5 - لو استقدم عمالا فتركهم يعملون بنسبة من الأجر كالنصف أو الثلث أو الربع فهذه شركة لا تجوز؛ لأن مبنى الشركات على الوكالة؛ والوكالة في هذه الصورة مفقودة، والحقيقة أنه أخذ من عرقهم ما ليس له حق فيه، ولو رضوا فرضاهم إما جهلا أو اضطرارا أو تخوفا من إنهائهم.
6 - إذا استقدم عمالا براتب شهري معين كستمائة أو خمسمائة ثم أجرهم بأكثر فأعطاهم ما عقد لهم عليه وأخذ الزائد، فهذا لا يجوز ولا يعد من الشركات في شيء؛ لأن الحر يستأجر ولا يؤجر للانتفاع بمثل ما استأجره له الأول أو أقل منه ضررا
7 - لو استقدم عمالا فهيأ لهم مكانا للعمل فيه وآلة للعمل عليها كآلة خياطة وقصارة - وهي كي الثياب في الوقت الحاضر- وسميت قصارة عند الفقهاء لأنها مأخوذة من الضرب بالمقصرة وهي الخشبة القصيرة حتى يلين الثوب - فكان من المستقدم الآلة والمكان واستقبال العمل في الذمة ومن العمال العمل فأرجو أن تكون هذه الصورة جائزة لاشتراك كل منهما في العمل ولمطالبة كل منهما بما على الآخر، ولهذه الصورة ما يشابهها مما ذكره الفقهاء كما قال الموفق رحمه الله في المغني (1) .
إن كانت لأحدهما آلة وليس للآخرين شيء أو لأحدهما بيت وليس للآخر شيء فاتفقا على أن يعملا بالآلة أو في البيت، والأجرة بينما جاز. وعند المالكية (2) إذا كانت الآلة من أحدهما دون الآخر لم يجز، وفي بدائع الصنائع (3) عند الحنفية قال: لو أن رجلا أجلس في دكانه
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 \ 9.
(2) الشرح الصغير للدردير 3 \ 475.
(3) بدائع الصنائع للكاساني 6 \ 46.(42/377)
رجلا يطرح عليه العمل بالنصف فالقياس أن لا تجوز هذه الشركة لأنها شركة العروض لأن من أحدهما العمل ومن الآخر الحانوت، والحانوت من العروض، وشركة العروض غير جائزة، وفي الاستحسان جائزة لأن هذه شركة الأعمال لأنها شركة التقبل وتقبل العمل من صاحب الحانوت عمل وشركة الأعمال جائزة بخلاف بين أصحابنا مبناها على الوكالة والوكالة على هذا الوجه جائزة.(42/378)
شمول شركة الأبدان على المفاوضة والعنان
المفاوضة مأخوذة من مادة " فوض " بمعنى إعطاء الشخص التصرف والتوكيل على أمر من الأمور، وإعطائه مقاليد الأمر، ومنه قوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} (1) .
وتطلق المفاوضة على الاختلاط، ومن ذلك: باتوا فوضى أي مختلطين مترددين في أمرهم ومنه قوله:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
ويشمل هذان المعنيان ما نحن بصدده من حيث اللغة ففي شركة المفاوضة اختلاط وترك كل واحد أمره للآخر على وجه الوكالة، قال في معجم مقاييس اللغة: " وتفاوض الشريكان في المال إذا اشتركا ففوض كل أمره إلى صاحبه، هذا راض بما صنع ذاك، وذاك راض بما صنع هذا مما أجازته الشريعة " (2) اهـ.
__________
(1) سورة غافر الآية 44
(2) 4 \ 460 مادة '' فوض ''(42/378)
وعند الفقهاء: تفويض كل واحد الآخر في كل شيء وهذا ما دل عليه المعنى اللغوي ولكنهم من حيث الحكم قسموا شركة المفاوضة قسمين، قسم فاسد وقسم صحيح:
القسم الفاسد: أن يدخل في الشركة كسبا لا مجال للعمل فيه من المكاسب النادرة التي تحصل له قهرية كالميراث أو مصادفة كلقطة وضمان غصب وأرش جناية، كأن يقول مثلا: نشترك في كل شيء أتحصل عليه حتى لو جنى علي وأخذت أرشه اشتركنا فيه، فهذا القسم فاسد لأنه عقد لم يرد الشرع بمثله فأشبه القمار، لما فيه من كثرة الغرر، وذلك بأن لا يحصل شيء مطلقا أو يحصل شيء لا أثر للعمل فيه فيأخذه الآخر بغير مقابل عمل، ومن ثم ربما يحدث النزاع والشقاق والحقد والندم، وقد يشمل هذا العقد أيضا ما لا يقتضيه فيحمل الشريك ما لا طاقة له به كضمان كفالة وغيرها.
فإذا وجد مثل هذا العقد يعتبر فاسدا ولاغيا، وعليه يكون لكل واحد من الشريكين ربح ماله وله أجرة عمله، وكذا ما يستفيده له وحده، ويختص بضمان ما غصبه أو جناه أو ضمنه عن الغير لفساد الشركة ولكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت (1) .
القسم الثاني من شركة المفاوضة صحيح وهو: أن يفوض كل منها إلى صاحبه شراء وبيعا ومضاربة وتوكيلا وابتياعا في الذمة ومسافرة بالمال وارتهانا وضمانا أي تقبل ما يرى من الأعمال كخياطة وحدادة فهي صحيحة، وهي الجمع بين عنان ومضاربة، ووجوه وأبدان؛ لأن كل واحدة منها صحت مفردة فصحت مجتمعة، اهـ. من الكشاف (2) ونقل عن ابن منجا تنظيرا لهذه المسألة وكما لو ضم ماء طهور إلى مثله (3) اهـ.
__________
(1) كشاف القناع 3 \ 531.
(2) كشاف القناع 3 \ 531.
(3) كشاف القناع 3 \ 531.(42/379)
مبطلات شركة الأبدان
تبطل شركة الأبدان بأمور نجملها فيما يلي:
1 - الفسخ من أحد الشريكين؛ لأنه عقد جائز غير لازم فكان محتملا للفسخ، فإذا فسخه أحدهما عند وجود شرط الفسخ ينفسخ.
2 - موت أحدهما، أيهما مات انفسخت الشركة، لبطلان الملك وأهلية التصرف بالموت، سواء علم بموت صاحبه أو لم يعلم؛ لأن كل واحد منهما وكيل صاحبه، وموت الموكل يكون عزلا للوكيل علم به أو لم يعلم؛ لأنه عزل حكمي فلا يقف على العلم.
3 - ردة أحدهما مع اللحاق بدار الحرب بمنزلة الموت.
4 - جنون أحدهما جنونا مطبقا لأن به يخرج الوكيل عن الوكالة وجميع ما يخرج به الوكيل عن الوكالة يبطل به عقد الشركة؛ لأن الشركة تتضمن الوكالة كما هو مبين في الوكالة (1) .
5 - الحجر على أحد الشريكين لسفه أو فلس وكل ما يمنع أحدهما من التصرف مطلقا كالاسترقاق أو نسبيا كتزوج المرأة.
فهذه خلاصة عاجلة عن شركة الأبدان في الفقه الإسلامي، وقد مر فيها إشارة إلى كثير من المسائل الخلافية، فلذا استحسنت تذييل هذه العجالة بهذه القاعدة التي توضح كيفية السير في المسائل الخلافية، قال في كشاف القناع (2) : " وليس لولي الأمر المنع بمقتضى مذهبه في شركة الأبدان والوجوه والمساقاة والمزارعة ونحوها أي نحو المذكورات من مسائل الخلاف مما يسوغ
__________
(1) بدائع الصنائع 6 \ 78.
(2) كشاف القناع 3 \ 531.(42/380)
فيه الاجتهاد لأن فيه تضييقا وحرجا والاختلاف رحمة " يعني بذلك في الفروع الاجتهادية المستنبطة التي تقبل اختلاف الرأي فيها، أما في أصول الدين الاعتقادية من الأمور التي لا يسع المسلم جهلها ولا يتطرق إليها احتمال، فالخلاف فيها عذاب وليس رحمة.
هذا ما تيسر لي جمعه من كتب الفقه مما يتعلق بشركة الأبدان الذي ظهر فيه الاختصار حسب فهمي. واعتبرته خلاصة فلم آت بخلاصة، ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا؛ فهو القادر على ذلك والموفق من يشاء من عباده وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(42/381)
صفحة فارغة(42/382)
بيان هيئة كبار العلماء بالمملكة حول المؤتمر الدولي للسكان والتنمية
تم انعقاد مجلس هيئة العلماء بالمملكة في جلسته الاستثنائية بمدينة الطائف يوم السبت في الفترة من 20 \ 3 \ 1415 هـ إلى يوم الثلاثاء 23 \ 3 \ 1415 هـ للنظر في برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية الذي سيعقد بالقاهرة في الفترة من 29 \ 3 \ 1415هـ إلى 8 \ 4 \ 1415هـ الموافق من 5-13 سبتمبر عام 1994م وأصدر في جلساته القرار التالي:
قرار رقم (179) وتاريخ 23 \ 3 \ 1415هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الاستثنائية الثامنة المنعقدة في مدينة الطائف في الفترة من 20 \ 3 \ 1415هـ. إلى 23 \ 3 \ 1415هـ. نظر في برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المرفق بمذكرة الأمانة العامة للأمم المتحدة، الذي سيعقد في القاهرة بتاريخ 29 \ 3 \ 1415هـ. إلى 8 \ 4 \ 1415هـ. الموافق 5 \ 13 سبتمبر عام 1994م، واطلع على ما صدر حول البرنامج من:
1 - الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي.
2 - الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
3 - مجمع البحوث الإسلامي بالقاهرة برئاسة سماحة شيخ الأزهر.
4 - المركز الدولي الإسلامي للدراسات والبحوث السكانية بجامعة الأزهر.
كما اطلع على الدراسة المقدمة من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية إلى المجلس.(42/383)
وبعد الدراسة، وتبادل الآراء، اتضح للمجلس ما يلي:
1 - تبنى هذا البرنامج- في ظاهره- المشكلة السكانية القادمة، والتي سببها- في نظر معدي البرنامج- تكاثر السكان لكثرة النسل أمام قلة الموارد، مما سيؤدي إلى مشكلة الفقر العام حسب زعمهم.
2 - قدم لهذا المؤتمر مسودة وثيقة - كبرنامج عمل- حسبما وافقت عليه اللجنة التحضيرية للمؤتمر المنعقدة في نيويورك من 20 إلى 22 نيسان-إبريل عام 1994م، وهي تتكون من (16) فصلا في (121) صفحة بصياغة تعتمد التصريح حينا، والمفهوم والتلويح حينا آخر بما يفضي إلى الإباحية.
3 - ركزت الوثيقة كعلاج لذلك على الدعوة إلى أمرين:
الأول: الدعوة إلى الحرية والمساواة بين الرجل والمرأة، والقضاء التام على أي فوارق بينهما، حتى فيما قررته الشرائع السماوية، واقتضته الفطرة، وحتمته طبيعة المرأة وتكوينها.
وعقدت الوثيقة لذلك فصلا كاملا هو الفصل الرابع بعنوان " المساواة بين الجنسين والإنصاف وتمكين المرأة ".
وفي مواضع أخرى من الوثيقة كما في الفصل الثاني (المبدأ \ 2، والمبدأ \ 7) والفصل الثالث (م \ 18، م \ 30) ، والفصل الحادي عشر: الأهداف \ أب ح والفصل الخامس عشر: المبدأ \ 9.
الثاني: الدعوة إلى فتح باب العلاقات الجنسية المحرمة شرعا، واتخذت له من الوسائل الآتي:
(أ) السماح بحرية الجنس، وأنواع الاقتران الأخرى غير الزواج، والدعوة إلى الإجراءات الكفيلة بذلك (فصل 2 \ 7، وفصل 5 \ 5، وفصل 6 \ 11، وفصل 6 \ 15، وفصل 7 \ 1، 7 \ 2) .(42/384)
(ب) التنفير من الزواج المبكر، ومعاقبة من يتزوج قبل السن القانونية " وإتاحة بدائل تغني عن الزواج المبكر، من قبيل توفير فرص التعليم والعمل "كما في الفصل الرابع، مبدأ \ 21، والفصل السادس، مبدأ \ 7، فقرة (ج) ، ومبدأ \ 11.
(ج) العمل على نشر وسائل منع الحمل، والحد من خصوبة الرجال وتحديد النسل، بدعوى تنظيم الأسرة، والسماح بالإجهاض المأمون وإنشاء مستشفيات خاصة له، وحث الحكومات على ذلك، وتكون التكاليف قليلة جدا. كما في الفصل 3 \ 13، الفصل 4 \ جـ27، والفصل 7 \ 31، 7 \ 37، والفصل 11 \ 8، والفصل 12 \ 14، والفصل 15 \ 16.
(د) التركيز على التعليم المختلط بين الجنسين، وتطويره؛ لأنه من أعظم أسباب إزالة الفوارق بين الجنسين، وتعويق الزواج المبكر، وتنشيط الاتصال الجنسي. كما في الفصل السادس، الهدف \ ج، والفصل الحادي عشر \ الإجراء \ 8.
(هـ) التركيز على تقديم الثقافة الجنسية للجنسين بسن مبكر: سن الطفولة والمراهقة. كما في الفصل 4 \ 29، والفصل 6 \ 7 (ب) و 6 \ 15، والفصل 7 \ 5، و 7 \ 6.
(و) تسخير الإعلام لتحقيق هذه الأهداف. كما في الفصل 11 \ 16.
4 - نتيجة لهذه الدعوة للإباحية، ولعلمهم المسبق بما يترتب على الانفلات الجنسي، ركزت الوثيقة على الخدمات الصحية التناسلية والجنسية وكيفية معالجة ما يقع من الأمراض الجنسية والحمل وبخاصة " الإيدز ".(42/385)
5 - إهمال التعاليم الدينية، والقيم الإنسانية، والاعتبارات الأخلاقية، وعدم إقامة أي وزن لها.
6 - إعلان الإباحية، والمحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولدينه وشرعه وسلب قوامة الإسلام على العباد، وسلب ولاية الآباء على الأبناء وقوامة الرجال على النساء. وإلغاء ما دلت عليه الشريعة الإسلامية من مقومات وضوابط، وموانع في وجه الإباحية والتحلل، وفوضى الأخلاق، والتفسخ من الدين.
ومن خلال توافر هذه المعلومات الموثقة من نصوص الوثيقة ومضامينها، فإنها تؤدي إلى المنكرات والآثار السيئة التالية:
1 - نشر الإباحية، وتعقيم البشرية، وتحويلها إلى قطعان بهيمية مسحوبة الهوية من الفضيلة والخلق والعفة والطهارة التي تؤكد عليها تعاليم الدين.
2 - هتك حرمات الشرع الإسلامي المطهر المعلومة منه بالضرورة، وهي حرمات: الدين، والنفس، والعرض، والنسل، فالإباحية هتك لحرمة الدين، والإجهاض بوصفه المذكور في الوثيقة هتك لحرمة النفس، وقتل للأبرياء، والعلاقات الجنسية من غير طريق الزواج الشرعي: هتك لحرمة العرض والنسل.
3 - جميع ذلك تحد لمشاعر المسلمين، ومصادرة لقيمهم ومثلهم الإسلامية.
4 - وجميع ذلك أيضا هجمة شرسة، ومواجهة عنيفة للمجتمع الإسلامي لتحويل ما فيه من عفة وطهارة عرض وحفظ نسل إلى واقع المجتمعات المصابة بأمراض الشذوذ الجنسي والانفلات في الأخلاق.
وعليه فإن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية يقرر بالإجماع ما يلي:(42/386)
أولا: أن ما دعت إليه هذه الوثيقة من المبادئ والإجراءات والأهداف الإباحية مخالف للإسلام ولجميع الشرائع التي جاءت بها الرسل عليهم الصلاة والسلام وللفطر السليمة والأخلاق القويمة، وكفر وضلال.
ثانيا: لا يجوز شرعا للمسلمين حضور هذا المؤتمر- الذي هذا من مضمون وثيقة عمله، ويجب عليهم مقاطعته وعدم الاشتراك فيه.
ثالثا: يجب على المسلمين حكومات وشعوبا وأفرادا وجماعات الوقوف صفا واحدا في وجه أي دعوة للإباحية، وفوضى الأخلاق ونشر الرذيلة.
رابعا: يجب على كل من ولاه الله شيئا من أمور المسلمين أن يتقي الله في نفسه وفي رعيته، وأن يسوسهم بالشرع الإسلامي المطهر وأن يسد عنهم أبواب الشر والفساد والفتنة، وأن لا يكون سببا في جر شيء من ذلك عليهم، وأن يحكم شريعة الله في جميع شؤونهم. ونذكر الجميع بقول الله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (2) .
وبقوله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3) والله المسئول أن يوفق جميع المسلمين
__________
(1) سورة النساء الآية 26
(2) سورة النساء الآية 27
(3) سورة المائدة الآية 50(42/387)
حكومات وشعوبا لما فيه رضاه وأن يصلح أحوالهم ويمنحهم الفقه في الدين ويعيذهم جميعم من مضلات الفتن ونزغات الشيطان إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
هيئة كبار العلماء
الرئيس
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/388)
حديث شريف
حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا داود "يعني ابن قيس " عن عبيد الله بن مقسم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم (1) » .
(رواه مسلم)
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/323) .(42/389)
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (2)
(سورة الأنفال، الآيتان 27، 28)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 27
(2) سورة الأنفال الآية 28(43/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(43/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(43/3)
المحتويات
الافتتاحية
موقف المؤمن من الفتن لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة
بحث في الادخار (القسم الثاني) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 21
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 91
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 135(43/4)
البحوث
حكم بيع العربون الشيخ / عبد الله بن سليمان المنيع 159
الإنكار للدكتور / عبد الله بن عبد المحسن الطريقي 183
أولويات الدعوة في منهج الأنبياء للدكتور / زيد بن عبد الكريم الزيد 229
جمعية الموظفين للدكتور / عبد الله بن عبد العزيز الجبرين 243
جمال الدين القاسمي علامة الشام الأستاذ / عدنان الدبسي 285
من مشاهد يوم القيامة للدكتور / دوخي بن زيد الحارث 311
بيان كفر وضلال من زعم أنه يجوز لأحد الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 373(43/5)
صفحة فارغة(43/6)
الافتتاحية
موقف المؤمن من الفتن (1)
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم على محمد عبده ورسوله، وعلى أزواجه وذريته، كما صلى على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، ونسأله عز وجل أن يبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته، كما بارك على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنه سبحانه حميد مجيد أما بعد: فإني أشكر الله عز وجل على ما من به في هذا اللقاء لإخوة في الله كرام وأبناء أعزاء، وأسأله جل وعلا أن يجعله لقاء مباركا، وأن ينفعنا جميعا. بما علمنا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، ويعيذهم من شرارهم إنه جواد كريم. ثم أيها الإخوة في الله أيها الأبناء عنوان الكلمة (موقف المؤمن من الفتن) . الفتن نعوذ بالله من شرها بين النبي صلى الله عليه وسلم خطرها وشرح ما يجب حولها عليه من ربه الصلاة والتسليم.
ما الفتنة؟ الفتنة: كلمة مشتركة تقع على معان كثيرة تقع على الشرك وهو أعظم الفتن، كما قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (2) أي حتى لا يكون شرك، وقال جل وعلا:
__________
(1) * محاضرة ألقاها سماحته في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بتاريخ 14 \ 32 \ 1411هـ.
(2) سورة الأنفال الآية 39(43/7)
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (1) ، وتقع الفتنة أيضا على التعذيب والتحريق، كما قال جل وعلا: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} (2) ، وقال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} (3) ، والمراد هنا العذاب والتحريق، فتنوهم يعني عذبوهم، وتطلق الفتنة أيضا على الاختبار والامتحان، كما قال جل وعلا: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (4) يعني اختبارا وامتحانا حتى يتبين من يستعين بالأموال والأولاد في طاعة الله، ومن يقوم بحق الله ويتجنب محارم الله ويقف عند حدود الله، ممن ينحرف عن ذلك، ويتبع هواه وتقع أيضا على المصائب والعقوبات، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (5) يعني بل تعم.
جاء عن الزبير بن العوام رضي الله عنه وجماعة من السلف في هذه الفتنة أنهم قالوا: (ما كنا نظن أنها فينا حتى وقعت) ، وكانت بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه؛ فإن قوما جهلة وظلمة وفيهم من هو متأول خفي عليه الحق واشتبهت عليه الأمور فتابعهم حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه بالشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة، ثم عمت هذه الفتنة وعظمت وأصابت
__________
(1) سورة البقرة الآية 217
(2) سورة الذاريات الآية 14
(3) سورة البروج الآية 10
(4) سورة الأنبياء الآية 35
(5) سورة الأنفال الآية 25(43/8)
قوما ليس لهم بها صلة وليسوا في زمرة الظالمين، وجرى بسببها ما جرى بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه، وما حصل يوم الجمل ويوم صفين كلها بأسباب الفتنة التي وقعت بسبب ما فعله جماعة من الظلمة بعثمان رضي الله عنه، فقام قوم وعلى رأسهم معاوية بالمطالبة بدم القتيل عثمان رضي الله عنه، وطلبوا من علي رضي الله عنه وقد بايعه المسلمون خليفة رابعا وخليفة راشدا تسليمهم القتلة، وعلي رضي الله عنه أخبرهم أن المقام لا يتمكن معه من تسليم القتلة، ووعدهم خيرا وأن النظر في هذا الأمر سيتم بعد ذلك، وأنه لا يتمكن من قتلهم الآن، وجرى من الفتنة والحرب يوم الجمل ويوم صفين ما هو معلوم، حتى قال جمع من السلف رضي الله عنهم منهم الزبير رضي الله عنه: إن الآية نزلت في ذلك لأنها تعم هذا المعنى وهذه أول فتنة دخلت في الآية في هذه الأمة: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) فأصابت جما غفيرا من الصحابة وغير الصحابة، وقتل فيها عمار بن ياسر، وطلحة بن عبيد الله وهو من العشرة المبشرين بالجنة، والزبير وهو من العشرة أيضا، وقتل فيها جمع غفير من الصحابة وغيرهم في الجمل وفي صفين بأسباب هذه الفتنة، وتقع الفتنة أيضا بأسباب الشبهات والشهوات، فكم فتن كثير من الناس بشبهات لا أساس لها، كما جرى للجهمية والمعتزلة والشيعة والمرجئة وغيرهم من طوائف أهل البدع، فتنوا بشبهات أضلتهم عن السبيل، وخرجوا عن طريق أهل السنة والجماعة بأسبابها وصارت فتنة لهم ولغيرهم إلا من رحم الله. وطريق النجاة من
__________
(1) سورة الأنفال الآية 25(43/9)
صنوف الفتن هو: التمسك بكتاب الله وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام كما روي ذلك عن علي مرفوعا: «تكون فتن " قيل: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: " كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم (1) » . . " الحديث. والمقصود أن الفتن فتن الشهوات والشبهات والقتال وفتن البدع، كل أنواع الفتن لا تخلص منها ولا النجاة منها إلا بالتفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم، ومن سلك سبيلهم من أئمة الإسلام ودعاة الهدى، وجميع ما يقول الناس وما يتشبث به الناس وما يتعلق به الناس في سلمهم وحربهم وفي جميع أمورهم يجب أن يعرض على كتاب الله وعلى سنة رسوله عليه الصلاة والسلام. قال جل وعلا في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) يعني أحسن عاقبة، هذا هو الطريق وهذا هو السبيل فالرد إلى كتاب الله هو الرد إلى القرآن الكريم والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته عليه الصلاة والسلام وإلى سنته الصحيحة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. وهكذا يقول الله جل وعلا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) وتحكيم الرسول هو تحكيم الكتاب والسنة قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (4)
__________
(1) سنن الترمذي فضائل القرآن (2906) ، مسند أحمد بن حنبل (1/91) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3331) .
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سورة المائدة الآية 50(43/10)
فما عدا حكم الله فهو من حكم الجاهلية قال جل وعلا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) فالمخلص من الفتن والمنجى منها بتوفيق الله هو بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بالرجوع إلى أهل السنة وعلماء السنة الذين حصل لهم الفقه بكتاب الله والفقه بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودرسوهما غاية الدراسة وعرفوا أحكامها وساروا عليها فجميع الأمة من إنس وجن وعجم وعرب ومن رجال ونساء يجب عليهم أن يحكموا بكتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وأن يسيروا على نهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان في السلم والحرب، في العبادات والمعاملات فيما افترق فيه الناس في أسماء الله وصفاته، في أمر البعث والنشور، في الجنة والنار، وفي كل شيء، ومن ذلك الحروب التي يثيرها بعض الناس يجب أن يحكم فيها شرع الله.
وهكذا الإعداد للحرب ومن يستعان به في الحرب ومن لا يستعان به كله يجب أن يعرض على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك ما وقع في هذا العام في الحادي عشر من المحرم من فتنة حاكم العراق عامله الله بما يستحق في عدوانه على دولة الكويت واجتياحه لها وما حصل من تهديده لهذه البلاد ودول الخليج، هذه من
__________
(1) سورة المائدة الآية 44
(2) سورة المائدة الآية 45
(3) سورة المائدة الآية 47(43/11)
الفتن أيضا التي يجب أن يحكم فيها كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. ولا ريب عند أهل العلم والإيمان أن هذا الرجل الفاجر قد أتى منكرا وإثما عظيما وعدوانا سافرا لا مبرر له، ولو كان من دعاة الإسلام ومحكمي الشريعة لم يجز له أن يغزو طائفة من الناس لا الكويت ولا غيرها إلا بعد الدعوة وبعد النظر في الشبه التي يدعيها عليهم ومدى تحكيمه لشرع الله في ذلك. أما أن يغزو بلادا ويقتل وينهب ويسبي ولا يبالي! كيف يفعل هذا؟ ما يفعل هذا من له أدنى عقل أو أدنى دين أو أدنى مروءة أو أدنى حياء، ثم بعد ذلك يلبس لباس الإسلام وينافق ويدعي أنه يطلب الجهاد وأنه يحمي الحرمين. هكذا يكون النفاق والكفر البواح والتلبيس. ومعلوم أن حزب البعث والشيوعية وجميع النحل الملحدة المنابذة للإسلام كالعلمانية وغيرها كلها ضد الإسلام، وأهلها أكفر من اليهود والنصارى لأن اليهود والنصارى تباح ذبائحهم ويباح طعامهم ونساؤهم المحصنات، والملاحدة لا يحل طعامهم ولا نساؤهم، وهكذا عباد الأوثان من جنسها لا تباح نساؤهم ولا يباح طعامهم. فكل ملحد لا يؤمن بالإسلام هو شر من اليهود والنصارى فالبعثيون والعلمانيون الذين ينبذون الإسلام راء الظهر ويريدون غير الإسلام، وهكذا من يسمون بالشيوعيين ويسمون بالاشتراكيين، كل النحل الملحدة التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر يكون كفرهم وشرهم أكفر من اليهود والنصارى، وهكذا عباد الأوثان وعباد القبور وعباد الأشجار والأحجار أكفر من اليهود والنصارى، ولهذا ميز الله أحكامهم وإن اجتمعوا في الكفر والضلال ومصيرها النار جميعا لكنهم متفاوتون في الكفر والضلال، وإن جمعهم(43/12)
الكفر والضلال فمصيرهم إلى النار إذا ماتوا على ذلك، لكنهم أقسام متفاوتون. فإذا أراد البعثي أن يدعي الإسلام فلينبذ البعثية أو الاشتراكية والشيوعية ويتبرأ منها ويتوب إلى الله من كل ما يخالف الإسلام حتى يعلم صدقه، ثم إذا كان هذا العدو الفاجر الخبيث صدام حاكم العراق إذا أراد أن يسلم ويتوب فلينبذ ما هو عليه من البعثية ويتبرأ منها ويعلن الإسلام ويرد البلاد إلى أهلها ويرد المظالم إلى أهلها ويتوب إلى الله من ذلك.
ويعلن ذلك ويسحب جيشه من الكويت ويعلن توبته إلى الله ويحكم الشريعة في بلاده حتى يعلم الناس صدقه. والمقصود أن جهاده من أهم الجهاد وهو جهاد لعدو مبين حتى ينتقم منه وترد الحقوق إلى أهلها وحتى تهدأ هذه الفتنة التي أثارها وبعثها وسبب قيامها. فجهاده من الدول الإسلامية متعين، وهذه الدولة الإسلامية المملكة العربية السعودية ومن ساعدها جهادهم له جهاد شرعي والمجاهد فيها يرجى له إذا صلحت نيته الشهادة إن قتل والأجر العظيم إن سلم إذا كان مسلما.
أما ما يتعلق بالاستعانة بغير المسلمين فهذا حكمه معروف عند أهل العلم والأدلة فيه كثيرة، والصواب ما تضمنه قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية أنه يجوز الاستعانة بغير المسلمين للضرورة إذا دعت إلى ذلك لرد العدو الغاشم والقضاء عليه وحماية البلاد من شره إذا كانت القوة المسلمة لا تكفي لردعه جاز الاستعانة. ممن يظن فيهم أنهم يعينون ويساعدون على كف شره وردع عدوانه سواء كان المستعان به يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا أو غير ذلك إذا رأت الدولة الإسلامية أن عنده نجدة ومساعدة لصد عدوان العدو المشترك. وقد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا(43/13)
وهذا، في مكة استعان. بمطعم بن عدي لما رجع من الطائف وخاف من أهل مكة بعد موت عمه أبي طالب، فاستجار بغيره فلم يستجيبوا، فاستجار بالمطعم وهو من كبارهم في الكفر وحماه لما دعت الضرورة إلى ذلك، وكان يعرض نفسه عليه الصلاة والسلام على المشركين في منازلهم في منى يطلب منهم أن يجيروه حتى يبلغ رسالة ربه عليه الصلاة والسلام على تنوع كفرهم، واستعان بعبد الله بن أريقط في سفره وهجرته إلى المدينة - وهو كافر- لما عرف أنه صالح لهذا الشيء، وأن لا خطر منه في الدلالة، وقال يوم بدر: «لا أستعين بمشرك (1) » ولم يقل: " لا تستعينوا " بل قال: «لا أستعين (2) » لأنه ذلك الوقت غير محتاج لهم والحمد لله معه جماعة مسلمون، وكان ذلك من أسباب هداية الذي رده حتى أسلم «وفي يوم الفتح استعان بدروع من صفوان بن أمية، وكان على دين قومه، فقال: (أغصبا يا محمد) فقال: " لا ولكن عارية مضمونة (3) » ، واستعان باليهود في خيبر لما شغل المسلمون عن الحرث بالجهاد وتعاقد معهم على النصف في خيبر حتى يقوموا على نخيلها وزروعها بالنصف للمسلمين والنصف لهم، وهم يهود، لما رأى المصلحة في ذلك. فاستعان بهم لذلك، وأقرهم في خيبر، حتى تفرغ المسلمون لأموالهم في خيبر في عهد عمر فأجلاهم عمر رضي الله عنه.
ثم القاعدة المعروفة يقول الله جل وعلا: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (4) والمسلمون إذا اضطروا لعدو شره دون العدو الآخر وأمكن الاستعانة به على عدو آخر أشر منه فلا بأس.
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817) ، سنن الترمذي السير (1558) ، سنن أبو داود الجهاد (2732) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2832) ، مسند أحمد بن حنبل (6/149) ، سنن الدارمي السير (2496) .
(2) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817) ، سنن الترمذي السير (1558) ، سنن أبو داود الجهاد (2732) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2832) ، مسند أحمد بن حنبل (6/149) ، سنن الدارمي السير (2496) .
(3) سنن أبو داود البيوع (3563) ، مسند أحمد بن حنبل (3/401) .
(4) سورة الأنعام الآية 119(43/14)
ومعلوم أن الملاحدة والبعثيين وأشباههم أشر من اليهود والنصارى، والملاحدة كلهم أشر من أهل الكتاب وشرهم أعظم، فالاستعانة العارضة بطوائف من المشركين لصد عدوان العدو الأشر والأخبث لدفع عدوانه والقضاء عليه وحماية المسلمين من شره أمر جائز شرعا حسب الأدلة والقواعد الشرعية، أما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن والقعود عنها فمعروف عند أهل العلم وتفصيل ذلك فيما يلي: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، من يستشرف لها تستشرفه، فمن استطاع أن يعوذ بملجأ أو معاذ فليفعل (1) » هذه الفتنة هي الفتن التي لا يظهر وجهها ولا يعلم طريق الحق فيها بل هي ملتبسة فهذه يجتنبها المؤمن ويبتعد عنها بأي ملجأ ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المرء المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن (2) » أخرجه البخاري في الصحيح، ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم لما «سئل أي الناس أفضل؟ قال: " مؤمن مجاهد في سبيل الله "، قيل: ثم من؟ قال: " مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره (3) » فالمقصود أن هذا عند خفاء الأمور وعند خوف المؤمن على نفسه لمجتنبها، أما إذا ظهر له الظالم من المظلوم والمبطل من المحق فالواجب أن يكون مع المحق ومع المظلوم ضد الظالم وضد المبطل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قيل يا رسول الله كيف أنصره ظالما؟ قال: " تحجزه عن الظلم فذلك نصره (4) » أي منعه من الظلم هو النصر، ولما وقعت الفتنة في عهد الصحابة رضي الله عنهم اشتبهت على بعض الناس، وتأخر عن
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3602) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2886) ، مسند أحمد بن حنبل (2/282) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (19) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5036) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4267) ، سنن ابن ماجه الفتن (3980) ، مسند أحمد بن حنبل (3/43) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2786) ، صحيح مسلم الإمارة (1888) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1660) ، سنن النسائي الجهاد (3105) ، سنن أبو داود الجهاد (2485) ، سنن ابن ماجه الفتن (3978) ، مسند أحمد بن حنبل (3/37) .
(4) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .(43/15)
المشاركة فيها بعض الصحابة من أجل أحاديث الفتن، كسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وجماعة رضي الله عنهم، ولكن فقهاء الصحابة الذين كان لهم من العلم ما هو أكمل قاتلوا مع علي، لأنه أولى الطائفتين بالحق وناصروه ضد الخوارج وضد البغاة الذين هم من أهل الشام لما عرفوا الحق، وأن عليا مظلوم، وأن الواجب أن ينصر، وأنه هو الإمام الذي يجب أن يتبع، وأن معاوية ومن معه بغوا عليه بشبهة قتل عثمان.
والله جل وعلا يقول في كتابه العظيم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} (1) ما قال: فاعتزلوا، قال: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) فإذا عرف الظالم وجب أن يساعد المظلوم لقوله سبحانه: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (3) والباغون في عهد الصحابة معاوية وأصحابه، والمعتدلة علي وأصحابه فبهذا نصرهم أعيان الصحابة: نصروا عليا وصاروا معه كما هو معلوم.
وقال في هذا المعنى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في قصة الخوارج: «تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق (4) » فقتلهم علي وأصحابه وهم أولى الطائفتين بالحق.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عمار: «تقتل عمارا الفئة الباغية (5) » فقتله معاوية وأصحابه في وقعة صفين.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) سورة الحجرات الآية 9
(3) سورة الحجرات الآية 9
(4) صحيح مسلم الزكاة (1065) ، سنن أبو داود السنة (4764) ، مسند أحمد بن حنبل (3/32) .
(5) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2916) ، مسند أحمد بن حنبل (6/289) .(43/16)
فمعاوية وأصحابه بغاة لكن مجتهدون ظنوا أنهم مصيبون في المطالبة بدم عثمان، كما ظن طلحة والزبير يوم الجمل ومعهم عائشة رضي الله عنها، لكن لم يصيبوا فلهم أجر الاجتهاد وفاتهم أجر الصواب.
وعلي له أجر الاجتهاد وأجر الصواب جميعا، وهذه هي القاعدة الشرعية في حق المجتهدين من أهل العلم أن من اجتهد في طلب الحق، ونظر في أدلته من قاض أو مصلح أو محارب فله أجران إن أصاب الحق وأجر واحد إن أخطأ الحق، أجر الاجتهاد، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد وأخطأ فله أجر (1) » متفق على صحته، فكل فتنة تقع على يد أي إنسان من المسلمين أو من المبتدعة أو من الكفار ينظر فيها فيكون المؤمن مع المحق ومع المظلوم ضد الظالم وضد المبطل وبهذا ينصر الحق وتستقيم أمور المسلمين وبذلك يرتدع الظالم عن ظلمه، ويعلم طالب الحق أن الواجب التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان، عملا بقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) فقتال الباغي وقتال الكافر الذي قام ضد المسلمين وقتال من يتعدى على المسلمين لظلمه وكفره حق وبر ونصر للمظلوم وردع للظالم، فقتال المسلمين لصدام وأشباهه من البر ومن الهدى، ويجب أن يبذلوا كل ما يستطيعونه في قتاله وأن يستعينوا بأي جهة يرون أنها تنفع وتعين في ردع الظالم وكبح جماحه والقضاء عليه وتخليص المسلمين من شره، ولا يجوز للمسلمين أيضا أن يتخلوا عن المظلومين ويدعوهم للظالم يلعب بهم بأي وجه من الوجوه، بل
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7352) ، صحيح مسلم الأقضية (1716) ، سنن أبو داود الأقضية (3574) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2314) ، مسند أحمد بن حنبل (2/187) .
(2) سورة المائدة الآية 2(43/17)
يجب أن يردع الظالم وأن ينصر المظلوم قي القليل والكثير.
فالواجب على جميع المسلمين أن يتفقهوا في الدين وأن يكونوا على بصيرة فيما يأتون وفيما يذرون وأن يحكموا كتاب الله العظيم وسنة نبيه الكريم في كل شيء، وأن يدرسوهما دراسة الطالب للحق المريد وجه الله والدار الآخرة الذي يريد أن ينفذ حكم الله في عباد الله وأن يحذروا الهوى فإن الهوى يهوي بأهله إلى النار، قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (1) وقال جل وعلا: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (2) وما يظن العاقل ذو البصيرة لو أن صداما ترك له المجال فعاث في الجزيرة فسادا، وساعده من مالأهم على المساعدة من الجنوب والشمال على باطله، ماذا يترتب على ذلك من الكوارث العظيمة والفساد الكبير والشر الكثير لو تمكن من تنفيذ خططه الخبيثة؛ ولكن من نصر الله جل وعلا ورحمته وفضله وإحسانه أن تنبه ولاة الأمور في المملكة العربية السعودية لخبثه وشره وما انطوى عليه من الباطل وما أسسه من الشر والفساد، فاستعانوا بالقوات متعددة الجنسيات على حربه والدفاع عن الدين والبلاد حتى أبطل الله كيده وصده عن نيل ما أراد، ونسأل الله أن يحسن العاقبة، وأن يكفينا شره وشر غيره وأن ينصر جيوشنا الإسلامية ومن ساعدهم على حاكم العراق حتى ينزع من ظلمه ويسحب جيشه من
__________
(1) سورة ص الآية 26
(2) سورة القصص الآية 50(43/18)
الكويت ويوقف عند حده، كما نسأله سبحانه أن يوفق جيوشنا جميعا للفقه في الدين وأن يكفينا شر ذنوبنا وشر تقصيرنا وأن يكفينا شر جميع الكفرة من جميع الأجناس وأن يردهم إلى بلادهم ونحن سالمون من شرهم، وأن يهدي منهم من سبقت له السعادة إلى الإسلام وأن ينقذهم مما هم فيه من الكفر، نسأل الله أن يهديهم جميعا وأن يردهم إلى الحق والهدى وأن يكفينا شرهم جميعا من بعثيين ونصارى وغيرهم، نسأل الله أن يهديهم للإسلام ويكفينا شرهم، ويبعد من بقي على الكفر منهم إلى بلاده بعد سلامة المسلمين وبعد القضاء على عدو الله حاكم العراق وجيشه المساعد له، وأن يختار للعراق رجلا صالحا، يحكم فيهم شرع الله كما نسأله أن يولي على جميع المسلمين من يحكم فيهم شرع الله، ويقودهم بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يكفي المسلمين شر ولاتهم الذين يخالفون شرع الله، وأن يصلح ولاة المسلمين وقادتهم ويهديهم صراطه المستقيم، وأن يولي على المسلمين جميعا في كل مكان خيارهم، وأن يصلح أحوالهم في كل مكان وأن يكفيهم شر الأعداء أينما كانوا وأن يبطل كيد الأعداء ويكفينا شرهم وأن يكفينا شر ذنوبنا جميعا، وأن يمن علينا بالتوبة النصوح، وأن يجعل ما نزل بالكويت وما حصل من المحنة العظيمة والفتنة الكبيرة هذه الأيام موعظة للجميع وسببا لعلاج الجميع ويقظتهم، وأن يوفق حكومتنا لكل خير وأن يعينها على طاعة الله ورسوله وعلى إعداد الجيش الكافي الذي يغنيها عن جميع أعداء الله، ونسأل الله أن يهدي(43/19)
جيراننا جميعا للتمسك بكتاب الله، وأن يجمعهم على الحق والهدى وأن يعينهم على طاعة الله ورسوله، وأن يعيذهم ممن بينهم من الأعداء والمنافقين المحاربين لله ورسوله، الذين يدعون إلى ضد كتاب الله وإلى ضد سنة رسوله عليه الصلاة والسلام. نسأل الله أن يبطل كيد أعداء الله ويفرق شملهم ويوفق دعاة الحق لما فيه رضاه، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن يجمع كلمتنا جميعا معشر المسلمين على الحق والهدى أينما كنا، وأن يكفينا شر أعدائنا أينما كانوا إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(43/20)
بحث في الادخار "القسم الثاني "
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
باب ما يجري فيه الربا: عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منهما غائبا بناجز (1) » متفق عليه. وفي لفظ: «" الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء (2) » رواه أحمد والبخاري. وفي لفظ: «" لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، إلا وزنا بوزن، مثلا بمثل، سواء بسواء (3) » رواه أحمد ومسلم.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «" الذهب بالذهب، وزنا بوزن، مثلا بمثل، والفضة بالفضة، وزنا بوزن، مثلا بمثل (4) » رواه أحمد ومسلم والنسائي.
وعن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «" التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه (5) » رواه مسلم.
وعن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «" لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن (6) » رواه مسلم والنسائي وأبو داود
. (قوله: "الذهب بالذهب") يدخل في الذهب جميع أنواعه من مشروب، ومنقوش، وجيد، ورديء، وصحيح، ومكسر، وحلي، وتبر
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2176، 2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1584، 1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241، 1241) ، سنن النسائي البيوع (4565، 4565) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (3/50، 3/97) ، موطأ مالك البيوع (1324، 1324) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1588) ، سنن النسائي البيوع (4559) ، سنن ابن ماجه التجارات (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) ، موطأ مالك البيوع (1323) .
(5) صحيح مسلم المساقاة (1588) ، سنن النسائي البيوع (4559) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .
(6) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3353) ، مسند أحمد بن حنبل (6/22) .(43/21)
وخالص، ومغشوش. وقد نقل النووي وغيره الإجماع على ذلك.
قوله: "إلا مثلا بمثل" هو مصدر في موضع الحال: أي الذهب يباع بالذهب، موزونا بموزون، أو مصدر مؤكد أي: يوزن وزنا بوزن. وقد جمع بين المثل والوزن في رواية مسلم المذكورة. قوله: "ولا تشفوا" بضم أوله وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء رباعي من أشف، والشف بالكسر: الزيادة، ويطلق على النقص، والمراد هنا لا تفضلوا. قوله: "بناجز" بالنون والجيم والزاي؛ أي لا تبيعوا مؤجلا بحال. ويحتمل أن يراد بالغائب أعم من المؤجل، كالغائب عن المجلس مطلقا مؤجلا كان أو حالا، والناجز: الحاضر. قوله: "والفضة بالفضة" يدخل في ذلك جميع أنواع الفضة، كما سلف في الذهب. قوله: "والبر بالبر" بضم الباء وهو الحنطة والشعير بفتح أوله، ويجوز الكسر وهو معروف. وفيه رد على من قال: (إن الحنطة والشعير صنف واحد) وهو مالك والليث والأوزاعي، وتمسكوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «الطعام بالطعام (1) » كما سيأتي، ويأتي الكلام على ذلك. قوله: " فمن زاد. . " إلخ، فيه التصريح بتحريم ربا الفضل، وهو مذهب الجمهور للأحاديث الكثيرة المذكورة في الباب وغيرها، فإنها قاضية بتحريم بيع هذه الأجناس بعضها ببعض متفاضلا. وروي عن ابن عمر أنه يجوز ربا الفضل، ثم رجع عن ذلك، وكذلك روي عن ابن عباس. واختلف في رجوعه، فروى الحاكم أنه رجع عن ذلك لما ذكر له أبو سعيد حديثه الذي في الباب، واستغفر الله، وكان ينهى عنه أشد النهي. وروي مثل قولهما عن أسامة بن زيد، وابن الزبير، وزيد بن أرقم، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير. واستدلوا على جواز ربا الفضل بحديث أسامة عند الشيخين، وغيرهما، بلفظ: «إنما الربا في النسيئة (2) » زاد مسلم في رواية عن ابن عباس: «"لا ربا فيما كان يدا بيد (3) » ، وأخرج
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/200) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(43/22)
الشيخان والنسائي عن أبي المنهال قال: سألت زيد بن أرقم، والبراء بن عازب عن الصرف فقالا: « (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا) (1) » . وأخرج مسلم عن أبي نضرة قال: (سألت ابن عباس عن الصرف فقال: إلا يدا بيد، قلت: نعم، قال: فلا بأس، فأخبرت أبا سعيد، فقال: أو قال ذلك؟ إنا سنكتب إليه فلا يفتيكموه) . وله من وجه آخر عن أبي نضرة: (سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا، وإني لقاعد عند أبي سعيد، فسألته عن الصرف فقال: ما زاد فهو ربا، فأنكرت ذلك لقولهما، فذكر الحديث، قال: فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه فكرهه) . قال في الفتح: (واتفق العلماء على صحة حديث أسامة، واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد. فقيل: إن حديث أسامة منسوخ، لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وقيل: المعنى في قوله (لا ربا) الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: (لا عالم في البلد إلا زيد) ، مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل. وأيضا نفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم فيقدم عليه حديث أبي سعيد، لأن دلالته بالمنطوق، ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر) . اهـ. ويمكن الجمع أيضا بأن يقال: مفهوم حديث أسامة عام؛ لأنه يدل على نفي ربا الفضل عن كل شيء سواء كان من الأجناس المذكورة في أحاديث الباب أم لا، فهو أعم منها مطلقا، فيخصص هذا المفهوم بمنطوقها.
وأما ما أخرجه مسلم عن ابن عباس: (أنه لا ربا فيما كان يدا بيد) كما تقدم، فليس ذلك مرويا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تكون دلالته على نفي ربا الفضل منطوقه، ولو كان مرفوعا لما رجع ابن عباس واستغفر لما حدثه
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2181) ، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4575) ، مسند أحمد بن حنبل (4/289) .(43/23)
أبو سعيد بذلك كما تقدم. وقد روى الحازمي رجوع ابن عباس واستغفاره عند أن سمع عمر بن بالخطاب وابنه عبد الله يحدثان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على تحريم ربا الفضل، وقال: (حفظتما من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم أحفظ) . وروى عنه الحازمي أيضا أنه قال: (كان ذلك برأيي، وهذا أبو سعيد الخدري يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركت رأيي إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) . وعلى تسليم أن ذلك الذي قاله ابن عباس مرفوع، فهو عام مخصص بأحاديث الباب؛ لأنها أخص منه مطلقا. وأيضا الأحاديث القاضية بتحريم ربا الفضل ثابتة عن جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما، قال الترمذي بعد أن ذكر حديث أبي سعيد: (وفي الباب عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأبي هريرة، وهشام بن عامر، والبراء، وزيد بن أرقم، وفضالة بن عبيد، وأبي بكرة، وابن عمر، وأبي الدرداء، وبلال) . اهـ. وقد ذكر المصنف بعض ذلك في كتابه هذا، وخرج الحافظ في التلخيص بعضها، فلو فرض معارضة حديث أسامة لها من جميع الوجوه، وعدم إمكان الجمع أو الترجيح بما سلف لكان الثابت عن الجماعة أرجح من الثابت عن الواحد. قوله: "ولا الورق بالورق " بفتح الواو وكسر الراء، وبإسكانها على المشهور، ويجوز فتحهما، كذا في الفتح وهو: الفضة، وقيل: بكسر الواو المضروبة وبفتحها: المال. والمراد هنا: جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة. قوله: "إلا وزنا بوزن، مثلا بمثل، سواء بسواء" الجمع بين هذه الألفاظ لقصد التأكيد أو للمبالغة. قوله: "إلا ما اختلفت ألوانه" المراد: أنهما اختلفا في اللون اختلافا يصير به كل واحد منهما جنسا غير جنس مقابله، فمعناه معنى ما سيأتي من قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم " وسنذكر- إن شاء الله- ما يستفاد منه.
عن أبي بكرة قال: « (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة، والذهب(43/24)
بالذهب، إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة! كيف شئنا) (1) » أخرجاه. وفيه دليل على جواز الذهب بالفضة مجازفة.
وعن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «"الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء (2) » متفق عليه. وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «"الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (3) » رواه أحمد ومسلم، وللنسائي وابن ماجه وأبي داود نحوه. وفي. آخره: «"وأمرنا أن نبيع البر بالشعير، والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا (4) » وهو صريح في كون البر والشعير جنسين.
وعن معمر بن عبد الله قال: كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «"الطعام بالطعام مثلا بمثل (5) » وكان طعامنا يومئذ الشعير. رواه أحمد ومسلم.
وعن الحسن عن عبادة، وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «"ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا، وما كيل فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان فلا بأس به» رواه الدارقطني.
حديث أنس وعبادة أشار إليه في التلخيص، ولم يتكلم عليه. وفي إسناده الربيع بن صبيح، وثقه أبو زرعة وغيره، وضعفه جماعة. وقد أخرج هذا الحديث البزار أيضا، ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولا وغيره من الأحاديث. قوله: "كيف شئنا" هذا الإطلاق مقيد بما في حديث عبادة من قوله: "إذا كان يدا بيد" فلا بد في بيع بعض الربويات من التقابض ولا سيما في الصرف: وهو بيع الدراهم بالذهب وعكسه فإنه متفق على اشتراطه. وظاهر هذا الإطلاق والتفويض إلى المشيئة أنه يجوز بيع
__________
(1) صحيح البخاري كتاب البيوع (2182) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4579) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2134، 2134) ، صحيح مسلم المساقاة (1586، 1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243، 1243) ، سنن النسائي البيوع (4558، 4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348، 3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253، 2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45، 1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333، 1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578، 2578) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(5) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .(43/25)
الذهب بالفضة والعكس، وذلك سائر الأجناس الربوية إذا بيع بعضها ببعض من غير تقييد بصفة من "الصفات غير صفة القبض، ويدخل في ذلك بيع الجزاف وغيره. قوله: "إلا هاء وهاء" بالمد فيهما وفتح الهمزة، وقيل: بالكسر، وقيل: بالسكون، وحكي القصر بغير همز وخطأها الخطابي، ورد عليه النووي وقال: (هي صحيحة لكن قليلة) . والمعنى: خذ وهات. وحكى بزيادة كاف مكسورة ويقال: هاء، بكسر الهمزة. بمعنى: هات. وبفتحها. بمعنى: خذ. وقال ابن الأثير: "هاء وهاء": (هو أن يقول كل واحد من البيعين: هاء، فيعطيه ما في يده) . وقيل معناهما: خذ وأعط. قال: وغير الخطابي يجيز فيه السكون، وقال ابن مالك: (هاء: اسم فعل. بمعنى خذ) . وقال الخليل: (هاء كلمة تستعمل عند المناولة، والمقصود من قوله: "هاء وهاء" أن يقول كل واحد من المتعاقدين لصاحبه، هاء، فيتقابضان في المجلس) . قال: (فالتقدير: لا تبيعوا الذهب بالورق إلا مقولا بين المتعاقدين هاء وهاء. قوله: "فإذا اختلفت هذه الأصناف. . "الخ. ظاهر هذا أنه لا يجوز بيع جنس ربوي بجنس آخر إلا مع القبض، ولا يجوز مؤجلا ولو اختلفا في الجنس والتقدير، كالحنطة والشعير بالذهب والفضة، وقيل: يجوز مع الاختلاف المذكور، وإنما يشترط التقابض في الشيئين المختلفين جنسا المتفقين تقديرا، كالفضة بالذهب، والبر بالشعير، إذ لا يعقل التفاضل والاستواء إلا فيما كان كذلك. ويجاب بأن مثل هذا لا يصلح لتخصيص النصوص وتقييدها، وكون التفاضل والاستواء لا يعقل في المختلفين جنسا وتقديرا ممنوع، والسند أن التفاضل معقول لو كان الطعام يوزن أو النقود تكال ولو في بعض الأزمان والبلدان، ثم إنه قد يبلغ ثمن الطعام إلى مقدار من الدراهم كثير عند شدة الغلاء، بحيث يعقل أن يقال: الطعام أكثر من الدراهم وما المانع من ذلك؟ . وأما الاستدلال على جواز ذلك بحديث عائشة عند البخاري ومسلم وغيرهما قالت:(43/26)
« (اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاما بنسيئة وأعطاه درعا له رهنا) (1) » . فلا يخفى أن غاية ما فيه أن يكون مخصصا للنص المذكور لصورة الرهن، فيجوز في هذه الصورة لا في غيرها؛ لعدم صحة إلحاق ما لا عوض فيه عن الثمن. بما فيه عوض عنه وهو الرهن، نعم إن صح الإجماع الذي حكاه المغربي في شرح بلوغ المرام فإنه قال: (وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلا أو مؤجلا، كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير، وغيره من المكيل) اهـ.
كان ذلك هو الدليل على الجواز عند من كان يرى حجية الإجماع. وأما إذا كان الربوي يشارك مقابله في العلة، فإن كان بيع الذهب بالفضة، أو العكس، فقد تقدم أنه يشترط التقابض إجماعا، وإن كان في غير ذلك من الأجناس، كبيع البر بالشعير، أو بالتمر، أو العكس، فظاهر الحديث عدم الجواز، وإليه ذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة وأصحابه، وابن علية: (لا يشترط والحديث يرد عليه) . وقد تمسك مالك بقوله: "إلا يدا بيد" وبقوله: "الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء" على أنه يشترط القبض في الصرف عند الإيجاب بالكلام، ولا يجوز التراخي ولو كانا في المجلس. وقال الشافعي وأبو حنيفة والجمهور: (أن المعتبر التقابض في المجلس وإن تراخى عن الإيجاب) ، والظاهر الأول، لكنه أخرج عبد الرزاق وأحمد وابن ماجه، «عن ابن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اشتر الذهب بالفضة فإذا أخذت واحدا منهما فلا تفارق صاحبك وبينكما لبس (2) » فيمكن أن يقال: إن هذه الرواية تدل على اعتبار المجلس. قوله: "أن يبيع البر بالشعير. . . " إلخ. فيه- كما قال المصنف- تصريح بأن البر والشعير جنسان وهو مذهب الجمهور. وحكي عن مالك والليث والأوزاعي، كما تقدم أنها جنس واحد، وبه قال معظم علماء المدينة وهو محكي عن عمر وسعد وغيرهما من السلف، وتمسكوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «الطعام بالطعام (3) » كما
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2068) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .
(2) سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .(43/27)
في حديث معمر بن عبد الله المذكور. ويجاب عنه بما في آخر الحديث من قوله: (وكان طعامنا يومئذ الشعير) فإنه في حكم التقييد لهذا المطلق، وأيضا التصريح بجواز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا كما في حديث عبادة، وكذلك عطف أحدهما على الآخر كما في غيره من أحاديث الباب مما لا يبقى معه ارتياب في أنهما جنسان.
واعلم أنه قد اختلف هل يلحق بهذه الأجناس المذكورة في الأحاديث غيرها، فيكون حكمه حكمها في تحريم التفاضل والنساء مع الاتفاق في الجنس، وتحريم النساء فقط مع الاختلاف في الجنس والاتفاق في العلة؛ فقالت الظاهرية: (أنه لا يلحق بها غيرها في ذلك) . وذهب من عداهم من العلماء إلى أنه يلحق بها ما يشاركها في العلة ثم اختلفوا في العلة ما هي؟ فقال الشافعي: (هي الاتفاق في الجنس والطعم فيما عدا النقدين، وأما هما فلا يلحق بهما غيرهما من الموزونات) . واستدل على اعتبار الطعم بقوله صلى الله عليه وسلم: "الطعام بالطعام". وقال مالك في النقدين كقول الشافعي، وفي غيرهما العلة: الجنس والتقدير والاقتيات. وقال ربيعة: (بل اتفاق الجنس ووجوب الزكاة) . وقالت العترة جميعا: (بل العلة في جميعها اتفاق الجنس والتقدير بالكيل والوزن) ، واستدلوا على ذلك بذكره صلى الله عليه وسلم للكيل والوزن في أحاديث الباب. ويدل على ذلك أيضا حديث أنس المذكور فإنه حكم فيه على كل موزون مع اتحاد نوعه، وعلى كل مكيل كذلك بأنه مثل بمثل، فأشعر بأن الاتفاق في أحدهما مع اتحاد النوع موجب لتحريم التفاضل بعموم النص لا بالقياس، وبه يرد على الظاهرية، لأنهم إنما منعوا من الإلحاق لنفيهم للقياس. ومما يؤيد ذلك ما سيأتي في حديث أبي سعيد، وأبي هريرة أن النبي صعد قال في الميزان مثل ما قال في المكيل على ما سيبينه المصنف- إن شاء الله تعالى- وإلى مثل ما ذهبت إليه العترة ذهب أبو حنيفة وأصحابه، كما حكى ذلك عنه المهدي في البحر،(43/28)
وحكي عنه أنه يقول: (العلة في الذهب الوزن، وفي الأربعة الباقية كونها مطعومة موزونة أو مكيلة) .
والحاصل أنه قد وقع الاتفاق بين من عدا الظاهرية بأن جزء العلة الاتفاق في الجنس. واختلفوا في تعيين الجزء الآخر على تلك الأقوال، ولم يعتبر أحد منهم العدد جزء من العلة مع اعتبار الشارع له كما في رواية من حديت أبي سعيد: "ولا في ردهمين بدرهم ". وفي حديث عثمان عند مسلم: «"لا تبيعوا الدينار بالدينارين (1) » .
وعن أبي سعيد وأبي هريرة «أن رسول الله وسط استعمل رجلا على خيبر فجاءهم بتمر جنيب، فقال: "أكل تمر خيبر هكذا؟ " قال: إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: "لا تفعل بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا (2) » وقال في الميزان مثل ذلك، رواه البخاري. الحديث أخرجه أيضا مسلم. قوله: "رجلا" صرح أبو عوانة والدارقطني أن اسمه سواد بن غزية بمعجمة فزاي فياء مشددة كعطية. قوله: "جنيب" بفتح الجيم وكسر النون وسكون التحتية وآخره موحدة. اختلف في تفسيره " فقيل: هو الطيب، وقيل الصلب، وقيل ما أخرج منه حشفه ورديئه، وقيل مالا يختلط بغيره. وقال في القاموس: (إن الجنيب تمر جيد) . قوله: "بع الجمع" بفتح الجيم وسكون الميم. قال في الفتح: (هو التمر المختلط بغيره) . وقال في القاموس: (هو الدقل أو صنف من التمر) . والحديث يدل على أنه لا يجوز بيع رديء الجنس بجيده متفاضلا، وهذا أمر مجمع عليه لا خلاف بين أهل العلم فيه. وأما سكوت الرواة عن فسخ المذكور فلا يدل على عدم الوقوع؛ إما ذهولا وإما اكتفاء بأن ذلك معلوم. وقد ورد في بعض طرق الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذا هو الربا" فرده، كما نبه على ذلك في الفتح. وقد استدل أيضا بهذا الحديث على جواز بيع العينة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يشتري بثمن الجمع
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1585) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، سنن ابن ماجه التجارات (2256) ، موطأ مالك البيوع (1314) ، سنن الدارمي البيوع (2577) .(43/29)
جنيبا. ويمكن أن يكون بائع الجنيب منه هو الذي اشترى منه الجمع، فيكون قد عادت إليه الدراهم التي هي عين ماله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بأن يشتري الجنيب من غير من باع منه الجمع، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم. قال في الفتح: (وتعقب بأنه مطلق والمطلق لا يشمل، فإذا عمل به في صورة سقط الاحتجاج به في غيرها فلا يصح الاستدلال به على جواز الشراء ممن باع منه تلك السلعة بعينها) . انتهى. وسيأتي الكلام على بيع العينة. قوله: "وقال في الميزان مثل ذلك" أي مثل ما قال في المكيل من أنه لا يجوز بيع بعض الجنس منه ببعضه متفاضلا، وإن اختلفا في الجودة والرداءة، بل يباع رديئه بالدراهم ثم يشترى بهذا الجيد، والمراد بالميزان هنا: الموزون، وقالت المصنف رحمه الله: (وهو حجة في جريان الربا في الموزونات كلها، لأن قوله: "في الميزان" أي في الموزون، وإلا فنفس الميزان ليست من أموال الربا) . انتهى.(43/30)
باب في أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل:
عن جابر قال: « (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر) (1) » رواه مسلم والنسائي، وهو يدل. بمفهومه على أنه لو باعها بجنس غير التمر لجاز.
قوله: "الصبرة" قال في القاموس: (والصبرة بالضم: ما جمع من الطعام بلا كيل ووزن) انتهى. قوله: "لا يعلم كيلها" صفة كاشفة للصبرة، لأنه لا يقال لها صبرة إلا إذا كانت مجهولة الكيل. والحديث فيه دليل على أنه لا يجوز أن يباع جنس بجنسه وأحدهما مجهول المقدار؛ لأن العلم بالتساوي مع الاتفاق في الجنس شرط لا يجوز البيع بدونه، ولا شك أن الجهل بكلا البدلين أو بأحدهما فقط مظنة للزيادة والنقصان، وما كان مظنة للحرام وجب تجنبه، وتجنب هذه المظنة إنما يكون بكيل المكيل، ووزن الموزون من كل واحد من البدلين.
__________
(1) صحيح مسلم البيوع (1530) ، سنن النسائي البيوع (4547) .(43/30)
باب من باع ذهبا وغيره بذهب.
«عن فضالة بن عبيد قال: اشتريت قلادة يوم خيبر باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يباع حتى يفصل (1) » رواه مسلم والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه، وفي لفظ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة دنانير فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حتى تميز بينه وبينه" فقال: إنما أردت الحجارة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حتى تميز بينهما" قال: فرده حتى ميز بينهما، (2) » رواه أبو داود.
الحديث قال في التلخيص: له عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جدا في بعضها: (قلادة فيها خرز وذهب) وفي بعضها (ذهب وجوهر) وفي بعضها: (خرز وذهب) وفي بعضها (خرز معلقة بذهب) وفي بعضها (باثني عشر دينارا) وفي بعضها: (بتسعة دنانير) وفي أخرى (بسبعة دنانير) وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاف بأنها كانت بيوعا شهدها فضالة. قال الحافظ: (والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل. وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحال ما يوجب الحكم بالاضطراب، وحينئذ ينبغي الترجيح بين رواتها، وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم فيكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة) . انتهى. وبعض هذه الروايات التي ذكرها الطبراني في صحيح مسلم، وسنن أبي داود. قوله: (ففصلتها) بتشديد الصاد، الحديث استدل به على أنه لا يجوز بيع الذهب مع غيره بذهب حتى يفصل من ذلك الغير، ويميز عنه ليعرف مقدار الذهب المتصل بغيره. ومثله الفضة مع غيرها بفضة، وكذلك سائر الأجناس الربوية لاتحادها في العلة وهي تحريم بيع الجنس بجنسه متفاضلا. ومما يرشد إلى استواء الأجناس الربوية في هذا ما
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .(43/31)
تقدم من النهي عن بيع الصبرة من التمر بالكيل المسمى من التمر. وكذلك نهيه عن بيع التمر بالرطب خرصا لعدم التمكن من معرفة التساوي على التحقيق، وكذلك في مثل مسألة القلادة يتعذر الوقوف على التساوي من دون فصل، ولا يكفي مجرد الفصل، بل لا بد من معرفة مقدار المفصول والمقابل له من جنسه، وإلى العمل بظاهر الحديث ذهب عمر بن الخطاب وجماعة من السلف والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن الحكم المالكي. وقالت الحنفية، والثوري، والحسن بن صالح، والعترة: (إنه يجوز إذا كان الذهب المنفرد أكثر من الذي في القلادة ونحوها لا مثله ولا دونه) . وقال مالك: (يجوز إذا كان الذهب تابعا لغيره بأن يكون الثلث فما دون) . وقال حماد بن أبي سليمان: (إنه يجوز بيع الذهب مع غيره بالذهب مطلقا، سواء كان المنفصل مثل المتصل أو أقل أو أكثر) واعتذرت الحنفية، ومن قال بقولهم عن الحديث بأن الذهب كان أكثر من المنفصل واستدلوا بقوله: (ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا) ، والثمن إما سبعة أو تسعة، وأكثر ما روي أنه اثنا عشر. وأجيب عن ذلك. بما تقدم عن البيهقي من أن القصة التي شهدها فضالة كانت متعددة فلا يصح التمسك بما وقع في بعضها وإهدار البعض الآخر. وأجيب أيضا بشأن العلة هي عدم الفصل وظاهر ذلك عدم الفرق بين المساوي والأقل والأكثر والغنيمة وغيرها. وبهذا يجاب عن الخطابي حيث قال: (إن سبب النهي كون تلك القلادة كانت من الغنائم مخافة أن يقع المسلمون في بيعها) . وقد أجاب الطحاوي عن الحديث بأنه مضطرب. قال السبكي: (وليس ذلك باضطراب قادح، ولا ترد الأحاديث الصحيحة بمثل ذلك) . انتهى. وقد عرفت مما تقدم أنه لا اضطراب في محل الحجة، والاضطراب في غيره لا يقدح فيه. وبهذا يجاب أيضا على ما قاله مالك. وأما ما ذهب إليه حماد بن أبي سليمان فمردود بالحديث على جميع التقادير. ولعله يعتذر عنه بمثل ما قال الخطابي أو لم(43/32)
يبلغه. قوله: "حتى تميز" بضم تاء المخاطب في أوله وتشديد الياء المكسورة بعد الميم. قوله: "إنما أردت الحجارة" يعني الخرز الذي في القلادة ولم أرد الذهب.(43/33)
باب مرد الكيل والوزن:
وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المكيال مكيال أهل المدينة والوزن وزن أهل مكة (1) » رواه أبو داود والنسائي.
الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري، وأخرجه أيضا البزار، وصححه ابن حبان، والدارقطني، وفي رواية عن ابن عباس مكان ابن عمر. قوله: "المكيال مكيال أهل المدينة. . " إلخ، فيه دليل على أنه يرجع عند الاختلاف في الكيل إلى مكيال المدينة، وعند الاختلاف في الوزن إلى ميزان مكة. أما مقدار ميزان مكة، فقال ابن حزم: (بحثت غاية البحث عن كل من وثقت بتمييزه فوجدت كلا يقول: إن دينار الذهب. بمكة وزنه اثنتان وثمانون حبة وثلاثة أعشار حبة بالحب من الشعير، والدرهم سبعة أعشار المثقال، فوزن الدرهم سبع وخمسون حبة وستة أعشار حبة وعشر عشر حبة، فالرطل مائة وثمانية وعشرون درهما بالدرهم المذكور. وأما مكيال المدينة فقد قدمنا تحقيقه في الفطرة، ووقع في رواية لأبي داود، من طريق الوليد بن مسلم، عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي قال: (وزن المدينة، ومكيال مكة) ، والرواية المذكورة في الباب من طريق سفيان الثوري عن حنظلة عن طاوس عن ابن عمر لي هي أصح. وأما الرواية التي ذكرها أبو داود عن ابن عباس، فرواها أيضا الدارقطني، من طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان عن حنظلة عن طاوس عن ابن عباس، ورواه من طريق أبي نعيم عن الثوري عن حنظلة عن سالم بدل طاوس عن ابن عباس، قال الدارقطني: (أخطأ أبو أحمد فيه) .
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2520) ، سنن أبو داود البيوع (3340) .(43/33)
ومن أحاديثه أيضا مع شرحها من نيل الأوطار.
«عن ابن عباس قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: " من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم ") (1) » رواه الجماعة، وهو حجة في السلم في منقطع الجنس حالة العقد.
قوله: (كتاب السلم) هو بفتح السين المهملة واللام، كالسلف وزنا ومعنى، وحكي في الفتح عن الماوردي أن السلف: لغة أهل العراق والسلم: لغة أهل الحجاز، وقيل السلف: تقديم رأس المال، والسلم: تسليمه في المجلس، فالسلف أعم، قال في الفتح: (والسلم شرعا: بيع موصوف في الذمة وزيد في الحد ببدل يعطى عاجلا) ، وفيه نظر، لأنه ليس داخلا في حقيقته، قال: (واتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب. واختلفوا في بعض شروطه، واتفقوا على أنه يشترط له ما يشترط للبيع وعلى تسلم رأس المال في المجلس. واختلفوا هل هو عقد غرر جوز للحاجة أم لا؟) اهـ. قوله: (يسلفون) بضم أوله. قوله: (السنة والسنتين) في رواية البخاري: عامين أو ثلاثة، والسنة بالنصب على الظرفية أو على المصدر، وكذلك لفظ سنتين وعامين. قوله: "في كيل معلوم" احترز بالكيل عن السلم في الأعيان وبقوله: (معلوم) عن المجهول من المكيل والموزون. وقد كانوا في المدينة حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون في ثمار نخيل بأعيانها، فنهاهم عن ذلك لما فيه من الغرر، إذ قد تصاب تلك النخيل بعاهة فلا تثمر شيئا. قال الحافظ: (واشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل متفق عليه من أجل اختلاف المكاييل إلا أن لا يكون في البلد سوى كيل واحد فإنه ينصرف إليه عند الإطلاق) . قوله: "إلى أجل معلوم" فيه دليل على اعتبار الأجل في السلم، وإليه ذهب الجمهور. وقالوا: (لا يجوز السلم حالا) . وقالت الشافعية: (يجوز) ، قالوا: (لأنه إذا
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2239) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/217) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .(43/34)
جاز مؤجلا مع الغرر فجوازه حالا أولى، وليس ذكر الأجل في الحديث؛ لأجل الاشتراط، بل معناه إن كان لأجل فليكن معلوما) . وتعقب بالكتاب فإن التأجيل شرط فيها. وأجيب بالفرق؛ لأن الأجل في الكتابة شرع لعدم قدرة العبد غالبا. واستدل الجمهور على اعتبار التأجيل بما أخرجه الشافعي، والحاكم وصححه، عن ابن عباس أنه قال: (أشهد أن السلف المضمون إلى أجل قد أحله الله في كتابه وأذن فيه) ، ثم قرأ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) ويجاب بأن هذا يدل على جواز السلم إلى أجل، ولا يدل على أنه لا يجوز إلا مؤجلا. وبما أخرجه ابن أبي شيبة في ابن عباس أنه قال: (لا تسلف إلى العطاء ولا إلى الحصاد واضرب أجلا) ويجاب بأن هذا ليس بحجة؛ لأنه موقوف عليه. وكذلك يجاب عن قول أبي سعيد الذي علقه البخاري، ووصله عبد الرزاق بلفظ: (السلم بما يقوم به السعر ربا، ولكن السلف في كيل معلوم إلى أجل) وقد اختلف الجمهور في مقدار الأجل. فقال أبو حنيفة: (لا فرق بين الأجل القريب والبعيد) . وقال أصحاب مالك: (لا بد من أجل تتغير فيه الأسواق) وأقله عندهم ثلاثة أيام، وكذا عند الهادوية، وعند ابن القاسم خمسة عشر يوما، وأجاز مالك السلم إلى العطاء، والحصاد، ومقدم الحاج، ووافقه أبو ثور، واختار ابن خزيمة تأقيته إلى الميسرة. واحتج بحديث عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي: "ابعث إلي ثوبين إلى الميسرة» وأخرجه النسائي، وطعن ابن المنذر في صحته، وليس في ذلك دليل على المطلوب، لأن التنصيص على نوع من أنواع الأجل لا ينفي غيره، وقال المنصور بالله: (أقله أربعون يوما) . وقال الناصر: (أقله ساعة) . والحق ما ذهبت إليه الشافعية من عدم اعتبار الأجل؛ لعدم ورود دليل يدل عليه فلا يلزم التعبد بحكم بدون دليل، وأما ما يقال من أنه يلزم
__________
(1) سورة البقرة الآية 282(43/35)
مع عدم الأجل أن يكون بيعا للمعدوم، ولم يرخص فيه إلا في السلم، ولا فارق بينه وبين البيع إلا الأجل؛ فيجاب عنه بأن الصيغة فارقة وذلك كاف.
واعلم أن للمسلم شروطا غير ما اشتمل عليه الحديث، مبسوطة في كتب الفقه، ولا حاجة لنا في التعرض لما لا دليل عليه، إلا أنه وقع الإجماع على اشتراط معرفة صفة الشيء المسلم فيه، على وجه يتميز بتلك المعرفة عن غيره.
وعن عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى قالا: « (كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى، قيل: أكان لهم زرع أو لم يكن؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك) (1) » رواه أحمد والبخاري. وفي رواية: « (كنا نسلف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزيت والتمر وما نراه عندهم) (2) » رواه الخمسة إلا الترمذي.
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «"من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (3) » رواه أبو داود وابن ماجه
. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «"من أسلف شيئا فلا يشرط على صاحبه غير قضائه» ، وفي لفظ: «"من أسلف في شيء فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه أو رأس ماله» رواهما الدارقطني. واللفظ الأول دليل امتناع الرهن والضمين فيه، والثاني يمنع الإقالة في البعض.
حديث أبي سعيد في إسناده عطية بن سعد العوفي، قال المنذري: لا يحتج بحديثه. قوله: (ابن أبزى) بالموحدة والزاي على وزن أعلى، وهو الخزاعي أحد صغار الصحابة، ولأبيه أبزى صحبة. قوله: (أنباط) جمع نبيط: وهم قوم معروفون كانوا ينزلون بالبطائح من العراقين، قاله الجوهري، وأصلهم قوم من العرب دخلوا في العجم واختلطت أنسابهم وفسدت
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2245) ، سنن النسائي البيوع (4615) ، سنن أبو داود البيوع (3466) ، سنن ابن ماجه التجارات (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/354) .
(2) صحيح البخاري السلم (2243) ، سنن النسائي البيوع (4615) ، سنن أبو داود البيوع (3464) ، سنن ابن ماجه التجارات (2282) ، مسند أحمد بن حنبل (4/354) .
(3) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .(43/36)
ألسنتهم، ويقال لهم النبط بفتحتين، والنبيط بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية، وإنما سموا بذلك؛ لمعرفتهم بإنباط الماء: أي استخراجه؛ لكثرة معالجتهم الفلاحة. وقيل: هم نصارى الشام، وهم عرب دخلوا في الروم ونزلوا بوادي الشام. ويدل على هذا قوله: (من أنباط الشام) وقيل: هم طائفتان: طائفة اختلطت بالعجم ونزلوا البطائح، وطائفة اختلطت بالروم ونزلوا الشام. قوله: (فنسلفهم) بضم النون وإسكان السين المهملة وتخفيف اللام من الأسلاف، وقد تشدد اللام مع فتح السين من التسليف. قوله: (ما كنا نسألهم عن ذلك) فيه دليل على أنه لا يشترط في المسلم فيه أن يكون عند المسلم إليه، وذلك مستفاد من تقريره صلى الله عليه وسلم مع ترك الاستفصال. قال ابن رسلان: (وأما المعدوم عند المسلم إليه وهو موجود عند غيره فلا خلاف في جوازه) . قوله: (وما نراه عندهم) لفظ أبي داود (إلى قوم ما هو عندهم) أي: ليس عندهم أصل من أصول الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وقد اختلف العلماء في جواز السلم فيما ليس بموجود في وقت السلم إذا أمكن وجوده في وقت حلول الأجل، فذهب إلى جوازه الجمهور قالوا: (ولا يضر انقطاعه قبل الحلول) . وقال أبو حنيفة: (لا يصح فيما ينقطع قبله، بل لا بد أن يكون موجودا من العقد إلى المحل) . ووافقه الثوري والأوزاعي، فلو أسلم في شيء فانقطع في محله لم ينفسخ عند الجمهور. وفي وجه للشافعية ينفسخ. واستدل أبو حنيفة ومن معه بما أخرجه أبو داود «عن ابن عمر أن رجلا أسلف رجلا في نخل، فلم يخرج تلك السنة شيئا، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "بم تستحل ماله، اردد عليه ماله" ثم قال: "لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه"، (1) » وهذا نص في التمر، وغيره قياس عليه. ولو صح هذا الحديث لكان المصير إليه أولى، لأنه صريح في الدلالة على المطلوب، بخلاف حديث عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى، فليس فيه إلا مظنة التقرير منه صلى الله عليه وسلم، مع ملاحظة
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2248) ، سنن أبو داود البيوع (3467) ، موطأ مالك البيوع (1344) .(43/37)
تنزيل ترك الاستفصال منزلة العموم، ولكن حديث ابن عمر هذا في إسناده رجل مجهول، فإن أبا داود رواه عن محمد بن سفيان عن كثير عن أبي إسحاق عن رجل نجراني عن ابن عمر، ومثل هذا لا تقوم به حجة. قال القائلون بالجواز: (ولو صح هذا الحديث لحمل على بيع الأعيان أو على السلم الحال عند من يقول به، أو على ما قرب أجله) . قالوا: (ومما يدل على الجواز ما تقدم من أنهم كانوا يسلفون في الثمار السنتين والثلاث، ومن المعلوم أن الثمار لا تبقى هذه المدة، ولو اشترط الوجود لم يصح السلم في الرطب إلى هذه المدة وهذا أولى ما يتمسك به في الجواز) . قوله: "فلا يصرفه إلى غيره" الظاهر أن الضمير راجع إلى المسلم فيه لا إلى ثمنه الذي هو رأس المال. والمعنى: أنه لا يحل جعل المسلم فيه ثمنا لشيء قبل قبضه، ولا يجوز بيعه قبل القبض، أي: لا يصرفه إلى شيء غير عقد السلم. وقيل: الضمير راجع إلى رأس مال السلم. وعلى ذلك حمله ابن رسلان في شرح السنن وغيره، أي: ليس له صرف رأس المال في عوض آخر كأن يجعله ثمنا لشيء آخر، فلا يجوز له ذلك حتى يقبضه، وإلى ذلك ذهب مالك وأبو حنيفة والهادي والمؤيد بالله، وقال الشافعي وزفر: (يجوز ذلك؛ لأنه عوض عن مستقر في الذمة فجاز كما لو كان قرضا، ولأنه مال عاد إليه بفسخ العقد على فرض تعذر المسلم فيه فجاز أخذ العوض عنه كالثمن في المبيع إذا فسخ العقد) . قوله: "فلا يشرط على صاحبه غير قضائه" فيه دليل على أنه لا يجوز شيء من الشروط في عقد السلم غير القضاء. واستدل به المصنف على امتناع الرهن، وقد روي عن سعيد بن جبير أن الرهن في السلم هو الربا المضمون. وقد روي نحو ذلك عن ابن عمر والأوزاعي والحسن، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ورخص فيه الباقون، واستدلوا بما في الصحيح من حديث عائشة « (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى طعاما من يهودي نسيئة ورهنه درعا من حديد) (1) » . وقد ترجم عليه
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2068) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .(43/38)
البخاري: باب الرهن في السلم، وترجم عليه أيضا في كتاب السلم: باب الكفيل في السلم. واعترض عليه الإسماعيلي بأنه ليس في هذا الحديث ما ترجم به، ولعله أراد إلحاق الكفيل بالرهن؛ لأنه حق ثبت الرهن به فجاز أخذ الكفيل به، والخلاف في الكفيل كالخلاف في الرهن. قوله: "فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه. . . " إلخ. فيه دليل لمن قال: (إنه لا يجوز صرف رأس المال إلى شيء آخر) ، وقد تقدم الخلاف في ذلك.(43/39)
ومن أحاديث المنتقى مع شرحها من نيل الأوطار
باب النهي عن بيع ما لا يملكه ليمضى فيشتريه ويسلفه
«عن حكيم بن حزام قال: قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق، فقال: لا تبع ما ليس عندك (1) » رواه الخمسة.
