتاج إلى تمهيد تتضح منه حقيقة هذه الأثمان الورقية وتصور واقعها.
لقد مر بنا تعريف النقد، وأنه أي شيء يلقى قبولا عاما للتبادل، وعلمنا أن الورق النقدي مر بمراحل كانت نهايتها اعتباره نقدا قائما، يحمل قوة مطلقة للإبراء العام. وأن التعهد المسجل على كل ورقة نقدية منه بتسليم مقدار ما اعتبرت إبراء عنه لحاملها عند طلبه لفظ لا يعني معناه، وإنما هو بقية باقية لمرحلة من مراحل حياة الورق النقدي، يعني التمسك به الآن تذكير المسئولين عن إصداره بمسئوليتهم تجاهه، والحد من الإفراط في الإصدار بدون استكمال لأسباب إحلال الثقة به كنقد يحمل قوة مطلقة للإبراء العام، وكمستودع للثروة تطيب النفس باختزانه للحاجة.
ولا شك أن قانون إصدار الأوراق النقدية لا يحتم على(46/237)
مصدريها تغطيتها جميعها. وإنما يكفي تغطية بعضها بغطاء مادي ذي قيمة، على أن يكون الباقي مما لم يغط أوراقا وثيقية على جهات إصدارها، وأن التغطية لا يلزم أن تكون ذهبا أو فضة، بل يجوز أن تكون عقارا أو أوراقا مالية كالأسهم والسندات. وأن سر قبول النقد أيا كان قبولا عاما للتداول والتمول، هو الثقة به كقوة شرائية وكمستودع أمين للادخار، لا أن سر قبوله محصور في كونه ذا قيمة في ذاته أو أن القانون فرضه وألزم التعامل به.
ولا شك أن ذات الورقة النقدية لا قيمة لها مطلقا، بعد أن صارت مجرد قصاصات صغيرة فاقدة عموم وجوه الانتفاع، وأنها بذلك ليست من عروض التجارة، وإنما قيمتها في أمر خارج عن ذاتها، ولا شك أن الحكمة في جريان الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة كونهما محلا للظلم والعدوان، حينما يكونان أو أحدهما سلعا تباع وتشترى، والحال أنهما وحدة للمحاسبة والتقويم، فزيادة أحدهما بعضه على بعض في غير مقابلة مشروعة ظلم وعدوان، كما أن مصارفة أحدهما بالآخر بدون تقابض في مجلس العقد مظنة ذلك، وذريعة إليه وفي اتخاذهما سلعا تباع وتشترى تعطيل لهما عما اتخذا له، وإفساد على المسلمين قيم سلعهم، حينما تكون هذه القيم عرضة للزيادة والنقصان. وفي هذا تعد على المجتمع وعدوان، وقد مر بنا أن أقرب الأقوال إلى الصحة في علة الربا في النقدين مطلق الثمنية، وأن الحكمة إذا كانت ظاهرة ومنضبطة جاز التعليل بها في القياس.
وعليه فحيث إن الورق النقدي نقد قائم بذاته، لم يكن سر(46/238)
قبوله للتداول والتمول والإبراء المطلق التعهد المسجل على كل ورقة نقدية منه، بتسليم حاملها محتواها عند الطلب، ولا أنه جميعه مغطى بذهب أو فضة، ولا أن السلطان فرضه وألزم التعامل به، وإنما سر قبوله ثقة الناس به كقوة شرائية مطلقة، بغض النظر عن أسباب حصول الثقة به.
وحيث إن الورق النقدي له خصائص النقدين الذهب والفضة من أنه ثمن، وبه تقوم الأشياء والنفوس تطمئن بتموله وادخاره وفي اتخاذه سلعا تباع وتشترى ما في اتخاذ النقدين سلعا تباع وتشترى، من الظلم والضرر والعدوان. وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في النقدين مطلق الثمنية.
لهذه الحيثيات فإن الورق النقدي ثمن قائم بذاته، له حكم النقدين الذهب والفضة في جريان الربا بنوعيه فيه، كما يجري فيهما قياسا عليهما، ولاندراجه تحت مناط الربا في النقود وهو الثمنية.
وإلى نحو هذا أشار الأستاذ محمد رشيد رضا في كتابه (يسر الإسلام وأصول التشريع) ، في معرض نقاشه آراء العلماء في علة جريان الربا في الأصناف الستة المذكورة في حديث عبادة حيث قال (1) :
(والمذهب الوسط أن الأجناس الستة المذكورة في الحديث كانت ولا تزال معيارا لأثمان وأصول الأقوات لأكثر البشر- إلى أن قال: - فإذا وجدت العلة في نقد آخر غير الذهب والفضة، وقوت آخر غير البر والشعير والتمر والملح، صح قياسهما على
__________
(1) انظر ص61.(46/239)
الأجناس الستة، لحلولهما محلها، وانطباق حكمة التشريع على ذلك) اهـ.
وحيث إن قيمة الورقة النقدية ليست في ذاتها، كما هو الشأن في النقود المعدنية من ذهب أو فضة أو فلوس، وإنما قيمتها في أمر خارج عن ذاتها. هذه القيمة الخارجة عن ذاتها هي سر مناطها بالثمنية، وحيث إن هذه القيمة الخارجة عن ذوات الأوراق النقدية تختلف بعضها عن بعض. وحيث إن لهذا الاختلاف أثرا في اعتبارها أجناسا متعددة، بتعدد جهات إصدارها.
لهذه الحيثيات فإني أرى أن العملات الورقية أجناس تتعدد بتعدد جهات إصدارها، بمعنى أن الورق النقدي السعودي مثلا جنس، والورق النقدي الكويتي جنس، والورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، حكمها حكم الذهب والفضة في جواز بيع بعضها ببعض، من غير جنسها مطلقا إذا كان ذلك يدا بيد، لما روى الإمام أحمد ومسلم عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » .
فكما أن الذهب والفضة جنسان لاختلاف أحدهما عن الآخر في قيمتهما الذاتية، فكذلك العملات الورقية أجناس
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(46/240)
لاختلاف بعضها عن بعض فيما تقدرها به جهات إصدارها، وفيما تتخذه من أسباب لقبولها وإحلال الثقة بها، وفيما تكون عليه هذه الجهات من قوة وضعف وسعة سلطان وتقلصه.(46/241)
مستلزمات هذا الرأي:
الواقع أن القول باعتبار الورق النقدي ثمنا قائما بذاته كقيام الثمنية في كل من الذهب والفضة وغيرهما من النقود المعدنية، وأن العملات الورقية أجناس تتعدد بتعدد جهات إصدارها، هذا القول يستلزم أحكاما شرعية أشير إلى بعضها فيما يأتي:
1 - جريان الربا بنوعيه فيه كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وما أجري مجراهما في الثمنية كالفلوس لدى المحققين من أهل العلم.
وهذا يقتضي ما يأتي:
أ- لا يجوز بيع بعضه ببعض، أو بغيره من الأجناس الثمنية الأخرى من ذهب أو فضة أو فلوس نسيئة مطلقا. أي لا يجوز مثلا بيع ريال ورق بريال فضة أو بعشرين قرشا نسيئة، كما لا يجوز بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريل سعودية مثلا أو أقل منها أو أكثر نسيئة، ولا يجوز بيع خمسين ريالا بجنيه ذهب نسيئة.
ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلا، سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد، فلا يجوز مثلا بيع خمسة عشر ريالا سعوديا ورقا بستة عشر ريالا سعوديا ورقا.(46/241)
ج- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا، إذا كان ذلك يدا بيد، فيجوز بيع الريال الفضة السعودي بريالين أو أكثر أو أقل من الورق النقدي السعودي، وبيع الليرة السورية أو اللبنانية مثلا بريال سعودي فضة كان أو ورقا، وبيع الدولار الأمريكي بخمسة أريل سعودية مثلا أو أقل منها أو أكثر إذا كان بيع ذلك يدا بيد.
2 - وجوب زكاتها إذا بلغت ثمنيتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان أو مع العروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.
3 - جواز جعلها رأس مال في السلم والشركات.
وبعد فقد وصلت ببحثي إلى نقطة أعتبرها خاتمة ذلك البحث، فإن كان ما قدمته صوابا فذلك من الله وحده، وأسأله تعالى أن يديم توفيقي وأن يمدني بعونه ورعايته، وأن لا يحرمني أجر الإصابة وأجر الاجتهاد. وإن كان ما قدمته خطأ فمني ومن الشيطان، والله بريء من ذلك، وأرجوه تعالى أن يثيبني على اجتهادي ويغفر لي خطيئتي يوم الدين، فهو حسبي ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(46/242)
تقرير عن المنجد في اللغة والأعلام
د. محمد بن أحمد الصالح
المنجد قاموس يدعو للتنصير، وضعه راهب نصراني وهو الأب لويس معلوف اليسوعي عام 1326 هـ (1908م) ، وكان يقتصر في ذلك الوقت على اللغة، ثم أضيف إليه قسم الأعلام اعتبارا من عام 1376 هـ (1956م) . وقام بوضعه راهب نصراني آخر هو الأب فرنارد توتل اليسوعي (1) وتقوم على طبع هذا القاموس وإخراجه المطبعة الكاثوليكية.
وما زال القائمون على تحريره من النصارى، وفي مقدمتهم فيما يخص قسم اللغة: كرم البستاني، والأب اليسوعي بولس موترد، وعادل أنبوبا، وأنطوان نعمة.
وفيما يخص قسم الأعلام: بولس براورز، وسليم ركاش، ولويس عجيل، وميشال مراد.
وقد انتشر هذا المعجم وتجاوزت طبعاته الثلاثين طبعة، واختصر منه مجموعة من المعاجم هي:
1 - المنجد الأبجدي عام 1388 هـ (1968م) .
2 - منجد الطلاب عام 1388 هـ (1968م) .
__________
(1) انظر مادة (المنجد) في قسم الأعلام.(46/243)
3 - المنجد الإعدادي عام 1389 هـ (1969م) .
4 - المنجد المصور للأطفال.
وقد كان لهذا المعجم تأثير كبير، حيث انتشر في المكتبات العامة والجامعية والمدرسية، وأصبح متداولا بين الناس لرخص ثمنه، وجودة طباعته، وما حلي به من صور ورسوم وبيانات، ولسهولة الوصول إلى المعلومة فيه.
لكن هذه الميزات أخفت عيوبا كبيرة وخطيرة تتمثل فيما يضمه من أخطاء وأغاليط وتشويه وتزوير.
وقد تنبه المخلصون للغة القرآن والثقافة الإسلامية الأصيلة إلى خطورة هذا القاموس وكثرة أخطائه وما فيه من دس وتحريف، فألفوا في الرد عليه الكتب، وكتبوا البحوث والمقالات، ومن ذلك:
1 - كتاب عثرات المنجد في الأدب والعلوم والأعلام- للأستاذ \ إبراهيم القطان، وهو أهم الكتب التي صدرت في نقد المنجد، ويقع في 664 صفحة، ويشتمل على 2434 مأخذا- وصدرت طبعته الأولى عام 1392 هـ.
2 - كتاب النزعة النصرانية في قاموس المنجد- للدكتور \ إبراهيم عوض، ويقع في 50 صفحة، وطبع في الطائف عام 1411هـ، وركز فيه المؤلف على إبراز النزعة النصرانية في هذا القاموس، وملأ صفحاته الخمسين بأمثلة عديدة وردت في المنجد تؤكد هذه النزعة.(46/244)
3 - سلسلة مقالات للأستاذ \ منير العمادي، نشرت في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق.
4 - مجموعة مقالات لعلامة المغرب الشيخ \ عبد الله كنون، منشورة في مجلة دعوة الحق.(46/245)
من أخطر مساوئ المنجد:
نذكر فيما يلي أسوأ ما في هذا القاموس بصفة عامة، ثم نورد بعد ذلك أمثلة لما اشتمل عليه من أخطاء وتحريف وتزوير، وأهم هذه المساوئ ما يلي:
أولا: الحرص على إبراز الديانة النصرانية في كل موضع، وبمناسبة وبغير مناسبة، وتقديم المعلومات المفصلة عنها وعن طقوسها وأعيادها وكنائسها.
وأول شيء يعكس الروح النصرانية في هذا القاموس عدم وجود البسملة في أوله وحين نصل إلى مادة بسمل في صفحة 38 نجد صيغة البسملة عندهم وهي (بسم الأب والابن وروح القدس) تسبق صيغة البسملة في الشريعة الإسلامية (بسم الله الرحمن الرحيم) .
ثانيا: إهمال الحديث عن العقيدة الإسلامية أو إيراد معلومات محرفة أو مشوهة عنها.
ثالثا: تجاهل الحديث النبوي الشريف والسيرة النبوية العطرة، فلم يشر إليها ولا إلي كتبها، ولم يخصص لها أي مادة.(46/245)
رابعا: إهمال الكثير من الشخصيات الإسلامية المهمة، والتركيز على الشخصيات النصرانية والأوربية.
خامسا: لم يحدث أن شفع اسم النبي بالصلاة عليه، وكذلك عدم الترضي على الصحابة عند ذكر اسم واحد منهم.
سادسا: القرآن لم يوصف قط في هذا القاموس بـ " الكريم " أو " المجيد " في حين أن كتاب اليهود والنصارى يطلق عليه دائما الكتاب المقدس أو الأسفار المقدسة.
سابعا: عدم الرجوع إلى المصادر الإسلامية الأصيلة والاعتماد على المصادر النصرانية، ويظهر ذلك جليا في تعريفه للعبادات، وأسماء الأنبياء والرسل وغير ذلك.
ثامنا: التحريف في بعض الأسماء، والخطأ في التواريخ، وتشويه الحقائق بما يخدم العقيدة النصرانية.
تاسعا: تم وضع صور عديدة في القاموس، منها ما ذكر أنها للمسيح - عليه السلام - وأمه مريم، كما وضعت صورة في ص 512 لرجل وامرأة عاريان ويبكيان، زعم أنها لآدم وحواء وهما مطرودان من الفردوس.(46/246)
أمثلة مما جاء في المنجد:
1 - في مادة "قرأ" في القسم اللغوي (ص 616) نجد كلمة "القرآن " تذكر فقط على أنها مصدر، ولا يشار إلى القرآن(46/246)
الكريم من قريب ولا من بعيد.
2 - وكذلك في مادة "ذكر" (ص 236) إذ أورد كلمة "الذكر" على أنها مصدر، دون الإشارة إلى أنها أيضا علم على القرآن الكريم (الذكر الحكيم) .
3 - في مادة " كتب " (ص 671) لم يشر فيها إلى أن "الكتاب " هو أحد الأسماء التي تطلق على القرآن الكريم.
4 - في مادة "صحف " حين وصل إلى كلمة "مصحف " (ص 417) اكتفى بذكر معناها العام، ولم يوضح أنها أصبحت علما على الصحف المجموع فيها القرآن الكريم والتي يعبر عنها بالمصحف.
5 - اعتمد القاموس على الإنجيل الذي يصفونه بالكتاب المقدس مرجعا في كل ما ورد ذكره فيه - مع التزيد والتنقص حسب هوى المحرر- وإن كان يموه أحيانا بأن هذا الشخص أو ذاك قد ذكره القرآن، مما يوهم القارئ بأن وجهة النظر التي ساقها مرجعها القرآن.
ومن ذلك اتهامه حواء، بأنها هي التي أغوت آدم (ص 226 \ أعلام) ، كما ذكر أن آدم وحواء بعد أن طردا من جنة الفردوس وعدا بمخلص في التوراة وهو المسيح ص (31 \ أعلام) .
6 - لم يذكر القاموس "نوحا" - عليه السلام - باعتباره أول الرسل، حيث ذكر أنه من أقدم رجال التوراة (ص 579 \ أعلام) ، كما(46/247)
لم يذكر لوطا - عليه السلام - على أنه رسول، وإنما بصفته ابنا لأخي إبراهيم الخليل - عليهما السلام - (ص 497 \ أعلام) ، وكذلك سليمان - عليه السلام - لم يوصف بالنبوة وإنما وصفه بالحكيم (ص 307 \ أعلام) أما " لقمان " فالأمر معه على العكس؛ إذ يذكر أنه " نبي " ويعقب بأن القرآن قد خصه بسورة (ص 579 \ أعلام) .
7 - يتهم القاموس "داود" - عليه السلام - انسياقا مع ما جاء في العهد القديم عنه- بأنه قتل قائده أوريا ليتزوج من امرأته (ص 240، 568 \ أعلام) وهي فرية أثيمة كافرة.
8 - في مادة " هاروت وماروت" ذكر أنهما ساحران فتنا الناس فأخذهما الله بالنكال، مضيفا أنهما ذكرا في القرآن (ص 589 \ أعلام) وهذا فيه ما فيه من التضليل والتزوير والكذب والافتراء ومخالفة ما ورد في القرآن الكريم.
9 - عند الكلام عن " أصحاب الكهف " قال: أنهم ناموا نوما عميقا لم يستفيقوا منه إلا بعد مائتي سنة، مضيفا أنهم ذكروا في القرآن (ص 52 \ أعلام) مما يوهم القارئ بأن هذا الكلام عن أهل الكهف قد ورد في القرآن، والذي ورد في القرآن مخالف لذلك تماما.
10 - في مادة "شهد" أورد عدة معاني للشهادة، ولم يذكر الشهادتين وهما الركن الأول في الإسلام، وفي الوقت نفسه كان حريصا على ذكر "قبة الشهادة" عند اليهود(46/248)
(ص 604 مادة قب) .
11 - عند تعريفه لعدة المرأة في (ص 490) ذكر أنها "أيام حزنها على الزوج " وهذه العبارة لا تؤدي إلى المعنى الفقهي السليم للعدة.
12 - في الوقت الذي اهتم فيه بذكر الأعياد النصرانية واليهودية، وتحديد مواعيدها ومظاهر الاحتفال بها، فإنه بالنسبة للعيدين الإسلاميين قال عن عيد الفطر (ص 588 مادة فطر) إنه "عيد المسلمين" بعد رمضان، أما عيد الأضحى فقد اكتفى بالقول عنه في (ص 447) إنه: يوم النحر.
13 - حرص محررو القاموس على فرض الذوق النصراني على القارئ، هذا الذوق الذي اشتركت في تشكيله عوامل شتى على رأسها شريعتهم المنسوخة. ومثال ذلك ما جاء في صفحة 197 عند الكلام عن " خنزير البر" حيث قال: " إنه حيوان شبيه بالخنزير، لكنه يتميز عنه على الأخص بعدد أنيابه وشكلها، ولحمه لذيذ الطعم ".
14 - ومثال ذلك أيضا ما جاء في ص 918 في شرح كلمة "الناطل " حيث قال: " إنه كوز يكال به الخمر واللبن ونحوهما". كما يقول في ص 61 في شرح معنى "الترياقة" إنها " الخمر سميت كذلك؛ لأنها تدفع الهموم ".
15 - وجريا على هذا النهج نراه لا يجد مثالا يشرح به معنى " الصرر" في (ص 422) إلا قوله " سقاه خمرا صررا" أي:(46/249)
صرفا، كما لم يجد ما يمثل به للفعل "اتحد" في (ص4) إلا قوله " اتحد الماء بالخمر ". وهكذا.
16 - في ص 236 عند ذكر " خيبر " يقول: " غزاها النبي، وضرب الأتاوة على سكانها اليهود " وبهذا البيان تحريف وتشويه للحقائق التاريخية الثابتة.
ونكتفي بهذا القدر من الأمثلة، ونحذر من أخطاء هذا القاموس وأخطاره، ونرجو عدم تزويد المكتبات العامة والمدرسية والجامعية ومكتبات المساجد به، بل يتعين منع تداوله في الأسواق لما فيه من دس وتشويه وتعمد للخطأ ونشر للنصرانية.
والله من وراء القصد. . إنه نعم المولى ونعم النصير.(46/250)
مصادر العقيدة الإسلامية ودور العقل
إعداد الشيخ: عثمان بن جمعة ضميرية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
تمهيد:
يتعرف الإنسان على الموجودات من حوله، ويحكم عليها، ويعلمها علما يقينيا أو ظنيا (1) ، بطرق وأسباب، قد تكون من داخل نفس الإنسان، وقد تكون من خارجها، فإذا كانت من خارج النفس: فهي الخبر الصادق بدلالته على ما يخبر عنه، وإن كانت من داخل النفس فهي الحواس الظاهرة والباطنة، والنظر العقلي المتدبر بحدوده وضوابطه.
وكذلك فطر الله تعالى الإنسان على معرفة أمور كثيرة يحتاج إليها في حياته، ومن أعظم هذه الأمور: المعرفة الفطرية المغروزة في نفسه عن الله تعالى ووحدانيته وقدرته، كما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وإذا كانت الحواس هي وسيلتنا للتعرف على عالم الشهادة
__________
(1) انظر عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي ص (21 - 41) تأليف عثمان جمعة ضميرية.(46/251)
أو الطبيعة (الآفاق والأنفس) ، وكذلك العقل وسيلة ثانية، فإن كلا منهما لا يستطيع أن يعمل في مجال عالم الغيب - والإيمان به من أركان العقيدة الإسلامية - ولذلك فإن المصدر الذي نستقي منه العقيدة، ينبغي أن يكون مصدرا صحيحا ثابتا موثوقا، لا يخطئ ولا ينحرف. وإذا كان العقل البشري محدودا وقاصرا، فإن الفطرة - وهي طريق صحيح ومصدر معتبر في ذلك - قد يطرأ عليها ما يغشيها ويحرفها عن صوابها، فتحتاج إلى ما يجلوها ويصحح مسارها ويمنعها من الانحراف، وذلكم هو الوحي (القرآن والسنة) الذي تكفل الله تعالى بإنزاله هداية للناس ورحمة بهم (1) .
وفي هذا البحث نعرض لمصادر العقيدة الإسلامية وهي: الكتاب والسنة، مع بيان منزلة العقل ودوره، وأنه مؤيد لا يستقل بمعرفة أصول العقيدة على وجه التفصيل.
__________
(1) انظر عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي ص (21 - 41) تأليف عثمان جمعة ضميرية.(46/252)
أولا: القرآن الكريم:
القرآن الكريم هو كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور البصائر والأبصار، فلا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسك بشيء يخالفه. وهذا كله معلوم من الدين علما ضروريا، لا يحتاج إلى استدلال عليه (1)
__________
(1) الموافقات، للشاطبي: 3 \ 347.(46/252)
وقد أوفى القرآن الكريم على الغاية في بيان العقيدة وتصحيحها في النفوس، على أتم وجه وأكمله، وبخاصة في السور المكية، إجمالا وتفصيلا. وكان أول ما أنزل وحيا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هو سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (2) وهي تتضمن أصول الدين والعقيدة من الأدلة العقلية والفطرية والشرعية على وجود الله تعالى وتوحيده، وصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإثبات البعث.
وفي سائر سور القرآن الكريم، نجد السورة الواحدة تجمع أركان العقيدة بأصول عامة تبين أركان الإيمان - وأعظمها الإيمان بالله تعالى- وما يتفرع عن هذه الأركان وينضم إليها، أو يكون من مقتضياتها ومستلزماتها، وتضع - كذلك - الإجابة الصحيحة الحاسمة على الأسئلة التي تفسر للإنسان أصل وجوده ونشأته، وغايته التي يسعى إليها، والمصير الذي ينتهي إليه بعد رحلته في هذه الحياة، وتحدد علاقته بالله تعالى وبالكون وبالحياة والأحياء من حوله.
يقول الإمام الشاطبي، - رحمه الله -:
(وغالب السور المكية تقرر ثلاثة معان، أصلها معنى واحد، وهو الدعاء إلى عبادة الله وتوحيده:
أحدها: تقرير الوحدانية لله الواحد الحق. غير أنه يأتي على وجوه، كنفي الشريك بإطلاق، أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في
__________
(1) سورة العلق الآية 1
(2) سورة العلق الآية 2(46/253)
وقائع مختلفة، من كونه مقربا إلى الله زلفى، أو كونه ولدا، أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة.
والثاني: تقرير النبوة للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه رسول الله إليهم جميعا، صادق فيما جاء به من عند الله. وهذا المعنى وارد على وجوه أيضا كإثبات كونه رسولا حقا، ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب، أو ساحر، أو مجنون، أو يعلمه بشر، أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم.
والثالث: إثبات أمر البعث والدار الآخرة، وأنه حق لا ريب فيه، بالأدلة الواضحة، والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به، فرد بكل وجه يلزم الحجة، ويبكت الخصم ويوضح الأمر.
فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة في عامة الأمر، وما ظهر- ببادئ الرأي- خروجه عنها فراجع إليها في محصول الأمر.
ويتبع ذلك: الترغيب والترهيب، والأمثال والقصص، وذكر الجنة والنار، ووصف يوم القيامة، وأشباه ذلك) (1) .
وإذا كانت العقيدة هي الموضوع الأساسي الرئيس في السور المكية، فإنها كذلك موضوع رئيس في السور المدنية التي نزلت لتعالج قضايا تشريعية تعرض من خلال هذه العقيدة ومقتضى الإيمان بالله تعالى، كما ألمحنا إليه فيما سبق.
__________
(1) انظر: الموافقات، للشاطبي: 3 \ 416.(46/254)
ومن هنا، فإن الحديث عن العقيدة (لم ينقطع في المدينة، لأنه ليس حديثا يذكر في مبدأ الطريق ثم ينتقل منه إلى موضوع آخر، إنما يذكر في مبدأ الطريق ثم ينتقل معه إلى كل موضوع آخر) .(46/255)
ثانيا: السنة النبوية:
وإذا كان القرآن الكريم هو مصدر الدين، عقيدة وشريعة، فإن السنة النبوية مثل القرآن في ذلك؛ لأنها وحي من الله تعالى، فقد وصف الله سبحانه ما يصدر عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأنه وحي، فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (1) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) .
وعن حسان بن عطية، قال: «كان جبريل - عليه السلام - ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسنة فيعلمه إياها كما يعلمه القرآن (3) » .
وأخرج البيهقي في (المدخل) عن طاوس: أن عنده كتابا من العقول (الديات) ، وما فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صدقة وعقول فإنما نزل به الوحي)
__________
(1) سورة النجم الآية 3
(2) سورة النجم الآية 4
(3) أخرجه الدارمي: 1 \ 145، واللالكائي في أصول الاعتقاد: 1 \ 84، وابن بطة في الإبانة: 1 \ 255، وابن عبد البر في جامع بيان العلم ص (563) ، والخطيب في الفقيه والمتفقه: 1 \ 99، وقال الحافظ ابن حجر في ''الفتح'': 13 \ 291: ''أخرجه البيهقي بسند صحيح''.(46/255)
فجعل ما فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما نزل به الوحي، مع أنه لم ينزل بلفظه في القرآن الكريم الذي هو وحي متلو.
وذلك أن الوحي نوعان:
أحدها: وحي متلو، وهو القرآن المنزل على محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظه ومعناه، وهو المتعبد بتلاوته.
والثاني: وحي غير متلو، وهو المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - المبين عن الله - عز وجل- (1) .
فقد قلد الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمانة التبليغ والبيان فقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) ، وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) .
ومما يدل على أن السنة بمثابة القرآن في هذا: أن الله تعالى امتن على المؤمنين ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ليعلم الناس الكتاب والحكمة فقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (4) .
__________
(1) انظر: الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم: 1 \ 87-93، حجية السنة ص (334-341) .
(2) سورة النحل الآية 44
(3) سورة النحل الآية 64
(4) سورة آل عمران الآية 164(46/256)
وقال تعالى مخاطبا أمهات المؤمنين: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (1) .
فقال غير واحد من السلف: الحكمة هي السنة؛ لأن الذي كان يتلى في بيوت أزواج النبي، - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهن، سوى القرآن هو السنة، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه (2) »
وقال الإمام الشافعي - رحمه الله- بعد أن ساق الآيات الكريمة التي يأمر الله تعالى فيها باتباع الكتاب والحكمة، ويمتن بهما علينا، قال: (ذكر الله تعالى الكتاب، وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله. وهذا يشبه ما قال، والله أعلم، لأن القرآن ذكر وأتبعته الحكمة، فلم يجز- والله أعلم- أن يقال: الحكمة هاهنا إلا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأن الله افترض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقولي: فرض، إلا لكتاب الله ثم سنة رسوله، لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقرونا بالإيمان به، وسنة رسوله مبينة عن الله معنى ما أراد (3) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 34
(2) أخرجه أبو داود: 7 \ 7، 8، والترمذي: 7 \ 426، وابن ماجه: 1 \ 6، والإمام أحمد في المسند: 14 \ 131، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه: 1 \ 89. وصححه الألباني في المشكاة برقم (163) .
(3) الرسالة، للإمام الشافعي ص (78، 79) ، وانظر: أحكام القرآن للشافعي، جمعه البيهقي: 1 \ 28 - 39.(46/257)
وقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصول الدين والعقيدة أحسن بيان،
ودل الناس وهداهم إلى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية التي بها يعلمون المطالب الإلهية، وبها يعلمون إثبات ربوبية الله، ووحدانيته وصفاته، وغير ذلك مما يحتاج إلى معرفته بالأدلة العقلية. بل وما يمكن بيانه بالأدلة العقلية- وإن كان لا يحتاج إليها، فإن كثيرا من الأمور يعرف بالخبر الصادق- ومع هذا فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين الأدلة العقلية الدالة عليها، فجمع بين الطريقين: السمعي (الشرعي) و (العقلي) .
وبذلك يتبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نص على كل ما يعصم الأمة من المهالك نصا قاطعا للعذر، ولا يمكن أن يبين للناس أمور حياتهم وما يحتاجونه في الشريعة ثم يترك الجانب الرئيسي وهو العقيدة.
قال أبو ذر - رضي الله عنه -: «لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما (1) »
وقيل لسلمان الفارسي - رضي الله عنه -: «قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شي حتى الخراءة؟ فقال: أجل. . . (2) » .
وقال - صلى الله عليه وسلم - «تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ
__________
(1) مسند الإماء أحمد: 5 \ 153، بتحقيق الشيخ أحمد شاكر.
(2) صحيح مسلم، كتاب الطهارة: 1 \ 223.(46/258)
عنها بعدي إلا هالك (1) »
في أحاديث كثيرة وآثار- غير هذه - تبين أن مسائل العقيدة من أول ما يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته. وفي سنته ما يقطع الحجة، ويوضح المحجة، ويوفي على الغاية، هداية وشفاء للصدور، وبيانا للحق.
هذا، وقد سبقت الإشارة إلى أن السنة هي الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويندرج فيها الأحاديث الحسنة التي لم تبلغ رتبة الصحيح، ولذلك ينبغي التوثق والتثبت من صحة الحديث وقبوله عند الاستشهاد به والاحتجاج وبخاصة في قضايا الاعتقاد، فإن العقيدة لا تبنى على الأحاديث الضعيفة.
وقد يكون هذا الحديث الصحيح متواترا قطعي الثبوت، وقد يكون حديثا مشهورا مستفيضا يأخذ حكم المتواتر، وقد يكون حديث آحاد. وكلها في أصل الاحتجاج بها سواء عند صحتها، ينبغي الخضوع لها وقبولها على الرأس والعين، دون تمحل ولا تكلف، ودون التماس الأعذار لردها وعدم العمل بها، فإن (جميع ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشرع والبيان كله حق) (2) ، وإنما ينبغي- بعد ذلك - النظر في المنهج الصحيح للفهم والاستدلال وإعمال قواعد الاستنباط وضوابط
__________
(1) أخرجه ابن ماجه: 1 \ 4، وابن عاصم في السنة: 1 \ 26 وصححه الألباني.
(2) شرح العقيدة الطحاوية ص (354- 357) .(46/259)
الترجيح عند التعارض مثلا.
وأما الأحاديث الضعيفة والموضوعة المكذوبة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز الاحتجاج بها، بل ولا تجوز روايتها أصلا إلا لبيان حالها، وإنما ينبغي الإعراض عنها، لأن العقيدة لا تثبت بالأحاديث الضعيفة فضلا عن الموضوعة. وإن من أعظم أسباب الضلال والانحراف عن السنة والعقيدة الصحيحة: الاحتجاج بالأحاديث والأخبار الضعيفة والمكذوبة وبناء الاعتقاد عليها، وبخاصة فيما يتعلق بمباحث الألوهية والصفات ونحوها (1)
__________
(1) انظر: الوصية الكبرى لابن تيمية ص (70- 83) .(46/260)
الأدلة على صحة هذا المنهج:
وقد قامت الأدلة الشرعية (من الكتاب والسنة) ، والأدلة العقلية، على صحة هذا المنهج، وعليه أجمع الصحابة وسلف الأمة، كما أيدته التجربة والواقع:
فأولا: نطق بذلك القرآن الكريم، في آيات كثيرة تدل على ذلك:
1 - فقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) .
فإذا أكمل الله تعالى الدين وأتم به النعمة، فإن هذا يقتضي أن لا يترك جانبا من جوانب العقيدة، أو مسألة من
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(46/260)
مسائلها، دون أن يأتي عليها بالبيان. ولذلك كان القرآن كتاب هداية لأقوم طريق في العقيدة، لأنه يهدي إلى صراط مستقيم وإلى سبل السلام: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) ، {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (2) {وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا} (3) {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} (4) ، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (5) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (6) .
2 - وقد وصف الله تعالى الكتاب بأنه تبيان لكل شيء فقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (7) ، {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (8) .
وإذا كانت العقيدة من أهم ما ينبغي بيانه ومعرفته، فلا بد من أن تكون آيات الله تعالى مبينة لهذا أوضح بيان، إذ لا يقبل العقل أن تبين لنا هذه الآيات أحكام الفروع ثم تترك هذه الأصول الاعتقادية التي هي أساس لتلك الفروع.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة النساء الآية 66
(3) سورة النساء الآية 67
(4) سورة النساء الآية 68
(5) سورة المائدة الآية 15
(6) سورة المائدة الآية 16
(7) سورة النحل الآية 89
(8) سورة يوسف الآية 111(46/261)
3 - وقد جاءت الآيات الكريمات تبين أن الله تعالى يبين للناس ما يكون سببا لعصمتهم عن الضلال، وذلك يكون باتباع القرآن والسنة ومجانبة الظن وأهواء النفوس: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (1) {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2) ، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} (3) ، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (4) ، في آيات كثيرة من كتاب الله تنطق بالحق، وتقيم الحجة والبرهان على أن القرآن الكريم هو كتاب العقيدة والإيمان. فليس وراءه مصدر إلا ما كان يخرج من مشكاته، وهو الحكمة أو سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
4 - ولذلك أوجب الله تعالى على المسلمين اتباع الرسول فيما يأمر وينهى، وقرن طاعة الرسول بطاعته - سبحانه - في آيات كثيرة من القرآن فقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (5) .
وحث على الاستجابة لما يدعو إليه من الحياة
__________
(1) سورة طه الآية 123
(2) سورة طه الآية 124
(3) سورة التوبة الآية 115
(4) سورة القصص الآية 50
(5) سورة آل عمران الآية 132(46/262)
الكريمة التي تتمثل في الاعتقاد الصحيح وفي التمسك بالدين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (1) .
وجعل طاعة الرسول طاعة لله تعالى، وعلامة على محبته: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2) .
كما جعل مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - سببا للفتنة تصيب الإنسان، أو سببا لعذاب أليم: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) .
ويؤيد هذا أن رجلا قال لمالك بن أنس - رحمه الله -: من أين أحرم؟ قال: من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأعاد عليه مرارا قال: فإن زدت على ذلك؟ قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة! قال: وما في هذه من الفتنة، إنما هي أميال أزيدها؟ قال: فإن الله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) قال: وأي فتنة في هذا؟ قال مالك: وأي فتنة أعظم من أن ترى أن اختيارك لنفسك خير من اختيار الله ورسوله؟ (5) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 24
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة النور الآية 63
(4) سورة النور الآية 63
(5) انظر: الباعث على إنكار البدع والحوادث، لابن أبي شامة ص (21، 22) ، الإبانة لابن بطة: 1 \ 261.(46/263)
بل إن هذه المخالفة لأمر الرسول والتولي عن طاعته إنما هي من الكفر الذي ينبغي أن يحذره المسلم على نفسه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (1) .
ثانيا: تواردت أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - تقيم الأدلة على صحة هذا المنهج في العودة للقرآن والتمسك بما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم -، فقال - عليه الصلاة والسلام -، فيما رواه علي - رضي الله عنه -، قال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ألا إنها ستكون فتنة فقلت: وما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله؛ فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، لا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن - إذ سمعته - حتى قالوا: من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم (4) » .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 32
(2) أخرجه الترمذي: 8 \ 218 - 221، والدارمي: 2 \ 435، والإمام أحمد: 2 \ 88 (تحقيق الشيخ شاكر) ، والبغوي في التفسير: 1 \ 39 وفي شرح السنة: 4 \ 438، وعزاه الهيثمي في المجمع (7 \ 165) للطبراني مختصرا. وفيه عمرو بن واقد، وهو متروك. وقال الترمذي: '' حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات وإسناده مجهول '' وقال ابن كثير في ''فضائل القرآن '' الملحق بالتفسير (4 \ 582) : ''. . وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه -، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح - على أنه قد روي له شاهد ''. وقال ابن الوزير في '' ترجيح أساليب القرآن '' ص (15) : '' وقد رواه السيد الإمام أبو طالب في '' أماليه '' بسند آخر من حديث معاذ بنحوه. . ولما يزل العلماء يتداولونه، فهو مع شهرته في شرط أهل الحديث متلقى بالقبول عند علماء الأصول، فصار صحيح المعنى في مقتضى الإجماع والمنقول والمعقول
(3) سورة الجن الآية 1 (2) {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}
(4) سورة الجن الآية 2 (3) {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}(46/282)
ولذلك قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (تضمن الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ثم قرأ: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (1) (2) .
وتواترت الأحاديث النبوية توجب العمل بالسنة والتمسك بها، وتبين أنها سبب النجاة، بما يدل دلالة قاطعة على أن المنهج الصحيح في استلهام العقيدة - مع سائر الأحكام - إنما يكون بالعودة إلى الصادق المصدوق، المبلغ عن ربه تبارك وتعالى.
وما ورد من هذه الأحاديث أنواع كثيرة يمكن إدخالها تحت أنواع ثلاثة:
النوع الأول: إخباره - صلى الله عليه وسلم - وهو المعصوم من الكذب - بأنه قد أوحي إليه القرآن وغيره، وأن ما بينه وشرعه
__________
(1) سورة طه الآية 123
(2) تفسير الطبري: 16 \ 225 (طبع الحلبي) .(46/265)
من الأحكام، إنما هو بتشريع الله تعالى ومن عنده، وليس من عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يمكن فهم الأحكام من القرآن وحده، بل لا بد من الاستعانة بالسنة، وأن العمل بها عمل بالقرآن نفسه، وأن الأمة قد أمرها الله تعالى بالأخذ بقوله - صلى الله عليه وسلم - وطاعته واتباع سنته، وأن من أطاعه فقد أطاع الله، ومن عصاه فقد عصى الله، وأن الإيمان لا يتم إلا باتباع جميع ما جاء به.
وهذا النوع من الأحاديث يعز على الحصر، وقد تقدمت الإشارة إلى بعضها في مناسبات سابقة، كحديث: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه (1) »
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. . (2) » .
والنوع الثاني: أمره - صلى الله عليه وسلم - بالتمسك بالسنة، وهو لا يأمر إلا بما أوجبه الله تعالى، ولا ينهى إلا عما حظره الله، كما في حديث العرباض بن سارية، وفيه: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة،. . . فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات
__________
(1) روي من طرق، فرواه أبو داود: 7 \ 7، 8، والترمذي 7 \ 426، والإمام أحمد: 4 \ 131، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه: 1 \ 89. وانظر: تفسير ابن كثير: 1 \ 9، بتخريج مقبل بن هادي.
(2) أخرجه البخاري: 6 \ 11، ومسلم: 3 \ 1466.(46/266)
الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (1) » إلخ.
والنوع الثالث: أمره - صلى الله عليه وسلم - باستماع حديثه وحفظه وتبليغه إلى من لم يسمعه، وذلك يستلزم حجية قوله - صلى الله عليه وسلم -، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2) »
ثالثا: وعلى هذا المنهج سار الصحابة - رضوان الله عليهم -، فكانوا يتلقون من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أوحاه الله تعالى إليه: قرآنا ناطقا وسنة حادثة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيتعرفون- بذلك- على وحدانية الله تعالى، وعلى صفاته، وعلى نبوته - عليه الصلاة والسلام -، وعلى المبدأ والمعاد، وكل ما يتصل بأمور العقيدة بخاصة والدين كله بعامة.
فلم يكن عندهم ما يستدلون به على ذلك سوى كتاب الله تعالى، يتلقونه بالتسليم، فيفهمون معناه، ويلتزمون بما فيه، لا يتنازعون في شيء من ذلك، ولا يتعمقون في البحث الذي لا طائل تحته، وكانوا يرون الجدل في أمور العقيدة مؤديا إلى الانسلاخ من الدين. فلذلك أجمعت كلمتهم على أن القرآن فيه
__________
(1) أخرجه أبو داود: 7 \ 11، 12، والترمذي: 7 \ 438- 441 وقال: '' هذا حديث حسن صحيح ''، وابن ماجه: 1 \ 16، والدارمي: 1 \ 44، 45، وصححه ابن حبان ص (56) ، والحاكم: 1 \ 95 ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه البخاري: 6 \ 496.(46/267)
كل الغناء وفيه علم الأولين والآخرين، وأن من جمع القرآن فقد حمل أمرا عظيما وقد أدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه - كما قال ابن عمر رضي الله عنهما - وما ذاك إلا لأنه جامع لمعاني النبوة.
رابعا: وعلى هذا أيضا أجمعت كلمة علماء الإسلام- بعد عصر الصحابة - من جميع الطوائف، فإن القرآن عندهم يفيد معرفة أدلة التوحيد من غير ظن ولا تقليد، ومنه تعلم المتكلمون (علماء الكلام) النظر والأدلة، ولكنهم غالوا في النظر، ولم يقتصروا على القدر النافع المذكور في كتاب الله تعالى.
وجميع ما هو صحيح من الأدلة عند المتكلمين يمكن رده إلى القرآن الكريم. بل هو في القرآن الكريم، فجميع أدلتهم- مثلا- في وحدانية الله تعالى لا تخرج عن قوله سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1) .
وهكذا في سائر أبواب الاعتقاد ومسائله. وقد ألمحنا إلى شيء من هذا عند الحديث عن منهج الصحابة في التلقي.
ولئن كانت أدلة المتكلمين والفلاسفة مقصورة الفائدة على طائفة من الناس الذين يتأثرون بالدليل العقلي المجرد الذي قد لا يدل دلالة قطعية على مدلوله إلا بتأمل كبير وتعمق وتكلف؛ فإن أدلة
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 22(46/268)
الكتاب والسنة أدلة قاطعة جلية، تسبق إلى الأفهام ببادي الرأي وأول النظر، ويشترك كافة الخلق في إدراكها وفهمها. وهي بذلك مثل الغذاء ينتفع به كل إنسان، بل كالماء الذي ينتفع به الصبي، والرضيع، والرجل القوي. ولهذا كانت أدلة القرآن سائغة جلية.
ألا ترى أن من قدر على ابتداء الخلق فهو على الإعادة أقدر؟ {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (1) وأن التدبير لا ينتظم في دار واحدة بمدبرين، فكيف ينتظم جميع العالم؟ وأن من خلق علم ما خلق؟ ، كما قال سبحانه: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (2) .
فهذه أدلة تجري مجرى الماء الذي جعل الله منه كل شيء حي، ينتفع به الجميع بيسر وسهولة، فتؤدي إلى معرفة وقناعة، ثم إلى التزام وطاعة (3) .
خامسا: فإذا تجاوزنا الدليل الشرعي والإجماع، وجدنا التجربة والواقع العلمي شاهدين عدلين على صحة المنهج الذي سلف، في العودة إلى القرآن والسنة لنستمد منهما أصول العقيدة، إذ لا أحد من العلماء لجأ إلى القرآن الكريم في مسألة إلا وجد لها فيه أصلا (4) ولذلك كان فيه الكفاية والغناء.
يقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله -: (إننا نعتقد - بالدراسة
__________
(1) سورة الروم الآية 27
(2) سورة الملك الآية 14
(3) ترجيح أساليب القرآن، لابن الوزير، ص (15، 16، 22) .
(4) الموافقات، للشاطبي: 3 \ 371.(46/269)
الطويلة - أن هذا القرآن فيه غناء كامل في بيان الحقائق التي يقوم عليها التصور الإسلامي، فلا يحتاج إلى إضافة من خارجه في هذا البيان "باعتبار أن السنة إنما هي تفصيل وبيان لما في القرآن " ونحب أن يتعود القارئ أن يلجأ إلى القرآن ليجد فيه تبيانا لكل شيء، ومن ثم فإن النصوص القرآنية هنا "في بحث موضوعات العقيدة الإسلامية" هي الموضوع ذاته، وليست عنصرا مساعدا كما اعتاد الناس أن يجدوها في كثير من البحوث الإسلامية. . .) (1) .
ولا أدل على صحة هذا القول من واقع أولئك الذين حاولوا أن يتلمسوا الأدلة العقلية على صحة الاعتقاد، فأطلقوا العنان لعقولهم في البحث والتفكير، بمعزل عن الوحي، متأثرين في ذلك بمنطق اليونان وفلسفتهم، ولكنهم عادوا بالخيبة والخسران، بعد أن بددوا جهدهم، وأضاعوا في البحث عمرهم، ثم وقفوا حائرين، لا يجدون دلالة إلا في كتاب الله الكريم، وفي سنة نبيه العظيم - صلى الله عليه وسلم -.
فهذا إمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ) وهو الأصولي الجدلي النظار، يقول: " قرأت خمسين ألفا، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها، وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق. وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد. والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق. عليكم بدين العجائز، فإن لم
__________
(1) مقومات التصور الإسلامي، ص (86) بتصرف يسير.(46/270)
يدركني الحق بلطف بره- فأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق وكلمة الإخلاص: لا إله إلا الله- فالويل لابن الجويني ".
وأما حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي (ت 505 هـ) الذي ابتدأ البحث في علم الكلام فحصله، وطالع كتب المحققين من علمائه، وصنف فيه ما أراد أن يصنف، فينتهي إلى أن يقول عن هذا العلم: (وهذا العلم قليل النفع في حق من لا يسلم سوى الضروريات شيئا أصلا، فلم يكن الكلام في حقي كافيا، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيا. . .) (1) .
وكانت خاتمة أمره إقباله على طلب الحديث ومجالسة أهله ومطالعة " الصحيحين " (2) وبذلك عرف الحق وفاء إليه، فكان عاقبة أمره حسنا!
وأما الفيلسوف القاضي، أبو الوليد محمد بن رشد الحفيد
__________
(1) المنقذ من الضلال للغزالي، ص (81) نقلا عن الحقيقة في نظر الغزالي، د. سليمان دنيا ص (34) .
(2) سير أعلام النبلاء: 19 \ 325- 326.(46/271)
(ت 520 هـ) ، وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم، فيقول في كتابه " تهافت التهافت) (1) :
(لم يقل أحد من الناس في العلوم الإلهية قولا يعتد به، وليس يعصم أحد من الخطأ إلا من عصمه الله تعالى بأمر إلهي خارج عن طبيعة الإنسان، وهم الأنبياء) .
وأما إمام المتكلمين، فخر الدين الرازي، الشهير بابن خطيب الري (604 هـ) فيقول في وصيته التي أوصى بها تلميذه إبراهيم بن أبي بكر الأصبهاني: (. . . ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية. فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذلك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العمقية، والمناهج الخفية. . .) .
ثم يعلن عزوفه عن علم الكلام، الذي كتب فيه ما كتب، فيقول: (وأقول: ديني متابعة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما) (2) .
__________
(1) تهافت التهافت: 2 \ 547، تحقيق د. سليمان دنيا.
(2) طبقات الشافعية الكبرى: 8 \ 90- 91، وانظر: سير أعلام النبلاء: 21 \ 501.(46/272)
وقال في كتابه " أقسام اللذات ":
نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالوا
فكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال , فزالوا , والجبال جبال
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق: طريقة القرآن: اقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (2) واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) ، {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (4)
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة فاطر الآية 10
(3) سورة الشورى الآية 11
(4) سورة طه الآية 110(46/273)
ثم قال: (ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي) .
وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله، محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم (1)
وهذا العلامة ابن أبي الحديد المعتزلي - مع توغله في علم الكلام - يقول:
تاه الأنام بأسرهم ... فاليوم صاحي القوم عربد
والله ما موسى ولا ... عيسى المسيح ولا محمد
عرفوا , ولا جبريل وهو ... إلى محمل القدس يصعد
__________
(1) شرح الطحاوية، ص (209) ، إيثار الحق على الخلق، لابن الوزير، ص (140) .(46/274)
من كنه ذاتك غير أنك ... واحد في الذات سرمد
عرفوا إضافات ونفيا ... والحقيقة ليس توجد
فليخسأ الحكماء عن ... حرم له الأملاك سجد
من أنت يا رسطو ومن ... أفلاط مثلك يا مبلد؟
ومن ابن سينا حيث قرر ... ما هذيت به وشيد؟
هل أنتم إلا الفراش ... رأى السراج وقد توقد
فدنا فأحرق نفسه ... ولو اهتدى رشدا لأبعد
ويقول أيضا:
فيك يا أغلوطة الفكر ... تاه عقلي وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما ... ربحت إلا عنا السفر(46/275)
رجعت حسرى وما وقفت ... لا على عين ولا أثر
فلحى الله الألى زعموا ... أنك المعلوم بالنظر
كذبوا , إن الذي زعموا ... خارج عن قوة البشر (1)
ولهذا وجدنا العلامة محمد بن إبراهيم الوزير، - رحمه الله -، يضع كتابا قائما برأسه على منهج القرآن في بيان العقيدة، ويوازن ذلك بمناهج المنطق اليوناني بما فيه من جفاف وتعقيد وتخليط، وسماه " ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان "، ومن قبل ذلك وضع شيخ الإسلام ابن تيمية كتابا كاملا ينقض فيه منطق اليونان بعنوان " نقض المنطق ".