الحديث أخرجه أيضا ابن حبان في صحيحه، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن حكيم) ، انتهى. وفي بعض طرقه عبد الله بن عصمة، زعم عبد الحق أنه ضعيف جدا ولم يتعقبه ابن القطان، بل نقل عن ابن حزم أنه مجهول. قال الحافظ: (وهو جرح مردود، فقد روى عنه ذلك ثلاثة كما في التلخيص) . وقد احتج به النسائي، وفي الباب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود والترمذي وصححه، والنسائي وابن ماجه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك (2) » قوله: "بما ليس عندك" أي ما ليس في ملكك وقدرتك، والظاهر أنه يصدق على العبد المغصوب الذي لا يقدر على انتزاعه ممن هو في يده، وعلى الآبق الذي لا يعرف مكانه، والطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه، ويدل على ذلك معنى (عند) لغة. قال الرضي: (إنها تستعمل في الحاضر القريب وما هو في حوزتك وإن كان بعيدا) . انتهى. فيخرج عن هذا ما كان
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .(43/39)
غالبا خارجا عن الملك أو داخلا فيه خارجا عن الحوزة، وظاهره أنه يقال لما كان حاضرا وإن كان خارجا عن الملك. فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تبع ما ليس عندك (1) » أي: ما ليس حاضرا عندك، ولا غائبا في ملكك وتحت حوزتك. قال البغوي: (النهي في هذا الحديث عن بيوع الأعيان التي لا يملكها. أما بيع شيء موصوف في ذمته فيجوز فيه السلم بشروطه، فلو باع شيئا موصوفا في ذمته عام الوجود عند المحل المشروط في البيع جاز، وإن لم يكن المبيع موجودا في ملكه حالة العقد كالسلم) ، قال: (وفي معنى بيع ما ليس عنده في الفساد بيع الطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه إلى محله، فإن اعتاد الطائر أن يعود ليلا لم يصح عند الأكثر إلا النحل فإن الأصحح فيه الصحة، كما قاله النووي في زيادات الروضة، وظاهر النهي تحريم ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلا تحت مقدرته. وقد استثني من ذلك السلم فتكون أدلة جوازه مخصصة لهذا العموم، وكذلك إذا كان البيع في ذمة المشتري إذ هو كالحاضر المقبوض) .
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .(43/40)
ثم قال: باب النهي عن بيع الدين بالدين وجوازه بالعين ممن هو عليه
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم « (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ) » رواه الدارقطني.
«وعن ابن عمر قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير. فقال: "لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء") (1) » رواه الخمسة، وفي لفظ بعضهم: « (أبيع بالدنانير وآخذ مكانها الورق وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير) (2) » وفيه دليل على جواز التصرف في الثمن قبل قبضه وإن كان في مدة الخيار، وعلى أن خيار الشرط لا يدخله الصرف.
الحديث الأول صححه الحاكم على شرط مسلم، وتعقب بأنه تفرد
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .(43/40)
به موسى بن عبيدة الربذي، كما قال الدارقطني وابن عدي، وقد قال فيه أحمد: (لا تحل الرواية عنه عندي، ولا أعرف هذا الحديث عن غيره) . وقال: (ليس في هذا أيضا حديث يصح، ولكن إجماع الناس على أنه لا يجوز بيع دين بدين) وقال الشافعي: (أهل الحديث يوهنون هذا الحديث) اهـ. ويؤيد ما أخرجه الطبراني عن رافع بن خديج «أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع كالئ بكالئ دين بدين) » ، ولكن في إسناده موسى المذكور فلا يصلح شاهدا. والحديث الثاني صححه الحاكم وأخرجه ابن حبان والبيهقي، وقال الترمذي: (لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث سماك بن حرب وذكر أنه روي عن ابن عمر موقوفا) ، وأخرجه النسائي موقوفا عليه أيضا. قال البيهقي: (والحديث تفرد برفعه سماك بن حرب) . وقال شعبة: (رفعه لنا سماك وأنا أفرقه) . قوله: (الكالئ بالكالئ) هو مهموز. قال الحاكم عن أبي الوليد حسان: (هو بيع النسيئة بالنسيئة) كذا نقله أبو عبيد في الغريب. وكذا نقله الدارقطني عن أهل اللغة. وروى البيهقي عن نافع قال: (هو بيع الدين بالدين) . وفيه دليل على عدم جواز بيع الدين بالدين. وهو إجماع كما حكاه أحمد في كلامه السابق، وكذا لا يجوز بيع كل معدوم بمعدوم. قوله: (بالبقيع) قال الحافظ: (بالباء الموحدة. كما وقع عند البيهقي في بقيع الغرقد) ، قال النووي: (ولم يكن إذ ذاك قد كثرت فيه القبور) ، وقال ابن باطيش: (لم أر من ضبطه والظاهر أنه بالنون) ، حكى ذلك عنه في التلخيص وابن رسلان في شرح السنن. قوله: "لا بأس. . . " إلخ. فيه دليل على جواز الاستبدال عن الثمن الذي في الذمة بغيره، وظاهره أنهما غير حاضرين جميعا، بل الحاضر أحدهما وهو غير اللازم، فيدل على أن ما في الذمة كالحاضر. قوله: "ما لم تفترقا وبينكما شيء" فيه دليل على أن جواز الاستبدال مقيد بالتقابض في المجلس؛ لأن الذهب والفضة مالان ربويان، فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر إلا بشرط وقوع(43/41)
التقابض في ألمجلس، وهو محكي عن عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما والحسن والحكم وطاوس والزهري ومالك والشافعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد وغيرهم، وروي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب، وهو أحد قولي الشافعي أنه مكروه أي: الاستبدال المذكور، والحديث يرد عليهم، واختلف الأولون فمنهم من قال: (يشترط أن يكون بسعر يومها كما وقع في الحديث وهو مذهب أحمد) ، وقال أبو حنيفة والشافعي: (أنه يجوز بسعر يومها وأغلى أو أرخص) ، وهو خلاف ما في الحديث من قوله: "بسعر يومها" وهو أخص من حديث: "إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد" فيبنى العام على الخاص.(43/42)
باب نهي المشتري عن بيع ما اشتراه قبل قبضه:
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «" إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه (1) » رواه أحمد ومسلم
«وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترى الطعام ثم يباع حتى يستوفى، (2) » رواه أحمد ومسلم، ولمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله (3) » .
«وعن حكيم بن حزام قال: (قلت يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: "إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه ") (4) » رواه أحمد.
«وعن زيد بن ثابت: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم) (5) » رواه أبو داود والدارقطني.
«وعن ابن عمر قال: (كانوا يبتاعون الطعام جزافا بأعلى السوق فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه) (6) » رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه، وفي لفظ في الصحيحين (حتى يحولوه) ، وللجماعة إلا
__________
(1) صحيح مسلم البيوع (1529) ، مسند أحمد بن حنبل (3/327) .
(2) صحيح مسلم البيوع (1528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/349) .
(3) صحيح مسلم البيوع (1528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/349) .
(4) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4603) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2187) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(6) صحيح البخاري البيوع (2167) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3494) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/21) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(43/42)
الترمذي: «"من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه "، (1) » ولأحمد: «"من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه (2) » ، ولأبي داود والنسائي « (نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه) (3) » .
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «"من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (4) » قال ابن عباس: (ولا أحسب كل شيء إلا مثله) رواه الجماعة إلا الترمذي وفي لفظ في الصحيحين: «"من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يكتاله (5) » .
حديث حكيم بن حزام أخرجه أيضا الطبراني في الكبير، وفي إسناده العلاء بن خالد الواسطي، وثقه ابن حبان وضعفه موسى بن إسماعيل. وقد أخرج النسائي بعضه وهو طرف من حديثه المتقدم في باب النهي " عن بيع مالا يملكه، وحديث زيد بن ثابت أخرجه أيضا الحاكم وصححه، وابن حبان وصححه أيضا. قوله: "إذا ابتعت طعاما" وكذا قوله في الحديث الثاني: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم. . .) إلخ. وكذا قوله: "من اشترى طعاما" وكذلك بقية ما فيه التصريح بمطلق الطعام في حديث الباب، في جميعها دليل على أنه لا يجوز لمن اشترى طعاما أن يبيعه حتى يقبضه من غير فرق بين الجزاف وغيره، وإلى هذا ذهب الجمهور. وروي عن عثمان البتي أنه يجوز بيع كل شيء قبل قبضه، والأحاديث ترد عليه، فإن النهي يقتضي التحريم بحقيقته، ويدل على الفساد المرادف للبطلان كما تقرر في الأصول، وحكي في الفتح عن مالك في المشهور عنه الفرق بين الجزاف وغيره، فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، واحتجوا بأن الجزاف يرى فيكفي فيه التخلية، والاستبقاء إنما يكون في مكيل أو موزون. وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا: "من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه" رواه أبو داود: النسائي بلفظ: (نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه) كما
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1336) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4604) ، سنن أبو داود البيوع (3495) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، مسند أحمد بن حنبل (2/111) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4604) ، سنن أبو داود البيوع (3495) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/22) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2126) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3492) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(43/43)
ذكره المصنف، وللدارقطني من حديث جابر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري) . ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة، قال في الفتح: (بإسناد حسن) ، قالوا: وفي ذلك دليل على أن القبض إنما يكون شرطا في المكيل والموزون دون الجزاف. واستدل الجمهور بإطلاق أحاديث الباب، وبنص حديث ابن عمر، فإنه صرح فيه بأنهم كانوا يبتاعون جزافا. . الحديث. ويدل لما قالوا حديث حكيم بن حزام المذكور؛ لأنه يعم كل مبيع. ويجاب عن حديث ابن عمر وجابر اللذين احتج بهما مالك ومن معه بأن التنصيص على كون الطعام المنهي عن بيعه مكيلا أو موزونا لا يستلزم عدم ثبوت الحكم في غيره. نعم لو لم يوجد في الباب إلا الأحاديث التي فيها إطلاق لفظ الطعام لأمكن أن يقال: إنه يحمل المطلق على المقيد بالكيل والوزن. وأما بعد التصريح بالنهي عن بيع الجزاف قبل قبضه كما في حديث ابن عمر فيحتم المصير إلى أن حكم الطعام متحد من غير فرق بين الجزاف وغيره. ورجح صاحب ضوء النهار أن هذا الحكم أعني: تحريم بيع الشيء قبل قبضه مختص بالجزاف دون المكيل والموزون وسائر المبيعات من غير الطعام، وحكي هذا عن مالك. ويجاب عنه بما تقدم من إطلاق الطعام، والتصريح بما هو أعم منه، كما في حديث حكيم، والتنصيص على تحريم بيع المكيل من الطعام والموزون كما في حديث ابن عمر وجابر، وما حكاه عن مالك خلاف ما حكاه عنه غيره، فإن صاحب الفتح حكى عنه ما تقدم، وهو مقابل لما حكاه عنه، وكذلك روى عن مالك ما يخالف ذلك ابن دقيق العيد وابن القيم وابن رشد في بداية المجتهد وغيرهم. وقد سبق صاحب ضوء النهار إلى هذا المذهب ابن المنذر، ولكنه لم يخصص بعض الطعام دون بعض، بل سوى بين الجزاف وغيره، ونفى اعتبار القبض عن غير الطعام، وقد حكى ابن القيم في بدائع الفوائد عن أصحاب مالك(43/44)
كقول ابن المنذر، ويكفي في رد هذا المذهب حديث حكيم فإنه يشمل بعمومه غير الطعام، وحديث زيد بن ثابت فإنه مصرح بالنهي في السلع. وقد استدل من خصص هذا الحكم بالطعام بما في البخاري من حديث ابن عمر « (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من عمر بكرا كان ابنه راكبا عليه، ثم وهبه لابنه قبل قبضه) » ويجاب عن هذا: بأنه خارج عن محل النزاع؛ لأن البيع معاوضة بعوض، وكذلك الهبة إذا كانت بعوض وهذه الهبة الواقعة من النبي صلى الله عليه وسلم ليست على عوض. وغاية ما في الحديث جواز التصرف في المبيع قبل قبضه بالهبة بغير عوض، ولا يصح الإلحاق للبيع وسائر التصرفات بذلك؛ لأنه مع كونه فاسد الاعتبار قياس مع الفارق، وأيضا قد تقرر في الأصول أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر الأمة أو نهاها أمرا أو نهيا خاصا بها ثم فعل ما يخالف ذلك ولم يقم دليل يدل على التأسي في ذلك الفعل بخصوصه كان مختصا به؛ لأن هذا الأمر أو النهي الخاصين بالأمة في مسألة مخصوصة هما أخص من أدلة التأسي العامة مطلقا، فيبنى العام على الخاص، وذهب بعض المتأخرين إلى تخصيص التصرف الذي نهى عنه قبل القبض بالبيع دون غيره، قال: (فلا يحل البيع ويحل غيره من التصرفات) ، وأراد بذلك الجمع بين أحاديث الباب وحديث شرائه صلى الله عليه وسلم للبكر، ولكنه يعكر عليه أن ذلك يستلزم إلحاق جميع التصرفات التي بعوض وبغير عوض كالهبة بغير عوض، وهو إلحاق مع الفارق، وأيضا إلحاقها بالهبة المذكورة دون البيع الذي وردت بمنعه الأحاديث تحكم، والأولى الجمع بإلحاق التصرفات بعوض بالبيع، فيكون فعلها قبل القبض غير جائز، وإلحاق التصرفات التي لا عوض فيها بالهبة المذكورة وهذا هو الراجح. ولا يشكل عليه ما قدمنا من أن ذلك الفعل مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك إنما هو على طريق التنزل مع ذلك القائل بحد فرض أن فعله صلى الله عليه وسلم يخالف ما دلت عليه أحاديث الباب، وقد عرفت أنه لا مخالفة فلا اختصاص. ويشهد لما ذهبنا إليه إجماعهم على(43/45)
صحة الوقف والعتق قبل القبض. ويشهد له أيضا ما علل به النهي فإنه أخرج البخاري عن طاوس قال: (قلت لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: دراهم بدراهم، والطعام مرجأ) ، استفهمه عن سبب النهي، فأجابه بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باع دراهم بدراهم، ويبين ذلك ما أخرجه مسلم عن ابن عباس أنه قال لما سأله طاوس: (ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام مرجأ؟) ، وذلك لأنه إذا اشترى طعاما بمائة دينار ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام، ثم باع الطعام إلى آخر بمائة وعشرين مثلا، فكأنه اشترى بذهبه ذهبا أكثر منه، ولا يخفى أن مثل هذه العلة لا ينطبق على ما كان من التصرفات بغير عوض، وهذا التعليل أجود ما علل به النهي؛ لأن الصحابة أعرف بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن المنع من كل تصرف قبل القبض من غير فرق بين ما كان بعوض وما لا عوض فيه لا دليل عليه إلا الإلحاق لسائر التصرفات بالبيع، وقد عرفت بطلان إلحاق ما لا عوض فيه بما فيه عوض، ومجرد صدق اسم التصرف على الجميع لا يجعله مسوغا للقياس عارف بعلم الأصول. قوله: "حتى يحوزها التجار إلى رحماء" فيه دليل على أنه لا يكفي مجرد القبض، بل لا بد من تحويله إلى المنزل الذي يسكن فيه المشتري أو يضع فيه بضاعته، وكذلك يدل على هذا قوله في الرواية الأخرى: (حتى يحولوه) وكذلك ما وقع في بعض طرق مسلم عن ابن عمر بلفظ: « (كنا نبتاع الطعام، فبعث علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه) (1) » وقد قال صاحب الفتح: (إنه لا يعتبر الإيواء إلى الرحال؛ لأن الأمر به خرج مخرج الغالب) ، ولا يخفى أن هذه دعوى تحتاج إلى برهان؛ لأنه مخالفة لما هو الظاهر، ولا عذر لمن قال: إنه يحمل المطلق على المقيد من المصير إلى ما دلت عليه هذه الروايات. قوله: (جزافا) بتثليث الجيم والكسر أفصح من غيره: وهو ما لم
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4605) ، سنن أبو داود البيوع (3493) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/113) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(43/46)
يعلم قدره على التفصيل. قال ابن قدامة: (يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا إذا جهل البائع والمشتري قدرها) . قوله: (ولا أحسب كل شيء إلا مثله) استعمل ابن عباس القياس، ولعله لم يبلغه النص المقتضي لكون سائر الأشياء كالطعام كما سلف. قوله: "حتى يكتاله" قيل المراد بالاكتيال: القبض والاستيفاء كما في سائر الروايات، ولكنه لما كان الأغلب في الطعام ذلك صرح بلفظ الكيل وهو خلاف الظاهر كما عرفت، والظاهر أن من اشترى شيئا مكايلة أو موازنة فلا يكون قبضه إلا بالكيل أو الوزن، فإن قبضه جزافا كان فاسدا، وبهذا قال الجمهور كما حكاه الحافظ عنه في الفتح، ويدل عليه حديث اختلاف الصاعين.(43/47)
باب النهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان.
«عن جابر قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري) (1) » ، رواه ابن ماجه والدارقطني.
«وعن عثمان قال: (كنت أبتاع التمر من بطن من اليهود يقال لهم بنو قينقاع وأبيعه بربح فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا عثمان إذا ابتعت فاكتل، وإذا بعت فكل") (2) » رواه أحمد، وللبخاري منه بغير إسناد كلام النبي صلى الله عليه وسلم
. حديث جابر أخرجه أيضا البيهقي، وفي إسناده ابن أبي ليلى، قال البيهقي: وقد (روي من وجه آخر) ، وفي الباب عن أبي هريرة عند البزار بإسناد حسن. وعن أنس وابن عباس عند ابن عدي بإسنادين ضعيفين جدا كما قال الحافظ. وحديث عثمان أخرجه عبد الرزاق ورواه الشافعي وابن أبي شيبة والبيهقي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. قال البيهقي: (روي موصولا من أوجه إذا ضم بعضها إلى بعض قوي) . وقال في مجمع الزوائد: (إسناده حسن) . واستدل بهذه الأحاديث على أن من اشترى شيئا مكايلة وقبضه ثم باعه إلى غيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2228) .
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (1/62) .(43/47)
يكيله على من اشتراه ثانيا، وإليه ذهب الجمهور كما حكاه في الفتح عنهم. قال: (وقال عطاء: يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقا) . وقيل: إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول، وإن باعه بنسيئة لم يجز بالأول. والظاهر ما ذهب إليه الجمهور من غير فرق بين بيع وبيع للأحاديث المذكورة في الباب التي تفيد بمجموعها ثبوت الحجة، وهذا إنما هو إذا كان الشراء مكايلة، وأما إذا كان جزافا فلا يعتبر الكيل المذكور عند أن يبيعه المشتري.(43/48)
ثالثا: نقول عن بعض كتب الفقهاء يستنار بها في التطبيق وفهم الحكم في المسائل الجزئية: أ - قال ابن رشد في بداية المجتهد:
الفصل الأول
في معرفة الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النساء وتبيين علة ذلك
فنقول: أجمع العلماء على أن التفاضل والنساء مما لا يجوز واحد منهما في الصنف الواحد من الأصناف التي نص عليها في حديث عبادة بن الصامت، إلا ما حكي عن ابن عباس، وحديث عبادة قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم «ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى (1) » . فهذا الحديث نص في منع التفاضل في الصنف الواحد من هذه الأعيان. وأما منع النسيئة فيها فثابت من غير ما حديث، أشهرها حديث عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء (2) » . فتضمن حديث عبادة منع التفاضل في الصنف الواحد، وتضمن أيضا حديث عبادة منع النساء في الصنفين من هذه، وإباحة التفاضل، وذلك في بعض
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2134) ، صحيح مسلم المساقاة (1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243) ، سنن النسائي البيوع (4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578) .(43/48)
الروايات الصحيحة، وذلك أن فيها بعد ذكره منع التفاضل في تلك الستة «وبيعوا الذهب بالورق كيف شئتم يدا بيد والبر بالشعير كيف شئتم يدا بيد (1) » وهذا كل متفق عليه بين الفقهاء إلا البر بالشعير، واختلفوا فيما سوى هذه الستة المنصوص عليها، فقال قوم منهم أهل الظاهر: (إنما يمتنع التفاضل في صنف صنف من هذه الأصناف الستة فقط، وأن ما عداه لا يمتنع في الصنف الواحد منها التفاضل) ، وقال هؤلاء أيضا: (إن النساء ممتنع في هذه الستة فقط اتفقت الأصناف أو اختلفت) . وهذا أمر متفق عليه أعني امتناع النساء فيها مع اختلاف الأصناف إلا ما حكي عن ابن علية أنه قال: (إذا اختلف الصنفان جاز التفاضل والنسيئة ماعدا الذهب والفضة) . فهؤلاء جعلوا النهي المتعلق بأعيان هذه الستة من باب الخاص أريد به الخاص. وأما الجمهور من فقهاء الأمصار، فإنهم اتفقوا على أنه من باب الخاص أريد به العام. واختلفوا في المعنى العام الذي وقع التنبيه عليه بهذه الأصناف، أعني: مفهوم علة التفاضل ومنع النساء فيها. فالذي استقر عليه حذاق المالكية أن سبب منع التفاضل أما في الأربعة، فالصنف الواحد من المدخر المقتات، وقد قيل الصنف الواحد المدخر وإن لم يكن مقتاتا، ومن شرط الادخار عندهم أن يكون في الأكثر، وقال بعض أصحابه: (الربا في الصنفين المدخر وإن كان نادر الادخار) ، وأما العلة عندهم في منع التفاضل في الذهب والفضة، فهو الصنف الواحد أيضا، مع كونهما رؤوسا للأثمان، وقيما للمتلفات، وهذه العلة هي التي تعرف عندهم بالقاصرة؛ لأنها ليست موجودة عندهم في غير الذهب والفضة، وأما علة منع النساء عند المالكية في الأربعة المنصوص عليها فهو الطعم والادخار دون اتفاق الصنف، ولذلك إذا اختلفت أصنافها جاز عندهم التفاضل دون النسيئة، ولذلك يجوز التفاضل عندهم في المطعومات التي ليست مدخرة أعني في الصنف الواحد منها، ولا يجوز النساء. أما جواز التفاضل؛ فلكونها
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(43/49)
ليست مدخرة، وقد قيل إن الادخار شرط في تحريم التفاضل في الصنف الواحد. وأما منع النساء فيها؛ فلكونها مطعومة مدخرة، وقد قلنا: إن الطعم بإطلاق علة منع النساء في المطعومات. وأما الشافعية فعلة منع التفاضل عندهم في هذه الأربعة هو الطعم فقط مع اتفاق الصنف الواحد. وأما علة النساء فالطعم دون اعتبار الصنف، مثل قول مالك. وأما الحنفية فعلة منع التفاضل عندهم في الستة واحدة وهو الكيل أو الوزن مع اتفاق الصنف، وعلة النساء فيها اختلاف الصنف ماعدا النحاس والذهب، فإن الإجماع انعقد على أنه يجوز فيها النساء، ووافق الشافعي مالكا في علة منع التفاضل، والنساء في الذهب والفضة، أعني: أن كونهما رؤوسا للأثمان، وقيما للمتلفات هو عندهم علة منع النسيئة إذا اختلف الصنف، فإذا اتفقا منع التفاضل، والحنفية تعتبر في المكيل قدرا يتأتى فيه الكيل، وسيأتي أحكام الدنانير والدراهم بما يخصها في كتاب الصرف. وأما ههنا فالمقصود هو تبيين مذاهب الفقهاء في علل الربا المطلق في هذه الأشياء، وذكر عمدة دليل كل فريق منهم. فنقول: إن الذين قصروا صنف الربا على هذه الأصناف الستة فهم أحد صنفين: إما قوم نفوا القياس في الشرع، أعني: استنباط العلل من الألفاظ، وهم الظاهرية. وإما قوم نفوا قياس الشبه، وذلك أن جميع من ألحق المسكوت ههنا بالمنطوق به فإنما ألحقه بقياس الشبه لا بقياس العلة إلا ما حكي عن ابن الماجشون أنه اعتبر في ذلك المالية، وقال: (علة منع الربا إنما هي حياطة الأموال) ، يريد منع العين. وأما القاضي أبو بكر الباقلاني فلما كان قياس الشبه عنده ضعيفا، وكان قياس المعنى عنده أقوى منه اعتبر في هذا الموضع قياس المعنى، إذ لم يتأت له قياس علة، فألحق الزبيب فقط بهذه الأصناف الأربعة، لأنه زعم أنه في معنى التمر، ولكل واحد من هؤلاء- أعني: من القائسين- دليل في استنباط الشبه الذي اعتبره في إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من هذه(43/50)
الأربعة. أما الشافعية فإنهم قالوا في تثبيت علتهم الشبهية: إن الحكم إذا علق باسم مشتق دل على أن ذلك المعنى الذي اشتق منه الاسم هو علة الحكم مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) . فلما علق الحكم بالاسم المشتق- وهو السارق- علم أن الحكم متعلق بنفس السرقة. قالوا: وإذا كان هذا هكذا، وكان قد جاء في حديث سعيد بن عبد الله أنه قال: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الطعام بالطعام مثلا بمثل (2) » . فمن البين أن الطعم هو الذي علق به الحكم. وأما المالكية فإنها زادت على الطعم: إما صفة واحدة وهو الادخار على ما في الموطأ، وإما صفتين وهو الادخار والاقتيات على ما اختاره البغداديون، وتمسكت في استنباط هذه العلة بأنه لو كان المقصود الطعم وحده لاكتفى بالتنبيه على ذلك بالنص على واحد من تلك الأربعة الأصناف المذكورة، فلما ذكر منها عددا علم أنه قصد بكل واحد منها التنبيه على ما في معناه، وهي كلها يجمعها الاقتيات والادخار. أما البر والشعير فنبه بهما على أصناف الحبوب المدخرة، ونبه بالتمر على جميع أنواع الحلاوات المدخرة، كالسكر والعسل والزبيب، ونبه بالملح على جميع التوابل المدخرة لإصلاح الطعام، وأيضا فإنهم قالوا: لما كان معقول المعنى في الربا إنما هو أن لا يغبن بعض الناس بعضا وأن تحفظ أموالهم، فواجب أن يكون ذلك في أصول المعايش وهي الأقوات. وأما الحنفية فعمدتهم في اعتبار المكيل والموزون أنه صلى الله عليه وسلم لما علق التحليل باتفاق الصنف واتفاق القدر، وعلق التحريم باتفاق الصنف واختلاف القدر في قوله صلى الله عليه وسلم لعامله بخيبر من حديث أبي سعيد وغيره: «إلا كيلا بكيل، يدا بيد (3) » رأوا أن التقدير- أعني: الكيل أو الوزن- هو المؤثر في الحكم كتأثير الصنف، وربما احتجوا بأحاديث ليست مشهورة فيها تنبيه قوي على اعتبار الكيل أو الوزن. منها أنهم رووا في بعض
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (3/81) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(43/51)
الأحاديث المتضمنة المسميات المنصوص عليها في حديث عبادة زيادة، وهي كذلك ما يكال ويوزن، وفي بعضها: وكذلك المكيال والميزان، هذا نص لو صحت الأحاديث، ولكن إذا تؤمل الأمر من طريق المعنى ظهر- والله أعلم- أن علتهم أولى العلل، وذلك أنه يظهر من الشرع أن المقصود بتحريم الربا إنما هو لمكان الغبن الكثير الذي فيه، وأن العدل في المعاملات إنما هو مقاربة التساوي، ولذلك لما عسر إدراك التساوي في الأشياء المختلفة الذوات جعل الدينار والدرهم لتقويمها، أعني: تقديرها، ولما كانت الأشياء المختلفة الذوات- أعني: غير الموزونة والمكيلة- العدل فيها إنما هو في وجود النسبة، أعني: أن تكون نسبة قيمة أحد الشيئين إلى جنسه نسبة قيمة الشيء الآخر إلى جنسه، مثال ذلك: أن العدل إذا باع إنسان فرسا بثياب هو أن تكون نسبة قيمة ذلك الفرس إلى الأفراس هي نسبة قيمة ذلك الثوب إلى الثياب، فإن كان ذلك الفرس قيمته خمسون فيجب أن تكون تلك الثياب قيمتها خمسون، فليكن مثلا الذي يساوي هذا القدر عددها هو عشرة أثواب، فإذا اختلاف هذه المبيعات بعضها ببعض في العدد واجبة في المعاملة العدالة، أعني: أن يكون عديل فرس عشرة أثواب في المثل. وأما الأشياء المكيلة والموزونة، فلما كانت ليست تختلف كل الاختلاف وكانت منافعها متقاربة ولم تكن حاجة ضرورية لمن كان عنده منها صنف أن يستبدله بذلك الصنف بعينه إلا على جهة السرف كان العدل في هذا إنما هو بوجود التساوي في الكيل أو الوزن إذ كانت لا تتفاوت في المنافع، وأيضا فإن منع التفاضل في هذه الأشياء يوجب أن لا يقع فيها تعامل؛ لكون منافعها غير مختلفة، والتعامل إنما يضطر إليه في المنافع المختلفة، فإذا منع التفاضل في هذه الأشياء- أعني: المكيلة والموزونة- علتان: إحداهما: وجود العدل فيها. والثاني: منع المعاملة إذا كانت المعاملة بها من باب السرف، وأما الدينار والدرهم فعلة المنع فيها(43/52)
أظهر إذ كانت هذه ليس المقصود منها الربح وإنما المقصود بها تقدير الأشياء التي لها منافع ضرورية. وروى مالك عن سعيد بن المسيب أنه كان يعتبر في علة الربا في هذه الأصناف الكيل والطعم، وهو معنى جيد؛ لكون الطعم ضروريا في أقوات الناس، فإنه يشبه أن يكون حفظ العين وحفظ السرف فيما هو قوت أهم منه فيما ليس هو قوتا. وقد روي عن بعض التابعين أنه اعتبر في الربا الأجناس التي تجب فيها الزكاة، وعن بعضهم الانتفاع مطلقا- أعني: المالية- وهو مذهب ابن الماجشون.(43/53)
الفصل الثاني
في معرفة الأشياء التي يجوز فيها التفاضل ولا يجوز فيها النساء
فيجب من هذا أن تكون علة امتناع النسيئة في الربويات هي الطعم عند مالك والشافعي. وأما في غير الربويات مما ليس بمطعوم، فإن علة منع النسيئة فيه عند مالك هو الصنف الواحد المتفق المنافع مع التفاضل، وليس عند الشافعي نسيئة في غير الربويات. وأما أبو حنيفة فعلة منع النساء عنده هو الكيل في الربويات وفي غير الربويات الصنف الواحد متفاضلا كان أو غير متفاضل، وقد يظهر من ابن القاسم عن مالك أنه يمنع النسيئة في هذه، لأنه عنده من باب السلف الذي يجر منفعة.(43/53)
الفصل الثالث
في معرفة ما يجوز فيه الأمران جميعا
وأما ما يجوز فيه الأمران جميعا- أعني: التفاضل والنساء - فما لم يكن ربويا عند الشافعي. وأما عند مالك فما لم يكن ربويا ولا كان صنفا واحدا متماثلا أو صنفا واحدا بإطلاق على مذهب أبي حنيفة، ومالك يعتبر في الصنف المؤثر في التفاضل في الربويات، وفي النساء في غير الربويات اتفاق المنافع واختلافها، فإذا اختلفت جعلها صنفين، وإن كان الاسم واحدا،(43/53)
وأبو حنيفة يعتبر الاسم وكذلك الشافعي، وإن كان الشافعي ليس الصنف عنده مؤثرا إلا في الربويات فقط- أعني: أنه يمنع التفاضل فيه- وليس هو عنده علة للنساء أصلا، فهذا هو تحصيل مذاهب هؤلاء الفقهاء الثلاثة في هذه الفصول الثلاث. فأما الأشياء التي لا تجوز فيها النسيئة فإنها قسمان: منها ما لا يجوز فيها التفاضل وقد تقدم ذكرها، ومنها ما يجوز فيها التفاضل. فأما الأشياء التي لا يجوز فيها التفاضل فعلة امتناع النسيئة فيها هو الطعم عند مالك، وعند الشافعي الطعم فقط، وعند أبي حنيفة مطعومات الكيل والوزن، فإذا اقترن بالطعم اتفاق الصنف حرم التفاضل عند الشافعي، وإذا اقترن وصف ثالث وهو الادخار حرم التفاضل عند مالك، وإذا اختلف الصنف جاز التفاضل وحرمت النسيئة. وأما الأشياء التي ليس يحرم التفاضل فيها عند مالك فإنها صنفان: إما مطعومة، وإما غير مطعومة، فأما المطعومة فالنساء عنده لا يجوز فيها، وعلة المنع الطعم، وأما غير المطعومة فإنه لا يجوز فيها النساء عنده فيما اتفقت منافعه مع التفاضل، فلا يجوز عنده شاة واحدة بشاتين إلى أجل إلا أن تكون إحداهما حلوبة والأخرى أكولة، هذا هو المشهور عنه، وقد قيل: إنه يعتبر اتفاق المنافع دون التفاضل. فعلى هذا لا يجوز عنده شاة حلوبة بشاة حلوبة إلى أجل. فأما إذا اختلفت المنافع فالتفاضل والنسيئة عنده جائزان وإن كان الصنف واحدا، وقيل يعتبر اتفاق الأسماء مع اتفاق المنافع، والأشهر أن لا يعتبر، وقد قيل يعتبر. وأما أبو حنيفة فالمعتبر عنده في منع النساء ماعدا التي لا يجوز عنده فيها التفاضل هو اتفاق الصنف، اتفقت المنافع أو اختلفت، فلا يجوز عنده شاة بشاة ولا بشاتين نسيئة وإن اختلفت منافعها. وأما الشافعي فكل ما لا يجوز التفاضل عنده في الصنف الواحد يجوز فيه النساء فيجيز شاة بشاتين نسيئة ونقدا، وكذلك شاة بشاة، ودليل الشافعي حديث عمرو ابن العاص: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ في قلائص(43/54)
الصدقة البعير بالبعيرين إلى الصدقة (1) » ، قالوا فهذا التفاضل في الجنس الواحد مع النساء وأما الحنفية فاحتجت بحديث الحسن عن سمرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الحيوان بالحيوان (2) » ، قالوا: وهذا يدل على تأثير الجنس على الانفراد في النسيئة، وأما مالك فعمدته في مراعاة منع النساء عند اتفاق الأغراض سد الذريعة، وذلك أنه لا فائدة في ذلك إلا أن يكون من باب سلف يجر نفعا وهو يحرم، وقد قيل عنه إنه أصل بنفسه، وقد قيل عن الكوفيين إنه لا يجوز بيع الحيوان بالحيوان نسيئة اختلف الجنس أو اتفق على ظاهر حديث سمرة، فكأن الشافعي ذهب مذهب الترجيح لحديث عمرو بن العاص، والحنفية لحديث سمرة مع التأويل له؛ لأن ظاهره يقتضي أن لا يجوز الحيوان بالحيوان نسيئة اتفق الجنس أو اختلف، وكأن مالكا ذهب مذهب الجمع، فحمل حديث سمرة على اتفاق الأغراض، وحديث عمرو بن العاص على اختلافها، وسماع الحسن من سمرة مختلف فيه، ولكن صححه الترمذي ويشهد لمالك ما رواه الترمذي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحيوان اثنان بواحد، لا يصلح النساء ولا بأس به يدا بيد (3) » وقال ابن المنذر: (ثبت «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى عبدا بعبدين أسودين، واشترى جارية بسبعة أرؤس (4) » ، وعلى هذا الحديث يكون بيع الحيوان بالحيوان يشبه أن يكون أصلا بنفسه لا من قبل سد ذريعة. واختلفوا فيما لا يجوز بيعه نساء هل من شرطه التقابض في المجلس قبل الافتراق في سائر الربويات بعد اتفاقهم في اشتراط ذلك في المصارفة، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تبيعوا منها غائبا بناجز (5) » فمن شرط فيها التقابض في المجلس شبهها بالصرف، ومن لم يشترط ذلك قال: إن القبض قبل التفرق ليس شرطا في البيوع إلا ما قام الدليل عليه، ولما قام الدليل على الصرف فقط بقيت سائر الربويات على الأصل.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3357) ، مسند أحمد بن حنبل (2/171) .
(2) سنن الترمذي كتاب البيوع (1237) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4620) ، سنن أبو داود البيوع (3356) ، سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2270) ، مسند أحمد بن حنبل (5/19) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2564) .
(3) سنن الترمذي كتاب البيوع (1238) ، سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2271) ، مسند أحمد بن حنبل (3/382) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1602) ، سنن الترمذي البيوع (1239) ، سنن النسائي البيوع (4621) ، سنن أبو داود البيوع (3358) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2869) ، مسند أحمد بن حنبل (3/350) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(43/55)
وقال أيضا في البداية:(43/55)
كتاب السلم
وفي هذا الكتاب ثلاثة أبواب:
الباب الأول: في محله وشروطه.
الباب الثاني: فيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه السلم، وما يعرض في ذلك من الإقالة والتعجيل والتأخير.
الباب الثالث: في اختلافهم في السلم.
الباب الأول: في محله وشروطه
أما محله: فإنهم أجمعوا على جوازه في كل ما يكال أو يوزن، لما ثبت من حديث ابن عباس المشهور قال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلمون في التمر السنتين والثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أسلف فليسلف في ثمن معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (1) » ، واتفقوا على امتناعه فيما لا يثبت في الذمة، وهي الدور والعقار.
وأما سائر ذلك من العروض والحيوان فاختلفوا فيها، فمنع ذلك داود وطائفة من أهل الظاهر مشيرا إلى ظاهر هذا الحديث، والجمهور على أنه جائز في العروض التي تنضبط بالصفة والعدد. واختلفوا من ذلك فيما ينضبط مما لا ينضبط بالصفة، فمن ذلك الحيوان والرقيق، فذهب مالك والشافعي والأوزاعي والليث إلى أن السلم فيهما جائز، وهو قول ابن عمر من الصحابة. وقال أبو حنيفة والثوري وأهل العراق: (لا يجوز السلم في الحيوان) ، وهو قول ابن مسعود، وعن عمر في ذلك قولان. وعمدة أهل العراق في ذلك ما روي عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن السلف في الحيوان» وهذا الحديث ضعيف عند الفريق الأول. وربما احتجوا أيضا بنهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وعمدة من أجاز السلم في الحيوان ما روي عن ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2239) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .(43/56)
جيشا فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلاص الصدقة، فأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة، (1) » ولحديث أبي رافع أيضا «أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكرا (2) » قالوا: وهذا كله يدل على ثبوته في الذمة.
فسبب اختلافهم شيئان: أحدهما: تعارض الآثار في هذا المعنى، والثاني: تردد الحيوان بين أن يضبط بالصفة أو لا يضبط، فمن نظر إلى تباين الحيوان في الخلق والصفات وبخاصة صفات النفس، قال: لا تنضبط، ومن نظر إلى تشابهها قال: تنضبط، ومنها اختلافهم في البيض والدر وغير ذلك. فلم يجز أبو حنيفة السلم في البيض، وأجازه مالك بالعدد وكذلك في اللحم أجازه مالك والشافعي، ومنعه أبو حنيفة، وكذلك السلم في الرؤوس والأكارع أجازه مالك، ومنعه أبو حنيفة، واختلف في ذلك قول أبي حنيفة والشافعي، وكذلك السلم في الدر والفصوص، أجازه مالك، ومنعه الشافعي، وقصدنا من هذه المسائل إنما هو الأصول الضابطة للشريعة لا إحصاء الفروع؛ لأن ذلك غير منحصر.
وأما شروطه: فمنها مجمع عليها ومنها مختلف فيها. فأما المجمع عليها فهي ستة: منها أن يكون الثمن والمثمون مما يجوز فيه النساء وامتناعه فيما لا يجوز فيه النساء، وذلك إما اتفاق المنافع على ما يراه مالك رحمه الله، وإما اتفاق الجنس على ما يراه أبو حنيفة، وإما اعتبار الطعم مع الجنس على ما يراه الشافعي في علة النساء. ومنها أن يكون مقدرا: إما بالكيل أو بالوزن أو بالعدد إن كان مما شأنه أن يلحقه التقدير، أو منضبطا بالصفة إن كان المقصود منه الصفة، ومنها أن يكون موجودا عند حلول الأجل. ومنها أن يكون الثمن غير مؤجل أجلا بعيدا، لئلا يكون من باب الكالئ بالكالئ، هذا في الجملة.
واختلفوا في اشتراط اليومين والثلاثة في تأخير نقد الثمن بعد اتفاقهم على أنه لا يجوز في المدة الكثيرة ولا مطلقا، فأجاز مالك اشتراط تأخير
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3357) ، مسند أحمد بن حنبل (2/171) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1600) ، سنن الترمذي البيوع (1318) ، سنن النسائي البيوع (4617) ، سنن أبو داود البيوع (3346) ، سنن ابن ماجه التجارات (2285) ، مسند أحمد بن حنبل (6/390) ، موطأ مالك البيوع (1384) ، سنن الدارمي البيوع (2565) .(43/57)
اليومين والثلاثة، وكذلك أجاز تأخيره بلا شرط. وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن من شرطه التقابض في المجلس كالصرف، فهذه ستة متفق عليها.
واختلفوا في أربعة:
أحدها: الأجل هل هو شرط فيه أم لا؟
والثاني: هل من شرطه أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حال عقد السلم أم لا؟
والثالث: اشتراط مكان دفع المسلم فيه والرابع: أن يكون الثمن مقدرا: إما مكيالا، وإما موزونا، وإما معدودا، وأن لا يكون جزافا.
فأما الأجل: فإن أبا حنيفة هو عنده شرط صحة بلا خلاف عنه في ذلك.
وأما مالك فالظاهر من مذهبه، والمشهور عنه أنه من شرط السلم، وقد قيل: إنه يتخرج من بعض الروايات عنه جواز السلم الحال.
وأما اللخمي فإنه فصل الأمر في ذلك فقال: (إن السلم في المذهب يكون على ضربين: سلم حال، وهو الذي يكون ممن شأنه بيع تلك السلعة، وسلم مؤجل، وهو الذي يكون من ليس من شأنه بيع تلك السلعة) . وعمدة من اشترط الأجل شيئان: ظاهر حديث ابن عباس، والثاني: أنه إذا لم يشترط فيه الأجل كان من باب بيع ما ليس عند البائع المنهي عنه.
وعمدة الشافعي أنه إذا جاز مع الأجل فهو حالا أجوز؛ لأنه أقل غررا، وربما استدلت الشافعية بما روي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى جملا من أعرابي بوسق تمر فلما دخل البيت لم يجد التمر فاستقرض النبي صلى الله عليه وسلم تمرا وأعطاه إياه» قالوا: فهذا هو شراء حال بتمر في الذمة.
وللمالكية من طريق المعنى أن السلم إنما جوز لموضع الارتفاق، ولأن المسلف يرغب في تقديم الثمن لاسترخاص المسلم فيه، والمسلم إليه يرغب فيه لموضع النسيئة. وإذا لم يشترط الأجل زال هذا المعنى.(43/58)
واختلفوا في الأجل في موضعين: أحدهما: هل يقدر بغير الأيام والشهور مثل الجذاذ والقطاف والحصاد والموسم؟ والثاني: في مقداره من الأيام. وتحصيل مذهب مالك في مقداره من الأيام، المسلم فيه على ضربين: ضرب يقتضى بالبلد المسلم فيه، وضرب يقتضى بغير البلد الذي وقع فيه السلم، فإن اقتضاه في البلد المسلم فيه، فقال ابن القاسم: (إن المعتبر في ذلك أجل تختلف فيه الأسواق، وذلك خمسة عشر يوما أو نحوها) . وروى ابن وهب عن مالك أنه يجوز اليومين والثلاثة، وقال ابن عبد الحكم: (لا بأس به إلى اليوم الواحد) وأما ما يقتضى ببلد آخر، فإن الأجل عندهم: هو قطع المسافة التي بين البلدين قلت أو كثرت، وقال أبو حنيفة: (لا يكون أقل من ثلاثة أيام) فمن جعل الأجل شرطا غير معلل اشترط منه أقل ما ينطلق عليه الاسم، ومن جعله شرطا معللا باختلاف الأسواق اشترط من الأيام ما تختلف فيه الأسواق غالبا. وأما الأجل إلى الجذاذ والحصاد وما أشبه ذلك، فأجازه مالك ومنعه أبو حنيفة والشافعي، فمن رأى أن الاختلاف الذي يكون في أمثال هذه الآجال يسيرا أجاز ذلك، إذ الغرر اليسير معفو عنه في الشرع، وشبهه بالاختلاف الذي يكون في الشهور من قبل الزيادة والنقصان. ومن رأى أنه كثير، وأنه أكثر من الاختلاف الذي يكون من في النقصان الشهور وكمالها لم يجزه.
أما اختلافهم في: هل من شرط السلم أن يكون جنس المسلم فيه موجودا في حين عقد السلم؟ . فإن مالكا والشافعي وإسحاق وأبا ثور لم يشترطوا ذلك وقالوا: (يجوز السلم في غير وقت إبانه) . وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: (لا يجوز السلم إلا في إبان الشيء المسلم فيه) فحجة من لم يشترط الإبان ما ورد في حديث ابن عباس: «أن الناس كانوا يسلمون في التمر السنتين والثلاث فأقروا على ذلك ولم ينهوا عنه» . وعمدة الحنفية ما روي من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا(43/59)
تسلموا في النخل حتى يبدو صلاحها (1) » ، وكأنهم رأوا أن الغرر يكون فيه أكثر إذا لم يكن موجودا في حال العقد، وكأنه يشبه بيع ما لم يخلق أكثر، وإن كان ذلك معينا وهذا في الذمة، وبهذا فارق السلم بيع ما لم يخلق.
وأما الشرط الثالث: وهو مكان القبض فإن أبا حنيفة اشترطه تشبيها بالزمان، ولم يشترطه غيره وهم الأكثر. وقال القاضي أبو محمد: (الأفضل اشتراطه) . وقال ابن المواز: (ليس يحتاج إلى ذلك) .
وأما الشرط الرابع: وهو أن يكون الثمن مقدرا: مكيلا، أو موزونا، أو معدودا، أو مذروعا لا جزافا، فاشترط ذلك أبو حنيفة، ولم يشترطه الشافعي ولا صاحبا أبي حنيفة: أبو يوسف ومحمد، قالوا: وليس يحفظ عن مالك في ذلك نص، إلا أنه يجوز عنده بيع الجزاف، إلا فيما يعظم الغرر فيه على ما تقدم من مذهبه، وينبغي أن تعلم أن التقدير في السلم يكون بالوزن فيما يمكن فيه الوزن، وبالكيل فيما يمكن فيه الكيل، وبالذرع فيما يمكن فيه الذرع، وبالعدد فيما يمكن فيه العدد. وإن لم يكن فيه أحد هذه التقديرات انضبط بالصفات المقصودة من الجنس مع ذكر الجنس إن كان أنواعا مختلفة، أو مع تركه إن كان نوعا واحدا، ولم يختلفوا أن السلم لا يكون إلا في الذمة وأنه لا يكون في معين، وأجاز مالك السلم في قرية معينة إذا كانت مأمونة، وكأنه رآها مثل الذمة.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1486) ، صحيح مسلم البيوع (1534) ، سنن الترمذي البيوع (1300) ، سنن النسائي البيوع (4549) ، سنن أبو داود البيوع (3367) ، سنن ابن ماجه التجارات (2214) ، مسند أحمد بن حنبل (2/123) ، موطأ مالك البيوع (1303) ، سنن الدارمي البيوع (2555) .(43/60)
الباب الثاني
فيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه
السلم، وما يعرض في ذلك من الإقالة والتعجيل والتأخير
وفي هذا الباب فروع كثيرة لكن نذكر منها المشهور
مسألة: اختلف العلماء فيمن أسلم في شيء من التمر، فلما حل الأجل تعذر تسليمه حتى عدم ذلك المسلم فيه وخرج زمانه، فقال الجمهور: (إذا وقع ذلك كان المسلم بالخيار بين أن يأخذ الثمن أو يصبر(43/60)
إلى العام القابل) وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن القاسم، وحجتهم أن العقد وقع على موصوف في الذمة فهو باق على أصله، وليس من شرط جوازه أن يكون من ثمار هذه السنة، وإنما هو شيء شرطه المسلم فهو في ذلك بالخيار. وقال أشهب من أصحاب مالك: (ينفسخ السلم ضرورة ولا يجوز التأخير) ، وكأنه رآه من باب الكالئ بالكالئ. وقال سحنون: (ليس له أخذ الثمن وإنما له أن يصبر إلى القابل) . واضطرب قول مالك في هذا، والمعتمد عليه في هذه المسألة ما رآه أبو حنيفة والشافعي وابن القاسم، وهو الذي اختاره أبو بكر الطرطوشي، والكالئ بالكالئ المنهي عنه إنما هو المقصود، لا الذي يدخل اضطرارا.
مسألة: اختلف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه قبل قبضه، فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا، وهم القائلون: بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق. وتمسك أحمد وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه في غيره» .
وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين: أحدهما: إذا كان المسلم فيه طعاما، وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترط في بيعه القبض هو الطعام على ما جاء عليه النص في الحديث. والثاني: إذا لم يكن المسلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله مثل أن يكون المسلم فيه عرضا، والثمن عرضا مخالفا له، فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئا من جنس ذلك العرض الذي هو الثمن، وذلك أن هذا يدخله؛ إما سلف وزيادة إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال المسلم، وإما ضمان وسلف إن كان(43/61)
مثله أو أقل. وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما لم يجز أن يأخذ فيه طعاما آخر أكثر، لا من جنسه، ولا من غير جنسه، فإن كان مثل طعامه في الجنس والكيل والصفة فيما حكاه عبد الوهاب جاز؛ لأنه يحمله على العروض، وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من الطعام المسلم فيه طعاما من صفته، وإن كان أقل جودة؛ لأنه عنده من باب البدل في الدنانير والإحسان: مثل أن يكون له عليه قمح فيأخذ بمكيلته شعيرا، وهذا كله من شرطه عند مالك أن لا يتأخر القبض؛ لأنه يدخله الدين بالدين. وإن كان رأس مال السلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه جاز ما لم يكن أكثر منه، ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة إذا كان مثله أو أقل، وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال السلم. وأما بيع السلم من غير المسلم إليه، فيجوز بكل شيء يجوز التبايع به ما لم يكن طعاما؛ لأنه لا يدخله بيع الطعام قبل قبضه.
وأما الإقالة فمن شرطها عند مالك أن لا يدخلها زيادة ولا نقصان، فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع ودخلها ما يدخل البيوع، أعني أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال مثل أن يتذرع إلى بيع وسلف، أو إلى: ضع وتعجل، أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه، مثال ذلك في دخول بيع وسلف به إذا حل الأجل، فأقاله على أن أخذ البعض وأقال من البعض فإنه لا يجوز عنده فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف، وذلك(43/62)
جائز عند الشافعي وأبي حنيفة؛ لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع.
مسألة: اختلف العلماء في الشراء برأس مال السلم من المسلم إليه شيئا بعد الإقالة بما لا يجوز الإقالة، فمن العلماء من لم يجزه أصلا، ورأى أن الإقالة ذريعة إلى أن يجوز من ذلك ما لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، ومالك وأصحابه، إلا أن عند أبي حنيفة لا يجوز على الإطلاق، إذ كان لا يجوز عنده بيع المسلم فيه قبل القبض على الإطلاق، ومالك يمنع ذلك في المواضع التي يمنع بيع المسلم فيه قبل القبض على ما فصلناه قبل هذا من مذهبه، ومن العلماء من أجازه، وبه قال الشافعي والثوري. وحجتهم أن بالإقالة قد ملك رأس ماله، فإذا ملكه جاز له أن يشتري به ما أحب، والظن الرديء بالمسلمين غير جائز. قال: (وأما حديث أبي سعيد فإنه إنما وقع النهي فيه قبل الإقالة) .
مسألة: اختلفوا إذا ندم المبتاع في السلم فقال للبائع: أقلني وأنظرك بالثمن الذي دفعت إليك. فقال مالك وطائفة: ذلك لا يجوز، وقال قوم: يجوز، واعتل مالك في ذلك مخافة أن يكون المشتري لما حل له الطعام على البائع أخره عنه على أن يقيله، فكان ذلك من باب بيع الطعام إلى أجل قبل أن يستوفي، وقوم اعتلوا لمنع ذلك بأنه من باب فسخ الدين بالدين، والذين رأوه جائزا رأوا أنه من باب المعروف والإحسان الذي أمر الله تعالى به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أقال مسلما صفقته أقال الله عثرته يوم الأمة، ومن أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (1) » .
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3460) ، سنن ابن ماجه التجارات (2199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .(43/63)
ب- وقال ابن قدامة في المغني رحمه الله:
باب الربا والصرف
الربا في اللغة: هو الزيادة. قال الله تعالى. {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (1) وقال: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (2) أي أكثر عددا، يقال: أربى فلان على فلان، إذا زاد عليه.
وهو في الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة. وهو محرم بالكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) وما بعدها من الآيات.
وأما السنة: فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات"، قيل: يا رسول الله ما هي؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات (4) » ، وروي «عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه لعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه (5) » متفق عليهما في أخبار سوى هذين كثيرة، وأجمعت الأمة على أن الربا محرم.
(فصل) والربا على ضربين: ربا الفضل، وربا النسيئة. وأجمع أهل العلم على تحريمهما. وقد كان في ربا الفضل اختلاف بين الصحابة؛ فحكي عن ابن عباس وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم، وابن الزبير، أنهم قالوا: (إنما
__________
(1) سورة الحج الآية 5
(2) سورة النحل الآية 92
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .
(5) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .(43/64)
الربا في النسيئة) ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ربا إلا في النسيئة (1) » . رواه البخاري. والمشهور من ذلك قول ابن عباس، ثم إنه رجع إلى قول الجماعة، روى ذلك الأثرم بإسناده، وقاله الترمذي، وابن المنذر، وغيرهم. وقال سعيد بإسناده، عن أبي صالح قال: (صحبت ابن عباس حتى مات، فوالله ما رجع عن الصرف) . وعن سعيد بن جبير، قال: (سألت ابن عباس قبل موته بعشرين ليلة عن الصرف؟ فلم ير به بأسا، وكان يأمر به) . والصحيح قول الجمهور؛ لحديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا غائبا بناجز (2) » . وروى أبو سعيد أيضا، قال: «جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من أين هذا يا بلال؟ ". قال: كان عندنا تمر رديء فبعت صاعين بصاع ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوه! عين الربا، عين الربا، لا تفعل، ولكن إن أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به (3) » . متفق عليهما، قال الترمذي على حديث أبي سعيد: (العمل عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ربا إلا في النسيئة (4) » ، محمول على الجنسين) .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(3) صحيح البخاري الوكالة (2312) ، صحيح مسلم المساقاة (1594) ، مسند أحمد بن حنبل (3/67) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(43/65)
مسألة: قال أبو القاسم رحمه الله: (وكل ما كيل أو وزن من سائر الأشياء، فلا يجوز التفاضل فيه إذا كان جنسا واحدا) .
قوله: (من سائر الأشياء) . يعني من جميعها. وضع سائر موضع جميع تجوزا، وموضوعها الأصلي لباقي الشيء، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الربا أحاديث كثيرة، ومن أتمها ما روى عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، والملح بالملح مثلا بمثل، والشعير(43/65)
بالشعير مثلا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد (1) » رواه مسلم. فهذه الأعيان المنصوص عليها يثبت الربا فيها بالنص والإجماع.
واختلف أهل العلم فيما سواها، فحكي عن طاوس وقتادة: أنهما قصرا الربا عليها، وقالا: (لا يجري في غيرها) ، وبه قال داود ونفاة القياس، وقالوا: (ما عداها على أصل الإباحة) ؛ لقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (2) اتفق القائلون بالقياس على أن ثبوت الربا فيها بعلة، وأنه يثبت في كل ما وجدت فيه علتها؛ لأن القياس دليل شرعي. فيجب استخراج علة هذا الحكم، وإثباته في كل موضع وجدت علته فيه. وقول الله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) يقتضي تحريم كل زيادة، إذ الربا في اللغة: الزيادة، إلا ما أجمعنا على تخصيصه. وهذا يعارض ما ذكروه.
ثم اتفق أهل العلم على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد، إلا سعيد بن جبير، فإنه قال: (كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا، كالحنطة بالشعير، والتمر بالزبيب، والذرة بالدخن؛ لأنهما يتقارب نفعهما، فجريا مجرى نوعي جنس وحد) . وهذا يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم (4) » ، فلا يعول عليه. ثم يبطل بالذهب بالفضة، فإنه يجوز التفاضل فيهما مع تقاربهما.
واتفق المعللون على أن علة الذهب والفضة واحدة، وعلة الأعيان الأربعة واحدة، ثم اختلفوا في علة كل واحد منهما؛ فروي عن أحمد في ذلك ثلاث روايات، أشهرهن أن علة الربا في الذهب والفضة كونه موزون جنس، وعلة الأعيان الأربعة مكيل جنس. نقلها عن أحمد
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(43/66)
الجماعة، وذكرها الخرقي، وابن أبي موسى، وأكثر الأصحاب، وهو قول النخعي، والزهري، والثوري، وإسحاق، وأصحاب الرأي. فعلى هذه الرواية يجري الربا في كل مكيل، أو موزون بجنسه، مطعوما كان أو غير مطعوم، كالحبوب، والأشنان، والنورة، والقطن، والصوف، والكتان، والورس، والحناء، والعصفر، والحديد، والنحاس، ونحو ذلك. ولا يجري في مطعوم لا يكال ولا يوزن؛ لما روى ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء". وهو الربا، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال: "لا بأس إذا كان يدا بيد (1) » رواه الإمام أحمد في المسند، عن ابن حبان عن أبيه، عن ابن عمر. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا، وما كيل مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا» رواه الدارقطني، ورواه عن ابن صاعد، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أحمد بن محمد بن أيوب، عن أبي بكر بن عياش، عن الربيع، عن صبيح، عن الحسن، عن عبادة، وأنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (لم يروه عن أبي بكر هكذا غير محمد بن أحمد بن أيوب، وخالفه غيره فرواه بلفظ آخر) . وعن عمار أنه قال: (العبد خير من العبدين، والثوب خير من الثوبين، فما كان يدا بيد فلا بأس به، إنما الربا في النساء إلا ما كيل أو وزن) . ولأن قضية البيع المساواة، والمؤثر في تحقيقها الكيل والوزن والجنس، فإن الوزن أو الكيل يسوي بينهما صورة، والجنس يسوي بينهما معنى، فكانا علة، ووجدنا الزيادة في الرجل محرمة دون الزيادة في الطعم؛ بدليل بيع الثقيلة بالخفيفة، فإنه جائز إذا تساويا في الكيل.
والرواية الثانية: أن العلة في الأثمان الثمينة، وفيما عداها كونه مطعوم جنس، فيختص بالمطعومات، ويخرج منه ما عداها، قال أبو بكر:
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1585) .(43/67)
(روى ذلك عن أحمد جماعة) ، ونحو هذا قال الشافعي، فإنه قال: (العلة الطعم، والجنس شرط) . والعلة في الذهب والفضة جوهرية الثمنية غالبا، فيختص بالذهب والفضة؛ لما روى معمر بن عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل (1) » رواه مسلم. ولأن الطعم وصف شرف إذ به قوام الأبدان، والثمنية وصف شرف، إذ بها قوام الأموال، فيقتضي التعليل بهما، ولأنه لو كانت العلة في الأثمان الوزن لم يجز إسلامهما في الموزونات، لأن أحد وصفي علة ربا الفضل يكفي في تحريم النساء.
والرواية الثالثة: العلة فيما عدا الذهب والفضة كونه مطعوم جنس مكيلا أو موزونا، فلا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالتفاح، والرمان، والخوخ، والبطيخ، والكمثرى، والأترج، والسفرجل، والأجاص، والخيار، والجوز، والبيض، ولا فيما ليس بمطعوم، كالزعفران، والأشنان، والحديد، والرصاص، ونحوه. ويروى ذلك عن سعيد بن المسيب، وهو قديم قولي الشافعي، لما روي عن سعيد بن المسيب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا إلا فيما كيل أو وزن، مما يؤكل أو يشرب» أخرجه الدارقطني، وقال: (الصحيح أنه من قول سعيد، ومن رفعه فقد وهم) . ولأن لكل واحد من هذه الأوصاف أثرا، والحكم مقرون بجميعها في المنصوص عليه، فلا يجوز حذفه. ولأن الكيل والوزن والجنس لا يقتضي وجوب المماثلة، وإنما أثره في تحقيقها في العلة ما يقتضي ثبوت الحكم لا ما تحقق شرطه، والطعم بمجرده لا تتحقق المماثلة به؛ لعدم المعيار الشرعي فيه، وإنما تجب المماثلة في المعيار الشرعي وهو الكيل والوزن، ولهذا وجبت المساواة في المكيل كيلا، وفي الموزون وزنا، فوجب أن يكون الطعم معتبرا في المكيل والموزون، دون غيرهما. والأحاديث الواردة في هذا الباب يجب الجمع بينها، وتقييد كل واحد منها
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .(43/68)
بالآخر. فنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام إلا مثلا بمثل، يتقيد بما فيه معيار شرعي وهو الكيل والوزن، ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين يتقيد بالمطعوم المنهي عن التفاضل فيه. وقال مالك: (العلة القوت، أو ما يصلح به القوت من جنس واحد من المدخرات) . وقال ربيعة: (يجري الربا فيما تجب فيه الزكاة دون غيره) . وقال ابن سيرين: (الجنس الواحد علة) ، وهذا القول لا يصح، «لقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل: "لا بأس به إذا كان يدا بيد (1) » . وروي «أن النبي صلى الله عليه وسلم (ابتاع عبدا بعبدين (2) » رواه أبو داود، والترمذي، وقال: (هو حديث حسن صحيح) . وقول مالك ينتقض بالحطب والإدام يستصلح به القوت ولا ربا فيه عنده، وتعليل ربيعة ينعكس بالملح، والعكس لازم عند اتحاد العلة.
والحاصل: أن ما اجتمع فيه الكيل، والوزن، والطعم، من جنس واحد، ففيه الربا رواية واحدة، كالأرز، والدخن، والذرة، والقطنيات، والدهن، والخل، واللبن، واللحم، ونحوه. وهذا قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: (هذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث، سوى قتادة؛ فإنه بلغني أنه شذ عن جماعة الناس، فقصر تحريم التفاضل على الستة الأشياء) . وما انعدم فيه الكيل، والوزن، والطعم، واختلف جنسه، فلا ربا فيه، رواية واحدة. وهو قول أكثر أهل العلم، كالتين، والنوى، والقت، والماء والطين الأرمني، فإنه يؤكل دواء، فيكون موزونا مأكولا، فهو إذا من القسم الأول، وما عداه إنما يؤكل سفها، فجرى مجرى الرمل والحصى. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة: «لا تأكلي الطين، فإنه يصفر اللون» . وما وجد فيه الطعم وحده، أو الكيل، أو الوزن، من جنس واحد، ففيه روايتان، واختلف أهل العلم فيه، والأولى إن شاء الله تعالى حله؛ إذ ليس في تحريمه دليل موثوق به، ولا معنى يقوي التمسك به، وهي مع ضعفها يعارض بعضها بعضا، فوجب اطراحها، أو الجمع
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/109) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1602) ، سنن الترمذي البيوع (1239) ، سنن النسائي البيوع (4621) ، سنن أبو داود البيوع (3358) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2869) ، مسند أحمد بن حنبل (3/350) .(43/69)
بينها، والرجوع إلى أصل الحل الذي يقتضيه الكتاب، والسنة، والاعتبار. ولا فرق في المطعومات بين ما يؤكل قوتا، كالأرز، والذرة، والدخن، أو إدما كالقطنيات، واللبن، واللحم، أو تفكها كالثمار، أو تداويا كالأهليلج، والسقمونيا؛ فإن الكل في باب الربا واحد.
(فصل) وقوله: (ما كيل أو وزن) أي ما كان جنسه مكيلا، أو موزونا، وإن لم يتأت فيه كيل ولا وزن؛ إما لقلته كالحبة والحبتين، والحفنة والحفنتين، وما دون الأرزة من الذهب والفضة، أو لكثرته كالزبرة العظيمة، فإنه لا يجوز بيع بعضه ببعض، إلا مثلا بمثل، ويحرم التفاضل فيه. وبهذا قال الثوري، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر. ورخص أبو حنيفة في بيع الحفنة بالحفنتين، والحبة بالحبتين، وسائر المكيل الذي لا يتأتى كيله، ووافق في الموزون، واحتج بأن العلة الكيل، ولم يوجد في اليسير.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «التمر بالتمر مثلا بمثل، والبر بالبر مثلا بمثل، من زاد أو ازداد فقد أربى (1) » ، ولأن ما جرى الربا في كثيره جرى في قليله، كالموزون.
(فصل) ولا يجوز بيع تمرة بتمرة، ولا حفنة بحفنة، وهذا قول الثوري، ولا أعلمه منصوصا عليه، ولكنه قياس قولهم؛ لأن ما أصله الكيل لا تجري المماثلة في غيره.
(فصل) فأما ما لا وزن للصناعة فيه، كمعمول الحديد، والرصاص، والنحاس، والقطن، والكتان، والصوف، والإبريسم، فالمنصوص عن أحمد في الثياب والأكسية أنه لا يجري فيها الربا، فإنه قال: (لا بأس بالثوب بالثوبين، والكساء بالكسائين) ، وهذا قول أهل العلم، وقال: (لا يباع الفلس بالفلسين، ولا السكين بالسكينين، ولا إبرة بإبرتين، أصله الوزن) . ونقل القاضي حكم إحدى المسألتين إلى الأخرى، فجعل فيهما جميعا روايتين:
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(43/70)
إحداهما: لا يجري في الجميع. وهو قول الثوري وأبي حنيفة، وأكثر أهل العلم؛ لأنه ليس بموزون ولا مكيل، وهذا هو الصحيح، إذ لا معنى لثبوت الحكم مع انتفاء العلة، وعدم النص والإجماع فيه.
الثانية: يجري الربا في الجميع. اختارها ابن عقيل؛ لأن أصله الوزن، فلا يخرج بالصناعة عنه كالخبز، وذكر أن اختيار القاضي: أن ما كان يقصد وزنه يعد عمله كالأسطال ففيه الربا، وما لا فلا.
(فصل) ويجري الربا في لحم الطير، وعن أبي يوسف: (لا يجري فيه؛ لأنه يباع بغير وزن) .
ولنا: أنه لحم فجرى فيه الربا، كسائر اللحمان. وقوله: (لا يوزن) ، قلنا: هو من جنس ما يوزن، ويقصد ثقله، وتختلف قيمته بثقله وخفته، فأشبه ما يباع من الخبز بالعدد.
(فصل) والجيد والرديء، والتبر والمضروب، والصحيح والمكسور، سواء في جواز البيع مع التماثل، وتحريمه مع التفاضل. وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم: أبو حنيفة، والشافعي. وحكي عن مالك جواز بيع المضروب بقيمته من جنسه، وأنكر أصحابه ذلك، ونفوه عنه. وحكى بعض أصحابنا عن أحمد رواية: لا يجوز بيع الصحاح بالمكسرة. ولأن للصناعة قيمة، بدليل حالة الإتلاف، فيصير كأنه ضم قيمة الصناعة إلى الذهب.
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب مثلا بمثل، والفضة بالفضة مثلا بمثل (1) » ، وعن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها (2) » رواه أبو داود. وروى مسلم عن أبي الأشعث، «أن معاوية أمر ببيع آنية من فضة في أعطيات الناس، فبلغ عبادة فقال: (إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والملح بالملح إلا سواء بسواء،
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، مسند أحمد بن حنبل (3/58) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(43/71)
عينا بعين، فمن زاد أو ازداد فقد أربى (1) » . وروى الأثرم عن عطاء بن يسار، «أن معاوية باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال أبو الدرداء: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل) ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فذكر له ذلك، فكتب عمر إلى معاوية: (لا تبع ذلك إلا مثلا بمثل، وزنا بوزن (2) » . ولأنهما تساويا في الوزن، فلا يؤثر اختلافهما في القيمة، كالجيد والرديء، فأما إن قال لصائغ: صغ لي خاتما وزنه درهم، وأعطيك مثل وزنه، وأجرتك درهما. فليس ذلك ببيع درهم بدرهمين. وقال أصحابنا: للصائغ أخذ الدرهمين؛ أحدهما: في مقابلة الخاتم، والثاني: أجرة له.
(فصل) وكل ما حرم فيه التفاضل حرم فيه النساء، بغير خلاف نعلمه. ويحرم التفرق قبل القبض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عينا بعين (3) » . وقوله: «يدا بيد (4) » . ولأن تحريم النساء آكد، ولذلك جرى في الجنسين المختلفين فإذا حرم التفاضل فالنساء أولى بالتحريم.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (6/448) ، موطأ مالك البيوع (1327) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2061) ، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4575) ، مسند أحمد بن حنبل (4/372) .(43/72)
(مسألة) قال (وما كان من جنسين فجائز التفاضل فيه يدا بيد، ولا يجوز نسيئة) .
لا خلاف في جواز التفاضل في الجنسين نعلمه، إلا عن سعيد بن جبير أنه قال: (ما يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز التفاضل فيهما. وهذا يرده قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد (1) » وفي لفظ: «إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (2) » ، رواه مسلم، وأبو داود. ولأنهما جنسان فجاز التفاضل فيهما، كما لو تباعدت منافعهما. ولا خلاف في إباحة التفاضل في الذهب بالفضة، مع تقارب منافعهما.
فأما النساء: فكل جنسين يجري فيهما الربا بعلة واحدة، كالمكيل
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(43/72)
بالمكيل، والموزون بالموزون، والمطعوم بالمطعوم، عند من يعلل به، فإنه يحرم بيع أحدهما بالآخر نساء، بغير خلاف نعلمه؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد (1) » . وفي لفظ: «لا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير، والشعير أكثرهما، يدا بيد، وأما النسيئة فلا (2) » . رواه أبو داود. إلا أن يكون أحد العوضين ثمنا، والآخر مثمنا، فإنه يجوز النساء بينهما بغير خلاف، لأن الشرع أرخص في السلم، والأصل في رأس المال الدراهم والدنانير، فلو حرم النساء ههنا لانسد باب السلم في الموزونات في الغالب.
فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون، مثل بيع اللحم بالبر، ففيهما روايتان:
إحداهما: يحرم النساء فيهما، وهو الذي ذكره الخرقي ههنا؛ لأنهما مالان من أموال الربا فحرم النساء فيهما، كالمكيل بالمكيل.
والثانية: يجوز النساء فيهما، وهو قول النخعي؛ لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفى علة ربا الفضل، فجاز النساء فيهما، كالثياب بالحيوان.
(فصل) وإذا باع شيئا من مال الربا بغير جنسه، وعلة ربا الفضل فيهما واحدة، لم يجز التفرق قبل القبض، فإن فعلا بطل العقد، وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: (لا يشترط التقابض فيهما كغير أموال الربا، وكبيع ذلك بأحد النقدين) .
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد (3) » رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد (4) » . وروى مالك بن أوس بن الحدثان، أنه التمس صرفا بمائة دينار. قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) .(43/73)
فتراوضنا حتى اصطرف مني، فأخذ الذهب يقلبها في يديه، ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك، فقال: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء (1) » متفق عليه، والمراد به القبض، بدليل أن المراد به ذلك في الذهب والفضة " ولهذا فسره عمر به، ولأنهما مالان من أموال الربا علتهما واحدة، فحرم التفرق فيهما قبل القبض كالذهب بالفضة.
فأما إن اختلفت علتهما، كالمكيل بالموزون عند من يعلل بهما، فقال أبو الخطاب: (يجوز التفرق فيهما قبل القبض رواية واحدة؛ لأن علتهما مختلفة فجاز التفرق قبل القبض كالثمن بالمثمن) . وبهذا قال الشافعي، إلا أنه لا يتصور عنده ذلك إلا في بيع الأثمان بغيرها، ويحتمل كلام الخرقي وجوب التقابض على كل حال؛ لقوله: «يدا بيد (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2134) ، صحيح مسلم المساقاة (1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243) ، سنن النسائي البيوع (4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2061) ، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4575) ، مسند أحمد بن حنبل (4/372) .(43/74)
(مسألة) قال: (وما كان مما لا يكال ولا يوزن، فجائز التفاضل فيه بيدا بيد، ولا يجوز نسيئة) . اختلفت الرواية في تحريم النساء في غير المكيل والموزون على أربع روايات:
إحداهن: لا يحرم النساء في شيء من ذلك، سواء بيع بجنسه أو بغيره، متساويا أو متفاضلا، إلا على قولنا: (إن العلة الطعم) فيحرم النساء في المطعوم، ولا يحرم في غيره. وهذا مذهب الشافعي. واختار القاضي هذه الرواية؛ لما روى أبو داود عن عبد الله بن عمرو: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا، فنفدت الإبل، فأمره أن يأخذ في قلاص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة (1) » . رواه أبو داود. وروى سعيد في سننه، عن أبي معشر عن صالح بن كيسان، عن الحسن بن محمد: أن عليا باع بعيرا له يقال له: عصيفير، بأربعة أبعرة إلى أجل. ولأنهما مالان
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3357) ، مسند أحمد بن حنبل (2/171) .(43/74)
لا يجري فيهما ربا الفضل، فجاز النساء فيهما كالعرض بالدينار. ولأن النساء أحد نوعي الربا، فلم يجز في الأموال كلها كالنوع الآخر.
والرواية الثانية: يحرم النساء في كل مال بيع بجنسه، كالحيوان بالحيوان، والثياب بالثياب، ولا يحرم في غير ذلك. وهذا مذهب أبي حنيفة. وممن كره بيع الحيوان بالحيوان نساء ابن الحنفية، وعبد الله بن عمير، وعطاء، وعكرمة بن خالد، وابن سيرين، والثوري. وروي ذلك عن عمار، وابن عمر، لما روى سمرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، (1) » قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح) ، ولأن الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل، فحرم النساء كالكيل والوزن.
والثالثة: لا يحرم النساء إلا فيما بيع بجنسه متفاضلا، فأما مع التماثل فلا؛ لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحيوان اثنين بواحد لا يصلح نساء، ولا بأس به يدا بيد (2) » قال الترمذي: (هذا حديث حسن) . وروى ابن عمر: «أن رجلا قال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس والنجيبة بالإبل؟ فقال: "لا بأس إذا كان يدا بيد (3) » . من المسند. وهذا يدل على إباحة النساء مع التماثل بمفهومه.
والرابعة: يحرم النساء في كل مال بيع بمال آخر، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه. وهذا ظاهر كلام الخرقي، ويحتمل أنه أراد الرواية الثالثة؛ لأنه بيع عرض بعرض، فحرم النساء بينهما كالجنسين من أموال الربا. قال القاضي: (فعلى هذا لو باع عرضا بعرض، ومع أحدهما دراهم، العروض نقدا والدراهم نسيئة جاز، وإن كانت الدراهم نقدا والعروض نسيئة لم يجز؛ لأنه يفضي إلى النسيئة في العروض) . وهذه الرواية ضعيفة جدا، لأنه إثبات حكم يخالف الأصل، بغير نص ولا إجماع ولا قياس صحيح، فإن في المحل المجمع عليه أو المنصوص عليه أوصافا لها أثر في تحريم الفضل، فلا يجوز حذفها عن درجة الاعتبار، وما هذا سبيله، لا يجوز
__________
(1) سنن الترمذي كتاب البيوع (1237) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4620) ، سنن أبو داود البيوع (3356) ، سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2270) ، مسند أحمد بن حنبل (5/19) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2564) .