__________
(1) إيثار الحق على الخلق ص (139) .(46/276)
آثار هذا المنهج وفوائده:
وهذا المنهج في تلقي العقيدة واستلهامها من القرآن والسنة، مع أنه مقتضى الإيمان بالله، وبكتابه المنزل وبنبيه المرسل- الذي يبلغ عن ربه تبارك وتعالى- فإننا كذلك نجني منه فوائد كثيرة، أهمها اثنتان:
1 - أن هذا المنهج هو الذي يعصم عن الوقوع في الخطأ والانحراف والزلل، وعن الاضطراب في فهم العقيدة،(46/276)
ويحفظ على الإنسان جهده، ويمنع عقله من التبدد والضياع، ونفسه من الهوى، لأنه يعود بالأمر كله إلى العليم الحكيم- سبحانه وتعالى- الذي تكفل بالهداية لهذا الإنسان.
يقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - وهو يتحدث عن خصيصة " الربانية " في التصور الإسلامي: (. . وهذا التوكيد على مصدر هذا التصور، هو الذي يعطيه قيمته الأساسية، وقيمته الكبرى. . فهو مناط الثقة في أنه المبرأ من النقص، المبرأ من الجهل، المبرأ من الهوى. . هذه الخصائص المصاحبة لكل عمل بشري، والتي نراها مجسمة في جميع التصورات التي صاغها البشر ابتداء من وثنيات وفلسفات، أو التي تدخل فيها البشر من العقائد السماوية السابقة!
وهو كذلك مناط الضمان في أنه التصور الموافق للفطرة الإنسانية، الملبي لكل جوانبها، المحقق لكل حاجاتها. ومن ثم فهو التصور الذي يمكن أن ينبثق منه ويقوم عليه أقوم منهج للحياة وأشمله) (1) .
2 - وهو المنهج الذي يجمع الأمة كلها، ويوحدها على كلمة واحدة وتصور واحد، يعصمها من التفرق والشتات، بما ينشئ فيها من تصورات ثابتة، وبما يضع لها من موازين
__________
(1) خصائص التصور الإسلامي ص (53، 54) .(46/277)
وقيم لا تتأثر بزمان معين ومكان محدد، وإنما هي الموازين والقيم الثابتة التي تتلقاها من الوحي، وتتكيف بها وتصبغ حياتها بمقتضاها، فلا تتوزعها الأهواء ولا الأفكار البشرية الضالة، التي تتقلب فيها، لا تستقر على قرار، لأنها لا تستقر على منهج واحد.
وعندئذ تكون هذه الأمة- حقا- أمة واحدة كما أراد الله تعالى لها: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (1) ، {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (2) .
فهي الأمة الواحدة: عقيدة وفكرا ومنهجا وسلوكا. وعندئذ تتحقق لها الريادة والشهادة على الأمم الأخرى، بما تملك من الحق والهدى الذي تتلقاه من الوحي الذي أنزله الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 52
(2) سورة الأنبياء الآية 92(46/278)
دور العقل ومكانته:
وبعد أن تعرفنا على المصدر الرئيس للعقيدة الإسلامية (وهو الوحي) ، نلمع إلماعات سريعة إلى دور العقل ومكانته ومجاله في الإسلام، وأنه مؤيد لا يستقل بمعرفة أصول العقيدة(46/278)
على وجه التفصيل.
والعقل في اللغة العربية: يطلق على القيد الذي يقيد به البعير، لئلا يند، وسميت الملكة التي يتميز بها الإنسان " عقلا " تشبيها لها بالقيد، على عادة العرب في استعارة أسماء المحسات للأمور المعنوية (1) .
وتستخدم كلمة " عقل " ومشتقاتها في اللغة بمعان متعددة أصلها واحد، وهو حبسة في الشيء أو ما يقارب الحبسة، أو الإمساك والاستمساك.
ونستطيع أن نخرج من الاستعمال اللغوي لكلمة " العقل " بملاحظات ونتائج نوجز أهمها فيما يلي:
1 - إن العقل ملكة معنوية، وليست شيئا حسيا، وبها يتميز الإنسان عن سائر المخلوقات.
2 - هذه الملكة تمنع صاحبها عما لا يليق، وتزجره عنه، فكأنها تقوم بعملية إيجابية وأخرى سلبية، وكلتاهما تطلقان أحكاما قيمية على الفعل.
3 - هذه الملكة كاشفة لصاحبها عما ينبغي أن يفعله، وعندئذ كأنه يتحصن بها.
__________
(1) الذريعة إلى مكارم الشريعة، للراغب الأصفهاني، ص (59) ، وانظر: لسان العرب: 11 \ 459.(46/279)
4 - وفيها جماع الأمر والرأي، وتدعو للتثبت في الأمور.
5 - العقول متفاوتة بحسب فطرة الله التي فطر الناس عليها، باتفاق العقلاء.(46/280)
إطلاقات كلمة العقل:
وقد عني علماء الشريعة عند حديثهم عن التكليف، ومقاصد الشريعة ومكارمها وآدابها، بالحديث عن العقل وأنواعه، ومنازله، وتنوع أسمائه بحسب ذلك. . . إلخ.
فهو يطلق على أمرين:
1 - القوة الفطرية التي أودعها الله تعالى في الإنسان، وخلقه عليها، متهيئا بسببها لقبول العلم. فهي عقل غريزي طبع عليه الإنسان.
وهذا العقل هو محل التكليف ومناط الأمر والنهي، فهو حجة الله تعالى على جميع الخلق. وبه يكون التمييز والتدبير في أمر الدين والدنيا. وإذا فقد هذا العقل ارتفع التكليف وسقط عن الإنسان، فإن الله تعالى إذا أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب. والعقل هو هبة الله الكبرى للإنسان!
2 - ويطلق كذلك على العلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة الفطرية السابقة، بعد تجارب يمر بها، وعبر يستفيدها من ملاقاة الآخرين، فإن ملاقاتهم تلقيح للعقول.(46/280)
وهذا هو العقل المستفاد الذي يكتسبه الناس، وفيه قيل: " ما كسب أحد شيئا أفضل من عقل يهديه إلى هدى، أو يرده عن ردى ".
وهذا العقل هو المعني بمثل قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (1) .
وكل موضع ذم الله تعالى في الكفار بعدم العقل، فهو إشارة إلى هذا النوع من العقل كقوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (2) .
وخلاصة ما تقدم أن العقل اسم عام لما يكون بالقوة أو بالفعل، ولما كان غريزيا وما كان منه مكتسبا.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 43
(2) سورة البقرة الآية 171(46/281)
فروق لغوية في أسماء العقل:
واستكمالا لهذه المداخل اللغوية العامة، نشير فيما يلي إلى بعض أسماء العقل، وما يفرقها عن أصل معناه العام:
1 - النهى (1) : سمي بذلك لأنه ينهى صاحبه عما لا ينبغي. وهو
__________
(1) جمع نهية، ويستعمل بهذه الصيغة أيضا مفردا.(46/281)
نهاية ما يمنح العبد من الخير المؤدي إلى صلاح الدنيا والآخرة. ولذلك جعل اسما للعقل الذي انتهى من الأمور الحسية إلى معرفة الأمور المعنوية، ومن هنا أحيل أربابه إلى تدبر معاني المحسات، في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} (1) ، {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} (2) {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} (3) .
ويمكن أن يقال: إنها تفيد أن الموصوف بها يصح أن ينتهى إلى رأيه.
2 - الحجر: وأصله من الحجر، وهو المنع لأنه يحجر صاحبه ويمنعه عن ارتكاب ما نهي عنه، وعلى ذلك قوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} (4) .
3 - الحجى: وهو ثبات العقل، مأخوذ من قولهم: تحجي بالمكان، إذا أقام فيه. أو من قولهم: حجاه، أي: قطعه، ومنه: الأحجية.
وسمي بذلك لإصابة الحجة به، والاستظهار على جميع المعاني، أو لكونه قاطعا للإنسان عن القبيح.
__________
(1) سورة طه الآية 128
(2) سورة طه الآية 53
(3) سورة طه الآية 54
(4) سورة الفجر الآية 5(46/282)
4 - اللب: هو العقل الخالص من الشوائب وعوارض الشبه، وترسخ لاستفادة الحقائق من دون الفزع إلى الحواس.
ولذلك علق الله تعالى الأحكام التي لا تدركها إلا العقول الزكية بأولي الألباب، نحو قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (1) .
5 - وسمي العقل كذلك قلبا، وذلك أنه لما كان القلب مبدأ تأثير الروحانيات والفضائل، سمي به. ولذلك عظم الله تعالى أمره، لاختصاصه بما قد أوجد لأجله من العلم والفقه، فقال: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ} (2) {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (3) .
وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (4) .
وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب (5) »
__________
(1) سورة آل عمران الآية 190
(2) سورة الشعراء الآية 88
(3) سورة الشعراء الآية 89
(4) سورة ق الآية 37
(5) أخرجه البخاري في الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه وعرضه: 1 \ 126، ومسلم في المساقاة، باب أخذ الحلال: 3 \ 1219، 1220.(46/283)
ويعبر في القرآن الكريم بالقلب عن العقل أو الجهاز الذي يقوم بالمعرفة والإدراك، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (1) .
6 - الفؤاد: وقد تكرر ذكره في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف، وقيل في معناه: إنه القلب، أو باطن القلب أو غشاؤه، ويقال له " فؤاد " باعتبار معنى التفؤد، أي التوقد. وقد جاء ذكره في سياق الحديث عن وسائل المعرفة والإدراك كحاستي السمع والبصر.
قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (2) .
وقال سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (3) . فهو وسيلة للمعرفة الإنسانية، لا يجوز تعطيلها ولا إلغاؤها أو تعليقها، كما يفعل الكفار الذين يستفيدون منها علما حقيقيا ومعرفة تقربهم إلى الله: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} (4) .
وليس من غرضنا هنا الاستقصاء والاستيعاب، فحسبنا
__________
(1) سورة محمد الآية 24
(2) سورة النحل الآية 78
(3) سورة الإسراء الآية 36
(4) سورة الأحقاف الآية 26(46/284)
هذه الإشارات السريعة، وللتفصيل مجال آخر(46/285)
عناية الإسلام بالعقل:
ينوه الإسلام تنويها كبيرا بالعقل، ويعلي من مكانته وقيمته، ويحفل به وبوسائل الإدراك- بعامة- ونجد شاهدا على ذلك في الآيات القرآنية الكريمة التي تواردت بشأنه. وينبئك عن هذا أن مشتقات كلمة " العقل " تكررت في القرآن الكريم حوالي سبعين مرة. وأما الآيات التي تتصل بالعمليات العقلية وتحث على النظر والتفكر والتدبر والتبصر في آيات الله في الأنفس والآفاق، وفي حوادث التاريخ، وأحكام التشريع، وتتوجه بالخطاب لأولي الألباب. . . فقد بلغت من الكثرة حدا أعطى الإسلام ميزة بين كل المذاهب والشرائع.
يقول الأستاذ العقاد: (والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه. ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله(46/285)
وقبول الحجر عليه.
ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه
التي يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة. بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين الوظائف، والخصائص في مواطن الخطاب ومناسبته.
فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع، ولا في العقل المدرك الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح. بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة. . .) (1) .
فإذا تلمسنا شاهدا على ذلك في أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، كالتي تحث على العلم وتبين فضله ومكانته، وترسم منهج البحث والنظر، وتدعو للتبصر والفهم والفقه. . . وجدناها تأخذ مساحة أوسع، في كتب الحديث الشريف، وتجعل الإسلام- بحق- دين العلم والعقل كما أنه دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
ونوجز فيما يلي الكلام على قيمة العقل ومكانته في الإسلام، بخطوط سريعة وكلمات موجزة تشير إلى ما وراءها من اهتمام وعناية:
فالعقل هو هبة الله العظمى ومنحته لهذا الإنسان، به
__________
(1) التفكير فريضة إسلامية، للأستاذ عباس محمود العقاد، ص (7، 8) .(46/286)
أكرمه وميزه على سائر المخلوقات، فأعطاه المفتاح الذي يفتح به أبواب الملكوت، ويدخل ساحة الإيمان بالله الذي سخر للإنسان كل ما في السماوات والأرض. ولذلك امتن الله تعالى على الناس بهذا العقل، وجعله موضوع المسئولية، فقال سبحانه:
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (1) ، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (2) .
ولذلك جعل الله تعالى العقل مناط التكليف وسببا له، فالخطاب الشرعي لا يتوجه إلا للعاقل، لأن العقل أداة الفهم والإدراك، وبه تتوجه الإرادة إلى الامتثال. ولذلك قال بعض السلف: " العقل حجة الله على جميع الخلق ".
ومن هنا جاءت أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ترفع القلم- أي التكليف والمؤاخذة (3) - عمن فقدوا مناط التكليف، وهو العقل بسبب الجنون أو ما يأخذ حكمه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم (4) » .
__________
(1) سورة الملك الآية 23
(2) سورة الإسراء الآية 36
(3) انظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، للقاري: 6 \ 288 - 291، عون المعبود: 12 \ 72، 73.
(4) أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، وصححه ابن خزيمة، والحاكم، وابن حبان. وانظر: صحيح الجامع الصغير للألباني، برقم (3512) .(46/287)
وفي لفظ آخر: «وعن المعتوه حتى يعقل (1) » .
والبحث في هذا نجده مفصلا عند علماء الأصول في مبحث الأهلية وعوارضها أو في مبحث المحكوم عليه.
ولذلك شرع الإسلام من الأحكام ما يحافظ فيها على العقل باعتباره واحدا من الضروريات الخمس، التي أنزلت الشرائع للمحافظة عليها، وهي: الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال.
فأوجب الإسلام العلم، وكل ما به قوام الحياة، وهي تعود على العقل بالحفظ، وحرم كل ما يذهب العقل أو يزيله، كالخمر والمخدرات وسائر المسكرات، ولأنها تصيب العقل بآفة تجعل صاحبه عبئا على المجتمع ومصدر شر وأذى للناس.
ويحث الإسلام العقل على العمل فيما خلق له، وفي المجال الذي يستطيعه، فلا يجوز إهماله ولا تعطيله، فهو يحث على النظر والتدبر والتأمل والتفكر في آيات الله تعالى المقرؤة، والمنظورة في الأنفس والآفاق وفي مجال عالم الشهادة. والآيات في ذلك كثيرة تعز على الحصر.
ويرسم الإسلام للعقل المنهج الصحيح للعمل والتفكير، ويرفع من أمامه العوائق والموانع التي تعطله عن وظيفته كاتباع الظن والأوهام والخرافة، أو الخضوع لسيطرة العادات والتقاليد،
__________
(1) أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني وصححه الحاكم وابن خزيمة. وانظر: صحيح الجامع الصغير للألباني، برقم (3514) .(46/288)
أو تقليد الآباء والمشايخ والطغاة. . . وبذلك يتحرر العقل حرية حقيقية كاملة، ويقوم بعملية التثبت والتبين قبل الإقدام أو الاعتقاد والتصديق، قال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (1) .
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (2) .
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (3) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (4) .
ثم يحيل الإسلام على العقل- مع أدلة أخرى- في القضايا الكبرى الرئيسية، فهو يهدي- عند النظر الصحيح- إلى معرفة الله تعالى ووحدانيته، ويقيم الأدلة على صحة النبوة والبعث بعد الموت، فيكون إدراك هذه القضايا إدراكا كليا عاما وقبولها بالعقل.
وشواهد ذلك من القرآن والسنة وكلام العلماء كثيرة، لا يتسع المقام للإفاضة فيها. فحسبنا هذه الإلماعة نختم بها هذه
__________
(1) سورة البقرة الآية 170
(2) سورة النجم الآية 28
(3) سورة الإسراء الآية 36
(4) سورة الحجرات الآية 6(46/289)
الفقرة عن قيمة العقل ومكانته في الإسلام.
وقد يدفع هذا القول بعض الناس ليظن أن هذه العناية بالعقل والإعلاء لمكانته تبيح لنا أن نجعل منه مصدرا نستقي منه العقيدة، أو نجعله حاكما عليها، يقبل منها ما يدركه، ويرفض ما لا يدركه أو ما لا يحيط به علما.
وهذه قضية منهجية جد خطيرة، تحتاج إلى فضل بيان، توضع فيه الأمور في نصابها الصحيح دون إفراط ولا تفريط:
(لو كان الله سبحانه، وهو أعلم بالإنسان وطاقاته كلها، يعلم أن العقل البشري، الذي وهبه الله تعالى للإنسان، هو حسب هذا الإنسان في بلوغ الهدى لنفسه والمصلحة لحياته، في دنياه وآخرته، لوكله إلى هذا العقل وحده، يبحث عن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، ويرسم لنفسه كذلك المنهج الذي تقوم عليه حياته، فتستقيم على الحق والصواب، ولما أرسل إليه الرسل على مدى التاريخ، ولما جعل حجته على عباده هي رسالة الرسل إليهم، وتبليغهم عن ربهم. . .
ولكن لما علم الله- سبحانه- أن العقل الذي آتاه للإنسان أداة قاصرة بذاتها عن الوصول إلى الهدى- بغير توجيه من الرسالة(46/290)
وعون وضبط- وقاصرة عن رسم منهج للحياة الإنسانية، يحقق المصلحة الصحيحة لهذه الحياة، وينجي صاحبه من سوء المآل في الدنيا والآخرة. لما علم الله- سبحانه- هذا: قضت حكمته ورحمته أن يبعث الرسل وألا يؤاخذ الناس إلا بعد الرسالة والتبليغ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (1) .
إذن ما هي وظيفة العقل البشري، وما هو دوره في العقيدة الإسلامية؟
يقول الأستاذ سيد قطب، - رحمه الله -:
(إن دور هذا العقل أن يتلقى عن الرسالة (الوحي) ، ووظيفته أن يفهم ما يتلقاه عن الرسول. ومهمة الرسول أن يبلغ ويبين، ويستنقذ الفطرة الإنسانية مما يرين عليها من الركام، وينبه العقل الإنساني إلى تدبر دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق، وأن يرسم له منهج التلقي الصحيح ومنهج النظر الصحيح، وأن يقيم له القاعدة التي ينهض عليها منهج الحياة العملية، المؤدي إلى خير الدنيا والآخرة،
وليس دور العقل أن يكون حاكما على الدين ومقرراته من حيث الصحة والبطلان، والقبول أو الرفض- بعد أن يتأكد من صحة صدورها عن الله، وبعد أن يفهم المقصود بها، أي:
__________
(1) سورة الإسراء الآية 15(46/291)
المدلولات اللغوية والاصطلاحية للنص " (1) .
ويؤكد هذا المعنى ويزيده وضوحا فيقول:
(إن العقل البشري ليس هو الذي يصنع مقومات التصور الإسلامي- كما هو الحال في الفلسفة- إنما هو الذي "يتلقاها"، من مصدرها الرباني، و"يدركها" صحيحة، حين يتلقاها وهو متجرد من أية "مقررات " سابقة في هذا الباب- سواء من مقولاته الذاتية، أومن مقولات العقائد المحرفة، ولو كان لها أصل رباني- وعليه أن يتقيد فيما يتلقاه من ذلك المصدر الصحيح بالمدلول اللغوي أو الاصطلاحي للنص الذي وردت فيه هذه المقومات - بدون تأويل- ما دام النص محكما. وأن يصوغ من هذا المدلول مقرراته هو ومنهجه في النظر أيضا. فليس له أن يرفض هذا المدلول أو يؤوله - متى كان متعينا من النص - بحجة أنه غريب عليه أو صعب التصور عنده، أو أن منطقه لا يقره! فهو- أي العقل البشري- ليس حكما في صحة هذا المدلول أو عدم صحته- في عالم الحقيقة والواقع- إنما هو حكم فقط في دلالة النص على مدلوله- وفق المفهوم اللغوي أو الاصطلاحي للنص- وما دل عليه النص فهو صحيح، وهو الحقيقة، سواء كان من مألوفات هذا العقل ومسلماته أم لم يكن. . ويستوي في هذه القاعدة العقيدة والشريعة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (2) .
__________
(1) في ظلال القرآن، المجلد الثاني ص (807) .
(2) سورة الحشر الآية 7(46/292)
وصدق علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه " (1) .
ومن ثم فإن محاكمة التصور الإسلامي أو محاكمة مقوماته التي يقوم عليها- ومنها ما هو غيب، كالملائكة والجن والقدر، والقيامة، والجنة والنار- إلى العقل البشري ومقرراته الذاتية، منهج غير إسلامي.
وهذا لا يعني أن التصور الإسلامي مناقض أو مصادم للعقل البشري. فإن مقرراته كلها نوعان: نوع الإدراك البشري قادر على تصوره- عند تلقيه من المصدر الرباني- ونوع هو غير قادر على إدراكه، ولكن منطقه ذاته يسلم بأن طبيعته أكبر من حدود إدراكه، وأن "وجود" ما هو أكبر من حدود إدراكه داخل في قدرة الله تعالى، وأن إخبار الله عن وجوده هو بذاته برهان هذا الوجود، وبرهان صحة الإخبار. .
ومن ثم لا يقع التناقض أو التصادم أبدا، متى استقام العقل البشري والتزم حدوده!
(وحيثما حاول العقل البشري أن يسلك طريقا غير هذا الطريق، طريق التلقي من المصدر الرباني بدون مقررات سابقة له فيما يتلقى، والالتزام بمدلول النص متى كانت دلالته اللغوية أو الاصطلاحية محكمة. .
نقول: حيثما حاول العقل البشري أن يسلك طريقا غير هذا
__________
(1) أخرجه أبو داود، رقم 162، ص 114.(46/293)
الطريق، جاء بالخبط والتخليط الذي لم يستقم قط في تاريخ الفكر البشري. . يستوي في الخبط والتخليط تلك الجاهليات الوثنية التي انحرفت عما جاء به الرسل- صلوات الله وسلامه عليهم- والجاهليات اللاهوتية التي أدخلت على الأصل الرباني الإضافات والتأويلات التي اصطنعها الحقل البشري- وفق مقولاته الذاتية- أو اقتبسها من الفسلفة، وهي من مقولات هذا العقل أصلا. والجاهليات الفلسفية التي استقل الفكر البشري بصنعها، أو أضاف إليها تأثرات من الديانات السماوية!) .
(ولقد حدث في تاريخ الفكر والاعتقاد أن أخذ بعض "المعتقدين " لعقيدتهم من الفلسفة. وأن أخذ بعض "الفلاسفة" لفلسفتهم من العقيدة. . وكان من وراء هذا وذلك ظاهرة لم تتخلف قط. . أنه حيثما أخذت الفلسفة من العقيدة أفادت واهتدت إلى بعض جوانب الحقيقة. وحيثما أخذت العقيدة من الفلسفة-خسرت وأصيبت بالتخليط والانحراف والتعقيد!)
ولا تبدو هذه الظاهرة واضحة كما تبدو تلك الصورة المعقدة الكئيبة التي تسمى: "الفلسفة الإسلامية" أو في "علم الكلام ". . . البعيدة عن طبيعة التصور الإسلامي، وعن طبيعة المنهج الإسلامي! ذلك عندما شاء ناس من "المسلمين " أن يخلطوا التصور الإسلامي بمقولات الفلسفة! وأن يعقدوا المنهج الإسلامي بمنهج الفلسفة!) (1)
__________
(1) مقومات التصور الإسلامي، مقتطفات من ص (45- 48) .(46/294)
العلاقة بين الوحي والعقل:
ولعلنا على ضوء ما سبق نستطيع أن نحدد العلاقة بين الوحي والعقل أو الصلة بينهما. وعلى هذا نفهم ما ورد عن تظاهر العقل والشرع، وعن التكامل بينهما كقولهم:
"العقل لن يهتدي إلا بالشرع، والشرع لا يتبين إلا بالعقل. فالعقل كالأس والشرع كالبناء. ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أسا.
وأيضا: فالعقل كالبصر، والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاعا من خارج، ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصرا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (العقل شرط في معرفة العلوم وكمال الأعمال وصلاحها، وبه يكمل العلم والعمل، لكنه ليس مستقلا بذلك، لكنه غريزة في النفس وقوة فيها، بمنزلة قوة البصر التي في العين فإن اتصل به نور الإيمان والقرآن كان كنور العين إذا اتصل به نور الشمس) (1) .
والعقل بنفسه قليل الغناء، لا يكاد يتوصل إلا إلى معرفة كليات الشيء دون جزئياته، والشرع يعرف كليات الشيء وجزئياته، ويبين ما الذي يجب أن يعتقد في شيء شيء، وما الذي هو معدلة في شيء شيء.