(2) سنن الترمذي كتاب البيوع (1238) ، سنن ابن ماجه كتاب التجارات (2271) ، مسند أحمد بن حنبل (3/310) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (2/109) .(43/75)
إثبات الحكم فيه، وإن لم يخالف أصلا، فكيف يثبت مع مخالفة الأصل في حل البيع! وأصح الروايات هي: الأولى، لموافقتها الأصل. والأحاديث المخالفة لها، قال أبو عبد الله: (ليس فيها حديث يعتمد عليه، ويعجبني أن يتوقاه) . وذكر له حديث ابن عباس وابن عمر في هذا، فقال: (هما مرسلان) ، وحديث سمرة، يرويه الحسن عن سمرة، قال الأثرم: (قال أبو عبد الله: لا يصح سماع الحسن من سمرة) . وحديث جابر، قال أبو عبد الله: (هذا حجاج زاد فيه: "نساء"، وليث بن سعد سمعه من أبي الزبير، ولا يذكر فيه: "نساء"، وحجاج هذا: هو حجاج بن أرطأة، قال يعقوب بن شيبة: (هو واهي الحديث، وهو صدوق) .
وإن كان أحد المبيعين مما لا ربا فيه، والآخر فيه ربا، كالكيل بالمعدود، ففيه روايتان: إحداهما: يحرم النساء فيهما. والثانية: لا يحرم، كما لو باع معدودا بمعدود من غير جنسه.
ثم قال:
(فصل) وإن باع شيئا فيه الربا، بعضه ببعضه، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه، كمد ودرهم بمد ودرهم، أو بمدين. أو بدرهمين، أو باع شيئا محلى بجنس حليته، فهذه المسألة تسمى: (مسألة مد عجوة) . والمذهب أنه لا يجوز ذلك، نص علي ذلك أحمد في مواضع كثيرة، وذكره قدماء الأصحاب. قال ابن أبي موسى في السيف المحلي، والمنطقة، والمراكب المحلات بجنس ما عليها: (لا يجوز، قولا واحدا) . وروي هذا عن سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وشريح، وابن سيرين. وبه قال الشافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وعن أحمد رواية أخرى، تدل على أنه يجوز، بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره، أو يكون مع كل واحد منهما من غير جنسه، فإن مهنا نقل عن أحمد في أن(43/76)
بيع الزبد باللبن يجوز، إذا كان الزبد المنفرد أكثر من الزبد الذي في اللبن. وروى حرب قال: (قلت لأحمد: دفعت دينارا كوفيا ودرهما، وأخذت دينارا شاميا وزنها سواء، لكن الكوفي أوضع؟ قال: لا يجوز إلا أن ينقص الدينار، فيعطيه بحسابه فضة) . وكذلك روى عنه محمد بن أبي حرب الجرجرائي. وروى الميموني أنه سأله: لا يشتري السيف والمنطقة حتى يفصلها؟ فقال: لا يشتريها حتى يفصلها. إلا أن هذا أهون من ذلك؛ لأنه قد يشتري أحد النوعين بالآخر يفصله. وفيه غير النوع الذي يشتري به، فإذا كان من فضل الثمن، إلا أن من ذهب إلى ظاهر القلادة لا يشتريه حتى يفصله. قيل له: فما تقول أنت؟ قال: (هذا موضع نظر) . وقال أبو داود: (سمعت أحمد سئل عن الدراهم المسيبية، بعضها صفر وبعضها فضة، بالدراهم؟ قال: لا أقول فيه شيئا) ، قال أبو بكر: (روى هذه المسألة عن أبي عبد الله خمسة عشر نفسا، كلهم اتفقوا على أنه لا يجوز حتى يفصل، إلا الميموني) . ونقل مهنا كلاما آخر، وقال حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة: (يجوز) . هذا كله إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره. أو كان مع كل واحد منهما من غير جنسه. وقال الحسن: (لا بأس ببيع السيف المحلى بالفضة بالدراهم) . وبه قال الشعبي والنخعي، واحتج من أجاز ذلك بأن العقد إذا أمكن حمله على الصحة لم يحمل على الفساد؛ لأنه لو اشترى لحما من قصاب جاز، مع احتمال كونه ميتة، ولكن وجب حمله على أنه مذكى، تصحيحا للعقد. ولو اشترى من إنسان شيئا جاز، مع احتمال كونه غير ملكه، ولا أذن له في بيعه، تصحيحا للعقد أيضا. وقد أمكن التصحيح ههنا، بجعل الجنس في مقابلة غير الجنس، أو جعل غير الجنس في مقابلة الزائد على المثل.
ولنا: ما روى فضالة بن عبيد قال: «أتي النبي صلى الله عليه وسلم بقلادة فيها ذهب وحرز، ابتاعها رجل بتسعة دنانير، أو سبعة دنانير. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا(43/77)
حتى تميز بينهما (1) » ، قال: فرده حتى ميز بينهما، رواه أبو داود. وفي لفظ رواية مسلم قال: «فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة، فنزع وحدة، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب وزنا بوزن (2) » . ولأن العقد إذا جمع عوضين مختلفي الجنس، وجب أن ينقسم أحدهما على الآخر، على قدر قيمة الآخر في نفسه، فإذا اختلفت القيمة اختلف ما يأخذه من العوض.
بيانه: أنه إذا اشترى عبدين، قيمة أحدهما مثل نصف قيمة الآخر بعشرة، كان ثمن أحدهما ثلثي العشرة، والآخر ثلثها. فلو رد أحدهما بعيب رده بقسطه من الثمن، ولذلك إذا اشترى شقصا وسيفا بثمن، أخذ الشفيع الشقص بقسطه من الثمن، فإذا فعلنا هذا في من باع درهما ومدا قيمته درهمان بمدين قيمتهما ثلاثة، حصل الدرهم في مقابلة ثلثي مد، والمد الذي مع الدرهم، في مقابلة مد وثلث، فهذا إذا تفاوتت القيم، ومع التساوي يجهل ذلك؛ لأن التقويم ظن وتخمين، والجهل بالتساوي كالعلم بعدمه في باب الربا، ولذلك لم يجز بيع صبرة بصبرة بالظن والخرص. وقولهم: يجب تصحيح العقد، ليس كذلك، بل يحمل على ما يقتضيه من صحة وفساد. ولذلك لو باع بثمن وأطلق، وفي البلاد نقود بطل، ولم يحمل على نقد أقرب البلاد إليه، أما إذا اشترى من إنسان شيئا، فإنه يصح؛ لأن الظاهر أنه ملكه، لأن اليد دليل الملك. وإذا باع لحما فالظاهر أنه مذكى، لأن المسلم في الظاهر لا يبيع الميتة.
(فصل) فأما إن باع نوعين من مختلفي القيمة من جنس، وبنوع واحد من ذلك الجنس، كدينار مغربي ودينار سابوري بدينارين مغربيين، أو دينار صحيح ودينار قراضة بدينارين صحيحين، أو قراضتين، أو حنطة حمراء وسمراء ببيضاء، أو تمرا برنيا ومعقليا بإبراهيمي، فإنه يصح، قال أبو بكر: (وأومأ إليه أحمد) . واختار القاضي أبو يعلى، أن الحكم فيها كالتي
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3353) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .(43/78)
قبلها. وهو مذهب مالك والشافعي؛ لأن العقد يقتضي انقسام الثمن على عوضه على حسب اختلافه في قيمته كما ذكرنا، وروي عن أحمد منع ذلك في النقد، وتجويزه في الثمن، نقله أحمد بن القاسم؛ لأن الأنواع في غير الأثمان، يكثر اختلاطها، ويشق تمييزها، فعفي عنها بخلاف الأثمان.
ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب مثلا بمثل والفضة بالفضة مثلا بمثل (1) » . الحديث، وهذا يدل على إباحة البيع، عند وجود المماثلة المراعاة، وهي المماثلة في الموزون وزنا، وفي المكيل كيلا، ولأن الجودة ساقطة في باب الربويات، فيما قوبل بجنسه، فيما لو اتحد النوع في كل واحد من الطرفين، فكذلك إذا اختلفا، واختلاف القيمة ينبني على الجودة والرداءة، لأنه باع ذهبا بذهب متساويا في الوزن فصح، كما لو اتفق النوع، وإنما يقسم العوض على المعوض فيما يشتمل على جنسين، أو في غير الربويات، بدليل ما لو باع نوعا بنوع يشتمل على جيد ورديء.
(فصل) وإن باع ما فيه الربا بغير جنسه، ومعه من جنس ما بيع به، إلا أنه غير مقصود، كدار مموه سقفها بالذهب جاز. لا أعلم فيه خلافا، وكذلك لو باع دارا بدار، مموه سقف كل واحدة منهما بذهب أو فضة جاز؛ لأن ما فيه الربا غير مقصود بالبيع، فوجوده كعدمه. وكذلك لو اشترى عبدا له مال، فاشترط ماله وهو من جنس الثمن، جاز إذا كان المال غير مقصود، ولو اشترى عبدا بعبد، واشترط كل واحد منهما مال العبد الذي اشتراه، جاز إذا لم يكن ماله مقصودا؛ لأنه غير مقصود بالبيع، فأشبه التمويه في السقف، ولذلك لا تشترط رؤيته في صحة البيع، ولا لزومه، وإن باع شاة ذات لبن بلبن، أو عليها صوف بصوف، أو باع لبونا بلبون، وذات صوف. بمثلها، ففيه وجهان:
أحدهما: الجواز، اختاره ابن حامد، وهو قول أبي حنيفة، وسواء كانت الشاة حية أو مذكاة؛ لأن ما فيه الربا غير مقصود فلم يمنع، كالدار.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، مسند أحمد بن حنبل (3/58) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(43/79)
المموه سقفها.
الثاني: المنع، وهو مذهب الشافعي؛ لأنه باع مال الربا بأصله الذي فيه منه، أشبه الحيوان باللحم، والفرق بينهما: أن اللحم في الحيوان مقصود بخلاف اللبن، ولو كانت الشاة محلوبة اللبن، جاز بيعها بمثلها وباللبن وجها واحدا؛ لأن اللبن لا أثر له، ولا يقابله شيء من الثمن، فأشبه الملح في الشيرج والخبز والجبن، وحبات الشعير في الحنطة، ولا نعلم فيه أيضا خلافا، وكذلك لو كان اللبن المنفرد من غير جنس لبن الشاة، جاز بكل حال.
ولو باع نخلة عليها تمر بتمر، أو بنخلة عليها تمر، ففيه أيضا وجهان:
أحدهما: الجواز. اختاره أبو بكر؛ لأن التمر غير مقصود بالبيع.
الثاني: لا يجوز. ووجه الوجهين ما ذكرناه في المسألة قبلها. واختار القاضي: أنه لا يجوز، وفرق بينها وبين الشاة ذات اللبن؛ بكون التمرة يصح إفرادها بالبيع وهي معلومة، بخلاف اللبن في الشاة، وهذا الفرق غير مؤثر، فإن ما يمنع إذا جاز إفراده يمنع، وإن لم يجز إفراده كالسيف المحلى يباع بجنس حليته، وما لا يمنع لا يمنع، وإن جاز إفراده كمال العبد.
(فصل) وإن باع جنسا فيه الربا بجنسه، ومع كل واحد من غير جنسه غير مقصود، فذلك ينقسم أقساما:
أحدها: أن يكون غير المقصود يسيرا، لا يؤثر في كيل ولا وزن، كالملح فيما يعمل فيه، وحبات الشعير في الحنطة فلا يمنع، لأنه يسير لا يخل بالتماثل، وكذلك لو وجد في أحدهما دون الآخر، لم يمنع لذلك، ولو باع ذلك بجنس غير المقصود الذي معه، مثل أن يبيع الخبز بالملح، جاز، لأن وجود ذلك كعدمه.
الثاني: أن يكون غير المقصود كثيرا، إلا أنه لمصلحة المقصود، كالماء في خل التمر، والزبيب، ودبس التمر، فهذا يجوز بيع الشيء منه بمثله،(43/80)
وينزل خلطه- منزلة رطوبته؛ لكونه من مصلحته، فلا يمنع من بيعه بما يماثله، كالرطب بالرطب، ولا يجوز بيعه بما ليس فيه خلط، كبيع خل العنب بخل الزبيب؛ لإفضائه إلى التفاضل، فجرى مجرى بيع التمر بالرطب، ومنع الشافعي ذلك كله، إلا بيع الشيرج بالشيرج، لكون الماء لا يظهر في الشيرج.
الثالث: أن يكون غير المقصود كثيرا، وليس من مصلحته، كاللبن المشوب بالماء، والأثمان المغشوشة بغيرها، فلا يجوز بيع بعضها ببعض؛ لأن خلطه ليس من مصلحته، وهو يخل بالتماثل المقصود فيه، وإن باعه بجنس غير المقصود، كبيع الدينار المغشوش بالفضة بالدراهم، احتمل الجواز؛ لأنه يبيعه بجنس غير مقصود فيه، فأشبه بيع اللبن بشاة فيها لبن، ويحتمل المنع؛ بناء على الوجه الآخر في الأصل. وإن باع دينارا مغشوشا بمثله، والغش فيها متفاوت أو غير معلوم المقدار، لم يجز؛ لأنه يخل بالتماثل المقصود. وإن علم التساوي في الذهب والغش الذي فيهما، خرج على الوجهين، أولاهما: الجواز؛ لأنهما تماثلا في المقصود وفي غيره، ولا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة؛ لكون الغش غير مقصود فكأنه لا قيمة له.
(فصل) ولو دفع إليه درهما، فقال: أعطني بنصف هذا الدرهم نصف درهم، وبنصفه فلوسا، أو حاجة أخرى جاز، لأنه اشترى نصفا بنصف، وهما متساويان، فصح، كما لو دفع إليه درهمين، وقال: بعني بهذا الدرهم فلوسا، وأعطني بالآخر نصفين. وإن قال: أعطني بهذا الدرهم نصفا وفلوسا، جاز أيضا؛ لأن معناه ذلك، ولأن ذلك لا يفضي إلى التفاضل بالتوزيع بالقيمة؛ فإن قيمة النصف الذي في الدرهم، كقيمة النصف الذي مع الفلوس يقينا، وقيمة الفلوس، كقيمة النصف الآخر سواء.
(فصل) وما كان مشتملا على جنسين بأصل الخلقة، كالتمر الذي(43/81)
اشتمل على النوى وما عليه، والحيوان المشتمل على لحم وشحم وغيره، وأشباه ذلك، فهذا إذا قوبل بمثله، جاز بيعه به، ولا نظر إلى ما فيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز بيع التمر بالتمر، والحيوان بالحيوان. وقد علم اشتمالهما على ما فيهما، ولو باع ذلك بنوع غير مقصود فيه، كبيع التمر الذي فيه النوى بالنوى، ففيه عن أحمد روايتان، قد ذكرناهما فيما مضى. فأما العسل قبل تصفيته، فقال أصحابنا: (لا يجوز بيع بعضه ببعض؛ لاشتماله على عسل وشمع، وذلك بفعل النحل، فأشبه السيف المحلى) .
(فصل) ويحرم الربا في دار الحرب، كتحريمه في دار الإسلام، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأبو يوسف، والشافعي، وإسحاق، وقال أبو حنيفة: (لا يجري الربا بين مسلم وحربي، في دار الحرب) . وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب: لا ربا بينهما؛ لما روى مكحول، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب» . ولأن أموالهم مباحة، وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام، فما لم يكن كذلك كان مباحا.
ولنا: قول الله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) وقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) وعموم الأخبار يقتضي تحريم التفاضل. وقوله: «من زاد أو ازداد فقد أربى (4) » . عام، وكذلك سائر الأحاديث. ولأن ما كان محرما في دار الإسلام، كان محرما في دار الحرب، كالربا بين المسلمين، وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن، وتظاهرت به السنة، وانعقد الإجماع على تحريمه، بخبر
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(43/82)
مجهول، لم يرد في صحيح، ولا مسند، ولا كتاب موثوق به، وهو مع ذلك مرسل محتمل. ويحتمل أن المراد بقوله: "لا ربا" النهي عن الربا، كقوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (1) وما ذكروه من الإباحة، منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام، فإن ماله مباح، إلا فيما حظره الأمان، ويمكن حمله بين المسلمين على هبة التفاضل، وهو محرم بالإجماع، فكذا ههنا.
ثم قال:
(فصل) إذا علم المصطرفان قدر العوضين، جاز أن يتبايعا بغير وزن. وكذلك لو أخبر أحدهما الآخر بوزن ما معه فصدقه، فإذا باع دينارا بدينار كذلك وافترقا، فوجد أحدهما ما قبضه ناقصا، بطل الصرف، لأنهما تبايعا ذهبا بذهب متفاضلا، فإن وجد أحدهما فيما قبضه زيادة على الدينار، نظرت في العقد، فإن كان قال: بعتك هذا الدينار بهذا، فالعقد باطل؟ لأنه باع ذهبا بذهب متفاضلا، وإن قال: بعتك دينارا بدينار. ثم تقابضا، كان الزائد في يد القابض مشاعا مضمونا لمالكه، لأنه قبضه على أنه عوض، ولم يفسد العقد، لأنه إنما باع دينارا بمثله وإنما وقع القبض للزيادة على المعقود عليه، فإن أراد دفع عوض الزائد جاز، سواء كان من جنسه، أو من غير جنسه؛ لأنه معاوضة مبتدأة، وإن أراد أحدهما الفسخ فله ذلك، لأن آخذ الزائد وجد المبيع مختلطا بغيره، معيبا بعيب الشركة، ودافعه لا يلزمه أخذ عوضه، إلا أن يكون في المجلس، فيرد الزائد ويدفع بدله. ولو كان لرجل على رجل عشرة دنانير، فوفاه عشرة عددا، فوجدها أحد عشر، كان هذا الدينار الزائد في يد القابض مشاعا مضمونا لمالكه؛ لأنه قبضه على أنه عوض عن ماله، فكان مضمونا بهذا القبض، ولمالكه التصرف فيه كيف شاء.
__________
(1) سورة البقرة الآية 197(43/83)
(فصل) والدراهم والدنانير، تتعين بالتعيين في النقد، بمعنى أنه يثبت الملك بالعقد فيما عيناه، ويتعين عوضا فيه، فلا يجوز إبداله، وإن خرج مغصوبا بطل العقد، وبهذا قال مالك والشافعي، وعن أحمد: (أنها لا تتعين بالعقد، فيجوز إبدالها، ولا يبطل العقد بخروجها مغصوبة) . وهذا مذهب أبي حنيفة؛ لأنه يجوز إطلاقها في العقد، فلا تتعين بالتعيين فيه كالمكيال والصنجة.
ولنا: أنه عوض في عقد؛ فيتعين بالتعيين كسائر الأعواض؛ ولأنه أحد العوضين فيتعين بالتعيين كالآخر، ويفارق ما ذكروه، فإنه ليس بعوض، وإنما يراد لتقدير العقود عليه، وتعريف قدره، ولا يثبت فيها الملك بحال، بخلاف مسألتنا.(43/84)
(مسألة) قال: (وإذا تبايعا ذلك بغير عينة، فوجد أحدهما فيما اشتراه عيبا، فله البدل، إذا كان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه، كالوضوح في الذهب والسواد في الفضة.
يعني اصطرفا في الذمة، نحو أن يقول: بعتك دينارا مصريا بعشرة دراهم. فيقول الآخر: قبلت. فيصح البيع، سواء كانت الدراهم والدنانير عندهما، أو لم يكونا، إذا تقابضا قبل الافتراق؛ بأن يستقرضا أو غير ذلك، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي. وحكي عن مالك: (لا يجوز الصرف، إلا أن تكون العينان حاضرتين) ، وعنه: (لا يجوز حتى تظهر إحدى العينين وتعين) . وعن زفر مثله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا غائبا منها بناجز (1) » . ولأنه إذا لم يعين أحد العوضين، كان بيع دين بدين، وهو غير جائز.
ولنا: أنهما تقابضا في المجلس فصح، كما لو كانا حاضرين، والحديث يراد به أن لا يباع عاجل بآجل، أو مقبوض بغير مقبوض؟ بدليل ما لو عين أحدهما فإنه يصح، وإن كان الآخر غائبا والقبض في المجلس
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (3/51) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(43/84)
يجرى مجرى القبض حالة العقد، ألا ترى إلى قوله: «عينا بعين، يدا بيد (1) » . والقبض يجري في المجلس، كذا التعين.
فإذا ثبت هذا؛ فلا بد من تعيينهما بالتقابض في المجلس، ومتى تقابضا فوجد أحدهما بما قبضه عيبا قبل التفرق، فله المطالبة بالبدل، سواء كان العيب من جنسه، أو من غير جنسه؛ لأن العقد وقع على مطلق لا عيب فيه، فله المطالبة بما وقع عليه العقد، كالمسلم فيه. وإن رضيه بعيبه، والعيب من جنسه جاز، كما لو رضي بالمسلم فيه معيبا، وإن اختار أخذ الأرش، فإن كان العوضان من جنس واحد، لم يجز؛ لإفضائه إلى التفاضل فيما يشترط فيه التماثل، وإن كانا من جنسين جاز. فأما إن تقابضا وافترقا، ثم وجد العيب من جنسه، فله إبداله، في إحدى الروايتين. اختارها الخلال، والخرقي، وروي ذلك عن الحسن، وقتادة، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وهو أحد قولي الشافعي؛ لأن ما جاز إبداله قبل التفرق، جاز بعده، كالمسلم فيه.
والرواية الثانية: ليس له ذلك، وهو قول أبي بكر، ومذهب أبي حنيفة، والقول الثاني للشافعي؛ لأنه يقبضه بعد التفرق، ولا يجوز ذلك في الصرف، ومن صار إلى الرواية الأولى قال: قبض الأول صح به العقد، وقبض الثاني يدل على الأول. ويشترط أن يأخذ البدل في مجلس الرد، فإن تفرقا من غير قبض، بطل العقد، وإن وجد البعض رديئا فرده، فعلى الرواية الأولى: له البدل، وعلى الثانية: يبطل في المردود. وهل يصح فيما لم يرد؛ على وجهين، بناء على تفريق الصفقة، ولا فرق بين كون المبيع من جنس أو من جنسين. وقال مالك: (إن وجد درهما زيفا فرضي به جاز، وإن رده انتقض الصرف في دينار، وإن رد أحد عشر درهما انتقض الصرف في دينارين، وكلما زاد على دينار انتقض الصرف في دينار آخر) . ولنا: أن ما لا عيب فيه لم يرد، فلم ينتقض الصرف فيما يقابله،
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(43/85)
كسائر العوض. وإن اختار واجد العيب الفسخ، فعلى قولنا: (له البدل) ، ليس له الفسخ إذا أبدل له؛ لأنه يمكنه أخذ حقه غير معيب، وعلى الرواية الأخرى: له الفسخ أو الإمساك في الجميع؛ لأنه تعذر عليه الوصول إلى ما عقد عليه، مع إبقاء العقد. فإن اختار أخذ أرش العيب بعد التفرق، لم يكن له ذلك؛ لأنه عوض يقبضه بعد التفرق عن الصرف إلا على الرواية الأخرى.
(فصل) ومن شرط المصارفة في الذمة: أن يكون العوضان معلومين، إما بصفة يتميزان بها، وإما أن يكون للبلد نقد معلوم أو غالب، فينصرف الإطلاق إليه. ولو قال: بعتك دينارا مصريا بعشرين درهما من نقد عشرة بدينار. لم يصح، إلا أن لا يكون في البلد نقد عشرة بدينار إلا نوع واحد، فتنصرف تلك الصفة إليه. وكذلك الحكم في البيع.
(فصل) إذا كان لرجل في ذمة رجل ذهب، وللآخر عليه دراهم، فاصطرفا بما في ذمتهما، لم يصح، وبهذا قال الليث والشافعي، وحكى ابن عبد البر عن مالك وأبي حنيفة جوازه؛ لأن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة، ولذلك جاز أن يشتري الدراهم بدنانير من غير تعيين.
ولنا: أنه بيع دين بدين ولا يجوز ذلك بالإجماع، قال ابن المنذر: (أجمع أهل العلم على أن بيع الدين بالدين لا يجوز) . وقال أحمد: (إنما هو إجماع) . وقد روى أبو عبيد في الغريب: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» . وفسره: بالدين بالدين، إلا أن الأثرم روى عن أحمد: أنه سئل أيصح في هذا حديث؟ قال: لا. وإنما صح الصرف بغير تعيين؛ بشرط أن يتقابضا في المجلس، فجرى القبض والتعيين في المجلس مجرى وجوده حالة العقد. ولو كان لرجل على رجل دنانير، فقضاه دراهم شيئا بعد شيء نظرت، فإن كان يعطيه كل درهم بحسابه من الدينار، صح. نص عليه أحمد، وإن لم يفعل ذلك، ثم تحاسبا بعد ذلك، فصارفه بها وقت(43/86)
المحاسبة، لم يجز. نص عليه أيضا؛ لأن الدنانير دين، والدراهم صارت دينا، فيصير بيع دين بدين. وإن قبض أحدهما مني الآخر ماله عليه، ثم صارفه بعين وذمة، صح. وإذا أعطاه الدراهم شيئا بعد شيء، ولم يقضه ذلك وقت دفعها إليه، ثم أحضرها، وقوماها، فإنه يحتسب بقيمتها يوم القضاء، لا يوم دفعها إليه؛ لأنها قبل ذلك لم تصر في ملكه، إنما هي وديعة في يده، فإن تلفت، أو نقصت، فهي من ضمان مالكها، ويحتمل أن تكون من ضمان القابض لها، إذا قبضها بنية الاستيفاء؛ لأنها مقبوضة على أنها عوض ووفاء، والمقبوض في عقد فاسد، كالمقبوض في العقد الصحيح، فيما يرجع إلى الضمان وعدمه. ولو كان لرجل عند صيرفي دنانير، فأخذ منه دراهم إدرارا، لتكون هذه بهذه، لم يكن كذلك، بل كان كل واحد منهما في ذمة من قبضه. فإذا أراد التصارف أحضرا أحدهما، واصطرفا بعين وذمة.
(فصل) ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر، ويكون صرفا، بعين وذمة، في قول أكثر أهل العلم، ومنع منه ابن عباس، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وابن شبرمة، وروي ذلك عن ابن مسعود؛ لأن القبض شرط وقد تخلف.
ولنا: ما روى أبو داود، والأثرم، في (سننهما) عن ابن عمر قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء (1) » ، قال أحمد: (إنما يقضيه إياها بالسعر) . لم يختلفوا أنه يقضيه إياها بالسعر، إلا ما قال
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .(43/87)
أصحاب الرأي: أنه يقضيه مكانها ذهبا على التراضي؛ لأنه بيع في الحال، فجاز ما تراضيا عليه إذا اختلف الجنس، كما لو كان العوض عرضا. ووجه الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا بأس أن تأخذها بسعر يومها"، وروي عن ابن عمر: أن بكر بن عبد الله المزني، ومسروقا العجلي، سألاه عن كري لهما، له عليهما دراهم، وليس معهما إلا دنانير؟ فقال: ابن عمر: (أعطوه بسعر السوق) . ولأن هذا جرى مجرى القضاء، فقيد بالمثل، كما لو قضاه من الجنس، والتماثل ههنا من حيث القيمة؛ لتعذر التماثل من حيث الصورة. قيل لأبي عبد الله: فإن أهل السوق يتغابنون بينهم بالدانق في الدينار وما أشبهه؟ فقال: (إذا كان مما يتغابن الناس به فسهل فيه، ما لم يكن حيلة، ويزاد شيئا كثيرا) .
(فصل) فإن كان المقضي الذي في الذمة مؤجلا، فقد توقف أحمد فيه. وقال القاضي: يحتمل وجهين: أحدهما: المنع. وهو قول مالك، ومشهور قولي الشافعي؛ لأن ما في الذمة لا يستحق قبضه، فكان القبض ناجزا في أحدهما، والناجز يأخذ قسطا من الثمن.
والآخر: الجواز. وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه ثابت في الذمة بمنزلة المقبوض، فكأنه رضي بتعجيل المؤجل. والصحيح الجواز، إذا قضاه بسعر يومها، ولم يجعل للمقضي فضلا لأجل تأجيل ما في الذمة؛ لأنه إذا لم ينقصه عن سعرها شيئا، فقد رضي بتعجيل ما في الذمة، بغير عوض فأشبه ما لو قضاه من جنس الدين، ولم يستفصل النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر حين سأله، ولو افترق الحال لسأل واستفصل.
(فصل) قال أحمد: (ولو كان لرجل على رجل عشرة دراهم فدفع إليه دينارا فقال: استوف حقك منه. فاستوفاه بعد يومين، جاز. ولو كان عليه دنانير، فوكل غريمه في بيع داره، واستيفاء حقه من ثمنها، فباعها(43/88)
بدراهم، لم يجز أن يأخذ منها قدر حقه؛ لأنه لم يأذن له في مصارفة نفسه، ولأنه متهم. ولو باع جارية بدنانير، فأخذ بها دراهم، فردت الجارية بعيب أو إقالة، لم يكن للمشتري إلا الدنانير؛ لأنه الثمن الذي وقع عليه العقد، وإنما أخذ الدراهم بعقد صرف مستأنف) . نص أحمد على هذه المسائل.(43/89)
صفحة فارغة(43/90)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية(43/91)
القرآن كلام الله
من الفتوى رقم 3239
السؤال الرابع: نقرأ في القرآن الكريم: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} (1) الآية، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} (2) الآية، وأمثال هاتين الآيتين كثير في القرآن، فكيف نسمي هذا قرآنا، وكلام الله القديم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: الكلام يطلق على اللفظ والمعنى، ويطلق على كل منهما وحده، وناقله عمن تكلم به من غير تحريف لمعناه ولا تغيير لحروفه ونظمه مخبر مبلغ فقط، والكلام إنما هو لمن بدأه، أما إن غير حروفه ونظمه مع المحافظة على معناه فينسب إليه اللفظ حروفه ونظمه، وينصب من جهة معناه إلى من تكلم به ابتداء، ومن ذلك ما أخبر الله به عن الأمم الماضية كقوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} (3) وقوله: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ} (4) فهاتان تسميان قرآنا وتنسبان إلى الله كلاما له باعتبار حروفهما ونظمهما؛ لأنهما من الله لا من كلام موسى وفرعون، لأن النظم والحروف ليسا منهما، وتنسبان إلى موسى وفرعون باعتبار المعنى، فإنه كان واقعا منهما، وهذا وذاك قد علمهما الله في الأزل، وأمر
__________
(1) سورة غافر الآية 27
(2) سورة غافر الآية 36
(3) سورة غافر الآية 27
(4) سورة غافر الآية 36(43/92)
بكتابتهما في اللوح المحفوظ، ثم وقع القول من موسى وفرعون بلغتهما طبق ما كان في اللوح المحفوظ ثم تكلم الله بذلك بحروف أخرى ونظم آخر في زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فنسب إلى كل منهما باعتبار، وأما وصف كلام الله بالقدم فلم يعرف عن الصحابة رضي الله عنهم ولا عن أئمة السلف رحمهم الله، وإنما كان أهل السنة يقولون أيام المحنة: كلام الله غير مخلوق، ويقول مخالفوهم: كلام الله مخلوق، فوصف كلام الله بأنه قديم اصطلاح حادث، ولو جرينا عليه قلنا كلام الله قديم النوع حادت الآحاد؛ لأن الله تعالى لم يزل متكلما، ولا يزال متكلما بما يشاء، وحتى إنه ليتكلم يوم القيامة مع المؤمنين والكافرين وغيرهم بما يشاء، كما ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان. . (1) » الحديث، مع أحاديث أخرى في الموضوع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 4 \ 256، 377، والبخاري برقم 1413 و 1417 و 3595 و 6023 و 6539 و 6540 و 6563 و 7443 و 7512، ومسلم برقم 1016، والترمذي برقم 2417، وابن ماجه برقم 173 واللفظ له.(43/93)
فتوى رقم 6137
السؤال: إن أحد الأصدقاء طعن في صحة المصاحف التي بين أيدينا اليوم مدعيا أن التحريف دخلها حسب قوله من مصحف امتنع صاحبه(43/93)
إعطاءه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان باليمن، ولقد أخذ صديقي يشرح لي، ودلني على الكتاب الذي أخذ منه معلوماته التي يجادلني بها، ولكن كان قد أثار غضبي وامتنعت عن الإذعان إليه، وبهذا كتبت مستفتيا سيادتكم عن هذا وطالبا منكم إمدادي بمعلومات عن نقل القرآن؛ لأنني أتعرض لمثل هذا بحكم انتمائي لجماعة تبليغ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: القرآن كلام الله جل وعلا أخذه جبريل عن الله، وقرأه على محمد صلى الله عليه وسلم، واستمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل وأخذه منه، كما تكلم به الله جل وعلا وحفظه الله تعالى في قلب محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (1) {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (2) {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (3) {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (4) .
وقال ابن جرير رحمه الله في تفسيره: (اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل له {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (5) فقال بعضهم: قيل له ذلك، لأنه كان إذا نزل عليه منه من شيء عجل به يريد حفظه من حبه إياه فقيل له: لا تعجل به فإنا سنحفظه عليك. وقال آخرون: بل السبب الذي من أجله قيل له ذلك أنه كان يكثر تلاوة القرآن مخافة نسيانه فقيل له: لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه لك ونقرئك فلا تنسى) (6) انتهى. وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (7)
__________
(1) سورة القيامة الآية 16
(2) سورة القيامة الآية 17
(3) سورة القيامة الآية 18
(4) سورة القيامة الآية 19
(5) سورة القيامة الآية 16
(6) تفسير ابن جرير 29 \ 187.
(7) سورة الحجر الآية 9(43/94)
والذكر هو: القرآن، وقد حفظه الله على المسلمين، وتلقاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم كتابة وحفظا، وبلغوه الأمة غضا طريا لم يدخله شيء من التحريف أو النقص، وقد جمعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته بواسطة زيد بن ثابت رضي الله عنه، ثم جمعه عثمان في خلافته على حرف واحد لئلا تختلف الأمة في ذلك، ومن قال إنه غير محفوظ أو دخله شيء من التحريف أو النقص فهو ضال يستتاب فإن تاب وإلا وجب على ولي الأمر قتله مرتدا؛ لأن قوله يصادم قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) ويصادم إجماع الأمة على حفظه وسلامته، ولهذا أنكر علماء المسلمين على الشيعة الباطنية زعمهم أن القرآن الذي بين أيدي المسلمين ناقص، وأن الذي عندهم هو الكامل وهذا من أبطل الباطل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الحجر الآية 9(43/95)
من الفتوى رقم 6093
السؤال الثالث: سمعت بعض العلماء يقول أيهما أفضل القرآن أم عيسى ابن مريم؟(43/95)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: القرآن كلام الله غير مخلوق، وعيسى من البشر مخلوق ولدته مريم بنت عمران، فالقرآن أفضل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/96)
من الفتوى رقم 7482
السؤال الرابع: هل القرآن كلام أو هو دعاء كما يقول بعض الناس؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: القرآن كلام الله سمعه جبريل عليه السلام من رب العالمين، ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم وتلاه عليه، وهو مشتمل على أدعية: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (1) وهي آية من كلام الله تعالى.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة آل عمران الآية 8(43/96)
من الفتوى رقم 9450
السؤال الثامن: هل القرآن المكتوب في المصاحف حاليا هو عين كلام الله سبحانه وتعالى، أو أن له كلاما آخر غير المكتوب بين أيدينا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: القرآن المكتوب بين أيدينا هو كلام الله عز وجل، تكلم به حقيقة، وسمعه منه جبريل عليه السلام، ونزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأه وأمر بكتابته، فكتبه الصحابة رضي الله عنهم، وتناقله السلف إلى أن بلغنا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/97)
إعجاز القرآن
من الفتوى رقم 6193
السؤال الخامس: بم تحدى الله تعالى من يشكون في نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: تحداهم الله تعالى بأن يأتوا بمثل القرآن أو عشر سور أو سورة فعجزوا عن ذلك، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (1)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 88(43/97)
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) ، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (2) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة هود الآية 13
(2) سورة يونس الآية 38(43/98)
جمع القرآن وترتيبه
من الفتوى رقم 2376
السؤال الثاني: من هو الذي سمى سور القرآن الكريم هل هو الرسول صلى الله عليه وسلم أم ماذا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: لا نعلم نصا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل على تسمية السور جميعها، ولكن ورد في بعض الأحاديث الصحيحة تسمية بعضها من النبي صلى الله عليه وسلم كالبقرة وآل عمران، أما بقية السور فالأظهر أن تسميتها وقعت من الصحابة رضي الله عنهم.(43/98)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/99)
من الفتوى رقم 4497
السؤال الخامس: سمعت بعض الناس يتحدث عن جمع القرآن ويقول إنه يجمع حسب ترتيب النزول، والجمع الموجود حاليا هو عمل الخليفة أبي بكر رضي الله عنه، فهل يجوز أن يجمع القرآن حسب ترتيب نزوله، وما حكم الجمع الموجود حاليا في المصحف؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: يجب الوقوف في ترتيب القرآن في سوره وآياته على ما هو موجود عليه الآن، ولا يجوز لأحد التعدي عليه بتغيير ترتيبه، وقد تلقى الصحابة ترتيب آياته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا عليه، وهو ترتيب بنص الرسول صلى الله عليه وسلم، وترتيب سوره باجتهاد الصحابة رضي الله عنهم، وننصح القارئ بتعلمه وكثرة تلاوته وتدبره والعمل بما فيه والدعوة إليه على جمعه الحالي مع العناية بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وحفظها والعمل بها؛ لأنها الوحي الثاني والمفسرة لما قد يخفى من معاني كلام الله سبحانه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/99)
من الفتوى رقم 4735
السؤال الأول: طيه نسخة من جزء عم المهمش بمعاني الكلمات الصعبة ولقد لاحظت أن الجزء المذكور قد رتبت السور فيه بشكل عكسي ابتداء بسورة (الناس) وانتهاء بسورة (عم) .
إنني أرجو التكرم بإفادتنا هل يصح هذا الترتيب، وهل ترتيب سور القرآن موقوفة حسب ما وردت أم لا؟
جزاكم الله عنا وعن المسلمين كل خير.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: يجب الترتيب لسور القرآن كما في المصحف العثماني، فالجزء الأخير يبدأ بسورة عم وينتهي بسورة الناس.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/100)
من الفتوى رقم 4909
السؤال الأول: هل يصح قراءة السور عكس ما هي مسطورة في القرآن، كأن يقرأ أولا سورة الفلق قبل سورة الناس وما أشبهه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: الأفضل أن يقرأ السور على ترتيب المصحف العثماني، فيبدأ(43/100)
بالفاتحة، ثم البقرة، ثم آل عمران، حتى ينتهي بقراءة سورة الناس، وبهذا يعلم أن قراءة الفلق ثم سورة الناس جاءت على ترتيب المصحف العثماني لا العكس، أما قراءته ابتداء من سورة الناس ثم الفلق ثم الإخلاص إلى ما فوقها للتعلم فلا بأس به.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/101)
تعدد القراءات للقرآن
من الفتوى رقم 1977
السؤال الثالث: يقولون إن تعدد القراءات في القرآن معناه اختلاف في القرآن حيث يؤدي إلى معان شافية مثل آية الإسراء {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (1) .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن القرآن نزل من عند الله على سبعة أحرف (2) » أي لغات من لغات العرب ولهجاتها تيسيرا لتلاوتها عليهم رحمة من الله بهم، ونقل ذلك نقلا متواترا وصدق ذلك واقع القرآن، وما
__________
(1) سورة الإسراء الآية 13
(2) أحمد 1 \ 40 - 43، والبخاري برقم 2419 و 4992 و 5401 و 6939 و 7550، ومسلم برقم 818، وأبو داود برقم 1475، والترمذي 2944، والنسائي 2 \ 150، ومالك في الموطأ كتاب القرآن 2070.(43/101)
وجد فيه من القراءات فهي كلها تنزيل من حكيم حميد، ليس تعددها عن تحريف أو تبديل ولا لبس في معانيها ولا تناقض في مقاصدها ولا اضطراب، بل بعضها يصدق بعضا ويبين مغزاه، وقد تتنوع معاني بعض القراءات فيفيد كل منها حكما يحقق مقصدا من مقاصد الشرع ومصلحة من مصالح العباد مع اتساق معانيها وائتلاف مراميها وانتظامها في وحدة تشريع محكمة كاملة لا تعارض بينها ولا تضارب فيها.
فمن ذلك ما ورد من القراءات في الآية التي ذكرها السائل وهي قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (1) فقد قرئ ونخرج بضم النون وكسر الراء، وقرئ يلقاه بفتح الياء والقاف مخففة، والمعنى: ونحن نخرج للإنسان يوم القيامة كتابا هو صحيفة عمله يصل إليه حال كونه مفتوحا فيأخذه بيمينه إن كان سعيدا وبشماله إن كان شقيا، وقرئ "يلقاه منشورا " بضم الياء وتشديد القاف، والمعنى: ونحن نخرج للإنسان يوم القيامة كتابا هو صحيفة عمله، يعطى الإنسان ذلك الكتاب حال كونه مفتوحا، فمعنى كل من القراءتين يتفق في النهاية مع الآخر، كأن من يلقى إليه الكتاب فقد وصل إليه، ومن وصل إليه الكتاب فقد ألقي إليه.
ومن ذلك قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (2) قرئ يكذبون بفتح الياء وسكون
__________
(1) سورة الإسراء الآية 13
(2) سورة البقرة الآية 10(43/102)
الكاف وكسر الذال، بمعنى: يخبرون بالأخبار الكاذبة عن الله والمؤمنين، وقد قرئ يكذبون بضم الياء وفتح الكاف وتشديد الذال المكسورة، بمعنى: يكذبون الرسل فيما جاءوا به من عند الله من الوحي، فمعنى كل من القراءتين لا يعارض الآخر ولا يناقضه، بل كل منهما ذكر وصفا من أوصاف المنافقين، وصفتهم الأولى بالكذب في الخبر عن الله ورسله وعن الناس، وصفتهم الثانية بتكذيبهم رسل الله فيما أوحي إليهم من التشريع، وكل حق فإن المنافقين جمعوا بين الكذب والتكذيب.
ومن ذلك يتبين أن تعدد القراءات كان بوحي من الله لحكمة لا عن تحريف وتبديل، وأنه لا يترتب عليه أمور شائنة ولا تناقض أو اضطراب بل معانيها مؤتلفة ومقاصدها متفقة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/103)
من الفتوى رقم 2638
السؤال الأول: ما مخرج حرف الضاد وبأي صوت يظهر حينما يؤدى من مخرجه الأصلي؟ بعض الناس في بلادنا باكستان والهند يقرؤونه: غدواد أو دواء أو شبيها بالدال المفخمة فيظهر صوت الحرف في قوله تعالى: {وَلَا الضَّالِّينَ} (1) (ولا غدوالين) أو (ولا الدوالين) أو
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 7(43/103)
(ولا الدولين) على الترتيب، والآخرون منهم يقرؤونه مشابها للظاء المعجمة إلا أن الفرق يظهر واضحا بين تلفظ الضاد والظاء على حسب المخرج، فأفتى الفريق الأول بعدم جواز الصلاة خلف الفريق الثاني أو بتقليل الأجر والثواب على الأقل. فيا معشر علماء الحق المبين، أوضحوا مخرج حرف الضاد والفرق بينه وبين حرف الظاء المعجمة، وأيضا فصلوا المسألة من حيث الشرع حاكمين بين الفريقين المذكورين؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: أولا: مخرج الضاد من إحدى حافتي اللسان اليمنى أو اليسرى بعد مخرج الياء وقبل مخرج اللام مما يلي الأضراس، وتخرج اللام من أقرب حافة اللسان إلى مقدم الفم وصوت الضاد بين صوت الدال المفخمة والظاء المعجمة تقريبا، والنطق بالضاد كما ذكر في السؤال خطأ.
ثالثا: من قدر على أن يجود حرف الضاد حتى يخرجه من مخرجه الصحيح وجب عليه ذلك، ومن عجز عن تقويم لسانه في حرف الضاد أو غيره كان معذورا وصحت صلاته، ولا يصلي إماما إلا بمثله أو من دونه لكن يغتفر في أمر الضاد والظاء ما لا يغتفر في غيرهما، لقرب مخرجهما وصعوبة التمييز بينهما في المنطق كما نص عليه جمع من أهل العلم منهم الحافظ ابن كثير في تفسير الفاتحة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/104)
من الفتوى رقم 7339
السؤال الثالث: هل يجوز قراءة القرآن في الصلاة برواية ورش، علما بأنا تداولنا القراءة برواية حفص عن عاصم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: القراءة برواية ورش عن نافع صحيحة معتبرة في نفسها لدى علماء القراءات، لكن القراءة بها لمن لم يعهدها بل عهد غيرها كالقراءة برواية حفص مثلا تثير بلبلة في نفوس المأمومين، فتترك القراءة بها لذلك، أما إذا كان القارئ بها في صلاته منفردا فيجوز لعدم المانع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/105)
من الفتوى رقم 4161
السؤال الثالث: قرأت في القرآن الكريم كله {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (1) والتاء مفتوحة مع أنها تاء ساكنة مؤنثة فما الحكم في ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: إن رسمها على ما ذكر متبع فيه الرسم العثماني، وأما التاء فليست بساكنة بل مفتوحة.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 56(43/105)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/106)
تلاوة القرآن وتحزيبه
من الفتوى رقم 968
السؤال الخامس: أيهما أفضل في نهار شهر رمضان المبارك قراءة القرآن أم صلاة التطوع؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: كان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات، وكان جبريل يدارسه القرآن كل ليلة، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان لما يكثر فيه من الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف، هذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب في هذا الشهر، أما المفاضلة بين قراءة القارئ وصلاة المصلي تطوعا فتختلف باختلاف أحوال الناس وتقدير ذلك راجع إلى الله جل وعلا؛ لأنه بكل شيء محيط.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(43/106)
من الفتوى رقم 687
السؤال السابع: من المعلوم أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن في الفضيلة والثواب، فهل إذا قرأها الإنسان ثلاث مرات أو أربع يحصل بذلك فضيلة ختم القرآن الكريم كله؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: فضل الله أوسع، وإن ثبت أن معنى الحديث أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن في الفضيلة والثواب كان لقارئها ثلاث مرات ثواب ختم القرآن، وعلى المسلم أن يذكر ربه ويتلو من كتابه الكريم ما تيسر له، ويفعل الخير ما استطاع، ويرجو من الله المثوبة وحسن الجزاء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(43/107)
من الفتوى رقم 829
السؤال الرابع: إذا كانت قراءة سورة الإخلاص ثلاث مرات تعادل ثواب قراءة القرآن فهل على المسلم إثم إذا ترك تلاوة القرآن اكتفاء بقراءة هذه السورة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدين النصيحة" ثلاثا فقيل: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين(43/107)
وعامتهم (1) » والنصيحة لكتاب الله تعالى تكون بتلاوته وتدبر آياته والاتعاظ بمواعظه والوقوف عند حدوده بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ولا شك أن الاكتفاء بقراءة سورة الإخلاص دون سائر كتاب الله لا يتفق مع النصيحة لكتاب الله، ولا يتأتى لمن يكتفي بذلك النصح لنفسه بما يحصل من تلاوة كتاب الله من الأجر والمثوبة، وزيادة الإيمان، ومعرفة الأحكام من الحلال والحرام، والواجب والمسنون والمكروه، والتأدب بآداب القرآن، والتخلق بأخلاقه، وكفى بانتقاص العبد هذه الأمور زاجرا عن ترك تلاوة كتاب الله، والرسول صلى الله عليه وسلم مع علمه بفضل هذه السورة وإخباره بأنها تعدل ثلث القرآن، وزيادة حرصه على عظم الأجر والثواب لم يقتصر على تلاوة هذه السورة، بل كان يداوم على تلاوة سائر كتاب الله، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (2) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) أحمد 1 \ 351 و 4 \ 102 و5 \ 297، ومسلم برقم 55، وأبو داود برقم 4944، والنسائي في المجتبى 7 \ 156.
(2) سورة الأحزاب الآية 21(43/108)
من الفتوى رقم 2450
السؤال الثاني: هل يجوز تحزيب القرآن يعني عند تلاوته، لما في(43/108)
ذلك من تغيير لأقواله تعالى ومنه الزيادة والنقصان وهذا ما شهدناه في بعض مناطق المغرب العربي- أقول- هل يجوز ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: لا نعلم شيئا يدل على التحزيب المثبت على هوامش المصاحف التي بيد الناس اليوم، والوارد عن الصحابة رضي الله عنهم في ذلك ما رواه أوس بن حذيفة قال: (سألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحزبون القرآن فقالوا: ثلاث وخمس وسبع وتسع وإحدى عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده، وبأنه ثلاث: البقرة وآل عمران والنساء، وخمس: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة، وسبع: يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل، وتسع: الإسراء والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان، وإحدى عشرة: الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان وألم السجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس، وثلاث عشرة: الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف والقتال والفتح والحجرات، ثم بعد ذلك حزب المفصل وأوله ق) (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 4 \ 9، وأبو داود برقم 1393، وابن ماجه برقم 1339.(43/109)
من الفتوى رقم 4963
السؤال الثاني: أيهما أفضل قراءة القرآن أم الاشتغال بالتسبيج والتهليل والاستغفار والدعاء فيما بين الأذان والإقامة في صلاتي الصبح والمغرب أرجو الإفادة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: قراءة القرآن أفضل إلا إذا وجد ما يقتضي رجحان غيرها كالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل في مواضع من الصلاة دلت السنة على الذكر بها فيها، وكذا بعد الصلاة بالنسبة لما ثبت فيه دليل على مشروعية العمل بعدها، والقاعدة أن كل ذكر خص شرعا بوقت أو مكان كان مقدما على غيره في ذلك، بل قد نهي عن قراءة القرآن في مواضع وجعل غيره من الأذكار فيها متعينا كالتسبيح في الركوع والسجود.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/110)
من الفتوى رقم 5519
السؤال السابع: عندما يعتاد المسلم قراءة القرآن في أوقات معينة مثل بعد صلاة الفجر يوميا أو في يوم الجمعة فهل يجب عليه قراءة حزب أو ربع حزب أو عدد آيات محددة مثل 30 آية، 50 آية أو أن(43/110)
ذلك يعود إلى ما تيسر من آيات الذكر الحكيم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: يقرأ ما تيسر له بدون التزام لعدد معين من السور أو الآيات، ويحاول المحافظة على القراءة يوميا إذا تيسر له بدون التزام لعدد معين من السور أو الآيات، ويحاول المحافظة على القراءة يوميا حتى يستفيد من كلام ربه سبحانه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/111)
من الفتوى رقم 5828
السؤال الثالث عشر: تلاوة القرآن والنوافل والدعاء أيهم أفضل عند الله سبحانه وتعالى؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: تلاوة القرآن فاضلة، ونوافل العبادات فاضلة، والدعاء فاضل وهو مخ العبادة، وتختلف أفضلية وأولوية هذه الأمور باختلاف الأحوال والأزمان والأسباب والمقتضيات لها، فنوصيك بالإكثار من تلاوة القرآن والنوافل والدعاء حسب الطاقة، مع الإخلاص لله والنصح في العمل، وأبشر بالخير والأجر الجزيل.(43/111)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/112)
من الفتوى رقم 8809
السؤال التاسع: ما حكم تفضيل بعض المقرئين على الآخرين في قراءة القرآن، وتسجيل القرآن على شرائط وبيعها بالفلوس؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: يجوز تفضيل بعض قراء القرآن على بعض من أجل أحكام التلاوة وحسن الترتيل، ويجوز تسجيل قراءة القرآن على أشرطة وبيع هذه الأشرطة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/112)
من الفتوى رقم 9097
السؤال الثاني: هل العالم القرآني يمكنه التطور حتى يكشف ما لا يجوز كشفه أعني من الناحية الدينية لا الاقتصادية؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: يمكنه التقدم بتلاوة القرآن وتدبره ويتسع بذلك أفقه في معرفة(43/112)
شرع الله عقائد وأحكاما أخرى، ويزداد عند الله درجات فضلا من الله ورحمة، وقد يهبه الله قوة فراسة وتصدق رؤياه، لكنه لا يعلم الغيب؛ لقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (1) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (2) ونحوه من الآيات.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الجن الآية 26
(2) سورة الجن الآية 27(43/113)
من الفتوى رقم 9770
السؤال الثالث: قراءة القرآن في المصحف وقراءته بدون مصحف أيهما أفضل؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: ما هو أنفع لك وأخشع لقلبك أفضل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/113)
فتوى رقم 11249
سؤال: هل يجوز قراءة القرآن على ظهر الدابة مثل الجمال والخيل(43/113)
والحمير والسيارة، أفدنا أفادكم الله؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: يجوز للمسلم قراءة القرآن على ظهر الدابة وفي داخل السيارة أو الطائرة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه «كان يصلي على راحلته (1) » ، ولعموم قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (2) {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (3) الآية والذكر يعم القرآن وغيره.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 2 \ 4 و 7 و 13 و20 و 38 و40 و 41 و 44 و 45 و 46 و 56 و 66 و 72 و75 و81 و 105 و 125 و 132 و 138 و 3 \ 73 و 203 و330 و 363 و 385 و 388 و 424 و 447، والبخاري برقم 400 و 1094 و 1099 و 4140، ومسلم برقم 700 و701، وأبو داود برقم 1224، والترمذي برقم 352.
(2) سورة آل عمران الآية 190
(3) سورة آل عمران الآية 191(43/114)
تحسين الصوت في القراءة
من الفتوى رقم 829
السؤال الثاني: حكم تحسين الصوت في القرآن والأذان؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: إن كان تحسين الصوت بهما لا يصل إلى حد الغناء بهما فذلك حسن، قال ابن القيم رحمه الله: (كان صلى الله عليه وسلم يحب حسن الصوت(43/114)
بالأذان والقرآن ويستمع إليه) ، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن ويجهر به (1) » متفق عليه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم (2) » رواه أحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي وابن حبان والحاكم عن البراء، وزاد الحاكم: «فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا (3) » قال بعض أهل العلم: معنى يتغنى بالقرآن يحسن قراءته ويترنم به ويرفع صوته به كما قال أبو موسى للنبي صلى الله عليه وسلم: «لو علمت أنك تسمع قراءتي لحبرته لك تحبيرا (4) » وأما أداؤهما بالألحان والغناء فذلك غير جائز؛ قال ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني: (وكره أبو عبد الله القراءة بالألحان وقال: هي بدعة. . إلى أن قال: وكلام أحمد محمول على الإفراط في ذلك بحيث يجعل الحركات حروفا ويمد في غير موضعه) (5) اهـ.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن غديان ... عبد الله بن منيع ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) أحمد 5 \ 271 و 450، والبخاري برقم 5023 و 5482 و 5544، ومسلم برقم 792، وأبو داود برقم 1473، والدارمي برقم 3500، وأخرج نحوه ابن ماجه برقم 1334.
(2) أحمد 4 \ 283 و 285 و 296 و 304، وأبو داود برقم 1468، والنسائي في المجتبى 3 \ 179 وابن ماجه في السنن برقم 1336، والحاكم في المستدرك برقم 1 \ 574، والدارمي برقم 3503، والبيهقي في السنن الكبرى 2 \ 10 و 53 و 229، وأبو نعيم في الحلية 5 \ 27 و 7 \ 139.
(3) الحاكم 1 \ 575، والدارمي في السنن برقم 3504.
(4) البخاري برقم 5048، ومسلم برقم 793، وانظر فتح الباري، ج 9 ص 93.
(5) المغني 9 \ 180.(43/115)
رفع الصوت في القراءة
من الفتوى رقم 9328
السؤال السادس: إذا كان الإنسان مداوما على قراءة القرآن بتوفيق من الله وله الحمد وأكثر الأوقات يختم في كل أسبوع أو أسبوعين، الخلاصة: أنه إذا ختم القرآن في يوم الثلاثاء والأربعاء وقف على المعوذات وبدأ بالفاتحة والبقرة، فإذا جاء ليلة الجمعة بعد صلاة المغرب بدأ من المعوذات من موقفه وختم وقرأ الختمة بين فضيلتين الخميس وليلة الجمعة لأجل إن شاء الله برحمته صلاة الملائكة إلى الصباح أطول كما في الحديث، فإذا قرأ الختمة بدأ في القراءة من موقفه في مثناة القرآن.
والخلاصة هل يكون تأخير الختمة إلى الخميس والجمعة بدعة ولا ينفعه ما قصد واجتهاده؟ وإذا ختم يقرأ الختمة من ساعة ما يختم أي يوم إلا أن أول النهار أو أول الليل أفضل، أيهما أفضل إذا ختم يقرأ الختمة من ساعته في يومه، أو يؤخر الختمة إلى الجمعة كما أسلفت أفيدوني بالأفضل، جزاكم الله خيري الدنيا والآخرة.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: السنة له أن يكمل ختم القرآن ولا يؤجل قراءة المعوذتين إلى الجمعة ولا غيرها بل ينهي الختمة متى وصل إلى المعوذتين، ثم يدعو بما فيه من الدعاء بعد حمد الله والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم اقتداء بالسلف الصالح، ثم يعود فيبدأ بالختمة الأخرى من الفاتحة وهكذا.(43/116)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/117)
فتوى رقم 2584
السؤال: هل يجوز قراءة سورة يس بالصوت المرتفع في المسجد أو لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: لا يجوز لأحد أن يرفع صوته بقراءة القرآن في المسجد لا بسورة يس ولا بغيرها من القرآن لا في الصلاة ولا في غيرها؛ لما ثبت من أن «النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون ويجهرون بالقراءة فقال: أيها الناس كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة (1) » ، ولأن في ذلك تشويشا وإيذاء من بعضهم لبعض.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مالك في الموطأ باب الصلاة برقم 30، وأحمد 4 \ 344 و 2 \ 36 و 67 و 129، والنسائي في فضائل القرآن برقم 116 و 117، وأبو داود برقم 1332، والحاكم في المستدرك 1 \ 311، وصححه ووافقه الذهبي.(43/117)
من الفتوى رقم 3570
السؤال الثاني: هل تجوز قراءة القرآن في المسجد بصوت مرتفع وفي مكبر الصوت قبل صلاة الفجر والجمعة وبعض الصلوات، ويكون هناك من يصلي السنة القبلية أو تحية المسجد؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: القرآن كلام الله جل وعلا وتلاوته عبادة من العبادات البدنية المحضة والمستمع يثاب على استماعه، ولكن إذا ترتب على رفع الصوت به أذى فينبغي خفض الصوت إلى درجة يزول بها الأذى، وما ذكر في السؤال من تخصيص وقت قبل الصلاة لقراءة القرآن في المسجد بصوت مرتفع لا نعلم له أصلا يدل على فعله بصفة دائمة في هذا الوقت.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/118)
من الفتوى رقم 4010
السؤال الثالث: ما حكم الإسلام في قراءة القرآن قبل صلاة الفجر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: الأصل في قراءة القرآن أنها مشروعة سواء أكانت قبل الفجر أو بعده ولكن يجب على القارئ في المسجد أن يراعي من حوله من المصلين والقراء فيخفض صوته حتى لا يشوش عليهم.(43/118)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/119)
فتوى رقم 7784
السؤال: إن بعض أئمة المساجد يستعملون القراءة في مكبرات الصوت التي خصصت لنشر صوت الأذان وذلك في صلاة الليل - التراويح - في شهر رمضان المبارك، وبما أنه كثر النقاش والجدل في الموضوع، فمن قال أنه لا يجوز لوجود من يتضرر بسماع الأصوات ممن هو خارج المسجد كالنائم والمريض ونحوهما؛ لأن البلد هادئ وليست كالمدن الأخرى، وما دام بإمكان الإمام استعمال سماعة منخفضة في سرحة المسجد ينتفع بالقراءة المصلون داخل المسجد دون الإضرار بمن خارجه، ومن قال بأنه يجوز استعمال مكبرات الصوت المعدة للآذان لما في ذلك من مصلحة الانتفاع بالتلاوة للقريب والبعيد بصرف النظر عن تضرر البعض من المواطنين، لذا نرجو من سماحة الرئيس صدور الفتوى لينتفع بها طالب الحق والله يوفقكم لما يحبه ويرضاه.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: إذا كان الأمر كما ذكر فلا مانع من قراءة القرآن في مكبر الصوت حسب الحاجة إذا كان لا يشوش على المصلين ولا على القراء(43/119)
وإنما يقرأ على أناس يستمعون له.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/120)
من الفتوى رقم 9414
السؤال الرابع: ألاحظ أغلبية المصلين قبل صلاة الجمعة يقرأون القرآن الكريم، فهل ذلك أفضل، وما حكم من يرغب في أداء النوافل والتسبيح بدلا من ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: القرآن الكريم أفضل الذكر، وقد أمر الله سبحانه بتلاوته وتدبره والعمل به، لكن لو اشتغل المصلي بغيره من الصلاة والذكر فلا حرج فكل ذلك من أعمال الخير، ولكن يشرع للقارئ بين المصلين والقراء أن لا يرفع صوته حتى لا يشوش عليهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/120)
(1) كتابة الآيات وتعليقها على الحائط
فتوى رقم 2078
السؤال: إن حامله ع. م. ب. معه عينة من علاقات حائط مكتوب عليها آيات قرآنية وصورة المسجد النبوي والكعبة والمسجد الأقصى لتشويق الناس إليها، وهي جارية منذ سنتين وموجودة بكثير من البيوت، ويذكر بأن الجمرك حجزها عليه بتوجيه من مندوب الهيئة، ويا سبحان الله كيف يسمح بدخول الصور الخليعة والمملوءة الأسواق منها ويمنع مثل ذلك، أرى أن هذا من الدس والتشويه ووضع الأمور بغير مواضعها، لهذا أرجو مشاهدة ذلك وهيئتكم الموقرة والأمر بما يلزم نحو ذلك حفظكم الله ورعاكم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: أولا: أنزل الله تعالى القرآن موعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، وليكون حجة على الناس، ونورا وبصيرة لمن فتح قلبه له، يتلوه ويتعبد به، ويتدبره ويتعلم منه أحكام العقائد والعبادات والمعاملات الإسلامية ويعتصم به في كل أحواله، ولم ينزل ليعلق على الجدران زينة لها، ولا ليجعل حروزا وتمائم تعلق في البيوت أو المحلات التجارية ونحوها صيانة وحفظا لها من الحريق واللصوص وما شابه ذلك مما يعتقده بعض العامة، وخاصة المبتدعة، وما أكثرهم، فمن انتفع بالقرآن فيما أنزل من أجله فهو على بينة من ربه وهدى وبصيرة، ومن كتبه على الجدران أو على خرق تعلق عليها ونحو ذلك زينة أو حرزا وصيانة للسكان(43/121)
والأثاث وسائر المتاع فقد انحرف بكتاب الله أو بآية أو بسورة منه عن جادة الهدى وحاد عن الطريق السوي والصراط المستقيم، وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم قولا أو عملا، ولا عمل به الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولا أئمة الهدى في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها خير القرون، ومع ذلك فقد عرض آيات القرآن أو سوره للإهانة عند الانتقال من بيته إلى آخر، بطرح هذه الخرق في الأثاث المتراكم، وكذا الحال عند بلاها وطرحها هنا وهنا مما لا ينبغي، وجدير بالمسلم أن يرعى القرآن وآياته، والمحافظة على حرمته، ولا يعرضه لما قد يكون فيه امتهان له.
ثانيا: اطلعت اللجنة على الخرق الثلاث (العلاقات) فوجدت أن إحداها قد كتب عليها البسملة وقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1) وقوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (2) وفيها صورة الكعبة وصور لرجال ونساء في المطاف، وفي الثانية البسملة، وسورة الفاتحة، ودعاء، ولفظ الجلالة، واسم محمد صلى الله عليه وسلم، وأسماء الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بإزاء لفظ الجلالة، وصورة المسجد الأقصى، وتعليقا لما تقدم في رقم (1) لا يجوز اتخاذ هذه الخرق ولا تعليقها في البيوت أو المدارس أو النوادي أو المحلات التجارية ونحوها زينة لها أو تبركا بها مثلا؛ للأمور الآتية:
__________
(1) سورة البقرة الآية 144
(2) سورة النمل الآية 19(43/122)
(أ) لما في ذلك من الانحراف بالقرآن عما أنزل من أجله من الهداية والموعظة الحسنة والتعهد بتلاوته ونحو ذلك.
(ب) لمخالفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم، فإنهم لم يكونوا يفعلون ذلك، والخير كل الخير في اتباعهم لا في الابتداع.
(جـ) سد ذريعة الشرك، والقضاء على وسائله من الحروز والتمائم وإن كانت من القرآن، لعموم حديث النهي عن ذلك، ولا شك أن تعليق هذه الخرق وأمثالها يفضي إلى اتخاذها حروزا لصيانة ما علقت فيه كما دل على ذلك التجربة وواقع الناس.
(د) ما في الكتابة عليها من اتخاذ القرآن وسيلة لترويج التجارة فيها والزيادة في كسبها فإنها خرقة لا تساوي إلا ثمنا زهيدا، فإذا كتب عليها القرآن راجت وارتفع سعرها، وما أنزل القرآن ليتخذ آلة ووسيلة للرواج التجاري وزيادة الأسعار، فيجب أن يترفع به عن ذلك.
(هـ) في ذلك تعريض آيات القرآن وسوره للامتهان والأذى عند الانتقال من بيت إلى آخر، حيث ترمى مع أثاث البيت المتراكم على اختلاف أنواعه، وكذلك عند بلاها فتطرح هذه الخرقة. مما فيها من القرآن فيما ينبغي وما لا ينبغي.
وبالجملة إغلاق باب الشر والسير على ما كان عليه أئمة الهدى في(43/123)
القرون الأولى التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية أسلم للمسلمين في عقائدهم وسائر أحكام دينهم من ابتداع بدع لا يدرى مدى ما تنتهي إليه من الشر.
ثانيا: لا يجوز أن يكون التشويق إلى الخير ببدع تفضي إلى الشرك وتعريض القرآن للمهانة واتخاذ كتابته على الخرق التي تعلق على الجدران وسيلة لنفاق التجارة وزيادة ثمنها، ولا يعدم الداعية إلى الخير وسائل أخرى مشروعة ناجحة.
رابعا: كثرة أمثال هذه الخرق (العلاقات) ، وانتشارها منذ زمن بعيد، ووجودها في بيوت كثير من الناس، وامتلاء الأسواق بها دليل على الضعف والفتور وعدم مبالاة من اتخذها أو اتجر فيها بارتكاب المنكر أو الجهل به، وليس دليلا على جواز اتخاذها، فالمبتدعة المخرفون كثرة، والمدافعون عن البدع أكثر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل ما وقع من بعض الناس من اتخاذها، منكر يجب على العلماء التعاون على إنكاره والقضاء عليه استيرادا واستعمالا، لكن المراقب الديني الذي حصل منه التوجيه لحجز هذه الخرق (العلاقات) فعل ما في اختصاصه، شكر الله له سعيه، أما ما زاد على ذلك من المنكرات التي عمت وطمت فهو أسوة غيره في إنكار المنكر في حدود علمه وقدرته، ولا يعتبر فيما فعل من أهل الدس والتشويه، بل قدم معروفا للأمة يحمد عليه، وأدى واجب مهمته التي أسندت إليه على ما تبين له من أحكام الشريعة وحسن توجيه رئاسته له.(43/124)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وأله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/125)
(2) كتابة الآيات على ساعات الدليل
فتوى رقم 1683
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم إلى سماحة الرئيس العام من م. ع. س. بخصوص ساعات الدليل التي يراد إدخالها المملكة لما يرون فيها من خدمة دينية وتعريف بعض المسلمين للاتجاه الصحيح لجهة الكعبة المشرفة.
وبعد اطلاع اللجنة على ساعة الدليل، وما كتب عليها من آية بسم الله الرحمن الرحيم وآية الكرسي، وما كتب فيها من الكلمات، الله أكبر، لا إله إلا الله محمد رسول الله، كتبت الجواب التالي:
أنزل الله القرآن ليتعبد الناس بتلاوته وتدبر معانيه فيعرفوا أحكامه ويأخذوا أنفسهم بالعمل بها، وبهذا يكون موعظة لهم وذكرى تقشعر منه جلودهم وتلين به قلوبهم ويكون شفاء لما في الصدور من الجهل والضلال، وطهارة للنفوس من أدران الشكوك وما ارتكبته من المعاصي والذنوب، وجعله سبحانه هدى ورحمة لمن فتح له قلبه أو ألقى إليه السمع وهو(43/125)
شهيد، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} (2) الآية وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (3) ، وجعل الله سبحانه القرآن معجزة لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وآية باهرة على أنه رسول الله من عند الله إلى الناس كافة رحمة بهم وإقامة للحجة عليهم قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (4) {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (5) .
وقال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (6) وقال: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} (7) إلى غير ذلك من الآيات، وإذا فالقرآن كتاب هداية وتشريع ومواعظ وعبر وبيان للأحكام، وآية بالغة ومعجزة باهرة وحجة دامغة أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم ولم ينزله سبحانه ليكتب كلمة أو آية منه على ساعات الدليل زينة لها أو ترويجا لها وإغراء بشرائها، أو ليتخذها حاملها
__________
(1) سورة يونس الآية 57
(2) سورة الزمر الآية 23
(3) سورة ق الآية 37
(4) سورة العنكبوت الآية 50
(5) سورة العنكبوت الآية 51
(6) سورة الشعراء الآية 2
(7) سورة لقمان الآية 2(43/126)
حرزا له إلى جانب استخدامها في معرفة الجهات، فكتابة آية من القرآن أو أكثر على ساعات الدليل أو نحوها فيه انحراف بالقرآن عما أنزل من أجله واستعماله فيما فيه إزراء به وإهانة له بتعريضه إلى ما لا يليق به من الأوساخ والأقذار ودخول بيت الخلاء به ونحو ذلك، ومع هذا فهو عمل مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه رضي الله عنهم ولما كان عليه السلف الصالح، فعلى من آمن بالقرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام وأراد الخير لنفسه أن يبتغي البركة وصلاح شؤونه في دينه ودنياه من الله سبحانه بتلاوة كتابه الكريم والعمل به في عباداته ومعاملاته ليفيض سبحانه عليه من بركاته، ويعظم له الأجر ويحفظه في كل أحواله وييسر له سائر شؤونه
وكذلك الحكم في كتابة الكلمات (الله أكبر، ولا إله إلا الله محمد رسول الله) التي جعلت داخل إطار ساعة الدليل فإنها جعلت في الشرع لإعظام الله وإكباره والثناء عليه بها ومفتاحا للدخول في الإسلام، وعلامة على الإيمان، ويعصم بها دم من قالها وماله، ولم تجعل لتكون رسوما على أجهزة أو ساعات أو آلات للاستهانة بها، فمن المعلوم أن ساعات الدليل وغيرها تؤدي الغرض الذي صنعت من أجله من غير أن يتوقف ذلك على كتابة الآيات أو هذه الأذكار عليها أو فيها. وإنما القصد من كتابة ذلك الترغيب فيها ترويجا للتجارة، ثم ينتهي الأمر إلى التبرك بها واتخاذها حرزا يستصحب للحفظ من مكروه أو بلاء.(43/127)
وبناء على ما ذكرنا نرى منع استيرادها ما دامت مشتملة على الكتابة المذكورة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/128)
(3) كتابة الآيات على معلقات
فتوى رقم 1706
السؤال: إنه إزاء التقدم الكبير الذي أحرزه العالم في مجال الفكر الإعلامي بالنشر والملصقات والمعلقات والإذاعات مسموعة ومرئية، فقد استعنا بالله في مصنع البلاستيك الذي نتولاه لإنتاج نماذج نساهم بها في التذكير بكلام الله عز وجل، وقد وفقنا الله عز وجل فاستطعنا إخراج نماذج لمعلقات تحمل آيات من القرآن الكريم وأسماء الله الحسنى وأحاديث نبوية شريفة.
علما بأن المعلقات البلاستيك التي أتقدم بها لسماحتكم لا يمكن استخدامها لغير التذكر والتدبر، فطبيعتها تجعلها لا تصلح أن يشرب فيها أو يؤكل، وذلك أنها مغطاة بطبقة من المعادن الفضية والأحبار التلوينية تجعل استخدامها في هذه الأغراض مستحيلا، وأنها صنعت بحيث لا يمكن حملها على الصدور أو في اليد ولا يمكن إلقاؤها بإهمال(43/128)
ذلك أن تصميمها جعل لها شرشفة خارجية وتعليقات وحروفها مدببة تجعل حائزها يعلقها في مكان مصون مكرم.
ولقد وجدنا النصارى متمكنين في فن النشر والتوعية والإعلام، وبث ما يريدون من أفكار ومعتقدات باستخدام وسائل حديثة أهمها الملصقات والمعلقات تعلق في لوحات بالشوارع والحافلات والأماكن العامة والخاصة، يقصد بذلك توالي وتتابع التذكير بتكراره أمام العين في كل مكان حتى يقر في الصدور ما يريدون، وإن كل ما يريدون ما هو إلا معتقدات صليبية وأفكار إلحادية ومفاسد والعياذ بالله، إلا أنهم باستخدام الوسائل القوية يستطيعون جعل الناس يؤمنون بالباطل ويوقرون الإلحاد، وأولى بالمسلمين وأحق أن يذكروا الناس بكلام الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مستخدمين الوسائل الحديثة القوية في التوعية والإعلام.
وقد وفقني الله سبحانه وتعالى أن تحمل منتجاتي كلام الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتظهر متوالية متتابعة في الأماكن الموقرة مرفوعة أمام الأنظار تذكر الناس بما أراد لهم الله أن يذكروا به {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (1) وبذلك فإنني أساهم قدر جهدي في رفع كلمة الله ونشر الفكر الإسلامي منتصرا له فوق كل الأفكار وما توفيقي إلا بالله؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: أنزل الله تعالى القرآن ليكون موعظة للناس وعبرة، وليكون
__________
(1) سورة ق الآية 45(43/129)
شفاء في الصدور من أمراض الشرك والانحراف عن الحق، وليهتدي به الناس في عبادتهم ومعاملاتهم، وليرحم سبحانه به المؤمنين الذين يتلونه حق تلاوته ويسترشدون به في جميع شؤونهم ويأخذون أنفسهم بالعمل به في كل أحوالهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (2) وقال:
{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (3) . كما أن الأحاديث النبوية الصحيحة جاءت بيانا للقرآن، وهداية للناس، وتفصيلا للأحكام، ليسترشد بها الناس في فهم كتاب الله تعالى ويتدبروا آياته ولعلهم يتفكرون، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (4) وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (5) وسمى تعالى نفسه بالأسماء الحسنى ليعرف عباده بنفسه فيثبتوها له ويؤمنوا بما دلت عليه من الكمال والجلال ويثنوا عليه الثناء الجميل، ويدعوه بها في السراء والضراء خوفا ورجاء، ويحصوها عقيدة وعملا، ويحافظوا عليها لفظا ومعنى فلا يلحدوا ولا يميلوا بها عما قصد منها، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (6) وقال صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) سورة يونس الآية 57
(2) سورة الإسراء الآية 82
(3) سورة فصلت الآية 44
(4) سورة النحل الآية 44
(5) سورة النساء الآية 105
(6) سورة الأعراف الآية 180(43/130)
«إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة (1) » أي أحصاها اعتقادا وقولا وعملا ومحافظة على حرمتها ومقتضاها.
وقد أمر الله بالبلاغ والدعوة إلى الإسلام، وبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قولا وعملا، فكان يخطب في أصحابه رضي الله عنهم ويتعاهدهم بالمواعظ والتذكير، ويكتب الرسائل إلى الملوك والرؤساء ويغشى الكفار في نواديهم ومجالسهم ليبلغهم دين الإسلام، ولم يعرف عنه أنه كتب سورة من القرآن أو آية منه أو حديثا له أو أسماء الله تعالى على لوحات أو أطباق لتعلق على الجدران أو في الممرات من أجل الزينة أو التبرك أو لتكون وسيلة للتذكير والبلاغ أو للعظة والاعتبار، ودرج على هديه في ذلك الخلفاء الراشدون وسائر الصحابة رضي الله عنهم، وتبعهم في هذا أئمة الهدى من السلف الصالح الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون من بعده رضي الله عنهم، فلم يكونوا يكتبون شيئا من القرآن ولا الأحاديث النبوية الصحيحة ولا أسماء الله الحسنى على ألواح أو على أطباق أو أقمشة ليعلقوها على الجدران للزينة، أو التذكير والاعتبار بعد أن انتشر الإسلام، واتسعت رقعته، وعمت الثقافة الإسلامية البلاد والأقطار وكثر الكتاب وتيسرت وسائل كثيرة متنوعة للإعلام، كما لم يفعلوا ذلك من قبل وهم أفهم للإسلام ومقاصده وأحرص على نشره وإبلاغه، ولو كان ذلك مشروعا لدلنا عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأرشدنا إليه ولعمل به أصحابه واستغله أئمة الهدى بعدهم رضي الله عنهم.
وعلى هذا فكتابة شيء من القرآن، أو الأحاديث النبوية، أو أسماء الله الحسنى على ألواح وأطباق أو نحوها لتعلق للزينة أو التذكير أو الاعتبار، أو لتتخذ وسيلة لترويج التجارة ونفاق البضاعة وإغراء الناس
__________
(1) الترمذي برقم 3507، وقال هذا حديث غريب، وابن حبان في صحيحه برقم 2384، والحاكم في المستدرك 1 \ 16، والبيهقي في السنن 10 \ 27، انظر فتح الباري 11 \ 215.(43/131)
بذلك ليقبلوا على شرائها، وليكون نماء المال وزيادة الأرباح، عدول بالقرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عن المقاصد النبيلة التي يهدف إليها الإسلام من وراء ذلك، ومخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي الصحابة وأئمة السلف رضي الله عنهم، ومع هذا قد يعرض لها ما لا يليق من الإهانة على مر الأيام وطول العهد عند الانتقال من منزل لآخر أو نقلها من مكان لآخر، وحمل الجنب أو الحائض لها، أو مسها إياها عند ذلك.