وعلى الجملة: فالعقل لا يهتدي إلى تفاصيل الشرعيات،
__________
(1) مجموع الفتاوى: 3 \ 338، 339.(46/295)
والشرع تارة يأتي بتقرير ما استقر عليه العقل، وتارة بتنبيه الغافل وإظهار الدليل، حتى يتنبه لحقائق المعرفة. وتارة بتذكير العاقل حتى يتذكر ما فقده، وتارة بالتعليم، وذلك في الشرعيات وتفصيل أحوال المعاد. فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة والأفعال المستقيمة، والدال على مصالح الدنيا والآخرة. ومن عدل عنه فقد ضل سواء السبيل) .
ويبقى أن نؤكد هنا- مرة أخرى- على أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين أحكام العقل الصريح والنصوص الشرعية الصحيحة- وفق المنهج الذي سلف في بيان حدود العقل- وهذه المسألة التي وضع لها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- كتابه الضخم " درء تعارض العقل والنقل " أو "موافقة صحيح المعقول لصريح المنقول ".
وما قد يظهر من خلاف ذلك، فينبغي عند ظهوره ألا نعارض نصوص الشرع بما قد نراه بعقولنا وآرائنا وأقيستنا فإن العقول- كما رأينا- تتفاوت، وليس هناك العقل المطلق الكامل الذي نحاكم إليه هذه النصوص. كما أن العقل نفسه محدود بحدود الزمان والمكان والكيفية، وبحدود وظيفته، ولا يستطيع أن يحيط بغير المحدود الذي يحيط به الشرع أو الوحي.(46/296)
ولذلك قال الإمام محمد بن شهاب الزهري - رحمه الله -:
(من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) .
وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو: (أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد. بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير عالما، ولا يمكن العالم أن يصير نبيا رسولا) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(46/297)
صفحة فارغة(46/298)
رسالة (1) في العمل بالخطوط عند الحكام
على مذهب الإمام أحمد - رحمه الله -
دراسة وتحقيق د. عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودي
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، وبعد:
إن العمل بالخطوط في الفقه الإسلامي من الموضوعات الهامة في عصرنا الحاضر، خاصة وأن وسائل التعامل الحديثة قد تعددت، بين المؤسسات والشركات، أو بين الأجهزة الحكومية، أو بينها وبين بعضها، أو بينها وبين الأفراد. . .
وإن هذه الرسالة: (العمل بالخطوط) للشيخ علاء الدين بن مفلح، وإن كانت تتحدث عن العمل بالخطوط في بعض المسائل كالشهادة، وحكم القاضي، والوصية، والطلاق. . . فإن
__________
(1) للإمام علاء الدين علي بن أبي بكر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح في 815 هـ- 882 هـ(46/299)
المسألة كقضية أصولية يمكن أن تسري على كثير من القضايا الاجتماعية والقضائية والاقتصادية. . .
كما أن هذه الرسالة لم تقتصر على بيان مذهب الإمام أحمد بن حنبل في (العمل بالخطوط) ، بل عالجت الموضوع بأسلوب مقارن بين المذاهب الأربعة.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(46/300)
المؤلف والرسالة
التعريف بالمؤلف.
هو شيخ الإسلام علاء الدين علي بن أبي بكر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح، الإمام العلامة: أبو الحسن، ولد سنة 815 هـ في الصالحية بدمشق، وقد نشأ في دمشق، وقرأ القرآن عند الشمس بن كاتب وسالم وغيرهما، وحفظ المقنع والملحة وغيرهما.
كما أخذ الفقه عن عم والده الشريف عبد الله بن مفلح، وسمع عليه في الحديث، وأجاز له ابن محب الأعرج والتاج بن بردس وغيرهما. ولذلك فإن الإمام علاء الدين قد عاش في بيئة(46/300)
علمية على المذهب الحنبلي، حيث إن أباه وجده وشيوخه من أعلام المذهب.
وقد ولي القضاء بحلب ثم بدمشق ثم بالقاهرة ثم بحلب، كما ولي- أيضا- خلالها كتابة السر ثم نظر الجيش بحلب.
وكان إنسانا حسنا متواضعا كريما متوددا، خبيرا بالأحكام، ذا إلمام بطرق الوعظ، وكذا بالعلم بالجملة.
توفي في العاشر من شهر صفر سنة 882 هـ، وصلي عليه من الغد بالجامع الكبير في محفل تقدمهم: أبو ذر بن برهان؛ بوصية منه، ودفن في ظاهر باب المقام، - رحمه الله - (1) .
وترك من ذريته ابنا من أهل العلم والفضل، وهو صدر الدين عبد المنعم بن علي بن مفلح.
__________
(1) انظر: الضوء اللامع للسخاوي ج 5، ص 198.(46/301)
بين يدي الرسالة:
إن موضوع الرسالة في (العمل بالخطوط) في الفقه الإسلامي، وبالذات في الشهادة، وحكم القاضي، والوصية، والطلاق. . . هو موضوع مهم في إثبات الحقوق والديون في القضاء والمعاملات بين الناس.
وقد أراد المؤلف أن يبين مذهب الإمام أحمد - رحمه الله- دفعا لما توهمه بعض الناس بأن المذهب الحنبلي لم يتضمن معالجة لهذا الموضوع، بل إنه لم يكتف بذلك، وسار فيها ببيان(46/301)
مذهب الإمام أحمد مع مقارنة له بالمذاهب الأخرى. . وقد أسند كل قول أو رأي إلى صاحبه، ومصادره.
كما يجب الإشارة إلى أنه اعتمد كثيرا في مادته العلمية لمعالجه هذا الموضوع على كتاب: الطرق الحكمية لابن القيم، والإنصاف للمرداوي، والجامع الصحيح للإمام البخاري. . ولكنه - أيضا- كثيرا ما يعتمد على آراء علماء الإسلام كالأئمة الأربعة وأبي البركات وابن عقيل وابن حمدان، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف. . وغيرهم كثير.
ولا شك أن هذه الرسالة مهمة في موضوعها، وخاصة في عصرنا الحاضر، الذي تعددت فيه الوسائل المعتمدة في إثبات الحقوق والديون، وكثر استخدامه، كاللاقط (الفاكس) والخطابات والسندات الموقعة. وكذا الإجراءات والتنظيمات للاعتماد عليها.
وإن هذه الرسالة مدخل أساسي لدراسة العمل بالخطوط وما في حكمه في كثير من أبواب الفقه الإسلامي. والله الموفق للجميع.(46/302)
مخطوطات الرسالة:
إن للرسالة مخطوطتين، وهما:
- مخطوطة الهيئة المصرية العامة للكتاب برقم 48105 (ميكروفيلم) ، الفن، فقه حنبلي 84 وعدد أوراقها 9 ق مقاس 18 × 23، وهي نسخة (أ) .
- مخطوطة الظاهرية بدمشق برقم 2759، وعدد أوراقها 7 ق،(46/302)
وعدد الأسطر 19، كما توجد منها صورة (ميكروفيلم) في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- المكتبة المركزية برقم 1929، وهي نسخة (ب) .
ولقد نسبت (الرسالة) للإمام علاء الدين بن مفلح في المخطوطتين.(46/303)
عملي بالمخطوط:
إن عملي بالمخطوط للرسالة سوف يكون - إن شاء الله - كما يأتي:
1 - إخراج النص للرسالة كما أراده المؤلف.
2 - التخريج للأحاديث والآثار.
3 - إرجاع كل مسألة إلى مصادرها، أو مراجعها الأصلية في مذاهب الأئمة.
4 - التعريف بالأعلام الواردة في الرسالة.
5 - المقارنة بين المخطوطتين، مع إثبات ما يترجح في الأصل للرسالة.
6 - تقديم دراسة مختصرة عن المؤلف، والرسالة، والمخطوطتين لها.(46/303)
النص المحقق
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإنه أنكر بعض الناس أن ثبوت الشهادة على الخط لم يكن مذهب الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل - رضي الله عنه -، فاستخرت الله تعالى أن أكتب ما نقله الأصحاب عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - في ذلك.
وأسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، نافعا لديه، وأن يبلغنا أملنا، ويصلح قولنا وعملنا برحمته، فإنه جواد كريم وهو حسبنا ونعم الوكيل. . .(46/304)
الكلام في الحكم بالخط المجرد
وله صور ثلاث (1) :
الصورة الأولى: أن يرى القاضي حجة فيها حكم لإنسان، فيطلب منه إمضاءه، والعمل به، فقد اختلف في ذلك، فعن الإمام أحمد، رضي الله عنه، ثلاث روايات:
إحداها: أنه إذا تيقن أنه خطه، نفذه، وإن لم يذكره، (2) ، اختاره في الترغيب، وقدمه الشيخ مجد الدين في المحرر، وجزم به الآدمي، رحمهم الله، وكذلك الشاهد إذا وجد شهادته بخطه.
__________
(1) انظر: الطرق الحكمية لابن القيم ص 200- 205.
(2) وفي نسخة (أ) ينكره.(46/305)
الثانية: لا ينفذه حتى يذكره.
والثالثة: أنه [إن] ، كان في حرزه، وحفظه كقمطرة ونحوها نفذه، وإلا فلا.
قال أبو البركات: وكذلك الروايات في شهادة الشاهدين على خطه إذا لم يذكره (1) والمشهور من مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، أنه لا يعتمد على الخط لا في الحكم، ولا في الشهادة.
وفي مذهبه وجه آخر: أنه يجوز الاعتماد عليه إذا كان محفوظا عندهما، كالرواية الثالثة (2) .
أما مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، فقال
__________
(1) انظر: المحرر لمجد الدين بن تيمية ج 2، ص 211، والمغني لابن قدامة ج 14، ص 57.
(2) انظر: مغني المحتاج للشربيني ج 4، ص 399، والمغني لابن قدامة ج 14، ص 57.(46/306)
الخفاف: قال أبو حنيفة رضي الله عنه: إذا وجد القاضي في ديوانه شيئا لا يحفظه إقرارا لرجل من رجل بحق من الحقوق، وهو لا يذكر ذلك، ولا يحفظه، فإنه لا يحكم بذلك، ولا ينفذه حتى يذكره (1) .
وقال أبو يوسف، ومحمد رضي الله عنهما: ما وجده القاضي في ديوانه من شهادة شهود شهدوا عنده لرجل على رجل بحق، أو إقرار رجل لرجل، والقاضي لا يحفظ ذلك، ولا يذكره فإنه ينفذ ذلك، ويقضي به، إذا كان تحت ختمه، محفوظا ليس كلاما في ديوان القاضي بخطه (2) .
__________
(1) انظر. الهداية للمرغيناني ج 3، ص 120.
(2) انظر. الهداية للمرغيناني ج 3، ص 120.(46/307)
وأما مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، فقال في الجواهر: لا يعتمد على الخط إذا لم يتذكر، لإمكان التزوير عليه (1) .
وقال أبو محمد القاضي: إذا وجد في ديوان الحاكم حكما بخطه، ولم يذكر أنه حكم به، لم يجز له أن يحكم به، إلا أن يشهد عنده شاهدان.
قال: وإذا نسي القاضي. . حكما حكم به، فشهد عنده شاهدان أنه قضى به، نفذ الحكم بشهادتهما، وإن لم يتذكر (2) .
وعن مالك رضي الله عنه رواية أخرى: أنه لا يلتفت إلى البينة بذلك، ولا يحكم بها.
وجمهور أهل العلم عليه، بل إجماع أهل الحديث قاطبة على اعتماد الراوي على الخط المحفوظ عنه، وجواز الحديث به، إلا خلافا شاذا لا يعتد به، ولو لم يعتمد لضاع كثير من
__________
(1) انظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل ج7، ص 183 - 185.
(2) انظر: شرح الزرقاني على مختصر خليل ج 7، ص 150.(46/308)
أحكام الإسلام اليوم، ومن الأحاديث الواردة بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وليس بأيدي الناس بعد كتاب الله إلا هذه النسخ الموجودة من السنن، وكذلك كتب الفقه الاعتماد فيها على النسخ.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث كتبه إلى الملوك وغيرهم، وتقوم بها حجته، ولم يكن يشافه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بكتابه مضمونه قط، ولا جرى هذا مدة حياته صلى الله عليه وسلم، بل يدفع به إليه الكتاب مختوما، ويأمر بدفعه إلى المكتوب إليه، وهذا معلوم بالضرورة، ولأهل العلم بسيرته وأيامه (1) .
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما حق امرئ مسلم، له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده (2) » .
ولو لم يجز الاعتماد على الخط لم تكن كتابة وصيته جائزة.
قال إسحاق بن إبراهيم: قلت للإمام أحمد رضي الله عنه: الرجل يموت، وتوجد له وصية تحت رأسه من غير أن يكون أشهد عليها، أو أعلم بها أحدا، هل يجوز إنفاذ ما فيها؟ قال: إن كان عرف خطه، وهو مشهور الخط، فإنه ينفذ ما فيها (3) .
__________
(1) انظر: الطرق الحكمية لابن القيم ص 201- 202.
(2) رواه البخاري في كتاب الوصايا ج 3، ص 186.
(3) انظر: مسائل الإمام أحمد رواية ابن هاني ج 2، ص 44، ص 50.(46/309)
وقد قال في الشهادة: إنه إذا لم يذكرها، ورأى خطه، أنه لا يشهد حتى يذكرها (1) .
وقال فيمن كتب وصيته، وقال: أشهدوا علي بما فيها، أنهم لا يشهدون إلا أن يسمعوها منه، أو تقرأ عليه (2) ، فيقر بها (3) .
واختلف أصحابنا، فمنهم من خرج في كل مسألة حكم الأخرى، وجعل وجهين بالنقل والتخريج، ومنهم من امتنع عن التخريج، وأقر النصين، وفرق بينهما (4) .
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه التفريق، قال: والفرق إذا كتب وصيته، وقال: أشهدوا علي بما فيها، فإنهم لا يشهدون، لجواز أن يزيد في الوصية أو ينقص أو يغير.
وأما إذا كتب وصيته ثم مات، وعرف أنه خطه، فإنه يشهد به، لزوال المحذور، والحديث المتقدم كالنص في جواز الاعتماد على خط الموصي.
__________
(1) انظر: المغني لابن قدامة ج 14، ص 57.
(2) في نسخة (أ) عليهم.
(3) انظر: المغني لابن قدامة ج 8، ص 471، 472.
(4) انظر: الطرق الحكمية لابن القيم ص 202.(46/310)
وكتب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، إلى عماله، وإلى الملوك وغيرهم تدل على ذلك، ولأن الكتابة تدل على المقصود، وهي كاللفظ (1) .
والمقصود أن من كتب وصيته ولم يشهد فيها، وعرف خطه، فإنه ينفذ ما فيها، ما لم يعلم رجوعه عنها، نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه، واعتمده الأصحاب رضي الله عنهم، وصرحوا بذلك في كتبهم كأبي القاسم الخرقي، والشيخ موفق الدين بن قدامة، والشيخ مجد الدين بن تيمية، والجد
__________
(1) انظر: المغني لابن قدامة ج 8، ص 472، والطرق الحكمية لابن القيم ص 201- 202.(46/311)
وغيرهم رضي الله عنهم، لما تقدم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما حق امرئ مسلم، له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده (1) » .
وظاهر الكتابة، وإن لم يشهد بما فيها، ولأن ذلك طريق يغلب على الظن صحة الوصية، فأشبه الشهادة بها.
وخرج أبو البركات وابن عقيل: لو وقعت الوصية على أنه وصى فليس في نص الإمام أحمد ما يمنعه، ثم بعد يعمل بالخط بشرطه. ولهذا قال ابن حمدان الشيخ موفق الدين وغيرهما: (من وجدت وصيته بخطه صحت، نص عليه) (2) .
ولهذا يقع الطلاق، فإن الكتابة حروف يفهم منها الطلاق،
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الوصايا ج 3، ص 186.
(2) انظر: المغني لابن قدامة ج 8، ص 470، شرح الزركشي على مختصر الخرقي ج 4، ص 385.(46/312)
فإذا أتى فيها بالطلاق وفهم منها، ونواه، وقع كاللفظ، ولأن الكتابة تقوم مقام قول الكاتب به لا له.
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ رسالته، فحصل ذلك في حق البعض بالقول، وفي حق آخرين بالكتابة إلى ملوك الأطراف، ولأن كتابة القاضي تقوم مقام لفظه في إثبات الديون والحقوق (1) .
فإن نوى بذلك تجويد خطه، أو تجربة قلمه لم يقع؛ لأنه لو نوى باللفظ غير الإيقاع لم يقع، فالكتابة أولى، وإذا ادعى ذلك دين فيما بينه وبين الله تعالى، ويقبل في الحكم في أصح الوجهين، فهاهنا أولى مع أنه ليس بلفظ.
وإن قال؛ نويت غم أهلي، فقد قال في رواية فيمن كتب طلاق زوجته، ونوى الطلاق وقع، وإن أراد أن يغم أهله، فقد عمل في ذلك أيضا، يعني أنه يؤاخذ به لقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تكلم به (2) »
فظاهر هذا أنه أوقع الطلاق؛ لأن غم أهله يحصل بالطلاق، فيجتمع غم أهله ووقوع الطلاق، كما لو قال: أنت طالق يريد به غمها، ويحتمل أن لا يقع؛ لأنه أراد غم أهله بتوهم الطلاق دون حقيقته. فلا يكون ناويا للطلاق، والخبر إنما يدل على مؤاخذته بما نواه عند العمل به، فإذا كتب طلاق زوجته ونوى الطلاق
__________
(1) انظر: المغني لابن قدامة ج 14، ص 74، شرح الزركشي على مختصر الخرقي ج 7، ص 279.
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان، حديث 212 ج 1، ص 119.(46/313)
طلقت زوجته، وبهذا قال الشعبي، والنخعي، والزهري، والحكم، وأبو حنيفة، ومالك، وهو المنصوص [عليه] ، (1) عن الشافعي رضي الله عنه.
وإن لم ينو شيئا، فقال أبو الخطاب: قد خرجها القاضي
__________
(1) في نسخة (ب) .(46/314)
الشريف في الإرشاد على روايتين:
إحداهما: يقع، وهو قول الشعبي والنخعي والزهري والحكم رضي الله عنهم، لما ذكرنا من أن الكتابة تقوم مقام اللفظ.
والثانية: لا يقع إلا بنية، وهو قول أبي حنيفة ومالك، ومنصوص الشافعي رضي الله عنهم.
وقال الأصحاب: ولا يقع الطلاق بغير لفظ إلا في موضعين:
أحدهما: بالكتابة كما تقدم.
والثاني: بالإشارة لمن لا يقدر على الكلام كالأخرس.
قال القاضي: وثبوت الخط في الوصية يتوقف على معاينة البينة، أو الحاكم لفعل البينة لكتابة الوصية؛ لأنها عمل، والشهادة على العمل طريقه الرؤية (1) وقول الإمام أحمد رضي الله عنه: إن كان قد عرف خطه، وكان مشهور الخط، ينفذ ما فيها، يرد ما قال القاضي.
فإن الإمام أحمد رضي الله عنه علق الحكم على المعرفة
__________
(1) انظر. الإنصاف للمرداوي ج 7، ص 188.(46/315)
والشهرة، من غير اعتبار معاينة الفعل، وهذا هو الصحيح، فإن القصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه، فإذا عرف ذلك، وتبين، كان كالعلم بنسبة اللفظ إليه، فإن الخط دال على اللفظ، واللفظ دال على القصد والإرادة، غاية ما يقدر اشتباه الخطوط، وذلك كما يفرض من اشتباه الصور والأصوات.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى في خط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره، وصورته عن صورته، وصوته عن صوته، والناس يشهدون شهادة لا يستريبون فيها على أن هذا فيه خط فلان، وإن جازت محاكاته ومشابهته؛ فلا بد من فرق، وهذا أمر يختص الخط العربي به، ووقوع الاشتباه والمحاكاة لو كان مانعا لمنع من الشهادة على الخط عند معاينته إذا غاب عنه لجواز المحاكاة (1) .
وقد دلت الأدلة المتظافرة التي تقرب من القطع على قبول، (2) شهادة الأعمى فيما طريقه السمع، إذا عرف الصوت (3) ، مع أن مشابهة الأصوات إن لم تكن أعظم من تشابه الخطوط، فليس دونه.
وقد صرح أصحاب الإمام أحمد والشافعي رضي الله عنهما: بأن الوارث إذا وجد في دفتر مورثه أن لي عند فلان كذا جاز له أن يحلف على استحقاقه، وأظنه منصوصا عنهما.
__________
(1) انظر: الطرق الحكمية ص 203.
(2) في نسخة (ب) .
(3) انظر: المغني لابن قدامة ج 14، ص 178، 179، وشرح الزركشي على مختصر الخرقي ج 7، ص 347.(46/316)
وكذلك لو وجد في دفتره: إني أديت إلى فلان مالا، جاز له أن يحلف على ذلك؛ إذا وثق بخط مورثه وأمانته (1) .
ويعمل بخط أبيه على كيس لفلان في الأصح، كخطه بدين له، فيحلف له على ذلك؛ إذا وثق بخط مورثه.
ولم يزل الخلفاء والقضاة والأمراء والعمال يعتمدون على كتب بعضهم إلى بعض، ولا يشهدون متحملها على ما فيها، ولا يقرءونها عليه.
هذا عمل الناس من زمن نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى الآن.
قال البخاري في صحيحه: باب الشهادة على الخط المختوم، وما يجوز من ذلك، وما يضيق عليه، كتاب الحاكم إلى عامله، والقاضي إلى القاضي.
وقال بعض الناس: كتاب الحاكم جائز إلا في الحدود، ثم قال: إن كان القتل خطأ فهو جائز؛ لأن هذا مال بزعمه، وإنما صار مالا بعد أن ثبت القتل، فالخطأ والعمد واحد (2) .
__________
(1) انظر: الطرق الحكمية ص 203، 204، والكافي لابن عبد البر ج 2، ص 910.
(2) انظر: صحيح البخاري، كتاب الأحكام ج 8، ص 109، 110.(46/317)
وقد كتب عمر رضي الله عنه، إلى عماله في الحدود، وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما في سن كسرت.
وقال إبراهيم: كتاب القاضي للقاضي جائز؛ إذا عرف الكتاب والخاتم، وكان الشعبي رحمه الله يجيز الكتاب المختوم، وما فيه من القاضي، ويروى عن ابن عمر رضي الله عنهما نحوه (1) .
وقال معاوية بن عبد الكريم الثقفي: شهدت عبد الملك ابن يعلى قاضي البصرة، وإياس بن معاوية، الحسن
__________
(1) انظر: صحيح البخاري كتاب الأحكام ج 8، ص 109، 110.(46/318)
وثمامة بن عبد الله بن أنس، وبلال بن أبي بردة، وعبد الله بن بريدة الأسلمي، وعامر بن عبيدة، وعباد بن منصور، رحمهم الله، يجيزون كتب القضاة بغير محضر من الشهود.
فإن قال الذي جيء إليه بالكتاب: إنه زور، قيل له: اخرج فالتمس المخرج من ذلك، وأول من سأل على كتاب القاضي البينة ابن أبي ليلى وسوار بن عبد الله.
وقال أبو نعيم: حدثنا عبيد الله بن محرز: (1) جئت
__________
(1) هو عبيد الله بن محرز، ما روى عنه سوى أبي نعيم. انظر: ميزان الاعتدال للذهبي ج 3، ص 16.(46/319)
بكتاب من موسى بن أنس قاضي البصرة، وأقمت عنده البينة، أن لي عند فلان كذا وكذا. . . وهو بالكوفة، فجئت به القاسم بن عبد الرحمن فأجازه.
وكره الحسن وأبو قلابة أن يشهد على وصية حتى يعلم ما فيها؛ لأنه لا يدري لعل فيها جورا.
وقد كتب النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى أهل خيبر: «إما أن تدوا صاحبكم، وإما أن تؤذنوا بحرب (1) » .
وقال الزهري في الشهادة على المرأة من وراء الستر: إن عرفتها فاشهد، وإلا فلا تشهد (2) .
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا غندر حدثنا شعبة
__________
(1) انظر. صحيح البخاري، كتاب الأحكام ج 8، ص 110.
(2) انظر: صحيح البخاري، كتاب الأحكام ج 8، ص 110.(46/320)
سمعت قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه، «قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم قالوا: إنهم لا يقبلون كتابا إلا مختوما، فاتخذ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم خاتما من فضة، كأني أنظر إلى وبيصه، ونقشه، " محمد رسول الله (1) » .
وقد تقدم كلام الشيخ موفق الدين بن قدامة رحمه الله في الوصية: إن وجدت وصيته، صحت، هذا المذهب مطلقا.
قال الزركشي رحمه الله: نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه، واعتمده الأصحاب، وقاله الخرقي وقدمه في المغني والشرح والمحرر والرعايتين، والجد في الفروع، وغيرهم رحمهم الله تعالى (2) .
__________
(1) انظر: صحيح البخاري كتاب اللباس ج 7، ص 52، وفي كتاب الأحكام ج 8، ص 110.
(2) انظر: مختصر الخرقي ص 113، والمغني لابن قدامة ج 8، ص 470، والمحرر لمجد الدين بن تيمية ج 7، ص 118.(46/321)
وقال القاضي في شرح المختصر: ثبوت الخط يتوقف على معاينة البينة أو الحاكم لفعل الكتابة؛ لأن الكتابة عمل، والشهادة على العمل طريقها الرؤية، نقله الحارثي، (1) ويحتمل أن لا تصلح حتى يشهد عليها.
وقد خرج ابن عقيل ومن بعده رواية بعدم الصحة، أخذا من قول الإمام أحمد رضي الله عنه: فيمن كتب وصيته، وختمها، وقال: اشهدوا بما فيها، أنها لا تصح، أي شهادتهم على ذلك (2) .
فنص الإمام أحمد في الأولى: بالصحة، وفي الثانية: بعدمها حتى يسمعوا ما فيها، أو تقرأ عليه فيقر بما فيها، فخرج جماعة منهم المجد في محرره وغيره في كل منهما رواية من الأخرى (3) .
__________
(1) انظر: الإنصاف للمرداوي ج 7، ص 118
(2) انظر: المغني لابن قدامة ج 8، ص471.
(3) انظر: الإنصاف للمرداوي ج 7، ص 118.(46/322)
وقد خرج الشيخ موفق الدين والشارح وصاحب الفائق وغيرهم الجواز؛ لقوله: إذا وجدت وصية الرجل مكتوبة عند رأسه من غير أن يكون أشهد أو أعلم بها أحدا عند موته، وعرف خطه، وكان مشهورا؛ فإنه ينفذ ما فيها، وهذا رواية مخرجة خرجها الأصحاب، ومعنى قوله: فيمن كتب وصيته وختمها وقال: اشهدوا بما فيها أنها لا تصح، أي لا تصح شهادتهم على ذلك (1) .
فأما العمل بخطه في هذه الوصية، فحيث علم خطه إما بإقرار أو بينة، فإنه يعمل بها كالأولى، بل هي من أفراد العمل بالخط بالوصية، نبه عليه الشيخ تقي الدين بن قندس رحمه الله في حواشي الفروع وهو واضح (2) .
وفي كلام الزركشي إيماء إلى ذلك، فإنه قال: وقد يفرق بأن شرط الشهادة العلم، وما في الوصية والحال هذه غير معلوم، أما لو وقعت الوصية على أنه وصى فليس في نص الإمام أحمد رضي الله عنه ما يمنعه، ثم بعد ذلك يعمل بالخط بشرطه (3) .
وعند الشيخ تقي الدين: من عرف خطه بإقرار أو إنشاء أو
__________
(1) انظر: الإنصاف للمرداوي ج 7، ص 118، 189، ص 471.
(2) انظر: الإنصاف للمرداوي ج 7، ص189.
(3) انظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي ج 4، ص 385.(46/323)
عقد أو شهادة عمل به كميت.
وذكر أيضا قولا في المذهب أنه يحكم بخط شاهد ميت، وقال: الخط كاللفظ، إذا عرف أنه خطه.
وقال: إنه مذهب جمهور العلماء، وهو يعرف أنه هذا خطه، كما يعرف أن هذه صورته.
واتفق العلماء على أنه يشهد على الشخص إذا عرف صوته، مع إمكان الاشتباه، وجوز الجمهور كمالك وأحمد رضي الله عنهما، الشهادة على الصوت، من غير رؤية المشهود عليه، والشهادة على الخط ضعيف، لكن جوازه قوي أقوى من منعه (1) .
قال في الروضة: لو كتب شاهدان إلى شاهدين من بلد المكتوب إليه، بإقامة الشهادة عنده عنهما لم يجز، لأن الشاهد إنما يصح أن يشهد على غيره إذا سمع منه لفظ الشهادة، وقال: اشهد علي، فأما أن يشهد عليه بخطه فلا، لأن الخطوط يدخل عليها العلل.
فإن قام بخط كل واحد من الشاهدين شاهدان ساغ له الحكم به (2) .
[وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم] .
__________
(1) انظر: الإنصاف للمرداوي ج 11، ص 327، 328.
(2) انظر: الفروع لابن مفلح ج 6، ص 500، والكافي لابن البر ج 2، ص 900، والإنصاف للمرداوي ج 11، 328.(46/324)
الاختلاف في أصول الدين وأسبابه وأحكامه
للدكتور إبراهيم بن محمد البريكان
تعريف الاختلاف في الدين (1) :
هو التجاذب فيه بالأقوال والأفعال، والمراد به هنا ما انتهى إلى الخصومة والعداوة والتنازع.
والاختلاف في الغرائز والملكات الإنسانية أمر طبيعي في بني آدم نتيجة لاختلاف الطبائع والمشارب، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (2) {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (3) ، وبناء على هذا الاختلاف الطبعي تبنى الحياة ويثرى الوجود بمعطيات الإنسان الهائلة المتجددة على مدى الأيام والشهور والسنين، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} (4) ، وعلى أساس هذا النوع من الخلاف تعمر الحياة وتتنوع أنشطة الإنسان وبه تحصل مقومات الخلافة في الأرض وتسد حاجات الإنسان في مجالات حياته المختلفة.
__________
(1) انظر الشريعة لأبي بكر الآجري (3- 20) طبعة أنصار السنة المحمدية.
(2) سورة هود الآية 118
(3) سورة هود الآية 119
(4) سورة الزخرف الآية 32(46/325)
هذا ولئن كان الاختلاف في مجالات النشاط الإنساني يؤدي إلى إقامة الحياة السعيدة الممثلة لما أراده الله من خلافة بني آدم في الأرض، فإن الخلاف في مجالات الدين المختلفة سبب لتعاسة الإنسان، وفساد أمره وتشتت شأنه، الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على أن الاختلاف في إطار الديانة مذموم من حيث الجملة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (1) وذلك لأن دين الله واحد والحق فيه واحد لا يتعدد قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) وبناء على ذلك فالناس في ذلك أمة واحدة إذ أن جميع الأديان السماوية جاءت بعبادة الله والكفر بما سواه كما قال سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (3) فلا يكون الاختلاف فيها إلا بالبغي والظلم كما قال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (4) وقال سبحانه: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (5) .
ولذا كان من أعظم منن الله على عباده هو اجتماعهم على الحق وسيرهم عليه، قال تعالى:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 159
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة البقرة الآية 213
(4) سورة آل عمران الآية 19
(5) سورة الشورى الآية 14(46/326)
{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (1) مع ذلك فقد أخبر تعالى أن الاختلاف لا بد من وقوعه ليميز الله الحق من الباطل، فيضل من يشاء عدلا، ويهدي من يشاء فضلا، فتظهر من آثار حكمه القدرية نظير ما أظهر لعباده من حكمه الشرعية، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (2) {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (3) .
فالمرحوم من عباد الله من لا يوجد الخلاف بينهم {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (4) وأعظم الاختلاف وأشده ما كان عن علم وبصيرة إذ أن مقتضى العلم الاجتماع على الحق فإذا حصل الاختلاف فلا يكون إلا ببغي وظلم ظاهر بين قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (5) {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (6) .
ومن هذا المنطلق فإن اختلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم في أمر من أمور الديانة لا يكون إلا مذموما قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (7) ولولا أنه مذموم لما حذرهم منه ونهاهم عنه لا سيما وأن بيانه صلى الله عليه وسلم أكمل البيان وأظهره مما لا يجعل مجالا للاختلاف كما قال صلى الله عليه وسلم: «تركتكم على المحجة البيضاء لا يزيغ
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة هود الآية 118
(3) سورة هود الآية 119
(4) سورة هود الآية 119
(5) سورة البينة الآية 4
(6) سورة البينة الآية 5
(7) سورة آل عمران الآية 105(46/327)
عنها إلا هالك (1) » وقال ابن مسعود ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طائرا يطير في السماء إلا ذكر لنا منه علما، وهو كناية عن تمام البيان وكماله ووضوحه وظهوره بحيث لم يتبق لأحد بعده حجة أو برهان.
ومقتضى النهي عن الاختلاف الأمر بالاتفاق والاجتماع على الحق، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) .
وروى الآجري في كتاب الشريعة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد (3) » وروى الآجري عن عبد الله بن مسعود في خطبته: (يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله عز وجل الذي أمر به، وما تكرهون في الجماعة خير مما تحبون في الفرقة) .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (4 \ 126) ، وابن ماجه في سننه رقم (43) باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين، وقد صححه ابن أبي عاصم وقال إسناده حسن.
(2) سورة آل عمران الآية 103
(3) سنن الترمذي الفتن (2165) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2363) ، مسند أحمد بن حنبل (1/18) .(46/328)
الاختلاف في الكتاب والسنة النبوية
أ- الاختلاف في القرآن الكريم (1) :
الاختلاف المذكور في القرآن الكريم على ضربين:
الضرب الأول: اختلاف تذم فيه كلا الطائفتين المختلفتين كما قال سبحانه: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (2) {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} (3) فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف وقال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (4) وقال تعالى: وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (5) وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (6) وترجع أسباب الاختلاف المذموم بين طائفتين إلى فساد النية لأن الدافع عليه هو البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض بالفساد، ويرجع أيضا إلى جهل كل من المختلفين بالأمر المتنازع فيه، أو الجهل بالدليل القاطع للنزاع، أو جهل كل من المختلفين بما عند صاحبه من الحق سواء كان ذلك في الحكم أو الدليل هذا إذا كان عالما بما عنده من الحق حكما ودليلا، وقد بين الله تعالى
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم، ص (36 - 41)
(2) سورة هود الآية 118
(3) سورة هود الآية 119
(4) سورة البقرة الآية 176
(5) سورة آل عمران الآية 19
(6) سورة آل عمران الآية 105(46/329)
أن أصل الشر كله الجهل والظلم، قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (1) .
الضرب الثاني: هو ما حمد الله فيه إحدى الطائفتين؛ وهم المؤمنون، وذم فيه الأخرى، كما قال سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} (2) فحمد إحدى الطائفتين ووصفهم بالإيمان، وذم الأخرى ووصفها بالكفر، هذا وأكثر الخلاف المؤدي إلى الأهواء والبدع في الأمة المحمدية هو من النوع الأول وسبب ذلك أن كلا من الطائفتين المتنازعتين لا تعترف بما عند الأخرى من الحق ولا تعدل في حكمها لها وعليها.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 72
(2) سورة البقرة الآية 253(46/330)
ب- الاختلاف في السنة النبوية:
ويتبين ذلك من عدة أمور:
أولا: إخباره صلى الله عليه وسلم عن افتراق هذه الأمة كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة (1) » .
__________
(1) المسند (2 \ 332) ، وسنن أبي داود كتاب السنة (38) ، وسنن ابن ماجه المقدمة باب (12) ، سنن الترمذي كتاب الفتن باب (34) .(46/330)
رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ثانيا: إخباره بانتشار الأهواء وتبني بعض الأمة نشرها والدفاع عنها، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به (1) » رواه أحمد وأبو داود في سننه.
ثالثا: إخباره باتباع هذه الأمة أهل الكتاب في أهوائهم كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إذا كان منهم من أتى أمه علانية كان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي (2) » رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب مفسر، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
رابعا: نصه على من معه الحق من طوائف الافتراق كما في الحديث الآنف الذكر.
خامسا: أنه نهى عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من
__________
(1) المسند (4 \ 105) ، سنن أبي داود كتاب السنة (38) .
(2) سنن الترمذي كتاب الإيمان باب (8) .(46/331)
المختلفين ما عند الآخر، كما روى النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود قال: «سمعت رجلا قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهية وقال: كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا (1) » . رواه البخاري.
فدل الحديث على تحريم مثل هذا الاختلاف وأن يكون لنا عبرة فيمن قبلنا حيث اختلفوا بمثل ذلك.
سادسا: الاختلاف في السنة النبوية على نوعين (2) :
النوع الأول: اختلاف تنوع: كالاختلاف في صفة الأذان والإقامة والاستفتاح وصلاة الخوف وتكبيرات العيد ونحو ذلك وهذا النوع من الاختلاف يأتي على وجوه منها:
أن يكون القولان أو الفعلان مشروعين كالقراءات ومن ذلك ما تقدم من اختلاف الأنواع، ومنها ما يكون الاختلاف القولي في اللفظ دون المعنى، ومنها ما يكون كل واحد من الأقوال غير الآخر لكن لا تنافي بينهما وهما قولان صحيحان، ومنها ما يكون في طريقتين مشروعتين لكن كل واحد قد سلك واحدة منهما وهذا النوع من الاختلاف ليس مذموما لكن إن اقترن به البغي والظلم مع الجهل صار مذموما.
النوع الثاني: اختلاف تضاد: وهو أن يتنافى القول من كل
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الخصومات (1) ، فضائل (27) أنبياء (54) .
(2) اقتضاء الصراط المستقيم ص (37، 38) .(46/332)
وجه وهو يكون في الأصول والفروع، وهذا لا يكون إلا على قول جمهور العلماء من أن المصيب في الكل واحد وهو الراجح، وأما على قول من يقول كل مجتهد مصيب فهو عنده من قبيل اختلاف التنوع، وهذا النوع من الاختلاف أي التضاد هو أكثر أنواع الاختلاف وأعظمها خطرا؛ وذلك كالاختلاف في القدر والصفات والصحابة ونحو ذلك في باب الأصول والاختلاف بالتبديع وعدمه في باب الفروع، هذا وقد جاءت السنة بإقرار اختلاف التنوع كما في إقراره صلى الله عليه وسلم للصحابة على اجتهادهم في فهم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة (1) » فمنهم من أخرها أخذا بهذا الحديث ومنهم من أخذ بأحاديث الوقت مخصصا لهذا الحديث.
وجاءت السنة بذم اختلاف التضاد كما في حديث عبد الله بن رباح الأنصاري عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب (2) » .
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري، كتاب (64) باب (29) طبعة استانبول، ومسلم كتاب (5) الحديث رقم 209.
(2) رواه مسلم، كتاب العلم الحديث (2) ، وأحمد في مسنده (1 \ 401، 421) .(46/333)
نشأة الخلاف العقدي:
خلق الله الإنسان على الفطرة السوية موحدا لله ومؤمنا بربوبيته وألوهيته واتصافه بصفات الجمال والجلال قال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (1) » .
__________
(1) متفق عليه، البخاري كتاب (23) باب (80) ، (93) طبعة استنبول، ومسلم كتاب (46) حديث (22 - 25) طبعة محمد عبد الباقي.(46/333)
فذكر أنواع الانحرافات العقدية وأشار إلى أثر البيئة والتربية الاجتماعية في اتجاه الإنسان إلى الفطرة، أو الانحراف عنها ولم يجعل الإسلام منها مما يدل على أنه الفطرة قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (1) وأنزل الكتب وأرسل الرسل وجعلهما ميزانا للحق ومصدرا له كما قال سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (2) .
وقد جاء الرسل بتكميل هذه الفطرة وتتميمها وتنميتها وإزالة غشاوة الباطل عنها كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) .
فكان الناس على دين الله منذ خلقهم حتى حدث الشرك في قوم نوح عليه السلام، وتقدر هذه المدة بعشرة قرون ومن ذلك الوقت والناس قد انقسموا إلى مؤمن وكافر وموحد ومشرك، ولم تزل الرسالات السماوية تنزل لتكشف لوثة الباطل وتظهر الحق وتعلي دياره قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (4) وكان حظ العرب من التوحيد ما أتاهم به نبي الله إبراهيم وابنه إسماعيل الذي تزوج من جرهم
__________
(1) سورة الروم الآية 30
(2) سورة البقرة الآية 213
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة الصف الآية 9(46/334)
وعاش في مكة وبنى البيت الحرام (الكعبة) مع أبيه خليل الرحمن إبراهيم عليهما السلام، ولم تزل العرب على ذلك حتى جاء عمرو بن لحي الكلاعي، وكان زعيم أهل مكة آنذاك فجاء بالأصنام من البلقان ومن الشام واستخرج أصنام قوم نوح التي طمرها الطوفان، بسبب تلك الرؤيا المشئومة التي أراها إياه الشيطان حيث أعلمه بمواقع تلك الأصنام، فنصبها على الكعبة وأمر العرب بتعظيمها فعظمت، وبدأ ينتشر الشرك عن طريق الواردين على مكة الذين حملوا الأصنام إلى أقوامهم، وبعد ذلك أذن الله ببزوغ نجم الإسلام وظهوره على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وانتشر الإسلام في أنحاء المعمورة على أيدي أصحابه الكرام رضي الله عنهم، ولم يكونوا يعرفون إلا الآيات المحكمات والأحاديث البينات أخذا بقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) فكان أي اختلاف ينتهي بالاتفاق، وكانت أصول الدين عندهم بالمحل الأعظم مما لم يدع مجالا للاختلاف فيها بل كانوا عليها متفقين لوضوحها عندهم ولكمال فهمهم إياها، وهكذا مضى عصر الصحابة، ثم كان التابعون لهم بإحسان مقتفين (2) لآثار الأصحاب مقتدين بهم ومضى عصرهم على ما مضى عليه عصر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ومضى عصر تابعي التابعين على ما عليه القوم قبلهم أيضا ولا يعني ذلك أنه لم
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) انظر الاعتقاد للبيهقي ص (234) ، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1-16) وما بعدها.(46/335)
ترد بعض الوساوس الشيطانية والنوازع النفسية للاختلاف، لكن كمال العلم بدين الله في هذه العصور كان يقطع حبل الاختلاف، قال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب لكن رضي بالتحريش بينكم (1) » ثم نبتت في أوائل المائة الرابعة نبتة لم تعرف الإسلام على أصوله، إما لعدم كمال علمها وإما لفساد طويتها، أو لتأثرها بالدخيل من أفكار الأمم الأخرى سواء ممن أسلم، أو ممن لم يزل على الكفر باطنا وتوج هذا حقد أعداء الإسلام والمسلمين الذين يتربصون بالأمة الإسلامية الدوائر.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/126) .(46/336)
نشأة الفرق في الأمة المحمدية:
هذا وأول نشأة الاختلاف بين طوائف الأمة المحمدية كانت بعد مقتل عثمان رضي الله عنه حيث حدثت بدعة الخوارج والتشيع نتيجة لمقتله رضي الله عنه، وبعد تحكيم الحكمين في موقعة صفين، لكن لم يكن للشيعة آنذاك جماعة ولا إمام ولا دار، ولا سيف يقاتلون به المسلمين، وإنما كانت الشوكة والقوة للخوارج، حيث كان لهم إمام وجماعة ودار، سموها: دار الهجرة، وحكموا على غيرهم من المسلمين بأنهم دار كفر وحرب، ويجمع الطائفتين تكفير ولاة المسلمين، وجمهور الخوارج يكفرون عثمان وعليا ومن تولاهما، والرافضة يلعنون أبا بكر وعمر وعثمان ومن تولاهم، لكن كان فساد الخوارج ظاهرا، لاستحلالهم سفك الدماء، وأخذ الأموال، والخروج بالسيف، بل وفعلوا ما اقتضاه اعتقادهم هذا، فقتلوا عبد الله بن(46/336)
الحباب، وأغاروا على سرح المسلمين؛ ولذا قاتلهم علي رضي الله عنه وعلم بالشاهدة أنهم الذين ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يتجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فيهم رجل مخدج اليد عليها بضع شعرات (1) » ، وفي رواية: «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان (2) » .
وأما الشيعة فكانوا مختفين لا يظهرون لعلي وشيعته وهم ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: هي المؤلهة التي ألهت عليا فأحرقهم بالنار.
والطائفة الثانية: السابة وقد بلغ عليا أن ابن سبأ يسب أبا بكر وعمر فطلبه.
والطائفة الثالثة: المفضلة الذين يفضلون عليا على أبي بكر وعمر وقد تواتر عن علي رضي الله عنه أنه قال: (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر) ، ولم تكن الشيعة الأولى تنازع في أفضلية أبي بكر وعمر على علي رضي الله عنهم، وإنما كانوا يفضلون عليا على عثمان؛ لذا كان شريك بن عبد الله يقول: إن
__________
(1) رواه مسلم، كتاب رقم (50) حديث رقم (65 - 66) طبعة محمد فؤاد عبد الباقي.
(2) رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة ج 2 ص 441 وبعدها رقم الحديث 910، 912، 913، 914 وإسناده صحيح وأصله متفق عليه. انظر: اللؤلؤ والمرجان ج 1 ص 232 - 235 رقم (641، 642، 643، 644) .(46/337)
أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر، فقيل له، تقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال: كل الشيعة كانوا على هذا، وهو الذي قال هذا على أعواد منبره، أفتكذبه فيما قال؟ .
وفي أواخر عهد الصحابة حدثت بدعة القدرية، وأصل بدعتهم عدم تصورهم التوفيق بين قدر الله وأمره ونهيه، ولما سمع بهم ابن عمر قال: (أخبر أولئك أني بريء منهم وأنهم مني براء والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر) فلما كثر الخوض فيه انقسم الناس إلى جمهور مؤمنين بالقدر السابق والكتابة المتقدمة وغير الجمهور وهم القدرية.
ثم حدثت بدعة المعتزلة قبيل موت الحسن حيث اعتزل واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد أصحاب الحسن البصري لما خالفوهم في القدر وأصحاب الكبائر ونحوهما من أصولهم فقال قتادة: أولئك المعتزلة، فصارت سمة لهم، ثم حدثت بدعة المرجئة وتكلموا في الإيمان وعدم دخول الأعمال في مسماه وحرمة الاستثناء ونحو ذلك، ثم حدثت بدعة الجهمية الجامعة لمجمل ضلالات من تقدم من نفي القدر ونفي الصفات والإرجاء ونحوها وليس هذا الترتيب ترتيبا زمنيا ولكن بعض العلماء قد جرى على هذا الترتيب وإنما ختمت بالجهمية لأنها أغلط هذه البدع.(46/338)
أنواع المختلفين في العقائد وأحكامهم:
المختلفون في العقائد على ثلاثة أنواع:
أولا: من عرف الحق واتبعه وسلك السبل الصحيحة للوصول إليه الكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل الصحيح والحس والفطرة المستقيمة، فهذا النوع على الجادة من دين الإسلام وهم السلف الصالح وأتباعهم والذين سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالفرقة الناجية الذين هم على ما عليه رسول الله وأصحابه، وهم الجماعة التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باتباعهم.
ثانيا: من عرف الحق وتركه معرضا بقلبه وفعله، فلا يعتقده ولا يعمل به، وهم على مراتب بحسب ما عندهم من الباطل من بدع مفسقة، أو مكفرة وهم بذلك إما مبتدعون، أو كافرون، وهم أصحاب السبل الذين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتباعهم مفسرا بقوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) ويدخل في هؤلاء كل فرقة بدعية ضالة، أو فرقة خرجت عن الإسلام.
ثالثا: المجتهد المخطئ الذي بذل جهده واستفرغ وسعه وقدرته في الوصول إلى الحق لكنه وقع في الباطل أو بعضه، فهو مما اختلف فيه الناس لا سيما إذا كان ما عليه من الباطل أمرا مكفرا فقالت طائفة: إنه يحكم عليه بما اقتضته بدعته سواء من فسق أو كفر، ولا عذر له في ذلك؛ لأن باب العقائد لا بد فيه من
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(46/339)
القطع، وما كان كذلك فليس هو مجالا للاجتهاد، فهو مخطئ من جهة طريقه ومن جهة النتائج التي توصل إليها، واستدلوا على ذلك بعدة أدلة: منها قوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) فإن هؤلاء يجهلون كون هذا الكلام كفرا ومع ذلك حكم عليهم بالكفر ومنها قوله سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (3) فاستحقوا العذاب في النار، وسبب ذلك أنهم لا يسمعون ولا يفهمون ما يقال لهم فهم جاهلون.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا تهوي به في جهنم سبعين خريفا (4) » والشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يلقي لها بالا» أي أنه جاهل بما توجبه هذه الكلمة ومع ذلك استحق ما يتعلق بها من وعيد، فجهله بما توجبه هذه الكلمة لم يكن له عذرا منجيا من الوعيد المستحق عليها.
وقالت طائفة: إن المخطئ في باب الاعتقاد معذور ولا يلزمه شيء لا في الدنيا ولا في الآخرة واستدلوا على ذلك بعدة أدلة منها قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66
(3) سورة الملك الآية 10
(4) أصله في البخاري كتاب الرقاق باب حفظ اللسان.(46/340)
أخطأ فله أجر واحد (1) » ، وهو عام في الفروع والأصول، فالمخطئ في الأصول معذور أسوة بالمخطئ في الفروع، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (2) » وهو عام في الفروع والأصول فليكن المخطئ في الأصول في الحكم كالمخطئ في الفروع.
ومنها حديث الرجل الذي أوصى أبناءه أنه إذا مات أن يحرقوه ظنا منه أن الله لا يقدر على إعادته وتعذيبه، فهو منكر لقدرة الله على البعث، وإنما فعل ذلك خوفا من الله، ومع ذلك أدخله الجنة وهو والحال ما ذكر مخطئ في الأصول فالمخطئ في الأصول مغفور له كالمخطئ في الفروع.