فعلى المسلم أن يعرف لكتاب الله تعالى منزلته، وليقدره قدره، وليجعل مقاصده نصب عينيه، وليتخذ منه ومن الأحاديث النبوية منارا يهتدي به، وليحذر الذين يخالفون مقاصد التشريع الإسلامي أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، ومن آمن بالقرآن وبأسماء الله الحسنى وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فليلتمس الهدى والبركة من الله بتلاوة كتابه الكريم وتدبره والتفقه فيه ومعرفة بيانه بالاطلاع على سنة نبيه صلى الله عليه وسلم والتفقه فيها، ويأخذ نفسه بالعمل بذلك في عبادته ومعاملاته، ليفيض عليه من بركاته حسية ومعنوية، ويجزل له الأجر ويحفظه في شؤونه وأحواله، ولا يلتمس ذلك فيما يخالف هدي القرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام من تعليق ما كتب من ذلك على الجدران ونحوها، ولا يجوز التأسي بالكفرة من النصارى وغيرهم فيما يخالف شرع الله عز وجل، ولما ذكرنا فإن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ترى عدم السماح بدخول مثل هذه الأطباق إلى هذه المملكة، كما ترى أنه لا ينبغي للمسلم إنتاج مثل هذه الأطباق من مصنعه محافظة على حرمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى حرمة أسمائه وصفاته عز وجل.(43/132)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/133)
(4) دخول الخلاء وهو يحمل المصحف
من الفتوى رقم 2245
السؤال الثاني: أحدنا يحمل المصحف في جيبه وربما دخل به الخلاء فما حكم ذلك أفيدونا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: حمل المصحف بالجيب جائز، ولا يجوز أن يدخل الشخص الحمام ومعه مصحف، بل يجعل المصحف في مكان لائق به تعظيما لكتاب الله واحتراما له، لكن إذا اضطر إلى الدخول به خوفا من أن يسرق إذا تركه خارجا جاز له الدخول به للضرورة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/133)
من الفتوى رقم 10806
السؤال الخامس: أنا أحمل المصحف الشريف في جيبي ودخلت(43/133)
دورة المياه ونسيت أنه في جيبي فما الحكم في ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: إذا كان الواقع كما ذكرت من النسيان فلا إثم عليك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(43/134)
(5) قراءة القرآن لغير المسلم
من الفتوى رقم 2217
السؤال الخامس: هل يحق لنا أن ندع أحد المسيحيين - رغبة في أن يهديه الله - يقرأ القرآن المترجم ولو كان غير طاهر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
الجواب: الدعوة إلى الله هي طريقة الرسل، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) وتسليمه نسخة من ترجمة معاني القرآن الكريم من أنواع الدعوة إلى الله فلا بأس بذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(43/134)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
السؤال الأول: على من يجب صيام رمضان، وما فضل صيامه وصيام التطوع؟
الجواب: يجب صوم رمضان على كل مسلم مكلف من الرجال والنساء، ويستحب لمن بلغ سبعا فأكثر وأطاقه من الذكور والإناث، ويجب على أولياء أمورهم أمرهم بذلك إذا أطاقوه، كما يأمرونهم بالصلاة. والأصل في هذا قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2) إلى أن قال سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (3) قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت (4) » . متفق على صحته. من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقوله صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإسلام قال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه
__________
(1) سورة البقرة الآية 183
(2) سورة البقرة الآية 184
(3) سورة البقرة الآية 185
(4) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .(43/135)
سبيلا (1) » . خرجه مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخرج معناه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (2) » . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به؛ ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك (3) » متفق على صحته. والأحاديث في فضل صوم رمضان وفي فضل الصوم مطلقا كثيرة معلومة والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (38) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، سنن الترمذي الصوم (683) ، سنن النسائي الصيام (2202) ، سنن أبو داود الصلاة (1371) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1904) ، صحيح مسلم الصيام (1151) ، سنن الترمذي الصوم (764) ، سنن النسائي الصيام (2215) ، سنن ابن ماجه الصيام (1638) ، مسند أحمد بن حنبل (2/516) .(43/136)
السؤال الثاني: هل يؤمر الصبي المميز بالصيام، وهل يجزئ عنه لو بلغ في أثناء الصيام؟
الجواب: سبق في جواب السؤال الأول أن الصبيان والفتيات إذا بلغوا سبعا فأكثر يؤمرون بالصيام ليعتادوه، وعلى أولياء أمورهم أن يأمروهم بذلك كما يأمرونهم بالصلاة، فإذا بلغوا الحلم وجب عليهم الصوم، وإذا بلغوا في أثناء النهار أجزأهم ذلك اليوم، فلو فرض أن الصبي أكمل الخامسة عشرة عند الزوال وهو صائم ذلك اليوم أجزأه ذلك، وكان أول النهار نفلا وآخره فريضة إذا لم يكن بلغ قبل ذلك، بإنبات الشعر(43/136)
الخشن حول الفرج، وهو المسمى العانة، أو بإنزال المني عن شهوة. وهكذا الفتاة الحكم فيهما سواء، إلا أن الفتاة تزيد أمرا رابعا يحصل به البلوغ وهو الحيض.(43/137)
السؤال الثالث: أيهما أفضل للمسافر الفطر أم الصيام، وخاصة السفر الذي لا مشقة فيه كالسفر في الطائرة أو الوسائل الحديثة الأخرى؟
الجواب: الأفضل للصائم الفطر في السفر مطلقا، ومن صام فلا حرج عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه هذا وهذا. وهكذا الصحابة رضي الله عنهم. لكن إذا اشتد الحر، وعظمت المشقة، تأكد الفطر، وكره الصوم للمسافر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلا قد ظلل عليه في السفر من شدة الحر وهو صائم، قال عليه الصلاة والسلام: «ليس من البر الصوم في السفر (1) » . ولما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته (2) » ، وفي لفظ: «كما يحب أن تؤتى عزائمه» . ولا فرق في ذلك بين من سافر على السيارات أو الجمال أو السفن والبواخر، وبين من سافر في الطائرات، فإن الجميع يشملهم اسم السفر، ويترخصون برخصه، والله سبحانه شرع للعباد أحكام السفر والإقامة في عهده صلى الله عليه وسلم، ولمن جاء بعده إلى يوم القيامة، فهو سبحانه يعلم ما يقع من تغير الأحوال وتنوع وسائل السفر، ولو كان الحكم يختلف لنبه عليه سبحانه، كما قال عز وجل في سورة النحل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (3)
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1946) ، صحيح مسلم الصيام (1115) ، سنن النسائي الصيام (2258) ، سنن أبو داود الصوم (2407) ، مسند أحمد بن حنبل (3/329) ، سنن الدارمي الصوم (1709) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/108) .
(3) سورة النحل الآية 89(43/137)
وقال سبحانه في سورة النحل أيضا: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
__________
(1) سورة النحل الآية 8(43/138)
السؤال الرابع: بماذا يثبت دخول شهر رمضان وخروجه، وما حكم من رأى الهلال وحده عند دخول الشهر أو خروجه؟
الجواب: يثبت دخول الشهر وخروجه بشاهدي عدل فأكثر، ويثبت دخوله فقط بشاهد واحد؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا (1) » وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر الناس بالصيام بشهادة ابن عمر رضي الله عنهما وبشهادة أعرابي، ولم يطلب شاهدا آخر عليه الصلاة والسلام. والحكمة في ذلك- والله أعلم- الاحتياط للدين في الدخول والخروج، كما نص على ذلك أهل العلم، ومن رأى الهلال وحده في الدخول أو الخروج ولم يعمل بشهادته، فإنه يصوم مع الناس، ويفطر مع الناس، ولا يعمل بشهادة نفسه في أصح أقوال أهل العلم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون (2) » والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن النسائي كتاب الصيام (2116) ، مسند أحمد بن حنبل (4/321) .
(2) سنن الترمذي الصوم (697) ، سنن ابن ماجه الصيام (1660) .(43/138)
السؤال الخامس: كيف يصوم الناس إذا اختلفت المطالع، وهل يلزم أهل البلاد البعيدة كأمريكا واستراليا أن يصوموا على رؤية أهل المملكة، لأنهم لا يتراءون الهلال؟(43/138)
الجواب: الصواب اعتماد الرؤية وعدم اعتبار اختلاف المطالع في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باعتماد الرؤية ولم يفصل في ذلك، وذلك فيما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين (1) » متفق على صحته. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة (2) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ولم يشر صلى الله عليه وسلم إلى اختلاف المطالع وهو يعلم ذلك وقد ذهب جمع من
أهل العلم إلى أن لكل بلد رؤيته إذا اختلفت المطالع. واحتجوا بما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لم يعمل برؤية أهل الشام وكان في المدينة رضي الله عنه. وكان أهل الشام قد رأوا الهلال ليلة الجمعة وصاموا بذلك في عهد معاوية رضي الله عنه. أما أهل المدينة فلم يروه إلا ليلة السبت، فقال ابن عباس رضي الله عنهما لما أخبره كريب برؤية أهل الشام وصيامهم: (نحن رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نراه أو نكمل العدة) ، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (3) » الحديث. وهذا قول له حظه من القوة، وقد رأى القول به أعضاء مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية جمعا بين الأدلة والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (688) ، سنن النسائي الصيام (2124) ، سنن أبو داود الصوم (2327) ، موطأ مالك الصيام (635) ، سنن الدارمي الصوم (1686) .
(2) سنن النسائي الصيام (2127) ، سنن أبو داود الصوم (2326) ، مسند أحمد بن حنبل (4/314) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .(43/139)
السؤال السادس: كيف يصنع من يطول نهارهم إلى إحدى وعشرين ساعة هل يقدرون قدرا للصيام، وكذا ماذا يصنع من يكون(43/139)
نهارهم قصيرا جدا، وكذلك من يستمر عندهم النهار ستة أشهر والليل ستة أشهر؟
الجواب: من عندهم ليل ونهار في ظرف أربع وعشرين ساعة فإنهم يصومون نهاره، سواء كان قصيرا أو طويلا ويكفيهم ذلك والحمد لله ولو كان النهار قصيرا، أما من طال عندهم النهار أو الليل أكثر من ذلك كستة أشهر فإنهم يقدرون للصيام وللصلاة قدرهما كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في يوم الدجال الذي كسنة، وهكذا يومه الذي كشهر أو كأسبوع يقدر للصلاة قدرها في ذلك.
وقد نظر مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة في هذه المسألة وأصدر القرار رقم 61 وتاريخ 12 \ 4 \ 1398 هـ ونصه ما يلي:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
فقد عرض على مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الثانية عشرة المنعقدة بالرياض في الأيام الأولى من شهر ربيع الآخر عام1398 هـ كتاب معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة رقم 555 وتاريخ 16 \ 1 \ 1398 هـ المتضمن ما جاء في خطاب رئيس رابطة الجمعيات الإسلامية في مدينة (مالمو) بالسويد الذي يفيد فيه بأن الدول الاسكندنافيةيطول فيها النهار في الصيف ويقصر في الشتاء نظرا لوضعها الجغرافي كما أن المناطق الشمالية منها لا تغيب عنها الشمس إطلاقا في الصيف، وعكسه(43/140)
في الشتاء، ويسأل المسلمون فيها عن كيفية الإفطار والإمساك في رمضان، وكذلك كيفية ضبط أوقات الصلوات في هذه البلدان. ويرجو معاليه إصدار فتوى في ذلك ليزودهم بها. اهـ.
وعرض على المجلس أيضا ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ونقول أخرى عن الفقهاء في الموضوع، وبعد الاطلاع والدراسة والمناقشة قرر المجلس ما يلي:
أولا: من كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس إلا أن نهارها يطول جدا في الصيف، ويقصر في الشتاء، وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعا؛ لعموم قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (1) ، وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (2) ، ولما ثبت عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن رجلا سأله عن وقت الصلاة، فقال له: "صل معنا هذين " يعني اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان،
__________
(1) سورة الإسراء الآية 78
(2) سورة النساء الآية 103(43/141)
وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها ثم قال: "أين السائل عن وقت الصلاة؟ " فقال الرجل: أنا يا رسول الله. قال: "وقت صلاتكم بين ما رأيتم (1) » رواه البخاري ومسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس، فأمسك عن الصلاة، فإنها تطلع بين قرني شيطان (2) » أخرجه مسلم في صحيحه. . . إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في تحديد أوقات الصلوات الخمس قولا وفعلا، ولم تفرق بين طول النهار وقصره وطول الليل وقصره مادامت أوقات الصلوات متمايزة بالعلامات التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بالنسبة لتحديد أوقات صلاتهم.
وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان، فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم مادام النهار يتمايز في بلادهم من الليل، وكان مجموع زمانهما أربعا وعشرين ساعة. ويحل لهم الطعام والجماع ونحوها في ليلهم فقط وإن كان قصيرا، فإن
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (613) ، سنن الترمذي الصلاة (152) ، سنن النسائي المواقيت (519) ، سنن ابن ماجه الصلاة (667) ، مسند أحمد بن حنبل (5/349) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (612) ، سنن النسائي المواقيت (522) ، سنن أبو داود الصلاة (396) ، مسند أحمد بن حنبل (2/210) .(43/142)
شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد، وقد قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1) . ومن عجز عن إتمام صوم يوم لطوله، أو علم بالأمارات أو التجربة أو إخبار طبيب أمين حاذق، أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى إهلاكه، أو مرضه مرضا شديدا، أو يفضي إلى زيادة مرضه أو بطء برئه -أفطر، ويقضي الأيام التي أفطرها في أي شهر تمكن فيه من القضاء قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (2) وقال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (3) وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (4) .
ثانيا: من كان يقيم في بلاد لا تغيب عنها الشمس صيفا، ولا تطلع فيها الشمس شتاء أو في بلاد يستمر نهارها إلى ستة أشهر، ويستمر ليلها ستة أشهر مثلا، وجب عليهم أن يصلوا الصلوات الخمس في كل أربع وعشرين ساعة، وأن يقدروا لها أوقاتها، ويحددوها معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم تتمايز فيها أوقات الصلوات المفروضة بعضها من بعض، لما ثبت في حديث الإسراء والمعراج من أن الله تعالى فرض على هذه الأمة خمسين صلاة كل يوم وليلة فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يسأل ربه التخفيف حتى
__________
(1) سورة البقرة الآية 187
(2) سورة البقرة الآية 185
(3) سورة البقرة الآية 286
(4) سورة الحج الآية 78(43/143)
قال: «يا محمد، إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة (1) » . . إلى آخره ".
ولما ثبت من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة" فقال هل علي غيرهن؟ قال: "لا، إلا أن تطوع (2) » . . " الحديث.
ولما ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك، فزعم أنك تزعم أن الله أرسلك، قال: "صدق " إلى أن قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال: "صدق " قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم (3) » . . الحديث.
وثبت «أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه عن المسيح الدجال، فقالوا: ما لبثه في الأرض؟ قال: "أربعون يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم "، فقيل: يا رسول الله، اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، أقدروا له قدره (4) » فلم يعتبر اليوم الذي كسنة يوما واحدا يكفي فيه خمس صلوات، بل أوجب فيه خمس صلوات
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3207) ، صحيح مسلم الإيمان (162) ، سنن النسائي الصلاة (448) ، مسند أحمد بن حنبل (3/149) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (46) ، صحيح مسلم الإيمان (11) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5028) ، سنن أبو داود الصلاة (391) ، مسند أحمد بن حنبل (1/162) ، موطأ مالك النداء للصلاة (425) ، سنن الدارمي الصلاة (1578) .
(3) صحيح البخاري العلم (63) ، صحيح مسلم الإيمان (12) ، سنن الترمذي الزكاة (619) ، سنن النسائي الصيام (2091) ، سنن أبو داود الصلاة (486) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1402) ، مسند أحمد بن حنبل (3/168) ، سنن الدارمي الطهارة (650) .
(4) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240) ، سنن أبو داود الملاحم (4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) .(43/144)
في كل أربع وعشرين ساعة، وأمرهم أن يوزعوها على أوقاتها اعتبارا بالأبعاد الزمنية التي بين أوقاتها في اليوم العادي في بلادهم، فيجب على المسلمين في البلاد المسئول عن تحديد أوقات الصلوات فيها، أن يحددوا أوقات صلاتهم معتمدين في ذلك على أقرب بلاد إليهم يتمايز فيها الليل من النهار وتعرف فيها أوقات الصلوات الخمس بعلاماته الشرعية في كل أربع وعشرين ساعة.
وكذلك يجب عليهم صيام شهر رمضان، وعليهم أن يقدروا لصيامهم فيحددوا بدء شهر رمضان ونهايته، وبدء الإمساك والإفطار في كل يوم منه ببدء الشهر ونهايته، وبطلوع فجر كل يوم وغروب شمسه في أقرب البلاد إليهم يتميز فيها الليل من النهار، ويكون مجموعهما أربعا وعشرين ساعة؛ لما تقدم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن المسيح الدجال وإرشاده أصحابه فيه عن كيفية تحديد أوقات الصلوات فيه إذ لا فارق في ذلك بين الصوم والصلاة. والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
(هيئة كبار العلماء) .(43/145)
السؤال السابع: هل يجب علينا الكف عن السحور عند بدء أذان الفجر، أم يجوز لنا الأكل والشرب حتى ينتهي المؤذن؟
الجواب: إذا كان المؤذن معروفا بأنه لا ينادي إلا على الصبح، فإنه يجب الكف عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من حين يؤذن، أما إذا كان الأذان بالظن والتحري حسب التقاويم فإنه لا حرج في الشرب أو(43/145)
الأكل وقت الأذان. لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم (1) » قال الراوي في آخر هذا الحديث: (وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى، لا ينادي حتى يقال له: أصبحت، أصبحت) متفق على صحته.
والأحوط للمؤمن والمؤمنة الحرص على إنهاء السحور قبل الفجر، عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (3) » ، أما إذا علم أن المؤذن ينادي بليل لتنبيه الناس على قرب الفجر - كفعل بلال - فإنه لا حرج في الأكل والشرب حتى ينادي المؤذنون الذين يؤذنون على الصبح عملا بالحديث المذكور.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (617) ، صحيح مسلم الصيام (1092) ، سنن الترمذي الصلاة (203) ، سنن النسائي الأذان (637) ، مسند أحمد بن حنبل (2/73) ، موطأ مالك النداء للصلاة (164) ، سنن الدارمي الصلاة (1190) .
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(3) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .(43/146)
السؤال الثامن: هل يباح الفطر للمرأة الحامل والمرضع، وهل يجب عليهما القضاء أم هناك كفارة عن فطرهما؟
الجواب: الحامل والمرضع حكمهما حكم المريض، إذا شق عليهما الصوم شرع لهما الفطر، وعليهما القضاء عند القدرة على ذلك، كالمريض، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه يكفيهما الإطعام عن كل يوم إطعام مسكين، وهو قول ضعيف مرجوح، والصواب أن عليهما القضاء كالمسافر والمريض؛ لقول الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 184(43/146)
وقد دل على ذلك أيضا حديث أنس بن مالك الكعبي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحبلى والمرضع الصوم (1) » رواه الخمسة.
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (715) ، سنن النسائي كتاب الصيام (2276) ، سنن أبو داود الصوم (2408) ، سنن ابن ماجه الصيام (1667) ، مسند أحمد بن حنبل (5/29) ، سنن الدارمي الصوم (1712) .(43/147)
السؤال التاسع: ما رأيكم فيمن يرخص لهم في الفطر: كشيخ كبير وعجوز ومريض لا يرجى برؤه، هل يلزمهم فدية عن إفطارهم؟
الجواب: على من عجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه إطعام مسكين عن كل يوم مع القدرة على ذلك؛ كما أفتى بذلك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم ابن عباس رضي الله عنهما.(43/147)
السؤال العاشر: ما حكم الصيام للمرأة الحائض والنفساء، وإذا أخرتا القضاء إلى رمضان آخر، فماذا يلزمهما؟
الجواب: على الحائض والنفساء أن تفطرا وقت الحيض والنفاس، ولا يجوز لهما الصوم ولا الصلاة في حال الحيض والنفاس، ولا يصحان منهما، وعليهما قضاء الصوم دون الصلاة؛ لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: هل تقضي الحائض الصوم والصلاة؟ فقالت: «كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة (1) » متفق على صحته. وقد أجمع العلماء رحمهم الله على ما ذكرته عائشة رضي الله عنها من وجوب قضاء الصوم وعدم قضاء الصلاة في حق الحائض والنفساء، رحمة من الله سبحانه لهما وتيسيرا عليهما؛ لأن الصلاة تتكرر كل يوم خمس مرات، وفي قضائها
__________
(1) صحيح البخاري الحيض (321) ، صحيح مسلم الحيض (335) ، سنن الترمذي الطهارة (130) ، سنن النسائي الصيام (2318) ، سنن أبو داود الطهارة (262) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (631) ، مسند أحمد بن حنبل (6/232) ، سنن الدارمي الطهارة (986) .(43/147)
مشقة عليهما. أما الصوم فإنما يجب في السنة مرة واحدة وهو صوم رمضان فلا مشقة في قضائه عليهما، ومن أخرت القضاء إلى ما بعد رمضان آخر لغير عذر شرعي، فعليها التوبة إلى الله من ذلك مع القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم. وهكذا المريض والمسافر إذا أخرا القضاء إلى ما بعد رمضان آخر من غير عذر شرعي فإن عليهما القضاء والتوبة وإطعام مسكين عن كل يوم. أما إذا استمر المرض أو السفر إلى رمضان آخر فعليهما القضاء فقط دون الإطعام بعد البرء من المرض والقدوم من السفر.(43/148)
السؤال الحادي عشر: ما حكم صيام التطوع: كست من شوال، وعشر ذي الحجة، ويوم عاشوراء لمن عليه أيام من رمضان لم تقض؟
الجواب: الواجب على من عليه قضاء رمضان أن يبدأ به قبل صوم النافلة؛ لأن الفرض أهم من النفل في أصحح أقوال أهل العلم.(43/148)
السؤال الثاني عشر: ما حكم من كان مريضا ودخل عليه رمضان ولم يصم ثم مات بعد رمضان فهل يقضى عنه أم يطعم عنه؟
الجواب: إذا مات المسلم في مرضه بعد رمضان فلا قضاء عليه ولا إطعام؛ لأنه معذور شرعا، وهكذا المسافر إذا مات في السفر أو بعد القدوم مباشرة فلا يجب القضاء عنه ولا الإطعام؛ لأنه معذور شرعا. أما من شفي من المرض وتساهل في القضاء حتى مات فإنه يشرع لأوليائهما وهم الأقرباء القضاء عنهما؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه(43/148)
وليه (1) » متفق على صحته. فإن لم يتيسر من يصوم عنهما أطعم عنهما من تركتهما عن كل يوم مسكين نصف صاع، ومقداره كيلو ونصف على سبيل التقدير: كالشيخ الكبير العاجز عن الصوم، والمريض الذي لا يرجى برؤه. كما تقدم في جواب السؤال التاسع، وهكذا الحائض والنفساء إذا تساهلتا في القضاء حتى ماتتا، فإنه يطعم عنهما عن كل يوم مسكين إذا لم يتيسر من يصوم عنهما، ومن لم يكن له تركة يمكن الإطعام منها فلا شيء عليه، لقول الله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) ، وقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) . والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1952) ، صحيح مسلم الصيام (1147) ، سنن أبو داود الصوم (2400) ، مسند أحمد بن حنبل (6/69) .
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) سورة التغابن الآية 16(43/149)
السؤال الثالث عشر: ما حكم استعمال الإبر التي في الوريد والإبر التي في العضل، وما الفرق بينهما وذلك للصائم؟
الجواب: الصحيح أنهما لا تفطران، وإنما التي تفطر هي إبر التغذية خاصة. وهكذا أخذ الدم للتحليل لا يفطر به الصائم؛ لأنه ليس مثل الحجامة، أما الحجامة فيفطر بها الحاجم والمحجوم في أصح أقوال العلماء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (774) ، مسند أحمد بن حنبل (3/465) .(43/149)
السؤال الرابع عشر: ما حكم استعمال معجون الأسنان، وقطرة الأذن، وقطرة الأنف، وقطرة العين للصائم، وإذا وجد الصائم طعمها في حلقه فماذا يصنع؟
الجواب: تنظيف الأسنان بالمعجون لا يفطر به الصائم كالسواك،(43/149)
وعليه التحرز من ذهاب شيء منه إلى جوفه، فإن غلبه شيء من ذلك بدون قصد فلا قضاء عليه. وهكذا قطرة العين والأذن لا يفطر بهما الصائم في أصح قولي العلماء. فإن وجد طعم القطور في حلقه فالقضاء أحوط ولا يجب، لأنهما ليسا منفذين للطعام والشراب، أما القطرة في الأنف فلا تجوز؛ لأن الأنف منفذ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما (1) » . وعلى من فعل ذلك القضاء لهذا الحديث، وما جاء في معناه إن وجد طعمه في حلقه، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (788) ، سنن النسائي الطهارة (87) ، سنن أبو داود الطهارة (142) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (407) ، مسند أحمد بن حنبل (4/211) .(43/150)
السؤال الخامس عشر: إذا حصل للإنسان ألم في أسنانه، وراجع الطبيب، وعمل له تنظيفا أو حشوا أو خلع أحد أسنانه، فهل يؤثر ذلك على صيامه؛ ولو أن الطبيب أعطاه إبرة لتخدير سنه، فهل لذلك أثر على الصيام؟
الجواب: ليس لما ذكر في السؤال أثر في صحة الصيام، بل ذلك معفو عنه، وعليه أن يتحفظ من ابتلاع شيء من الدواء أو الدم، وهكذا الإبرة المذكورة لا أثر لها في صحة الصوم؛ لكونها ليست في معنى الأكل والشرب، والأصل صحة الصوم وسلامته.(43/150)
السؤال السادس عشر: ما حكم من أكل أو شرب في نهار الصيام ناسيا؟
الجواب: ليس عليه بأس وصومه صحيح؛ لقول الله سبحانه في آخر(43/150)
سورة البقرة: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1) . وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه قال: "قد فعلت". ولما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه " (2) » متفق على صحته.
وهكذا لو جامع ناسيا فصومه صحيح في أصح قولي العلماء للآية الكريمة، ولهذا الحديث الشريف، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من أفطر في رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة (3) » خرجه الحاكم وصححه، وهذا اللفظ يعم الجماع وغيره من المفطرات إذا فعلها الصائم ناسيا. وهذا من رحمة الله وفضله وإحسانه، فله الحمد والشكر على ذلك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) صحيح البخاري الصوم (1933) ، صحيح مسلم الصيام (1155) ، سنن الترمذي الصوم (721) ، سنن أبو داود الصوم (2398) ، سنن ابن ماجه الصيام (1673) ، مسند أحمد بن حنبل (2/491) ، سنن الدارمي الصوم (1726) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1933) ، صحيح مسلم الصيام (1155) ، سنن الترمذي الصوم (721) ، سنن أبو داود الصوم (2398) ، سنن ابن ماجه الصيام (1673) ، مسند أحمد بن حنبل (2/491) ، سنن الدارمي الصوم (1727) .(43/151)
السؤال السابع عشر: ما حكم من ترك قضاء صيام رمضان حتى دخل رمضان الذي بعده، ولم يكن له عذر، هل تكفيه التوبة مع القضاء، أم تلزمه كفارة؟
الجواب: عليه التوبة إلى الله سبحانه وإطعام مسكين عن كل يوم مع القضاء وهو نصف صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم من قوت البلد من تمر أو بر أو أرز أو غيرها، ومقداره كيلو ونصف على سبيل التقريب. وليس عليه كفارة سوى ذلك. كما أفتى بذلك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم ابن عباس رضي الله عنهما، أما إن كان معذورا لمرض أو سفر، أو كانت المرأة معذورة بحمل أو رضاع يشق عليها الصوم معهما، فليس(43/151)
عليهم سوى القضاء.(43/152)
السؤال الثامن عشر: ما حكم من يصوم وهو تارك للصلاة، وهل صيامه صحيح؟
الجواب: الصحيح أن تارك الصلاة عمدا يكفر بذلك كفرا أكبر، وبذلك لا يصح صومه ولا بقية عباداته حتى يتوب إلى الله سبحانه؛ لقول الله عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) ، وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث، وذهب جمع من أهل العلم إلى أنه لا يكفر بذلك، ولا يبطل صومه ولا عبادته إذا كان مقرا بالوجوب، ولكنه ترك الصلاة تساهلا وكسلا. والصحيح القول الأول، وهو أنه يكفر بتركها عامدا ولو أقر بالوجوب؛ لأدلة كثيرة منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » خرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (3) » خرجه الإمام أحمد وأهل السنن الأربع بإسناد صحيح، من حديث بريدة بن الحصين الأسلمي رضي الله عنه، وقد بسط العلامة ابن القيم رحمه الله القول في ذلك، في رسالة مستقلة في أحكام الصلاة وتركها وهي رسالة مفيدة تحسن مراجعتها والاستفادة منها.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(3) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .(43/152)
السؤال التاسع عشر: ما حكم من أفطر في رمضان غير منكر لوجوبه، وهل يخرجه من الإسلام تركه الصيام تهاونا أكثر من مرة؟
الجواب: من أفطر في رمضان عمدا لغير عذر شرعي فقد أتى كبيرة من الكبائر، ولا يكفر بذلك في أصح أقوال العلماء وعليه التوبة إلى الله سبحانه مع القضاء، والأدلة الكثيرة تدل على أن ترك الصيام ليس كفرا أكبر إذا لم يجحد الوجوب وإنما أفطر تساهلا وكسلا، وعليه إطعام مسكين عن كل يوم، إذا تأخر القضاء إلى رمضان آخر من غير عذر شرعي، لما تقدم في جواب السؤال السابع عشر، وهكذا ترك الزكاة والحج مع الاستطاعة إذا لم يجحد وجوبهما فإنه لا يكفر بذلك وعليه أداء الزكاة عما مضى من السنين التي فرط فيها، وعليه الحج مع التوبة النصوح من التأخير، لعموم الأدلة الشرعية في ذلك الدالة على عدم كفرهما إذا لم يجحدا وجوبهمما، ومن ذلك حديث تعذيب تارك الزكاة بماله يوم القيامة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.(43/153)
السؤال العشرون: ما الحكم إذا طهرت الحائض في أثناء نهار رمضان؟
الجواب: عليها الإمساك في أصح قولي العلماء لزوال العذر الشرعي، وعليها قضاء ذلك اليوم، كما لو ثبت رؤية رمضان نهارا، فإن المسلمين يمسكون بقية اليوم، ويقضون ذلك اليوم عند جمهور أهل العلم، ومثلها المسافر إذا قدم في أثناء النهار في رمضان إلى بلده فإن عليه الإمساك في(43/153)
أصح قولي العلماء لزوال حكم السفر مع قضاء ذلك اليوم. والله ولي التوفيق.(43/154)
السؤال الحادي والعشرون: ما الحكم إذا خرج من الصائم دم كالرعاف ونحوه، وهل يجوز للصائم التبرع بدمه أو سحب شيء منه للتحليل؟
الجواب: خروج الدم من الصائم كالرعاف والاستحاضة ونحوهما لا يفسد الصوم، وإنما يفسد الصوم الحيض والنفاس والحجامة.
ولا حرج على الصائم في تحليل الدم عند الحاجة إلى ذلك، ولا يفسد الصوم بذلك، أما التبرع بالدم فالأحوط تأجيله إلى ما بعد الإفطار؛ لأنه في الغالب يكون كثيرا، فيشبه الحجامة. والله ولي التوفيق.(43/154)
السؤال الثاني والعشرون: ما الحكم إذا أكل الصائم أو شرب أو جامع ظانا غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر؟
الجواب: الصواب أن عليه القضاء وكفارة الظهار عن الجماع عند جمهور أهل العلم، سدا لذريعة التساهل واحتياطا للصوم.(43/154)
السؤال الثالث والعشرون: ما حكم من جامع في نهار رمضان وهو صائم، وهل يجوز للمسافر إذا أفطر أن يجامع أهله؟
الجواب: على من جامع في نهار رمضان وهو صائم صوما واجبا الكفارة، أعني كفارق الظهار مع وجوب قضاء اليوم، والتوبة إلى الله(43/154)
سبحانه مما وقع منه. أما إن كان مسافرا أو مريضا مرضا يبيح له الفطر فلا كفارة عليه ولا حرج عليه، وعليه قضاء اليوم الذي جامع فيه؛ لأن المسافر والمريض يباح لهما الفطر بالجماع وغيره، كما قال الله سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) . وحكم المرأة في هذا حكم الرجل إن كان صومها واجبا وجبت عليها الكفارة مع القضاء، وإن كانت مسافرة أو مريضة مرضا يشق معه الصوم فلا كفارة عليها.
__________
(1) سورة البقرة الآية 184(43/155)
السؤال الرابع والعشرون: ما حكم استعمال البخاخ في الفم للصائم نهارا لمريض الربو ونحوه؟
الجواب: حكمه الإباحة إذا اضطر إلى ذلك؛ لقول الله عز وجل: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) ، ولأنه لا يشبه الأكل والشرب فأشبه سحب الدم للتحليل والإبر غير المغذية.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119(43/155)
السؤال الخامس والعشرون: ما حكم أخذ الحقنة الشرجية عند الصائم للحاجة؟
الجواب: حكمها عدم الحرج في ذلك إذا احتاج إليها المريض في أصح قولي العلماء، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وجمع كثير من أهل العلم لعدم مشابهتها للأكل والشرب.(43/155)
السؤال السادس والعشرون: ما حكم من ذرعه القيء وهو صائم(43/155)
هل يقضي ذلك اليوم أم لا؟
الجواب: حكمه أنه لا قضاء عليه، أما إن استدعى القيء فعليه القضاء. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء (1) » خرجه الإمام أحمد وأهل السنن الأربع بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الصوم (720) ، سنن أبو داود الصوم (2380) ، سنن ابن ماجه الصيام (1676) ، مسند أحمد بن حنبل (2/498) ، سنن الدارمي الصوم (1729) .(43/156)
السؤال السابع والعشرون: ما حكم تغيير الدم لمريض الكلى وهو صائم، هل يلزمه القضاء أم لا؟
الجواب: يلزمه القضاء بسبب ما يزود به من الدم النقي، فإن زود مع ذلك بمادة أخرى فهي مفطر آخر.(43/156)
السؤال الثامن والعشرون: ما حكم الاعتكاف للرجل والمرأة؟ وهل يشترط له الصيام؟ وبماذا يشتغل المعتكف؟ ومتى يدخل معتكفه؟ ومتى يخرج منه؟
الجواب: الاعتكاف سنة للرجال والنساء؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف في رمضان، واستقر أخيرا اعتكافه في العشر الأواخر، وكان يعتكف بعض نسائه معه، ثم اعتكفن من بعده عليه الصلاة والسلام. ومحل الاعتكاف المساجد التي تقام فيها صلاة الجماعة، وإذا كان يتخلل اعتكافه جمعة فالأفضل أن يكون اعتكافه في المسجد الجامع إذا تيسر ذلك.
وليس لوقته حد محدود في أصح أقوال أهل العلم، ولا يشترط له(43/156)
الصوم ولكن مع الصوم أفضل. والسنة له أن يدخل معتكفه حين ينوي الاعتكاف ويخرج بعد مضي المدة التي نواها، وله قطع ذلك إذا دعت الحاجة إلى ذلك؛ لأن الاعتكاف سنة ولا يجب بالشروع فيه إذا لم يكن منذورا، ويستحب الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويستحب لمن اعتكفها دخول معتكفه بعد صلاة الفجر من اليوم الحادي والعشرين اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ويخرج متى انتهت العشر.
وإن قطعه فلا حرج عليه إلا أن يكون منذورا كما تقدم. والأفضل أن يتخذ مكانا معينا في المسجد يستريح فيه إذا تيسر ذلك، ويشرع للمعتكف أن يكثر من الذكر وقراءة القرآن والاستغفار والدعاء والصلاة في غير أوقات النهي.
ولا حرج أن يزوره بعض أصحابه، وأن يتحدث معه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزوره بعض نسائه، ويتحدثن معه. وزارته مرة صفية رضي الله عنها وهو معتكف في رمضان، فلما قامت قام معها إلى باب المسجد، فدل على أنه لا حرج في ذلك. وهذا العمل منه صلى الله عليه وسلم يدل على كمال تواضعه، وحسن سيرته مع أزواجه عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعهم بإحسان.(43/157)
صفحة فارغة(43/158)
بحث في حكم بيع العربون
إعداد الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع (1)
القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة
الحمد لله رب العالمين، صلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد الأمين المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين، وبعد:
فقد اتجه جمهور العلماء ومحققوهم إلى أن الأصل في العبادات الحظر حتى يرد الشرع بالتشريع أمرا أو نهيا أو كراهة أو ندبا. وأن الأصل في المعاملات الإباحة حتى يرد الشرع بالتشريع؛ أمرا أو نهيا أو كراهة أو ندبا أو تقييدا أو تخصيصا. وتعتبر هذه القاعدة إحدى قواعد الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله وأحد أصول مذهبه.
ومن منطلق هذه القاعدة كان القول بإباحة بيوع العربون مذهبه ومذهب أصحابه من بعده والقول بذلك من مفردات هذا المذهب.
وقبل الدخول في ذكر أقوال أهل العلم في هذه المسألة يحسن التمهيد لذلك بما يعطي التصور الشامل لها من حيث التعريف والتصور وتحرير محل
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد السابع من المجلة صفحة 290.(43/159)
الاختلاف فيها إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره.(43/160)
تعريف العربون:
العربون قيل إنه من الإعراب، وهو إعطاء العربون، قال في القاموس عن الفراء: أعرب إعرابا، وعربت تعريبا إذا أعطيت العربان.
وقال شمر: الإعراب في البيع أن يقول الرجل للرجل إن لم آخذ هذا البيع بكذا فلك كذا وكذا من مال.
وذكر الزبيدي في تاج العروس أن للعربون ثماني لغات هي: الإعراب، العربان كعثمان، العربون بضمهما، العربون محركة العين، الأربون بإبدال العين همزة، الربون بحذف العين من ربن، العربون بفتح فسكون فضم، وذكر لغة تاسعة خطأها ابن عديس، قال: نقلت من خط ابن السيد قال: أهل الحجاز يقولون: أخذ مني عربان بضمتين وتشديد الباء.
وقيل: بأن العربون مشتق من التعريب وهو البيان؛ لأنه بيان للبيع فيقال أعرب في كذا وعرب وعربن وهو عربان، قال في المصباح: (هو القليل من الثمن أو الأجرة يقدمه الرجل إلى الصانع أو التاجر ليرتبط العقد بينهما حتى يتوافيا بعد ذلك إعرابا لعقد البيع أي إصلاحا وإزالة فساد لئلا يملكه غيره باشترائه. وقيل بأن الأربون مشتق من الإربة وهي العقدة لأن به انعقاد البيع) (1) .
__________
(1) القاموس، تاج العروس، لسان العرب، المصباح.(43/160)
تعريف العربون في الاصطلاح الشرعي:
عرفه الإمام مالك رحمه الله في كتابه الموطأ فقال: (هو أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة أو يتكارى الدابة ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه أعطيك دينارا أو درهما أو أكثر من ذلك أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك) . اهـ.
وعرفه بعضهم بقوله:
العربون هو ثمن استعمال الحق في العدول عن عقد شراء أو إجارة يجري الاتفاق بين طرفيه على تعيين هذا الثمن ليحق له العدول عن الالتزام بذلك العقد (1) .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله قديما وحديثا في حكم بيع العربون فذهب جمهورهم من الحنفية والمالكية والشافعية إلى القول ببطلانه مستندين في القول بذلك إلى ما روى الإمام أحمد والنسائي وأبو داود ومالك في الموطأ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان (2) » . ففي موطأ مالك قال: (حدثني يحيى بن مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان (3) » . قال مالك فيما نرى والله أعلم أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة
__________
(1) الوسيط للدكتور عبد الرزاق السنهوري، ج4 ص 86 - 92.
(2) سنن أبو داود البيوع (3502) ، سنن ابن ماجه التجارات (2192) .
(3) سنن أبو داود البيوع (3502) ، سنن ابن ماجه التجارات (2192) .(43/161)
أو يتكارى الدابة ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه أعطيك دينارا أو درهما أو أكثر من ذلك أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو من كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك باطل بغير شيء.
قال مالك في الرجل يبتاع العبد أو الوليدة بمائة دينار إلى أجل ثم يندم البائع فيسأل المبتاع أن يقيله بعشرة دنانير يدفعها إليه نقدا أو إلى أجل ويمحو عنه المائة دينار التي له. قال مالك: لا بأس بذلك) اهـ (1) وكذلك يستندون في القول ببطلان بيع العربون إلى ما فيه من الغرر وأكل أموال الناس بالباطل، قال الزرقاني في شرح الموطأ: (وهو - أي بيع العربون- باطل عند الفقهاء لما فيه من الشرط والغرر وأكل أموال الناس بالباطل) . اهـ (2) .
وقال ابن قدامة في المغني في معرض ذكر علة القول ببطلان بيع العربون لدى القائلين به:
(لأنه شرط للبائع شيئا بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها
__________
(1) موطأ مالك، ج2، ص 609
(2) الزرقاني، شرح الموطأ، ج3، ص 251(43/162)
درهم) . اهـ (1) .
ونظرا إلى أن أكثر أقوال أهل العلم في القول ببطلانه هم فقهاء المالكية، وغيرهم من فقهاء الحنفية والشافعية يتفقون معهم في منعه والقول ببطلانه. فقد يكون إيراد النصوص الفقهية عن المالكية مغنيا عن إيراد النصوص عن غيرهم في معنى المنع والقول بالبطلان.
فقد ذكر الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه (مصادر الحق) مجموعة من النقول عن مجموعة من فقهاء المالكية أنقلها وأدعو الله لجامعها بالمغفرة والرحمة:
جاء في (القوانين الفقهية) لابن جزي ص 258-259 ما نصه:
(النوع الثالث من البيوعات الفاسدة: بيع العربان وهو ممنوع إن كان على ألا يرد البائع العربان إلى المشتري إذا لم يتم البيع بينهم فإن كان على أن يرده إليه إذا لم يتم البيع فهو جائز) . اهـ.
وجاء في (الخطاب) ج4 ص 369 - 370 ما نصه:
(وكبيع العربان أن يعطيه شيئا على أنه إن كره البيع لم يعده إليه وفسره مالك في موطئه: (بإعطاء البائع أو المشتري درهما أو دينارا على أنه إن أخذ البيع فهو من الثمن وإلا بقي للبائع) .
أبو عمر: (ما فسره به مالك عليه فقهاء الأمصار لأنه غرر وأكل مال بالباطل) ، قال مالك: (وأما من اشترى شيئا وأعطى عربانا على أنه إن
__________
(1) المغني ج4، ص 58.(43/163)
رضيه أخذه وإن سخطه رده وأخذ عربانه فلا بأس به. . .)
قال ابن الحاجب: ومنه بيع العربان وهو أن يعطي شيئا على أنه إن كره البيع أو الإجارة لم يعده إليه، قال في التوضيح: فإن فاتت مضت بالقيمة) . اهـ.
وجاء في (الخرشي) ج5 ص 78 ما نصه:
(وقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع العربان وهو أن يشتري السلعة بثمن على أن المشتري يعطي البائع أو غيره شيئا من الثمن على أن المشتري إن كره البيع لم يعد إليه ما دفعه، وإن أحب البيع حاسبه به من الثمن لأنه من أكل أموال الناس بالباطل وغرر. .
ومثل البيع الإجارة فلا فرق بين الذوات والمنافع) . اهـ.
وجاء في (الشرح الكبير) للدردير، ج3 ص63 ما نصه:
(وكبيع العربان اسم مفرد ويقال أربان بضم أول كل وعربون وأربون بضم أولهما وفتحه وهو أن يشتري أو يكتري السلعة ويعطيه أي يعطي المشتري البائع شيئا من الثمن على أنه - أي المشتري - إن كره البيع لم يعد إليه ما أعطاه وإن أحبه حاسبه به من الثمن أو تركه مجانا لأنه من أكل أموال الناس بالباطل) . اهـ.
وقال الزرقاني في (شرح موطأ الإمام مالك) ج 3 ص 251 ما نصه:
(وهو- أي بيع العربون- باطل عند الفقهاء لما فيه من الشرط والغرر وأكل أموال الناس بالباطل، فإن وقع فسخ وإن فات مضى لأنه مختلف فيه(43/164)
فقد أجازه أحمد وروي عن ابن عمر وجماعة من التابعين ويرد العربان على كل حال، قال ابن عبد البر: (ولا يصح ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من إجازته فإن صح احتمل أن يحتسب على البائع من الثمن إن تم البيع وهذا جائز عند الجميع) . اهـ.
وذهب الإمام أحمد وجمهور أصحابه إلى القول بصحة بيع العربون ويمثل النص الآتي من (المغني) لابن قدامة مذهب الإمام أحمد في بيع العربون ووجه القول بصحته وذكر سنده على ذلك كما أنه يذكر القائلين ببطلانه ووجهة قولهم بذلك ثم يناقش قولهم وحججهم فيقول:
(والعربون في البيع هو: أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهما أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب من الثمن، وإن لم يأخذها فذلك للبائع. . . قال أحمد: لا بأس به فعن عمر رضي الله عنه وعن ابن عمر أنه أجازه، وقال ابن سيرين: لا بأس به، وقال سعيد بن المسيب وابن سيرين: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها شيئا. وقال أحمد: هذا في معناه. واختار أبو الخطاب أنه لا يصح، وهو قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن؛ «لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربون» . رواه ابن ماجه، ولأنه شرط للبائع شيئا بغير عوض فلم يصح كما لو شرطه لأجنبي ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط أن له رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح، كما لو قال: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهما، وهذا هو القياس، وإنما صار أحمد فيه إلى(43/165)
ما روي فيه عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية، فإن رضي عمر وإلا فله كذا. وكذا قال الأثرم: قلت لأحمد تذهب إليه؟ قال: أي شيء أقول؟ هذا عمر رضي الله عنه وضعف الحديث المروي. روى هذه القصة الأثرم بإسناده. فأما إن دفع إليه قبل البيع درهما، وقال: لا تبع هذه السلعة لغيري، وإن لم أشترها منك فهذا الدرهم لك ثم اشتراها منه بعد ذلك بعقد مبتدئ وحسب الدرهم من الثمن صح؛ لأن البيع خلا عن الشرط المفسد. ويحتمل أن الشراء الذي اشتراه لعمر كان على هذا الوجه فيحمل عليه جمعا بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس والأئمة القائلين بفساد العربون، وإن لم يشتر السلعة في هذه الصورة لم يستحق البائع الدرهم لأنه يأخذه بغير عوض ولصاحبه الرجوع فيه، ولا يصح جعله عوضا عن انتظاره وتأخير بيعه من أجله لأنه لو كان عوضا عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء، ولأن الانتظار بالبيع لا تجوز المعاوضة عنه، ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار كما في الإجارة) (1) اهـ.
وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه (بدائع الفوائد) ج4 ما نصه:
(وقال في رواية الميموني: لا بأس بالعربون، وفي رواية الأثرم: وقد قيل له نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العربان فقال: ليس بشيء، واحتج أحمد بما روى نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن، فإن رضي عمر وإلا فله
__________
(1) المغني ج6، ص331-332، طبعة هجر تحقيق الدكتور عبد الله التركي.(43/166)
كذا وكذا. قال الأثرم: فقلت لأحمد: فقد يقال هذا؟ قال: أي شيء أقول؟ هذا عمر رضي الله عنه) . اهـ.
وقد احتج القائلون ببطلان بيع العربون بحديث عمرو بن شعيب وقد تقدم نقله من الموطأ وأورده المجد في (المنتقى) وقال عنه الشوكاني في (نيل الأوطار) ما نصه:
(الحديث منقطع لأنه من رواية مالك أنه بلغه عن عمرو بن شعيب ولم يدركه فبينهما راو لم يسم وسماه ابن ماجه فقال هو مالك عن عبد الله بن عامر الأسلمي، وعبد الله لا يحتج بحديثه، وفي إسناد ابن ماجه هذا أيضا حبيب كاتب الإمام مالك وهو ضعيف لا يحتج به، وقد قيل إن الرجل الذي لم يسم هو ابن لهيعة ذكر ذلك ابن عدي وهو أيضا ضعيف ورواه الدارقطني والخطيب عن مالك عن عمر بن الحرث عن عمرو بن شعيب وفي إسنادهما الهيثم بن اليمان وقد ضعفه الأزدي) . اهـ (1) .
وقال الصنعاني في كتابه (سبل السلام) بعد ذكره حديث عمرو بن شعيب ما نصه؟
(وأخرجه أبو داود وابن ماجه وفيه راو لم يسم وسمي في رواية فإذا هو ضعيف وله طرق لا تخلو من مقال. وروي عن عمر وابنه وأحمد جوازه) . اهـ (2)
__________
(1) ج5، ص 162- 163.
(2) ج 2، ص 334.(43/167)
وقال ابن الأثير نقلا عن (تاج العروس) :
(وحديث النهي منقطع وقال الإمام أحمد في رواية الأثرم وقد قيل له: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع العربان (1) » . فقال: ليس بشيء) . اهـ.
ويظهر - والله أعلم - رجحان القول بصحة بيع العربون للأثر والمعنى وانتفاء الدليل على المنع وإمكان الإجابة عن حجج القائلين ببطلانه.
أما الأثر ففي (نيل الأوطار) للشوكاني قال:
(وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن زيد بن أسلم أنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العربان في البيع فأجازه، قال: وهو مرسل وفي إسناده إبراهيم ابن أبي يحيى وهو ضعيف) . اهـ (2) .
وفي (المغني) النص المتقدم عن الإمام أحمد في إجازته بيع العربون وهذا نصه: (قال أحمد: لا بأس به، وفعله عمر رضي الله عنه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أجازه، وقال ابن سيرين: لا بأس به. وقال سعيد ابن المسيب وابن سيرين لا بأس إذا كره السلعة بردها ويرد معها شيئا وقال أحمد: هذا في معناه) . اهـ.
فقد أجازه من الصحابة عمر بن الخطاب وابنه عبد الله ومن التابعين وتابعيهم (نافع بن عبد الحارث وزيد بن أسلم والحسن البصري وابن سيرين ومجاهد وأحمد) وغيرهم.
وأما المعنى فإن مالك السلعة قد حبسها عن عرضها للبيع وحرم
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3502) ، سنن ابن ماجه التجارات (2192) .
(2) ج5، ص 162.(43/168)
فرصة بيعها بعقد ناجز وبسعر قد يكون أفضل مما باعها به بطريق بيع العربون وفي هذا ضرر محقق على البائع أو محتمل وقد أشار إلى هذا المعنى الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه (مصادر الحق) فقال:
(فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الانتظار بالبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة) . اهـ (1) .
وأما دليل القائلين بالمنع من النقل فهو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وقد تقدم إيراد ما ذكره أهل العلم في رده ومنهم الإمام أحمد رحمه الله في رواية الأثرم فقد قيل له: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن العربان، (2) » فقال: ليس بشيء، وهذا يعني أن دليلهم النقلي لا يصح الاحتجاج به وليس لهم دليل نقلي غيره.
أما دليلهم العقلي فيمكن مناقشته بما يعطي القناعة بسقوطه وعدم اعتباره فهم يقولون بأن بيع العربون يشتمل على المحاذير الآتية:
أولا: هو من قبيل أكل أموال الناس بالباطل.
ثانيا: ما فيه من الغرر الموجب لبطلانه.
ثالثا: ما فيه من شرط شيء للبائع بغير عوض في حال الرد.
رابعا: هو بمنزلة الخيار المجهول.
خامسا: لمخالفته القياس.
__________
(1) مصادر الحق ج2، ص 101.
(2) سنن أبو داود البيوع (3502) ، سنن ابن ماجه التجارات (2192) .(43/169)
سادسا: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي عنه وإن كانت طرقه كلها لا تخلو من مقال إلا أن بعضها يقوي بعضا كما ذكر ذلك الشوكاني في (نيل الأوطار) .
فقولهم: (بأن العربون من أكل أموال الناس بالباطل) غير صحيح فالعربون ثمن حبس السلعة وعوض عن حرمان صاحبها من فرص عرضها للبيع لتحصيل بيع ناجز وقد يكون بسعر أفضل. وقد ذكر هذا المعنى الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه (مصادر الحق) فقال:
(فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الانتظار بالبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص آخر لمدة معلومة) . اهـ.
وقولهم: (بأن فيه غررا موجبا لبطلانه) قول غير صحيح فقدر العربون معروف ولا بد لاعتباره من مدة معينة تعطي دافع العربون مهلة ليختار أثناءها إمضاء العقد أو الرد، نعم لو كانت مدة الخيار مجهولة لتصور الغرر في ذلك، ولكننا نشترط لصحة بيع العربون أن تكون المدة معلومة.
وقولهم: (بأن المشتري شرط للبائع شيئا بغير عوض) غير صحيح فالبائع حبس سلعته عن عرضها للشراء وحرم من فرص بيعها. مما قد يكون(43/170)
أكثر غبطة ومصحلة فالعربون عوض هذا الحرمان.
وقولهم: (هو بمنزلة الخيار المجهول) هذا صحيح إذا خلا بيع العربون من خيار محدد بوقت معين، أما إذا كان الخيار في بيع العربون معينا بمدة محددة فليس بمنزلة الخيار المجهول وحينما نقول بصحة بيع العربون نشترط أن يكون الخيار في الرد أو الإمساك في مدة معلومة.
وقد نص بعض علماء الحنابلة على القول بتوجه اعتبار تعيين مدة معلومة فقال الشيخ مرعي المقدسي في كتابه (غاية المنتهى) الجزء الثاني ص 26 ما نصه:
(ويصح بيع العربون وإجارته وهي: دفع بعض ثمن أو أجرة بعد عقد لا قبله، ويقول إن أخذته أو جئت بالباقي، وإلا فهو لك فإن وفى فما دفع فمن الثمن، وإلا فلبائع ومؤجر، ويتجه هذا إن قيد بزمن وفات وإلا فإلى متى ينتظر؟) . اهـ.
وقولهم: (لمخالفته القياس) هذا القول مسلم به لو كان العربون في غير مقابلة عوض ولكننا نرى أن العربون في مقابلة عوض هو الانتظار بحبس السلعة وحجبها عن الرغبة في شرائها وذلك لصالح مشتريها وفي مقابلة ما دفعه عربونا للانتظار بها حتى يقرر ما يراه إمضاء أو ردا.
وأما الاحتجاج بحديث عمرو بن شعيب فقد تكرر نقل أقوال أهل العلم في رده وأنه ليس بشيء، وأما القول بأن طرقه وإن كانت لا تسلم من مقال إلا أن بعضها يقوي بعضا، هذا القول فيه نظر فالضعيف لا(43/171)
يقوي ضعيفا ولا تستقيم بالضعفاء قوة.
وللدكتور السنهوري إجابة عن حجج القائلين ببطلان بيع العربون يحسن بنا إيرادها إكمالا للفائدة وتأكيدا لإجاباتنا عن هذه الحجج فقد ذكر ما ذكره ابن قدامة رحمه الله في كتابه (المغني) عما يتعلق بمسألة بيع العربون.
ثم عقب على ذلك بقوله:
(أولا: أن الذين يقولون ببطلان بيع العربون يستندون في ذلك إلى حديث النبي عليه السلام الذي نهى عن بيع العربون، ولأن العربون اشترط للبائع بغير عوض وهذا شرط فاسد، ولأنه بمنزلة الخيار المجهول إذ اشترط المشتري خيار الرجوع في البيع من غير ذكر مدة كما يقول: ولي الخيار متى شئت رددت السلعة ومعها درهما.
ثانيا: أن أحمد يجيز بيع العربون ويستند في ذلك إلى الخبر المروي عن عمر وضعف الحديث المروي في النهي عن بيع العربون، وإلى القياس على صورة متفق على صحتها هي أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئا قال أحمد هذا في معناه.
ثالثا: ونرى أنه يستطاع الرد على بقية حجج من يقولون ببطلان بيع العربون. فالعربون لم يشترط للبائع بغير عوض، إذ العوض هو الانتظار بالبيع وتوقيف السلعة حتى يختار المشتري وتفويت فرصة البيع من شخص(43/172)
آخر لمدة معلومة. وليس بيع العربون بمنزلة الخيار المجهول، إذ المشتري إنما يشترط خيار الرجوع في البيع مع ذكر مدة معلومة إن لم يرجع فيها مضت الصفقة وانقطع الخيار) . اهـ (1)
__________
(1) مصادر الحق، ج2، ص 101- 102.(43/173)
تكييف العربون:
اختلف القائلون بصحة بيع العربون في تكييفه هل هو شرط جزائي استحقه البائع لقاء تخلف المشتري عن الوفاء بالالتزام بالشراء أو هو تعويض عن ضرر محقق على البائع أو محتمل؟
فالذين يقولون: بأنه تعويض عن شرط جزائي لقاء العدول عن الشراء يقولون: بأن العربون في نظر الشارع معناه: إن المتبايعين قد أرادا إثبات حق الرجوع، لكل منهما في نظير الالتزام بدفع قيمة العربون فجعل العربون مقابلا لحق الرجوع ومن ثم لا يجوز تخفيض العربون إذا تبين أن الضرر الذي أصاب الآخر أقل من قيمته، كما لا يجوز زيادته إذا تبين أن الضرر الذي أصاب الطرف الآخر أكبر كما لا يجوز إلغاء العربون ولو لم يترتب على العدول ضرر (1) .
والذين يقولون بأن العربون ليس شرطا جزائيا وإنما هو تعويض عن ضرر واقع أو محتمل الوقوع يوجهون قولهم بأن صرف الرغبة عن عرض البضاعة للبيع لقاء الالتزام ببيعها على من بذل العربون يحجب فرص بيعها بسعر ناجز وقد يكون بسعر أفضل. وحجب الفرص المتاحة فيه ضرر
__________
(1) الوسيط للسنهوري، ج4 ص 90.(43/173)
على مالك السلعة إما ضرر محقق وإما ضرر محتمل، أما الضرر المحقق فيتضح فيما إذا تقدم إلى مالك السلعة من يريد شراءها بسعر أفضل وببيع ناجز فيمتنع من ذلك لقاء التزامه ببيعها على من بذل له العربون في شرائها، وأما الضرر المحتمل فيتضح كذلك من حجب فرص بيعها لقاء الالتزام وذلك بإبعادها عن عرضها للبيع الذي هو مظنة المصلحة والغبطة. ففي حجب السلعة عن عرضها للبيع حرمان مالكها من تشوفه لبيعها بعقد ناجز وبسعر قد يكون أفضل وهذا عين الضرر. فإذا قلنا بأن العربون شرط جزائي فإن هذا القول يجعل العربون خاضعا للنظر القضائي عند النظر في الضرر الموجب لاستحقاقه، حيث إن الشرط الجزائي تعويض اتفق المتعاقدان على تقديره وذلك عن الضرر الذي ينشأ عن الإخلال بالعقد. ولهذا كان للقاضي حق النظر في مقدار هذا الشرط فإذا كان مبالغا في تقديره فله حق تخفيضه وله حق إلغائه في حال انتفاء الضرر. وهذا النظر القضائي لا يصح إجراؤه في العربون لكونه تعويضا عن ضرر محقق أو محتمل لقاء امتناع بائع السلعة بيع عربون عن عرضها للبيع وفوات مصلحته في ذلك.
ولو قلنا بأن العربون تعويض عن ضرر فإن للقضاء حق التدخل في تغيير مقداره زيادة أو نقصا، فإذا كان الضرر أقل من المعين فللقاضي حق تخفيضه، وإن كان أكثر من ذلك فله حق زيادته وهذا لا يتأتى في العربون(43/174)
إذ هو شيء جرى اتفاق المتعاقدين على تعيينه واستحقاقه على من يعدل عن إمضاء العقد.
وهذه الإيرادات على تخريج العربون على الشرط الجزائي أو التعويض عن الضرر تجعلنا نبحث عن تكييف للعربون يسلم من هذه الإيرادات ويتفق مع حقيقة العربون.
وعليه فقد يظهر لنا وجه لتخريج العربون على تكييف قد تظهر سلامته من الإيرادات. وذلك أن العربون جزء من الثمن في حال إمضاء البيع وفي حال العدول عن الشراء فإنه يعتبر قدرا زائدا عن التقايل بين البائع والمشتري يستحقه البائع لقاء موافقته على الإقالة. وتوضيح هذا: أن المشتري اشترى السلعة بالثمن الذي جرى تحديده به، وأن العربون جزء من الثمن فإذا رغب المشتري العدول عن البيع فمخرجه من ذلك بيع السلعة على مالكها الأول بسعرها الذي اشتراها به ناقصا قدر العربون. وبهذا نستطيع الخروج من الإيرادات السابقة ومن الإيرادات كذلك على بيع العربون واعتبار بطلانه بها.
وقد يخرج بيع العربون على بيع ناجز بين البائع والمشتري بثمن معين يدفع المشتري جزءا من الثمن هو العربون والباقي يدفعه في حال اختياره بقاء المبيع عنده يعطيه البائع وعدا بشرائه ما باعه إياه في حال رغبته عن المبيع وبثمن أقل من ثمن مشتراه بقدر العربون.
ويذكر الدكتور عبد الرزاق السنهوري أن الفقه الغربي يتفق مع(43/175)
المذهب الحنبلي في أن المشتري يفقد العربون إن كره البيع وإن اختاره حسب العربون من الثمن وأن جميع القوانين المدنية في البلاد العربية تأخذ بذلك.
وبعد أن تم لنا تعريف العربون واستعراض أقواله أهل العلم في حكمه ومناقشة حجج القائلين ببطلانه وذكر مستند القول بصحته يحسن بنا النظر في حاجة المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية إليه كعنصر تنشيط للتجارة والاستثمار.
لا شك أن الحركة الاقتصادية في العالم قد تطورت أحواله اوظروفها ومقومات نشاطها وأسباب تعدد طرقها وقد اتسمت بالجدية في الأداء والدقة في احتساب الزمن واعتبار الكلمة في الإلزام والالتزام، وهذا يعني إيجاد ضوابط للجدية في التعامل إيجابا وقبولا، ولا شك أن الأخذ بمبدأ العربون من أهم ضوابط الجدية في الحركات الاقتصادية بيعا وشراء وإجارة، وهذا يعني أن الناس في حاجة إلى الأخذ ببيوع العربون في معاملاتهم ولا سيما وفي الأخذ به من الفوائد والاطمئنان إلى سلامة التحرك التجاري ما لا يخفى، وقد اتضح من المناقشة السابقة ما يجعل العربون أمرا مشروعا في دلالته ومعناه. والعلم عند الله تعالى. وقد رغبت الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي التعرض في البحث إلى أحكام المسائل الآتية:
1 - هل يجوز العربون في بيع النقد بجنسه وفي الصرف؟(43/176)
2 - هل يجوز أن يكون العربون في الخدمات كما في السلع؟
3 - هل يجوز اعتبار العربون مبلغا مستقلا عن ثمن السلعة؟
4 - هل يجوز العربون عند شراء الأوراق المالية كالأسهم؟
5- هل يجوز العربون في بيع المرابحة؟
6 - هل يلزم في بيع العربون أن تكون السلعة حاضرة للمعاينة أم يجوز عند المواعدة بالشراء؟(43/177)
حكم بيع العربون في بيوع الصرف:
لا يخفى أن بيوع المصارفة لها حالان:
الحالة الأولى: أن تكون المصارفة في جنس واحد كبيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة فهذه الحالة يشترط لصحة المصارفة فيها شرطان:
أحدهما: المماثلة.
الثاني: التقابض في مجلس العقد.
الحال الثانية: أن تكون المصارفة بين جنسين مختلفين كالذهب بالفضة أو العملات الورقية بهما أو بعضها ببعض كالدولار الأمريكي بالريال السعودي أو الجنيه المصري بالجنيه الإسترليني فهذه الحال يشترط لها شرط واحد هو: التقابض عند المصارفة في مجلس العقد. ودليل ذلك كله قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » رواه الإمام أحمد ومسلم، وأخذا
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(43/177)
بهذه الأحكام في المصارفة ومن هذه الأحكام التقابض في مجلس العقد، وحيث إن بيع العربون يقتضي تأخير الثمن حتى اختيار المشتري ما يراه من إمضاء البيع أو رده، وعليه فلا يجوز بيع العربون في بيوع الصرف في كلا الحالين. والعلم عند الله تعالى.(43/178)
حكم كون العربون مبلغا مستقلا عن ثمن السلعة:
نظرا إلى أن العربون قي مقابلة حبس السلعة والامتناع عن عرضها لقاء الالتزام ببيعها على دافع العربون فلا يظهر لي مانع من اعتبار العربون مبلغا مستقلا عن ثمن السلعة حتى لو كان العربون عينا، إلا إنه في حال اختيار إمضاء البيع فيجب أن يحتسب هذا المبلغ من الثمن، وفي حال كونه جنسا غير جنس الثمن فيجب أن يقوم بجنسه- أي جنس الثمن- حتى يعرف مقداره ويحسب من ثمن المبيع. أما إذا اختار دافع العربون الرد فإن العربون من حق المدفوع إليه سواء أكان مبلغا من الثمن من جنس ثمن المبيع أو كان من غير جنسه أو كان عينا.(43/178)
حكم العربون في الخدمات:
سبق إيراد ما في موطأ مالك من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حيث قال الإمام مالك بعد روايته الحديث لتصوير بيع العربون ما نصه:
(وذلك فيما نرى والله أعلم أن يشتري الرجل العبد أو الوليدة أو يتكارى الدابة ثم يقول للذي اشترى منه أو تكارى منه أعطيك دينارا أو(43/178)
درهما أو أكثر أو أقل على أني إن أخذت السلعة أو ركبت ما تكاريت منك فالذي أعطيتك هو من ثمن السلعة أو كراء الدابة، وإن تركت ابتياع السلعة أو كراء الدابة فما أعطيتك لك) . اهـ.
فهذا الإمام مالك رحمه الله يفسر العربون بأنه دفعة أولى في الشراء أو الإيجار في حال تمام العقد، وفي حال العدول عن الشراء أو الكراء يكون العربون للبائع أو المؤجر. فالإمام مالك رحمه الله وإن كان يرى بطلان بيع العربون إلا أنه يراه جاريا في الإجارة كما يراه جاريا في المبيع ويرى بطلانه فيهما جميعا.
ولا يخفى أن بيع العين أو إجارتها بيع في كلا العقدين فواحدهما بيع عين أو بيع منفعة وفي كل منهما معنى بيع العربون وهذا يعني جواز العربون في الخدمات كجوازه في بيوع الأعيان.
يقول الدسوقي في حاشيته على الدردير ما نصه:
(بيع العربان يجري في البيع والإجارة لا في البيع فقط) . اهـ (1) .
ويقول الخرشي ما نصه:
(ومثل البيع الإجارة فلا فرق بين الذوات والمنافع) . اهـ (2) .
ويقول مرعي في كتابه (غاية المنتهى) ما نصه:
(ويصح بيع العربون وإجارته) . اهـ (3)
__________
(1) ج3، ص 63.
(2) ج5، ص 78.
(3) غاية المنتهى، ج2، ص 26.(43/179)
حكم العربون في شراء الأسهم:
لا يخفى أن السهم في الشركات المساهمة حصة مشاعة في شركة ذات حصص محدودة، وأن ملكية هذا السهم تعني امتلاك مقدار هذا(43/179)
السهم في الشركة، فإذا كانت الشركة من الشركات المباح نشاطها وأصل وجودها فتداول أسهمها بالبيع والشراء جائز وكل شيء يجوز بيعه حالا ومؤجلا فإن العربون في شرائه أو بيعه جائز والعلم عند الله تعالى.(43/180)
حكم العربون في بيع المرابحة:
المرابحة هي: أن يبيع الرجل على آخر سلعة بثمن مشتمل على ربح مقداره نسبة معينة من كامل قيمتها المشتملة على ثمن الشراء ومصاريف الشحن والنقل والحيازة وغير ذلك من تكاليف مستلزمات نقل ملكيتها إليه، ولا شك أن معنى العربون متحقق في هذا النوع من البيوع، وبناء على ذلك فلا يظهر مانع من اعتباره وجواز البيع به.
لكن ينبغي ألا يكون العربون في المرابحة إلا بعد عقد البيع، وأما قبل ذلك في وقت إجراءات تحقيق رغبة الآمر بالشراء مرابحة فلا يجوز العربون في ذلك لأن العربون لا يصح إلا بعد العقد لا قبله.(43/180)
حكم المواعدة على الشراء وأخذ العربون لذلك:
من المعلوم أن العربون دفعة أولى من ثمن المبيع في حال اختيار إمضاء البيع، وهو تعويض عن ضرر واقع أو محتمل الوقوع في حال العدول عن الشراء وأنه لا يكون إلا في عقد بيع أو إجارة استكملت فيه شروطه وأركانه، والمواعدة على البيع والشراء لا تعتبر بيعا ولا شراء وإنما هي وعد من كل من البائع والمشتري بذلك، والمبيع عند المواعدة بالبيع لا يزال في(43/180)
ملك البائع وتحت تصرفه، وتصرفه فيه نافذ قبل الوعد وبعده، سواء أكان ذلك بيعا أو هبة أو وقفا أو غير ذلك من التصرفات المعتبرة. ولكن يبقى على الواعد بالبيع موجب الإخلال بالالتزام بالوعد بالبيع، وهذا يقتضي منه الاحتياط لهذا الالتزام بحجب السلعة عن عرضها لقاء الالتزام بالوعد ببيعها على من التزم له بيعها عليه، وهذا المعنى هو معنى العربون.
ونظرا إلى أن العربون لا يكون إلا في عقد بيع، وهو دفعة أولى من الثمن في حال اختيار إمضاء البيع فلا يظهر لنا وجاهة القول بجواز العربون في المواعدة على الشراء، وهذا لا يعني القول بعدم جواز أن يدفع الواعد للموعود له بالشراء شيئا من المال لقاء الوفاء بالوعد ببيع السلعة عليه، ولكننا لا نسمي هذا المال عربونا، ويمكن أن يكون من الشروط الجزائية وهو خاضع للاتفاق بين المتواعدين إن اتفقا على أن يكون جزءا من الثمن في حال الشراء لزم الاتفاق ونفذ.
وإن اتفقا على استحقاقه للموعود له دون اعتباره جزءا من الثمن في حال الشراء فهما على ما اتفقا عليه؛ إذ المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما.
وفيما يلي نص قرار مجمع الفقه الإسلامي في حكم بيع العربون (انظر الورقة التالية) .
هذا ما تيسر إيراده وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى له وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.(43/181)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.(43/182)
قرار رقم 76 \ 3 \ د 8
بشأن
بيع العربون
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثامن ببندر سيري باجوان، بروناي دار السلام من 1 إلى 7 محرم 1414 هـ الموافق 21-27 يونيو 1993م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع: (بيع العربون) .
وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر ما يلي:
1 - المراد ببيع العربون بيع السلعة مع دفع المشتري مبلغا من المال إلى البائع على أنه إن أخذ السلعة احتسب المبلغ من الثمن، وإن تركها فالمبلغ للبائع. ويجري مجرى البيع الإجارة؛ لأنها بيع المنافع.
ويستثنى من البيوع كل ما يشترط لصحته قبض أحد البدلين في مجلس العقد (السلم) أو قبض البدلين (مبادلة الأموال الربوية والصرف) ولا يجري في المرابحة للآمر بالشراء في مرحلة المواعدة، ولكن يجري في مرحلة البيع التالية للمواعدة.
2 - يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود، ويحتسب العربون جزءا من الثمن إذا تم الشراء، ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء.(43/182)
الإنكار
معناه، أصل مشروعيته، شروطه، طرائقه
للدكتور \ عبد الله بن عبد المحسن بن منصور الطريقي
الأستاذ المشارك بكلية المعلمين بالرياض.
الحمد لله الذي خلق فأبدع، وأنعم فأكرم، وأصلي وأسلم على محمد وآله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن من لطف الله وكرمه على هذه الأمة أن أوضح لها طريق الهداية وبين معالم الغواية، لكن القلوب قد تمرض فتتيه عن الحياة المستقيمة،(43/183)
فشرع لها من العلاج ما يناسب حالها.
وتختلف وسائل العلاج باختلاف أنواع الأمراض التي تصاب بها؛ فمنها ما تكفيها الإشارة عن صريح العبارة، ومنها ما تحتاج لنظرة عين عاتبة، أو مشفقة، ومنها ما تحتاج لبيان وإيضاح، وجدال ومناقشة، ومنهم من لا يصلحه إلا السوط، أو السجن، وإن كانت فئة أخرى لا يستراح منها إلا بالسيف، وكل هذا لا يكون إلا وفق ضوابط شرعية حددت منذ أن أتم الله هذا الدين، ومن هذه الأمور ما اختص بفعله ولاة الأمر، ومنها ما هو على عامة الناس أو خاصتهم.
والإنكار من الأمور اللازمة لصلاح المجتمعات التي لا تخلو من وجود طفيليات يعقن سيره ويفسدن حاله، فالمبادرة إلى ذلك مهمة لصلاحه وفلاحه.
ولعلي فيما كتبت أن أوضح بعض جوانبه، وأبين بعض غوامضه والبحث يتكون من أربعة فصول:
الفصل الأول: في معنى الإنكار.
الفصل الثاني: في أصل مشروعيته.
الفصل الثالث: في شروط الإنكار.
الفصل الرابع: في طرائق الإنكار.
وأسأل الله تعالى أن يهدينا لأطيب القول، وأن ينفعنا به. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(43/184)
الفصل الأول: في معنى الإنكار
المنكر في الأمر: خلاف المعروف، وكل ما قبحه الشرع وحرمه وكرهه، فهو منكر، والتنكر: التغير، والنكير: اسم الإنكار الذي معناه التغيير.
والنكير والإنكار: تغيير المنكر" (1) .
وأصل الإنكار أن يرد القلب ما لا يتصوره وذلك ضرب من الجهل.
وقد يستعمل ذلك فيما ينكر باللسان، وسبب الإنكار باللسان الإنكار بالقلب، ولكن ربما ينكر اللسان الشيء وصورته في القلب حاضرة ويكون في ذلك كاذبا، وعلى هذا قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} (2) .
والمنكر: كل فعل تحكم العقول الصحيحة بقبحه، أو تتوقف عن استقباحه العقول فتحكم الشريعة بقبحه، وإلى هذا القصد في قوله تعالى: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) . والنكير: الإنكار قال تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} (4) أي: إنكاري. والإنكار تغيير المنكر (5) .
قال القرطبي: (المنكر ما أنكره الشرع بالنهي عنه، وهو يعم جميع
__________
(1) لسان العرب مادة نكر.
(2) سورة النحل الآية 83
(3) سورة التوبة الآية 112
(4) سورة الحج الآية 44
(5) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، بصيرة في نكر 5 \ 120(43/185)
المعاصي والرذائل والدناءات على اختلاف أنواعها) (1)
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج10 ص 167.(43/186)
الفصل الثاني: في أصل مشروعيته
إنكار المنكرات المخالفة للشرع من الأمور الواجبة على من قدر على إنكارها يدل عليه ما يلي:
أ- قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) .
2 - قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) .
ففي هاتين الآيتين دلالة على مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لثناء الله تعالى على من اتصف بذلك، والثناء دلالة على طلب الفعل ممن قدر عليه.
3 - قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (3) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4) ففي هاتين الآيتين وصف لفئة من بني إسرائيل كانت تعمل المعاصي، وتتعدى، ومع هذا كانوا لا يتناهون عن المنكر الذي يفعلونه، فحق عليهم اللعن والذم لذلك الفعل، وهما يستلزمان طلب الترك، لفعل أمر محظور شرعا، وما كان محظورا وجب تركه
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة المائدة الآية 78
(4) سورة المائدة الآية 79(43/186)
والإنكار على فاعله، مما يدل على وجوب إنكار المنكر.
4 - قال الله تعالى فيما يحكيه سبحانه عن لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1) .
قال القرطبي: (يقتضي حضا على تغيير المنكر، وإن نالك ضرر فهو إشعار بأن المغير يؤذى أحيانا، وهذا القدر على جهة الندب والقوة في ذات الله) (2) .
5 - قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (3) {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} (4) .
روى أشهب عن مالك قال: زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل منهم خيطا ويضع فيه وهقة (5) يلقيها في ذنب الحوت، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد ويتركه كذلك إلى الأحد، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع لا يبتلى، حتى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فقامت فرقة فنهت وجاهرت بالنهي واعتزلت. ويقال: إن الناهين قالوا: لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن للناس لشأنا، فعلوا على
__________
(1) سورة لقمان الآية 17
(2) انظر الجامع لأحكام القرآن، ص14 ص 68.
(3) سورة الأعراف الآية 165
(4) سورة الأعراف الآية 166
(5) الوهق بالتحريك: حبل تشد به الإبل والخيل لئلا تند، لسان العرب مادة وهق.(43/187)
الجدار فنظروا فإذا هم قردة. (1) .
ومن هذا نعلم أن الناهين عن المنكر نجوا من العذاب بنص القرآن، أما الظلمة والعتاة فقرر النص القرآني لهم سوء العاقبة والمآل، مما يدل على وجوب إنكار المنكر وعدم التهاون فيه.
6 - عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) »
ففي هذا الحديث دلالة على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه. قال ابن مسعود: (هلك من لم يعرف بقلبه المعروف والمنكر) ، يشير إلى أن معرفة المعروف والمنكر بالقلب فرض لا يسقط عن أحد فمن لم يعرفه هلك.
وعن العرس بن عميرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها (3) »
؛ لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات (4) .
7 - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
«إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل
__________
(1) انظر الجامع لأحكام القرآن، ج1 ص 440.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صحيح مسلم بشرح النووي، ج 2 ص 22، والتزمذي في الجامع الصحيح 4 \ 469، والنسائي في سننه بشرح السيوطي، 8 \ 111، وأخرجه أحمد في مسنده، ج3 ص20، 49.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهي، عون المعبود، ج11 ص 500، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير، حديث رقم 345، ج 17 ص139، وإسناده حسن.
(4) انظر جامع العلوم والحكم، ص 281، 282.(43/188)
فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض " ثم قال: إلى قوله، ثم قال: "كلا والله، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي العلم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا (4) » ، وفي رواية: «أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم (5) »
ففي هذا الحديث دلالة على وجوب رد الناس إلى الحق وإلزامهم إياه، وحبسهم عليه، ومخالفة ذلك تؤول إلى ضرب القلوب بعضها على بعض، واستحقاق اللعن، وهذا بسبب ارتكاب المعاصي، مما يدل على أن عدم إنكار المنكر معصية، وفعل المعصية حرام.