وقالت طائفة: المخطئ في الأصول تلزمه مقتضياتها في الدنيا؛ من كفر أو تبديع، وما يترتب على ذلك من حد أو تعزير واستتابة وعدم إرثه ونحو ذلك، وأما في الآخرة فأمره إلى الله، وحملوا أدلة الطائفة الأولى على الدنيا، وأدلة الطائفة الأخرى على الآخرة.
وقالت طائفة: إن كان يعلم التحريم فهو كافر، وإن لم يعلم فهو مكفر أو مفسق أو مبدع، واستدلوا بتكفير الله لمن قال: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أكبر بطونا، ولا أجبن عند اللقاء، فنزلت
__________
(1) متفق عليه، رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالسنة 6805، ومسلم في الأقضية 3240.
(2) رواه ابن ماجه في كتاب الطلاق برقم (2033) ، ورواه الطبراني والدارقطني والحاكم بلفظ: '' رفع عن أمتي. . ''، وقال الطبري والبيهقي جوده بشر بن بكر، انظر تخريج أحاديث اللمع ص (149، 150) .(46/341)
الآية بتكفيره؛ وذلك لأنهم عالمون بحرمة ذلك ولم يكونوا يعلمون باقتضاء ذلك للكفر، وقالت طائفة لا أحكم بكفر ولا ببدعة ولا بفسق ولكن أقول هو مكفر ومفسق ومبدع؛ لأنه يعتقد أن ما عليه هو الحق وهو رأي الشيخ جمال الدين القاسمي وهو ضعيف، لأن مقتضاه أن التكفير والتفسيق والتبديع أمور سببية.
والحق: أن الشرع دل على أن لهذه الألفاظ مدلولات حقيقية وعقدية وأنه يترتب عليها من الأحكام الشرعية ما تناسبها واقعيا وهي أحكام ملزمة شرعا.
وأرجح هذه الأقوال فيما يظهر: أن المخطئ يعذر في الدنيا والآخرة ما دام قد بذل جهده في الوصول إلى الحق ولم يقصر في ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وإذا كان كذلك فما عجز الإنسان عن عمله واعتقاده حتى يعتقد ويقول ضده خطأ أو نسيانا فذلك مغفور له) (1) ، وقال: ومن هذا الباب (2) . ما هو من باب التأويل والاجتهاد الذي يكون الإنسان مستفرغا فيه وسعه علما وعملا ثم الإنسان (3) . قد يبلغ ذلك ولا يعرف الحق في المسائل الخبرية الاعتقادية وفي المسائل العملية الاقتصادية (4) ، والله سبحانه قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان بقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (5) .
__________
(1) الاستقامة 1 \ 28.
(2) أي الاختلاف كما يدل عليه ما قبله
(3) أي الاجتهاد
(4) الاقتصادية: أي يطلب الاقتصار على ما ورد به الشرع.
(5) سورة البقرة الآية 286(46/342)
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس ومن حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله استجاب لهم هذا الدعاء وقال: قد فعلت وإنهم لم يقرءوا بحرف منها إلا أعطوه (1) » ، ومما يدل على صحة هذا القول كون ذلك هو وسعه وطاقته والله لم يكلفنا ما لا نطيق، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) وهو داخل في مسمى رفع الحرج كما في قوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3) وهو من يسر الدين كما قال سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (4) ووجه دلالة هذه الآيات أن للقلوب قدرة في باب العلم والاعتقاد العلمي، وفي باب الإرادة والقصد وفي الحركة البدنية، وأيضا فالخطأ والنسيان هو من باب العلم يكون إما مع تعذر العلم عليه، أو تعسره عليه (5) .
__________
(1) الاستقامة 1 \ 26.
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) سورة الحج الآية 78
(4) سورة البقرة الآية 185
(5) الاستقامة (1 \ 28) .(46/343)
أسباب الاختلاف في الدين:
ويمكن أن نتلمس أسباب الخلاف من خلال نصوص الكتاب والسنة وهي كما يلي (1) :
أولا: بغي الخلق بعضهم على بعض وظلمهم لبعضهم كما
__________
(1) انظر: خلاف الأمة في العبادات من مجموع من هدي المدرسة السلفية (111-116) .(46/343)
قال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (1) وقال عز وجل: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} (2) فحب العلو في الأرض وتسلط الخلق بعضهم على بعض هو من أعظم أسباب الخلاف، ولذا فقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه ومن الوقوع فيه فقال: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (3) » .
فاستحلال الدماء من أخطر النتائج التي تترتب على الظلم والبغي، ولذا فقد شرع الله ما يمنع البغي والظلم من الإصلاح فقال سبحانه: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (4) وأوجب على الأمة المحمدية رد الظلم فقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (5) فأمر بالعدل الذي هو ضد الظلم والبغي.
ثانيا: اتباع الهوى الذي يتضمن اتباع ما تهواه النفوس والطبائع وترك ما يأمر به الشرع من العدل والإحسان كما قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (6) فجمع السبل لكثرتها ووحد
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة الجاثية الآية 17
(3) رواه البخاري كتاب العلم الحديث رقم (41) .
(4) سورة الحجرات الآية 10
(5) سورة الحجرات الآية 9
(6) سورة الأنعام الآية 153(46/344)
سبيله لأنه واحد كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (1) واتباع الهوى من أكبر الأسباب في رد الحق والتكبر عليه والإقامة على الباطل والتشبث به كما قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} (2) .
وقال أبو العالية: (وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء) ، ومن هنا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من اتباعه فقال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به (3) » .
ثالثا: اتباع وساوس الشيطان والشيطان عدو لبني آدم كما أخبر الله بذلك بقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (4) وهو لا يألوا جهدا في إضلالهم كما قال سبحانه: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} (5) ، وقال تعالى: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} (6) ، وحذرنا الله من اتباع طرقه ووساوسه فقال: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (7) وأوضح لنا أن التفرق والاختلاف ما هو إلا حبيلة من
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) سورة الجاثية الآية 23
(3) رواه النووي في كتاب الأربعين النووية وقال حديث حسن صحيح، انظر: جامع العلوم والحكم طبعة الحلبي ص (338) الحديث الحادي والأربعون وأشار ابن رجب لانقطاع سنده فهو ضعيف. قلت: لكن الأمة أجمعت على صحة معناه وعلى العمل بمضمونه والأدلة من الكتاب والسنة تدل على معناه وهي لا تحصى.
(4) سورة فاطر الآية 6
(5) سورة القصص الآية 15
(6) سورة النساء الآية 60
(7) سورة البقرة الآية 208(46/345)
حبائله قال تعال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (1) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون ولكن في التحريش بينهم (2) » .
رابعا: اتباع المتشابه: وهو ما لا يعلم معناه إلا الله، وترك المحكم الواضح البين، فقد روى الآجري بسنده عن سعيد بن جبير في قوله عز وجل: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (3) ، قال: أما المتشابهات فهي: آي في القرآن يتشابهن على الناس إذا قرءوهن، من أجل ذلك يضل من ضل ممن يدعي هذه الكلمة، كل فرقة يقرءون آيات من القرآن ويزعمون أنها لهم أصابوا بها الهدى.
وقد حذر الله هذه الأمة من اتباع المتشابهات، فقال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} (4) .
وسبيل أهل الحق: الإيمان بالمتشابه ورده إلى المحكم، فقد روى الآجري بسنده عن ابن عباس قال عن الخوارج: (يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 91
(2) رواه أحمد في مسنده برقم (14288) ، ورواه الترمذي في: (البر والصلة) برقم (1860) .
(3) سورة آل عمران الآية 7
(4) سورة آل عمران الآية 7(46/346)
خامسا: الجهل بالدين فإن في العلم نجاة وفي الجهل هلكة قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1) ، وقال سفيان الثوري: (لعالم واحد أشد على الشيطان من مائة عابد) وقال أبو العالية: (تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه) (2) .
والعلم هو طريق المعرفة بالله ودينه ومن علم دين الله وتمسك بذلك العلم لن يضل السبيل أبدا؛ لأن العلم النافع هو الطريق الصحيح لحفظ الإسلام، قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (3) .
سادسا: إطلاق الألفاظ المشتركة والمجملة المحتملة للحق والباطل وأكثر ما جرى بين الأمة من الاختلاف والفرقة هو بسببها بدءا بانشقاق الخوارج والشيعة بقولهم: (لا حكم إلا لله) وانتهاء بذلك الكم الهائل من الفرق بسبب تلك المصطلحات التي عجت بها كتب العقائد كالافتقار والتركيب والبعض والجزء والجهة والحيز والحد ونحوها مما لا يمكن حصره.
سابعا: الابتداع في الدين بأن يشرع ما لم يشرعه الله لعباده أصلا وهيئة، كما قال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (4) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة وكل
__________
(1) سورة الزمر الآية 9
(2) رواه الآجري في كتاب الشريعة ص (31) .
(3) سورة النساء الآية 83
(4) سورة الشورى الآية 21(46/247)
ضلالة في النار (1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » .
والناظر في أكثر ما جرى من الانقسام في جسم الأمة المحمدية من هذا القبيل إذ كل من انتحل بدعة وانضم إليه آخرون عليها، أنشأ فرقة من الفرق فزاد الشقة والفرقة في الأمة المحمدية كالمعتزلة والأشاعرة والقاديانية والبهائية وغيرها.
ثامنا: الغلو في الدين كما قال سبحانه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (3) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (4) » حديث صحيح.
تاسعا: متابعة الأمم السابقة من اليهود والنصارى وسواهم، روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه (5) » .
__________
(1) سنن أبي داود، كتاب (39) السنة باب (5) .
(2) متفق عليه، صحيح البخاري كتاب الصلح، باب (5) ، صحيح مسلم الأقضية (30) حديث 17.
(3) سورة النساء الآية 171
(4) رواه الإمام أحمد في مسنده (1-215) ، وابن ماجه، كتاب المناسك 25 حديث (29- 30) .
(5) سنن الترمذي، كتاب الفتن باب (18) ، سنن ابن ماجه، كتاب الفتن باب (17) وفي الجهاد باب (40) .(46/348)
وروى الترمذي بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلا بمثل حذو النعل بالنعل وإن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة، قيل من هي يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: ما أنا عليه اليوم وأصحابي (1) » ، وروي أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتأخذن أمتي مأخذ الأمم والقرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع، قيل يا رسول الله كما فعلت فارس والروم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن الناس إلا أولئك (2) » .
وروي أيضا عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم حذو القذة بالقذة (3) » .
قال الآجري: (من تصفح أمر هذه الأمة من عالم عاقل، علم أن أكثرهم والعام منهم تجري أمورهم على سنن أهل الكتابين) (4) .
عاشرا: الثقافات الوافدة نتيجة لترجمة علوم الأمم الأخرى
__________
(1) سنن الترمذي، كتاب الإيمان (38) ، باب (18) باب افتراق هذه الأمة.
(2) رواه البخاري، كتاب: (الاعتصام بالسنة) برقم (7319) .
(3) الشريعة للآجري ص (19) .
(4) الشريعة للآجري ص (20) .(46/349)
كاليونانية والهندية وهي ثقافات وثنية وقد بدأت ترجمتها في أواخر عهد بني أمية في المائة الثانية من الهجرة حيث كان خالد بن يزيد بن معاوية شغوفا بعلوم الأوائل وفلسفتهم ثم زادت حركة الترجمة- بعد توقف- في خلافة المأمون حيث أرسل لملوك البلدان من يجلب ما عندهم من مخطوطات العلوم والفنون فجلبوا له كتب الفلسفة التي اتفقوا على جلبها إلى العالم الإسلامي حتى يفسدوا عليه عقائده ويولدوا الفرقة فيه من داخله وهو نتيجة طبيعية لتلك المناظرات الفلسفية والمعارضات العقدية.
حادي عشر: كيد أعداء الإسلام والذين أظهروا الإسلام قصدا لفت قوته وتقويض دولته وزرع الخلافات بين أهله واتخذوا من الحركات الباطنية والسرية طريقا لنشر أباطيلهم ولقد كان لبعضهم من المكانة والمنزلة ما يسر له ذلك مثل ابن المقفع المجوسي والبرامكة عباد النار ممن كانت لهم صولة وجولة في أيام غيبة الوعي الإسلامي ومن أعظمهم أثرا وأكثرهم خطرا الوزير ابن العلقمي الرافضي والباطني والنصير الطوسي اللذان عن طريقهما قضي على حضارة الإسلام في المشرق عندما هيئوا للتتار طريق الدخول على المسلمين وتحطيم دولتهم والقضاء على معارفهم، كما أن للدول التي نشأت على أنقاض الخلافة الإسلامية كدولة الفاطميين والإسماعيليين والدولة الطولونية والحمدانية الشيعيتين، وغيرهما كالدولة الصفوية أثر كبير في القضاء على وحدة الأمة الإسلامية مما أحالها بعد الاجتماع إلى دويلات متفرقات ذات مشارب بعيدة كل البعد عن الإسلام الحق مما كان سببا في نشر(46/350)
الفرقة بين المسلمين.
ثاني عشر: التأويل الذي به استحلت الأموال والأنفس والفروج وغير وجه الدين عن طريق التأويل الباطني والصوفي والكلامي.
ثالث عشر: الجدل والخصومة في الدين.
رابع عشر: العصبية للآراء والمذاهب.
هذا والدارس لأحوال الفرق التي نشأت في إطار الأمة الإسلامية يجد أن أسباب الخلاف العقدي الجزئية ترجع إلى الأمور التالية:
أولا: الإمامة.
ثانيا: الأسماء والصفات.
ثالثا: أسماء الدين والإسلام.
رابعا القضاء والقدر.
خامسا: الولاء والبراء.
سادسا: مصادر التلقي وموقف طوائف الأمة منها.
سابعا: الوعد والوعيد.(46/351)
أنواع الاختلاف في الدين من حيث الرتبة:
وقد علم مما تقدم أن الاختلاف في الدين جاءت نصوص الكتاب والسنة بذمه مطلقا بدون استثناء ولكن نظرا لأن اختلاف البشر في الطبائع أمر لا ينكر كان الخلاف حتما موجودا وواقعا وهو باعتبار هذا الوقوع نوعان:
الأول: اختلاف في العقائد وما علم بالضرورة من دين الإسلام وجوبه أو تحريمه، أو كان في إطار الفروع الشرعية وأدى إلى الخصومة والتنازع والتعصب فهذا النوع من الخلاف محرم شرعا لوجوه:
أولا: لأن الحق في العقائد واحد لا يتعدد كما قال سبحانه: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (1) .
ثانيا: لأن العقائد وما علم بالضرورة من الدين ثابت بالدليل القاطع اليقيني ومثله يطلب فيه اليقين ولا يقين مع الاختلاف.
ثانيا: لتأديته للفرقة والتنازع وهو محرم فالاختلاف محرم أيضا لأنه وسيلة لهما.
رابعا: أن الفروع الحق فيها واحد، والواجب بذل الجهد في إصابته وأما التعصب للأقوال فلا يكون إلا عن هوى لا عن جد في طلب الحق المدلول عليه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما
__________
(1) سورة يونس الآية 32(46/352)
كان كذلك فهو محرم وما بني عليه وهو الاختلاف محرم.
النوع الثاني من الاختلاف: وهو ما كان المقصود منه طلب الحق المدلول عليه بالكتاب والسنة، لكن لاختلاف الناس في مداركهم وعلومهم يحصل الاختلاف مع اتفاق الكل على طلب ما شرعه الله في واقع الأمر وحقيقته مع عدم التعصب والتنازع في ذلك، فهذا النوع من الخلاف مباح وإن كان الاتفاق واجب ما أمكن إلى ذلك سبيلا لما تقدم من أن النصوص تعم بالذم الخلاف في الأصول والفروع، وإنما جاز الخلاف في الفروع للوجوه التالية:
أولا: أن مدارك الأحكام في الفروع ظنية والمجتهد متعبد بذلك؛ لأنه الأمر الذي يستطيعه قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) فلا يجب عليه أكثر منه؛ لأن إيجاب اليقين عليه تكليف بما لا يستطاع.
ثانيا: لاختلاف الصحابة في أمور الفروع وعدم تضليل بعضهم بعضا مما يدل على أنه مباح.
ثالثا: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد (2) » فلم يخل المجتهد المخطئ من الأجر مما يدل على أنه مباح.
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالسنة (6805) ، ومسلم في الأقضية (3240) .(46/353)
رابعا: لاختلاف الصحابة واجتهادهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره لهم كاختلافهم في مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة (1) » ، فاجتهد بعضهم فصلى العصر في الطريق في وقتها أخذا بحديث الصلاة لوقتها وجعله مخصصا للحديث الأول وصلى بعضهم العصر في بني قريظة بعد أن دخل وقت المغرب تخصيصا للحديث السابق بالأول وقد أقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
خامسا: لأن الحق في الفروع غير متعين عندنا، وقد نصب الشارع عليه أمارات، والأمارات ظنية تختلف الفهوم في دلالتها على الحكم، ونصبها دليل على جواز الاعتماد عليها فيما توصل إليه سواء كان خلافا أو اتفاقا فصار الخلاف في الفروع مباحا.
__________
(1) رواه البخاري، كتاب أبواب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب.(46/354)
أحاديث الافتراق:
أحاديث الافتراق: هي الأقوال النبوية التي نصت أو أشارت إلى انقسام الأمة الإسلامية إلى فرق شتى في البدع والأهواء، ولقد جاءت الأخبار الصحيحة الصادقة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة المحمدية ستنقسم على نفسها في البدع والأهواء أسوة بانقسام من كان قبلها من بني إسرائيل من اليهود والنصارى، بل إن الحق في هذه الأمة تحمله طائفة وقفت عليه وتحملت مسئوليته فهي عنه مدافعة منافحة وذلك أن مصادر الحق في بني إسرائيل محرفة لا(46/354)
يمكن الرجوع إليها عند التنازع والاختلاف، وأما في الأمة المحمدية فليس الأمر كذلك فإن مصادرها محفوظة، بل وقامت الدواعي من جهة النقل على صحتها ينقلها الخلف عن السلف كما قال سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) والرد إلى الله رد إلى كتابه القرآن الكريم والرد إلى الرسول رد إلى سنته وهما محفوظان بحمد الله ومنته قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) .
وقد رويت أحاديث الافتراق بأسانيد كثيرة عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم كأنس بن مالك وأبي هريرة وأبي الدرداء وجابر وأبي سعيد الخدري وأبي بن كعب، وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي أمامة وغيرهم وهي صحيحة الإسناد من حيث النقل متواترة لفظا ومعنى، ومجملها أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة اثنتان وسبعون فرقة ضلت الحق ولم تصبه وقالت بالباطل، لذا فهي مستحقة للوعيد، وفرقة واحدة تمسكت بالحق فهي به قائمة إلى أن تقوم الساعة، وقد أجمل الإمام أبو بكر الآجري هذه الروايات فقال: (أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمة موسى عليه الصلاة والسلام أنهم اختلفوا على إحدى وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة، وأخبرنا صلوات الله وسلامه عليه عن أمة عيسى عليه الصلاة والسلام أنهم اختلفوا على اثنتين وسبعين ملة إحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وقال صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الحجر الآية 9(46/355)
«وتعلو أمتي على الفريقين جميعا تزيد عليهم فرقة واحدة، اثنتان وسبعون منها في النار، وواحدة في الجنة (1) » ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه سئل عن الناجية فقال عليه الصلاة والسلام في حديث: «ما أنا عليه وأصحابي (2) » ، وفي حديث قال: «السواد الأعظم» ، وفي حديث قال: «واحدة في الجنة (3) » .
وقد اختلف أهل العلم في معنى جملة «كلها في النار إلا واحدة (4) » على قولين:
الأول منهما: أن الأمة الواردة في قوله: «وتفترق أمتي (5) » هي أمة الإجابة وهم المسلمون، فيكون المراد بقوله: «كلها في النار (6) » أن ما عدا الفرقة الناجية مستحق للنار مستوجب للوعيد لا أنه مخلد فيها لأنه لا يخلد أحد من عصاة هذه الأمة في النار.
الثاني: أن المراد بالأمة: هي ما يشمل أمة الدعوة فيدخل في مسمى الأمة المسلمون، وعندئذ يكون معنى «كلها في النار (7) » هم الكفار والناجية هي أمة الإجابة ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يسمع بي أحد من أمتي يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار (8) » .
والقول الراجح والله أعلم هو المعنى الأول، وذلك لأن أمة
__________
(1) الشريعة للآجري ص (14) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2641) .
(3) سنن ابن ماجه الفتن (3992) .
(4) سنن ابن ماجه الفتن (3993) ، مسند أحمد بن حنبل (3/120) .
(5) سنن الترمذي الإيمان (2640) ، سنن أبو داود السنة (4596) ، سنن ابن ماجه الفتن (3991) ، مسند أحمد بن حنبل (2/332) .
(6) سنن ابن ماجه الفتن (3993) ، مسند أحمد بن حنبل (3/120) .
(7) سنن ابن ماجه الفتن (3993) ، مسند أحمد بن حنبل (3/120) .
(8) رواه الإمام أحمد في مسنده (2-317) المكتب الإسلامي.(46/356)
الإجابة ليس العصاة منها محكوم لهم بالنجاة مطلقا، وظاهر الحديث إثبات النجاة على الإطلاق للفرقة الناجية، ولأن الحكم على ما عدا الناجية بالنار يدخل فيه العصاة والكفار من باب أولى فيكون على القول الأول المعنى أشمل، ويستفاد منه معنى أكثر من القول الثاني، ومما يقوى القول الأول حديث أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أني قد رأيت إخواننا، قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطكم على الحوض قالوا: يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيتم لو كان لأحدكم خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم ألا، فيقال: قد بدلوا بعدك، فأقول: فسحقا فسحقا فسحقا (1) » ووجه دلالة الحديث أن قوله صلى الله عليه وسلم: «فليذادن رجال عن حوضي (2) » . . . إلى قوله: «أناديهم ألا هلم (3) » مشعر بأنهم أمته وأنه عرفهم وقد بين أنهم بالغرر والتحجيل، فدل ذلك على أن هؤلاء الذين دعاهم قد كانوا بدلوا ذوو غرر وتحجيل.
وذلك من خاصية هذه الأمة فبان أنهم معدودون من الأمة
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب (52) ، ومسلم في كتاب الطهارة حديث (29) .
(2) صحيح البخاري المساقاة (2367) ، صحيح مسلم الطهارة (249) ، سنن ابن ماجه الزهد (4306) ، مسند أحمد بن حنبل (2/300) ، موطأ مالك الطهارة (60) .
(3) صحيح مسلم الطهارة (249) ، سنن ابن ماجه الزهد (4306) ، مسند أحمد بن حنبل (2/300) ، موطأ مالك الطهارة (60) .(46/357)
ولو حكم لهم بالخروج من الأمة لم يعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة أو تحجيل لعدمه عندهم (1) .
هذا وقد اختلف أهل العلم في مفهوم العدد في قوله: «وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة (2) » بعد تعيينهم للفرقة الناجية فمنهم من قال: إن المراد بالعدد هو التكثير لا التحديد وأن هذه الأمة سيكثر الافتراق فيها ودليل ذلك حديث: «خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليها شيطان يدعو إليه ثم قرأ: (4) » .
ولا شك في أن طرق الشيطان وسبله ليست محدودة بعدد، ولكن يكدر عليه مقابلة عدد الأمة بعدد أهل الكتاب، ومنهم من قال: بل إن هذا العدد مقصود وأن المراد أن هذه الفرق أكثرها خطرا وأعظمها شرا هذا العدد، ومنهم من قال: بل إن عدد الفرق محصور في هذا العدد، لكن لم يأت بيان بتعيينها خشية أن تظهر بدع غيرها داخلة في نطاقها ثم يظن أنها ليست ببدع، وبناء على هذا القول الأخير خاض العلماء في تحديد فرق الضلال بحسب ما أداهم إليه اجتهادهم وليس ذلك عن يقين بل عن ظن غالب، وقد رجح الشاطبي رحمه الله القول الأول لعدم الدليل على
__________
(1) الاعتصام (2 \ 205) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2640) ، سنن أبو داود السنة (4596) ، سنن ابن ماجه الفتن (3991) ، مسند أحمد بن حنبل (2/332) .
(3) رواه الإمام أحمد في مسنده 1 \ 435 وحسنه الألباني في تحقيقه على السند لابن أبي عاصم رقم (17) .
(4) سورة الأنعام الآية 153 (3) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}(46/358)
التعيين ولعدم اقتضاء العقل له، إذ لا فائدة في التعيين بل ربما حصلت به مضرة ولما في القول بالتعيين من تكلف ولما يترتب عليه من ذم لما يعين ثم ترتيب الأحكام الشرعية، وقد توج ترجيحه هذا بأن التعيين فيه قبح من جهتين:
الأولى: أن الإشارة إلى الأوصاف كافية في العلم بمجانبتها للحق.
الثانية: لأن في عدم التعيين سترا للأمة وعدم نشر لمساوئها إلا أن الشارع نص على طائفتين وهم الخوارج والقدرية وذلك لعظم الضرر بهم ولدعوتهم لضلالهم وسهولة انخداع العامة بهم والذي يظهر وجاهة ما قاله الشاطبي في الجملة (1) وعليه فيكون الراجح عندنا هو القول الأول.