8 - عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن أن
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهي، عون المعبود، ج 11 ص 488، وأخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن، باب سورة المائدة، وقال: (حسن غريب) ، وذكر أن بعضهم رواه عن أبي عبيدة مرسلا، الجامع الصحيح، ج 5 ص 252 قال المنذري: (وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه فهو منقطع) ، عون المعبود، ج 11 ص 488، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سنن ابن ماجه، ج 2 ص 1327، قال الهيثمي: (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) ، مجمع الزوائد، ج7 ص 269.
(2) سورة المائدة الآية 78 (1) {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}
(3) سورة المائدة الآية 81 (2) {فَاسِقُونْ}
(4) أصل الأطر العطف والتثني ومعناه: رده إلى الحق، عون المعبود 11 \ 488. (3)
(5) لأبي داود، عون المعبود، 11 \ 488.(43/189)
يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم (1) » ، ففي هذا الحديث اقترن لفظ الأمر والنهي بلام الأمر الدالة على طلب الفعل، مما يدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه أن من لم يفعل ذلك ليوشك أن ينزل به العقاب، ومن ثم لا يستجاب له دعاء، ولا خلاص من ذلك إلا بالإنكار على العصاة، وما يؤول إلى الواجب فهو واجب، مما يدل على وجوب الإنكار.
9 - عن إسماعيل عن قيس قال: قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (2) قال: وإنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب (3) » .
وقال عمرو عن هشيم: وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا، إلا يوشك أن يعمهم الله منه بعقاب (4) » ففي هذا الحديث وعيد على من لم يغير المنكر، والوعيد لا يكون إلا على ترك واجب، وترك الواجب حرام، مما يدل على وجوب تغيير المنكر.
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده ج 5 ص 388، والترمذي في كتاب الفتن باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال أبو عيسى: (هذا حديث حسن) الجامع الصحيح ج 4 ص 468.
(2) سورة المائدة الآية 105
(3) سنن الترمذي الفتن (2168) ، سنن أبو داود الملاحم (4338) ، سنن ابن ماجه الفتن (4005) ، مسند أحمد بن حنبل (1/7) .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنص، قال المنذري: (وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه) ، عون المعبود، ج11 ص 489.(43/190)
10 - عن عدي بن عميرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة (1) » .
ولأبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خفيت الخطيئة لم تضر إلا صاحبها وإذا ظهرت فلم تغير ضرت العامة (2) »
وفي رواية لأم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده "، فقلت: يا رسول الله، أما فيهم الصالحون؟ قال: "بلى"، قلت: فكيف يصنع بأولئك؟) قال: "يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان (3) » .
ففي هذه النصوص دلالة على أن المعاصي إذا ظهرت وشاعت ولم تنكر، عم ضررها عامة الناس وخاصتهم، وهذا أمر مشاهد في عصرنا الحاضر، فشيوع الزنا في بعض المجتمعات أدت أضراره إلى إصابة غير الزناة حيث انتقلت أمراضه إليهم عن طريق نقل الدم أو وسائل النقل الأخرى، وقد تكون العقوبة غير ذلك مما يشاء الله من الأمراض، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر
__________
(1) أخرجه أحمد من طريقين، وأخرجه الطبراني وفيه رجل لم يسم، وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات، وأخرج نحوه الطبراني عن العرس بن عميرة ورجاله ثقات، مجمع الزوائد، ج 7 ص 267- 268.
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه مروان بن سالم الفقاري وهو متروك، مجمع الزوائد، ج 7 ص 267.
(3) أخرجه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح، مجمع الزوائد 7 \ 268.(43/191)
المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. . . . (1) »
ففي هذا دلالة على وجود علاقة قوية بين ظهور الفاحشة وإعلانها وبين الطاعون والأوجاع التي لم تكن فيمن مضى، وما مرض نقص المناعة المعروف بالإيدز إلا دليلا على تلك العقوبات المذكورة.
11 - عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له أنت الظالم فقد تودع منهم (2) » ففي هذا دلالة على أن ترك إنكار المنكرات مهابة من الناس من أسباب حلول العقوبة مما يدل على وجوب إنكار المنكر.
12 - قال ابن عطية: (الإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه وأمن الضرر على نفسه وعلى المسلمين، فإن خاف فينكر بقلبه ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه) (3) .
وقال النووي: (وأما قوله: "فليغيره " فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يعتد بخلافهم، كما قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: لا يكترث بخلافهم في هذا، فقد
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن باب العقوبات، سنن ابن ماجه، ج 2 ص 1332.
(2) أخرجه أحمد والبزار، والطبراني، وأحد أسانيد البزار رجاله رجال الصحيح، وكذلك إسناد أحمد إلا أنه وقع في الأصل غلط، مجمع الزوائد، ج 7 ص، 270.
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج6 ص 253.(43/192)
أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء، ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافا للمعتزلة وأما قول الله عز وجل: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (1) فليس مخالفا لما ذكرناه؛ لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (2) وإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل؛ لكونه أدى ما عليه فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول والله أعلم.
ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف. قال العلماء رضي الله عنهم: لا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله فإن الذكرى تنفع المؤمنين. . . قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلا ما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلا بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبسا. مما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه فإذا
__________
(1) سورة المائدة الآية 105
(2) سورة النجم الآية 38(43/193)
أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر) (1) .
(وقال حذاق أهل العلم: وليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية بل ينهى العصاة بعضهم بعضا) . وقال بعض الأصوليين: فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضا بدليل قوله تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} (2) فهذا يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي) (3) .
قال العلماء: (ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات بل ذلك جائز لآحاد المسلمين) . قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية) (4) .
وفي ضوء ما تقرر فإن إزالة المنكرات لهي من أوجب الواجبات، وأصل الضرورات لصلاح المجتمعات، عندما تشطط عن طريق الهداية، ويختار بعض أفرادها طريق الغواية. فإن تركت المنكرات ولم تنكر فستعث به كما يعث السوس في الصوف والثياب والطعام، وستنخر في الأمة وتضعف حالها، حتى تكون هزيلة رديئة، لا يتحرك لها قوام، ولا ترتفع
__________
(1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص22، 23.
(2) سورة المائدة الآية 79
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ج6 ص253.
(4) انظر صحيح مسلم بشرح النووي، ج2 ص23.(43/194)
منها أعناق، بل سترضى من الأمر بالدون، ومن المتع بالرديء حتى تكون لينة رخوة لا يحمى لها جانب، ولا تصد يد ضارب، تستنجد من الغريب فك الأسر، وحماية الأهل، وأمن الديار، وطرد الأغراب، بل محتاجة منه إلى لقمة هانئة، أو شربة سائغة، لكنها إن أنكرت فقوتها مانعة، وحالها متعافية.(43/195)
الفصل الثالث: في شروط الإنكار
لا ينبغي لمن يريد الإنكار أن ينكر على مخالفة إلا إذا تحققت به الشروط الآتية:
الشرط الأول: أن يكون فقيها فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه (1) .
فما اختص بعلمه العلماء من دقائق الأفعال والأقوال وما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه، ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء (2) .
؛ لأن الجاهل قد يأمر بما ليس. بمعروف وينهى عما ليس بمنكر.
قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3) ففي هذه الآية دلالة على أن الداعي إلى الله لا بد من أن يكون على بصيرة: وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه (4) .
__________
(1) انظر الحسبة لابن تيمية، ص 135.
(2) انظر الموافقات للشاطبي، ج4 ص214، وجامع العلوم والحكم، ص281، وأضواء البيان، ج 2 ص 173.
(3) سورة يوسف الآية 108
(4) انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ج2 ص173.(43/195)
والعالم بما يأمر به أو ينهى عنه: هو المتمكن من التفريق بين أنواع المخالفات ودرجة الإنكار اللازم لحال المخالفة؛ لأن من الأفعال ما هو خفي في الحكم. يقول الشوكاني: (على أن طرف الفخذ قد يتسامح بكشفه في مواطن الحرب ومواقف الخصام) (1) وعند الحنفية حكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ، فلو رأى غيره مكشوف الركبة ينكر عليه برفق، ولا ينازعه إن لج، وفي الفخذ بعنف ولا يضربه إن لج، وفي السوءة يؤدبه على ذلك إن لج (2) .
وعند المالكية: إن الفخذ عورة مخففة يجوز كشفها مع الخواص ولا يجوز مع غيرهم (3) .
قلت: ومثل هذه الأمور لا يدركها إلا فقيه بما يأمر به، أو ينهى عنه.
الشرط الثاني: التحقق من وجود المنكر ومعرفة مكانه.
ويتحقق ذلك عن طريق الرؤية أو العلم به بتحقق وجوده، فمن سمع صوت غناء محرم أو آلات الملاهي وعلم المكان الذي هي فيه فإنه ينكره؛ لأنه قد تحقق وجود المنكر، وعلم موضعه، فهو كمن رآه.
نص على ذلك الإمام أحمد وقال: (أما إذا لم يعلم مكانه فلا شيء. أما التفتيش عما استراب به فلا يحل) ، وكذا تسور الجدران على من علم
__________
(1) انظر نيل الأوطار، ح 2 ص، 70.
(2) انظر المبسوط، ح 10 ص 147، وحاشية ابن عابدين، ج1 ص 409.
(3) انظر حاشية العدوي، ج 2 ص 420.(43/196)
اجتماعهم على منكر، روي ذلك عن بعض الأئمة مثل سفيان الثوري، وهو داخل في التجسس المنهي عنه (1) واستثنى أبو يعلى المنكر الذي به انتهاك حرمة يفوت استدراكها كالزنا والقتل، فله التجسس، والإقدام، والكشف، والبحث إن أخبره ثقة، حذرا من فوات ما لا يستدرك من انتهاك المحارم، وإن كان دون ذلك في الرتبة لم يجز التجسس عليه ولا الكشف عنه (2) .
قال إمام الحرمين: (وليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثر على منكر غيره جهده) (3) .
ويجب التثبت من المخالفة المقتضية للإنكار؛ لأن الأصل حسن الظن بالناس. قال عمر رضي الله عنه (4) : (ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرا، وأن تجد لها في الخير محملا) (5) . وذلك باعتبار أن المخالفة خارجة عن أصل الفطرة الصحيحة، ولأن الأصل حسن الظن بهم لا اتهامهم ما لم يقم دليل على الاتهام.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا} (6) ففي هذه الآية نهي عن الظن السيئ الذي لا يرتقي
__________
(1) انظر جامع العلوم والحكم، ص 284، والأحكام السلطانية للماوردي، ص253.
(2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج 2 ص 26.
(3) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج 2 ص 26.
(4) ذكره ابن كثير في تفسيره، ج 4 ص 212.
(5) انظر الفرق بين النصيحة والتعيير.
(6) سورة الحجرات الآية 12(43/197)
إلى درجة الصدق إنما هو أوهام وشكوك.
يقول ابن كثير: (يقول الله تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل، والأقارب، والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثما محضا فليجتنب منه احتياطا) (1) .
روى الطبراني بإسناده عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ظننتم فلا تحققوا (2) » أي: لا تجعلوا ما قام عندكم من الظن محققا في نفوسكم، محكمين للظن.
ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء، مصونة حقوقهم وحرياتهم واعتبارهم محفوظة كراماتهم حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه.
وجاء النهي عن التجسس؛ لأنه جزء من الظن، وقد يكون حركة ابتدائية لكشف العورات والاطلاع على السوءات والناس لا يؤاخذون إلا. مما يظهر منهم من مخالفات وجرائم (3) .
والحق تبارك وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (4) ففي هذه الآية تأكيد على وضوح مصدر التلقي والابتعاد عن مصادر
__________
(1) انظر تفسير القرآن العظيم، ج 4 ص 212.
(2) أخرجه الديلمي، وهو ضعيف لكن له شواهد، انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير، ج 1 ص 400، وانظر الفتح الكبير للسيوطي، ح 1 ص 131.
(3) انظر تفسير القرآن العظيم، ج 4 ص 212، وفي ظلال القرآن، ج 7 ص 533، 534.
(4) سورة الحجرات الآية 6(43/198)
الأنباء التي تحدث تشويشا في صفاء المعلومات وخللا في وسائل نقلها وفي النتائج المترتبة عليها (1) .
الشرط الثالث: أن يحصل بالإنكار المعروف الذي يحبه الله ورسوله.
فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإن لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله. وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر. وقد «استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: لا، ما أقاموا الصلاة (2) » .
يقول ابن القيم: (ومن تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت ورده على قواعد إبراهيم ومنعه من ذلك- مع قدرته عليه - خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام، وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار
__________
(1) في ظلال القرآن، ج7 ص526، 527.
(2) الحديث أخرجه مسلم عن عوف بن مالك، صحيح مسلم بشرح النووي 12 \ 244.(43/199)
على الأمراء باليد لما يترتب عليه وقوع ما هو أعظم منه) (1) .
قال الشنقيطي: (ويشترط في وجوبه مظنة النفع به، فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب، كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} (2) وقوله صلى الله عليه وسلم عن أبي ثعلبة الخشني: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه؛ فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام فإن من ورائكم أياما الصابر فيها كالقابض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم (3) » وفي لفظ: قيل «يا رسول الله أجر خمسين رجل منا أو منهم؟ قال: "بل أجر خمسين منكم (4) » . فهذه الصفات في الحديث: الشح المطاع، والهوى المتبع. . . إلخ، مظنة لعدم نفع الأمر بالمعروف، فدل الحديث على أنه إن عدمت فائدته سقط وجوبه (5) .
وعلى المنكر أن ينظر للمصالح المترتبة على إنكاره، فإذا كان المنكر الذي يريد إنكاره سيخلفه شر منه فيحرم عليه الإنكار.
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك
__________
(1) انظر كتاب الإمارة باب: وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، صحيح مسلم شرح النووي، ج 12 ص243.
(2) سورة الأعلى الآية 9
(3) سنن الترمذي تفسير القرآن (3058) ، سنن ابن ماجه الفتن (4014) .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهي، عون المعبود ج11 ص494، وابن ماجه في كتاب الفتن باب قوله تعالى: أيها الذين آمنوا عيكم أنفسكم..، سنن ابن ماجه، ج2 ص 1330، والترمذي في كتاب تفسير القرآن سورة المائدة، وقال: (حديث حس غريب) ، الجامع الصحيح، ج 5 ص 257.
(5) أضواء البيان، ج 2 ص 175.(43/200)
عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كالرمي والسباق المشروع، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك؛ لأن ما هم فيه شاغل لهم عن ذلك. روي عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه مر مع بعض أصحابه في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معه، فأنكر عليه وقال له: (إنما حرم الله الخمر؛ لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس، وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم) (1) .
قال في مراقي السعود:
وارتكب الأخف من ضرين ... وخيرن لدى استوى هذين
والعلماء أجمعوا على ارتكاب أخف الضررين (2) .
لهذا يجب على المنكر أن يراعي ارتكاب أخف الضررين عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها؛ لأن الأمر والنهي، وإن كان متضمنا تحصيل مصلحة، ودفع مفسدة إلا أنه ينبغي أن ينظر إلى المعارض له.
فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن
__________
(1) إعلام الموقعين، ج3 ص5.
(2) أضواء البيان، ج 2 ص 175(43/201)
مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.
والمعتبر في تقدير مقادير المصالح والمفاسد هو ميزان الشريعة. فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم وجود ما هو دونه من المنكر، ومن ثم فلا ينه عن هذا المنكر حتى لا يفوت المعروف الأعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات، أما إن كان المعروف أقل والمنكر أغلب، نهي عنه، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف، وإن خالف وأمر بهذا المعروف المستلزم لوجود ما هو زائد عليه من المنكر كان آمرا بمنكر وساعيا في معصية الله ورسوله (1) .
حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنه لا يقبل منه، وصح القبول بوجه وهذا قول أكثر العلماء (2) .
وهو من المعذرة التي أخبر الله تعالى فيها عن الذين أنكروا على المعتدين في السبت أنها قالوا لمن قال لهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (3) (4) . لكن ورد ما يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول والانتفاع به، فعن أبي ثعلبة الخشني أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية:
__________
(1) انظر الحسبة لابن تيمية، ص 122، 123.
(2) انظر جامع العلوم والحكم، ص 283.
(3) سورة الأعراف الآية 164
(4) وانظر جامع العلوم والحكم، ص 283(43/202)
{عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (1) ؟ قال: سألت عنها خبيرا، أما والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام (2) » . والمذهب الصحيح عند المحققين في معنى الآية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، وإذا كان كذلك فمما كلف به المرء هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعل المرء ذلك ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل؛ لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول، وهذا يدل على الوجوب فإن الذكرى تنفع المؤمنين (3) قال ابن رجب: (وهذا كله يحمل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف أو خاف الضرر سقط عنه) (4) .
الشرط الرابع: الرفق في الإنكار.
مما ينبغي للمنكر أن يتصف به الرفق في إنكاره، حيث يتحقق بالرفق ما لا يتحقق بالعنف، والرفق أقرب إلى حصول المطلوب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء
__________
(1) سورة المائدة الآية 105
(2) انظر جامع العلوم والحكم، ص 283
(3) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج2 ص22، 23.
(4) انظر جامع العلوم والحكم، ص 283.(43/203)
إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه (1) » ، وفي رواية عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه (3) » .
ففي هذا ثناء على من اتصف بالرفق والثناء لا يكون إلا على فعل أمر مطلوب، وفيه تصريح بذم العنف، والذم لا يكون إلا على فعل منهي عنه مما يدل على اشتراط الرفق أثناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكان أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون: (مهلا رحمكم الله) .
قال سفيان الثوري: (لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه ثلاث خصال: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى) .
قال أحمد: (الناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجلا مباينا معلنا بالفسق والردى، فيجب عليه نهيه وإعلانه، لأنه يقال ليس لفاسق حرمة فهذا لا حرمة له) ، وقال: (يأمر بالرفق والخضوع فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيكون يريد أن ينتصر لنفسه) (4) .
قال الهيثم بن جميل: (قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله الرجل يكون عالما بالسنة أيجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة فإن قبلت وإلا
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب البر، باب فضل الرفق، صحيح مسلم بشرح النووي 16 \ 146.
(2) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج 2 ص 24، 133.
(3) لمسلم، المرجع السابق. (2)
(4) انظر جامع العلوم والحكم، ص 285، وانظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال، ص 46، 47.(43/204)
سكت) (1) قال الشنقيطي: (فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف فإنها تضر أكثر مما تنفع فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسنادا مطلقا، إلا لمن جمع بين العلم والحكمة والصبر على أذى الناس؛ لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل وأتباعهم، وهو مستلزم للأذى من الناس؛ لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة، وأغراضهم الباطلة، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (2) (3) .
يقول الحق تبارك وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (4) .
فهذه الآية تضمنت النهي عن الفظاظة وهي الشراسة، والخشونة في المعاشرة، وهي القسوة والغلظة، وهما من الأفعال المنفرة للناس لا يصبرون على معاشرة صاحبها وإن كثرت فضائله، ورجيت فواضله، بل يتفرقون ويذهبون من حوله ومن ثم تفوت هدايتهم ولا تبلغ قلوبهم الدعوة.
واللين في المخاطبة والصبر والتجلد وعدم التشدد في العتب والتوبيخ يوصل إلى الاهتداء في كتاب الله (5) .
وإن شعر المنكر عليه بغلظة في القول أو زجر في الحديث فقد يتأثر
__________
(1) انظر جامع بيان العلم وفضله، ص 363.
(2) سورة لقمان الآية 17
(3) انظر أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، ج 2 ص 174.
(4) سورة آل عمران الآية 159
(5) تفسير المنار، ج4 ص 198، 199.(43/205)
وينفعل؛ لأن النفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها وقد لا تنقاد إلا بالرفق حتى لا تشعر بالهزيمة، وهذا الأسلوب يجعل لرأي القائم بالإنكار قوته وعلوه فتلين له الكبرياء هيبة واحتراما وثقة، فالجدل بالحسنى يطامن هذه الكبرياء الحساسة ويشعر المنكر عليه أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة وأن لا قصد من الإنكار إلا كشف الحقيقة والاهتداء إليها، وليس القصد إثبات الذات، أو نصرة الرأي، وهزيمة الرأي الآخر (1) .
قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقول الدعاة في الدعوة إلى الله من أحسن الأقوال، يقول سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) والرفق حبب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، روي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا (4) » .
ففي هذا دلالة على ترك التشديد على المخالف والبدء معه بالملاطفة والتدرج في بيان المخالفة، وما ينبغي له عمله إزاء ذلك (5) .
الشرط الخامس: معرفة البيئة الاجتماعية والعادات والتقاليد المتوارثة.
__________
(1) انظر في ظلال القرآن، ج5 ص292.
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا، فتح الباري، ج1 ص163.
(5) انظر فتح الباري، ج1 ص163.(43/206)
ولكي يحقق الإنكار ثمرته ينبغي للقائم بالإنكار أن يراعي البيئة والعادات سواء من حيث معرفة مقدار الالتزام بأحكام الإسلام، أو معرفة نوع المخاطب وما يناسبه من أنواع الخطاب، وهل المخالفة شائعة بين الناس، أو بين فئة أو فئات معينة، وهل لمجاهر بها أو لا يجاهر، وهل فعل المنكر باستمرار أو في أوقات معينة، وهكذا؟
إن من مقتضى معرفة ذلك حسن التصرف في التعامل مع المنكر عليه حيث يجب إنزال الناس منازلهم، فنصيحة الأمي غير نصيحة المتعلم، والحاكم غير نصيحة المحكوم، والمعاند غير خالي الذهن، وما يلزم ذكره للمجاهر يختلف عن غير المجاهر، ومن يتكرر منه الفعل غير من فعل المنكر مرة واحدة أو مرات محدودة.
والتعامل مع المرتكبين للمنكرات الشائعة بين الناس يختلف عن التعامل مع مخالف ارتكب مخالفة غير شائعة. يقول ابن تيمية: (ولا بد من العلم بحال المأمور والمنهي) (1) فإن العلم بحاله يجعلك تستكشف كافة أفعاله والخبير بالشيء يسهل عليه فهمه، ويتمكن من كشف أمره، وإصلاح حاله فهو إذن بها خبير، وبإدراك شأنها بصير، وهو فيما يقدره من إنكار يكون به حكيما.
__________
(1) انظر الحسبة لابن تيمية، ص 133.(43/207)
الفصل الرابع: في طرائق الإنكار
القائم بالإنكار أشبه ما يكون بالطبيب يختار من العلاج ما يناسب حال المريض فيصف من الدواء ما كان أقل ضررا وأكثر نفعا. وكما لا ينبغي للطبيب أن يختار من الأدوية ما يضر الجسم وإن كانت تساعد على الشفاء مع وجود دواء يحصل به الشفاء وهو لا يضر، فكذا الذي يقوم بإنكار المنكر لا يحل له أن يستعمل يده إن كان ما دونه في الرتبة يحقق ذلك، ولا ينهر إذا كان اللين أجدى وهكذا.
ولهذا فإن طرائق الإنكار هي؟(43/208)
أولا النصيحة أولا: النصيحة.
الإنكار بالحكمة، وحسن الأسلوب، واللطافة مع إيضاح الحق هو ما تقتضيه أصول الدعوة إلى سبيل الله، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (1) .
وذكر النووي: أن المختلف فيه لا إنكار فيه. . . لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر) . (2) .
قال الشافعي: (من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح، ج 1 ص 191.(43/208)
علانية فقد فضحه وشانه) (1) .
والقائم بالإنكار ينبغي أن يراعي حال المنصوحين وظروفهم، وتوقع الأوقات المناسبة لقبولهم النصيحة؛ لتسري إلى القلوب برفق، وتتعمق إلى المشاعر بلطف لتجد مكانا تستقر فيه. ومن دواعي القبول ألا يسعى القائم بالإنكار إلى إظهار أخطاء المنصوح؟ لأنها قد تقع منه عن جهل، أو حسن نية وهذا يقتضي عدم التحامل على المخالف، أو ترذيله، أو تقبيحه.
والقائم بالإنكار يستحسن له أن يعرف بنفسه ويظهر منزلته التي تؤهله للنصح، فيوسف عليه السلام قبل أن ينصح صاحبيه في السجن أخبر عن نفسه؛ لأنهما يجهلان حاله، قال سبحانه حكاية عنه: قال {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (2) {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} (3) .
بعد هذا التعريف قام بنصحهما قبل أن يقضي حاجتهما، وهكذا يكون القائم بالإنكار مدركا لواجبه أثناء أداء حياته اليومية حتى وإن كان داخل السجن.
__________
(1) انظر المجموع، ج 1 ص 31، وصحيح مسلم بشرح النووي، ج 2 ص 24.
(2) سورة يوسف الآية 37
(3) سورة يوسف الآية 38(43/209)
ومما يستحسن فعله قبل البدء بالنصح إشعار المنكر عليه بأن ما فعله من منكر لا يخرجه عن المسلمين، وأن هذا نوع تقصير وكلنا مقصرون، لكن منا المكثر، ومنا المقل، ومنا المتوسط، وأن الجميع جند للإسلام يدافعون عن حماه، ويذودون عن حوزته، سواء من كان منهم يسبل لثيابه، أو يقصر لها، أو يرسل لحيته، أو يحلقها أو يخفف منها، وأن الكل أمة واحدة، غير أن هذا الإخلال بالواجب عند المخالف يحتاج لمراجعة ليتحقق الكمال الواجب في هذه الأمة، وأننا كأمة يجب أن نلتقي في دوحة واحدة لا يختلف عليها فالكل يحب الخير وأهله، سواء من كان منكرا للمخالفات أو مرتكبا لها.
وعند البدء في الحديث معه يستحسن تكنيته ليصغي إليه؛ لأن لهذا أثره في الاستجابة.
روى البيهقي بسنده (1) «في قصة ذهاب عتبة بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان سيدا حليما في قومه وفيه: فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت. . . حتى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال " فقال له رسول الله: "يا أبا الوليد أسمع ". . . حتى إذا فرغ عتبة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أفرغت يا أبا الوليد " قال: نعم، قال: "اسمع مني "، قال: أفعل، فتلا عليه من أول سورة فصلت إلى السجدة فسجدها ثم قال: "سمعت يا أبا الوليد "، قال: سمعت، قال:
__________
(1) انظر دلائل النبوة للبيهقي، ج 2 ص 204، الطبعة الأولى سنة 1405 هـ.(43/210)
"فأنت وذاك"، ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به» . (1) .
والنبي صلى الله عليه وسلم لقي أسقف نجران فقال: «يا أبا الحارث أسلم» . وعن يحيى بن أبي كثير، قال الفرافصة - وهو نصراني- لعمر: (يا أمير المؤمنين إنكم تأكلون ذبيحة لا نأكلها، قال: وما ذاك يا أبا حسان، فذكر الحديث) . (2) .
قال ابن هانئ: (رأوا أبا عبد الله كنى نصرانيا طبيبا فقال: يا أبا إسحاق) . (3) وإذا كان هذا مع غير المسلمين فإن المخالف من المسلمين أولى بهذا الاحترام وأحظى بالتقدير.
ومن مظاهر الاحترام البشاشة والطلاقة في الوجه أثناء الإنكار؛ لأن مثل هذا يهدئ المنكر عليه ويريح نفسه، فيحس بمحبة القائم بالإنكار له، وأنه بمنزلة المحبوب من أخ وصديق.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق (4) » .
ففي هذا دلالة على أن طلاقة الوجه من المعروف الذي يثاب عليه
__________
(1) البداية والنهاية، ح 3 ص 61.
(2) انظر مسائل الإمام أحمد، ج 2 ص 180.
(3) انظر مسائل الإمام أحمد، ج 2 ص 180.
(4) أخرجه مسلم في كتاب البر والآداب، باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء، صحيح مسلم بشرح النووي، ج16 ص 177.(43/211)
الإنسان لأخيه الإنسان، والأجر سيضاعف إن حقق هذا الفعل تجنيب إنسان فعل مخالفة ارتكبها.
والنصح كان هو نهج الأئمة الكبار فيما بينهم، وفيما يلي أورد رسالة الإمام مالك إلى الليث بن سعد، وجواب الليث له لنعرف أدب العلماء عند المناصحة:
من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد: (سلام الله عليك. فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو أما بعد:
عصمنا الله وإياك بطاعته في السر والعلانية، وعافانا وإياك من كل مكروه، اعلم، رحمك الله، أنه بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا، وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك، وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاءهم منك، حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإن الله تعالى يقول في كتابه العزيز: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} (2) {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) .
فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن،
__________
(1) سورة التوبة الآية 100
(2) سورة الزمر الآية 17
(3) سورة الزمر الآية 18(43/212)
وأحل الحلال، وحرم الحرام، إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيطيعونه، ويسن لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله، واختار له ما عنده صلوات الله عليه ورحمته وبركاته. ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته، ممن ولي الأمر من بعده، فما نزل بهم مما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم، وحداثة عهدهم، وإن خالفهم، مخالف أو قال امرؤ: غيره أقوى منه وأولى، ترك قوله وعمل بغيره.
ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبيل، ويتبعون تلك السنن، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهرا معمولا به، لم أر لأحد خلافه؛ للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهذا الذي مضى عليه من مضى منا، لم يكونوا من ذلك على ثقة، ولم يكن لهم من ذلك الذي جاز لهم. فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك، واعلم أني أرجو أن لا يكون دعاني إلى ما كتبت به إليك إلا النصيحة لله تعالى وحده، والنظر لك، والظن بك، فأنزل كتابي منك منزلته، فإنك إن فعلت تعلم أني لم آلك نصحا، وفقنا الله وإياك لطاعته، وطاعة رسوله في كل أمر، وعلى كل حال، والسلام عليكم ورحمة الله) .
وكتب يوم الأحد لتسع مضين من صفر (1) .
__________
(1) انظر ترتيب المدارك، ج 1 ص 64.(43/213)
وأجاب الليث بما يلي:
(سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:
عافانا الله وإياك، وأحسن لنا العاقبة في الدنيا والآخرة. قد بلغني كتابك تذكر فيه من صلاح حالكم الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على شكره والزيادة من إحسانه، وذكرت نظرك في الكتب التي بعثت بها إليك، وإقامتك إياها، وختمك عليها بخاتمك، وقد أتتنا فجزاك الله عما قدمت منها خيرا، فإنها كتب انتهت إلينا عنك، فأحببت أن أبلغ حقيقتها بنظرك فيها.
وذكرت أنه قد أنشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، ورجوت أن يكون لها عندي موضع، وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلا إلا لأني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأني يحق علي الخوف على نفسي، لاعتماد من قبلي على ما أفتيتهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن.
وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك إن شاء الله تعالى، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحدا ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني، والحمد لله رب العالمين لا شريك له.
وأما ما ذكرت من مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ونزول القرآن بها(43/214)
عليه بين ظهري أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا به تبعا لهم فيه فكما ذكرت.
وأما ما ذكرت من قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) فإن كثيرا من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، فجندوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس، فأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة نبيه، ولم يكتموهم شيئا علموه، وكان في كل جند منهم طائفة يعلمون كتاب الله وسنة نبيه ويجتهدون برأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، وتقدمهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين والحذر من الاختلاف بكتاب الله وسنة نبيه، فلم يتركوا أمرا فرضه القرآن أو عمل به النبي صلى الله عليه وسلم أو ائتمروا فيه بعده إلا علموهموه، فإذا جاء أمر عمل فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره.
فلا نراه يجوز لأجناد المسلمين أن يحدثوا اليوم أمرا لم يعمل به
__________
(1) سورة التوبة الآية 100(43/215)
سلفهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم، مع أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا بعد في الفتيا في أشياء كثيرة، ولولا أني قد عرفت أن قد علمتها كتبت بها إليك.
ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعيد بن المسيب ونظراؤه، أشد الاختلاف.
ثم اختلف الذين كانوا بعدهم، فحضرتهم بالمدينة وغيرها، ورأسهم يومئذ ابن شهاب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وكان من خلاف ربيعة لبعض ما قد مضى ما قد عرفت وحضرت، وحمدت قولك فيه، وقول ذوي الرأي من أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وكثير بن فرقد، وغير كثير ممن هو أسن منه حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه.
وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه بأحسن من عمله.
وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه بعضنا فربما كتب إليه في الشيء الواحد- على فضل رأيه وعلمه- بثلاثة أنواع ينقض بعضها بعضا، ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك، فهذا(43/216)
الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه.
وقد عرفت أيضا عيب إنكاري إياه أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه إلا الله لم يجمع منهم إمام قط في ليلة مطر، وفيهم أبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وقد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل (1) » ، وقال: «يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة (2) » وشرحبيل بن حسنة، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح.
وكان أبو ذر بمصر، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وبحمص سبعون من أهل بدر، وبأجناد المسلمين كلها، وبالعراق ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمران بن حصين، ونزلها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه في الجنة- سنين، وكان معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط.
ومن ذلك القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق، وقد عرفت أنه لم يزل يقضى بالمدينة به، ولم يقض به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشام وبحمص ولا بمصر ولا بالعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.
ثم ولي عمر بن عبد العزيز، وكان كما قد علمت في إحياء السنن،
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3790) ، سنن ابن ماجه المقدمة (155) ، مسند أحمد بن حنبل (3/281) .
(2) الرتوة: الخطوة(43/217)
والجد في إقامة الدين، والإصابة في الرأي، والعلم. مما مضى من أمر الناس، فكتب إليه رزيق بن الحكم: إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد، ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك؛ فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين، أو رجل وامرأتين، ولم يجمع بين العشاء والمغرب قط ليلة المطر، والمطر يسكب عليه في منزله الذي كان فيه بخناصرة ساكنا.
ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء أنها متى شاءت أن تتكلم في مؤخر صداقها تكلمت فدفع إليها، وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك وأهل الشام وأهل مصر، ولم يقض أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا من بعدهم- لامرأة بصداقها المؤخر، إلا أن يفرق بينهما موت، أو طلاق فتقوم على حقها.
ومن ذلك قولهم في الإيلاء: إنه لا يكون عليه طلاب حتى يوقفه، وإن مرت أربعة الأشهر، وقد حدثني نافع عن عبد الله بن عمر - وهو الذي كان يروى عنه ذلك التوقيف بعد الأشهر- أنه كان يقول في الإيلاء الذي ذكر الله في كتابه: لا يحل للمولي إذا بلغ الأجل إلا أن يفيء كما أمر الله، أو يعزم الطلاق، وأنتم تقولون: إن لبث بعد أربعة الأشهر التي سمى الله في كتابه ولم يوقف، لم يكن عليه طلاق.
وقد بلغنا أن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وقبيصة بن ذؤيب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قالوا في الإيلاء: إذا مضت أربعة(43/218)
الأشهر فهي تطليقة بائنة. وقال سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وابن شهاب: إذا مضت أربعة الأشهر فهي تطليقة، وله الرجعة في العدة.
ومن ذلك أن زيد بن ثابت كان يقول: إذا ملك الرجل امرأته فاختارت زوجها فهي تطليقة، وإن طلقت نفسها ثلاثا فهي تطليقة، وقضى بذلك عبد الملك بن مروان، وكان ربيعة بن عبد الرحمن يقوله، وقد كاد الناس يجتمعون على أنها إن اختارت زوجها لم يكن فيه طلاق، وإن اختارت نفسها واحدة أو اثنتين كانت له عليها الرجعة، وإن طلقت نفسها ثلاثا بانت منه ولم تحل له حتى تنكح زوجا غيره فيدخل بها ثم يموت أو يطلقها، إلا أن يرد عليها في مجلسه فيقول: إنما ملكتك واحدة، فيستحلف ويخلى بينه وبين امرأته.
ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود كان يقول: أيما رجل تزوج أمة، ثم اشتراها زوجها، فاشتراؤه إياها ثلاث تطليقات، وكان ربيعة يقول ذلك، وإن تزوجت المرأة الحرة عبدا فاشترته فمثل ذلك.
وقد بلغنا عنكم شيئا في الفتيا مستكرها، وقد كنت كتبت إليك في بعضها فلم تجبني في كتابي، فتخوفت أن تكون استثقلت ذلك، فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكره، وفيما أوردت فيه على رأيك، وذلك أنه بلغني أنك أمرت زفر بن عاصم الهلالي - حين أراد أن يستسقي- أن يقدم الصلاة قبل الخطبة، فأعظمت ذلك؛ لأن الخطبة والاستسقاء كهيئة(43/219)
يوم الجمعة إلا أن الإمام إذا دنا من فراغه من الخطبة فدعا حول رداءه ثم نزل فصلى. وقد استسقى عمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهما، فكلهم يقدم الخطبة والدعاء قبل الصلاة، فاستهتر الناس كلهم فعل زفر بن عاصم من ذلك واستنكروه. ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول في الخليطين في المال أنه لا تجب عليهما الصدقة حتى يكون لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة، وفي كتاب عمر بن الخطاب أنه يجب عليهما الصدقة ويترادان بالسوية، وقد كان ذلك يعمل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قبلكم وغيره، والذي حدثنا به يحيى بن سعيد ولم يكن بدون أفاضل العلماء في زمانه، فرحمه الله، وغفر له، وجعل الجنة مصيره.
ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول: إذا أفلس الرجل وقد باعه رجل سلعة فتقاضى طائفة من ثمنها أو أنفق المشتري طائفة منها، أنه يأخذ ما وجد من متاعه، وكان الناس على أن البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئا، أو أنفق المشتري منها شيئا فليست بعينها.
ومن ذلك أنك تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط الزبير بن العوام إلا لفرس واحد، والناس كلهم يحدثون أنه أعطاه أربعة أسهم لفرسين ومنعه الفرس الثالث، والأمة كلهم على هذا الحديث: أهل الشام، وأهل مصر، وأهل العراق، وأهل إفريقية، لا يختلف فيه اثنان؛ فلم يكن ينبغي لك- وإن كنت(43/220)
سمعته من رجل مرضي- أن تخالف الأمة أجمعين.
وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذا، وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك؛ لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضيعة إذا ذهب مثلك، مع استئناسي بمكانك، وإن نأت الدار؛ فهذه منزلتك عندي ورأي فيك فاستيقنه، ولا تترك الكتاب إلي بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك وحاجة إن كانت لك أو لأحد يوصل بك، فإني أسر بذلك، كتبت إليك ونحن صالحون معافون والحمد لله، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا وتمام ما أنعم به علينا. والسلام عليكم ورحمة الله (1) .
ففي هاتين الرسالتين الأدب الجم في حسن التخاطب، وفيهما دراية ورعاية لفقه التعامل مع المخالف. وهاتان الرسالتان تمثلان بحق لونا رفيعا من أدب التخاطب والتحاور بالحجج العلمية دون تعريض أو تجريح بعضهما ببعض أو بالآخرين. انظر إلى قول الليث بن سعد في ربيعة شيخ الإمام مالك: (وذاكرت أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، (2) فكنتما من الموافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكرهه، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة لإخوانه عامة ولنا خاصة، رحمه الله وغفر له وجزاه
__________
(1) إعلام الموقعين، ج3 ص 83- 88.
(2) لأنه صار يأخذ بمنهج مدرسة أهل الرأي في بعض المسائل.(43/221)
بأحسن من عمله) .
فأين هذا من الإنكار في عصرنا الحاضر على العلماء الذين خالفوا منكريهم وقد يكون الحق معهم، أو أنهم لم يعارضوا بقولهم دليلا ولا إجماعا ولا قاعدة شرعية.
وأين هذا مما يشتهر في عصرنا هذا في سرعة تجهيل الآخرين بغير وجه حق مما لا تقتضيه أصوله الدعوة مع عامة الناس فضلا عن العلماء.(43/222)
ثانيا: التأديب
الأصل فيه ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (3) » .
قال القاضي عياض رحمه الله: (هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولا كان أو فعلا، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر من يفعله، وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه، أو بأمره إذا أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل، وبذي العزة الظالم المخوف شره إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله. كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى، ويغلظ على المتمادي في غيه، والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكرا أشد مما غيره، لكون جانبه محميا عن سطوة الظالم، فإن غلب على
__________
(1) سبق تخريجه في الفصل الثاني في أصل مشروعيته، رقم 6.
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .
(3) انظر جامع العلوم والحكم ص 280 (2)(43/222)
ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرا أشد منه: من قتله أو قتل غيره بسبب كف يده اقتصر على القول "باللسان، والوعظ، والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة) (1) .
قال ابن مفلح: (وأعلاه باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب) .
قال المروذي: (قلت لأبي عبد الله: كيف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: باليد، واللسان، وبالقلب وهو أضعف. قلت: كيف باليد؟ قال: يفرق بينهم، ورأيت أبا عبد الله مر على صبيان الكتاب يقتتلون ففرق بينهم، وقال في رواية صالح: (التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح) .
قال القاضي: (وظاهر هذا يقتضي جواز الإنكار باليد إذا لم يفض إلى القتل والقتال) (2) قال أبو داود: (سمعت أحمد سئل عن رجل مر بقوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا فأخذ الشطرنج فرمى به. فقال قد أحسن) . وقال في رواية أبي طالب فيمن يمر بالقوم يلعبون بالشطرنج: (يقلبها عليهم إلا أن يغطوها أو يسهتروها) (3) .
ولا ينكر بسيف إلا ذو سلطان. وقال ابن الجوزي: (يضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه إشهار سلاح أو سيف يجوز للآحاد بشرط الضرورة، والاقتصار على قدر الحاجة، فإن احتاج إلى أعوان يشهرون السلاح؛ لكونه لا يقدر على الإنكار بنفسه، فالصحيح أن ذلك يحتاج إلى
__________
(1) انظر شرح النووي على صحيح مسلم، ج 2 ص 25.
(2) الآداب الشرعية، ج1 ص 161، 162.
(3) الآداب الشرعية، ج 1 ص 167.(43/223)
إذن الإمام؛ لأنه يؤدي إلى الفتن وهيجان الفساد) (1) .
قال القرطبي: (ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان إذا كانت إقامة الحدود إليه، والتعزير إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلا صالحا قويا عالما أمينا ويأمره بذلك) (2) . وقال: (قال العلماء: الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء يعني عوام الناس. فالمنكر إذا أمكنت إزالته باللسان للناهي فليفعله، وإن لم يمكنه إلا بالعقوبة أو القتل فليفعل، فإن زال بدون القتل لم يجز القتل) (3) .
قلت: الذي أراه والله أعلم أنه لا يحل لآحاد الناس إزالة المنكرات باليد، بل إن ذلك من اختصاص ولاة الأمر على أن يقوم ولي الأمر بأمر الحسبة سواء بنفسه أو بمن ينيبه من جهات تعتني بهذا الأمر.
ولهذا لا يحل للمسلم أن يتطاول على الناس بيده وولي الأمر قائم بذلك لو رفع الأمر إليه أو علمه.
ولا ينبغي الإسراع في رفع الأمر إلى السلطان؛ لأن الأمر قد يحتاج إلى الستر في البداية، روي عن هزال رضي الله عنه أن ماعز بن مالك كان في حجره قال: فلما فجر قال له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: «ويلك يا هزال، أما لو كنت سترته بثوبك لكان خيرا
__________
(1) الآداب الشرعية، ج 1 ص174.
(2) الجامع لأحكام القرآن، ج4 ص47.
(3) المرجع السابق ج 4 ص 49.(43/224)
مما صنعت، (1) » ، فالخيرية لا تكون إلا في أمر مطلوب مما يدل على طلب الستر إلا أن يجاهر المرء بالزنا أو تصل الحال إلى إشاعته والتهتك به (2) وكره الإمام أحمد الرفع إلى السلطان ورغب في الوعظ (3) وقال: أما السلطان فما أرى ذلك (4) . . . لكن إن لم يرتدع إلا بالسلطان وجب رفعه. والنهي عن إزالة المنكرات باليد لآحاد الناس؛ لأنها تحدث من الفتن أكثر مما يرجى من تلك الإزالة، والرفع إلى السلطان إن عجز عن الوعظ مبرئ به ذمته ومن ثم تعلق الإثم بالوالي ولزمه إزالته.
لكن إذا تعلق المنكر بنصرة مظلوم يؤذى في ماله، أو بدنه، أو عرضه ونحو ذلك مما يفوت التأخير حق النصرة وجبت المبادرة في الإنكار، ونصرة المظلوم إن قدر على ذلك، وإن لم يقدر بنفسه سعى لإخبار الناس أو الأجناد.
أما إذا كانت المنكرات شائعة في مجتمع من المجتمعات ولدى ولاة الأمر تقصير في هذا الجانب، أو عدم مبالاة في ذلك، فإن كان الإنكار باليد لا يحقق إزالتها، بل سيحدث فتنة وهرجا فما عليه إلا السعي بالنصيحة والحجج العلمية ببيان تحريمها وآثارها على الفرد والمجتمع ويحث الناس على تركها وهجرها، والوسائل لتحقيق ذلك كثيرة ومنها: اللقاءات الفردية أو المراسلة أو الندوات أو من خلال المقالات أو المطبوعات أو
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده، ج 5 ص 217.
(2) انظر شرح فتح القدير، ج 8 ص 463، وبلغة السالك ج 2 ص 358.
(3) انظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ص 36، 53، 54.
(4) المرجع السابق، ص 53.(43/225)
الأشرطة أو الهاتف، وإذا كانت الإزالة مرجوة وستحقق الغرض دون إثارة فتنة أو فساد وقتل فلا بأس بإزالتها، وإن حصل للقائم بذلك شيء من الأذى بنفسه، حكي عن ابن العربي أن من رجا زواله وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الخطر وإن لم يرج زواله فأي فائدة عنده.
قال: (والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيفما كان ولا يبالي يدل عليه قوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} (1) ففي هذه الآية إشارة إلى الأذية) (2) .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية: (يقتضي حضا على تغيير المنكر وإن نالك ضرر، فهو إشعار بأن المغير يؤذى أحيانا، وهذا القدر على جهة الندب والقوة في ذات الله، وأما على اللزوم فلا) (3) .
وعن حذيفة مرفوعا: «لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه "، قيل: كيف يذل نفسه؟ قال: "يتعرض من البلاء لما لا يطيق (4) » ، وقيل: إن زاد وجب الكف، وإن تساويا سقط الإنكار.
قال ابن الجوزي: (فأما النسب والشتم فليس بعذر في السكوت؛ لأن الآمر بالمعروف يلقى ذلك في الغالب) .
__________
(1) سورة لقمان الآية 17
(2) الجامع لأحكام القرآن، ج4 ص 48.
(3) الجامع لأحكام القرآن، ج14 ص 68.
(4) أخرجه أحمد في مسنده، ج 5 ص 405، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب قول الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم سنن أبن ماجه، ج 2 ص 1331، حديث رقم 4016، والترمذي في كتاب الفتن، باب 67 حديث رقم 2254 وقال: (حسن غريب) ، الجامع الصحيح ج 4 ص 522.(43/226)
قال الشيخ تقي الدين: (الصبر على أذى الخلق عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم يستعمل لزم أحد أمرين: إما تعطيل الأمر والنهي وإما حصول فتنة ومفسدة أعظم من مفسدة ترك الأمر والنهي أو مثلها أو قريب منها وكلاهما معصية وفساد) (1)
__________
(1) الآداب الشرعية، ج 1 ص 156.(43/227)
صفحة فارغة(43/228)
أولويات الدعوة في منهج الأنبياء عليهم السلام
د. زيد بن عبد الكريم الزيد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد:
فبين يدي هذا البحث عن: (أولويات الدعوة في منهج الأنبياء عليهم السلام) أقدم بالنقاط التالية:
ذ1- أن دعوة الأنبياء دعوة واحدة، من لدن آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد (1) »
2 - أن هذه الوحدة بين الأنبياء عليهم السلام لم تأت عبثا، بل هي وحدة تستدعي من الدعاة الاقتداء والتأسي بها فيما بينهم، درءا للفرقة والخلاف، قال تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (2) .
__________
(1) صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري، جـ6 ص 478 حديث رقم 3443.
(2) سورة الأنبياء الآية 92(43/229)
3 - أن الخلط بين ما يجوز فيه الاجتهاد، وما لا يجوز فيه الاجتهاد في أولويات الدعوة، أدى إلى الخلاف والشقاق بين الدعاة، وهو ما نرى أثره في تفرق الأمة إلى أحزاب، وفرق، وانتماءات، وولاءات، سببها - في غالب الأحيان- الخلاف حول أولويات الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
4 - أن المنهج الذي تلتقي عليه. الأمة، لتكون حقا (أمة واحدة) هو منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الذين كانوا يتلقون هذا المنهج بوحي من الله سبحانه، لا باجتهاد بشري. ولذلك أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (1) وقال عن محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (2) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3)
ولكي نقرر في هذا المبحث نتيجة دعوية، تكون ذات قبول من الجميع، فإننا لن نتجاوز نصوص القرآن الكريم التي روت لنا دعوة الأنبياء عليهم السلام، وبعض الأحاديث الصحيحة الثابتة عن دعوته صلى الله عليه وسلم. وبخاصة وأن القضية ذات أساس مكين في الدعوة، تمس أولوياتها وتنسب إلى الأنبياء عليهم السلام، داعين الإخوة الدعاة في كل مكان إلى هذه الأولويات، لتكون جزءا رئيسا في منهج الدعوة، الذي لا يتأثر بالزمان ولا بالمكان.
مدخل:
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 90
(2) سورة النجم الآية 3
(3) سورة النجم الآية 4
(4) سورة الذاريات الآية 56(43/230)
فتحقيق العبودية لله سبحانه، هي الغاية من خلق الجن والإنس، وللدلالة على طريق هذه العبودية: بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1)
وجاء التركيز على هذه العبودية، لتحرير الإنسان من الارتباط بالشهوات، والأهواء والآراء، التي تجر صاحبها إلى قيود العبودية البشرية، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (2) وإن الحرية الحقيقية هي في العبودية لله سبحانه وتعالى، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (الحرية: حرية القلب، والعبودية: عبودية القلب) (3) .، ويقول: (إنما دين الحق: تحقيق العبودية لله، بكل وجه، وهو تحقيق محبة الله بكل درجة، وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه ومحبة الرب لعبده، وبقدر نقص هذا، يكون نقص هذا) (4) .
فالمهم هو: تحرير هذا القلب لربه، فلا يصرف أي شيء من العبادة لغير الله، وإذا استقام القلب استقامت الجوارح: «ألا وإن في الجسد
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 25
(2) سورة الجاثية الآية 23
(3) ابن تيمية، فتاوى شيخ الإسلام، جـ 10 ص 186
(4) ابن تيمية، العبودية، ص 41.(43/231)
مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب (1) » .
ولن تجتمع قلوب هذه الأمة إلا على التوحيد، وإذا اختل التوحيد فكل له معبود، وكل له هدف، وعندها تتعدد الأودية والشعاب، وكل سيسلك واديا يهلك فيه، إلا من عصم الله بالبقاء على التوحيد.
ولن تستقر النفوس إلا بالتوحيد: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (2) ، ويقول تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (3) هذا في الدنيا، أما في الآخرة فكل الذنوب وعد الله سبحانه وتعالى، بمغفرتها، إلا الشرك، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (4) .
يقول ابن قيم الجوزية، في (مدارج السالكين) : (وكلما كان توحيد العبد أعظم كانت مغفرة الله له أتم، فمن لقيه لا يشرك به شيئا ألبتة؛ غفر له ذنوبه كلها، كائنة ما كانت، ولم يعذب بها) (5) .
ويقول أيضا رحمه الله تعالى في زاد المعاد: (ولما كان المشرك خبيث
__________
(1) صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري، جـ ص 126 حديث رقم 52.
(2) سورة الرعد الآية 28
(3) سورة الزمر الآية 29
(4) سورة النساء الآية 48
(5) عبد المنعم العزي، تهذيب مدارج السالكين لابن قيم الجوزية، ص 186.(43/232)
العنصر خبيث الذات؛ لم تطهر النار خبثه، بل لو خرج منها لعاد خبيثا كما كان، كالكلب إذا دخل البحر، ثم خرج منه، فلذلك حرم الله تعالى على المشرك الجنة) (1) . .
هذا هو التوحيد؛ يجمع القلوب، ويحرر الإنسان في الدنيا، وصاحبه لديه وعد من الله بالغفران، مهما كانت ذنوبه؟ متى نجا من تلويث الشرك وأدرانه.
لذلك لم يكن غريبا أن يكون للتوحيد مكانة خاصة، مميزة في منهج دعوة الأنبياء عليهم السلام، اتفقوا عليها في كل دعواتهم، رغم تباعد العصور والأمكنة، وهو ما سنوضحه في الفقرة التالية.
أولويات الدعوة في منهج الأنبياء عليهم السلام
لمعرفة أولويات الدعوة في منهج الأنبياء عليهم السلام؛ لا بد من الرجوع إلى تاريخ دعواتهم عليهم السلام، بماذا بدأ كل منهم، وبماذا ثنى في قضاياه مع أمته التي بعث إليها، وأوثق مرجع وأصدقه هو القرآن الكريم، مع ما يبينه من السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد تحدث القرآن الكريم في مواضع منه عن دعوات الأنبياء، منها ما جاء مجملا، ومنها ما جاء مفصلا، ولذلك سنتحدث في هذا الموضوع وفق الفقرتين التاليتين:
أولا: النصوص الإجمالية من القرآن الكريم، عن دعوة الأنبياء إلى
__________
(1) ابن قيم الجوربة، زاد المعاد في هدي خبر العباد، جـ1 ص 68(43/233)
الله سبحانه وتعالى.
ثانيا: النصوص التفصيلية من القرآن الكريم، عن بعض الأنبياء في دعوتهم إلى الله سبحانه وتعالى.(43/234)
أولا: النصوص الإجمالية من القرآن الكريم:
1 - يقول تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) أي: (ولقد بعثنا أيها الناس، في كل أمة سلفت قبلكم رسولا، كما بعثنا فيكم بأن اعبدوا الله وحده لا شريك له، وأفردوا له بالطاعة، وأخلصوا له العبادة) (2) . و (ما من أمة متقدمة، أو متأخرة، إلا وبعث الله فيها رسولا، وكلهم متفقون على دعوة واحدة، ودين واحد؛ وهو عبادة الله وحده لا شريك له) (3) ، وهذا فيه تقرير منهج شامل لجميع الأنبياء عليهم السلام، يسعهم ويسع الدعاة من بعدهم.
2 - يقول سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (4) .
(فكل الرسل الذين من قبلك مع كتبهم، زبدة رسالتهم وأصلها: الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وبيان أنه الإله الحق المعبود، وأن عبادة
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) الطبري، جامع البيان في تأويل آي القرآن، جـ14 ص 103.
(3) السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، جـ 2 ص 59
(4) سورة الأنبياء الآية 25(43/234)
ما سواه باطله) (1) .
روي عن قتادة رحمه الله تعالى قال: (أرسلت الرسل بالإخلاص والتوحيد، لا يقبل منهم عمل حتى يقولوه ويقروا به) (2) ، فهو الخطوة الأولى، الذي لا يصح تجاوزه إلى غيره، ما دام لا يقبل منهم عمل؛ حتى يتم تقريره والإقرار به.
__________
(1) السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، جـ2 ص 59
(2) انظر، الطبري، جامع البيان، جـ 17 ص 15.(43/235)
ثانيا: النصوص التفصيلية من القرآن الكريم عن دعوة بعض الأنبياء:
يقول الله سبحانه وتعالى عن دعوة نوح عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) وقال سبحانه وتعالى عن دعوة هود عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (2) وقال تعالى عن دعوة صالح عليه السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (3) وقال تعالى عن دعوة إبراهيم عليه السلام: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (5) وقال
__________
(1) سورة الأعراف الآية 59
(2) سورة الأعراف الآية 65
(3) سورة الأعراف الآية 73
(4) سورة العنكبوت الآية 16
(5) سورة العنكبوت الآية 17(43/235)
تعالى عن دعوة شعيب عليه السلام: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) وقال سبحانه وتعالى عن دعوة عيسى عليه السلام: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2) وقال عن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (3) عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (4) إلى قوله تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} (5) .
هذه دعوة الأنبياء، كل منهم يواجه قومه بالدعوة إلى التوحيد، فما بعث نبي إلا وبدأ مع قومه بهذه الدعوة (6) .
وعلم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المنهج لأصحابه، فإنه «لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال له: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله؛ فأخبرهم أن الله قد فرض
__________
(1) سورة الأعراف الآية 85
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة الأنعام الآية 151
(4) سورة الأنعام الآية 151
(5) سورة الأنعام الآية 153
(6) انظر، محمد أحمد العدوي، دعوة الرسل، ص 1.(43/236)
عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا الصلاة، فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم، وترد على فقرائهم، فإن أطاعوا بها فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس (1) » ، يقول ابن حجر رحمه الله تعالى: (ووقعت البداءة بهما- أي بالشهادتين- لأنهما أصل الدين الذي لا يصح شيء غيرهما إلا بهما) (2) .
من هذه الآيات والأحاديث التي استعرضت تاريخ دعوة الأنبياء عليهم السلام، نستطيع أن نقرر أن الأنبياء عليهم السلام، متواطئون على دعوة الناس إلى التوحيد أولا، لا فرق بين رسول ورسول، وأن من كذب رسولا من رسل الله فهو مكذب بالرسل أجمعين، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} (3) مع أنهم لم يواجهوا بهذا التكذيب إلا رسولا واحدا، هو نبي الله نوح عليه السلام. ومثل هذا قيل لقوم هود: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} (4) وقوم صالح: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} (5) هـ قوم لوط: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} (6) وأصحاب الأيكة: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} (7) مما يدل على وحدة
__________
(1) صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري، دور 3 ص322 حديث رقم 1458.
(2) ابن حجر فتح الباري، جـ 3 ص 358.
(3) سورة الشعراء الآية 105
(4) سورة الشعراء الآية 123
(5) سورة الشعراء الآية 141
(6) سورة الشعراء الآية 160
(7) سورة الشعراء الآية 176(43/237)
الدعوة، وترابطها ترابطا وثيقا، يجعل المصدق بواحد من الأنبياء مصدق بالجميع، والمكذب لواحد منهم مكذبا بالجميع.
وعلى هذه الأصول اتفقت دعوتهم عليهم السلام، واجتمعت كلمتهم، لتؤكد أن القضية الأولى، في جميع الدعوات، من لدن أول الأنبياء إلى آخرهم، يجب أن تبدأ بالتوحيد، أيا كانت الظروف والأحوال التي يعيشها هذا المجتمع، مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة.
ثم إذا سرنا قليلا في دراسة دعوات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، سنجد أنهم بعد هذه القضية- قضية تقرير العقيدة في النفوس - وعند الشروع في القضية الثانية، التي يدعون إليها، يختلف الأمر، فنجد أن لكل نبي قضية خاصة يركز عليها، فكل نبي يعنى عناية خاصة بالأمراض التي توجد في مجتمعه وبين قومه.
فإبراهيم (أبو الأنبياء) عليه السلام اهتم كثيرا بالتوحيد، ومحاربة الشرك، يقول تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (1) وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} (2) {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (3) وقال تعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} (4) {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (5) وكأنه عليه السلام يرى ما وقع فيه بعض الناس من
__________
(1) سورة الأنعام الآية 74
(2) سورة الأنبياء الآية 51
(3) سورة الأنبياء الآية 52
(4) سورة الصافات الآية 85
(5) سورة الصافات الآية 86(43/238)
الضلال، بسبب الشرك الذي صرفهم عن الحق، الذي أتى به الرسل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} (1) {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) وإنه ليخيل لمن يقرأ قصص دعوة إبراهيم عليه السلام في القرآن، أنه عليه السلام لم يبعث إلا بالتوحيد؛ وذلك بسبب تفشي الوثنية في مجتمعه، فكان التوحيد هو قضية إبراهيم عليه السلام الأولى والثانية، في حين نرى أن لوطا عليه السلام مع اتحاد زمان بعثته، لكن اختلف المجتمع، فقد كان قوم لوط مجتمعا فشت فيه الفاحشة، واعتادوها، حتى أصبح التنزه عنها جرما يستحق صاحبه الإخراج والطرد، قال تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} (3) {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} (4) {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} (5) ولذلك نجد لوطا عليه السلام يركز بعد الدعوة إلى التوحيد على التحذير من هذه الفاحشة، قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} (6) {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} (7) وقال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} (8) {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} (9)
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 35
(2) سورة إبراهيم الآية 36
(3) سورة الشعراء الآية 165
(4) سورة الشعراء الآية 166
(5) سورة الشعراء الآية 167
(6) سورة الأعراف الآية 80
(7) سورة الأعراف الآية 81
(8) سورة العنكبوت الآية 28
(9) سورة العنكبوت الآية 29(43/239)
وهذا التركيز على هذه القضية، من قبل لوط عليه السلام لا نجد له ما يماثله من قبل الأنبياء الآخرين، مما يعني أن التركيز كان سببه البيئة، وانتشار الفاحشة فيها، وليس لنوعية الفاحشة فقط.
ونجد أن نبي الله شعيبا عليه السلام يدعو قومه بعد التوحيد إلى أن يوفوا الكيل والميزان؛ وذلك لأن الغش في الكيل والوزن منتشر شائع في قومه، قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} (2)
وموسى عليه السلام بعث في قوم قد تسلط عليهم فرعون، وسامهم سوء العذاب؛ يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، فاهتم عليه السلام- بعد التوحيد الذي أشرنا إلى أدلته في البداية- بإنقاذ بني إسرائيل من الذل الذي نشأوا عليه، وإحباط ظلم وطغيان فرعون، وتربية العزة والكرامة في نفوس القوم،
__________
(1) سورة الأعراف الآية 85
(2) سورة هود الآية 84(43/240)
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} (1) {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (2) وكما خاطب موسى قومه بهذه القضية فقد واجه بها فرعون، قال تعالى: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (3)
وعلى هذا فالقضية الثانية في الدعوة تختلف اختلافا كاملا عن القضية الأولى، القضية الأولى محسومة منتهية، لا مجال فيها لاجتهاد بشر، ولا تتأثر بالبيئة، ولا تختلف باختلاف الزمان أو المكان، فلا بد من التوحيد؛ لأنه أساس كل دعوة، ومنطلق كل داعية.
أما القضية الثانية فهي بخلاف ذلك، إذ هي تتأثر بالبيئة وبالزمان والمكان، وكل نبي- كما رأينا- له قضية خاصة، نشأت من حاجة مجتمعه، فالمجتمع الوثني المنغمس في الوثنية، تستمر معه قضية التوحيد، تأثرا بحاجة المجتمع إلى الاستمرار في هذا الأمر، والمجتمع الذي تتفشى فيه الأخلاق السيئة، يكون مواجهة هذا الأمر هو القضية الثانية وهكذا. ولم يؤثر هذا الاختلاف في وحدة الأنبياء، ولم يكن مصدر نزاع أو مشاقة، بل هو مما يؤكد اتجاه غايتهم جميعا نحو أسلم طريق للإصلاح وتحقيق الهدف
__________
(1) سورة المائدة الآية 20
(2) سورة المائدة الآية 21
(3) سورة طه الآية 47(43/241)
المشترك، وأهم أمر يصلح هو إصلاح علاقة العبد بربه، ثم بعد ذلك يصلح ما فسد من أمر المجتمع كل بحسبه.
ويهمنا من هذا أن نقرر أن الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، يبدأ دائما- وفي كل الأحوال- بإصلاح العقيدة، ثم يصرف همه إلى معالجة الأمراض الموجودة في المجتمع الذي يدعو فيه (1) .، وإذا كان هناك أمراض متفاوتة بدأ بأشدها فتكا وأعمقها ضررا على المجتمع.
وما دامت دعوة الأنبياء عليهم السلام بهذا المنهج الواضح، وهم القدوة والأسوة لكل داعية، فلا يسع أحدا الخروج عن هذا المنهج، أو تقديم بعض أولوياته المقررة على بعض، وذلك بإصلاح العقيدة أولا وهي الأساس.
أما القضية الثانية فالدعاة لهم فيها متسع من الاجتهاد، إذ لكل مجتمع مشكلاته وقضاياه التي قد تختلف عن غيره، وبالتالي يتسع الصدر بين الدعاة في هذا الجانب، فالمجتهد في تقدير القضية الثانية مأجور- إن شاء الله تعالى- فإن أصاب الحق فله أجر آخر على الإصابة، وإن كانت الأخرى فلن يعدم من يعذره؛ لكون المجال سائغا فيه الاجتهاد، وليس لأحد حق اللوم والتثريب أو المشاقة والمنازعة والفرقة.
وبهذا تلتقي آراء الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وتتآلف القلوب، وينتفي الخلاف، ويحل التعاضد والتآزر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) انظر محمد العدوي (دعوة الرسل إلى الله) صفحة (ل) في المقدمة(43/242)
جمعية الموظفين وأحكامها في الفقه الإسلامي
د. عبد الله بن عبد العزيز الجبرين (1)
الأستاذ المشارك بكلية المعلمين بالرياض
تمهيد:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (3) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (4) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (5) .
__________
(1) وردت للكاتب ترجمة في العدد السادس والثلاثين ص (267) .
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الأحزاب الآية 70
(5) سورة الأحزاب الآية 71(43/243)
وبعد:
فمن أعظم نعم الله على هذه الأمة أن أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم شريعة تامة كاملة، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) أنزلها خالق البشر الذي يعلم ما يصلحهم في جميع الأحوال والأزمان، وأوجب العمل بأحكامها على جميع المكلفين من وقت نزولها إلى قيام الساعة، ولذلك فإن عيسى عليه السلام سيحكم بها عند نزوله في آخر الزمان، ولهذا جاء في هذه الشريعة من القواعد والنصوص ما يتضمن الحكم العدل في كل نازلة فأي معاملة تستجد أو قضية تحدث، يقوم أهل الاجتهاد باستنباط حكمها من
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(43/244)
النصوص والقواعد الشرعية، ومن أمثلة ذلك هذه المسألة التي نحن بصدد الكلام عنها، وهي ما يعرف الآن بـ (جمعية الموظفين) ، فهي مسألة جرى التعامل بها، فقد كان يفعلها بعض النساء في القرن التاسع الهجري، وكانت تسمى (الجمعة) (1) ثم إنه انتشر استعمالها في هذا العصر، وبخاصة بين الموظفين، فكانت الحاجة ماسة لبيان حكمها، مما دعاني للكتابة في هذا الموضوع.
وقد جعلت الحديث عن هذا الموضوع في أربعة مباحث وخاتمة:
المبحث الأول: صور هذه الجمعية.
المبحث الثاني: حكم الصورة الأولى.
المبحث الثالث: حكم الصورة الثانية.
المبحث الرابع: حكم الصورة الثالثة.
أما الخاتمة فقد اشتملت على أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث.
__________
(1) ينظر حاشية قليوبي 2 \ 258.(43/245)
المبحث الأول
صور جمعية الموظفين
لهذه الجمعية ثلاث صور هي:
الصورة الأولى:
أن يتفق عدد من الأشخاص على أن يدفع كل واحد منهم مبلغا من المال مساويا لما يدفعه الآخرون، وذلك عند نهاية كل شهر أو عند نهاية كل ستة أشهر ونحو ذلك، ثم يدفع المبلغ كله في الشهر الأول لواحد منهم، وفي الشهر الثاني أو بعد ستة أشهر- حسب ما يتفقون عليه- يدفع المبلغ لآخر، وهكذا حتى يستلم كل واحد منهم مثل ما تسلمه من قبله سواء بسواء، وقد تستمر هذه الجمعية دورتين أو أكثر، إذا رغب المشاركون في ذلك
الصورة الثانية:
وهي تشبه الصورة الأولى إلا أنها تزيد عليها بأن يشترط على جميع المشاركين فيها الاستمرار في هذه الجمعية حتى تستكمل دورة كاملة.
الصورة الثالثة:
وهي تشبه الصورة الثانية، إلا أنها تزيد عليها بأن يشترط على(43/246)
جميع المشاركين فيها الاستمرار في هذه الجمعية حتى تدور دورة ثانية أو تدور دورتين أخريين أو أكثر حسب ما يتفقون عليه، ويكون ترتيب الاقتراض في الدورة الثانية عكس ترتيبه في الدورة الأولى، فأول من اقترض في المرة الأولى يكون آخر من يقترض في المرة الثانية وهكذا ونحو ذلك.(43/247)
المبحث الثاني
حكم الصورة الأولى من صور جمعية الموظفين
سبق في المبحث الأول، ذكر مثال لهذه الصورة، وهي تتميز عن غيرها من صور هذه الجمعية بأنها خالية من جميع الشروط، فمن أراد من المشاركين أن ينسحب في الدورة الأولى قبل أن يقترض فله ذلك.
وحقيقة هذه الصورة أن كل واحد منهم يقرض من يستلم هذه الجمعية قبله ويقرضه من يستلمها بعده، سوى الأول فهو مقترض فقط، وسوى الأخير فهو مقرض لهم جميعا.
وقد اختلف أهل العلم في جواز هذه الصورة على قولين:
القول الأول:
أن هذه الصورة جائزة، بل ذهب بعض أهل العلم إلى القول بأنه مندوب إليها، وقد أفتى بهذا القول من المتقدمين الإمام الحافظ(43/247)
الفقيه أبو زرعة الرازي الشافعي، وأفتى به من المتأخرين غالب أعضاء هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وفي مقدمتهم سماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز وفضيلة شيخنا محمد بن صالح بن عثيمين. وأفتى به أيضا فضيلة شيخنا عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين عضو الإفتاء برئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء بالمملكة.
القول الثاني:
أنها محرمة، لا يجوز التعامل بها، وقد ذهب إلى هذا القول الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان، والشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، والشيخ عبد الرحمن البراك الأستاذ بكلية أصول الدين بالرياض.
ولهذا القول أدلة أهمها:
الدليل الأول:
أن كل واحد من المشتركين في هذه الجمعية إنما يدفع ما يدفع(43/248)
بصفة قرض مشروط فيه قرض من الطرف الآخر، فهو قرض جر نفعا (1) ، فيكون محرما لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل قرض جر نفعا فهو ربا (2) » .
ولما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى له أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك (3) »
__________
(1) تنظر وجهتي النظر المشار إليهما في التعليق السابق.
(2) رواه أبو الجهم في جزئه، والحارث في مسنده، كما في نصب الراية 4 \ 60، والمطالب العالية 1 \ 411) من طريق سوار عن عمارة عن علي بن أبي طالب مرفوعا. وإسناده ضعيف جدا. سوار- وهو ابن مصعب الهمداني- قال البخاري: (منكر الحديث) ، وقال أحمد وأبو حاتم: متروك، وقال النسائي: ليس بثقة، ينظر الميزان 2 \ 246، ولسان الميزان 3 \ 128، 129، 129. وقال ابن عبد الهادي- كما في نصب الراية 4 \ 60- والحافظ في البلوغ ص 176، والمناوي في التيسير 2 \ 216: (إسناده ساقط) ، وقال في نيل الأوطار 5 \ 351: (في إسناده سوار بن مصعب، وهو متروك.. ووهم إمام الحرمين والغزالي فقالا: إنه صح. ولا خبرة لهما بهذا الفن) . وقد حكم بضعف هذا الحديث أيضا السيوطي في الجامع الصغير ص 94، والشوكاني في الدراري المضية ص 315، وسماحة شيخنا عبد العزيز بن باز (كما في كتاب الدعوة ص 152) ، وقال الألباني في الإرواء 5 \ 236: (ضعيف جدا) ، وذكر الموصلي في المغني ص 56 (أنه لم يصح في هذا الباب شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم) . وينظر فيض القدير 5 \ 28، والتلخيص ص 3 \ 34.
(3) رواه ابن ماجه في الصدقات باب القرض 2 \ 813، رقم 2432، والبيهقي في السنن الكبرى في البيوع باب كل قرض جر منفعة فهو ربا 5 \ 40249، 350، وابن الجوزي في التحقيق- كما في الإرواء- من طريق إسماعيل بن عياش حدثني عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي عن أنس. ثم قال البيهقي: قال المعمري: قال هشام في هذا الحديث: (يحيى بن أبي إسحاق الهنائي ولا أراه إلا وهم) . وهذا حديث يحيى بن يزيد الهنائي عن أنس، ورواه شعبة ومحمد بن دينار فوقفاه. ورجح ابن التركماني في الجوهر النقي 5 \ 350 أنه ابن أبي إسحاق لا ابن يزيد. وهذا الإسناد ضعيف، إسماعيل بن عياش ضعيف فيما رواه عن غير أهل الشام، وشيخه هنا الضبي بصري، فروايته عنه ضعيفة. ينظر تهذيب الكمال لوحة (107، 108) وشيخه عتبة الضي ليس بالقوي كما قال الإمام أحمد. ينظر تهذيب التهذيب 7 \ 96، ويحيى إن كان ابن أبي إسحاق فهو مجهول كما في التقربب ص 587، وإن كان ابن يزيد فهو مقبول كما في التقريب ص 598. قال البوصيري في الزوائد 3 \ 70: (هذا إسناد فيه مقال، عتبة بن حميد ضعفه أحمد) ، وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في الثقات، ويحيى بن أبي إسحاق الهنائي لا يعرف حاله. وقد ضعف هذا الحديث أيضا البهوتي في الروض المربع 5 \ 47، والشوكاني في النيل 5 \ 350، وفي الدراري المضية ص 315، وابنه في السموط الذهبية ص 203، والشيح عبد الرحمن بن قاسم في الإحكام 3 \ 192، والشيخ محمد ناصر الدين الألباني في السلسلة الضعيفة 3 \ 303، ورواه ابن المنذر في الأوسط في جماع أبواب السلف لوحة 12من طريق هشيم عن عتبة أبي معاذ عن يزيد بن يحيى عن أنس. وإسناده ضعيف، هشيم مدلس، وقد عنعنه، وعتبة ويزيد لم أجد من ترجم لهما. وقال ابن المنذر: (إسناد مجهول) ، لا أعلمه ثابتا- وقد حسن هذا الحديث شيخ الإسلام ابن تيمية كما والفتاوى الكرى 3 \ 243، 244، حيث رجح أن يحيى المذكور في الإسناد الأول هو ابن يزيد، وحسنه أيضا السيوطي في الجامع الصغير ص 20، وتبعه في تحسينه المناوي في التيسير 1 \ 76، وقال. (وهذا منزل على الورع أو على ما إدا شرط عليه ذلك) . وحسنه كذلك الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما في الدرر السنية في باب القرض 5 \ 115.(43/249)
ولما روي عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أنه قال: (كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجهه الربا) .
ولما روي عن عطاء أنه قال: (كانوا- أي الصحابة- يكرهون كل قرض جر منفعة)(43/250)
ولما ثبت عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه قال لأبي بردة:
(إنك في أرض الربا فيها فاش، إذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فإنه ربا) . وروي نحو هذا القول عن عمر وأبي بن كعب، وعلي بن أبي طالب وابن مسعود،(43/251)
وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وابن عباس، رضي الله عنهم.
وروي أيضا عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل استقرض من رجل(43/252)
خمسمائة دينار على أن يفقره ظهر فرسه. فقال: (ما أصبت من ظهر فرسه فهو ربا) .
وثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (من أسلف سلفا فلا يشترط إلا قضاءه) .
وقالوا: (وأيضا فقد أجمع أهل العلم على أن كل قرض جر نفعا فهو محرم وربا) .(43/253)
ويمكن أن يناقش هذا الدليل بأمرين:
الأمر الأول:
لا يسلم بأن في هذه الصورة من صور هذه المعاملة قرضا مشروطا من الطرف الآخر، بل هو قرض معتاد، إلا أنه يشارك في الإقراض أكثر من شخص، فأول من يأخذ هذه الجمعية يعتبر مقترضا من جميع المشتركين فيها، وكذلك من يأخذها في المرة الثانية يعتبر مقترضا ممن يأخذها بعده ومستوفيا لقرضه من الشخص الذي أخذها قبله، وهكذا الثالث والرابع ومن بعدهم، عدا آخرهم فهو إنما يستوفي ما أقرضه لجميع المشتركين في هذه الجمعية.
فحقيقة هذه المعاملة: أن كل واحد من المشتركين إنما هو مقرض لمن يأخذ هذه الجمعية قبله، ومستقرض ممن يأخذها بعده، عدا آخرهم فهو يستوفي حقه الذي أقرضه لهم جميعا.
الأمر الثاني:
عدم التسليم بأن كل قرض جر نفعا ممنوع مطلقا، لما يلي:
1 - أن الحديث الأول، وهو «كل قرض جر نفعا فهو ربا» حديث ضعيف جدا، - كما سبق- لا يصح الاحتجاج به لمنع هذه المعاملة.
وكذلك الحديث الثاني: «إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدى له (1) » . . .) فهو حديث ضعيف أيضا، كما سبق، ثم إنه غير صريح في تحريم كل قرض
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2432) .(43/254)
جر نفعا، وإنما منع من نفع معين يقدمه المقترض للمقرض بسبب القرض بدون شرط، وهو أن يهدي إليه أو لمجمله على دابته، وهذا كله محرم على الصحيح (1) ، وهو غامر موجود في هذه الصورة من صور هذه الجمعية، لأن النفع الذي يحصل عليه المقرض في هذه المعاملة إنما يقدمه الأشخاص الآخرون المشاركون في هذه الجمعية، والذين لم يقترضوا بعد، حيث يقرضونه إذا جاء دوره، أما من أقرضهم هو فإنما يستوفي قرضه منهم.
2 - أن ما ذكروه عن بعض الصحابة رضي الله عنهم بعضه غير ثابت، وبعضه وارد في مسائل يكون النفع فيها مما يشرطه المقرض على المقترض دون أن يكون له أي فائدة تقابل تلك المنفعة سوى مجرد القرض، أو مما يقدمه المقترض للدائن بسبب القرض بدون شرط، وهذا كله غير موجود في هذه الصورة من صور هذه المعاملة، كما مر في الفقرة السابقة. ولو فرض أن هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم أرادوا منع كل قرض جر نفعا للمقرض مطلقا، سواء كان هذا النفع من المقترض أم من غيره، وسواء كان للمقترض في ذلك فائدة أم لا، فإنه معارض. مما روي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم من إجازتهم للسفتجة، وإذا تعارضت
__________
(1) ينظر التعليق الآتي.(43/255)
أقوالهم تساقطت.
فقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لا بأس أن يعطي المال بالمدينة ويأخذه بأفريقية) .
وروي عن أبي شعيب مولى الأنصار أنه استسلف بأفريقية دينارا جرجيريا من رجل على أن يعطيه بمصر منقوشا، فسأل ابن عمر عن ذلك، فقال: (لولا الشرط الذي فيه لم يكن به بأس) .
وروي عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه كان يأخذ من قوم(43/256)
بمكة دراهم، ثم يكتب بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق فيأخذونها منه، فسئل ابن عباس عن ذلك، فلم ير به بأسا.
وروي عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه كان يأخذ المال بالحجاز، ويعطيه بالعراق، ويأخذه بالعراق ويعطيه بالحجاز.
3 - أن النفع الذي وقع الإجماع على أنه ربا هو ما يشترطه المقرض على المقترض دون أن يكون للمقترض فائدة تقابل هذا النفع سوى مجرد القرض. ويدل على ذلك ما يلي:
أ- أن بعض العلماء من الصحابة ومن بعدهم أجازوا السفتجة (1) مع أن فيها نفعا للمقرض.
__________
(1) سبق تعريف السفتجة ص (255) .(43/257)
ب- أن بعض العلماء أجاز بعض القروض التي فيها نفع للمقرض، مع أنه ليس للمقترض فيها فائدة سوى مجرد القرض، مثل أن يفلس غريمه فيقرضه دراهم يوفيه كل شهر شيئا معلوما من ربحها، ومثل ما لو أقرض فلاحه ما يشتري به بذرا أو آلات حرث ليعمل بها في أرضه، ومثل ما إذا أراد إرسال نفقة إلى أهله فأقرضها لرجل ليوفيها لهم ونحو ذلك وبعض الفقهاء كره مثل هذه القروض ولم يحرمها (1) .
ج- أن بعض الفقهاء صرح بجواز القرض الذي شرط فيه منفعة للمقرض، إذا كان فيه للمقترض منفعة أقوى منها (2) .
د- أن فريقا من العلماء أجازوا إقراض من عرف بحسن القضاء
__________
(1) المبدع 4 \ 211، الإنصاف 5 \ 134، فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم 7 \ 210.
(2) ينظر شرح المنهج مع حاشيته للجمل 3 \ 261، 262، نهاية المحتاج 4 \ 231(43/258)
لكرمه وسخائه، رجاء الزيادة عند القضاء.
هـ- أن بعض الفقهاء أجاز النفع والهدية من المقترض للمقرض قبل سداد القرض، إذا لم يشترط ذلك عند القرض، ولو لم يكن ذلك من عادتهما قبل ذلك.
وقد استدل أبو محمد ابن حزم رحمه الله على جواز قبول هدية(43/259)
المقترض مطلقا إذا كان بدون شرط بقول الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رد هدية أبي بن كعب رضي الله عنه ثم قبلها لما أراد أبي أن يرد عليه ماله بسبب ذلك قال: (إنما الربا على من أراد أن يربي وينسئ) (1) .
وأن كثيرا من العلماء الذين حكوا الإجماع في هذه المسألة ذكروا أن أهل العلم أجمعوا على أن المنفعة أو الزيادة التي يشترطها المقرض على المستقرض ربا. والربا معناه في اللغة الفضل والزيادة (2) . وفي الاصطلاح عرفه بعضهم بقوله: (هو فضل أحد المتجانسين على الآخر من مال بلا عوض) (3) . وعرفه آخرون بقولهم: (الزيادة في أشياء مخصوصة) (4) . وهذا يدل على أن الإجماع إنما وقع على تحريم المنفعة أو الزيادة التي يشترطها المقرض على المقترض ولا يقابلها أي منفعة له، لا أنهم أجمعوا على تحريم كل منفعة تحصل للمقرض بسبب هذا القرض.
قال الشاطبي عند كلامه على ربا الجاهلية: (وإذا كان كذلك وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض ألحقت به السنة كل ما فيه زيادة بذلك المعنى) ثم ذكر ربا الفضل وأعقبه بذكر ربا النسيئة ثم
__________
(1) المحلى 8 \ 86. وقد سبق تخريج هذا الأثر ص (251) تعليق (2) .
(2) الصحاح 6 \ 2349، المطلع ص (239) ، حلية الفقهاء ص (125) ، المصباح 1 \ 217.
(3) أنيس الفقهاء، ص (214) .
(4) العدة شرح العمدة ص 220، الروض المربع (مطبوع مع حاشيته للعنقري 2 \ 106) .(43/260)
قال: (ويدخل فيه بحكم المعنى السلف يجر نفعا. . . فالزيادة على ذلك من باب إعطاء عوض على غير شيء، وهو ممنوع) (1) .
وقال الكاساني عند استدلاله على تحريم اشتراط منفعة أو زيادة في القرض، قال: (لأن الزيادة المشروطة تشبه الربا، لأنها فضل لا يقابله عوض. . . هذا إذا كانت الزيادة مشروطة في القرض، فأما إذا كانت غير مشروطة ولكن المستقرض أعطاه أجودهما فلا بأس بذلك، لأن الربا اسم لزيادة مشروطة في العقد، ولم توجد) .
4 - أنه قد وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على استحباب الزيادة عند قضاء القرض:
ومن ذلك ما رواه مالك والشافعي ومسلم عن أبي رافع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «استسلف من رجل بكرا.
فقال: أعطة إياه، إن خيار
__________
(1) الموافقات 4 \ 41، 42.
(2) موطأ مالك كتاب البيوع باب ما يجوز من السلف 2 \ 680، والرسالة للشافعي ص 544، وصحيح مسلم كتاب المساقاة باب من استسلف شيئا فقضى خيرا منه 3 \ 1224، رقم 1600، ورواه أيضا أبو داود 3346، والترمذي 1318، النسائي 7 \ 291، وابن ماجه 2285.(43/261)
الناس أحسنهم قضاء (1) » .
وما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «أخذ سنا فجاء صاحبه يتقاضاه، فقالوا له، فقال: إن لصاحب الحق مقالا (2) » واللفظ للبخاري، وفي لفظ لمسلم: «استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سنا، فأعطى سنا فوقه، وقال: خياركم محاسنكم قضاء (3) » .
فكيف يقال مع وجود هذه النصوص بتحريم كل قرض جر نفعا بإطلاق، ففيها ما يدل على جواز الزيادة للمقرض عند الوفاء، بل ما يدل على استحبابه.
5 - أنه لو قيل بمنع كل قرض يجر نفعا للمقرض من أي وجه لوجب منع القرض المعتاد، لأن المقرض يحصل من قرضه على منافع معنوية وحسية، منها: أن ماله سيكون مضمونا عند المقترض متى ما أراده طلبه منه، بخلاف ما لو أودعه، فإنه لو تلف عند المودع بدون تفريط منه أو تعد لم يضمنه، وقد يكون المقرض في مكان غير آمن، أو يريد أن
__________
(1) (2) ، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكرا، فرجع إليه أبو رافع فقال: لم أجد فيها إلا خيارا رباعيا
(2) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2609) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) ، مسند أحمد بن حنبل (2/456) .
(3) صحيح البخاري مع الفتح كتاب الاستقراض باب استقراض الحيوان 5 \ 56، رقم (2390) ، وكتاب الهبة باب من أهدي له هدية 5 \ 227، رقم (2609) ، وصحيح مسلم كتاب المساقاة باب من استسلف شيئا فقضى خيرا منه 3 \ 1225، رقم (1601) . ورواه الترمذي (1316، 1317) ، والنسائي 7 \ 291 بنحو رواية مسلم.(43/262)
يسافر ولم يجد من يودع ماله عنده، فيلجأ إلى إقراض ماله لشخص محتاج إليه ليكون في ذمته، فمتى احتاج إليه طلبه منه.
ومن المنافع التي يحصل المقرض عليها أيضا: أنه سيكون له يد ومنة على المقترض، لمساعدته له وإحسانه إليه، وربما قصد المقرض ذلك ليستفيد منه فيما بعد، إما بأن يقرضه أو يشفع له أو يكفله أو لغير ذلك من المقاصد الكثيرة.
قال أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: (وأما قولكم: (إنه سلف جر منفعة) فكان ماذا؟ أين وجدوا النهي عن سلف جر نفعا، فليعلموا الآن أنه ليس في العالم سلف إلا وهو يجر منفعة، وذلك انتفاع المسلف بتضمين ماله، فيكون مضمونا تلف أو لم يتلف، مع شكر المستقرض إياه، وانتفاع المستقرض بمال غيره مدة ما، فعلى قولهم: (كل سلف فهو حرام) ، وفي هذا ما فيه) فإذا علم هذا تبين أن النفع المحرم هو ما يلي: 1- ما يشترطه المقرض على المقترض دون مقابل سوى مجرد القرض، وهو الذي أجمع أهل العلم على تحريمه.
2 - ما يقدمه المقترض للدائن بسبب القرض دون شرط.
وهكذا كله غير موجود في هذه الصورة من صور هذه الجمعية، لأن النفع الذي يحصل المقرض لا يقدمه المقترض أصلا، وإنما يقدمه غيره من المشتركين في هذه الجمعية، وهو أيضا نفع ليس فيه زيادة لطرف على(43/263)
طرف آخر، وإنما هو نفع مشترك بين كل المقرضين في الجمعية سوى آخرهم فهو محسن، لأنه يقرض ولا يستقرض.
الدليل الثاني: أن القرض المشروع ما كان مبتغى به وجه الله تعالى، ويقصد به الإرفاق بالمقترض، ولهذا نهي المحسن أن يتخذ قرضه وسيلة للانتفاع ممن أحسن إليه.
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بأن قولهم: (إن القرض المشروع ما كان يبتغى به وجه الله) ليس على إطلاقه، فالقرض من المعاملات التي إن ابتغي بها وجه الله أثيب عليها، وإن أريد بها منافع دنيوية كانت مباحة، فهو كإنظار المعسر، فإنه إن أنظره ابتغاء وجه الله أثيب على ذلك، وإن أنظره، لأن رفع أمره إلى القاضي ربما يتسبب في سجن المدين، فلا يتمكن من سداد دينه، أو أنظره لانشغاله عن رفع أمره إلى القضاء أو لأن ذلك سيشق عليه ونحو ذلك لم يثب عليه، ومثل ذلك العارية والهدية.
فالأصل في مشروعية القرض واستحبابه الإرفاق بالمقترض، وتفريج(43/264)
كربته، "فإن ابتغى به المقرض منفعة دنيوية (1) لم يثب عليه، ولا دليل على تحريمه، وبعض العلماء كرهه لما فيه من طلب النفع العاجل، وتفويت الثواب الآجل، ولم يحرمه.
قال الإمام ابن القيم: (وباب القرض من جنس باب العارية والمنيحة وإفقار الظهر. . . وليس هذا من باب البيع في شيء، بل هو من باب الإرفاق والتبرع والصدقة، وإن كان المقرض قد ينتفع أيضا بالقرض، كما في مسألة السفتجة، ولهذا كرهها من كرهها، والصحيح أنه لا تكره لأن المنفعة لا تخص المقرض بل ينتفعان بها جميعا) .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم (2) رحمه الله في جواب له على سؤال لأحد السماسرة، يذكر فيه أنه يقرض بعض من يتولى بيع أموالهم، ويستوفي قرضه من مالهم إذا باعه، ويذكر فيه أيضا أنه يتخذ هذه الطريقة لترغيب الجالبين وإيثارهم إياه دون غيره، قال رحمه الله: (لا شك أن أصل مشروعية القرض واستحبابه التقرب إلى الله بتفريج كرب المحتاجين، وهذا القرض (3) ليس مقصدا من مقاصدك في الإقراض، وإنما غرضك جر منفعة لذلك، وحيث إن هذه المنفعة لا تنقص المقترض شيئا من ماله فغاية ما في الأمر الكراهة) .
الدليل الثالث:
__________
(1) سبق ذكر بعض المنافع الدنيوية المعنوية والحسية التي يحصل عليها المقرض من القرض ص (262، 263) .
(2) ينظر مجموع فتاواه ورسائله التي جمعها الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم ج 7، ص (210) .
(3) لعل صوابه (الغرض) .(43/265)
أن في هذه المعاملة شرط عقد في عقد، فهي بيعتان في بيعة المنهي عنه (1) فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «نهى عن بيعتين في بيعة (2) » وثبت
__________
(1) ينظر وجهة نظر الشيخ الدكتور صالح الفوزان حول قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة في هذه المسألة.
(2) رواه الإمام أحمد 2 \ 432، 475، 503، والترمذي في البيوع باب النهي عن بيعتين في بيعة 3 \ 524، حديث (1231) وقال: (حسن صحيح) ، والنسائي في المجتبى في البيوع بيعتين في بيعة 7 \ 295، 296، وابن حبان في الإحسان كتاب البيوع باب الزجر عن بيع الشيء بمائة دينار.. 7 \ 225) حديت (4952) ، وابن الجارود في المنتقى في باب المبايعات المنهي عنها ص (205) ، حديث (600) ، وابن المنذر في الإقناع في البيوع باب ذكر البيوع التي نهي عنها 1 \ 251، حديت (90) ، وأبو يعلى في مسنده 10 \ 507، رقم (6124) ، والخطابي في معالم السنن 5 \ 97، والبغوي في شرح السنة في باب النهي عن بيعتين في بيعة 8 \ 142، حديث (211) وقال: (حسن صحيح) ، والبيهقي في الكبرى في البيوع باب النهي عن بيعتين في بيعة 5 \ 343، وفي معرفة السنن في البيوع باب بيعتين في بيعة 8 \ 156، رقم (11473) ، وابن عبد البر في التمهيد 24 \ 388، 389 من طرق عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وإسناده حسن، رجاله ثقات عدا محمد به عمرو- وهو ابن علقمة- فهو صدوق له أوهام كما في التقريب ص (499) . وقد صححه الإشبيلي في الأحكام الصغرى 2 \ 676، وحسنه الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء 5 \ 149، وحسين أسد في تعليقه على مسند أبي يعلى. ورواه ابن أبي شيبة في البيوع والأقضية: الرجل يشتري من الرحل المبيع فيقول ... 6 \ 120، وعنه أبو داود في البيوع باب فيمن باع بيعتين في بيعة 3 \ 274، حديث (3461) وابن حبان في الموضع السابق 7 \ 226، حديث (4953) ، والحاكم في البيوع 2 \ 45 وصححه، ووافقه الذهبي والبيهقي في السنن في الموضع السابق، وابن عبد البر في التمهيد 24 \ 389، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن محمد بن عمرو له بلفظ: '' من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا ''، وإسناده حسن كسابقه. وقد صححه ابن حزم في المحلى 9 \ 16، والإشبيلي في الأحكام الصغرى 2 \ 676، وحسنه الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء 5 \ 150، والأرناؤوط في تعليقه على شرح السنة، والدكتور الطاهر الدرديري في تخريج أحاديث المدونة 3 \ 1112، والدكتور محمد عبد الله ولد كريم في تعليقه على القبس شرح الموطأ 2 \ 842. ورواه الإمام أحمد في مسنده 2 \ 174، 175، 205، والبيهقي في الموضع السابق، والبغوي في الموضع السابق 8 \ 144، حديث (2112) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وإسناده حسن وقد حسنه الأرناؤوط في تعليقه على شرح السنة. ورواه الإمام أحمد في مسنده 2 \ 71، والترمذي في البيوع باب ما جاء في مطل الغني 3 \ 591، 592، حديث (1309) ، وابن الجارود ص 205، حديث (599) ، والبزار كما في كشف الأستار في البيوع 2 \ 91، 100، حديث 1279، 1299 وابن عبد البر في التمهيد 24 \ 388، وفي الاستذكار كتاب البيوع باب النهي عن بيعتين في بيعة 20 \ 172، حديث (29675) من طرق عن هشيم عن يونس بن عبيد عن نافع عن ابن عمر، ورجاله ثقات، وقد صرح هشيم بالتحديث عند الإمام أحمد والترمذي وابن عبد البر، لكن يونس بن عبيد لم يسمع من نافع، كما قال الإمام أحمد وابن معين وأبو حاتم والبخاري، ينظر تهذيب التهذيب 11 \ 445، ومصباح الزجاجة 3 \ 62، فهذا الإسناد ضعيف لانقطاعه. ورواه الإمام أحمد 5 \ 295، رقم (3783) تحقيق شاكر، والبزار كما في كشف الأستار 2 \ 90، حديث (1277) ، وابن عبد البر في التمهيد 24 \ 389 من طرق عن شريك عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه مرفوعا. وإسناده ضعيف، شريك- وهو ابن عبد الله النخعي القاضي- صدوق يخطئ كثيرا وتغير حفظه لما ولي قضاء الكوفة كما في التقريب ص 266. وقد خالف من هو أوثق منه، حيث رواه شعبة والثوري فرققاه كما سيأتي قريبا، وقد صححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند. ورواه الطبراني في الأوسط 3 \ 363، 364، رقم (1633) من طريق ابن السماك بن حرب عن أبيه به. وإسناده ضعيف جدا. ابن سماك متروك الحديث، كما قال أبو حاتم. ينظر الجرح والتعديل 4 \ 32، واللسان 3 \ 33. ورواه العقيلي في الضعفاء 3 \ 288 من طريق عمرو بن عثمان الثقفي قال: حدثنا سفيان عن سماك به بلفظ: (الصفقتان ربا) ، قال العقيلي: (عمرو بن عثمان الثقفي عن الثوري، ولا يتابع عليه) ، ثم رواه موقوفا، ثم قال: (هذا أولى) ، وينظر اللسان 4 \ 371، ونصب الراية 4 \ 20، ولفظه فيهما نقلا عن كتاب الضعفاء: (الصفقة في الصفقتين ربا) . فلعله تصحف في المطبوع.(43/266)
عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (صفقتان في صفقة ربا) .(43/267)
ويمكن أن يجاب عن الاستدلال بالحديث السابق بجوابين:
الجواب الأول:
أنه قد اختلف في تفسير (بيعتين في بيعة) المنهي عنه في هذا الحديث على أقوال أهمها:
القول الأول: أن يقول: بعتك هذا الثوب بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة، أو يبيعه سلعة بثوب أو شاة، فيتفرقا على ذلك، فلا يدري أيهما الثمن.
القول الثاني: أن يشترط أحد المتعاقدين على صاحبه عقدا آخر (1) ، كأن يقول: أبيعك داري هذه بكذا، على أن تبيعني غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري، ومثله لو قال: أبيعك داري بكذا على أن تؤجرني دارك بكذا، أو على أن تشتري مني داري الأخرى بكذا، أو على أن أؤجرك، أو على أن تزوجني ابنتك، أو على أن أزوجك
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية 5 \ 21، التمهيد 24 \ 391.(43/268)
ابنتي، أو على أن تنفق على عبدي أو دابتي (1) ، أو يقول: أبيعك سلعتي بدينار على أن تعطيني بالدينار إذا حل كذا وكذا درهما، أو يقول: أبيعك سلعتي هذه بمائة درهم على أن تعطيني دنانير، كل دينار بعدد من الدارهم.
القول الثالث: أن يقول: اشتري منك هذه الخمسة عشر صاعا عجوة أو هذه الاثني عشر صاعا من الحنطة بدينار، قد وجبت لي إحداهما، أو يقول: بعتك هذا العبد بألف دينار نقدا أو بألفين إلى سنة، قد وجب لك البيع بأيهما شئت أنا أو شئت أنت (2) .
القول الرابع: أنه بيع ما ليس عند، كأن يقول الرجل: ابتع لي بعير فلان بنقد، فأبتاعه منك إلى أجل (3) .
القول الخامس: أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة درهم نقدا، وبمائتي درهم نسيئة (4) .
القول السادس: أن يقول: الساحة تساوي كذا نقدا وأبيعكها بكذا
__________
(1) المغني 6 \ 232، 233، مغني المحتاج 2 \ 31، الدرر السنية في الأجوبة النجدية 5 \ 21.
(2) الاستذكار 20 \ 175 التمهيد 24 \ 391، وهذا القول قريب من القول الأول.
(3) ينظر الموطأ مع شرحه المنتقى 5 \ 38، وعارضة الأحوذي 5 \ 239، والاستذكار 20 \ 173، 174.
(4) السنن الصغرى (المجتبى) للنسائي 7 \ 295، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 7 \ 225.(43/269)
مؤجلا.
القول السابع: أن يسلفه دينارا في قفيز حنطة إلى شهر، فإذا حل الأجل وطالبه بالحنطة قال: بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين، فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول.
القول الثامن: أن يبيع السلعة بثمن مؤجل، ثم يشتريها ممن باعها عليه بثمن حال أنقص مما باعها به، وهو بيع العينة.
وبعض العلماء جعل بعض الأقوال والصور السابقة أمثلة لبيعتين في بيعة، كما فعل ابن حزم وابن قدامة وغيرهما.
والراجح من هذه الأقوال هو القول الأخير والذي قبله، فكلا الصورتين المذكورتين فيهما تدخلان في عموم هذا الحديث دون غيرهما من الصور لما يلي:(43/270)
1 - أن قوله في رواية ابن أبي شيبة وأبي داود ومن وافقهما: " فله أوكسهما " يدل على أن الشيء الواحد بيع مرتين، إحداهما أقل ثمنا من الأخرى (1) .
2 - أن قوله في الرواية المشار إليها آنفا: " أو الربا " يخرج جميع الصور والمسائل التي لا ربا فيها.
3 - أن بعض الصور السابقة لا يوجد فيها صفقتان، وإنما فيها صفقة واحدة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: للناس في البيعتين في البيعة، تفسيران، أحدهما: أن يقول: (هو لك بكذا بنقد، أو بنسيئة بكذا) كما رواه سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، (2) » قال سماك: هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسأ بكذا، وبنقد بكذا وكذا.
رواه الإمام أحمد، وعلى هذا فله وجهان: أحدهما: أن يبيعه بأحدهما مبهما ويتفرقا على ذلك، وهذا تفسير جماعة من أهل العلم، لكنه يتعذر من هذا الحديث، فإنه لا مدخل للربا هنا، ولا صفقتين هنا، وإنما هي صفقة
__________
(1) نيل الأوطار 5 \ 249.
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/398) .(43/271)
واحدة بثمن مبهم.
والثاني:. . .) ثم ذكر الوجه الآخر (1) ، ثم قال: (التفسير الثاني: أن يبيعه الشيء بثمن على أن يشتري منه ذلك الثمن، وأولى منه: أن يبيعه السلعة على أن يشتريها البائع بعد ذلك، وهذا أولى بلفظ: البيعتين في بيعة.
فإنه باع السلعة وابتاعها، أو باع الثمن وابتاعه، وهذه صفقتان في صفقة، وهذا بعينه هو العينة المحرمة وما أشبهها، مثل أن يبيعه نساء ثم يشتري بأقل منه نقدا أو بنقد ثم يشتري بأكثر منه نساء، ونحو ذلك، فيعود حاصل هاتين الصفقتين إلى أن يعطيه دراهم ويأخذ أكثر منها، وسلعته عادت، إليه فلا يكون له إلا أوكس الصفقتين، وهو النقد، فإن ازداد فقد أربى) (2) .
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى (3) : (وقد فسرت البيعتان في البيعة بأن يقول: أبيعك بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة.
هذا بعيد من معنى الحديث من وجهين: أحدهما: أنه لا يدخل الربا في هذا العقد.
الثاني: أن هذا ليس بصفقتين، إنما هو صفقة واحدة بأحد الثمنين، وقد ردده بين الأوليين (4) أو الربا.
ومعلوم أنه إذا أخذ بالثمن الأزيد في هذا العقد لم يكن ربا، فليس هذا معنى الحديث.
" وفسر بأن يقول: خذ هذه السلعة بعشرة نقدا، وآخذها منك
__________
(1) وقد سبق نقل كلام شيخ الإسلام المشار إليه ص (270) تعليق (1) .
(2) المرجع السابق 5 \ 20، 21.
(3) تهذيب سنن أبي داود 5 \ 148.
(4) هكذا، وهو تصحيف، ولعل الصواب (الأوكس) .(43/272)
بعشرين نسيئة، وهي مسألة العينة بعينها.
وهذا هو المعنى المطابق للحديث، فإنه إذا كان مقصوده الدراهم العاجلة بالآجلة، فهو لا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الثمنين، فإن أخذه أخذ أوكسهما، وإن أخذ الثمن الأكثر فقد أخذ الربا، فلا محيد له عن أوكس الثمنين أو الربا، ولا يحتمل الحديث غير هذا المعنى) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال أيضا (1) عند ذكره لما فسر به هذا الحديث: (. . . والتفسير الثاني: أن يقول: أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالة، وهذا معنى الحديث الذي لا معنى غيره، وهو مطابق لقوله: «فله أوكسهما أو الربا (2) » فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي، أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما، وهو مطابق لصفقتين في صفقة.
فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد، وهو قد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها، ولا يستحق إلا رأس ماله، وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى إلا الأكثر كان قد أخذ الربا.
فتدبر مطابقة هذا التفسير لألفاظه صلى الله عليه وسلم، وانطباقه عليها.
ومما يشهد لهذا التفسير ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه «نهى عن بيعتين في بيعة وعن سلف وبيع (3) » .
فجمعه بين هذين العقدين في النهي لأن كلا منهما يؤدي إلى الربا؛ لأنهما في الظاهر بيع، وفي الحقيقة ربا) انتهى كلامه رحمه الله.
الجواب الثاني عن الاستدلال بحديث «نهى عن بيعتين في بيعة (4) » :
__________
(1) المرجع السابق 5 \ 106.
(2) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .
(3) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) .
(4) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) .(43/273)
أن هذا الحديث إما فيه تحريم بيعتين في بيعة، والقرض ليس بيعا، فلا دلالة في هذا الحديث على تحريم هذه الصورة من صور جمعية الموظفين.
ويمكن أن يجاب عن الاستدلال بقول ابن مسعود رضي الله عنه: بأن ابن مسعود رضي الله عنه قد فسر مراده بقوله كما في رواية ابن أبي شيبة وإحدى روايات عبد الرزاق: أن يقول الرجل: إن كان بنقد فبكذا، وإن كان بنسيئة فبكذا) .
وعليه فإن هذه الجمعية لا تدخل فيما نهى عنه ابن مسعود رضي الله عنه وحرمه.
الدليل الرابع:
أن الأضرار المترتبة على هذه المعاملة تزيد على منافعها، لما فيها من المخاطرة، فإنه لو مات المدين أو نقل من العمل في الجهة التي تعامل مع زملائه فيها إلى جهة أخرى أو فصل من الوظيفة أو تقاعد لضاع على زملائه حقهم الذي لديه أو صعبت مطالبته به، والسنة الشريفة جاءت بتحقيق المصالح وتحصيلها وتكثيرها، وقطع دابر المفاسد والوسائل المفضية إليها.
ويمكن أن يناقش القول بأن أضرار هذه الجمعية أكثر من منافعها بعدم التسليم بذلك، فإن ما فيها من المنافع يزيد أضعافا مضاعفة على(43/274)
الأضرار المترتبة عليها (1) ، ثم إن المخاطر المذكورة موجودة في أكثر المعاملات المباحة، وموجودة أيضا في القرض المعتاد، ومع ذلك لم يقل أحد من العلماء بتحريم شيء منها من أجل ذلك، ويلزم على القول بمنع هذه الجمعية من أجل هذه العلة القول بمنع إقراض الموظفين لزملائهم مطلقا، وبخاصة إذا كثر وانتشر بينهم.
ثم إن هذه المعاملة قد تكون بين جماعة يسكنون في قرية واحدة، أو بين أقارب، أو بين جيران، أو أصدقاء، فلا تكون هذه العلة موجودة.
وقد استدل للقول الأول (وهو القول بجواز هذه الصورة) بأدلة أهمها:
الدليل الأول:
أن هذا التعامل من العقود التي جاءت النصوص الشرعية بجوازها، لأنه قرض فيه إرفاق بالمقترض، حيث ينتفع بهذا المال مدة ثم يرد مثل ما أخذ، دون زيادة أو نقص، وهذه حقيقة القرض، وقد جاءت النصوص بمشروعيته (2) ، وأجمع أهل العلم على جوازه، وهذه صورة من صوره، فالإقراض في هذه الجمعية شبيه بالقرض المعتاد، إلا أنه في هذه الجمعية يشترك في الإقراض والاقتراض والانتفاع أكثر من شخص.
وهذا لا يخرج هذه الجمعية عن مسمى القرض ولا عن حقيقته
__________
(1) سيأتي الكلام على أهم إيجابيات وفوائد هذه الجمعية ص (276-277) في ضمن الدليل الثالث للقول الأول.
(2) سبق ذكر بعض الأحاديث الدالة على جواز القرض ص (261-262) .(43/275)
الدليل الثاني: أن الأصل في العقود الحل، فكل عقد لم يرد دليل شرعي ينص على تحريمه فهو جائز، فلو سلمنا أن هذه المعاملة ليست من أنواع القرض الذي دل على مشروعيته النص والإجماع فإنها تبقى على الأصل، وهو الجواز، حيث لا يوجد دليل صحيح يدل على تحريمها.
الدليل الثالث:
أن في هذه المعاملة تعاونا على البر والتقوى، فهي طريق لسد حاجة المحتاجين، وإعانة لهم على البعد عن المعاملات المحرمة كالربا أو التحايل عليه ببيع العينة، وإعانة لهم أيضا على البعد عن المعاملات التي اختلف فيها أهل العلم كالتورق، ولذلك فإن المشاركين في هذه(43/276)
الجمعية في الغالب يقدمون أكثرهم حاجة ثم من يليه في الاحتياج وهكذا، كما أن بعض المشاركين فيها يرضى أن يكون آخر من يستلم هذه الجمعية، فيكون مقرضا فقط، وقد يكون شارك فيها ولا هدف له سوى الحرص على استمرار هذه الجمعية ليستفيد منها المحتاجون من إخوانه وزملائه، وبعضهم قد يشترك فيها من أجل أن يحفظ ماله، لأنه إذا بقي لديه أنفقه، وربما يكون في إنفاقه شيء من الإسراف، فيحرص على أن يكون آخر من يستلم هذه الجمعية، فيكون مقرضا فقط، كما أن بعضهم يلجأ إلى الإقراض عن طريق هذه الجمعية لأنه خير من إقراضها لبنك ربوي، لأن حقيقة الإيداع في البنوك إقراض لها (1) .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى بعد ذكره لبعض صور القرض التي يكون فيها انتفاع للمقرض والمستقرض معا كالسفتجة (2) وإقراض فلاح ليعمل في أرضه وغير ذلك، قال: (والمنفعة التي تجر إلى الربا في القرض هي التي تخص المقرض كسكنى دار المقترض وركوب دوابه واستعماله وقبول هديته، فإنه لا مصلحة له في ذلك بخلاف هذه المسائل، فإن المنفعة مشتركة بينهما، وهما متعاونان عليها، فهي من جنس التعاون والمشاركة) (3) .
__________
(1) ينظر الاختيارات الجلية للبسام 3 \ 58، 67، وتوضيح الأحكام له أيضا 4 \ 75.
(2) سبق ذكر تعريف السفتجة وحكمها ص (255 و 257) .
(3) تهذيب سنن أبي داود 5 \ 153.(43/277)
الدليل الرابع: أن المنفعة التي تحصل للمقرض في هذه الجمعية لا تنقص المقترض شيئا من ماله، وقد حصل المقترض على منفعة مساوية أو مقاربة لها، ففيها مصلحة لجميع المستقرضين فيها، وليس فها ضرر على واحد منهم أو زيادة نفع لمقرض على حساب مقترض، والشرع المطهر لا يرد بتحريم المصلحة التي لا مضرة فيها، بل يرد بمشروعيتها.
بل إن الشريعة كلها مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد (1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد ذكره لخلاف العلماء في السفتجة (2) : (والصحيح الجواز، لأن المقرض رأى النفع بأمن خطر الطريق في نقل دراهمه إلى ذلك البلد، وقد انتفع المقترض أيضا بالوفاء في ذلك البلد، وأمن خطر الطريق، فكلاهما منتفع بهذا الإقراض والشارع لا ينهى عما ينفعهم ويصلحهم، وإنما ينهى عما يضرهم) .
الترجيح:
بعد النظر في الرأيين السابقين واستعراض الأدلة وما ورد على بعضها من مناقشة ظهر لي ترجيح القول الأول، لما يلي: 1- لقوة أدلته، وسلامتها من الاعتراضات المؤثرة.
__________
(1) قواعد الأحكام 1 \ 9، المستصفى 1 \ 268، روضة الناظر 1 \ 412، إعلام الموقعين 3 \ 3.
(2) سبق ذكر تعريف السفتحة وحكمها ص (255 و 257) .(43/278)
2 - لضعف أدلة القول الثاني، لما ورد عليها من المناقشة، بحيث لم تعد تنهض للاحتجاج بها.
3 - أن القول بجوازها هو الموافق لأصول الشريعة وقواعدها العامة ومبادئها الكلية؛ لأن جميع الأحكام الشرعية مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد (1) ، ولا شك في وجود المصالح الكثيرة في هذه الجمعية لجميع المشاركين فيها (2) ، وانتفاء المفاسد عنها.
4 - أن في القول بمنع هذه المعاملة إلجاء للمحتاجين إلى المعاملات المحرمة أو المختلف في تحريمها كالتورق، وذلك عند عدم وجود من يقرضهم أو يعاملهم بالمعاملات المباحة كالسلم أو غيره، لحرص كثير من أرباب الأموال على الربح المضمون في ظنهم.
قال الموفق ابن قدامة بعد ذكره للخلاف في مسألة السفتجة (3) والتي فيها شبه بهذه الجمعية من جهة أن فيها منفعة للمقرض والمقترض، قال: (والصحيح جوازه؛ لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل يرد بمشروعيتها،
__________
(1) سبق ذكر المراجع لهذه المسألة ص (278) تعليق (2)
(2) سبق ذكر بعض المصالح في هده الجمعية ص (265) .
(3) سبق ذكر تعريف السفتجة وحكمها ص (255 و 257) .(43/279)
ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه، ولا في معنى المنصوص، فوجب إبقاؤه على الإباحة) والله أعلم.(43/280)
المبحث الثالث
حكم الصورة الثانية من صور جمعية الموظفين
سبق في المبحث الأول بيان كيفية هذه الصورة، وهي تشبه الصورة الأولى وتزيد عليها أن يشترط على جميع المشاركين فيها أن يستمروا فيها حتى تستكمل دورة كاملة، فلا يحق لأحد منهم أن ينسحب منها حتى يقرض جميع المشاركين فيها، لئلا ينقص المقدار الذي يستقرضه كل واحد منهم.
فحقيقة هذه الصورة أنه بوجود هذا الشرط كأن كل واحد من المشاركين فيها يقول: لن أقرض فلانا وفلانا إلا بشرط أن يقرضني فلان وفلان.
وقد ذكر بعض الفقهاء ما يدل على حرمة مثل هذا الشرط، فذكر بعضهم أن القرض يحرم إن جر منفعة لغير المقترض، سواء جر نفعا للمقرض أو لغيره.
وذكر آخرون أنه يحرم إن شرط فيه منفعة للمقرض مطلقا (1) .
__________
(1) شرح روض الطالب 2 \ 142، كشاف القناع 3 \ 317، غاية المنتهى 2 \ 82، 84.(43/280)
والقول بتحريم هذه الصورة هو أيضا قياس قول من رأى حرمة الصورة الأولى من صور هذه الجمعية (1) ، لأنها تشبهها، وتزيد عليها اشتراط الإقراض من طرف ثالث أو أكثر.
ويمكن أن يستدل للقول بتحريم هذه الصورة بالحجج التي تمسك بها من قال بتحريم الصورة الأولى، ويمكن أن يضاف إليها بأن في هذه الصورة زيادة اشتراط منفعة للمقرض، وهي أن يقرضه طرف ثالث أو أكثر، وهذا لا يجوز، لأنه ربا، لما فيه من زيادة النفع للمقرض (2) .
وقد سبقت الإجابة عن الأدلة التي تمسك بها من قال بتحريم الصورة الأولى بالتفصيل في المبحث الأول.
أما القول بأن اشتراط الإقراض من طرف ثالث ربا، لما فيه من زيادة النفع للمقرض فيمكن أن يجاب عنه بأن الشرط الذي أجمع أهل العلم على تحريمه والذي يصدق عليه أنه ربا هو اشتراط منفعة أو زيادة للمقرض على المقترض لا يقابلها نفع سوى مجرد القرض (3) .
وهذا غير موجود في هذه الصورة، لأن النفع المشترط هنا لا يقدمه المقترض أصلا، وأيضا فهو نفع لجميع المشاركين سوى آخرهم، لأنه مقرض لا غير.
وذهب بعض أهل العلم ومنهما شيخنا محمد بن صالح بن عثيمين وشيخنا عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين إلى جواز هذه الصورة.
__________
(1) سبق ذكر من قال بذلك ص (248) .
(2) وهذا عند من يرى تحريم اشتراط أي مجمعة للمقرض،: وستأتي الإجابة عنه قريبا.
(3) ينظر ما سبق ص: (257-264) .(43/281)
ويمكن أن يحتج لجوازه! بالأدلة التي احتج بها لجواز الصورة الأولى من صور هذه الجمعية.
الترجيح:
وبالنظر والتأمل في أدلة القولين السابقين لم يظهر لي ما يمنع من التعامل بهذه الصورة، فليس هناك دليل قوي يعتمد عليه في تحريمها، والأصل في المعاملات الحل (1) .
وهذه الجمعية فيها نفع لجميع المستقرضين فيها، ولا ضرر على أحد منهم (2) والشرع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم، وإنما ينهى عما يضرهم.
__________
(1) سبق ذكر بعض المنافع في هذه الجمعية ص (276-277) .
(2) سبقت الإجابة عن ما يظن أنه من سلبيات هذه المعاملة ص (274، 275) .(43/282)
المبحث الرابع
حكم الصورة الثالثة من صور جمعية الموظفين
سبق في المبحث الأول ذكر كيفية هذه الصورة، وهي تشبه الصورة الثانية، إلا أنها تزيد عليها اشتراط الاستمرار في هذا التعامل دورة أخرى أو دورتين أو أكثر حسب ما يتفق عليه الأطراف المشاركون فيها، ويكون ترتيب الاقتراض في الدورة الثانية عكس ترتيبه في الدورة الأولى.
فحقيقة هذه الصورة أن المقرض يشترط على من سيقرضهم أن يقرضوه في دورة ثانية أو أكثر.
وقد نص بعض أهل العلم على تحريم مسألة مشابهة لهذه الصورة، وهي ما إذا شرط المقرض أن يقرضه المستقرض مستقبلا.(43/282)
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز هذه الصورة ومنهم شيخنا محمد بن صالح بن عثيمين، وشيخنا عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين.
قالوا: لأن الشرط المحرم في القرض هو ما فيه زيادة، وهو غير موجود في هذه الصورة؛ لأنه ليس فيها زيادة، وإنما فيها اشتراط منفعة للمقرض مساوية للمنفعة التي حصل عليها المستقرض، فهو قرض مقابل قرض.
والراجح -والله أعلم- في هذه المسألة القول بتحريمها، فالذي ترجح لدي أن الشرط الذي أجمع أهل العلم على تحريمه هو أن يشترط المقرض على المستقرض زيادة أو منفعة لا يقابلها سوى مجرد القرض (1) ، وهذا موجود في هذه الصورة؛ لأنه قد اشترط عليه منفعة، وهي أن يقرضه في الدورة الثانية، ولا يقابل هذه المنفعة سوى القرض الأول فقط.
والله أعلم.
__________
(1) ينظر ما سبق ص (257-264) .(43/283)
الخاتمة
الحمد لله وحده وبعد:
فمن خلال هذا البحث المتواضع عن هذه المسألة الهامة تبين لي أمور أهمها: 1- أن القول الراجح في حكم الصورة الأولى من صور هذه الجمعية القول بجوازها، والذي هو قول جمهور من تكلم عنها من أهل العلم، وأنه القول الذي تعضده الأدلة الشرعية، والموافق لأصول الشريعة وقواعدها العامة.(43/283)
2 - أن الصحيح في حكم الصورة الثانية الجواز أيضا.
3 - أن الصورة الثالثة محرمة لأن فيها شرطا قد أجمع أهل العلم على بطلانه.
وفي الختام أسأل الله جل وعلا أن ينفع بهذا الجهد المتواضع كاتبه، وجميع المسلمين، وأن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(43/284)
جمال الدين القاسمي علامة الشام
عدنان صادق الدبسي
ليست هذه الدراسة ترجمة كاملة لسيرة القاسمي، وإنما هي لمحات لبيان الدور الذي قام به لتجديد المنهج السلفي في بلاد الشام، وعمله الإصلاحي فيها لإيضاح جهوده في خدمة السنة النبوية، ثم لتذكير الخلف بما كان عليه العلماء العاملون.(43/285)
وهذه بعض أقوال العلماء فيه أجعلها مدخلا لهذه الدراسة:
إذا كان عمل جمال الدين القاسمي للإصلاح وتجديد علومه صغيرا في نفسه، فهو كبير جدا في بلاده وبين قومه، فما القول إذا كان كبيرا في الواقع، وقد عظم المطلوب وقل المساعد.
لقد أحيا السنة بالعلم والعمل، والتعليم والتهذيب والتأليف، وكان أحد حلقات الاتصال بين هدي(43/285)
السلف والارتقاء الذي يقتضيه الزمن.
محمد رشيد رضا
المنار ج \ 7 م \ 17 ص 558
لا تحضرني عبارة تشعر بمبلغ الحزن الذي نال دمشق بفقد من كان عالمها الكبير، وأستاذها الفاضل النحرير جمال الدين القاسمي، فقد كان أحد أفراد هذا العصر المعدودين في التحقيق بأسرار الشريعة، وهو لا مراء عالم الكتاب والسنة بلا مدافع، خلق ليعمل على بعث الدين المبين، خاليا من حشو المتأخرين الجامدين، وتضليل المتحرفين.
محمد كرد علي
صحيفة المقتبس
وإني لأوصي جميع الناشئة الإسلامية التي تريد أن تفهم الشرع فهما ترتاح إليه ضمائرها، وتنعقد عليه حناجرها، أن لا تقدم شيئا على قراءة تصانيف الشيخ جمال الدين القاسمي.
الأمير شكيب أرسلان
من مقدمة كتاب قواعد التحديث للقاسمي
مع ما كان جمال الدين القاسمي عليه من الفضل الوافر، والأدب الباهر، والورع الظاهر، والنسب الطاهر، والذب عن الشرع المبين، وقوة الإيمان واليقين، ومناضلة الجامدين والملحدين، فقد اعترف له الموافق والمخالف:(43/286)
أحيا به الله الشريعة والهدى ... وأقام فيه شعائر الإسلام
حكم على أهل العقول يبثها ... منعوتة الأوضاع والأحكام
ويريك في ألفاظه وكلامه ... سحر العقول وحيرة الأفهام
محمود شكري الألوسي - بغداد
أقاسمكم الأسف والغم على مصيبتنا، ومصيبة الإسلام، بفقيد العلم والإصلاح جمال الدين القاسمي رحمه الله.
واحسرتاه على عدم اجتماعي به، وانتفاعي بملازمته.
أسأل الله تعالى أن ينفعني والأمة الإسلامية بآثاره النافعة.
محمد نصيف - جدة
القاسمي مجدد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعلم والعمل والتعليم والتهذيب والتأليف وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف، والارتقاء المدني الذي يقتضيه الزمن، الفقيه الأصولي المفسر المحدث الأديب التقي النزيه صاحب التصانيف الممتعة، والأبحاث المقنعة.
محمود مهدي الإستانبولي
صديق القاسمي(43/287)
عصر القاسمي:
عاش جمال الدين القاسمي في أشد أيام الظلم والظلام، حيث الحريات مفقودة، والصحافة مكبلة، مع فساد في القضاء، وانتشار الرشوة، وكانت(43/287)
الحياة الثقافية في بلد القاسمي شبه مفقودة، فلا مدارس ولا جامعات ولا معاهد؛ لذلك اعتمد قلة من الناس على الكتاتيب وحلقات المساجد.
وقد هيأ هذا انتشار الأمية، حتى لتصل الرسالة إلى أحد الناس في الحي فيبحث عمن يقرؤها، وتصل الصحيفة إلى أحد المتعلمين فيتحلق حوله الناس، وقد انعكس هذا كله على الحياة الدينية، فجمود على القديم، ومتون يحفظها الطلاب من غير فهم، وتقليد أعمى بعيد عن الدليل من الكتاب والسنة.
ومن المدهش أن كتب الحديث النبوي كانت تقرأ في الأغلب للتبرك، وكتب تفسير القرآن كانت ممتنعة عن الخاصة والعامة.
وكان يكفي الطالب أن يقرأ بعض كتب الفقه لتوضع على رأسه عمامة، ويلتحق بركب العلماء، مع أن البحوث الفقهية لم تكن بالمستوى الذي يخدم أغراض الشريعة، وبعيدة عن منهج أصحاب المذاهب المعتمدة.
أضف إلى هذا انتشار البدع والخرافات والقبوريين.
في هذا الجو نشأ القاسمي، لذلك حينما تصدى للإصلاح كان غريبا على أهل عصره فمضى في سبيله على الرغم من العوائق والمعوقات حتى تحقق له كثير مما أراد مؤيدا بتوفيق الله تعالى.
وكان يحضر مجالس الشيخ عبد الرزاق البيطار مجدد مذهب السلف في الشام، وقد استفاد القاسمي من علمه وعقيدته الأثرية وهديه وأخلاقه المرضية ما لم يستفده من غيره.
وصحب الأستاذ الشيخ طاهرا الجزائري، فاستفاد من صحبته علما(43/288)
بحال العصر، ومعرفة بنوادر الكتب، وغرائب المسائل.
وصحب العالم المستقل سليما البخاري، وأترابا من خيرة شبان العصر، كرفيق العظم، ومحمد كرد علي، فكان لصحبة هؤلاء الشيوخ والشبان وهم خير من أنبتت الشام في هذا الزمن، تأثير عظيم في حياته العلمية، حيث فتحت -لاستعداده الفطري واستقلاله الوهبي- أبواب البحث والتحقيق وعدم الوقوف عند المسلمات من التقاليد، ونبهته إلى حاجة الأمة إلى الإصلاح المدني كحاجتها إلى الإصلاح الديني.
ودرس القاسمي علم الفلك على الشيخ عبد القادر الطنطاوي، وعائلة الطنطاوي من بيوت العلم بالشام جاءت من مصر.
ولقد كان جميع أساتذته من المعجبين به وبنبوغه، والمقرين بفضله يقولون عنه: إن له مستقبلا زاهرا. (1)
__________
(1) شيخ الشام، بقلم محمود مهدي الإستانبولي، ص16.(43/289)
سيرة القاسمي الشخصية والعلمية:
هو جمال الدين سعيد بن قاسم -الملقب بالحلاق- القاسمي الدمشقي، والقاسمي نسبة إلى جده المذكور، وقد كان فقيها صالحا، وكان أبوه سعيد فقيها أيضا، وأديبا.
ولد القاسمي في دمشق عام 1283 هـ - 1866م، وكانت وفاته فيها عام 1332 هـ - 1914م.
نشأ القاسمي في بيت علم وتقوى، فتلفى عن والده الشيخ سعيد، ثم(43/289)
التقى بكثير من العلماء، من أمثال الشيخ سليم العطار، وكان يحضر مجالس الشيخ عبد الرزاق البيطار (1) .
وكان القاسمي منذ أن وعى على نفسه يعمل على تهذيبها، وظهرت عليه مخايل النبوغ مبكرا، ولا يكاد يمضي عليه يوم لم يستفد منه فائدة، ولم يقيد شاردة.
وهكذا لم يكتف بدراسة العلوم الشرعية، بل درس أيضا العلوم العصرية.
انتدبته الحكومة بإلقاء الدروس العامة في القرى والمدن في بلاد الشام، فأقام في عمله هذا أربع سنوات من 1308هـ- 1312هـ.
رحل القاسمي إلى بيت المقدس، ثم رحل إلى مصر مع صفيه وصديقه الشيخ عبد الرزاق البيطار، واجتمع فيها بالشيخ محمد عبده -مفتي مصر - وبمحمد رشيد رضا مرات عديدة، وقام برحلة إلى المدينة المنورة والتقى فيها ببعض علمائها.
__________
(1) شيخ الشام، بقلم محمود مهدي الإستانبولي، ص 16.(43/290)
مآثره وشمائله:
وعن مآثره وشمائله أقتبس هذه السطور التي كتبها محمد كرد علي حيث قال:
(إن جماع الأسباب التي نجح بها القاسمي، طهارة نفسه من المطامع الدنيوية، وشغفه بالعلم لذاته ونفعه في إنارة القلوب، وأنه منج في الدنيا والآخرة.
فهو لم يجعل الدين سلما إلى الدنيا، بل فرغ قلبه ووقته للعمل النافع، فبارك الله بساعات عمره القصير) (1) .
__________
(1) مجلة المقتبس الدمشقية.(43/290)
ولو عددنا ما كتبه من مصنفاته، أو قسناه بالنسبة لهذا العصر، لما قل عن اللحاق بالمكثرين من التأليف.
وتذرع القاسمي بعامة ذرائع النفع لهذه الأمة، فكان إماما في تآليفه الوفيرة، إماما في دروسه الكثيرة، إماما في محرابه ومنبره ومصلاه، رأسا في مضاء العزيمة، رأسا في العفة، وهذه الصفة هي السر الذي دار عليه محور نبوغه؛ لأنه لو صانع طمعا في حطام الدنيا لما خرج عن صفوف أهل محيطه.
كان القاسمي إذا لقيه المماحك في أحد المجامع عرضا، أو غشيه في درسه أو بيته ناقدا أو ناقما، علمه من حيث لا يشعر، وهداه إلى المحبة بكيس القول، فإذا أيقن أنه من المكابرين أعرض عنه وقال: (سلاما) .
جاء القاسمي في عصر زهد الناس فيه في العلوم الدينية إلا قليلا فأعاد إليها في هذه الديار شيئا من بهائها السابق، ولقد كان يجتمع به الموافق والمخالف، فما كانا يصدران عنه إلا معجبين بعقله، مقرين بفضله، معترفين بقصور كثير من المشاهير عن إدراك شأوه، يخلب الألباب، ويستميل العقول، فكأنه خلق من معدن اللطف، ورقة الشمائل، ولم تجد الغلظة سبيلا إلى قلبه، ولا الفظاظة أثرا في كلامه وقلمه.
رأيت رجالا كثيرين في مصر والشام خاصة، فلم أر همة تفوق همة القاسمي، ولا نفسا طويلا على العمل ودؤوبا عليه أكثر منه، ولا غراما(43/291)
بالاستفادة ولا حبا بالعلم للعلم، فقد قضى عن (تسعة وأربعين) عاما، وخلف ما خلف من عشرات المصنفات النافعة، منها تفسير، ومنها مقالاته الممتعة، وأبحاثه المستوفاة، وأثر في عقول كثير من الطلبة تخرجوا به، وأخذوا أحكام الحلال عنه، ودع دروس وعظه للعامة أو حلقات خاصته، ومع كل هذا كان حتى الرمق الأخير أشبه بطالب يريد أن يجوز الامتحان لنيل الشهادة العالية.
رزق الله العلامة القاسمي صفات إذا جمع بعضها لغيره، عد قريع دهره، ووحيد عصره.
فقد كان طلق اللسان، طلق المحيا، وافر المادة، وافر العقل، سريع الخاطر، سريع الكتابة.
ما اجتمع به أحد إلا تمنى لو طال بحديثه استمتاعه؛ ليزيد في الأخذ عنه، والاغتراف من بحر علمه.
وبينما ترى القاسمي على قدم السلف الصالح، عالما كبيرا بين الفقهاء، والأصوليين، والمحدثين، والمفسرين، إذا هو من المختصين بالأدب.
وبينما تراه يؤلف إذا بك تراه يواظب على التدريس لطلبته، أو وعظه المستمعين في دروسه وخطبه.
ومع كل هذه الأعمال تراه يهش ويبش كل ساعة، ويفسح من وقته شطرا ليغشى مجلسه أخلاؤه وطلاب الفوائد منه.
ويصف محمد رشيد رضا - القاسمي - فيقول: (كان من أكمل ما رأيت في أخلاقه وآدابه وشمائله، غضيض الطرف، خافض الصوت، كثير الإطراق، خفيف الروح، دائم التبسم) .
اتهمه خصومه -فيما اتهموه- بالوهابية، فلم" يأبه لهم، ولا لاتهامهم؛ لأنه يعرف أن ما اتهموه به ما هو إلا منهج ا! لسلف الصالح،(43/292)
ولذا فقد مضى في دعوته، دون أن يلقي إلى هذه التهمة بالا، مع ما كان يمكن أن يتعرض المتهم بها من الأذى، والنكال في عصره، بل كان كلما ناله أذى من أعداء الإصلاح يزداد قوة وإصرارا.(43/293)
القاسمي ومنهجه في الدعوة بين التأثر والتأثير:
ارتكزت دعوة القاسمي الإصلاحية على المنهج السلفي، إذ كان يدعو المسلمين إلى العودة إلى الكتاب والسنة، وكان يعمل على محاربة الخرافات والبدع التي التصقت بعقائد المسلمين وبسلوكهم.
وكان يدعو علماء عصره إلى عدم قبول آراء الفقهاء المتقدمين عن اتباع وتقليد، بل بالدليل من الكتاب والسنة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو، كيف توصل القاسمي إلى معرفة هذا المنهج السلفي في منطقة غالبية علمائها يدور بين الجمود في الدين والبدعة في الاعتقاد؟ إذا فلا بد أن القاسمي قد تأثر ممن سبقه من الأئمة الأعلام، ويمكن إيضاح ذلك فيما يأتي:(43/293)
تأثر القاسمي بابن تيمية:
جاء القاسمي بعد قرون عديدة من وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكانت دعوة ابن تيمية قد ضعفت في بلاد الشام، إلا أن كتبه ومؤلفاته وفتاويه موجودة في بعض المكتبات.
وهكذا شرع القاسمي بقراءة هذه المؤلفات المتوافرة (بل قام في أول عهده بنشر آثار ابن تيمية، فنشر مجموعة من رسائله في مجلدين، وكان(43/293)
دائما ينوه بفضله في دروسه ويستشهد بتفسيره بالنقل عنه) (1) .
وفي رسالة منه إلى الشيخ محمد نصيف في جدة يؤكد فيها القاسمي تأثره بابن تيمية فيقول: (. . . ولقد أدخل السيد شكري أفندي علي السرور الزائد مما نوه لي عن فضلكم وصلاحكم وكمالكم، وغيرتكم على نشر آثار السلف، لا سيما آثار شيخ الإسلام رحمه الله، فإن هذه غاية أمنيتنا، ونهاية رغبتنا، وقد حمدت الله تعالى وشكرته على أن قيض لهذا الشأن أمثالكم، ومن مدة كنت كاتبت السيد شكري أفندي، وعرفته بأن محبي السلف من الواجب عليهم الآن أن ينهضوا لإحياء آثارهم ونشرها. . .) (2) .
ثم يشير القاسمي إلى أن وفاة شيخ الإسلام كانت بدمشق، وأن رسائله وكتبه موجودة في المكتبة الظاهرية بدمشق، ويعدد القاسمي بعض كتبه ورسائله.
ويتابع القاسمي كلامه فيقول: (وقد أمر السيد شكري أفندي أن أعرض ذلك عليكم، وهو يعلم أنني ممن يتعشقون آثار شيخ الإسلام، ويسعى لها جهده، حتى إني كنت جمعت ثمانية وعشرين رسالة بخطي، استكتبت منها من بلاد شاسعة، ثم طبعت في مصر من نحو عامين. . . والآن عندي من رسائله وفتاويه الصغرى ما أعده أعظم كنز. . .) (3) .
ثم يقول في موضع آخر من هذه الرسالة: (ولا يخفى عليكم
__________
(1) جمال الدين القاسمي، بقلم ظافر القاسمي، ص: 49.
(2) جمال الدين القاسمي، بقلم ظافر القاسمي، ص 585 \ 586.
(3) المرجع السابق، ص 587.(43/294)
أن أعظم واسطة لنشر المذهب السلفي هو طبع كتبه، وأن كتابا واحدا تتناوله الأيدي على طبقاتها خير من مائة داع وخطيب؛ لأن الكتاب يبقى أثره، ويأخذه الموافق والمخالف.
وأعرف أن كثيرا من الجامدين اهتدوا بواسطة ما طبعناه ونشرناه، اهتداء ما كان يظن، والحمد لله على ذلك) .
وينهي رسالته بقوله:
(وما أظن ترون في الشام من له غيرة على آثار الشيخ رضي الله عنه أمثالنا، فالآن آن الأوان، وما بقي إلا الاهتمام. . .) (1) . وهي رسالة طويلة، كلها تدور في رغبة القاسمي واهتمامه بنشر المذهب السلفي عن طريق نشر كتب ابن تيمية رحمه الله.
ويؤكد القاسمي هذا في رسائل أخرى إذ يقول:
(إني ولله الحمد، نشأت على حب مؤلفات شيخ الإسلام، والحرص عليها، والدعوة إليها، وأعتقد أن كل من لم يطالع فيها لم يشم رائحة العلم الصحيح، ولا ذاق لذة فهم العقل، وهم يعلمون ما ندعو إليه، وما نسعى لإشهاره: فطورا يرموننا بالاجتهاد، وطورا بما قدمنا، وسيأخذ الحق بناصيتهم إن شاء الله) (2) .
ويتكرر هذا الحرص على مؤلفات ابن تيمية في مواضع أخرى كثيرة، يجدها المتتبع لتلك الرسائل في هذا الكتاب الذي أشرت إليه.
__________
(1) جمال الدين القاسمى، بقلم ظافر القاسمي، ص 588.
(2) المرجع السابق، ص 596.(43/295)
ويغلب على ظني أن ما عرضته لا يحتاج قارئه إلى كبير عناء، لاستخلاص تأثر القاسمي بابن تيمية، بل هو يؤكد أن المرء لا يشم رائحة العلم الصحيح، ولا يذوق لذة فهم العقل ما لم يطالع تلك المؤلفات والكتب التي خلفها ابن تيمية للأجيال من ورائه.
بعد هذا أقول: إنه من نافلة القول أن أشير إلى تأثر القاسمي بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تلك الدعوة التي انتشرت في مناطق متعددة من العالم العربي والإسلامي، وهي الدعوة التي حرصت على نشر الإسلام بشكله الصحيح، والعودة بالمسلمين إلى الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح من أمثال ابن تيمية وابن القيم.
لذلك سوف تلقى هذه الدعوة صدى في نفس القاسمي.
بل إن كاتبا باحثا بدارة الملك عبد العزيز وهو: محمد كمال جمعة، يؤكد هذا فيقول: (انتهت المشيخة العليا في بلاد الشام في أوائل هذا القرن إلى الشيوخ الأجلاء: الشيخ جمال الدين القاسمي، والشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ طاهر الجزائري، والشيخ محمد كامل قصاب، فدرسوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فأعجبوا بها، وقدروها حق قدرها، ورأوا أنها على حق وصواب، فنشروها في المجتمع الشامي، وبذروا بذورها، فأثمرت أطيب الثمار وانتهت أبرك النتائج. . .) (1) .
ويشير الإستانبولي إلى منهج القاسمي في الدعوة فيقول:
__________
(1) انتشار دعوة الشيخ محمد عبد الوهاب خارج الجزيرة العربية، ص129 وما بعدها.(43/296)
(وكان القاسمي يدعو إلى التوحيد الصحيح، الذي كان يدعو إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد ناظر كبار العلماء في التوحيد، وأوضح لهم ما داخله من الشرك الذي هو أعظم من شرك المشركين، فقد كان الكفار يدعون الله وحده في الشدائد، بعكس المبتدعين في زماننا، الذين ينسون الله عند الشدائد ويدعون غيره) (1) .
وهكذا يتبين لنا كيف تكون لدى القاسمي النهج السلفي بعد توفيق الله ورعايته حيث تظافرت مؤثرات عديدة، فقد تأثر ابتداء بمؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، وبدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، إضافة إلى تأثره ببعض معاصريه، وبمؤلفاتهم، وكتاباتهم، من أمثال محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وبغير هؤلاء ممن التقى بهم في مكة المكرمة والمدينة في رحلاته إليهما.
ولكن ما هو تأثير دعوة القاسمي الإصلاحية؟ وماذا عن نشاطه في إحياء المنهج السلفي في بلاد الشام؟ لقد أكد لنا طائفة من معاصريه، ممن عرفوا القاسمي، وعرفوا صدقه في دعوته، وقواعد المنهج الذي يدعو إليه، أكد هؤلاء أن القاسمي قد تمكن من إحياء السلفية في بلاد الشام، وأنه نجح نجاحا موفقا في عمله الإصلاحي، وفي دعوته إلى الله تعالى، بالرغم من المعوقات الكبيرة التي
__________
(1) جمال الدين القاسمى، بقلم الإستانبولي، ص 28.(43/297)
أقامها أمامه الجامدون والخرافيون، والمتعصبون للباطل والجاهلون.
فقد قال الإمام محمد رشيد رضا: (كان -رحمه الله تعالى- يقرأ الدروس العربية والشرعية للطلبة والعامة، ويخطب في المسجد خطبة الجمعة، ويصنف الرسائل والأسفار الممتعة، ويصحح ما يرى نشره نافعا من كتب المتقدمين ويشرح المختصر، ويختصر المطول منها، ويسعى في طبعها ونشرها، ويبث روح الاستقلال والاستدلال في ذلك كله، مع الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فكم سعى فيه، وكاد له، أولئك المعممون الجامدون، فأنجاه الله منهم.
وإن أكبر الكبائر التي يتهمون بها كل من يدعو مثله إلى العلم والعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هي محاولة هدم الدين، بفتح باب الاجتهاد والاستدلال، وما يستلزمه ذلك بزعمهم من تحقير الأئمة ومن اتبعهم من علماء الأمة.
كان له -رحمه الله تعالى- دروع سابغات من أخلاقه وسيرته، تقيه بغي أعداء العلم والإصلاح من حساده، إذ كان نزيه اللسان بعيدا عن المراء والجدل، متجنبا للازدراء بغيره، أو مدح نفسه. . . إلى ما كان عليه من العبادة والعفة والاستقامة (1) .
ويقدم لنا العلامة محمد كرد علي صورة أخرى للعصر الذي عاش فيه القاسمي وما لاقى من صعوبات، وما واجه من معوقين، حتى تمكن بفضل الله من نشر الدعوة السلفية فيقول: لقد أصبحت العلوم رسمية، والمدارس
__________
(1) المنار، ج \ 7 م \ 17، ص 560.(43/298)
صورية، والأوقاف المحبوسة على الشيوخ مأكولة مهضومة. . . ولكن إرادة المولى سبحانه قضت بأن لا تحرم هذه الأمة من أعلام يصدعون بالحق، فيجددون لها أمر دينها، ويستطيبون الأذى في إنارة العقول والرجوع بالشرع إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والسلف الصالح.
من هؤلاء المجددين نابغة دمشق، فقيدنا - جمال الدين القاسمي - الذي يعرفه قراء هذه المجلة مما نشر في سنيها الماضية من آثار علمه وآدابه ولم يعمه عن الاشتغال ما لقيه من تثبيط المثبطين في أول أمره أو تنقيص الحاسدين في أواسط عمره ممن لا يخلو منهم مصر ولا عصر) .
لقد عمل القاسمي على إعادة المسلمين إلى النهج الصحيح، فاتهموه بأنه صاحب مذهب جديد، فمرة قالوا عن مذهبه: (المذهب الجمالي) ، ومرة أخرى قالوا: (المذهب الوهابي) ، فيرد القاسمي عليهم بقوله: (1) .
زعم الناس بأن ... مذهبي يدعى الجمالي
مذهبي ما في كتا ... بـ الله ربي المتعالي
ثم ما صح من الـ ... أخبار لا قيل وقال
أقتفي الحق ولا أر ... ضى بآراء الرجال
وأرى التقليد جهلا ... وعمى في كل حال
وهكذا يمضي القاسمي في دعوته هذه إلى نهاية حياته، وقد تحقق له
__________
(1) المنار ج \ 8 م \ 17، ص 633.(43/299)
بعض ما أراد، بل يقول الإستانبولي: (إن السلفية اليوم في بلاد " الشام مدينة للقاسمي -إلى حد ما- الذي أحيا بذرتها، بعد ما كادت تموت بعد ابن تيمية وابن القيم) (1) .
ولقد خلف القاسمي تلامذة نهضوا بدعوته، وساروا في طريقه منهم: الشيخ محمد جميل الشطي مفتي المذهب الحنبلي بالشام -رحمه الله- الذي رثاه بقصيدة منها:
مهلا عداة المصلحين عدمتكم ... إني لكم والله غير مسالم
ها نحن بالمرصاد أنصار الهدى ... ندعو إلى الجولان كل مزاحم
إن كان مات القاسمي فإنكم ... سترون منا كل يوم قاسي
نحمي طريقته ونرعى عهده ... في الحق لا نخشى ملامة لائم
وهذا أحد الدارسين على القاسمي وهو الشيخ بهجة البيطار يقول: (إننا جاوزنا عمر شيخنا بعشرات السنين، ولم نعمل ربع عمله. . .)
وقد رثاه حين وفاته بقصيدة قال فيها:
ألا في سبيل الله ما نال شيخنا ... بدعوته وانتابه من متاعب
وأعجب من كل العجيب خصومه ... أفاعيلهم تقضي بكل العجائب
يسبون من للدين قد جاء ناصرا ... ويرمونه حمقا بكل المثالب
سندفع عن أستاذنا طعن طاعن ... وندرأ عن أستاذنا إفك كاتب
هذه أمثلة يسيرة لمواقف بعض تلامذته تشير إلى المدرسة التي أسسها
__________
(1) جمال الدين القاسمي للإستانبولي، ص44.(43/300)
القاسمي واستمرت بعده، ولكن القاسمي لم يخلف تلامذة وحسب، بل ترك مكتبة عامرة فيها التفسير والفقه والأصول والحديث وغير ذلك، وهي تشهد له بسعة علمه وسداد منهجه، وهي تحتاج إلى وقفة هادئة، لأنها جزء من برنامجه الإصلاحي ودعوته السلفية.(43/301)
مؤلفات القاسمي:
ترك القاسمي مؤلفات كثيرة، إذا ما قيست بعمره القصير، حتى قيل: لعل الطريق وحده هو الذي خلا من قلمه.
لذلك من العسير عرض تلك المؤلفات التي تجاوز عددها الثمانين بين كتاب كبير ورسائل صغيرة، ولكنني أود الإشارة إلى أبرزها والتي تشير إلى منهجه السلفي، وتبين لنا جهود القاسمي في خدمة السنة النبوية:
أولا: محاسن التأويل: وهو تفسير كامل لكتاب الله العظيم (1)
والقاسمي في تفسيره ينقل من كل تفسير خير ما فيه، وامتاز تفسيره أيضا بنقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية والاستشهاد بفتاويه وآرائه.
وقد كتب -رحمه الله- آيات الكتاب العزيز بالحبر الأحمر، وكتب تفسيرها بالحبر الأسود بخط فارسي أنيق، وذلك من أول التفسير حتى نهايته.
وجرى في تفسيره على إظهار أسرار الشريعة، وحقائقها على طريقة السلف الصالح حرا دون قيد، يفسر القرآن بالقرآن، وبما صح من الحديث النبوي، وبأقوال الصحابة والتابعين والأئمة من مختلف المذاهب.
__________
(1) طبع بمطبعة عيسى البابي الحلبي، مصر، 1970.(43/301)
بدأ كتابة تفسيره عام 1317هـ وأتمه عام 1329هـ، وجاء هذا التفسير في 17 مجلدا، وقد كان موضع بحث لبعض الدارسين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
ثانيا: كتاب دلائل التوحيد: (1) .
يشير القاسمي في مقدمته إلى أهمية هذا العلم، وأنه علم إقامة الحجة والبراهين، لتأييد مباني أصول الدين، ورد شبه الملحدين.
فأورد أدلة التوحيد، وبراهين النبوة، ومعجزات القرآن الكريم وإعجازه.
ثالثا: كتاب إصلاح المساجد من البدع والعوائد: (2) .
وهذا الكتاب يؤكد الدعوة الإصلاحية، التي عاش المؤلفة حياته في سبيلها، وقد رصد القاسمي في هذا الكتاب أكثر البدع الشائعة في المساجد، وبين تاريخ تسربها ووجوب الامتناع عنها، ولم يقتصر بحثه على بلاد الشام، وإنما شمل جميع البلدان التي زارها، وقدم للطبعة الأولى محب الدين الخطيب بمقدمة أشار فيه إلى أنه الكتاب الوحيد المعروف بالعربية في هذا الموضوع.
رابعا: قواعد التحديث من فن مصطلح الحديث: (3) .
وهو كتاب شامل لعلوم الحديث وفنونه، وجاء في تقديم شكيب أرسلان للكتاب قوله: (. . . رأيت في هذا الكتاب، في حسن ترتيبه وتبويبه
__________
(1) طبع بدمشق عام 1326 هـ، وطبع بالقاهرة، 1406هـ.
(2) طبع بالقاهرة عام 1341 هـ، وطبع ببيروت، 1390 هـ و 397 هـ.
(3) طبع في دمشق 1352هـ- 1935م في أكثر من 400 صفحة.(43/302)
وتقريب الطرق على مريد الحديث، والإحاطة بكل ما يلزم المسلم معرفته من قواعد هذا العلم الشريف، وإني لأوصي الناشئة الإسلامية التي تريد أن تفهم الشرع فهما ترتاح إليه ضمائرها وتنعقد عليه حناجرها، أن لا تقدم شيئا على قراءة تصانيف الشيخ جمال الدين القاسمي. . .)
وقال محمد رشيد رضا في تقديمه لهذا الكتاب:
(وقد بلغ المؤلف في مصنفه هذا النهاية من هذا العلم الاصطلاحي. . . وإننا لا نعرف مثله في موضوعه وسيلة ومقصدا ومبدأ وغاية. . .) .
وقد خصص القاسمي تسعة أبواب لمباحث الحديث:
فتحدث عن: فضله وعلومه ومصطلحاته ورواته وكتبه ومصنفيها ودرجاته، وما يحتج به، ومالا يحتج به، وحكم العمل به.
وجاء الباب العاشر في: فقه الحديث، ومكانه من أصول الدين والمذاهب فيه، هذا أبرز محتويات الكتاب.
خامسا: رسالة بعنوان: شذرة من السيرة النبوية: (1) .
وقد أراد القاسمي من تأليف هذه الرسالة إبعاد المسلمين عن الكتب المتداولة التي تتضمن كثيرا من الخرافات والأساطير، وقد ضمنها فصلين هامين: أحدهما: في إعجاز القرآن، وثانيهما: في غرر من الوصايا النبوية.
__________
(1) طبعت بمصر، عام 1321هـ.(43/303)
سادسا: كتاب حياة البخاري: (1) .
وهو ترجمة مختصرة للبخاري، أشار فيها إلى فقه البخاري واجتهاده المطلق، دلل على ذلك من اختيارات البخاري نفسها، وأنه كان يقف مع الدليل الذي يراه.
سابعا: رسالة في المسح على الجوربين: (2) .
ذكر القاسمي فيها أدلة المسح على الجوربين من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، ومذاهب الأئمة، وقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك.
وقد قدم المحدث أحمد شاكر لإحدى طبعات الرسالة بقوله:
(إن أستاذنا عالم الشام الشيخ محمد جمال الدين القاسمي ألف رسالة نفيسة في المسح على الجوربين طبعت في دمشق سنة (1332 هـ) وقد قرأتها وأخذت منها علما جما، وروحا قويا في ذلك العهد البعيد، حين كنا في مطلع الشباب، متشوقين إلى العلم الصحيح، علم الكتاب والسنة) .
وقد رصد محمود الإستانبولي في كتابه (جمال الدين القاسمي) أسماء مؤلفات القاسمي في ص 73.
وحسبي هذه الأمثلة اليسيرة من مؤلفات القاسمي رغبة في بيان جهوده في خدمة السنة والعقيدة السلفية.
__________
(1) طبع في صيدا، 1330هـ.
(2) مطبوعة.(43/304)
آراؤه وأفكاره:
كتب القاسمي بقلمه كثيرا من الأفكار والآراء التي توضح نهجه(43/304)
أو طريقته في الإصلاح والتقويم، وتدل على عقله وسمو تفكيره من هذا مثلا: 1 - الدين مدرسة الأخلاق: يقول القاسمي: (دين الأمة هو مدرسة أخلاقها، ودستور عقولها، ومصباح حياتها، وقانون وجودها، فلا تشرف عواطف الأمة، وتتهذب ميولها، وتتزكى سرائرها إلا بالعقائد الصحيحة، ولا يصان نظامها من الخلل والتفرقة إلا بالدين، ولا يدفع خطر الفوضى التي تهوي بالشعوب من الهلكة إلى مكان سحيق إلا بالإيمان الصحيح، فبقدر تمكن العقيدة من نفوس أفراد الأمة تكون سعادتهم وقوام حياتهم) (1) .
2 - وعن محاسن الإسلام وخصائصه، يقول:
(إن من محاسن الإسلام انطباق أصوله على نواميس العمران، ووفاء قواعده بحاجيات كل زمان ومكان، وابتناء أحكامه على جلب المصالح ودرء المفاسد، وتميزه برفع الآصار والأغلال، وفتحه أبواب اليسر والتيسير وسده مسالك الحرج والتعسير. . . ومن خصائصه: إرشاده لمناهج الاستنباط، وموارد التفقه والاستخراج حتى سهل على راسخيه رد كل ما ينفع الناس إلى نصه ومحكمه، أو مجمله وظاهره، وتطبيقه على سماحته، وتوفيقه على يسره ورحمته. . .) (2) .
__________
(1) دلائل التوحيد، ص 134.
(2) إرشاد الحق، ص 3.(43/305)
3 - وعن مطابقة الشرع للعقل يقول القاسمي:
(العقل حجة الله القاطعة البالغة، وأصل براهينه الساطعة الدامغة، والنقل لا يأتي مما يناقض العقل، وإنما يرد بما يزكي قضاه، ويصقل مرائي أحكامه أحسن صقل. . .، والذي عليه المحققون أن جميع الأحكام المشروعة، أصولها وفروعها، كلياتها وجزئياتها معقولة، وأن أحكامها وأسرارها: إما مذكورة بالعبارة أو الإشارة، أو بالتنبيه على أمثالها، أو مطوية إحالة على اقتضاء العقل السليم، أو الفطرة، أو رعاية المصلحة، وأن عدم العلم ليس علما بالعدم) (1) .
السوانح:
كتب القاسمي كثيرا من السوانح، وهي خطرات تخطر على فكره، فكان يبادر إلى تسجيلها فورا.
من تلك السوانح تعليقه على خطباء الجمعة حيث قال: (قول بعض الخطباء الحشوية في خطبهم: روي أن الله تعالى أوحى في بعض كتبه إلى داود أو إلى فلان كذا وكذا، من الجهل الكبير، إن هذه الرواية لو كانت صحيحة لكان في القرآن الكريم غنى عنها وعن أمثالها، ولكن ما نصنع وهؤلاء الحشوية فوق رؤوسنا كل أسبوع، يسمعوننا الخرافات والموضوعات ما يرثي كل عاقل له.
-وتحت عنوان بلاغة التنزيل قال:
(خطر لي أن ما يستعمله بعض الكتاب من قولهم: [محبة حارة] أو
__________
(1) دلائل التوحيد، ص 129.(43/306)
[قام فلان بالعمل بهمة حارة] ونحو ذلك له نظير في اللغة العربية، إذ ورد ما هو بمعنى ذلك وأرق منه وألطف، وهو قوله تعالى: {وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (1) فالحميم إشارة إلى حرارة الحب والصداقة والمودة والعطف والنصرة والاهتمام بالشؤون فما يزعمه بعضهم أن التعبير بالحرارة جديد، هو قديم الاستعمال بألطف وأرق) .
__________
(1) سورة الشعراء الآية 101(43/307)
مفكراته:
درج القاسمي على تدوين مذكراته في المفكرات المعروفة أو في بعض هذه المفكرات تسجيل لحوادث تاريخية، أو وصف لبعض رحلاته أو لقاءاته، مثال هذا ما سجله عن الدروس المستفادة من النحل فقد كتب يقول:
(جاء في بعض المجلات العلمية أنه يستفاد من النحل ثمانية دروس.
1 - تعلمنا النحلة المثابرة على العمل، فلم ير أن نحلة تخلت عن عملها قط.
2 - تعلمنا النحلة الإخلاص والطاعة؛ لأن كل النحل يحب ملكته ويطيعها.
3 - تعلمنا محبة الأوطان، فلا تترك النحلة بيتها إلا لوقت قصير وللضرورة.
4 - تعلمنا النظافة، فلا أنظف من بيت النحلة وخليتها.
5 - تعلمنا الرفق والعطف على الآخرين، ولا سيما حين الحاجة، فلا تترك رفيقة لها في ضيق، ما لم تمد إليها يد المساعدة.(43/307)
6 - تعلمنا وجوب الاستيقاظ باكرا.
7 - تعلمنا وجوب التمتع بالهواء النقي.
8 - تعلمنا المساعدة والمودة، فإنه قلما نظر النحل يتشاجر أو تختلف الواحدة مع الأخرى) .
- وعن حياة العلماء والحكماء، كتب القاسمي:
(إن للعلماء والحكماء في هذه الدنيا حياتين: حياة جسدية محدودة: تبتدئ بيوم الولادة، وتنتهي بيوم الوفاة، وحب الحياة الحيوانية التي يشاركهم فيها سائر الناس، بل سائر الحيوان، وحياة عقلية روحانية غير محدودة: وهي تبتدئ بظهور ثمرات عقولهم النافعة لأمتهم، أو تسعد من يجنيها من الناس، وتدوم ما دام الزمان وبقي من المناظرين في آثارهم إنسان.
- وعن الترتيب، قال:
(فضيلته تحمل صاحبها على العمل بما رتبه لنفسه أو الاهتمام، وهي تنشط النفوس، وتريح البال، ويكون صاحبها مستجمعا لفكرته، محافظا على وقته.
- وعن الإنسان والنبات، قال:
لا ينبغي أن تكون من وظيفة المرء في الحياة دون النبات، ذاك يتطاول، وهم يتقاصرون، ذاك يطلب السماء، وهم يطلبون الأرض، وكأنهم للموت مشتاقون) .