__________
(1) انظر الاعتصام (2 \ 223- 230) .(46/359)
الخاتمة
الفرقة الناجية صفاتها وخصائصها:
المراد بالفرقة الناجية: هي الطائفة التي نجت من الخلود في النار وإن كان منها من قد يعذب أو يكون مستحقا للعذاب لكنه نجي بعفو الله ورحمته وقد ورد وصف هذه الفرقة بالنجاة في قوله صلى الله عليه وسلم: «اثنتان وسبعون منها في النار وواحدة منهم في الجنة (1) » من حديث أنس بن مالك ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
وإنما استحقت هذا الوصف لأنها تمسكت بالحق الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويدل ذلك على قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله من هي يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي (2) » .
فظهر بذلك أن ميزان الحق هو اتباع ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأن ميزان الباطل مخالفة ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وأن حظ المسلم من النجاة يقدر بقدر ما فيه من الاتباع كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (3) ، وقوله صلى الله عيه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به (4) »
__________
(1) رواه الترمذي في سننه وقال: هذا مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه رقم (2641) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2641) .
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) تقدم تخريجه والكلام عليه ص 345.(46/360)
صفات الفرقة الناجية:
قد وردت نصوص السنة ببيان عدد من الصفات نستطيع من خلالها أن نتعرف على هذه الفرقة وهي:
أولا: ما تقدم من اتباعها لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ثانيا: اجتماعهم على الحق وعدم تفرقهم كما قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن هذه الطائفة: «ما أنا عليه وأصحابي (1) » .
ثالثا: كونهم السواد الأعظم من الأمة وقد عرفها الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «كلها في النار إلا السواد الأعظم (2) » وهذا من منة الله على هذه الأمة أن يكون أكثرها على الحق والإشارة هنا والله أعلم للصحابة والتابعين لأنهم كانوا السواد الأعظم من الأمة لا سيما إذا قرن ذلك مع قوله صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (3) » ، وأما بعد هؤلاء فلا عجب إن قل أصحاب الحق.
ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2641) .
(2) روى ابن ماجه قريب من معناه كتاب الفتن باب (8) ورواه الآجري في كتاب الشريعة ص (17) .
(3) متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه بلفظ: '' خير الناس '' كتاب التفسير (3) ورواه بلفظ: ''خير أمتي'' كتاب فضائل الصحابة باب (1) ، ومسلم، كتاب الإمارة (71) بلفظ: ''خير الناس''.(46/361)
كما بدأ (1) » ، مع قوله: «فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس (2) » ، وفي رواية: «يصلحون ما أفسده الناس (3) » ، وحديث: «يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر (4) » وغيرها كثير.
رابعا: وسماها الناجية لنجاتها من الخلود في النار كما تقدم.
خامسا: كونهم ظاهرين على الحق وهذا لوضوح الأدلة والبراهين على صحة ما اعتقدوه ويدل عليه حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال ناس من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون (5) » متفق عليه.
سادسا: كون العاقبة لهم ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم من الحديث السابق الذكر: «حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون (6) » .
سابعا: أنه لا يضرهم خذلان من خذلهم كما جاء في حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين
__________
(1) رواه مسلم (2 \ 176) طبعة عبد الباقي، والترمذي بلفظ قريب منه (7 \ 288) ، وقال حديث حسن صحيح.
(2) صحيح مسلم كتاب الإيمان (145) ، سنن الترمذي كتاب الإيمان (2629، 2630) ، سنن ابن ماجه كتاب الفتن (3986، 3987، 3988) ، مسند أحمد بن حنبل (1/184) ، كتاب مسند المكثرين من الصحابة (1/398) ، كتاب باقي مسند المكثرين (2/389) ، كتاب أول مسند المدنيين رضي الله عنهم أجمعين (4/74) ، سنن الدارمي كتاب الرقاق (2755) .
(3) سنن الترمذي كتاب الإيمان (2630) .
(4) رواه الترمذي بلفظ قريب منه وقال: هذا الحديث غريب من هذا الوجه (7 \ 39) ورواه ابن بطة في كتاب الإبانة (1 \ 196) .
(5) متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب (39) ، ومسلم كتاب الإمارة الأحاديث (170، 171، 172، 175، 177) .
(6) صحيح البخاري فرض الخمس (3116) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) .(46/362)
على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك (1) » رواه مسلم.
ثامنا: شهرة مذهبهم وظهوره على سواه فهم لا يكتمون من الحق شيئا وهو داخل في مدلول قوله صلى الله عليه وسلم: «ظاهرين على الحق (2) » .
تاسعا: أنهم منصورون على من عارضهم بالحجة والبرهان أو بالسيف والسنان كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي منصورين (3) » فهي ناصرة للحق مدافعة عنه، والله مؤيد لهم ولا بد، وستكون الغلبة لهم.
عاشرا: أنهم غرباء في آخر الزمان مع قوة وعزة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «فطوبى للغرباء. . . (4) » الحديث، مع قوله صلى الله عليه وسلم: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ (5) » المعنى في قلة رجاله وقوتهم.
حادي عشر: أنهم يدعون إلى الحق على علم وبصيرة كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (6) .
ثاني عشر: أنهم متبعون موحدون قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (7) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (8)
__________
(1) متفق عليه، صحيح البخاري، الاعتصام باب (10) ، ومسلم كتاب الإيمان حديث (347) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه الفتن (3952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .
(3) رواه ابن ماجه في سننه، المقدمة رقم (7) (1 \ 5) باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) طبعة محمد فؤاد عبد الباقي.
(4) صحيح مسلم كتاب الإيمان (145) ، سنن الترمذي كتاب الإيمان (2629، 2630) ، سنن ابن ماجه كتاب الفتن (3986، 3987، 3988) ، مسند أحمد بن حنبل (1/184) ، كتاب مسند المكثرين من الصحابة (1/398) ، كتاب باقي مسند المكثرين (2/389) ، كتاب أول مسند المدنيين رضي الله عنهم أجمعين (4/74) ، سنن الدارمي كتاب الرقاق (2755) .
(5) صحيح مسلم الإيمان (146) .
(6) سورة يوسف الآية 108
(7) سورة الأنعام الآية 162
(8) سورة الأنعام الآية 163(46/363)
وقال صلى الله عليه وسلم: «من رغب عن سنتي فليس مني (1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » .
__________
(1) رواه البخاري (9) رقم (5063) من فتح الباري، ومسلم (2) رقم (1401) طبعة عبد الباقي.
(2) رواه البخاري، كتاب الصلح باب (5) رقم (2697) طبعة عبد الباقي، ومسلم كتاب الأقضية حديث (17) رقم (1718) طبعة عبد الباقي.(46/364)
خصائص الفرقة الناجية:
وقد تميزت هذه الفرقة بصفات خاصة بها تعرف، وبناء عليها يمكن أن تصح النسبة إليها وهي:
أولا: تمسكها بالقرآن والسنة النبوية واعتبارهما مصدرا من مصادر التلقي وعدم تقديم أي شيء عليهما من هوى أو كشف أو ذوق أو حس أو عقل.
ثانيا: عنايتها بآثار السلف وعدم ميلها عنها.
ثالثا: محاربتها للبدع في الدين.
رابعا: أن تمسكها قام على علم وبصيرة بدين الله.
خامسا: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم وعدم الخروج عليهم وشق عصا الطاعة إلا أن يروا كفرا بواحا.(46/364)
سادسا: السمع والطاعة لأئمة المسلمين في المنشط والمكره ما دام ذلك في طاعة الله والصبر عليهم وإن جاروا.
سابعا: الدعاء لأئمة المسلمين مع أمرهم لهم بالمعروف ونهيهم لهم عن المنكر.
ثامنا: حبهم لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وترضيهم عنهم وعدم الخوض فيما شجر بينهم مع الاقتداء بهم والاعتذار لهم فيما حصل بينهم.
تاسعا: تركهم للجدل المذموم والخصومة في الدين والمراء في القرآن والسنة مع المناصحة لخاصة المسلمين وعامتهم.
عاشرا: عدم تكفيرهم لأحد من أهل القبلة بذنب من الذنوب إلا أن يكون مكفرا لهم عليه من الله برهان.
حادي عشر: إن الإيمان اعتقاد وقول وعمل.
ثاني عشر: جواز الاستثناء في الإيمان بلا شك وكراهته مع التزكية.
ثالث عشر: إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة.
رابع عشر: الإيمان بالقضاء والقدر السابق.
خامس عشر: الإيمان بكل اسم أو صفة وردت في الكتاب والسنة من غير تمثيل ولا تعطيل ولا تحريف ولا تكييف.(46/365)
سادس عشر: الإيمان بمشيئة الله النافذة وعلمه السابق وخلقه لأفعال العباد وكتابته لها في اللوح المحفوظ.
سابعا عشر: الإيمان بأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته وأن كلامه منزل غير مخلوق، وأنه بصوت وحرف.
ثامن عشر: اجتماعهم على الحق وعدم تفرقهم فيه.
تاسع عشر: أن أهل الكبائر إذا ماتوا ولم يتوبوا فهم تحت مشيئة الله إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم، وأنهم في النار لا يخلدون ومآلهم إلى الجنة.
عشرون: إثبات الشفاعة لأهل الكبائر.
حادي وعشرون: عدم اتباعهم للمتشابه من القرآن والسنة (1) .
ثاني وعشرون: التصديق بكل ما ورد في الكتاب والسنة سواء فهموا معناه أو لم يفهموا فما فهم حقه الإيمان على التفصيل، وما لم يفهم حقه الإيمان على الإجمال على معنى أن كل ما أخبر الله به أو رسوله حق، وأنهم يؤمنون به على مراد الله ومراد رسوله.
ثالث وعشرون: الوسطية المتضمنة لكونهم على الحق رافضين الباطل، باطل من غلا فزاد على الحق ما ليس منه، وباطل من جفا بأن قصر في اتباع الحق فترك شيئا منه كما قال سبحانه:
__________
(1) انظر عقيدة الصابوني ص (22) .(46/366)
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (1) .
رابع وعشرون: إيمانهم باستواء الله على عرشه وعلوه على خلقه كما قال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) ، وقال سبحانه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (3) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة الأنعام الآية 18(46/367)
صفحة فارغة(46/368)
نصيحة مهمة عامة
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه:
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين وفقني الله وإياهم للفقه في الدين وسلك بي وبهم صراطه المستقيم.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فهذه نصيحة أردت منها التنبيه على بعض الأمور المنكرة التي وقع فيها كثير من الناس جهلا منهم، وتلاعبا من الشيطان بأفكارهم وعقولهم واتباعا للهوى من بعض من فعلها.
ومن تلك الأمور ما بلغني أن بعض الناس يدعو إلى عبادة نفسه، ويدعي أمورا توهم العامة أن له تصرفا في الكون، وأنه يصلح أن يدعى للنفع والضر، وهذا من هؤلاء الضالين تشبه بفرعون وأشباهه من المجرمين الكافرين والله سبحانه هو المستحق للعبادة ولا يستحقها سواه لكمال قدرته وعلمه وغناه عن خلقه.
والعبادة لله وحده هي الغاية التي من أجلها أرسلت الرسل(46/369)
وأنزلت الكتب وخلق من أجلها الثقلان وقام سوق الجهاد، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ، وقال عز وجل: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (2) {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (3) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (4) ، وقال عز وجل: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (5) ، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (6) ، وقال عز وجل: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (7) ، وقال سبحانه: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (8) .
وقال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (9) ، وقال
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الأحقاف الآية 5
(3) سورة الأحقاف الآية 6
(4) سورة المؤمنون الآية 117
(5) سورة يونس الآية 106
(6) سورة النساء الآية 48
(7) سورة لقمان الآية 13
(8) سورة المائدة الآية 72
(9) سورة التوبة الآية 31(46/370)
عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) .
فعلم من هذه الآيات وغيرها أن عبادة غير الله أو عبادة غيره معه من الأنبياء والأولياء والأصنام والأشجار والأحجار شرك بالله عز وجل ينافي توحيده الذي من أجله خلق الله الثقلين وأرسل الرسل وأنزل الكتب لبيانها والدعوة إليها، وهذا هو معنى لا إله إلا الله. فإن معناها لا معبود حق إلا الله. فهي تنفي العبادة من غير الله وتثبتها لله وحده، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (2) .
وهذا هو أصل الدين وأساس الملة ولا تصح العبادات إلا بعد صحة هذا الأصل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) ، وقال عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) ، ومن أجل هذا الأمر العظيم أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لبيان التوحيد والدعوة إليه والتحذير من صرف العبادة لغير الله سبحانه، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5) الآية، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (6)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الحج الآية 62
(3) سورة الزمر الآية 65
(4) سورة الأنعام الآية 88
(5) سورة النحل الآية 36
(6) سورة الأنبياء الآية 25(46/371)
وقال عز وجل: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (1) {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} (2) ، وقال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سئل أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك (4) » ، والند: هو النظير والمثيل فكل من دعا غير الله، أو عبد غير الله، أو استغاث به، أو نذر له، أو ذبح أو صرف له شيئا من العبادة، فقد اتخذه ندا لله سواء كان نبيا أو وليا أو ملكا أو جنيا أو صنما أو غير ذلك لأن العبادة لله وحده لا يستحقها سواه.
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا (5) » .
ف الله خلق الثقلين لهذا الأمر العظيم وهو توحيده وإفراده بالعبادة ونبذ الشركاء والنظراء والأنداد سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه، ومن دعا إلى عبادة نفسه، أو زعم أنه يستحق العبادة فإنه كافر يجب أن يدعى إلى التوبة فإن تاب وإلا وجب على ولي
__________
(1) سورة هود الآية 1
(2) سورة هود الآية 2
(3) سورة إبراهيم الآية 52
(4) صحيح البخاري تفسير القرآن (4477) ، صحيح مسلم الإيمان (86) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3183) ، سنن النسائي تحريم الدم (4014) ، سنن أبو داود الطلاق (2310) ، مسند أحمد بن حنبل (1/434) .
(5) صحيح البخاري التوحيد (7373) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/234) .(46/372)
الأمر قتله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » رواه البخاري.
ومن الضلال المبين والجهل العظيم تصديق الكهان والعرافين والرمالين والمنجمين والمشعوذين والدجالين بالإخبار عن المغيبات فإن هذا منكر وشعبة من شعب الكفر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (2) » رواه مسلم في صحيحه. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن إتيان الكهان وسؤالهم» .
وخرج أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (3) » .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة فالواجب على المسلمين الحذر من سؤال الكهنة والعرافين وسائر المشعوذين والمشتغلين بالإخبار عن المغيبات والمتلاعبين بعقول الجهلة والتلبيس على المسلمين. فالأمور الغيبية لا يعلمها إلا الذي يعلم ما تكن الصدور ويعلم الخفايا، حتى أنبيائه ورسله وملائكته لا يعلمون شيئا من المغيبات إلا ما أخبرهم به سبحانه، قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (4) .
وقال عز وجل: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} (5)
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017) ، سنن الترمذي الحدود (1458) ، سنن النسائي تحريم الدم (4060) ، سنن أبو داود الحدود (4351) ، سنن ابن ماجه الحدود (2535) ، مسند أحمد بن حنبل (1/282) .
(2) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (5/380) .
(3) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(4) سورة النمل الآية 65
(5) سورة الأنعام الآية 50(46/373)
وقال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) .
وهذه الآيات وغيرها تدل على أن رسول الله صلى الله عليه سلم لا يعلم الغيب وهو خير الأنبياء وأفضلهم فكيف بغيره من المخلوقين. فمن اعتقد أنه يعلم الغيب أو أحدا من المخلوقين فقد أعظم على الله الفرية وأبعد النجعة وضل ضلالا بعيدا وكفر بالله سبحانه فالأمور المغيبة مما استأثر الله بعلمه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (2) ، قال ابن مسعود: كل شيء أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم غير خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (3) الآية، وقال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى. ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل. فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه.
ثم إن الأنبياء يعلمون كثيرا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم. فالإيمان بالغيب من أركان الإيمان، ومن صفات المؤمنين الصادقين. وادعاء علم الغيب والإخبار بالمغيبات من صفات الكهنة الزائغين عن الهدى، ومن صفات الدجالين
__________
(1) سورة الأعراف الآية 188
(2) سورة لقمان الآية 34
(3) سورة لقمان الآية 34(46/374)
والمشعوذين والعرافين الذين ضلوا عن الصراط المستقيم وأضلوا غيرهم من جهال المسلمين، وقد قال سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (1) الآية.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مفاتيح الغيب خمس (2) » ثم قرأ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} (3) الآية.
فالواجب على أهل العلم أن ينبهوا على ما يقع فيه الناس من الخطأ العظيم في هذا الباب وغيره. لأنهم مسئولون عنهم أمام الله يوم القيامة قال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (4) ، وكذا الاعتقاد أن بني هاشم ذنبهم مغفور ولو فعلوا ما فعلوا، وهذا غاية الجهل والضلال. فإن الله لا ينظر إلى الأحساب والأنساب والأموال وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال، فمن امتثل أوامره واجتنب نواهيه ولازم التقوى وابتعد عن المعاصي والمخالفات فهو الكريم عند الله سواء كان عربيا أو عجميا، وسواء كان من بني هاشم أو من غيرهم فالأحساب والأنساب لا تنفع أحدا، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (5) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (6) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت
__________
(1) سورة الأنعام الآية 59
(2) صحيح البخاري التوحيد (7379) ، مسند أحمد بن حنبل (2/24) .
(3) سورة لقمان الآية 34
(4) سورة المائدة الآية 63
(5) سورة الحجرات الآية 13
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، سنن أبو داود البيوع (3443) .(46/375)
صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب (1) » . وهذا أبو طالب وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينفعه قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبه العريق، وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يشهد أن لا إله إلا الله حتى يحاج له بها عند الله فلم يفعل، لأن الله سبحانه كتب في الأزل أنه يموت على دين الآباء والأجداد، وهو الشرك وعبادة الأصنام، ونهى الله نبيه عن الاستغفار له فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} (2) ، وأخبر سبحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك هداية أحد إذا لم يهده الله فقال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (3) ، وهكذا أبو لهب وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم مات على الكفر وأنزل الله في ذمه سورة تتلى إلى يوم القيامة وهي: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (4) .
فالمعيار الحقيقي هو اتباع ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة قولا وعملا واعتقادا، أما الأنساب فإنها لا تنفع ولا تجدي كما قال صلى الله عليه وسلم: «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه (5) » ، وقال: «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا (6) » ، وهكذا قال لعمه العباس وعمته صفية وابنته فاطمة. ولو كان النسب ينفع أحدا لنفع هؤلاء.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(2) سورة التوبة الآية 113
(3) سورة القصص الآية 56
(4) سورة المسد الآية 1
(5) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(6) صحيح البخاري الوصايا (2753) ، صحيح مسلم الإيمان (206) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3185) ، سنن النسائي الوصايا (3646) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) ، سنن الدارمي الرقاق (2732) .(46/376)
ومن الأمور المنكرة والاعتقاد الفاسد والضلال المبين ما يعتقده بعض المغفلين والجهال في بعض المخرفين والمشركين الضالين المضلين، أنهم يشفون المرضى ويدفعون عنهم الضر ويجلبون النفع، نعوذ بالله من العمى والضلال. وهذا ينافي الإيمان بالله وأنه النافع الضار الرازق المحيي المميت المدبر القادر، تعالى الله وتقدس عما يقوله الضالون المفترون، قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} (1) ، فمن اعتقد أن أحدا ينفعه أو يضره أو يشفيه من دون الله فقد كفر بالله وبكتابه وبملائكته ورسله، قال تعالى لأكرم خلقه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (2) {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (3) {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (4) ، وقال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (5) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله (6) » .
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا لغيره، فغيره من باب أولى. فكل من غلا في نبي أو رجل صالح أو ولي من الأولياء وظن فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول يا فلان اشفني أو انصرني أو ارزقني أو أغنني ونحو ذلك، فإن هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل. وكذا من جعل بينه
__________
(1) سورة يونس الآية 107
(2) سورة الجن الآية 21
(3) سورة الجن الآية 22
(4) سورة الجن الآية 23
(5) سورة الأعراف الآية 188
(6) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .(46/377)
وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم فإنه يكفر إجماعا فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو جني أو روح أو غير ذلك تأثيرا في كشف كربة أو قضاء حاجة أو رفع مرض أو دفع بلاء دون الله سبحانه، فقد وقع في ضلال كبير وفي واد من الجهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير لكونه قد أشرك بالله العظيم، وهكذا من ذكر أحدا من الصالحين والأولياء وغيرهم على وجه طلب الإمداد منه فقد أشركه مع الله، إذ لا قادر على الدفع والنفع غيره سبحانه وتعالى.
أما دعاء الحي الحاضر القادر والاستعانة به فيما يقدر عليه مما يجوز شرعا فلا حرج في ذلك، وليس داخلا في أنواع الشرك بإجماع المسلمين لقول الله عز وجل في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) ولأدلة أخرى من الكتاب والسنة في هذا المعنى والله ولي التوفيق.
ومن الأمور المنكرة أن بعض من يدعي أنه من بني هاشم يقولون إنه لا يكافئهم أحد، فهم لا يزوجون غيرهم ولا يتزوجون من غيرهم وهذا خطأ عظيم وجهل كبير وظلم للمرأة وتشريع لم يشرعه الله ورسوله، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (2) .
__________
(1) سورة القصص الآية 15
(2) سورة الحجرات الآية 13(46/378)
وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) ، وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (2) ، وقال سبحانه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (3) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب (4) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين (5) » متفق عليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض (6) » خرجه الترمذي وغيره بإسناد حسن، وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية من زيد بن حارثة مولاه، وزوج فاطمة بنت قيس القرشية من أسامة بن زيد وهو وأبوه عتيقان. وتزوج بلال بن رباح الحبشي بأخت عبد الرحمن بن عوف الزهرية القرشية. وزوج أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة القرشي ابنة أخيه الوليد سالما مولاه وهو عتيق لامرأة من الأنصار. وقد قال الله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (7) . وكذا زوج النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة آل عمران الآية 195
(4) مسند أحمد بن حنبل (5/411) .
(5) صحيح البخاري الأدب (5990) ، صحيح مسلم الإيمان (215) ، مسند أحمد بن حنبل (4/203) .
(6) سنن الترمذي النكاح (1084) ، سنن ابن ماجه النكاح (1967) .
(7) سورة النور الآية 26(46/379)
ابنتيه رقية وأم كلثوم عثمان، وزوج أبا العاص بن الربيع ابنته زينب وهما من بني عبد شمس وليسا من بني هاشم، وزوج علي عمر بن الخطاب ابنته أم كلثوم وهو عدوي لا هاشمي، وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين بن علي وهو أموي لا هاشمي، وتزوج مصعب بن الزبير أختها سكينة وليس هاشميا بل أسدي من أسد قريش، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة ابنة الزبير بن عبد المطلب الهاشمية ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم وهو كندي لا هاشمي، وهذا شيء كثير.
والمقصود بيان بطلان ما يدعيه بعض الهاشميين من تحريم تزويج الهاشمية بغير الهاشمي أو كراهة ذلك، وإنما الواجب في ذلك اعتبار كفاءته في الدين، فالذي أبعد أبا طالب وأبا لهب عدم الإسلام، والذي قرب سلمان الفارسي وصهيبا الرومي وبلالا الحبشي، إنما هو الإيمان والصلاح والتقوى واتباع الشرع والسير على النهج المستقيم، ومما ينجم عن هذا الجهل والتصرف الباطل حبس النساء الهاشميات وتعطيلهن من الزواج أو تأخيره فيحصل ما لا تحمد عقباه من الفساد وتعطيل النسل أو تقليله، وقد قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1) ، فأمر بإنكاح الأيامى أمرا مطلقا ليعم الغني والفقير وسائر أصناف المسلمين.
وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد رغبت في الزواج وحثت عليه
__________
(1) سورة النور الآية 32(46/380)
فإن على المسلمين أن يبادروا إلى امتثال أمر الله وأمر رسوله حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (1) » متفق على صحته، فعلى الأولياء أن يتقوا الله في مولياتهم، فإنهن أمانة في أعناقهم وإن الله سائلهم عن هذه الأمانة، فعليهم أن يبادروا إلى تزويج بناتهم وأخواتهم وأبنائهم حتى يؤدي كل دوره في هذه الحياة ويقل الفساد والجرائم.
ومن المعلوم أن حبس النساء عن الزواج أو تأخيره سبب في فشو الجرائم الأخلاقية وانتشارها، التي هي من معاول الهدم والدمار، فيا عباد الله اتقوا الله في أنفسكم وفيمن ولاكم الله عليهم من البنات والأخوات وغيرهن وفي إخوانكم المسلمين واسعوا جميعا إلى تحقيق الخير والسعادة في المجتمع وتيسير سبل نموه وتكاثره وإزالة أسباب انتشار الجرائم. واعلموا أنكم مسئولون ومحاسبون ومجزيون على أعمالكم، قال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (2) {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) ، وقال عز وجل: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (4) ، وبادروا إلى تزويج بناتكم وأبنائكم مقتدين بنبيكم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم والسائرين
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5066) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي الصيام (2240) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2166) .
(2) سورة الحجر الآية 92
(3) سورة الحجر الآية 93
(4) سورة النجم الآية 31(46/381)
على هديهم وطريقتهم، وأوصيكم بتقليل مؤن الزواج وعدم المغالاة في المهور واقتصدوا في تكاليف الزواج واجتهدوا في اختيار الأزواج الصالحين الأتقياء ذوي الأمانة والعفة.
رزق الله الجميع الفقه في الدين والثبات عليه، وأعاذنا وإياكم وسائر المسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وجنبنا وإياكم مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، كما نسأله أن يصلح ولاة أمور المسلمين ويصلح بهم إنه على ذلك قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(46/382)
حديث شريف
عن عبادة بن الوليد بن عبادة عن أبيه عن جده قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم (1) »
(رواه مسلم في كتاب الإمارة)
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7056) ، صحيح مسلم الإمارة (1709) ، سنن الترمذي الحدود (1439) ، سنن النسائي البيعة (4154) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2866) ، مسند أحمد بن حنبل (5/319) ، موطأ مالك الجهاد (977) ، سنن الدارمي السير (2453) .(46/383)
بسم الله الرحمن الرحيم
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (2) {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} (3) {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (4) {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (5)
سورة العلق الآيات 1 - 5
__________
(1) سورة العلق الآية 1
(2) سورة العلق الآية 2
(3) سورة العلق الآية 3
(4) سورة العلق الآية 4
(5) سورة العلق الآية 5(47/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(47/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(47/3)
المحتويات
الافتتاحية
مسئولية طالب العلم لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة
من صور البورصة (القسم الثاني) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 23
الفتاوى
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 121
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 157(47/4)
البحوث
درجة حديث الصدوق للدكتور / عبد العزيز بن سعد التخيفي 175
الإنكار في مسائل الخلاف للدكتور / عبد الله بن عبد المحسن بن منصور الطريقي 193
المصلحة عند الحنابلة للشيخ / سعد بن ناصر الشثري 275
مفاسد القول بالمجاز للشيخ / مصطفى بن عيد الصياصنة 323
الربا وأنواعه للشيخ / علي بن قاسم الفيفي 349
بيان من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية 367
الآداب الإسلامية لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 371(47/5)
صفحة فارغة(47/6)
الافتتاحية
مسئولية طالب العلم
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1(47/7)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (1) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (2) .
أما بعد:
أيها الإخوة في الله. . أيها الأبناء الكرام. . فإني أشكر الله - عز وجل - على ما من به من هذا اللقاء، وأسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا، وأن ينفعنا به جميعا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يهدينا جميعا سواء السبيل، فنعم الله لا تحصى، وفضله لا يستقصى، فهو المنعم بكل النعم كما قال سبحانه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (3) . وقال عز وجل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (4) .
فنشكره سبحانه، ونسأله المزيد من فضله لنا ولكم ولجميع المسلمين في كل مكان.
أيها الإخوة في الله، أيها الأبناء الأعزاء، عنوان الكلمة هو: (مسئولية طالب العلم في المجتمع) ، فالموضوع موضوع عظيم، ومسئولية طالب العلم مسئولية كبيرة، وهي متفاوتة على حسب ما عنده من العلم، وعلى حسب حاجة الناس إليه، وعلى حسب قدرته وطاقته.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 70
(2) سورة الأحزاب الآية 71
(3) سورة النحل الآية 53
(4) سورة النحل الآية 18(47/8)
فهناك مسئولية من جهة نفسه؛ من جهة إعداد هذه النفس للتعليم والدعوة وأداء الواجب، ومن جهة العناية بالعلم والتفقه في الدين، ومراجعة الأدلة الشرعية والعناية بها، فإن طالب العلم بحاجة شديدة إلى أن يكون لديه رصيد عظيم من الأدلة الشرعية، والمعرفة بكلام أهل العلم وخلافهم، ومعرفة بالراجح في مسائل الخلاف بالدليل من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بدون تقليد لزيد وعمرو، فالتقليد كل يستطيعه، وليس من العلم في شيء.
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر الإمام المشهور، صاحب "التمهيد" وغيره: (أجمع العلماء على أن المقلد لا يعد من العلماء) .
فطالب العلم عليه مسئولية كبيرة ومفترضة، وهي أن يعنى بالدليل، وأن يجتهد في معرفة براهين المسائل، وبراهين الأحكام من الكتاب العزيز والسنة المطهرة، ومن القواعد المعتبرة. . وأن يكون على بينة كبيرة، وعلى صلة وثيقة بكلام العلماء، فإن معرفته بكلام أهل العلم تعينه على فهم الأدلة، وتعينه على استخراج الأحكام، وتعينه على التمييز بين الراجح والمرجوح.
ثم عليه مسئولية أخرى من جهة الإخلاص لله سبحانه ومراقبته، وأن يكون هدفه إرضاءه عز وجل، وأداء الواجب، وبراءة الذمة، ونفع الناس، فلا يهدف إلى مال وعرض عاجل، فذلك شأن المنافقين وأشباههم، من أهل الدنيا، ولا يهدف للرياء(47/9)
والسمعة، ولكن هدفه أن ينفع عباد الله، وأن يرضي ربه قبل ذلك، وأن يكون على بينة فيما يقول، وفيما يفتي به، وفيما يعمل به، ولا يجوز له التساهل؛ لأن طالب العلم متبع متأسى بتصرفاته وأعماله.
فإن كان مدرسا تأسى به الطلبة، وإن كان مفتيا أخذ الناس فتواه، وإن كان داعية كذلك خطره عظيم، وإن كان قاضيا فالأمر أعظم.
فالواجب على طالب العلم أن يكون له موقف مع ربه، موقف يرضاه مولاه، موقف يشتمل على الإخلاص لله، والصدق في طلب رضاه، والحرص الذي لا حدود له في معرفة الأدلة الشرعية، والتفتيش عنها حتى يقف على الدليل، وبذلك تتفسح أمامه الدنيا، ويفتي على بصيرة، ويدعو إلى الله على بصيرة، ويعلم الناس على بصيرة، ويأمر بالمعروف على بصيرة، وينهى عن المنكر على بصيرة، كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) ، وقد فسرت البصيرة بالعلم.
أما من ليس له بصيرة، فلا يعد من أهل العلم، ولا ينفع الناس، لا في دعوة ولا في غيرها من جهة أمور الدين، أعني النفع الحقيقي المثمر، وإن كان قد ينفع بعض الناس بنصيحة يعرفها، أو مسألة يحفظها، أو مساعدة مادية يقدمها.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(47/10)
ولكن النفع الحقيقي من طالب العلم، يترتب على صدقه وإخلاصه، وعلى كثرة علمه، وتمكن فقهه، وعلى صبره ومصابرته.
وهناك مسألة مهمة، وهي المسئولية الملقاة على طالب العلم من جهة البلاغ والتعليم للناس، فإن العلماء هم خلفاء الرسل، وهم ورثتهم، ولا يخفى مرتبة الرسل، وأنهم هم القادة، وهم الهداة للأمة، وهم أسباب سعادتها ونجاتها، فالعلماء حلوا محلهم، ونزلوا منزلتهم في البلاغ والتعليم؛ لأنهم ختموا بمحمد عليه الصلاة والسلام، فلم يبق إلا البيان والتبليغ لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، والدعوة إليها، وبيانها ونشرها بين الناس، وليس لذلك أهل إلا أهل العلم، هم الذين أهلهم الله لهذا الأمر، دعاة وقادة بأقوالهم وأفعالهم وسيرتهم الظاهرة والباطنة.
فواجبهم عظيم، والخطر عليهم عظيم، والأمة في ذمتهم؛ لأنهم بأشد الحاجة إلى البلاغ والبيان، بالطرق الممكنة.
والطرق اليوم كثيرة: منها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية. . فلها آثارها العظيمة في إضلال الناس، وفي هدايتهم. . وهكذا الخطب في الجمع والأعياد والمناسبات والندوات، والاحتفالات لأي سبب، لها أثرها أيضا. والنشرات المستقلة والمؤلفات والرسائل لها أثرها العظيم.
فالطرق بحمد الله اليوم ميسرة وكثيرة، وإنما المصيبة ضعف(47/11)
الطالب، وقلة نشاطه، أو إعراضه وغفلته. . هذه هي المصيبة العظمى. . فالله - عز وجل - يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) .
فليس في الوجود من هو أحسن قولا من هؤلاء، وعلى رأسهم الرسل الكرام والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم يليهم أهل العلم.
فكلما كثر العلم، وكملت التقوى والخوف من الله عز وجل، والإخلاص له سبحانه، صار النفع أكثر، وصار التبليغ عن الله وعن رسوله أكمل. وكلما ضعفت التقوى، أو قل العلم، أو قل الخوف من الله، أو بلي العبد بمشاغل الدنيا والشهوات العاجلة، قل هذا العلم، وقل هذا الخير، يقول سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) .
بين سبحانه أن مهمة النبي الدعوة إلى الله على بصيرة، وأمره أن يبلغ الناس ذلك، (قل) أي: قل يا أيها الرسول للناس {هَذِهِ سَبِيلِي} (3) أي: هذه التي أنا عليها، هذه الشريعة، وهذه الطريقة التي أنا عليها من القول والعمل، هي سبيلي، وهي منهجي وطريقي إلى الله.
فوجب على أهل العلم أن يسيروا على الطريق الذي سلكه المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهو الدعوة إلى الله على بصيرة.
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة يوسف الآية 108(47/12)
فذلك سبيله وسبيل أتباعه أيضا.
فلا يكون العبد من أتباعه على الحقيقة، وعلى الكمال إلا إذا سلك ذلك المسلك، فمن دعى إلى الله على بصيرة، وتبرأ من الشرك، واستقام على الحق، فهو من أتباعه عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال بعدها: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) .
فالداعي إلى الله، الصادق في الدعوة، هو المتبع للرسول على بصيرة، وعلى علم، وليس بالكذب والقول على الله بغير علم - تعالى الله عما لا يليق به - مع وصفه سبحانه بصفات الكمال، وتنزيهه عن مشابهة خلقه، وتوحيده والإخلاص له، والبراءة من الشرك وأهله.
والداعي إلى الله يجب أن يوحد الله، ويستقيم على شريعته، مع تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين، ووصفه سبحانه بما وصفه به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وتنزيهه عن صفات النقص والعجز، وإثبات أسمائه الحسنى، وصفاته العلا الكاملة له جل وعلا، التي جاء بها كتابه العظيم، أو جاءت بها سنة رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم إثباتا يليق بجلاله وعظمته، بلا تمثيل، وتنزيها له سبحانه بلا تعطيل.
فيثبت العبد صفات الله وأسماءه إثباتا كاملا، ليس فيه تمثيل، ولا تشبيه، وينزه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين في جميع
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(47/13)
صفاته، تنزيها بريئا من التعطيل.
فهو يسمي الله بأسمائه الحسنى، ويصف الله بصفاته العليا الواردة في الكتاب العظيم، والسنة الصحيحة، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، ولا زيادة ولا نقصان، فهو متبع لا مبتدع، سائر على المنهج القويم، الذي سلكه الرسل، وسلكه أتباعهم بإحسان، وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضي الله عنهم من بعده، ثم أتباعهم بإحسان، وعلى رأسهم الأئمة المشهورون بعد الصحابة: كالإمام مالك بن أنس، والإمام محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت، والإمام أحمد بن محمد بن حنبل، والإمام الأوزاعي، والإمام سفيان الثوري، والإمام إسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة العلم والهدى الذين ساروا على النهج القويم، في إثبات أسماء الله وصفاته، وتنزيه الله من مشابهة خلقه.
ثم طالب العلم بعد ذلك حريص جدا أن لا يكتم شيئا مما علم، حريص على بيان الحق والرد على الخصوم لدين الإسلام، لا يتساهل ولا ينزوي، فهو بارز في الميدان دائما حسب طاقته، فإن ظهر خصوم للإسلام يشبهون ويطعنون، برز للرد عليهم كتابة ومشافهة وغير ذلك. لا يتساهل ولا يقول: هذه لها غيري، بل يقول: أنا لها. . أنا لها. .
ولو كان هناك أئمة آخرون يخشى أن تفوت المسألة، فهو(47/14)
بارز دائما لا ينزوي، بل يبرز في الوقت المناسب لنصر الحق، والرد على خصوم الإسلام بالكتابة وغيرها، من طريق الإذاعة، أو من طريق الصحافة أو من طريق التلفاز، أو من أي طريق يمكنه، وهو أيضا لا يكتم ما عنده من العلم، بل يكتب ويخطب، ويتكلم ويرد على أهل البدع، وعلى غيرهم من خصوم الإسلام بما أعطاه الله من قوة، حسب علمه وما يسر الله له من أنواع الاستطاعة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (1) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) .
فينبغي أن نقف عند هاتين الآيتين وقفة عظيمة، فربنا حذر من كتمان العلم، وتوعد على ذلك، ولعن من فعل ذلك، ثم بين الله أن لا سلامة من هذا الوعيد، وهذا اللعن، إلا بالتوبة والإصلاح والبيان؛ التوبة مما مضى: من التقصير والذنوب، وإصلاح للأوضاع التي يستطيع إصلاحها من نفسه، وبنفسه، وبيان لما لديه من العلم الذي قد يقال: إنه كتمه، أو فعلا قد كتمه لخطأ عاجل، أو تأويل باطل، ثم من الله عليه بالهدى، فلا توبة إلا بهذا البيان، ولا نجاة إلا بهذه التوبة، وهي تشتمل على الندم على ما مضى، من التقصير واقتراف الذنب، وإقلاع وترك لهذا الذنب، خائفا من ربه عز وجل، حذرا من عقابه.
وشرط ثالث: وهو العزم الصادق بأن لا يعود فيه ثانية، ثم
__________
(1) سورة البقرة الآية 159
(2) سورة البقرة الآية 160(47/15)
بيان مع ذلك وإصلاح؛ لأنه قد يتوب ولا يعلم الناس توبته، فإذا أظهر ذلك وبينه للناس، برئت ذمته، وصحت توبته.
وهنا أمر آخر يتعلق بطالب العلم أمام الله سبحانه أولا، ثم بعد هذا أمام إخوانه وزملائه ومجتمعه، وهو أن يتقي الله في نفسه. . فكلما علم شيئا بادر بالعمل، لا يتساهل، يعلم ويعمل، لا بد من العلم، ولا بد من العمل، فهو يحاسب نفسه أبدا، ويجتهد في تطبيق أحكام الله على نفسه، الواجب واجب، والمستحب مستحب، حتى يمثل العلم في أخلاقه وأعماله وسيرته، وحلقات علمه وخطبه وأسفاره، وإقامته في البر والبحر والجو، بل في كل مكان؛ لأن هذا الأمر يهمه ويحرص على أن يأخذ عنه إخوانه وزملاؤه، وطلبته؛ ليعطيهم مما لديه من العلم من قول وعمل. .
وهكذا كان نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام، كانت دعوته كاملة في القول والعمل، فسيرته أحسن السير، وكلامه أطيب الكلام، بعد كلام الله عز وجل، وأخلاقه أحسن الأخلاق، كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) . وكان خلقه القران كما قالت عائشة رضي الله عنها، يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه، ويتأدب بآدابه، ويعتبر بما فيه من الأمثال والقصص العظيمة، ويدعو الناس إلى ذلك.
وأهل العلم عليهم أن يتأسوا به عليه الصلاة والسلام في هذا الخلق العظيم، وأن يصدقوا الله في أقوالهم وأعمالهم، وأن
__________
(1) سورة القلم الآية 4(47/16)
يبلغوا عن الله أمره ونهيه، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، حسب الطاقة، وأن يبذلوا المستطاع والنصائح لولاة الأمور بالتوجيه، والإرشاد، والتنبيه، ولأهليهم ولجيرانهم ولسائر مجتمعهم، وللناس جميعا بكل وسيلة حسب الطاقة. لا يجوز التساهل في هذه الأمور، ولا سيما في عصرنا هذا؛ لقلة العلماء، وانتشار الشرور، وكثرة الرذائل والمنكرات في أرجاء الدنيا في الدول الإسلامية وغيرها.
وكل ذي بصيرة يعلم ما ينشر في هذا العصر من الشرور العظيمة، في الإذاعات والصحافة والتلفاز، وفي النشرات الأخرى، وفي المؤلفات الداعية إلى النار.
وهذا الجيش المتنوع الذي يدعو إلى طرق النار، يحتاج إلى جيش مثله، وقوة مثله، بل وأكثر منه.
هذه الجيوش التي يسوقها أعداء الإسلام إلى المسلمين، وهذه الوسائل الخطيرة المتنوعة الكثيرة، كلها يسوقها وينشرها أعداء الإسلام إلى المسلمين، وإلى غير المسلمين؛ لإهلاكهم وقيادتهم إلى النار، وأن يكونوا معهم في أخلاقهم الخبيثة، وسيرتهم الذميمة، وأن يكونوا معهم في النار؛ لأن قائدهم يريد هذا، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (1) .
فلا يليق بطالب العلم أن ينزوي ويقول: حسبي نفسي، لا
__________
(1) سورة فاطر الآية 6(47/17)
فإن عليه واجبات. . حسبه نفسه من جهة عمله، أن يعمل. . وعليه واجبات من جهة البلاغ والبيان والدعوة، فربنا يقول سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) .
ويقول سبحانه: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} (2) ، فالله سبحانه يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة، وأمره له أمر لنا جميعا، ليس المقصود له وحده عليه الصلاة والسلام، فإذا وجه له الأمر، فليس له وحده، بل هو له ولنا، ولأهل العلم جميعا، إلا ما خصه الدليل به.
فعليك يا عبد الله أن تبتعد عن الخمول والانزواء، وأن تبلغ أمر الله إلى عباد الله، وعليك أيضا أن تنصح من استطعت نصيحته في كل مكان: أمير القرية، وعالم القرية، وقاضي القرية، وعريف القرية، ومن له شأن في القرية، وفي المدينة وفي القبيلة، وفي كل مكان تتصل به اتصالا حسنا، وتناصحه وتوجهه إلى الخير، وتتعاون معه على البر والتقوى بالأساليب الحسنة؛ بالعظة والتذكير، بالكلام الطيب، بالرفق لا بالعنف.
وهكذا مع الإمام الأعظم في الدولة، ومع الوزراء في مسئولياتهم، ومع القضاة، ومع الدعاة، ومع إخوانك في الله جميعا، تتعاون معهم.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة القصص الآية 87(47/18)
هكذا يكون طالب العلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم (2) » .
وقال عليه الصلاة والسلام: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، ثم أداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع (3) » . وفي لفظ: «رب حامل فقه ليس بفقيه (4) » ، وفي لفظ: «ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه (5) » وقال في إحدى خطبه عليه الصلاة والسلام: «فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع (6) »
والناس بخير ما تعاونوا على البر والتقوى، مع ملوكهم وأمرائهم، ومع قضاتهم ومع الدعاة إلى الله، ومع جميع المسلمين، لكن مع مراعاة الأساليب الحسنة، والرفق والحكمة.
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، حديث 82
(2) البخاري، كتاب الإيمان، باب (42) قول النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، طبعة استانبول. ومسلم، كتاب الإيمان، حديث 83.
(3) الترمذي في كتاب العلم، حديث رقم (2580) ، وأبو داود في كتاب العلم (3175) ، وابن ماجة في المقدمة (226) ، وأحمد في مسند المدنيين برقم (16138) . .
(4) الترمذي في كتاب العلم، حديث رقم (2580) ، وأبو داود في كتاب العلم (3175) ، وابن ماجة في المقدمة (226) ، وأحمد في مسند المدنيين برقم (16138) . .
(5) الترمذي في كتاب العلم، حديث رقم (2580) ، وأبو داود في كتاب العلم (3175) ، وابن ماجة في المقدمة (226) ، وأحمد في مسند المدنيين برقم (16138) . .
(6) البخاري، كتاب الحج، حديث رقم (1625) . .(47/19)
وقد جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (1) » . رواه مسلم في الصحيح عن جرير بن عبد الله، وعن عائشة رضي الله عنهما.
وفي رواية له عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه (2) » .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه (3) » .
ويكفي في هذا قول الله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (4) ، وقول الله تبارك وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (5) .
وفي قصة موسى وهارون عندما بعثهما الله إلى فرعون يقول الله سبحانه لهما: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (6) .
__________
(1) مسلم في كتاب البر والصلة (4695) ، وأحمد في مسند الكوفيين (8411) ، وأبو داود في كتاب الأدب، حديث رقم (4175) واللفظ له.
(2) مسلم في البر والصلة، حديث (4697) واللفظ له. والبخاري في كتاب استتابة المرتدين (6415) .
(3) مسلم في البر والصلة، حديث رقم (4698) واللفظ له، وأحمد في مسند الأنصار (24171) ، وأبو داود في الجهاد (2119) .
(4) سورة النحل الآية 125
(5) سورة آل عمران الآية 159
(6) سورة طه الآية 44(47/20)
وأسأل الله سبحانه بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين إلى ما يرضيه، وأن يسلك بنا جميعا صراطه المستقيم، وأن يرزقنا جميعا العلم النافع، والعمل به، والتأدب بالآداب الشرعية، والخلق العظيم، الذي أثنى الله به على نبيه عليه الصلاة والسلام، ولنذكر قوله عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما؛ سهل الله له به طريقا إلى الجنة (1) » .
فالأمر في طلب العلم عظيم، والخطب في التفقه في الدين كبير. . ولنذكر أيضا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » . رواه الشيخان من حديث معاوية رضي الله عنه.
وهذا الحديث العظيم، يدلنا على أن التفقه في الدين من الدلائل على أن الله أراد بالعبد خيرا، ومفهومه أن من لم يتفقه في الدين، فذلك مخذول، لم يرد الله به خيرا. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ونسأله سبحانه أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يتوفانا مسلمين، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يولي
__________
(1) رواه البخاري في كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة (4867) واللفظ له، والترمذي في كتاب العلم (2570) .
(2) رواه البخاري في كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل، ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة (4867) واللفظ له، والترمذي في كتاب العلم (2570) .(47/21)
عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، وأن يكثر بينهم دعاة الهدى، وأن يرزقهم جميعا وفي كل مكان الفقه في دينه، والعمل بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه.(47/22)
من صور البورصة
(القسم الثاني)
بحث من إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
ثالثا: نقول عن بعض كتب الفقهاء، يستنار بها في
التطبيق وفهم الحكم في المسائل الجزئية
أ- قال ابن رشد في بداية المجتهد:
في معرفة الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل، ولا يجوز فيها النساء، وتبيين علة ذلك.
فنقول: أجمع العلماء على أن التفاضل والنساء مما لا يجوز واحد منهما في الصنف الواحد من الأصناف التي نص عليها في حديث عبادة بن الصامت، إلا ما حكي عن ابن عباس، وحديث عبادة قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى (1) » ، فهذا الحديث نص في منع التفاضل في الصنف الواحد من هذه الأعيان.
وأما منع النسيئة فيها فثابت من غير ما حديث، أشهرها
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(47/23)
حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء (1) » . فتضمن حديث عبادة منع التفاضل في الصنف الواحد، وتضمن أيضا حديث عبادة منع النساء في الصنفين من هذه، وإباحة التفاضل، وذلك في بعض الروايات الصحيحة، وذلك أن فيها بعد ذكره منع التفاضل في تلك الستة: «وبيعوا الذهب بالورق كيف شئتم يدا بيد، والبر بالشعير كيف شئتم يدا بيد (2) » .
وهذا كله متفق عليه بين الفقهاء إلا البر بالشعير، واختلفوا فيما سوى هذه الستة المنصوص عليها، فقال قوم منهم أهل الظاهر: إنما يمتنع التفاضل في صنف صنف من هذه الأصناف الستة فقط، وأن ما عداها لا يمتنع في الصنف الواحد منها التفاضل، وقال هؤلاء أيضا: إن النساء ممتنع في هذه الستة فقط اتفقت الأصناف أو اختلفت، وهذا أمر متفق عليه، أعني امتناع النساء فيها مع اختلاف الأصناف، إلا ما حكي عن ابن علية أنه قال: إذا اختلف الصنفان جاز التفاضل والنسيئة ما عدا الذهب والفضة.
فهؤلاء جعلوا النهي المتعلق بأعيان هذه الستة من باب الخاص أريد به الخاص، وأما الجمهور من فقهاء الأمصار فإنهم اتفقوا على أنه من باب الخاص أريد به العام، واختلفوا في المعنى العام الذي وقع التنبيه عليه بهذه الأصناف، أعني في مفهوم علة التفاضل ومنع النساء فيها.
فالذي استقر عليه حذاق المالكية أن سبب منع التفاضل أما
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2134) ، صحيح مسلم المساقاة (1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243) ، سنن النسائي البيوع (4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(47/24)