إن آراء القاسمي وأفكاره، وسوانحه ومفكراته، وما تضمنت من قيم(43/308)
توجيهية وتربوية ونقدية وتعليمية، يمكن أن تضاف إلى مؤلفاته القيمة التي تجاوزت مائة كتاب ورسالة.
أما مكتبته ففيها من نوادر الكتب والمخطوطات.
هذه شذرات من سيرة علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي تبين بعض إسهاماته في نشر الدعوة إلى الله، وتجديد المنهج السلفي في بلاد الشام، وهو منهج يستهدف العودة بالمسلمين إلى الكتاب والسنة والعقيدة الصحيحة.
ولعل هذه الدراسة تقرب هذه الشخصية العلمية السلفية إلى القارئ الكريم، وتوضح سمات دعوته المبنية على الحكمة والموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن فنجحت وأثمرت أطيب الثمرات.
والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(43/309)
صفحة فارغة(43/310)
من مشاهد يوم القيامة
للدكتور \ دوخي بن زيد بن علي الحارثي (1)
الحمد لله نحمده على آلائه ونشكره على توفيقه وامتنانه، ونسأله في الدنيا الثبات على دينه وفي الآخرة الفوز بجنانه، ونشهد أنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله الله رحمة للعالمين وحجة على الناس أجمعين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا، وبعد: إن يوم القيامة يوم عظيم فيه من المشاهد التي تصور المواقف في تلك الساعة الشيء الكثير الذي بالنظر والتمعن يزداد المؤمن إيمانا والمفرط رجوعا واستقامة، وسأورد طرفا من ذلك سائلا المولى الكريم أن يرزقنا الفهم في كتابه الكريم وسنة نبيه الأمين والعمل الصالح الذي يرضى به عنا.
__________
(1) وردت ترجمة للكاتب في العدد الأربعين صفحة 167.(43/311)
مشهد الكائنات الكونية
أولا مشهد الكائنات السفلية (الأرض والجبال والبحار) :
من المشاهد الكونية العظيمة التي تذهل العباد يوم القيامة الأرض والجبال والبحار لما يحصل لها من خراب في يوم القيامة، وما يكون لها من الحركات المروعة، والحادث الذي لم يكن له مثيل من قبل، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (1) {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (2) وقد جاء ذكر الآيات الكونية في القرآن الكريم مفرقة أحيانا وأحيانا أخرى مقترن بعضها ببعض حيث يأتي المشهد لآية من هذه الآيات الكونية على حدة وتأتي المشاهد لعدد منها في جهة واحدة كالأرض مثلا.
وسنرى أوصاف هذه المشاهد حسبما جاءت في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
وسأتناولها بالحديث مشهدا مشهدا لتتضح صورة كل منها حسب تصوير النصوص لها بقدر الإمكان.
__________
(1) سورة الحج الآية 1
(2) سورة الحج الآية 2(43/312)
أ- مشهد الجبال:
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} (1) .
أول ما يجري للكائنات عند زلزلة الأرض هو ذهاب الجبال لأنها هي
__________
(1) سورة الكهف الآية 47(43/312)
الرواسي للأرض كما أخبر الله تعالى عن هذا بقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} (1) {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (2) ، وقوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} (3) .
فيزيل الله الجبال من أماكنها ويذهبها سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} (4) {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} (5) {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} (6) .
فتبقى الأرض مستوية لا حجر فيها ولا شجر ولا انخفاض ولا ارتفاع فهي ظاهرة مكشوفة جميعها للرائي.
قال الألوسي عند آية الكهف: (والظاهر هنا أول أحوال الجبال ولا مقتضى للصرف عن الظاهر، ثم المراد بذكر ذلك تحذير المشركين ما فيه من الدواهي التي هي أعظم من ثالثة الأثافي) (7) (8) .
وقوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} (9) خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤية، أي: وترى جميع جوانب الأرض: بارزة بادية ظاهرة، أما ظهور ما كان منها تحت الجبال فظاهر، وأما ما عداه فكانت الجبال تحول بينه وبين الناظر قبل ذلك أو تراها بارزة لذهاب جميع ما عليها من الجبال والبحار والعمران والأشجار، وإنما اقتصر
__________
(1) سورة النبأ الآية 6
(2) سورة النبأ الآية 7
(3) سورة النازعات الآية 32
(4) سورة طه الآية 105
(5) سورة طه الآية 106
(6) سورة طه الآية 107
(7) الأثافي: جع أثفية: ما يوضع عليه القدر، لسان العرب مادة (ثفا) 14 \ 113.
(8) روح المعاني (تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) 15 \ 288.
(9) سورة الكهف الآية 47(43/313)
على زوال الجبال لأنه يعلم منه زوال ذلك بطريق الأولى (1) .
وقال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (2) قال ابن كثير: (أي تراها كأنها ثابتة، باقية على ما كانت عليه وهي تمر مر السحاب، أي تزول عن أماكنها.
كما قال تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} (3) {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} (4) (5) .
تزال الجبال عن أماكنها وذلك بصيرورتها هباء ثم ذهابها.
وقال تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} (6) قال الفراء: (صارت كالدقيق، وذلك قوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} (7) .
وبست: فتتت فصارت أرضا، وقيل نسفت كما قال تعالى: {يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} (8) .
والصحيح هو نسفها كما هو ظاهر الآية بعد أن تكون فتاتا كالدقيق، كما قال تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} (9) .
قال الفراء: (الكثيب: الرمل، والمهيل: الذي تحرك أسفله فينهال عليك من أعلاه) (10) .
هذا وصف، ثم يعطي سبحانه وتعالى وصفا آخر لما يحصل للجبال من
__________
(1) نفس المرجع.
(2) سورة النمل الآية 88
(3) سورة الطور الآية 9
(4) سورة الطور الآية 10
(5) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3 \ 603.
(6) سورة الواقعة الآية 5
(7) سورة النبأ الآية 20
(8) سورة طه الآية 105
(9) سورة المزمل الآية 14
(10) معاني القرآن للفراء 3 \ 198.(43/314)
عجائب قدرته تعالى وأن لا شيء وإن عظم بمستحيل مع قدرة الله تعالى فيقول عز وجل: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} (1) وكيف هذا العهن؟ فيقول تعالى في موضع آخر: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (2) والعهن هو: الصوف المصبوغ ألوانا (3) ، المنفوش: النفش: مدك الصوف حتى ينتفش بعضه عن بعض (4) .
هذه حال الجبال يوم القيامة وصفاتها المروعة بعد الصلابة والقوة والكبر والكثرة تصير بهذه الصفات ثم يذهبها الله تعالى حتى يصبح لا أثر لها.
قال تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} (5) ، وقال تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} (6)
__________
(1) سورة المعارج الآية 9
(2) سورة القارعة الآية 5
(3) لسان العرب: 13 \ 297.
(4) لسان العرب: 6 \ 257.
(5) سورة النبأ الآية 20
(6) سورة التكوير الآية 3(43/315)
ب- مشهد الأرض:
قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) انظر بعد الحياة والاستقرار ماذا سيكون للأرض؟ قال الله تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} (2) إنه الخراب لهذا
__________
(1) سورة الرعد الآية 3
(2) سورة الواقعة الآية 4(43/315)
الكون والانتقال إلى دار أخرى.
فمن مشاهد القيامة: تحرك الأرض وارتجاجها وتحركها وارتجافها كما قال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ} (1) ثم تتزلزل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (2) ثم تدك: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (3) {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} (4) تمهد وتسوى وتصبح كالبساط الواحد لا ارتفاع ولا انخفاض فيها كما قال تعالى: {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} (5) {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} (6) وتمد كما قال تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} (7) مثل مد الأديم (8) كما في الحديث: «ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم (9) » وتلقي ما في بطنها من الأموات وتتخلى عنهم (10) {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} (11)
__________
(1) سورة المزمل الآية 14
(2) سورة الزلزلة الآية 1
(3) سورة الحاقة الآية 14
(4) سورة الفجر الآية 21
(5) سورة طه الآية 106
(6) سورة طه الآية 107
(7) سورة الانشقاق الآية 3
(8) الأديم: الجلد ما كان، لسان العرب مادة (أدم) 9 \ 12.
(9) هذه قطعة من حديث طويل رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ذكره ابن ماجه في سننه كتاب الفتن باب 33 حديث 4081. قال محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على هذا الحديث في سنن ابن ماجه: (في الزوائد: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، ومؤثر بن عفازة ذكره ابن حبان في الثقات. وباقي رجال الإسناد ثقات ورواه الحاكم وقال هذا صحيح الإسناد) ، المستدرك 4 \ 546 هـ. ورواه الإمام أحمد في المسند 1 \ 375 وقال أحمد محمد شاكر (إسناده صحيح) ، انظر المسند تحقيق أحمد محمد شاكر 5 \ 189حديث 3556.
(10) قاله مجاهد وسعيد وقتادة. انظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4 \ 769.
(11) سورة الانشقاق الآية 4(43/316)
مثل قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (1) {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} (2) قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (أي الإنسان استنكر أمرها بعدما كانت قارة ساكنة ثابتة وهو مستقر على ظهرها أي تقلبت الحال فصارت متحركة مضطربة قد جاءها من أمر الله تعالى ما قد أعده لها من الزلزال الذي لا محيد عنه، ثم ألقت ما في بطنها من الأموات من الأولين والآخرين وحينئذ استنكر الناس أمرها وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار) (3) ياله من مشهد عظيم عندما تنطق الأرض وتتكلم وتشهد على كل من كان على ظهرها من العاملين بما كانوا يعملون بعد إذن الله تعالى لها بذلك، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} (4) {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: قال: "أتدرون ما أخبارها؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عمل يوم كذا كذا وكذا، فهذه أخبارها (7) »
بعد هذه المشاهد للأرض، يبدلها الله تعالى كما قال عز وجل:
__________
(1) سورة الزلزلة الآية 2
(2) سورة الزلزلة الآية 3
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4 \ 885.
(4) سورة الزلزلة الآية 4
(5) سورة الزلزلة الآية 5
(6) رواه الترمذي في سننه كتاب تفسير سورة الزلزلة حديث 3353، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد في المسند 2 \ 374.
(7) سورة الزلزلة الآية 4 (6) {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}(43/317)
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} (1) وقد اختلف في تبديل الأرض، فقيل:
1 - تبدل الأرض أرضا أخرى من فضة.
2 - وقيل تبدل نارا.
3 - وقيل تبدل خبزة.
4 - وقيل تبدل غير ذلك.
ذكر هذا ابن جرير وقال: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: يوم تبدل الأرض التي نحن عليها اليوم يوم القيامة غيرها، وكذلك السماوات اليوم تبدل غيرها كما قال جل ثناؤه، وجائز أن تكون المبدلة أرضا أخرى من فضة وجائز أن تكون نارا، وجائز أن تكون خبزا، وجائز أن تكون غير ذلك، ولا خبر في ذلك عندنا من الوجه الذي يجب التسليم له أي ذلك يكون فلا قول في ذلك يصح إلا ما دل عليه ظاهر التنزيل) .
وقال تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) .
وهذا مشهد عظيم فيه بيان لعظمة الله تعالى وقدرته وهيمنته على خلقه أجمعين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 48
(2) سورة الزمر الآية 67(43/318)
«يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ (1) »
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ (2) » .
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: (هذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته وعجائب مخلوقاته وكلها تعرف وتدل على كماله، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان) (3) وعن عائشة رضي الله عنها قالت؟ «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل: فأين يكون الناس يومئذ؟ فقال: على الصراط (5) » .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب التفسير سورة 39 حديث 4812، ورواه مسلم كتاب صفة المنافقين حديث 2787.
(2) رواه مسلم في صحيحه كتاب صفة المنافقين حديث 2788، ورواه أبو داود في سننه كتاب السنة حديث 4732.
(3) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 523 تحقيق الشيخ عبد العزيز بن باز.
(4) رواه مسلم في صحيحه، صفات المنافقين حديث 2791.
(5) سورة إبراهيم الآية 48 (4) {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}(43/319)
هذه المشاهد التي تمر بها الأرض وما يحصل لها يوم القيامة وحتى تصبح أرضا غير تلك التي كان الناس عليها، وهي مقر حشر الخلق وعليها الوقوف ويجري الحساب عليها، ومنها المنصرف إلى النار أو الجنة.
نسأل الله السلامة من النار والفوز بالجنة.(43/320)
ج - مشهد البحار:
من المشاهد المهولة في يوم القيامة تغير البحار عن طبيعتها المعهودة لما يحصل لها من أمر الله تعالى وذلك بخرابها كما قال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} (1) .
وقد ذكر المفسرون أقوالا كثيرة لمعنى سجرت وكلها تعطي معنى للتغيرات المفجعة التي أرادها الله تعالى.
قال الشوكاني: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} (2) أي: أوقدت فصارت نارا تضطرم.
وقال الفراء: ملئت بأن صارت بحرا واحدا وكثر ماؤها، وبه قال الربيع بن خيثم والكلبي ومقاتل والحسن والضحاك.
وقيل أرسل عذبها على مالحها، ومالحها على عذبها حتى امتلأت، وقيل فجرت فصارت بحرا واحدا.
وروى عن قتادة وابن حبان أن معنى الآية: يبست ولا يبقى فيها قطرة، يقال سجرت الحوض أسجره سجرا: إذا ملأته.
وقال القشيري: هو من سجرت التنور أسجره سجرا: إذا أحميته.
__________
(1) سورة التكوير الآية 6
(2) سورة التكوير الآية 6(43/320)
قال ابن زيد وعطية وسفيان ووهب وغيرهم: (أوقدت فصارت نارا) ، وقيل معنى سجرت: أنها صارت حمراء كالدم، من قولهم: عين سجراء، أي: حمراء. قرأ الجمهور: {سُجِّرَتْ} (1) بتشديد الجيم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيفها (2) .
وقال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} (3) أي: فتح بعضها على بعض، عندما تسوى الأرض بعد زوال الجبال وتصبح قاعا صفصفا يذهب البرزخ الحاجز والحجر الذي كان يمنع الماء من الفيضان على الأرض فتتدفق المياه على بعضها وهي نار تضطرم فتوجف القلوب وتضطرب من هذا المشهد المروع.
__________
(1) سورة التكوير الآية 6
(2) فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير 5 \ 388.
(3) سورة الانفطار الآية 3(43/321)
ثانيا مشهد الكائنات العلوية
(السماء والشمس والقمر والنجوم والكواكب)(43/321)
أ - مشهد السماء:
قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (1)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بإذنه وأمره رفع السماوات بغير عمد بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بعدا لا تنال ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها
__________
(1) سورة الرعد الآية 2(43/321)
وأرجائها مرتفعة عليها من كل جانب على السواء، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت، وبينهما من بعد المسير خمسمائة عام، وسمكها خمسمائة عام. وهكذا الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (1) (2) فهذه السماوات السبع على ارتفاعها النائي وسمكها العظيم وعددها الكثير وجمالها الباهر، تأتي ساعة من الساعات ويكون في ذلك خرابها وزوالها من أماكنها ألا إن تلك الساعة هي يوم القيامة.
قال الله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} (3) أي: يوم القيامة تتحرك السماوات لأمر الله تعالى فيموج بعضها في بعض، ثم تنشق على عظمها وسمكها وارتفاعها {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (4) {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} (5)
فهي تأتي طائعة مستجيبة لأمر خالقها الذي ذل له كل شيء، له الأمر من قبل في البناء ومن بعد في الخراب. يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
إنها عندما تنشق يكون لها لون وشكل، ليأخذ المشهد في الزيادة، وترى العيون تحقق ما كان يوعد الإنسان. قال تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} (6) قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -:
__________
(1) سورة الطلاق الآية 12
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2 \ 772.
(3) سورة الطور الآية 9
(4) سورة الانشقاق الآية 1
(5) سورة الانشقاق الآية 2
(6) سورة الرحمن الآية 37(43/322)
(أي تذوب كما يذوب الدردي (1) والفضة في السبك وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها. فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم) (2) .
وكما قال تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} (3) كدردي الزيت، قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وغير واحد (4) ، ثم يكون الضعف والوهن في كل مخلوق أمام قوة الخالق سبحانه وتعالى، حتى في السماء على عظمها وقوتها {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} (5) قال الشوكاني رحمه الله تعالى: (أي: انشقت بنزول ما فيها من الملائكة فهي في ذلك اليوم ضعيفة مسترخية) (6) .
ويستمر المشهد في هذه السماء وما يحل بها من أمر الله تعالى. قال تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} (7) وقال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} (8) فهي تتشقق ويكون فيها فرج أي: أبواب، كما أخبر سبحانه وتعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} (9) وهذا المشهد
__________
(1) الدردي: الزيت وغيره، لسان العرب مادة (درد) 3 \ 166.
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4 \ 428.
(3) سورة المعارج الآية 8
(4) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4 \ 658.
(5) سورة الحاقة الآية 16
(6) فتح القدير 5 \ 281.
(7) سورة المرسلات الآية 9
(8) سورة الانفطار الآية 1
(9) سورة النبأ الآية 19(43/323)
الأخير وهو تفتح السماء أبوابا إيذانا بحصول مشهد جديد يظهر أمام الخليقة وهو نزول الملائكة إلى أرض المحشر كما أخبر الله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} (1) قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: (وذلك الغمام الذي ينزل الله فيه من فوق السموات، فتنفطر له السموات وتشقق، وتنزل الملائكة كل سماء فيقفون صفا صفا، إما صفا واحدا محيطا بالخلائق وإما كل سماء يكونون صفا، ثم السماء التي تليها صفا وهكذا، القصد أن الملائكة - على كثرتهم وقوتهم - ينزلون محيطين بالخلق، مذعنين لأمر ربهم، لا يتكلم منهم أحد إلا بإذن من الله. فما ظنك بالآدمي الضعيف خصوصا الذي بارز مالكه بالعظائم وأقدم على مساخطه، ثم قدم عليه بذنوب وخطايا لم يتب منها، فيحكم فيه الملك الخلاق بالحكم الذي لا يجور، ولا يظلم مثقال ذرة. ولهذا قال: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} (2) لصعوبته الشديدة وتعسر أموره عليه. بخلاف المؤمن فإنه يسير خفيفة الحمل: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} (3) {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} (4) (5) .
وفي نهاية الأمر تنتهي السماء وذلك بنزعها وطيها، قال تعالى:
__________
(1) سورة الفرقان الآية 25
(2) سورة الفرقان الآية 26
(3) سورة مريم الآية 85
(4) سورة مريم الآية 86
(5) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 5 \ 473.(43/324)
{وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} (1) كما قال تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (2) وكما قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} (3) وقد سبق الكلام على هذا في مشهد الأرض.
__________
(1) سورة التكوير الآية 11
(2) سورة الزمر الآية 67
(3) سورة إبراهيم الآية 48(43/325)
ب - مشهد الشمس والقمر:
إن الشمس والقمر من تلك الآيات الكونية التي يجري خرابها يوم القيامة، ومشهد من المشاهد المفجعة. قال الله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} (1) {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} (2) {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} (3) إن الأبصار تنبهر من تلك المشاهد العظيمة فيعتريها الذل والخوف من الله تعالى الذي صير هذه المخلوقات إلى هذه الصفة من الخراب والضعف بعد البناء والقوة وكيف بالإنسان الضعيف وهو يترقب خائفا ماذا سيحصل له من الله تعالى؟
يذهب ضوء القمر وتظلم الشمس وتجمعان معا ويرمى بهما، والأبصار تتابع تلك المشاهد المحزنة قال الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (4) وللعلماء أقوال في معنى تكوير الشمس فقيل: ذهابها، وقيل ذهاب ضوئها وقيل رمي بها، وغير ذلك. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: (والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال (كورت) كما قال
__________
(1) سورة القيامة الآية 7
(2) سورة القيامة الآية 8
(3) سورة القيامة الآية 9
(4) سورة التكوير الآية 1(43/325)
الله جل ثناؤه والتكوير في كلام العرب: (جمع بعض الشيء إلى بعض) ، وذلك كتكوير العمامة، وهو لفها على الرأس وكتكوير الكارة وهو جمع الثياب بعضها إلى بعض ولفها، وكذلك قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (1) إنما معناه: جمع بعضها إلى بعض ثم لفت فرمي بها، وإذا فعل ذلك بها ذهب ضوءها فعلى التأويل الذي تأولناه وبيناه لكلا القولين اللذين ذكرت عن أهل التأويل وجه صحيح، وذلك أنها إذا كورت ورمي بها ذهب ضوءها) (2) .
وقد تحدثت السنة عن هذين الكوكبين وما يحصل لهما يوم القيامة ومصيرهما. عن عبد الله الداناج قال: (شهدت أبا سلمة ابن عبد الرحمن جلس في مسجد في زمن خالد بن عبد الله بن أسيد، قال: فجاء الحسن فجلس إليه فتحدثا فقال أبو سلمة: حدثنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشمس والقمر نوران مكوران في النار يوم القيامة. فقال الحسن: ما ذنبهما؟ فقال: إنما أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت الحسن (3) » .
قال الألباني في معنى الحديث: (وليس المراد من الحديث ما تبادر إلى
__________
(1) سورة التكوير الآية 1
(2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 30 \ 64.
(3) أخرجه الإمام الطحاوي في (مشكل الآثار) 1 \ 66، 67، وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري وقد أخرجه في صحيحه مختصرا فقال (2 \ 304، 305) : حدثنا مسدد قال: حدثنا عبد العزير بن المختار به بلفظ: ''الشمس والقمر مكوران يوم القيامة''. ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الأول 2 \ 32. وانظر رواية البخاري في فتح الباري 6 \ 297.(43/326)
ذهن الحسن البصري أن الشمس والقمر في النار يعذبان فيها عقوبة لهما، كلا فإن الله عز وجل لا يعذب من أطاعه من خلقه، ومن ذلك الشمس والقمر كما يشير إليه قول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} (1) فأجبر تعالى أن عذابه إنما يحق على غير من كان يسجد له تعالى في الدنيا كما قال الطحاوي: وعليه فإلقاؤهما في النار يحتمل أمرين:
الأول: أنهما من وقود النار، قال الإسماعيلي: (لا يلزم من جعلهما في النار تعذيبهما، فإن لله في النار ملائكة وحجارة وغيرها لتكون لأهل النار عذابا وآلة من آلات العذاب، ومن شاء الله من ذلك فلا تكون هي معذبة) .
والثاني: أنهما يلقيان فيها تبكيتا لعبادهما. قال الخطابي: (ليس المراد بكونهما في النار تعذيبهما بذلك، ولكنه تبكيت لمن كان يعبدهما في الدنيا ليعلموا أن عبادتهم لهما كانت باطلا. قلت وهذا هو الأقرب ويؤيده أن في حديث أنس عند أبي يعلى، كما في (الفتح 6 \ 214) : ليراهما من عبدهما - والله تعالى أعلم) (2) .
__________
(1) سورة الحج الآية 18
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الأول: 2 \ 34.(43/327)
جـ - مشهد النجوم:
النجوم خلق من ذلك الكون الذي أذن الله تعالى بخرابه وتغير أموره(43/327)
بما شاء الله تعالى، والخلق يشاهدون ذلك الخراب الذي شاء الله عز وجل. قال الله تعالى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} (1)
بعد المكان العالي والنور الساطع (زينة للسماء، وعلامات يقتدى بها، ورجوما للشياطين) . كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} (2) وكما قال تعالى: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (3) فإذا جاء أمر الله تعالى وذل كل شيء لسلطانه وأتى طائعا لأمره كان من بين ذلك الكواكب، فإذا خرب الكون وأذن الله تعالى. مما شاء في أمرها ذهب ضوؤها، وانتثرت كما قال تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} (4) فتتساقط كما أخبر تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} (5) فياله من مشهد عظيم، كيف والنجوم على كثرتها وهي تتساقط كأنها جراد منتشر، ثم تذهب حيث شاء الله تبارك وتعالى. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وقرأ قارئ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (6) وفي الحاضرين أبو الوفاء ابن عقيل فقال له قائل: "يا سيدي هب أنه أنشر الموتى للبعث والحساب وزوج النفوس بقرنائها بالثواب والعقاب فلم هدم الأبنية وسير الجبال ودك الأرض وفطر السماء ونثر النجوم وكورت الشمس؟ " فقال: إنما بنى لهم الدار للسكنى والتمتع، وجعلها وجعل ما فيها للاعتبار
__________
(1) سورة المرسلات الآية 8
(2) سورة الملك الآية 5
(3) سورة النحل الآية 16
(4) سورة التكوير الآية 2
(5) سورة الانفطار الآية 2
(6) سورة التكوير الآية 1(43/328)
والتفكر والاستدلال عليه لحسن التأمل والتذكر. فلما انقضت مدة السكنى وأجلاهم من الدار خربها لانتقال الساكن منها فأراد أن يعلمهم بأن الكون كان معمورا بهم وفي إحالة الأحوال، وإظهار تلك الأهوال، وبيان المقدرة بعد بيان العزة، وتكذيب لأهل الإلحاد، وزنادقة المنجمين، وعباد الكواكب والشمس والقمر والأوثان، فيعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، فإذا رأوا آلهتهم قد انهدمت، وأن معبوداتهم قد انتثرت وانفطرت، ومحالها قد تشققت ظهرت فضائحهم وتبين كذبهم، وظهر أن العالم مربوب محدث مدبر، له رب يصرفه كيف يشاء، تكذيبا لملاحدة الفلاسفة القائلين بالقدم. فكم لله من حكمة في هدم هذه الدار ودلالة على عظيم عزته وقدرته وسلطانه وانفراده بالربوبية، وانقياد المخلوقات بأسرها لقهره، وإذعانها لمشيئته فتبارك الله رب العالمين)(43/329)
مشاهد الناس يوم القيامة
أولا: خروج الناس من الأجداث (1)
أردنا من ذكر هذا المشهد الصفة التي يكون عليها الناس عند خروجهم من قبورهم بعد النفخة الأخيرة أحياء ينظرون، وما يحصل في ذلك اليوم من الأهوال المفجعة والحوادث المحزنة. قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} (2)
__________
(1) الأحداث: القبور.
(2) سورة الزمر الآية 68(43/329)
إذا صعق الناس جميعا إلا من شاء الله تعالى، بقوا إلى ما شاء الله ثم يرسل الله مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس فإذا نفخ النفخة الأخيرة أرسل الله الأرواح إلى"الأجساد فقام الناس ينظرون (1) . قال تعالى: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} (2) وقال تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} (3)
وقد جاء وصف هذا المشهد في مواضع من كتاب الله تعالى فقال عز وجل: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} (4) وهذا مشهد لما يحصل للقبور يوم القيامة عند بعثرتها وخروج من فيها من الأموات كما قال تعالى: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} (5) ففي تلك الساعة التي تبعثر فيها القبور ويخرج منها الأموات يعلم الإنسان حقيقة الأمر وهول ما يحصل في يوم القيامة.
ثم بين سبحانه وتعالى الصورة التي يكون عليها الناس في يوم القيامة فقال: {الْقَارِعَةُ} (6) {مَا الْقَارِعَةُ} (7) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} (8) {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} (9) {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (10)
__________
(1) انظر صحيح مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة، حديث 2940.
(2) سورة ق الآية 42
(3) سورة ق الآية 44
(4) سورة الانفطار الآية 4
(5) سورة العاديات الآية 9
(6) سورة القارعة الآية 1
(7) سورة القارعة الآية 2
(8) سورة القارعة الآية 3
(9) سورة القارعة الآية 4
(10) سورة القارعة الآية 5(43/330)
فهم عند ما يخرجون من قبورهم وتسري فيهم أرواحهم ويرون الأهوال العظيمة في أنفسهم وهم حفاة عراة، وفي الكائنات الأخرى، فلا يدرون أين يذهبون أو يتجهون يموج بعضهم في بعض مثل الفراش في تداخل بعضه في بعض، فهم يتطلعون إلى ما سيكون من خالقهم حيث الانقطاع من الدنيا - دار الغرور - والرجوع إليه سبحانه وتعالى حفاة عراة لا طعام ولا شراب، ولا ظهير ولا نصير، انقطعت عنهم الأسباب، وتفرقت بهم السبل لا ينفع حبيب حبيبا، الجميع مستسلمون لأمر رب الأرباب، منتظرون ما سيكون في الحساب وما بعد الحساب.(43/331)
ثانيا: ذهول الناس عن أنفسهم وما يملكون
إذا بعدت الحوادث المفجعة عن الإنسان في الحياة الدنيا فهو في أمن واستقرار وطمأنينة وأمان، فإذا حل به حادث مروع فهو على قدر ذلك تكون مخاوفه وقلقه وحزنه وأسفه ثم سرعان ما تنتهي.
ولكن حوادث اليوم الآخر كسرها لا يجبر، وجرحها لا يلتئم، وحزنها لا ينسى وفراقها لا يعود، إلا أن يشاء الله تعالى.
والقرآن الكريم يصور لنا مشهد الناس عند زلزلة الساعة حيث انتهاء عمر الدنيا وبداية اليوم الآخر فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (1) {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (2)
__________
(1) سورة الحج الآية 1
(2) سورة الحج الآية 2(43/331)
يخاطب الله تعالى عباده بأن يتقوه وذلك بإخلاص العبادة له دون سواه ويذكرهم بأهوال ما هم قادمون عليه في نهاية الأمر وأنه لا يخلصهم وينجيهم من أهوال وعذاب ذلك إلا هو سبحانه وتعالى إذا كانوا على مرضاته، فبين عز وجل عظم ذلك اليوم وما يحصل فيه من الأهوال العظيمة، التي بسببها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، ليكون لها شأن غير ما هو أعظم الشأن عندها وهو ابنها - حيث حنان الأم على الابن وعطفها عليه - فيحصل لها ما يشغلها عن ذلك عندما ترجف الأرض وتتحرك وتزحزح عن موضعها، وتغير ما كان معتادا عند الإنسان بتغيرات ما يحصل في يوم القيامة من الأهوال، وتضع الحوامل حملها من شدة الخوف والرعب والفزع من جراء ذلك، وكذا الناس جميعا يصبحون في حال من شرب السكر وذهب عقله وإن لم يكونوا كذلك، ولكن من شدة الهول والفزع والخوف الذي أصابهم وحتى أصبحوا بتلك الحال. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: (ذلك بأنها إذا وقعت الساعة رجفت الأرض وزلزلت زلزالها وتصدعت الجبال واندكت وكانت كثيبا مهيلا ثم كانت هباء منثورا، ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج. فهناك تنفطر السماء، وتكور الشمس والقمر وتنتثر النجوم ويكون من القلاقل والبلابل ما(43/332)
تنصدع له القلوب وتوجل منه الأفئدة، وتشيب منه الولدان، وتذوب له الصم الصلاب) (1) . وقال سيد قطب وهو يعطي صورة لهذا المشهد العظيم: (مطلع عنيف رعيب، لي مشهد ترتجف لهوله القلوب، يبدأ بالنداء الشامل للناس جميعا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (2) {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (3) يدعوهم إلى الخوف من الله {اتَّقُوا رَبَّكُمْ} (4) ويخوفهم ذلك اليوم العصيب {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (5) وهكذا يبدأ بالتهويل المجمل وبالتجهيل الذي يلقي ظل الهول يقصر عن تعريفه التعبير فيقال: إنه زلزلة، وإن الزلزلة {شَيْءٌ عَظِيمٌ} (6) من غير تحديد ولا تعريف. ثم يأخذ في التفصيل فإذا هو أشد رهبة من التهويل. . إذ هو مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عما أرضعت تنظر ولا ترى وتتحرك ولا تعي. وبكل حامل تسقط حملها للهول المروع ينتابها. . وبالناس سكارى وما هم بسكارى يبتدي السكر في نظراتهم الذاهلة وفي خطواتهم المترنحة. مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج تكاد العين تبصره لحظة التلاوة، بينما الخيال يتملاه، والهول الشاخص يذهله، فلا يكاد يبلغ أقصاه وهو هول حي لا يقاس بالحجم والضخامة، ولكن يقاس بوقعه في النفوس الآدمية في المرضعات الذاهلات عما أرضعن - وما تذهل المرضعة عن طفلها وفي فمه ثديها إلا للهول الذي لا يدع بقية من وعي - والحوامل الملقيات حملهن، وبالناس سكارى وما هم بسكارى،
__________
(1) تفسير كلام المنان 5 \ 270.
(2) سورة الحج الآية 1
(3) سورة الحج الآية 2
(4) سورة الحج الآية 1
(5) سورة الحج الآية 1
(6) سورة الحج الآية 1(43/333)
{وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (1) إنه مطلع عنيف مرهوب تتزلزل له القلوب) (2) .
وقد اختلف في وقت هذه الزلزلة على قولين:
القول الأول: أنها في الدنيا قبل يوم القيامة، قاله علقمة والشعبي وابن جريج. وروى أبو العالية عن أبي بن كعب قال: (ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ففزع الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والوحش، فماج بعضهم في بعض، فقالت الجن للإنس: "نحن نأتيكم بالخبر"، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجج، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض السابعة، والسماء إلى السماء السابعة، فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فماتوا) . ومدار هذا القول على حديث الصور الطويل وحديث الصور الطويل ضعفه العلماء (3) . قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: (وهذا القول من حيث المعنى له وجه من النظر ولكنه لم يثبت ما يؤيده من النقل، بل الثابت من النقل يؤيد خلافه،
__________
(1) سورة الحج الآية 2
(2) في ظلا ل القرآن 4 \ 2408.
(3) انظر الكلام على حديث الصور في فتح الباري شرح صحيح البخاري 11 \ 368، 369.(43/334)
وهو القول الآخر) (1) .
القول الثاني: أنها تكون يوم القيامة بعد قيام الناس من القبور، والأدلة على هذا كثيرة سنذكر منها ما يؤيد رجاحة هذا القول وأن أهوال القيامة تحصل جميعها يوم القيامة عندما يقوم الناس جميعا من قبورهم.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «"يقول
الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك ربنا وسعديك، فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار، قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعين، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد"، فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين، ومنكم واحد، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبرنا ثم قال: - ثلث أهل الجنة - فكبرنا ثم قال: - شطر أهل الجنة" فكبرنا (2) » . وعن عمران بن حصين رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت:
__________
(1) أضواء البيان 5 \ 9.
(2) رواه البخاري في صحيحه كتاب التفسير سورة الحج باب 1 حديث 4741، ورواه أحمد في المسند 3 \ 32 و 33، ومسلم في صحيحه كتاب الأيمان حديث 222 وجاء في بعض الطرق للحديث عند البخاري: ''أو كالرقمة في ذراع الحمار'' كتاب الرقاق باب 46 حديث 6530.
(3) رواه الترمذي في كتاب التفسير سورة الحج باب 23 حديث 3168 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه الإمام أحمد في المسند 4 \ 435.(43/335)
إلى قوله: قال: أنزلت عليه هذه وهو في سفر، فقال: "أتدرون أي يوم ذلك؟ "، فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذلك يوم يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. فقال: يا رب وما بعث النار؟ قال: تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة"، قال: فأنشأ المسلمون يبكون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاربوا وسددوا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية"، قال: "فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين، وما مثلكم والأمم إلا كمثل الرقمة (4) في جنب البعير - ثم قال: - إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبروا ثم قال: - إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة - فكبروا ثم قال: - إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة" فكبروا قال: لا أدري قال الثلثين أم لا؟» . وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وعنده أصحابه: إلى آخر الآية، فقال: "هل تدرون أي
__________
(1) سورة الحج الآية 1 (3) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}
(2) سورة الحج الآية 2 (1) {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}
(3) كان ذلك في منى، انظر فتح الباري 11 \ 392. (2)
(4) (3) في ذراع الدابة أو كالشامة الشامة: الخال والعلامة في الجسد، نفس المرجع.
(5) رواه الحاكم في المستدرك 4 \ 568، وقال: هذا حديث صحيح بهذه الزيادة ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(43/336)
يوم ذاك؟ " قالوا الله ورسوله أعلم، قال: "ذاك يوم يقول الله لآدم قم فابعث بعث النار - أو قال - بعثا إلى النار. فيقول: يا رب من كم؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحد إلى الجنة"، فشق ذلك على القوم ووقعت عليهم الكآبة والحزن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة" ففرحوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اعملوا وأبشروا فإنكم بين خليقتين لم يكونا مع أحد إلا كثرتاه، يأجوج ومأجوج وإنما أنتم في الناس أو في الأمم كالشامة في جنب البعير أو الرقمة في ذراع الناقة وإنما أمتي جزء من ألف جزء (1) »
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول من يدعى يوم القيامة آدم، فتراءى ذريته فيقال: هذا أبوكم آدم، فيقول: لبيك وسعديك فيقول: أخرج بعث جهنم من ذريتك، فيقول: يا رب كم أخرج؟ فيقول: أخرج من كل مائة تسعة وتسعين "، فقالوا: يا رسول الله، إذا أخذ منا من كل مائة تسعة وتسعون فماذا يبقى منا؟ قال: "إن أمتي في الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود (2) » .
من هذه الأحاديث الصحيحة يتضح أن زلزلة الساعة المذكورة هي في يوم القيامة عند قيام الناس من قبورهم، وإن كان هناك تساؤلات ترد على الحامل والمرضع كيف يكون ذلك يوم القيامة حيث لا رضاع ولا
__________
(1) سورة الحج الآية 1 (5) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}
(2) رواه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق باب 45 حديث 6529.(43/337)
حمل؟ فأجيب عن هذا باحتمالين:
الاحتمال الأول: أن ذلك كناية من شدة الهول، فلو كان هناك مرضعة لذهلت عن رضيعها، ولو كان هناك حامل لأسقطت حملها. كقوله تعالى: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} (1) {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} (2) الاحتمال الثاني: أن من مات على شيء بعث عليه فالمرضع تبعث وهي ترضع ولدها والحامل تبعث وهي بحملها فمن أهوال ذلك اليوم تذهل المرضع عن رضيعها وتضع الحامل حملها. والله أعلم بالصواب. ويرد أيضا سؤال على حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أخرج من كل مائة تسعة وتسعين (3) » مع أن بقية الأحاديث: «من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين (4) » ، قال الكرماني ردا على هذا: (أن مفهوم العدد لا اعتبار له فالتخصيص بعدد لا يدل على نفي الزائد، والمقصود من العددين واحد وهو تقليل عدد المؤمنين وتكثير عدد الكافرين) (5) .
__________
(1) سورة المزمل الآية 17
(2) سورة المزمل الآية 18
(3) صحيح البخاري الرقاق (6529) ، مسند أحمد بن حنبل (2/378) .
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3348) ، صحيح مسلم الإيمان (222) ، مسند أحمد بن حنبل (3/33) .
(5) فتح الباري 11 \ 390.(43/338)
ثالثا: تغير أحوال الناس
من المعلوم أنه في الحياة الدنيا يحصل التعاطف بين الناس خاصة الأقرباء من الآباء والأبناء والأمهات والإخوان والأصدقاء فيكون الأخذ والعطاء وتبادل المصالح، وقد تحصل المشاحة بين الأقرباء وذلك حسن أحوال الناس.
ولكن يوم القيامة تنقطع الصلة بين الناس في الأخذ والعطاء وحتى بين الأقرباء، الأب وابنه، والأم وابنها، والأخ وأخيه، والصديق وصديقه، وذلك من هول ما يرون ومن أمس الحاجة لما يملكون حيث لا نجاة لأحد إلا بأعماله الصالحة ثم برحمة أرحم الراحمين. وإن كانت المحبة موجودة بين المتقين، والعداوة حاصلة بين الكافرين، وإن كانت صداقة وقربى في الدنيا. قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (1) أما الحسنات فهيهات هيهات أن يعطي أحد أحدا ولو مثقال ذرة ولو كان أقرب قريب أو أصدق صديق. فتغير أحوال الناس التي كانت في الدنيا على بعضهم وذلك يوم القيامة. قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} (2) {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} (3) {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} (4) {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} (5) {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (6)
إذا كان يوم القيامة وحصل الحق الذي كان يوعده العباد، أصبح لا يعرف أحد أحدا في إسداء معروف، وحتى القريب يهرب من قريبه كل
__________
(1) سورة الزخرف الآية 67
(2) سورة عبس الآية 33
(3) سورة عبس الآية 34
(4) سورة عبس الآية 35
(5) سورة عبس الآية 36
(6) سورة عبس الآية 37(43/339)
يقول: (نفسي نفسي) يرجو النجاة من عذاب الله تعالى الذي لا يغني عنه شيئا إلا الأعمال الصالحة.
قال عكرمة: (يلقى الرجل زوجته فيقول لها: يا هذه أي بعل كنت لك؟ فتقول: نعم البعل كنت وتثني بخير ما استطاعت، فيقول لها: فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبيها لي لعلي أنجو مما ترين. فتقول له: ما أيسر ما طلبت ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا أتخوف مثل الذي تخاف. قال: وإن الرجل ليلقى ابنه فيتعلق به، فيقول: يا بني أي والد كنت لك؟ فيثني بخير. فيقول له: يا بني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى. فيقول ولده: يا أبت ما أيسر ما طلبت ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف فلا أستطيع أن أعطيك شيئا) (1) .
إنه لمشهد عظيم والأخ يفر من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه بل والرسل الذين هم من أرحم الناس للناس خاصة أولوا العزم منهم وهم يقولون يوم القيامة عندما يستشفع بهم الناس إلى ربهم: (نفسي نفسي) (2) قال الله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} (3) {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (4) {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (5) يوم القيامة لا ينفع قريب قريبه، ولا يدفع عنه شيئا مما يحل به في ذلك اليوم ولا ينفع إلا رحمة أرحم الراحمين.
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4 \ 743، دار الكتب العلمية تحقيق حسين بن إبراهيم زهران.
(2) انظر حديث الشفاعة في صحيح مسلم كتاب الإيمان حديث 194.
(3) سورة الدخان الآية 40
(4) سورة الدخان الآية 41
(5) سورة الدخان الآية 42(43/340)
قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} (1) قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى: في الآية سؤالان:
السؤال الأول: ما وجه نفي الأنساب بينهم مع أنها باقية كما دل عليه قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} (2) {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} (3) {وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} (4) {وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} (5) ؟ ففي هذه الآية ثبوت الأنساب بينهم.
السؤال الثاني: أنه قال: {وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} (6) مع أنه ذكر في آيات أخر أنهم في الآخرة يتساءلون كقوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} (7) ؟ إلى غير ذلك من الآيات.
الجواب عن السؤال الأول: أن المراد بنفي الأنساب انقطاع آثارها التي كانت مترتبة عليها في دار الدنيا من التفاخر بالآباء والنفع والعواطف والصلات، فكل ذلك ينقطع يوم القيامة، وليس المراد نفي حقيقة الأنساب.
الجواب على السؤال الثاني: من ثلاثة أوجه:
الأول: أن نفي السؤال بعد النفخة الأولى وقبل الثانية وإثباته بعدهما.
وهذا الجواب فيما يظهر لا يخلو من نظر.
الثاني: أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباته فيما عدا ذلك.
الثالث: أن السؤال المنفي سؤال خاص وهو سؤال بعضهم العفو من
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 101
(2) سورة عبس الآية 33
(3) سورة عبس الآية 34
(4) سورة عبس الآية 35
(5) سورة عبس الآية 36
(6) سورة المؤمنون الآية 101
(7) سورة الصافات الآية 27(43/341)
بعض فيما بينهم من الحقوق لقنوطهم من الإعطاء ا. هـ (1) .
تصور بعد أن كانوا أغنياء أصبحوا فقراء إلا من وفقه الله للأعمال الصالحة، وبعد أن كانت الصلات والعطاء أصبحت المشاحة وهروب بعضهم من بعض حتى أقرب قريب وبعد أن كانوا لابسين الثياب وأنواع الزينة أصبحوا عراة، وبعد أن كانوا منتعلين بأفخر الأحذية أصبحوا حفاة، وبعد أن كانت البيوت مساكن فاخرة وبها أشهى المأكولات والمشروبات أصبح لا سكن ولا طعام ولا ماء. تغيرت جميع أحوال الدنيا وملذاتها بأحوال أخرى يوم القيامة.
__________
(1) أضواء البيان 5 \ 882 بتصرف بسيط.(43/342)
رابعا: صفة مجيئهم لأرض المحشر
قال الله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} (1) {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} (2) {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} (3) عند خروجهم من القبور، وبينما الناس في حيرتهم ودهشتهم وسوء مظهرهم، فإذا بمناد الحق - داعي الله - يدعوهم إلى موقف الحساب ليقضي الله بين عباده ويوفيهم أجورهم، فيتجهون إلى ذلك الموقف وهم مثل الجراد في انتشاره لكثرتهم، ويسعون إلى ما دعوا إليه ذليلي الأبصار من عظم الأمر وهوله، مهطعين لذلك. قال ابن جرير رحمه الله تعالى: (وإنما وصف جل ثناؤه بخشوع
__________
(1) سورة القمر الآية 6
(2) سورة القمر الآية 7
(3) سورة القمر الآية 8(43/342)
الأبصار دون سائر أجسامهم والمراد به أجسامهم؛ لأن أثر ذلة كل ذليل وعزة كل عزيز تتبين في ناظريه دودت سائر جسده، فلذلك خص الأبصار بوصفها بالخشوع) (1) . في تلك الساعة يرى الكافر بربه في الدنيا، المكذب باليوم الآخر، عظم هذا اليوم وشدة هوله: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} (2) {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} (3) وقد بين سبحانه وتعالى صفة مجيئهم إلى أرض المحشر عندما يدعون لذلك فقال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} (4) {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (5) (مجيبين لدعوة الداعي مهطعين إليها كأنهم إلى علم يؤمون ويقصدون فلا يتمكنون من الاستعصاء على الداعي ولا الالتواء عن نداء المنادي بل يأتون أذلاء مقهورين بين يدي رب العالمين. وذلك أن الذلة والقلق قد ملك قلوبهم واستولى على أفئدتهم فخشعت منهم الأبصار وسكنت الحركات وانقطعت الأصوات: ذلك الحال والمآل هو: {الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (6) ولا بد من الوفاء بوعد الله) (7) .
فجميع الخليقة من إنس وجن ووحوش ودواب يأتون ساعين إلى أرض المحشر، قال تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (8) وقال
__________
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 27 \ 90.
(2) سورة المدثر الآية 9
(3) سورة المدثر الآية 10
(4) سورة المعارج الآية 43
(5) سورة المعارج الآية 44
(6) سورة المعارج الآية 44
(7) تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن السعدي 7 \ 479.
(8) سورة الكهف الآية 47(43/343)
تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} (1)
وقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (2) وقال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} (3) قال ابن عباس: (يحشر كل شيء حتى الذباب) (4) . وقال تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} (5) وذلك بجمع كل نظير إلى نظيره في الخير والشر. تأتي جميع الخلائق بعد بعثها إلى أرض الموقف ليحاسب الله كلا على ما كان وصار في الحياة الدنيا وذلك عندما يدعون لذلك قال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} (6) {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} (7) {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} (8) {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} (9) وكما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} (10) {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (11) {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} (12)
__________
(1) سورة ق الآية 44
(2) سورة الأنعام الآية 38
(3) سورة التكوير الآية 5
(4) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4 \ 748.
(5) سورة التكوير الآية 7
(6) سورة ق الآية 41
(7) سورة ق الآية 42
(8) سورة ق الآية 43
(9) سورة ق الآية 44
(10) سورة يس الآية 51
(11) سورة يس الآية 52
(12) سورة يس الآية 53(43/344)
خامسا: جثو الأمم للحساب
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} (1) {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2) {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (3)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا كل أمة تتبع نبيها يقولون يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود) (4) .
قال سيد قطب: (إنه يعجل لهم في الآية الأولى عاقبة المبطلين، فهم الخاسرون في هذا اليوم الذي يشكون فيه، ثم تنظر من خلال الكلمات فإذا ساحة العرض الهائلة، وقد تجمدت فيها الأجيال الحاشدة التي عمرت هذا الكوكب في عمره الطويل القصير، وقد جثوا على الركب متميزين أمة أمة في ارتقاب الحساب المرهوب. . . وهو مشهد مرهوب بزحامه الهائل يوم تتجمع الأجيال كلها في صعيد واحد. ومرهوب بهيئته والكل جاثون على الركب، ومرهوب بما وراءه من حساب ومرهوب قبل كل شيء بالوقفة أمام الجبار القاهر، والمنعم المتفضل الذي لم تشكر أنعمه ولم تعرف
__________
(1) سورة الجاثية الآية 27
(2) سورة الجاثية الآية 28
(3) سورة الجاثية الآية 29
(4) رواه البخاري في صحيحه كتاب التفسير سورة الإسراء باب 11 حديث 4718.(43/345)
أفضاله من أكثر هؤلاء الواقفين. ثم يقال للجموع الجاثية المتطلعة إلى كل لحظة بريق جاف ونفس مخنوق. يقال لها: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2) فيعلمون أن لا شيء سينسى أو يضيع، وكيف وكل شيء مكتوب، وعلم الله لا يند عنه شيء ولا يغيب) (3) فياله من مشهد عظيم في يوم مهول في موقف فيه تركع الأمم على ركبها لله رب العالمين مستذلة خائفة وجلة مما سيكون في فصل القضاء من الجبار العظيم الذي لا محاباة فيه ولا مناظرة لأحد دون آخر بل حق يحصحص، وحكم ينفذ. فلله الأمر من قبل ومن بعد وإليه المصير.
__________
(1) سورة الجاثية الآية 28
(2) سورة الجاثية الآية 29
(3) في ظلال القرآن 5 \ 3233.(43/346)
سادسا: تسلم نتائج الأعمال
إن التطلع لنتائج الأمور لشيء عظيم يجعل في الإنسان القلق في النفس والاضطراب في الجسم، لأن الإنسان ينتظر أحد أمرين: إما بشرى بسعادة أو نبأ بخسران.
فكيف بأمر عظيم فيه حياة الإنسان وسعادته أو خسارته وشقاوته؟ . ياله من مشهد عظيم فيه تتطاير الصحف - وتصور كثرة ذلك واتجاه كل صحيفة لصاحبها - فآخذ صحيفته بيمينه وهي تحمل البشر والسرور، والنجاة من عذاب الله تعالى، وآخذ صحيفته بشماله من وراء ظهره وهي(43/346)
تحمل السوء والبشارة بالعذاب: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1)
قال القرطبي: (فتوهم نفسك وأنت بين يدي ربك في يدك صحيفة مخبرة بعملك لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأة أسررتها، وأنت تقرأ ما فيها بلسان كليل وقلب منكسر والأهوال محدقة بك من بين يديك ومن خلفك، فكم من بلية قد كنت نسيتها ذكركها، وكم من سيئة قد كنت أخفيتها قد أظهرها وأبداها، وكم من عمل ظننت أنه سلم لك وخلص فرده عليك في ذلك الموقف وأحبطه بعد أن كان أملك فيه عظيما، فيا حسرة قلبك ويا أسفك على ما فرطت فيه من طاعة ربك) (2) قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} (3) {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} (4)
عرض كتابه على الملأ من الخليقة فرحا مسرورا بنتيجة النجاح، ويود من الجميع أن يطلعوا على ذلك، كما يخبرهم أن نتيجة ذلك لعلمه اليقيني في الدنيا بتحقق هذا اليوم فعمل من الأعمال ما أهله لهذا النجاح.
وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} (5) {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} (6) يتمنى المفرط أنه لم يعط كتابه ولم يعلم
__________
(1) سورة التوبة الآية 3
(2) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ص309، دار الكتب العلمية - بيروت.
(3) سورة الحاقة الآية 19
(4) سورة الحاقة الآية 20
(5) سورة الحاقة الآية 25
(6) سورة الحاقة الآية 26(43/347)
بالنتيجة لأن في ذلك أولا الحسرة ثم الفضيحة أمام الملأ ثم دخول النار.
حقا إن ذلك يوم التغابن كما وصفه الله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (1) وهذه كلها مشاهد في بعضها الفرح والسرور وفي بعضها الحزن والأسى، وكل ذلك يظهر واضحا جليا أمام الخليقة، نسأل الله السلامة والفوز والنجاة من الخسارة والفضيحة.
__________
(1) سورة التغابن الآية 9(43/348)
مشاهد المؤمنين يوم القيامة
أولا: القول الحق من الرسل عند سؤال المولى لهم
قال الله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (1)
إن هول يوم القيامة يفزع كل أحد من مخلوقات الله تعالى إلا من أمن الله تعالى؛ لأن عظمته عز وجل يستذل أمامها من كبر ومن صغر، وأن علمه محيط بكل شيء فلا علم مع علمه، لا تخفى عليه خافية، يعلم السر وأخفى.
في ذلك اليوم الرهيب الذي فيه يملأ القلق النفوس، ويصل الخوف منتهاه كما قال تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (2) وكما قال تعالى: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (3) نجد عباد
__________
(1) سورة المائدة الآية 109
(2) سورة النور الآية 37
(3) سورة إبراهيم الآية 42(43/348)
الله الصالحين كلهم خير في جميع أحوالهم الظاهرة والباطنة فإن سئلوا وتكلموا فبخير وصدق، وإن صمتوا فعلى خير وتقى، ورسل الله تعالى أصفى البشرية قلوبا، وأزكاها أنفسا وأصدقها منطقا، وأكثرها إيمانا، وأطيبها خلقا، وأعلمها بربها ومراده جل وعلا، وما أعظم حكمته سبحانه وتعالى في كل شيء خاصة وقد اختار من كل أمة أفضلها، وكلفه بإبلاغ دينه، فهاهم رسل الله جميعا يجيبون ربهم عند سؤالهم في ذلك المشهد العظيم والجمع الغفير بإرجاع العلم لأهله: {قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (1) العلم لمن لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، قال لقمان لابنه وهو يعظه كما أخبر الله بذلك: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} (2)
قال سيد قطب: (والرسل بشر من البشر لهم علم ما حضر وليس لديهم علم ما استتر، لقد دعوا أقوامهم إلى الهدى فاستجاب منهم من استجاب، وتولى منهم من تولى، وما يعلم الرسول حقيقة من استجاب إن كان يعرف حقيقة من تولى، فإنما له ظاهر الأمر وعلم ما بطن لله وحده. وهم في حضرة الله الذي يعرفونه خير من يعرف، والذي يهابونه أشد من يهاب، والذي يستحيون أن يدلوا بحضرته بشيء من العلم وهم يعلمون أنه العليم الخبير.
__________
(1) سورة المائدة الآية 109
(2) سورة لقمان الآية 16(43/349)
إنه الاستجواب المرهوب في يوم الحشر العظيم على مشهد من الملأ الأعلى وعلى مشهد من الناس أجمعين. الاستجواب الذي يراد به المواجهة. . مواجهة البشرية برسلها، ومواجهة المكذبين من هذه البشرية خاصة برسلهم الذين كانوا يكذبونهم، ليعلن في موقف الإعلان أن هؤلاء الرسل الكرام إنما جاءوهم من عند الله بدين الله، وهاهم أولاء مسؤولون بين يديه - سبحانه - عن رسالاتهم وعن أقوامهم الذين كانوا من قبل يكذبونهم.
أما الرسل فهم يعلنون أن العلم الحق لله وحده، وأن ما لديهم من علم لا ينبغي أن يدلوا به في حضرة صاحب العلم تأدبا وحياء ومعرفة بقدرهم في حضرة الله: {قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (1) (2) .
ثم لننظر أمام الملأ والمولى عز وجل يخاطب أحد أنبيائه فيقول سائلا له: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (3) ؟ فنجد الرد الصدق من عيسى عليه السلام لربه عز وجل: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (4) {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (5)
__________
(1) سورة المائدة الآية 109
(2) في ظلال القرآن 2 \ 996
(3) سورة المائدة الآية 116
(4) سورة المائدة الآية 116
(5) سورة المائدة الآية 117(43/350)
وقد بين سبحانه وتعالي المقالة الصادقة من عباد الله الصالحين - الذين عبدوا من دون الله دون رضاهم (1) - يوم القيامة فقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} (2) ؟ فيجيبون كما أخبر عنهم سبحانه وتعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} (3) قال ابن عباس: بورا أي: هلكى، وقال الحسن البصري ومالك عن الزهري: أي لا خير فيهم (4) .
__________
(1) قال مجاهد: هو عيسى والعزير والملائكة، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3 \ 499.
(2) سورة الفرقان الآية 17
(3) سورة الفرقان الآية 18
(4) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3 \ 500.(43/351)
ثانيا: وجوه المؤمنين يوم القيامة
قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه، والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله تعالى أصلح الله عز وجل ظاهره للناس) (1) .
فكما أن هذا يعرف في الدنيا، فكذا يكون يوم القيامة حيث يظهر النور على وجوه المؤمنين وتكون محاطة بنور الإيمان الذي كان متغلغلا في القلوب ثم ظهر نوره على الوجوه وأصبح له ضياء في العيون، ليكون ذاك صفة للمؤمنين الأتقياء يميزهم عن غيرهم من المجرمين، وليغبطوا على ذلك
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4 \ 313.(43/351)
ويهنأوا بهذا النعيم والكرامة. قال الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (1) فالناس في الموقف فريقان: أهل الإيمان تشع وجوههم نورا، وأهل الكفر والعصيان يخيم الظلام على وجوههم بسبب ما أبطنوه ومن سوء ما سيقابلون به ربهم وخالقهم أمام الملأ من الناس. قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2)
الجزاء من جنس العمل، مثلما عملوا صالحا في الدنيا، يبيض الله وجوههم يوم القيامة ويدخلهم الجنة: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} (3) ثم تأتي الآيات مبينة مشاهد العز والكرامة للوجوه المؤمنة: قال تعالى: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} (4) وجوه تتلألأ نورا قد أسلمها الله تعالى مما قد أصاب غيرها من الغبرة والهوان، والذل والخسران كما قال تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} (5) وكما قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (6) ونضرة الوجه وسروره للمؤمنين تكون في الدنيا والآخرة كما أخبر الله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (7) هذه صفة كل مؤمن حقا، وإن وردت في الصحابة رضي الله عنهم إلا أن صفة المؤمنين واحدة في الدنيا والآخرة،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 106
(2) سورة آل عمران الآية 107
(3) سورة النبأ الآية 36
(4) سورة يونس الآية 26
(5) سورة الإنسان الآية 11
(6) سورة المطففين الآية 24
(7) سورة الفتح الآية 29(43/352)
وإن اختلفت مقاماتهم ودرجاتهم. قال ابن جرير بعد ذكر ما ورد في معنى هذه الآية: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن سيما هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في وجوههم من أثر السجود ولم يخص ذلك على وقت دون وقت، وإن كان ذلك كذلك، فذلك على كل الأوقات فكان سيماهم الذي كانوا يعرفون به في الدنيا أثر الإسلام وذلك خشوعه وهديه وزهده وسمته، وآثار أداء فرائضه وتطوعه. وفي الآخرة ما أخبر أنهم يعرفون به، وذلك الغرة في الوجه والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء وبياض الوجه من أثر السجود) (1) .
فالحسن والبهاء يعلو تلك الوجوه المستنيرة بنور الإيمان، وتزداد صفاء بالنظر إلى الرحمن، قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (2) {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (3) ويستمر البشر والوضاء على الوجوه في الزيادة من شدة الفرح فتظهر ضاحكة مستبشرة بالنعيم الذي فازت به. قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} (4) {ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} (5) أي: يوم القيامة يظهر اغتباطها بالفوز، فتظهر بهذا المنظر الذي يشاهدهم به من كان في ذلك الموقف على الوجوه متنعمة. مما ظفرت به، جزاء على ما قدمته من الأعمال الصالحة في الحياة الدنيا، كما قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} (6) {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} (7)
__________
(1) جامع البيان من تأويل آي القرآن 26 \ 112 طبعة الحلبي - الطبعة الثالثة 1388هـ - 1968 م.
(2) سورة القيامة الآية 22
(3) سورة القيامة الآية 23
(4) سورة عبس الآية 38
(5) سورة عبس الآية 39
(6) سورة الغاشية الآية 8
(7) سورة الغاشية الآية 9(43/353)
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: «كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلعت الشمس فقال: "يأتي الله قوم يوم القيامة نورهم كنور الشمس " فقال أبو بكر: أنحن هم يا رسول الله؟ قال: "لا ولكم خير كثير، ولكنهم الفقراء والمهاجرون الذين يحشرون من أقطار الأرض (1) » .
وعنه رضي الله عنه قال: وكنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما آخر حين طلعت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيأتي أناس من أمتي يوم القيامة نورهم كضوء الشمس" قلنا: من أولئك يا رسول الله؟ فقال: "فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته في صدره يحشرون من أقطار الأرض (2) » .
هذه الخاصية وإن جاءت لفئات مخصوصة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن المؤمنين من أي أمة من الأمم لا تخلو من السيماء الطيبة، والنور المشع، والصفات البهية، والنضارة العلية، التي يشاهدون بها أمام جموع الخليقة في أرض المحشر ويميزون بها عن غيرهم ممن حاد عن الهدى واتبع الردى.
فهذه الفئات من الناس قد اتصفوا بصفات أهلتهم لهذه المنزلة هي:
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند 2 \ 222 وقال أحمد محمد شاكر إسناده صحيح 12 \ 28 حديث 7072.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 2 \ 177 وقال أحمد محمد شاكر إسناده صحيح 10 \ 136 حديث 6650.(43/354)
1 - حقيقة الإيمان الذي تغلغل في قلوبهم وأنساهم كل شيء سوى هذا الدين، وطاعة رب العالمين.
2 - الهجرة في سبيل الله وقلوبهم تحن إلى أوطانهم، ولكن محبة الله ورسوله أنستهم ذلك فانتقلوا من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.
3 - الصبر على الفقر في سبيل دينهم فلم يتشوفوا لحطام الدنيا الفاني ليصبح أكبر همهم أو مبلغ علمهم، أو غاية رغبتهم، بل كان طموحهم الدار الآخرة حتى وافاهم الأجل وهم في ضنك الحياة وشغف العيش.
فتصورهم وهم بين الناس على أرض المحشر وقد أصبح نورهم كضوء الشمس لم هم في سعادة وحبور، وصفاء وسرور: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (1)
__________
(1) سورة الحديد الآية 21(43/355)
ثالثا: من يغبطون في موقف الحساب
للمواقف الإيمانية في الحياة الدنيا أثرها الطيب في الدنيا والعقبى الحسنة في الآخرة وخاصة ما يظهر واضحا جليا في موقف لا يغني مولى عن مولى شيئا إلا من قربه الله تعالى ورضي له قولا وكان له منزلة ومكانة، وسنرى بعض من أوضحت السنة المطهرة عظم مكانتهم وعلو قدرهم:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله(43/355)
يوم القيامة في ظله (2) » .
هؤلاء سبعة أصناف من الناس يظلهم الله تعالى في ظله يوم تدنو الشمس من الناس ويلجمهم العرق ويكونون أحوج ما يكونون إليه من الأعمال الصالحة، وهؤلاء الأصناف وإن جاء ذكرهم بصيغة التذكير إلا أنه لا يمنع أن يشترك النساء في ذلك لأنهم كلهم مكلفون ويتساوون في الأعمال والجزاء، فالإمام العادل الذي أنصف في عبادة ربه وأقام حكم الله على مراد الله وما جاءت به رسل الله تعالى؛ لأنه كان قادرا على الظلم فلم يمنعه إلا خوفه من الله، والشاب الذي التزم بعبادة ربه، ولم تدفعه الشهوة وقوة الباعث على الحرام، ومن تعلق قلبه ببيوت الله تعالى وإن
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب الآذان باب 36 حديث 660، ورواه مسلم في صحيحه كتاب الزكاة حديث 1030، ورواه الترمذي في كتاب الزهد باب 53 حديث 2391، والإمام أحمد في المسند 2 \ 439، ورواه الإمام مالك في الموطأ كتاب الشعر حديث 14 والنسائي في كتاب القضاة (الإمام العادل) 8 \ 222.
(2) (1) يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل ذكر الله في خلاء ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه(43/356)
كان خارجها فقلبه دائما في المسجد لمحبته لعبادة الله تعالى، واللذان تحابا في الله من أجل الصفات الدينية والالتزامات الشرعية ولم يكن لغرض دنيوي ولم يفرق بينهما شئ إلا الموت، ومن حصن نفسه من الزنا وإن تيسر له ذلك ودعي إليه وكانت دوافعه من الجمال أو الأصل أو الشرف، والذي أنفق المال على حبه وابتعد عن موطن الرياء والسمعة فدفع ذلك خفية يرجو ثواب ربه، ومن ابتعد عن الناس وتفكر في هذه المخلوقات وفي الآيات الكونية، أو بلسانه بآيات الله التنزيلية فبكى من خشية الله والخوف من الله، جميعهم يوم القيامة في أمن وأمان لأنهم في ظل الرحمن. نسأل الله أن يجعلنا معهم فهو الكريم المنان.
قال ابن حجر العسقلاني: (قوله: "سبعة" ظاهره اختصاص المذكورين بالثواب المذكور، ووجهه الكرماني: بما محصله أن الطاعة إما أن تكون بين العبد وبين الرب أو بينه وبين الخلق، فالأولى باللسان وهو الذكر، أو بالقلب وهو المعلق بالمسجد، أو بالبدن وهو العفة) (1) .
وعن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه غلام له معه ضمامة (2) من
__________
(1) فتح الباري 2 \ 143.
(2) ضمامة من صحف: أي حزمة. وهي لغة في الإضمامة. النهاية في غريب الحديث، 3 \ 101.(43/357)
صحف وعلى أبي اليسر بردة ومعافري وعلى غلامه بردة ومعافري. فقال له يا عم إني أرى في وجهك سفعة من غضب. قال: أجل، كان لي على فلان بن فلان الحرامي مال فأتيت أهله فسلمت. فقلت: ثم هو؟ قالوا: لا. فخرج علي ابن له جفر فقلت له: أين أبوك؟ قال: سمع صوتك فدخل أريكة أمي، فقلت: اخرج إلي، فقد علمت أين أنت، فخرج، فقلت: ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال: أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك. خشيت والله أن أحدثك فأكذبك. وأن أعدك فأخلفك، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت والله معسرا. قال قلت: آلله؟ قال: آلله. قلت: آلله؟ قال: آلله. قلت: آلله، قال: آلله. قال: فأتى بصحيفته فمحاها بيده. فقال إن وجدت قضاء فاقضني وإلا أنت في حل، فأشهد بصر عيني هاتين - ووضع أصبعه على عينيه - وسمع أذني(43/358)
هاتين، ووعاه قلبي هذا - وأشار إلى مناط قلبه - رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: «من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله (1) » .
إن هذه الخصلة الحميدة التي يحصل بها الإفراج عن الآخرين (المعسرين) وأثرها العميق في النفوس، حيث إبراء الذمم مما قد ارتهنت به من الحقوق وعدم استطاعتها من الوفاء بذلك والتخلص من شراكه، والذي جاء بالعفو ممن رغبوا في ثواب الله تعالى ومشاركة إخوانهم المشاعر والأحوال والإيثار الذي قد يصعب أن يكون من أحد إلا لمن وفق إلى الخير. فكان الجزاء من الله تعالى على ذلك أعظم، وذلك بأن يفرج عنهم هم الموقف يوم القيامة وكرباته مثلما فرجوا عن إخوانهم في الدنيا فيظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله
يقول يوم القيامة أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي (2) » إنها المحبة في الله تعالى لأن المحبة لغير الله باطلة قال تعالى:
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه كتاب الزهد من حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر حديث 3006 ورواه الترمذي من حديث أبي هريرة كتاب البيوع باب 67 حديث 1306 وقال: حسن صحيح، ورواه ابن ماجه في سننه كتاب الصدقات باب 14، ورواه الدارمي في سننه كتاب البيوع باب 50، ورواه أحمد في المسند عن أبي هريرة 2 \ 359.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند 2 \ 237، 328، وإسناده صحيح قاله أحمد محمد شاكر 12 \ 220 حديث 7230، ورواه مالك في الموطأ كتاب الشعر باب 13، والدارمي في كتاب الرقاق باب 44.(43/359)
{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (1) فهم يدعون يوم القيامة ويكونون في ظل الله تعالى، لا يتأثرون من حرارة الشمس ولا مما يصيب الناس من شدة الهول في عرصات يوم القيامة.
يجلسون على منابر من نور يغبطهم الأنبياء والشهداء كما أوضحت ذلك السنة عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: "المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء (2) » .
تصور والناس في موقف الحساب وكرامات الله تعالى تظهر لأهل الصدق والوفاء فيكرمون أمام الجمع تمييزا لهم على حسن صنيعهم في الدنيا ورفعة وعلوا لشأنهم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المقسطين (4) » . وفي رواية عنه رضي الله عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة بين يدي الرحمن بما أقسطوا في
__________
(1) سورة الزخرف الآية 67
(2) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 53 حديث 2390 وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(3) رواه مسلم كتاب الإمارة حديث 1827، ورواه النسائي كتاب آداب القضاة 8 \ 221، ورواه أحمد في المسند 2 \ 160، وقال أحمد محمد شاكر صحيح الإسناد 9 \ 203 حديث 6492.
(4) (3) عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا(43/360)
الدنيا (1) »
هؤلاء الفئة من الناس الذين عدلوا فيما أولاهم الله تعالى في الدنيا من مسئوليات على اختلافها وإن كانوا قلة بين الناس في الدنيا إلا أن مقامهم في الآخرة عظيم وأي مقام أفضل من هذا المقام حيث يدعون من الموقف ويجلسون على منابر من لؤلؤ في أفضل وأعلى مقام (بين يدي الرحمن) (وعن يمين الرحمن عز وجل) يا له من مشهد يغبط أهله من الجمع، وهم تعلو وجوههم النضارة والسرور بهذه الكرامة، والرضا من الرب الكريم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يدخل الجنة من أمتي زمرة هم سبعون ألفا تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر (2) » وفي رواية لمسلم: «على صورة القمر (3) » .
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا - أو سبعمائة ألف شك في إحداهما - متماسكين آخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة ووجوههم على ضوء القمر ليلة البدر (5) » . قال القرطبي: (المراد
__________
(1) رواه أحمد في المسند 2 \ 159، 203، وإسناده صحيح قاله أحمد محمد شاكر 9 \ 199 حديثه 648.
(2) رواه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق باب 50 حديث 6542، ومسلم في صحيحه كتاب الإيمان حديث 216، والإمام أحمد في المسند 2 \ 400.
(3) صحيح مسلم كتاب الإيمان حديث 217.
(4) رواه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق باب 50 حديث 6543، ومسلم في صحيحه كتاب الإيمان حديث 219.
(5) الشاك هنا هو أبو حازم: سلمة بن دينار أحد رواة الحديث انظر فتح الباري 11 \ 413. (4)(43/361)
بالصورة الصفة يعني أنهم في إشراق وجوههم على صفة القمر ليلة تمامه وهي ليلة أربعة عشر، ويؤخذ منه أن أنوار أهل الجنة تتفاوت بحسب درجاتهم) ، وقال ابن حجر: (وكذا صفاتهم في الجمال ونحوه) 0 (1) .
وهذه الفئة من الناس جاءت أحاديث تبين أعمالهم التي بسببها نالوا هذه الكرامة وهو أنهم: «كانوا لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون (2) » ، فلم يكن الله تعالى ليضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى.
__________
(1) فتح الباري 11 \ 413.
(2) صحيح البخاري كتاب الرقاق باب. 50 حديث 6541.(43/362)
رابعا: نور المؤمنين يسعى بين أيديهم وبأيمانهم
قال الله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1)
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: (ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم وهو جمع يمين، وأنهم يقال لهم: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) (3) علامات السعادة والفوز تظهر واضحة جلية لأهلها في الدنيا وفي عرصات يوم القيامة وفي مسيرتهم إلى دارها الأبدية وفي نهاية أمرهم واستقرارهم.
فهم وهم يتجهون إلى دارهم واستقرارهم يخرج الله لهم نورا
__________
(1) سورة الحديد الآية 12
(2) سورة الحديد الآية 12
(3) أضواء البيان 7 \ 808(43/362)
يهتدون به، ولكنهم يرون الأهوال العظام ويمرون بها فيخشون ربهم ويتوسلون إليه وكلهم رجاء في عفوه: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1)
وقال سيد قطب رحمه الله تعالى: (المشهد هنا بإجماله وتفصيله جديد وهو من المشاهد التي يحييها الحوار بعد أن ترسم صورتها المتحركة رسما قويا، فنحن نشهد هنا منظرا عجيبا: هؤلاء هم المؤمنون والمؤمنات نراهم، ولكننا نرى بين أيديهم وبأيمانهم إشعاعا لطيفا هادئا، ذلك نورهم يشع منهم ويفيض بين أيديهم وذلك مشهد لطيف حقا، فهذه الأجسام الإنسانية المعتمة، قد أشرقت وأضاءت، وأشعت نورا يمتد منها فيرى أمامها ويرى عن يمينها، وتوجه أبصارنا نحن النظارة في ساحة العرض إلى هذا النور، ثم ها نحن أولاء نراه وها نحن أولاء نسمع ما يوجه إلى المؤمنين والمؤمنات هؤلاء من تكريم وتبشير: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2)) (3) .
لقد عمم سبحانه بهذه المكرمة لعباده المؤمنين ثم خصص حيث أشاد بذكر الشهداء فقال تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} (4)
__________
(1) سورة التحريم الآية 8
(2) سورة الحديد الآية 12
(3) مشاهد القيامة في القرآن 210 دار المعارف. بمصر.
(4) سورة الحديد الآية 19(43/363)
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: (أي لهم عند الله أجر جزيل ونور عظيم يسعى بين أيديهم) (1) .
والشهداء أجرهم جزيل وفضلهم عظيم ومكاناتهم عالية عند ربهم.
قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (2) عن مسروق قال: سألنا عبد الله (هو ابن مسعود) عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (3) قال: أما إنا سألنا عن ذلك. فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيت شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم
__________
(1) تفسير القرآن العظيم 4 \ 486 دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان تحقيق حسين إبراهيم زهران.
(2) سورة آل عمران الآية 169
(3) سورة آل عمران الآية 169(43/364)
اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟! ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا". وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم بعض العطاء الموهوب من الله تعالى تكريما لعباده المؤمنين. عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة (1) » .
الشعر قد يتغير من السواد إلى البياض لكبر الإنسان، وقد يتغير لبعض الحوادث والمؤثرات خوفا وخشية من الله تعالى. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله قد شبت، قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وو (4) » .
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب 9 حديث 1635. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(2) رواه الترمذي في كتاب التفسير باب 57 حديث 3297. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه. وروى علي بن صالح هذا الحديث عن أبى إسحاق عن أبي جحيفة نحو هذا. وروي عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة شيء من هذا مرسلا. وروى أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث شيبان عن أبي إسحاق ولم يذكر فيه عن ابن عباس حدثنا بذلك هاشم ابن الوليد الهروي حدثنا أبو بكر بن عياش.
(3) سورة النبأ الآية 1 (2) {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}
(4) سورة التكوير الآية 1 (3) {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}(43/365)
فإذا حصل أحد الأمرين أو كلاهما فيمن قد استرعاهم الله تعالى عبادته وفارقوا الحياة الدنيا وهم على وفاق من رضا الله تعالى، كان هذا الشيب ضياء لهم يوم القيامة في الموقف، وعلامة فارقة تميزهم عن غيرهم أمام الملأ من الناس، ونورا يهتدون به في الظلمات وكرامة يغبطون عليها حيث لزموا عندما فرط الناس، وصبروا عندما تمتع الناس، وأيقنوا عندما جحد الناس، فتصور وأنت تراهم في عرصات يوم القيامة بين الخلائق وقد أضاءت شعور لحاهم بل شعور وجوههم بل شعور أجسامهم جميعا لأنهم مع الناس في ذلك اليوم حفاة عراة. فما بالك بهؤلاء وهم في ذلك الموقف الذي أحوج ما يكون فيه الإنسان إلى رحمة أرحم الراحمين كلهم نور يتلألأ يغبطهم عليه الناس، فيا لها من بشارة من الرب الكريم بالخير والسعادة لهذا الصنف من الناس الذين عملوا صالحا في حياتهم الدنيا وماتوا على ذلك ولقوا ربهم وهم على ذلك فجازاهم بهذا {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} (1)
__________
(1) سورة النبأ الآية 36(43/366)
خامسا: صفات الكافرين
لقد ميز الله تعالى عباده يوم القيامة بصفات فجعل للمؤمنين صفات تدل على نجاحهم وفلاحهم، وجعل للكافرين صفات تدل على خزيهم وخسرانهم. ومن أهم الصفات التي تميز الكافرين يوم القيامة:(43/366)
أ - سواد الوجوه:
قال الله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} (1)
إنها الوصمة التي طبعت بها الوجوه حتى تغيرت من البياض والنضارة إلى السواد والظلمة جزاء على شركهم بربهم في عبادته ثم مصيرهم إلى جهنم وبئس المهاد. وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (2)
لا يزال القرآن الكريم يبين لنا هذا المشهد الفاضح ويبين ما يقابله من مشاهد المؤمنين حيث بياض وجوههم ليكون في ذلك عظة لأولي الألباب، ولا يتوقف الأمر على السواد فحسب بل هذا ميزة وصفة يعقبها العذاب في نار جهنم وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3) في هذه الآية الكريمة مشهدان:
المشهد الأول: ترهقهم ذلة، فيعتريهم الخوف والقلق من معاصيهم.
المشهد الثاني: كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما، من
__________
(1) سورة الزمر الآية 60
(2) سورة آل عمران الآية 106
(3) سورة يونس الآية 27(43/367)
الذل وسوء ما قدموا قد علاها السواد والظلمة.
وقال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} (1) {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} (2)
قال الفخر الرازي: (والمعنى أنها عابسة كالحة قد أظلمت ألوانها وعدمت آثار السرور والنعمة منها لما أدركها من الشقاء واليأس من رحمة الله ولما سودها الله حين ميز الله أهل الجنة والنار. . وإنما كانت بهذه الصفة لأنها أيقنت أن العذاب نازل وهو قوله: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} (3) والظن هنا. بمعنى اليقين) (4) .
{فَاقِرَةٌ} (5) (داهية تقصم فقار الظهر) (6) وقال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} (7) {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (8) {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} (9)
قال الشيخ صديق خان: ثم لما فرغ سبحانه من ذكر حال المؤمنين
__________
(1) سورة القيامة الآية 24
(2) سورة القيامة الآية 25
(3) سورة القيامة الآية 25
(4) تفسير الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب 30 \ 229، 230.
(5) سورة القيامة الآية 25
(6) الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل 4 \ 192.
(7) سورة عبس الآية 40
(8) سورة عبس الآية 41
(9) سورة عبس الآية 42(43/368)
ذكر حال الكفار فقال: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} (1) أي غبار وكدورة لما تراه مما أعد لها من العذاب {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} (2) أي يغشاها ويعلوها سواد وكسوف ولا ترى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه) (3) أ. هـ.
ظلمات بعضها فوق بعض وخزي وندامة اجتمعت على أولئك الخاسرين الذين خسروا أنفسهم يوم القيامة بكفرهم وفجورهم في حياتهم الدنيا.
__________
(1) سورة عبس الآية 40
(2) سورة عبس الآية 41
(3) فتح البيان في مقاصد القرآن 10 \ 244.(43/369)
ب - تنكيس الرؤس:
قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} (1)
وهنا صفة أخرى ومشهد محزن لأولئك القوم يوم القيامة، فهم على أرض المحشر مع سواد وجوههم وذلهم وحقارتهم خافضوا الرؤس مديموا النظر إلى أسفل من الخجل والحياء، يقولون: يا ربنا، الآن عرفنا وعقلنا ما كنا نكذب به في الدنيا فأعدنا ثانية لنعمل الصالحات، فقد تحققنا بحقيقة ما كنا نوعد. وقد أخبر الله عز وجل - العالم - بحقائق الأمور ما كان وما سيكون بأنهم ولو ردوا لعادوا على ما كانوا عليه فقال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (2)
__________
(1) سورة السجدة الآية 12
(2) سورة الأنعام الآية 28(43/369)
قال قتادة عند قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} (1) {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} (2) الآية: (والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله عز وجل فرحم الله امرءا عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار) (3) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 99
(2) سورة المؤمنون الآية 100
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 3 \ 409.(43/370)
جـ - حشره على وجهه إلى النار:
قال الله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (1)
مشهد من المشاهد المخزية، ومنظر غريب لم يتعوده الإنسان من قبل، ولم تكن له سابقة معروفة حتى عند الحيوانات العجماء، فكما أن المؤمنين كانوا يسيرون على هدى واستقامة، فالكفرة كانوا يسيرون على عمى
__________
(1) سورة الإسراء الآية 97(43/370)
وضلالة {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1)
فجازاهم الله تعالى على ذاك فأمشاهم على وجوههم وهم لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون زيادة في بشاعة المنظر وسوء المنقلب، فما بالك بهم وهم بهذا المنظر أمام الملأ يتجهون إلى مأواهم الأخير وهي نار جهنم لا تفتر عنهم بل يزاد في سعيرها عليهم.
قال تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (2) عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن رجلا قال: يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه؟ قال: "أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟ (3) » قال قتادة: بلى وعزة ربنا (4) .
قال ابن حجر: (والحكمة لما حشر الكافر على وجهه أنه عوقب على عدم السجود لله في الدنيا بأن يسحب على وجهه في القيامة إظهارا لهوانه بحيث صار وجهه مكان يده ورجله في التوقي عن المؤذيات) (5)
__________
(1) سورة الملك الآية 22
(2) سورة الفرقان الآية 34
(3) رواه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق باب 45 حديث 6523، رواه مسلم في صحيحه كتاب صفة المنافقين حديث 2806.
(4) قال ابن حجر: قال قتادة: (بلى وعزة ربنا) موصول بالسند المذكور، انظر فتح الباري 11 \ 382.
(5) فتح الباري 11 \ 382.(43/371)
صفحة فارغة(43/372)
بيان كفر وضلال من زعم أنه يجوز لأحد الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فقد اطلعت على المقال المنشور بجريدة الشرق الأوسط بعددها رقم (5824) وتاريخ 5 \ 6 \ 1415 هـ، كتبه من سمى نفسه عبد الفتاح الحايك، تحت عنوان (الفهم الخاطئ) .
وملخص المقال: إنكاره لما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة، وبالنص، والإجماع، وهو عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، وادعاؤه أن من لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم، ولم يطعه بل بقي يهوديا أو نصرانيا، فهو على دين حق. ثم تطاول على رب العالمين سبحانه، في حكمته في تعذيب الكفار والعصاة، وجعل ذلك من العبث.
وقد قام بتحريف النصوص الشرعية، ووضعها في غير مواضعها، وفسرها. بما يمليه هواه، وأعرض عن الأدلة الشرعية، والنصوص الصريحة الدالة على عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى كفر من سمع به ولم يتبعه، وأن الله لا يقبل غير الإسلام دينا، إلى غير ذلك من النصوص الصريحة، التي أعرض عنها لينخدع بكلامه الجهال.(43/373)
وهذا الذي فعله كفر صريح، وردة عن الإسلام، وتكذيب لله سبحانه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، كما يعلم ذلك من قرأ المقال، من أهل العلم والإيمان. والواجب على ولي الأمر إحالته للمحكمة لاستتابته، والحكم عليه. مما يقتضيه الشرع المطهر.
والله سبحانه وتعالى قد بين عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ووجوب اتباعه
على جميع الثقلين، وذلك لا يجهله من له أدنى مسكة من علم من المسلمين، قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) وقال تعالى: ئن، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2) وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (4) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (5) وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (6)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة آل عمران الآية 85
(4) سورة سبأ الآية 28
(5) سورة الأنبياء الآية 107
(6) سورة آل عمران الآية 20(43/374)
وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (1)
وروى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (2) » ، وهذا بيان صريح لعموم وشمول رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع البشر، وأنها نسخت جميع الشرائع المتقدمة، وأن من لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم ولم يطعه فهو كافر عاص مستحق لعقابه، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} (3) وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (5) وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (6) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 1
(2) صحيح البخاري الصلاة (438) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .
(3) سورة هود الآية 17
(4) سورة النور الآية 63
(5) سورة النساء الآية 14
(6) سورة البقرة الآية 108(43/375)
والله سبحانه قد قرن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعته، وبين أن من اعتقد غير الإسلام فهو خاسر لا يقبل منه صرف ولا عدل؛ فقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (2) وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (3) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (4) وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (5) »
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله وقوله بطلان ديانة من لم يدخل في دين الإسلام، فقد حارب اليهود والنصارى، كما حارب غيرهم من الكفار، وأخذ ممن أعطاه منهم الجزية؛ حتى لا يمنعوا وصول الدعوة إلى بقيتهم، وحتى يدخل من شاء منهم في الإسلام، دون خوف من قومه أن يصدوه أو يمنعوه، أو يقتلوه. وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما نحن في المسجد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "انطلقوا إلى اليهود" فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدارس، فقال النبي
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2) سورة النساء الآية 80
(3) سورة النور الآية 54
(4) سورة البينة الآية 6
(5) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد بن حنبل (2/350) .(43/376)
صلى الله عليه وسلم فناداهم فقال: "يا معشر يهود أسلموا تسلموا"، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، قال: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك أريد أسلموا تسلموا"، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذلك أريد" ثم قالها الثالثة (1) » الحديث والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى أهل الديانة من اليهود في بيت مدراسهم، فدعاهم إلى الإسلام، وقال لهم: "أسلموا تسلموا" وكررها عليهم.
وكذلك بعث بكتابه إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام، ويخبره أنه إن امتنع فإن عليه إثم الذين امتنعوا من الإسلام بسبب امتناعه منه، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن هرقل دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأه فإذا فيه.
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:
فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت كان عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (2) » .
ثم لما تولوا ورفضوا الدخول في الإسلام قاتلهم صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه رضي الله عنهم، وفرض عليهم الجزية.
__________
(1) صحيح البخاري الإكراه (6944) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1765) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3003) ، مسند أحمد بن حنبل (2/451) .
(2) صحيح البخاري بدء الوحي (7) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/263) .(43/377)
ولتأكيد ضلالهم وأنهم على دين باطل بعد نسخه بدين محمد صلى الله عليه وسلم؛ أمر الله المسلم أن يسأل الله في كل يوم، وفي كل صلاة، وفي كل ركعة، أن يهديه الصراط المستقيم الصحيح المتقبل، وهو الإسلام، وأن يجنبه طريق المغضوب عليهم: وهم اليهود وأشباههم، الذين يعلمون أنهم على باطل ويصرون عليه، ويجنبه طريق الضالين: الذين يتعبدون بغير علم، ويزعمون أنهم على طريق هدى، وهم على طريق ضلالة، وهم النصارى ومن شابههم من الأمم الأخرى، التي تتعبد على ضلالة وجهل، وكل ذلك ليعلم المسلم علم اليقين، أن كل ديانة غير الإسلام فهي باطلة، وأن كل من يتعبد لله على غير الإسلام فهو ضال، ومن لم يعتقد ذلك فليس من المسلمين، والأدلة في هذا الباب كثيرة من الكتاب والسنة.
فالواجب على صاحب المقال - عبد الفتاح - أن يبادر بالتوبة النصوح، وأن يكتب مقالا يعلن فيه توبته، ومن تاب إلى الله توبة صادقة تاب الله عليه، لقول الله سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (2) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (3) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يهدم ما كان
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة الفرقان الآية 68
(3) سورة الفرقان الآية 69
(4) سورة الفرقان الآية 70(43/378)
قبله والتوبة تهدم ما كان قبلها (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (2) » ، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، وأن يمن علينا وعلى الكاتب عبد الفتاح وعلى جميع المسلمين بالتوبة النصوح، وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن وطاعة الهوى والشيطان، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/404) .
(2) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .(43/379)
حديث شريف
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: « (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم والمأثم اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار وعذاب القبر وشر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر ومن شر فتنة المسيح الدجال اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب) (1) » .
رواه البخاري
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6375) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (589) ، سنن النسائي السهو (1309) ، سنن أبو داود الصلاة (880) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3838) .(43/380)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى:
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (1)
(سورة محمد، الآية 15)
__________
(1) سورة محمد الآية 15(44/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(44/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(44/3)
المحتويات
الافتتاحية
نصيحة هامة إلى جميع الأمة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة
بحث في الادخار (القسم الأخير) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 41
الفتاوى
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 117
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 161(44/4)
البحوث
الطواف وأهم أحكامه للدكتور / شرف بن علي الشريف 177
ابن تيمية والدفاع عن الإسلام للدكتور / محمد بن سعد الشويعر 257
الوصايا العشر كما جاءت في سورة الأنعام للدكتور / محمد بن أحمد الصالح 309
التسعير في الفقه الإسلامي للأستاذ / محمد عودة سلمان 337
ذم خميس النصارى لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق الدكتور / الوليد بن عبد الرحمن آل فريان 357
القضاء والقدر لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 379(44/5)
صفحة فارغة(44/6)
الافتتاحية
نصيحة هامة إلى جميع الأمة
لسماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين أما بعد:
فإن الله جل وعلا خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، وأرسل الرسل لهذا الأمر العظيم من أولهم إلى آخرهم، وأمر عباده بهذه العبادة فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) ، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) ، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (4) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة الأنبياء الآية 25(44/7)
فالله عز وجل خلق الخلق: الجن والإنس ليعبدوه وحده لا شريك له، وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام لبيان هذه العبادة وإيضاحها للناس.
فنصيحتي لجميع المسلمين من الذكور والإناث والعرب والعجم والجن والإنس، نصيحتي للجميع أن يتفهموا هذه العبادة ويتبصروا فيها، وأن يلتزموا بها ويعملوا بها جملة وتفصيلا، وأن يحذروا الغفلة عنها والإعراض عنها، فإن الإعراض والغفلة من صفات الكفرة قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (1) ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} (2) فليس هناك أظلم ممن أعرض عن آيات الله، وعما خلق له من طاعته وعبادته.
فالنصيحة لجميع المسلمين: التفقه في هذه العبادة والتبصر بها ومعرفتها من طريق الكتاب والسنة، أي من طريق القرآن العظيم، ومن طريق أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة، ثم القيام بها علما وعملا. وهكذا النصح لجميع المكلفين من غير المسلمين في جميع الأرض بأن يدخلوا في الإسلام، وأن يعرفوا هذه العبادة ويتفقهوا فيها من طريق القرآن العظيم، ومن طريق السنة الصحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
هذا هو الواجب على جميع المكلفين من الإنس والجن، من الكفرة والمسلمين، من اليهود والنصارى والوثنيين
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 3
(2) سورة الكهف الآية 57(44/8)
وغيرهم. الواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس، أن يعبدوا الله وأن يدخلوا في الإسلام، وأن يلتزموا بالدين الذي بعث الله به نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله بعثه إلى الناس جميعا جنهم وإنسهم، عربهم وعجمهم، ذكورهم وإناثهم، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) ، وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (2) ، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) .
فجميع العالمين من جن وإنس ومن عرب وعجم ومن كفار ومسلمين، يجب على أهل العلم دعوتهم، فمن قبل الدعوة واستقام عليها حصلت له السعادة والرحمة الكاملة، والهداية المطلقة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، ومن أعرض عنها واستكبر فله الخيبة والندامة والعاقبة الوخيمة والعذاب الأليم يوم القيامة، وهذه العبادة التي خلق الثقلان لأجلها هي الحكمة في خلق الجن والإنس، وهي الإسلام المذكور في قوله جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4) ، فالإسلام هو دين الله الذي بعث الله نبيه عليه الصلاة والسلام لتبليغه، وهو الدين المذكور في قوله سبحانه:
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة سبأ الآية 28
(3) سورة الأنبياء الآية 107
(4) سورة آل عمران الآية 19(44/9)
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) ، وفي قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2) ، وفي قوله عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) ؛ فهذه العبادة هي الإسلام، سمي عبادة لأنه ذل وخضوع لله سبحانه، وسمي هذا الدين الإسلام لأنه خضوع لله، وانقياد لأمره سبحانه، فالعبد يفعل أوامر الله وينتهي عن نواهيه، عن ذل وخضوع. وهذا هو الإسلام وهذه هي العبادة، خضوعك لله وانقيادك لأوامره وترك نواهيه عن إيمان به سبحانه، وعن إخلاص له، وعن تعظيم له، وعن رغبة فيما عنده هذا هو الإسلام. يقال: أسلم، أي ذل وانقاد، وأسلم لفلان: أي ذل له وانقاد له، وأسلم لله ذل وانقاد وأطاع، وهذه العبادة هي الخضوع لله، والذل لله بطاعة أوامره وترك نواهيه، سبحانه وتعالى، يقول العرب: (طريق معبد) يعني مذلل، قد وطئته الأقدام وصار معبدا معروفا، ويقولون: (جمل معبد) يعني: مذلل قد شد عليه ورحل.
فالعبادة عند العرب الذل والخضوع، فسمى الله تكاليفه عبادة؛ لأنها تؤدى بالذل والخضوع لله، وسماها إسلاما؛ لأنها تؤدى أيضا بالذل والخضوع لله سبحانه، فهي إسلام، وهي عبادة، وسماها تقوى، قال تعالى:
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة آل عمران الآية 19
(3) سورة آل عمران الآية 85(44/10)
{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (1) ، وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} (2) ، سماها تقوى؛ لأن العبد يفعلها يتقي بها غضب الله، ويتقي بها عقابه، وهو يفعل أوامر الله وينتهي عن نواهيه، مسلما منقادا خاضعا ذليلا، يرجو رحمة ربه ويخشى عقابه، ويتقي بذلك سوء المنقلب؛ فلهذا سمى الله دينه تقوى، وهو إيمان أيضا سمي إيمانا؛ لأنه تصديق لله ولرسوله كما قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} (3) الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4) ، وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (5) ، وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (6) .
فهذه العبادة، وهذا الإسلام، كلاهما يسمى إيمانا؛ لأنهما إيمان بالله ورسوله وتصديق بما أخبر الله به ورسوله، وتصديق بأوامر الله، وتصديق بما نهى عنه، فهو إيمان، ويسمى هدى؛ لأن الله يهدي به من الضلالة ويرشد به إلى أسباب السعادة، فهو هدى لمن التزم به واستقام عليه واهتدى به إلى الحق والصواب، وسلم من البلاء والشر والفساد كما قال
__________
(1) سورة البقرة الآية 189
(2) سورة الطور الآية 17
(3) سورة التغابن الآية 8
(4) سورة النساء الآية 136
(5) سورة التوبة الآية 72
(6) سورة الروم الآية 47(44/11)
جل وعلا: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (1) هذا هو الهدى، هو دين الله، وهو الإسلام، وهو التقوى، وهو الإيمان سماه الله إسلاما وإيمانا، وسماه الله تقوى، كلها أسماء حق، وكلها معانيها واضحة، فهو هدى من الله يهدي به من يشاء لأداء حقه، وترك معصيته، وتنفيذ أوامره، وترك نواهيه قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (2) وقال سبحانه في الفاتحة أعظم سورة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (3) ، وقال في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) .
فدين الله هدى؛ هدى من الضلالة، وهدى من كل سوء، وهدى إلى الخيرات، وهدى إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وهدى إلى كل ما يرضي الله سبحانه وتعالى، ويقرب لديه، وهدى إلى كل ما يباعد عن غضب الله وعقابه، وهو أيضا يسمى برا، قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (5) قال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (6) ، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (7) الآية؛ فهو بر لما فيه من الخصال الحميدة والأعمال المجيدة لله عز وجل، ولهذا سمي برا؛ لأنه طاعة لله، وقيام بحقه، وترك لمناهيه، فهو بر وهدى، بر ورشد، إيمان وتقوى.
__________
(1) سورة النجم الآية 23
(2) سورة النجم الآية 23
(3) سورة الفاتحة الآية 6
(4) سورة الشورى الآية 52
(5) سورة البقرة الآية 189
(6) سورة الانفطار الآية 13
(7) سورة البقرة الآية 177(44/12)
فالواجب على جميع العالمين من الجن والإنس، من الذكور والإناث، من الكفرة والمسلمين أن يلتزموا به، فمن دخل فيه يجب أن يلتزم به ويستقيم عليه ويتفقه فيه، ومن لم يدخل فيه فالواجب عليه الدخول فيه، والتوبة إلى الله مما هو عليه من الباطل، والدخول في دين الله الذي هو الإسلام، وهو الهدى، وهو الإيمان، وهو التقوى، وهو البر، وهو طاعة الله ورسوله، وهو الإخلاص لله، وهو توحيد الله بترك الإشراك به، والقيام بحقه، والاستقامة على دينه.
هذا هو الإسلام، وهذا هو البر والتقوى، وهذا هو الهدى، وهذا هو الإيمان، وهذا هو دين الله الذي بعث به الرسل، وأنزل به الكتب، وأنزل به القرآن العظيم، وجاءت به السنة الصحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأعظم واجب وأهم واجب وألزم واجب أن تعرف هذه الحقيقة، وأن تعرف دين الله حتى تعبده وحده، وهذا هو معنى شهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها فقال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله (1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها (2) » ؛ فإن من قالها عن إيمان أدى بقية الأمور، ومن قالها عن إيمان فقد دخل في العبادة التي خلق لها وجاء بأصلها وأساسها، وعليه أن يلتزم مع ذلك بأن يشهد أن محمدا رسول الله، وأن يؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله عن المرسلين الماضين، وعن كتب الله، وعما أخبر الله به
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .(44/13)
في كتابه عن الجنة والنار واليوم الآخر، وعن كل ما أخبر الله به ورسوله كله داخل في هذه العبادة وفي هذا الإيمان؛ فالدعوة إلى توحيد الله دعوة إلى الدين كله، فإن من دخل في توحيد الله والتزم بالإخلاص لله لزمه أن يؤدي ما أوجبه الله عليه من الحقوق، وأن يدع ما حرم الله عليه، فهي فروع ومكملات لهذا الأساس.
فلا بد من توحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به. هذا أول واجب وأهم واجب؛ ولهذا بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم في أهل مكة وفي غيرهم، كان أول شيء يدعو إليه الدعوة إلى توحيد الله والإخلاص له، وترك الإشراك به، هذا هو أول واجب وأعظم واجب، والدعوة الإيمان به وأنه رسول الله حقا، ثم بعد ذلك الدعوة إلى بقية أمور الإسلام من الصلاة وغيرها.
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا رضي الله عنه إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله (1) » وفي رواية أخرى: «فادعهم إلى أن يوحدوا الله، فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة (2) » ، فأمرهم أن يدعوهم أولا إلى توحيد الله والإخلاص له إلى عبادة الله وحده، إلى ترك الإشراك به، هذا هو أول واجب، وهذه هي العبادة التي خلق الله لها الناس كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3)
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4347) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(3) سورة الذاريات الآية 56(44/14)
المعنى يوحدوني، ويطيعوا أمري ذلا وخضوعا وانكسارا وإيمانا وتصديقا، وأن يؤدوا ما أمرتهم به من الطاعات وترك المعاصي.
هذه هي العبادة التي خلقهم الله لها ليعبدوه، وليخصوه بالعبادة بفعل الأوامر وترك النواهي، وأعظمها وأهمها أن يخصوه بالعبادة، ويؤمنوا بأنه الواحد الأحد المستحق للعبادة دون كل ما سواه كما قال سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) ، وقال سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (2) .
فالتوحيد: هو أول واجب وأعظم واجب، أن تؤمن بأنك عبد الله، وأنك يجب عليك أن تخصه بالعبادة، وأنه إلهك الحق ومعبودك الحق، وأن تؤمن برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وتشهد أنه رسول الله حقا إلى جميع الثقلين الجن والإنس، وتشهد أيضا أنه خاتم الأنبياء، وليس بعده نبي ولا رسول، وعليك مع هذا أن تؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله، هذا هو أصل الأصول، وهذا هو الواجب على كل مكلف من جن وإنس، من رجال ونساء، من عرب وعجم، من كافر ومسلم، من جميع الثقلين وجميع المكلفين، عليهم أن يعبدوا الله وحده، وعليهم أن يؤمنوا بأنه لا إله إلا الله وبأن محمدا رسول الله، وأنه خاتم الأنبياء، وأن ما جاء به هو الحق،
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة محمد الآية 19(44/15)
وأن الواجب اتباعه والسير على منهاجه حتى تلقى ربك. هذا هو العبادة التي خلقت لها، وهذا هو الدين، وهذا هو التقوى، وهذا هو الإيمان، وهذا هو الإسلام، وهذا هو البر، كلمات لها معان من حيث اللغة ترجع إلى شيء واحد، وهو أن ذلك هو دين الله فهو الإسلام، وهو الهدى، وهو التقوى، وهو البر، وهو الإيمان، وهو العبادة لله وحده، وهذه المعاني كلها واضحة؛ فهو عبادة لأنه خضوع لله وإسلام، لأنه ذل وانقياد لله وتقوى، لأن العبد يتقي بذلك غضب الله، وإيمان لأنه تصديق بكل ما أخبر الله به ورسوله، وهدى لأن الله هدى به العباد إلى الخير والصلاح. وبر لأنه كله خير وكله سبب للسعادة؛ ولهذا قال جل وعلا: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} (1) ، وقال تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (2) ؛ لأن المتقين هم المسلمون، هم المؤمنون، وهم الذين عبدوا الله وحققوا معنى قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) ؛ وذلك لتقواهم الله، وقيامهم بحقه، وإخلاصهم له، وإيمانهم بأنه معبودهم الحق، وإيمانهم برسوله محمد عليه الصلاة والسلام، وإيمانهم بكل ما أخبر الله به ورسوله في كتابه العظيم، وعلى لسان نبيه الأمين عليه الصلاة والسلام، فلا يتم إسلام ولا إيمان إلا بهذا، ولا بد من شهادة أن لا إله إلا الله وأنه لا معبود حق إلا الله، وأن جميع ما يعبده الناس من دون الله كله
__________
(1) سورة الطور الآية 17
(2) سورة القلم الآية 34
(3) سورة الذاريات الآية 56(44/16)
باطل، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1) .
ولا بد من الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله عما كان وعما يكون، وعن الرسل الماضين، وعن الجنة والنار، وعن أخبار القيامة، وعن الحساب والجزاء. . . إلى غير ذلك. لا بد أن تصدق بكل ما أخبر الله به، مما جاء في القرآن، أو صحت به السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، على حسب ما أعطاه الله من العلم.
ثم بعد هذا الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، وتوحيد الله، والإخلاص له، والإيمان بأسمائه وصفاته، وإمرارها كما جاءت عن الله، وعن رسوله بلا كيف ولا تحريف ولا تمثيل؛ كما قال أهل السنة والجماعة، بعد هذا أنت يا عبد الله مأمور بالالتزام بما أوجب الله على عباده من صلاة وزكاة وصيام وحج وغير ذلك، وعليك أن تمتثل بكل ما أمر الله به ورسوله، وأن تبتعد عن كل ما نهى الله عنه ورسوله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (2) ، فهو خطاب للناس كلهم؛ جنهم وإنسهم، عربهم وعجمهم، يعم الكفار ويعم المسلمين، ومعنى اتقوا ربكم: افعلوا أوامره، واتركوا نواهيه؛ طلبا لمرضاته، وحذرا من عقابه، فكلهم ملزمون بالتقوى في جميع الأحوال، وقال تعالى:
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة النساء الآية 1(44/17)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) فلا بد من عبادته سبحانه بإخلاص وصدق في العبادة له وطاعة أوامره وترك نواهيه، وقد يخص سبحانه المؤمنين بالأمر فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} (2) في آيات كثيرات؛ لأن المؤمنين هم بعض الناس المأمورين بالتقوى، فالواجب عليهم أعظم؛ لأنهم آمنوا بالله ورسوله وعليهم أن يكملوا هذا الإيمان، وأن يلتزموا به حتى الموت؛ كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (3) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (4) .
فالواجب على المكلف المسلم أن يلتزم بهذا الإسلام حتى الموت، وأن يلزم نفسه بهذا، التقوى لله وطاعته حتى الموت، وعلى الكافر أن يدخل في الإسلام، وأن يبادر بذلك قبل أن يحل الأجل. والإسلام هو دين الله الذي بعث به محمدا عليه الصلاة والسلام وجميع المرسلين؛ كما قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (5) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة الحشر الآية 18
(3) سورة الحجر الآية 99
(4) سورة آل عمران الآية 102
(5) سورة آل عمران الآية 19
(6) سورة آل عمران الآية 85(44/18)
ومحمد صلى الله عليه وسلم هو رسول الله لأهل الأرض جميعا من عرب وعجم وجن وإنس، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، فعلى جميع الكفار من يهود ونصارى وغيرهم أن يبادروا بالدخول في الإسلام، وأن يلتزموا من حين بعثه الله إلى يوم القيامة، عليهم أن يلتزموا بذلك ويعملوا به، وعلى جميع الجن والإنس، والعرب والعجم، والذكور والإناث، والأغنياء والفقراء، عليهم جميعا أينما كانوا في أرض الله أن يعبدوا الله وحده، وأن يلتزموا بشريعة الإسلام التي بعث الله بها نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام؛ كما تقدم في قوله سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) ، وفي قوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (2) ، وفي قوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) .
ثم وعدهم سبحانه بالنجاة والسعادة والفلاح، فقال سبحانه: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (4) ، فالمفلحون هم أتباعه عليه الصلاة والسلام، المتمسكون بشريعته، والمستقيمون على دينه.
ومما تقدم تعلم أن أهم الواجبات وأهم الفرائض هو أن تعبد الله
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة سبأ الآية 28
(3) سورة الأنبياء الآية 107
(4) سورة الأعراف الآية 157(44/19)
وحده بهذه العبادة التي خلقك الله لها وأمرك بها في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ، وفي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (2) . فأنت ما خلقت لتأكل وتشرب، ما خلقت لبناء القصور، أو غرس الأشجار، أو شق الأنهار، أو للنكاح، ونحو ذلك، لا، فأنت مخلوق لتعبد ربك، وأنت مخلوق لتستقيم على طاعته، وتتابع رسوله عليه الصلاة والسلام؛ فعليك أن تستقيم على طاعته سبحانه، وأن تتبع رسوله صلى الله عليه وسلم فأنت مخلوق لهذا، وكل ما في الأرض خلق لك لتستعين به على طاعة الله وترك معاصيه، ولم يخلق لك لتستعين به على شهواتك؛ كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (3) ، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (4) فلم تخلق سدى ولا عبثا قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (5) أي: أيظن أن يترك سدى، أي: مهملا معطلا. لا، بل خلق لأمر عظيم، وهو: عبادة الله وطاعته، وقال تعالى منكرا على المشركين: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (6) ، أنكر الله عليهم هذا الحسبان، وهذا الظن لكونه باطلا، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (7)
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة البقرة الآية 29
(4) سورة الجاثية الآية 13
(5) سورة القيامة الآية 36
(6) سورة المؤمنون الآية 115
(7) سورة ص الآية 27(44/20)
فهذا ظن الكافرين، فأوضح الله سبحانه أنه خلق السماوات والأرض بالحق ليعرف الناس بنفسه وقدرته العظيمة، وأنه المستحق لأن يعبد.
فعليك يا عبد الله، أن تعرف ربك بأسمائه وصفاته ومخلوقاته العظيمة، وأنه هو معبودك الحق، ولتعمل بذلك؛ فكثير من الكفار بل أكثرهم قد عرفوا أن الله ربهم، وأنه خالقهم ورازقهم، ولكن لم يعبدوه وحده، بل أشركوا معه غيره فصاروا إلى النار.
فلا بد أن تعرف ربك، ولا بد مع المعرفة أن تعبده وحده بالإخلاص دون كل من سواه، وأن تؤدي حقه وتترك الشرك به ومعصيته، لا بد من هذا كله، فكفار قريش وغيرهم يعرفون ربهم، ويعرفون أن الله خالقهم ورازقهم؛ كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (1) الآيات، لكن كفروا بشركهم بالله وعبادتهم الأصنام والأولياء مع الله ونحو ذلك، وامتناعهم عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتصديقه في عبادة الله وحده فصاروا كفارا بذلك، فلا بد أن تؤمن بالله ربا وإلها ومعبودا بالحق، ولا بد أن تؤمن بأسمائه وصفاته على الوجه اللائق به من غير تحريف ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف، ولا بد من تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به.
وعلى هذا الأصل الأصيل تؤدي حقه من صلاة وصيام وغير ذلك من العبادات، وتدع معصيته من الشرك بالله وسائر المعاصي فالتوحيد
__________
(1) سورة الزخرف الآية 87(44/21)
الذي خلقت له والعبادة التي خلقت لها أن تؤمن بأن الله ربك وخالقك ورازقك ورب كل شيء ومليكه، وأن تخصه بالعبادة من دعاء وخوف ورجاء وذبح ونذر وصلاة وصوم وغير هذا من العبادات، تخص الله وحده بذلك دون كل ما سواه قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) ، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) ، وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) ، فلا بد من هذا الأمر، وهو أن تخص الله بالعبادة؛ صلاتك، وصومك، وذبحك، ونذرك، ودعائك، وخوفك، ورجائك، إلى غير ذلك، ولا بد مع هذا من الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الواردة في القرآن العظيم، والثابتة في السنة الصحيحة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا بد من الإيمان بأسمائه وصفاته، ولا بد من إمرارها كما جاءت على الوجه اللائق بالله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل فلا تئولها ولا تنفها، بل عليك أن تؤمن بها، وأن تمرها كما جاءت، وكما درج على هذا سلف الأمة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان من أهل السنة والجماعة، فإنهم قد آمنوا بأن الله ربهم وخالقهم ورازقهم، وآمنوا بأن الله معبودهم الحق، وآمنوا بأسمائه وصفاته.
وهذه هي أقسام التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. فتوحيد
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الفاتحة الآية 5(44/22)
الربوبية: الإيمان بأنه الخلاق الرزاق المدبر للأمور الذي أقر به المشركون ولكن لم يدخلوا في الإسلام بذلك؛ لعدم عبادتهم لله وحده، وعدم تخصيصهم له سبحانه بالعبادة، بل أشركوا به غيره.
ولا بد من توحيد العبادة الذي هو معنى: لا إله إلا الله، وهو أنه لا معبود حق إلا الله، لا بد من هذا التوحيد والإخلاص لله في أقوالك وأعمالك وعقيدتك، لا بد أن تخص الله بالعبادة، وأن تؤمن بأنه المعبود الحق، وأن العبادة لا تصح لغيره أبدا، لا للأنبياء ولا لغيرهم، ولا بد من الإيمان بأسمائه وصفاته؛ كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) ، لا بد أن تؤمن بأسمائه وصفاته، وتعبده بذلك وهو أن تنفي عنها جميع التشبيه والتمثيل والتحريف، ولا بد مع ذلك من طاعة الأوامر وترك النواهي، فعليك أن تؤمن بهذا الأصل الأصيل، ثم تنقاد لشرع الله بفعل الأوامر وترك النواهي عن إيمان، وعن علم، وعن بصيرة وصدق وإخلاص، وقد عبر عنها سبحانه بالإيمان والعمل الصالح في آيات أخرى وعبر عن دينه بالإسلام، وعبر عنه بالعبادة قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) ، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (3) ؛ لأنه يؤدى بالذل والخضوع لله، فسمي إسلاما وعبادة؛ لأن العبد يؤديه بالخضوع والذل لله، وعبر عنه بالتقوى؛ لأن
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة البقرة الآية 21(44/23)
العبد يؤديه متقيا بذلك ربه، ويخاف عقوبته. وسماه إيمانا؛ لأن العبد يؤدي ذلك عن إيمان، وعن تصديق لا عن شك وريب، بل يؤدي هذه العبادات، وهذه الأعمال عن إيمان بالله وحده، وأنه ربه ومعبوده الحق، وأنه مستحق لذلك، وهو يؤديها عن إيمان، وعن صدق، وسماه برا لما فيه من الخير العظيم والسعادة، فهو بر، وسماه هدى لما فيه من الخير أيضا؛ لأنه يهدي إلى الخير ويوصل إلى الخير وإلى أسباب السعادة، وفي آيات أخرى عبر عن ذلك بالإيمان والعمل الصالح، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} (1) ، فالمؤمنون الذين عملوا الصالحات هم أهل التقوى، وهم المسلمون، وهم الصالحون، وهم الذين عبدوا الله حق عبادته قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} (2) ؛ كما أنهم هم المتقون في قوله سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} (3) ، وقال سبحانه: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (4) وهم الأبرار؛ كما في قوله سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (5) ، وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} (6) ، فهم الأبرار، وهم أهل التقوى، وهم أهل الإيمان، وهم المسلمون، وهم الذين عبدوا الله وحده قال تعالى:
__________
(1) سورة لقمان الآية 8
(2) سورة لقمان الآية 8
(3) سورة الطور الآية 17
(4) سورة القلم الآية 34
(5) سورة الانفطار الآية 13
(6) سورة المطففين الآية 18(44/24)
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (1) فالذين آمنوا وعملوا الصالحات الموعودون بالنصر والتأييد والاستخلاف في الأرض هم المسلمون حقا، وهم المؤمنون، وهم الأبرار، وهم الصالحون، وهم الذين عبدوا الله سبحانه وتعالى كما ترى، واستقاموا على دينه، عبدوه واتقوه، وعنت وجوههم له، فالعبارات متنوعة والحقيقة واحدة، فالمؤمنون والمتقون والأبرار والمسلمون والمهتدون هم الذين أطاعوا الله ورسوله، وهم الذين وحدوا الله وخصوه بالعبادة، وآمنوا به حقا، واعترفوا بأنه ربهم ومعبودهم الحق، وانقادوا لشريعته سماهم سبحانه مؤمنين في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (2) الآية، وفي قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (3) ، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات في قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} (4) .
فالعمل الصالح من الإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، فإذا أطلق الإيمان فهو قول وعمل، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي؛ فلهذا عبر سبحانه عن
__________
(1) سورة النور الآية 55
(2) سورة التوبة الآية 72
(3) سورة الروم الآية 47
(4) سورة الكهف الآية 107(44/25)
دينه بالإيمان، فقال سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (1) ، وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله - يعني مع الشهادة بأن محمدا رسول الله - وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (3) » .
فدين الله هو الإيمان، وهو الإسلام، وهو الهدى، وهو التقوى، وهو البر؛ كما تقدم بيان ذلك، فعليك أن تنتبه لهذا، وعليك أن تحذر أن يشتبه عليك هذا الأمر، وأن تظنه اختلافا يغير المعنى، فليس الأمر كذلك؛ بل هو شيء واحد تنوعت عنه العبارات بحسب المعاني، فإن دين الله الذي بعث به الرسل عليهم الصلاة والسلام وبعث به خاتمهم محمدا صلى الله عليه وسلم هو الإسلام، وهو الإيمان، وهو الهدى، وهو البر والتقوى، وهو الإيمان والعمل الصالح فافهم هذا جيدا.
فالنصيحة لكل مؤمن ولكل مسلم، بل لجميع المكلفين في الدنيا أن يتفقهوا في هذا الأمر، وأن يتبصروا، وأن يلزموا هذا الدين ويستقيموا عليه حتى الموت، فهو طريق النجاة، وهو طريق السعادة، وهو طريق النصر، فمن أراد النجاة فعليه بهذا الدين، ومن أراد النصر في الدنيا والعزة في الآخرة فعليه بهذا الدين، ومن أراد الجنة فعليه بهذا الدين، ومن أراد الأمن في الدنيا والسعادة في الآخرة فعليه بهذا الدين، وأن يلتزم به.
__________
(1) سورة التوبة الآية 72
(2) سورة الروم الآية 47
(3) صحيح البخاري الإيمان (9) ، صحيح مسلم الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، سنن أبو داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) ، مسند أحمد بن حنبل (2/414) .(44/26)
فنصيحتي لجميع الدول المنتسبة للإسلام أن تتقي الله، وأن تلتزم بهذا الإسلام حقا لا بالدعوى، وأن تعبد الله وحده، وأن تلزم شعوبها بعبادة الله وحده، وأن تحذر عباد أصحاب القبور أو الأصنام أو الأحجار أو الأشجار، أو غير ذلك من سائر المخلوقات؛ فالعبادة حق لله وحده، لا يعبد مع الله أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا الصديق، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي رضي الله عنهم؛ ولا أهل البيت، ولا غيرهم، ولا البدوي، ولا الحسين، ولا الشيخ عبد القادر الجيلاني، ولا غيرهم.
فالعبادة حق الله وحده لا يجوز صرف شيء منها لغيره كائنا من كان؛ كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} (1) ، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فالواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس أن يعبدوا الله وحده دون كل ما سواه، فالأنبياء حقهم أن يتبعوا، وأن يصدقوا عليهم الصلاة والسلام، وأن يحبوا في الله، وأن ينقاد كل قوم لنبيهم، وعلى هذه الأمة - أمة محمد صلى الله عليه وسلم - أن تنقاد لما جاء به نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وأن تلتزم به، وأن تصدق بكل ما أخبر به الله ورسوله عن الماضين وعما سيأتي، وأن تستقيم على دين الله الذي بعث به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وأن تلتزم بالقرآن والسنة الصحيحة في أقواله اوأعمالها، وأن تحكم شرع الله فيما بينها.
__________
(1) سورة لقمان الآية 30
(2) سورة البينة الآية 5(44/27)
هذا هو الواجب على جميع المسلمين، وعلى جميع الدول الإسلامية أن تلتزم بذلك، وأن تحكم شرع الله في عباد الله، وأن تقيم حدود الله في أرض الله، هذا هو واجبهم جميعا؛ كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) ، ويقول سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) ، فليس هناك شيء أحسن من حكم الله أبدا، وفي حكم الله السعادة والأمن والنصر في الدنيا والآخرة.
فالواجب على ولاة الأمور أن يدعوا إلى حكم الله ويلتزموا به، وعلى كل مسلم أن ينقاد إلى حكم الله ويرضى به؛ ولهذا قال جل وعلا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} (3) . هذا هو الأساس فإذا عبدوه وحده وعملوا الصالحات وانقادوا لحكمه واستقاموا على الإيمان قولا وعملا استخلفهم الله ونصرهم وأيدهم؛ كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (4) ، وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (5) ، ثم بين من هم المنصورون، فقال
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) سورة النور الآية 55
(4) سورة محمد الآية 7
(5) سورة الحج الآية 40(44/28)
سبحانه: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) يعني بعد توحيد الله، فإنهم إذا وحدوا الله وآمنوا به وبرسوله صلى الله عليه وسلم نفذوا شرائعه من صلاة وصوم، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ويدخل في المعروف الصيام والحج والجهاد وترك المحرمات، وإلزام الناس بكل ما أمر الله به ورسوله، كل ذلك داخل في المعروف. ويدخل في النهي عن المنكر النهي عن كل ما نهى الله؛ كالشرك بالله وغيره من سائر المعاصي.
فهؤلاء هم أهل الإيمان، وهم الذين ينصرون في الدنيا والآخرة؛ ينصرون في الدنيا بجعلهم خلفاء في الأرض، وتمكينهم في الأرض ضد أعدائهم، وفي الآخرة بدخول الجنة والنجاة من النار؛ كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (2) {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (3) ، نعوذ بالله من ذلك، ويقول عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (4) ، آمنوا: دخلوا في الإسلام واستقاموا على دين الله، وتركوا الشرك، وانقادوا للحق، فكل معصية تسمى ظلما، والظلم هنا هو الشرك؛ كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فهم آمنوا وأخلصوا لله العبادة، وتركوا الشرك، وانقادوا لما
__________
(1) سورة الحج الآية 41
(2) سورة غافر الآية 51
(3) سورة غافر الآية 52
(4) سورة الأنعام الآية 82(44/29)
أمر الله به ورسوله؛ لأنه لا يتم إيمانهم إلا بطاعة الله ورسوله ولهذا قال سبحانه: {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1) ؛ بسبب إيمانهم الصحيح وسلامتهم من الشرك.
وكل معصية تنقص الأمن وتنقص الهداية، فمن آمن إيمانا كاملا بطاعة الله ورسوله وتوحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به وترك المعاصي صار الأمن في حقه كاملا، وصارت الهداية كاملة في الدنيا والآخرة.
أما من تعاطى شيئا من المعاصي فإن أمنه ينقص بذلك، وهدايته تنقص بحسب ما عنده من المعاصي والشرور؛ كما دلت على ذلك النصوص الأخرى من الكتاب والسنة، لكن ما دام على التوحيد فهو من أهل الأمن، وهو من أهل الهداية، وإن جرى عليه خطوب وإن عذب بمعاصيه، لكن مصيره في النهاية إلى الجنة إذا مات على التوحيد والإيمان، وإن دخل النار يعذب على قدر معاصيه، ثم يخرج منها إلى الجنة خلافا للخوارج والمعتزلة، فالخوارج والمعتزلة يقولون: من دخل النار لا يخرج منها أبدا، وهذا قول باطل مخالف للكتاب والسنة ولإجماع الأمة، فإن أهل السنة والجماعة يقولون: قد يدخل العاصي النار؛ كما جاءت به النصوص، ويعذب بمعاصيه لكن يخرج منها بعد التطهير والتمحيص، إذا كان مسلما موحدا دخل النار بمعاصيه؛ كالزنا والعقوق وشرب الخمر وأكل الربا ونحو ذلك إذا مات على ذلك ولم يتب، فقد يعذب، وقد يعفو الله سبحانه عنه لأسباب كثيرة، وقد يعذب في النار على قدر هذه الجرائم التي مات عليها،
__________
(1) سورة الأنعام الآية 82(44/30)
ثم بعدما يطهر بالنار من هذه الجرائم يخرجه الله من النار؛ كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأجمع على ذلك أهل السنة والجماعة.
ويشفع النبي صلى الله عليه وسلم عدة شفاعات في العصاة من أمته الذين دخلوا النار ويخرجهم الله بشفاعته، ويشفع الأنبياء والمؤمنون والأفراط والملائكة، وكلهم يشفعون، ولا يبقى في النار مخلدا فيها إلا أهل الشرك بالله والكفرة، فإنهم هم الذين يبقون في النار مخلدين أبد الآباد؛ كما قال الله سبحانه في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (1) ، وقال في سورة المائدة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (2) ، وقال في سورة النبأ: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما عصاة الموحدين الذين ماتوا على الإسلام ولكن لهم معاصي لم يتوبوا منها، فإنهم لا يخلدون في النار إن دخلوها، بل يعذبون فيها تعذيبا مؤقتا، وقد يخلدون فيها تخليدا مؤقتا، فإن الخلود خلودان: خلود دائم، وهذا للكفار وحدهم؛ وخلود مؤقت لبعض العصاة، وقد يطول بقاؤهم في النار لشدة معاصيهم وكثرتها، ثم بعد المدة التي كتبها الله عليهم يخرجهم الله من النار إلى الجنة؛ كما جاء ذلك في القاتل والزاني، لكنه خلود مؤقت له
__________
(1) سورة البقرة الآية 167
(2) سورة المائدة الآية 37
(3) سورة النبأ الآية 30(44/31)
نهاية إذا مات على التوحيد، وإنما الخلود الدائم والأبدي للكفار الذين ماتوا على الكفر بالله من اليهود والنصارى والوثنين وغيرهم؛ نعوذ بالله من حالهم!
فيا أيها المسلمون، ويا أيها المكلفون بادروا بتقوى الله والتوبة إليه، بادروا بالإيمان الصادق والعمل الصالح، بادروا بالالتزام بالإسلام قبل أن تندموا غاية الندامة، وقبل أن يعض أحدكم على يديه ندما، ويقول: يا ليتني قدمت لحياتي.
يجب على كل مكلف في أرجاء الدنيا لم يدخل في الإسلام أن يبادر بالدخول فيه قبل أن يهجم عليه الأجل، فيندم غاية الندامة، ومصيره إلى النار وبئس المصير. قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (1) {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} (2) {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} (3) ، وقال في سورة الفجر: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} (4) {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (5) {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} (6) {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} (7) ، فاحذر يا عبد الله أن تعض على يديك ندما يوم القيامة بسبب كفرك أو تفريطك في حق الله، احذر وبادر وسارع إلى الخير اليوم قبل الموت؛ فالزم الحق بتوحيد الله والإخلاص له، وحقق العبادة التي خلقت
__________
(1) سورة الفرقان الآية 27
(2) سورة الفرقان الآية 28
(3) سورة الفرقان الآية 29
(4) سورة الفجر الآية 23
(5) سورة الفجر الآية 24
(6) سورة الفجر الآية 25
(7) سورة الفجر الآية 26(44/32)
لها، حقق الإسلام الذي خلقت له، فأنت مخلوق لعبادة الله وهي الإسلام، وهي التقوى، وهي الهدى، وهي طاعة الله ورسوله، حقق هذه العبادة، وحقق هذا الإسلام، واستقم عليه قبل أن تموت، وقبل أن يحال بينك وبين ذلك، وأنت لا تدري متى يجيء الأجل، كل واحد منا لا يدري متى يجيئه الأجل، فقد يصبحه أو يمسيه، ولا يدري أيضا ما هي الأسباب التي تكون سببا لموته، فالحزم كل الحزم في البدار إلى طاعة الله، والتوبة إليه، والاستقامة على ذلك حتى الموت، فاتق الله يا عبد الله، وبادر إلى الحق قبل أن يهجم الأجل، وسارع إلى طاعة الله ورسوله والفقه في دين الله وتعلمه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (1) » ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » متفق على صحته.
فليتق الله كل مسلم، ولينظر في أعماله: هل هو على طريق الله؟ وهل هو على ما كان عليه أصحاب رسول الله من السلف الصالح، من توحيد الله، وطاعته، والإيمان به سبحانه، والإيمان بأسمائه وصفاته؟ ولينظر إن كان على بدعة فليحذرها، ولينظر كل إنسان ما هو عليه؛ هل هو على طريق الله الذي جاء به محمد؟ وهل هو موحد لله؟ وهل هو يعبده وحده دون كل ما سواه؟ وهل أدى أوامره وترك نواهيه؟ لينظر كل إنسان في هذا ويحاسب نفسه، يجب أن ينظر ويتقي الله قال تعالى:
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(44/33)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (1) .
انظر يا عبد الله ماذا قدمت؟ وانظري يا أمة الله ماذا قدمت؟ فالمؤمن ينظر، والشيعي ينظر، وأي منتسب لطائفة من الطوائف ينظر: أنصار السنة، والإخوان المسلمون، والجماعة الإسلامية، وجماعة التبليغ. أي جماعة، كل واحد منهم ينظر ماذا قدم؟ وما هو عليه؟ هل هو على طريق الهدى؟ وهل هو على طريق محمد أم لا؟ كل واحد ينظر في عمله ولا يقلد؛ لأن التقليد خطر ويحدث التعصب، وقد يكون هذا التعصب بغير علم، وهذا لا يجوز، يجب طاعة الله ورسوله، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (2) ، ما قال أطيعوا فلانا ولا فلانا، بل حدد سبحانه الطاعة لله ورسوله ولأولي الأمر، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (3) يعنى إذا تنازعتم مع أولي الأمر، أو مع العلماء، أو مع الأمراء، أو مع فلان وفلان، أو مع أولادك، أو مع شيخك، أو مع أميرك، أو مع زوجتك؛ فيرد الأمر إلى الله وإلى الرسول.
فلا يرد الأمر إلى الهوى ولا يرد إلى زيد أو عمر، لا بد أن ترد الأمور إلى الله سبحانه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أمرك أولي الأمر أو الأمير بأمر يخالف شرع الله فلا طاعة له؛ إنما
__________
(1) سورة الحشر الآية 18
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 59(44/34)
الطاعة في المعروف، وإذا طلبت منك زوجتك أو أبوك أو أمك شيئا يخالف شرع الله فلا يجاب هذا الطلب، ولكن بالحكمة وبالكلام الطيب، تعتذر من أبيك أو من أمك أو من ولي الأمر أو من زوجتك بالأسلوب الحسن، وتقنعهم بما شرع الله؛ قل: قال الله، قال رسوله، لا يجوز أن أطيعكم في معصية الله، يا والدي لك حق علي كبير، لكن ما يجوز أن أطيعك في شرب الخمر، ما يجوز أن أطيعك في الربا، ما يجوز أن أطيعك في كذا وكذا من معاصي الله.
وهكذا مع الأمير، وهكذا مع الأم، وهكذا مع الزوجة، وهكذا مع أخيك الكبير، وهكذا مع شيخ القبيلة، وهكذا مع الجميع، لا تطع أحدا في معصية الله أبدا، طاعة الله مقدمة على الجميع، فمن أمرك بطاعة الله فعلى العين والرأس، سمعا وطاعة في طاعة الله، وإن كان دونك، وإن كان ولدك إذا قال: يا والدي اتق الله، دع الربا، قل: سمعا وطاعة، إذا قال: يا والدي اتق الله ودع الزنا، دع الخمر؛ فاستجب ولو كان صغيرا.
من أمرك بطاعة الله فسمعا وطاعة، واحمد الله أن جعل في ولدك من يأمرك بالخير، لا تتكبر على ولدك إذا دعاك إلى الخير، ولا على أخيك الصغير، ولا على خادمك إذا دعاك إلى خير، قل: الحمد لله الذي يسر لي من خدمي أو من أولادي أو من جيراني أو من إخوتي من يأمرني بطاعة الله، ومن يساعدني في الخير. لا تتكبر، لا تقل: ما شأنك؟ أنت ولدي وتأمرني! أو خادمي وتأمرني! لا، اتق الله فإن طاعة الله واجبة على الجميع، فمن نصحك من أولادك، أو من جيرانك، أو من إخوانك، أو من خدامك، أو من غيرهم، ونصيحتهم موافقة للشرع، فقل: جزاك الله خيرا، وبادر بالخير(44/35)
لا تتكبر؛ فالمؤمن يعظم أمر الله، ويقبل الحق ممن جاء به، ولا يتعالى ولو كان من جاء به أقل منه، يقول الله سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) ، فلو كان الناصح تلميذا من تلاميذ الشيخ فلا يرد الحق من التلميذ إذا صار التلميذ قد وفق لأمر خفي على الشيخ، فإن الإنصاف يقتضي قبوله، وهذه هي التقوى، وهذا من التفقه في الدين؛ لأن الدين يأمر بقبول الحق ممن جاء به من رجل أو امرأة، من ولدك أو من أخيك الصغير، من جارك أو من خادمك بدون تفرقة، فمن عرف الحق فليرشد إليه بالدليل، ومن بلغه ذلك فعليه السمع والطاعة؛ لأن الدليل فوق الجميع ما لأحد فيه كلام؛ لأن الله يقول وقوله الحق: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) .
فيجب عليك أن تخضع للحق ممن جاء به من جن أو أنس، فمتى عرفت الحق فاقبله بالدليل، ولا تقل جاء به فلان، بل عليك أن تقبل الحق؛ لأن الحق فوق الجميع، الحق ضالة المؤمن، وحاسب نفسك أنت يا عبد الله، حاسب نفسك وجماعتك التي أنت تنتسب إليهم، حاسبهم وانظر فيما دعوك إليه، فإن كان موافقا لشرع الله فاقبل وإلا فدعه، وإذا كان بقاؤك مع هذه الجماعة أنفع لك في الدين فابق معهم، وإن كان بقاؤك معهم يضرك فاهرب منهم، اهرب وانصحهم، لا تبق مع الباطل ولا مع أهل الباطل إلا ناصحا لهم وموجها لهم إلى الخير، هكذا تجب
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2) سورة النساء الآية 59(44/36)
النصيحة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » . أخرجه مسلم في صحيحه.
فعليك بالنصيحة لهذه الجهات الخمس: لله بتوحيده والإخلاص له وطاعة أوامره وترك نواهيه وتحكيم كتابه، وللرسول بطاعته واتباعه، وللقرآن العظيم بتحكيمه واتباعه والإيمان بأنه كلام الله حقا وليس بمخلوق، والنصيحة لولاة الأمور بتوجيههم إلى الخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر بالأساليب الحسنة، وبالدعاء لهم بظهر الغيب أن الله يوفقهم. تدعو لولاة الأمور: اللهم وفقهم، اللهم اهدهم سواء السبيل، اللهم اهدهم للحق، اللهم أعنهم على تنفيذه في أي مكان، حتى ولو كنت في بلاد كافرة تدعو الله بأن يهديهم للحق؛ كما قال بعض الناس: «يا رسول الله، إن دوسا كفرت واعتدت. قال: اللهم اهد دوسا وأت بهم (2) » ، فهداهم الله وجاءوا وأسلموا، تدعو الله لأميرك في بلدك تقول: اللهم اهده، اللهم أصلح قلبه وعمله، اللهم اهده للحق، اللهم أعنه على تنفيذ الحق، اللهم وفقه لما يرضيك، اللهم اكف المسلمين شره، اللهم اهده للصواب.
وهكذا تنصح وتدعو وتستعمل الأساليب الحسنة اللينة الطيبة التي ليس فيها عنف، لا تمد يدك على الناس تقاتلهم، بل ادعهم بالحسنى قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) ، فلو جئت قوما، وهم يشربون الخمر
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2937) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2524) ، مسند أحمد بن حنبل (2/243) .
(3) سورة النحل الآية 125(44/37)
تقول: يا عباد الله، اتقوا الله ما يجوز شرب الخمر، أو رأيت من يدخن تقول: اتق الله يا عبد الله، ترى التدخين لا يجوز، وهو مضر بدينك ودنياك وصحتك، وهكذا حالق لحيته تقول له: لا تحلقها ما يجوز، الرسول أمر بإعفاء اللحى، وإرخائها، وتوفيرها، وقص الشوارب. وإن رأيت من يسبل الثياب تقول: يا أخي، الإسبال ما يجوز، ارفع ثوبك إلى الكعب، لا ينزل عن الكعب. أو رأيت امرأة متبرجة تقول: يا أمة الله، اتقي الله ما يجوز هذا، اتقي الله راقبيه سبحانه في أعمالك، لا يجوز هذا الشيء. وإن وجدت واحدا يتعامل بالربا في السوق أو في غيره تقول له: اتق الله يا عبد الله، لا تتعامل بالربا؛ لأنه محاربة لله ورسوله. وإن رأيت من يسب ويشتم تقول: اتق الله، تخاطبه بالحكمة وليس بالعنف ومد اليد والمضاربة، وإذا كان لم يستجب وعندك من يستطيع ترفع أمره إليه، فمثلا عندك الهيئة وعندك من ينفذ ترفع إلى من يقوم بالواجب.
أما أنت فما عليك إلا البلاغ والبيان بالكلام الطيب؛ كما أرشدك ربك وعلمك في قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم والأمة له تبع: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ، وقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) ويقول سبحانه بشأن اليهود والنصارى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (3) ،
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة العنكبوت الآية 46(44/38)
فمن ظلم يعامل بما يقتضيه ظلمه، يعامل بالقوة من طريق أهل القوة، القوة من الجهة المختصة التي تستطيع أن تعمل بالقوة وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » .
فمن استطاع أن يغير باليد فعل ذلك باليد، إذا كان المنكر له سلطة التغيير كالهيئة أو القاضي أو الأمير فيعمل بما عنده من السلطة، أما إذا كان ما عنده سلطة فينكر باللسان أو يغير باللسان حتى لا يشتبك مع الناس في الشر، وحتى لا يقع منكر أكثر وأشد، يقول: يا عبد الله، اتق الله بالكلام الطيب بالأسلوب الحسن، فإن عجز بالكلام أنكر بقلبه وكره بقلبه ولا يحضر المنكر، بل عليه أن يفارق أهل المنكر. هكذا المؤمن لا يترك الواجب حسب الطاقة.
فعليكم أيها الإخوة المسلمون في جميع أرض الله تقوى الله في كل وقت والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه، وعلى كل واحد منكم تقوى الله فيما يأتي ويترك، وأن يحاسب نفسه في أي عمل؛ هل هو طاعة لله أو معصية لله؟ فإن كان طاعة لله نفذه، وإن كان معصية لله تركه، وهكذا مع الناس لا يحقر نفسه، إذا رأى المنكر يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالكلام الطيب لا بالعنف والكلام القبيح، كأن يقول يا حمار يا كلب، بل عليه أن يقول: يا عبد الله، يا فلان، يا
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(44/39)
أخي - إن كان مسلما - بالكلام الطيب هذا لا يجوز، اتق الله يا عبد الله، إلى غير ذلك من الأساليب الحسنة.
واسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح والفقه في الدين، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته؛ كما أسأله سبحانه أن يوفق جميع المسلمين في كل مكان من أرض الله للفقه في الدين والاستقامة عليه، وأن يمنحهم العلم النافع والعمل الصالح، وأن ييسر لهم العلماء الصالحين الذين يرشدونهم ويعلمونهم ويفقهونهم؛ كما أسأله سبحانه أن يوفق جميع ولاة أمر المسلمين في كل مكان إلى الاستقامة على دينه والنصح له ولعباده وتحكيم شريعته والتحاكم إليها وإلزام الشعوب بها؛ كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير، وأن يعينهم على كل خير، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يزيل بهم كل سوء وكل منكر، وأن يعيذهم من شرور النفس وسيئات العمل؛ إنه جل وعلا جواد كريم. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(44/40)
بحث في الادخار " القسم الأخير "
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
فصل: إذا كان عليه دين مؤجل، فقال لغريمه: ضع عني بعضه، وأعجل لك بقيته، لم يجز. كرهه زيد بن ثابت، وابن عمر، والمقداد، وسعيد بن المسيب، وسالم، والحسن، وحماد، والحكم، والشافعي، ومالك، والثوري، وهشيم، وابن علية، وإسحاق، وأبو حنيفة، وقال المقداد لرجلين فعلا ذلك: (كلاكما قد آذن بحرب من الله ورسوله) . وروي عن ابن عباس: أنه لم ير به بأسا. وروي ذلك عن النخعي وأبي ثور؛ لأنه آخذ لبعض حقه، تارك لبعضه، فجاز؛ كما لو كان الدين حالا، وقال الخرقي: (لا بأس أن يعجل المكاتب لسيده، ويضع عنه بعض كتابته) . ولنا: أنه بيع الحلول، فلم يجز؛ كما لو زاده الذي له الدين، فقال له: أعطيك عشرة دراهم وتعجل لي المائة التي عليك، فأما المكاتب فإن معاملته مع سيده، وهو يبيع بعض ماله ببعض فدخلت المسامحة فيه، ولأنه سبب للعتق، فسومح فيه بخلاف غيره. . .) .
ثم قال: (ومتى انصرف المتصارفان قبل التقابض، فلا بيع بينهما) .
الصرف: بيع الأثمان بعضها ببعض. والقبض في المجلس شرط لصحته بغير خلاف. قال ابن المنذر: (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا؛ أن الصرف فاسد. والأصل فيه(44/41)
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء (1) » وقوله عليه السلام: «بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد (2) » «ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا (3) » ، «ونهى أن يباع غائب منها بناجز (4) » ، كلها أحاديث صحاح. ويجزئ القبض في المجلس، وإن طال، ولو تماشيا مصطحبين إلى منزل أحدهما، أو إلى الصراف فتقابضا عنده، جاز. وبهذا قال الشافعي، وقال مالك: (لا خير في ذلك؛ لأنهما فارقا مجلسهما) .
ولنا، أنهما لم يفترقا قبل التقابض، فأشبه ما لو كانا في سفينة تسير بهما، أو راكبين على دابة واحدة تمشي بهما. وقد دل على ذلك حديث أبي برزة الأسلمي في قوله للذين مشيا إليه من جانب العسكر: (وما أراكما افترقتما) . وإن تفرقا قبل التقابض بطل الصرف؛ لفوات شرطه. وإن قبض البعض، ثم افترقا، بطل فيما لم يقبض، وفيما يقابله من العوض. وهل يصح في المقبوض؟ على وجهين، بناء على تفريق الصفقة. ولو وكل أحدهما وكيلا في القبض، فقبض الوكيل قبل تفرقهما، جاز، وقام قبض وكيله مقام قبضه، سواء فارق الوكيل المجلس قبل القبض، أو لم يفارقه. وإن افترقا قبل قبض الوكيل بطل؛ لأن القبض في المجلس شرط، وقد فات وإن تخايرا قبل القبض في المجلس، لم يبطل العقد بذلك؛ لأنهما لم يفترقا قبل القبض. ويحتمل أن يبطل إذا قلنا بلزوم العقد، وهو مذهب الشافعي؛ لأن العقد لم يبق فيه خيار قبل القبض، أشبه ما لو افترقا. والصحيح الأول، فإن الشرط التقابض في المجلس، وقد وجد، واشتراط التقابض قبل اللزوم تحكم
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2134) ، صحيح مسلم المساقاة (1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243) ، سنن النسائي البيوع (4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2181) ، مسند أحمد بن حنبل (4/289) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/51) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(44/42)
بغير دليل، ثم يبطل بما إذا تخايرا قبل الصرف، ثم اصطرفا، فإن الصرف يقع لازما صحيحا قبل القبض، ثم يشترط القبض في المجلس.
(فصل) ولو صارف رجلا دينارا بعشرة دراهم، وليس معه إلا خمسة دراهم، لم يجز أن يتفرقا قبل قبض العشرة كلها، فإن قبض الخمسة وافترقا، بطل الصرف في نصف الدينار، وهل يبطل فيما يقابل الخمسة المقبوضة؟ على وجهين بناء على تفريق الصفقة. وإن أراد التخلص، فسخا الصرف في النصف الذي ليس معه عوضه، أو يفسخان العقد كله، ثم يشتري منه نصف الدينار بخمسة، ويدفعها إليه، ثم يأخذ الدينار كله، فيكون ما اشتراه منه له، وما بقي أمانة في يده، ثم يفترقان، ثم إذا صارفه بعد ذلك بالباقي له من الدينار، أو اشترى به منه شيئا، أو جعله سلما في شيء أو وهبه له، جاز، وكذلك إن وكله فيه. ولو اشترى فضة بدينار ونصف، ودفع إلى البائع دينارين، وقال: أنت وكيلي في نصف الدينار الزائد، صح. ولو صارفه عشرة دراهم بدينار، فأعطاه أكثر من دينار ليزن له حقه في وقت آخر، جاز، وإن طال، ويكون الزائد أمانة في يده، لا شيء عليه في تلفه. نص أحمد على أكثر هذه المسائل. فإن لم يكن مع أحدهما إلا خمسة دراهم، فاشترى بها نصف دينار، وقبض دينارا كاملا ودفع إليه الدراهم، ثم اقترضها منه، فاشترى بها النصف الباقي، أو اشترى الدينار منه بعشرة ابتداء، ودفع إليه الخمسة، ثم اقترضها منه ودفعها إليه عوضا عن النصف الآخر على غير وجه الحيلة، فلا بأس.(44/43)
(فصل) وإن باع مدي تمر رديء بدرهم، ثم اشترى بالدرهم تمرا جنيبا، أو اشترى من رجل دينارا صحيحا بدراهم، وتقابضا، ثم اشترى منه بالدراهم قراضة من غير مواطأة، ولا حيلة، فلا بأس به، وقال ابن أبي موسى: (لا يجوز إلا أن يمضي إلى غيره ليبتاع منه، فلا يستقيم له، فيجوز أن يرجع إلى البائع فيبتاع منه) . وقال أحمد، في رواية الأثرم: (يبيعها من غيره أحب إلي) قلت له: قال: (لم يعلمه أنه يريد أن يبيعها منه؟) فقال: (يبيعها من غيره، فهو أطيب لنفسه وأحرى أن يستوفي الذهب منه، فإنه إذا ردها إليه لعله أن لا يوفيه الذهب، ولا يحكم الوزن، ولا يستقصي) ، يقول: (هي ترجع إليه) . قيل لأبي عبد الله: (فذهب ليشتري الدراهم بالذهب الذي أخذه منه من غيره، فلم يجدها، فرجع إليه) ، فقال: (إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره، فنعم) . فظاهر أن هذا وجه الاستحباب، لا الإيجاب) . ولعل أحمد إنما أراد اجتناب المواطأة على هذا، ولهذا قال: (إذا كان لا يبالي اشترى منه أو من غيره، فنعم) ، وقال مالك: (إن فعل ذلك مرة، جاز، وإن فعله أكثر من مرة، لم يجز؛ لأنه يضارع الربا) .
ولنا: ما روى أبو سعيد قال: «جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين هذا؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء، فبعت صاعين بصاع، ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أوه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري، فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2312) ، صحيح مسلم المساقاة (1594) ، مسند أحمد بن حنبل (3/67) .(44/44)
وروى أيضا أبو سعيد، وأبو هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا على خيبر، فجاءه بتمر جنيب، فقال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله. إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، بع بالتمر الدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبا (1) » . متفق عليهما. ولم يأمره أن يبيعه من غير من يشتري منه، ولو كان ذلك محرما لبينه له، وعرفه إياه، ولأنه باع الجنس بغيره من غير شرط، ولا مواطأة، فجاز؛ كما لو باعه من غيره، ولأن ما جاز من البياعات مرة، جاز على الإطلاق، كسائر البياعات، فأما إن تواطأ على ذلك، لم يجز، وكان حيلة محرمة، وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة، والشافعي: (يجوز، ما لم يكن مشروطا في العقد) .
ولنا: أنه إذا كان عن مواطأة كان حيلة، والحيل محرمة على ما سنذكره.
فصل: والحيل كلها محرمة، غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقدا مباحا يريد به محرما؛ مخادعة وتوسلا إلى فعل ما حرم الله، واستباحة محظوراته، أو إسقاط واجب، أو دفع حق، ونحو ذلك. قال أيوب السختياني: (إنهم ليخادعون الله، كأنما يخادعون صبيا، لو كانوا يأتون الأمر على وجهه كان أسهل علي. فمن ذلك ما لو كان مع رجل عشرة صحاح، ومع الآخر خمسة عشر مكسرة، فاقترض كل واحد منهما ما مع صاحبه، ثم تباريا، توصلا إلى بيع الصحاح بالمكسرة متفاضلا، أو باعه
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1593) ، سنن النسائي البيوع (4553) ، موطأ مالك البيوع (1314) .(44/45)
الصحاح بمثلها من المكسرة متفاضلا، ثم وهبه الخمسة الزائدة، أو اشترى منه بها أوقية صابون، أو نحوها ما يأخذه بأقل من قيمته، أو اشترى منه بعشرة إلا حبة من الصحيح مثلها من المكسرة، ثم اشترى منه بالحبة الباقية ثوبا قيمته خمسة دنانير. وهكذا لو أقرضه شيئا أو باعه سلعة بأكثر من قيمتها. أو اشترى منه سلعة بأقل من قيمتها توصلا إلى أخذ عوض عن القرض، فكل ما كان من هذا على وجه الحيلة فهو خبيث محرم) . وبهذا قال مالك، وقال أبو حنيفة والشافعي: (ذلك كله وأشباهه جائز. إذا لم يكن مشروطا في العقد) ، وقال بعض أصحاب الشافعي: (يكره أن يدخلا في البيع على ذلك؛ لأن كل ما لا يجوز شرطه في العقد يكره أن يدخلا عليه.
ولنا: أن الله تعالى عذب أمة بحيلة احتالوها، فمسخهم قردة، وسماهم معتدين، وجعل ذلك نكالا وموعظة للمتقين؛ ليتعظوا بهم، ويمتنعوا من مثل أفعالهم، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (1) ، أي: لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فروي أنهم كانوا ينصبون شباكهم للحيتان يوم الجمعة، ويتركونها إلى يوم الأحد، ومنهم من كان يحفر حفائر ويجعل إليها مجاري، فيفتحها يوم الجمعة، فإذا جاء السمك يوم السبت، جرى مع الماء في المجاري، فيقع في الحفائر، فيدعها إلى يوم الأحد، ثم يأخذها، ويقول: ما اصطدت يوم السبت، ولا اعتديت فيه. فهذه حيلة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من
__________
(1) سورة البقرة الآية 66(44/46)
أدخل فرسا بين فرسين، وقد أمن أن يسبق، فهو قمار، ومن أدخل فرسا بين فرسين، وهو لا يأمن أن يسبق، فليس بقمار (1) » رواه أبو داود، وغيره. فجعله قمارا مع إدخاله الفرس الثالث؛ لكونه لا يمنع معنى القمار، وهو كون كل واحد من المتسابقين لا ينفك عن كونه آخذا، أو مأخوذا منه، وإنما دخل صورة، تحيلا على إباحة المحرم، وسائر الحيل مثل ذلك، ولأن الله تعالى إنما حرم المحرمات لمفسدتها، والضرر الحاصل منها.
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2579) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2876) ، مسند أحمد بن حنبل (2/505) .(44/47)
4 - نقول عن بعض علماء المذاهب الأربعة في حكم الربا بدار الحرب مع الأدلة والمناقشة منهم، وسؤال وجواب من محمد رشيد رضا.
أ - قال الكاساني:
وأما شرائط جريان الربا فمنها أن يكون البدلان معصومين، فإن كان أحدهما غير معصوم لا يتحقق الربا عندنا، وعند أبي يوسف: هذا ليس بشرط ويتحقق الربا.
وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل مسلم دار الحرب تاجرا فباع حربيا درهما بدرهمين أو غير ذلك من سائر البيوع الفاسدة، في حكم الإسلام: أنه يجوز عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف: لا يجوز.
وجه قول أبي يوسف أن حرمة الربا؛ كما هي ثابتة في حق المسلمين، فهي ثابتة في حق الكفار؛ لأنهم مخاطبون بالحرمات في الصحيح من الأقوال، فاشتراطه في البيع يوجب فساده؛ كما إذا بايع المسلم الحربي المستأمن في دار الإسلام.(44/47)
ولهما: أن مال الحربي ليس بمعصوم، بل هو مباح في نفسه إلا أن المسلم المستأمن منع من تملكه من غير رضاه لما فيه من الغدر والخيانة، فإذا بدله باختياره ورضاه فقد زال هذا المعنى، فكان الأخذ استيلاء على مال مباح غير مملوك، وأنه مشروع مفيد للملك، كالاستيلاء على الحطب والحشيش، وبه تبين أن العقد ههنا ليس بتملك، بل هو تحصيل شرط التملك، وهو الرضا؛ لأن ملك الحربي لا يزول بدونه، وما لم يزل ملكه لا يقع الأخذ تملكا، لكنه إذا زال، فالملك للمسلم يثبت بالأخذ والاستيلاء لا بالعقد فلا يتحقق الربا؛ لأن الربا اسم لفضل يستفاد بالعقد بخلاف المسلم إذا باع حربيا دخل دار الإسلام بأمان؛ لأنه استفاد العصمة بدخوله دار الإسلام بأمان، والمال المعصوم لا يكون محلا للاستيلاء، فتعين التملك فيه بالعقد، وشرط الربا في العقد مفسد، وكذلك الذمي إذا دخل دار الحرب فباع حربيا درهما بدرهمين، أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في الإسلام فهو على هذا الخلاف الذي ذكرنا؛ لأن ما جاز من بيوع المسلمين جاز من بيوع أهل الذمة، وما يبطل أو يفسد من بيوعهم إلا الخمر والخنزير على ما نذكر إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن يكون البدلان متقومين شرعا، وهو أن يكونا مضمونين حقا للعبد، لا يجري فيه الربا.
وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل المسلم دار الحرب فبايع رجلا أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا درهما بدرهمين، أو غير ذلك من(44/48)
البيوع الفاسدة في دار الإسلام، أنه يجوز عند أبي حنيفة، وعندهما: لا يجوز؛ لأن العصمة وإن كانت ثابتة فالتقوم ليس بثابت عنده حتى لا يضمن نفسه بالقصاص ولا بالدية عنده، وكذا ماله لا يضمن بالإتلاف؛ لأنه تابع للنفس، وعندهما نفسه وماله معصومان متقومان، والمسألة تأتي في كتاب السير.
ولو دخل مسلمان دار الحرب فتبايعا درهما بدرهمين أو غيره من البيوع الفاسدة في دار الإسلام، لا يحوز؛ لأن كل واحد منهما معصوم متقوم فكان التملك بالعقد، فيفسد بالشرط الفاسد.
ولو أسلم الحربي الذي بايع المسلم ودخل دار الإسلام، أو أسلم أهل الدار: فما كان من ربا مقبوض أو بيع فاسد مقبوض فهو جائز ماض، وما كان غير مقبوض يبطل؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) ، أمرهم سبحانه وتعالى بترك ما بقي من الربا، والأمر بترك ما بقي من الربا نهي عن قبضه، فكأنه تعالى قال: اتركوا قبضه، فيقتضي حرمة القبض.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل ربا في الجاهلية فهو موضوع تحت قدمي (2) » . والوضع: عبارة عن الحط والإسقاط، وذلك فيما لم يقبض، ولأن بالإسلام حرم ابتداء العقد فكذا القبض بحكم العقد؛ لأنه تقرير العقد وتأكيده، فيشبه العقد فيلحق به؛ إذ هو عقد من وجه فيلحق بالثابت من
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .(44/49)
كل وجه في باب الحرمات احتياطا، ومتى حرم القبض لم يكن في بقاء العقد فائدة.
ومنها: أن لا يكون البدلان ملكا لأحد المتبايعين، فإن كان لا يجري الربا، وعلى هذا يخرج العبد المأذون إذا باع مولاه درهما بدرهمين، وليس عليه دين أنه يجوز؛ لأنه إذا لم يكن عليه دين فما في يده لمولاه، فكان البدلان ملك المولى، فلا يكون هذا بيعا، فلا يتحقق الربا؛ إذ هو مختص بالبياعات.
وكذلك المتعاوضان إذا تبايعا درهما بدرهمين يجوز؛ لأن البدل من كل واحد منهما مشترك بينهما، فكان مبادلة ماله بماله، فلا يكون بيعا ولا مبادلة حقيقة. وكذلك الشريكان، شركة العنان إذا تبايعا درهما بدرهمين من مال الشركة جاز لما قلنا.
ولو تبايعا من غير مال الشركة لا يجوز؛ لأنهما في غير مال الشركة أجنبيان. ولو كان على العبد المأذون دين فباعه مولاه درهما بدرهمين لا يجوز بالإجماع. أما عند أبي حنيفة رحمه الله فظاهر؛ لأن المولى لا يملك كسب عبده المأذون المديون عندهم فلم يجتمع البدلان في ملك واحد، وعندهما وإن كان يملك لكن ملكا محجورا عن التصرف فيه؛ لتعلق حق الغرماء به، فكان المولى كالأجنبي عنه. وكذلك المولى إن عاقد مكاتبه عقد الربا لم يجز؛ لأن المكاتب في حق الاكتساب ملحق بالأحرار؛ لانقطاع تصرف المولى عنه فأشبه الأجانب.(44/50)
وأما إسلام المتبايعين، فليس بشرط لجريان الربا، فيجري الربا بين أهل الذمة، وبين المسلم والذمي؛ لأن حرمة الربا ثابتة في جهنم؛ لأن الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات إن لم يكونوا مخاطبين بشرائع هي عبادات عندنا. قال الله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (1) .
وروي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس هجر: إما أن تذروا الربا، أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله» . وهذا في نهاية الوعيد فيدل على نهاية الحرمة، والله سبحانه وتعالى أعلم (2) .
ب - قال: (ولا بين المسلم والحربي في دار الحرب)
خلافا لأبي يوسف رحمه الله، والشافعي رحمه الله: لهما الاعتبار بالمستأمن منهم في دارنا، ولنا: قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب» ، ولأن مالهم مباح في دارهم فبأي طريق أخذه المسلم، أخذ مالا مباحا إذا لم يكن منه غدر بخلاف المستأمن منهم؛ لأن ماله صار محظورا بعقد الأمان.
(قال) أي القدوري في مختصره: (ولا ربا بين المولى وعبده؛ لأن العبد وما في يده ملك مولاه فلا يتحقق الربا وهكذا) أي: عدم كون الربا بين المولى وعبده (إذا كان) أي: العبد (مأذونا له) في التجارة ولم يكن عليه دين، أما إذا كان عليه دين لا يجوز بالاتفاق؛ لأن ما في يده ليس ملك
__________
(1) سورة النساء الآية 161
(2) بدائع الصنائع 3127.(44/51)
المولى عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما (تعلق به) أي بما في العبد (حق الغرماء فصار) أي: العبد (كأجنبي) من مولاه (فيتحقق الربا كما يتحقق) أي: الربا (بينه) أي: بين المولى (وبين مكاتبه) ؛ لأن المكاتب صار كالحر يدا، أو تصرفا في كسبه، الربا بينه وبين مولاه؛ كما يجري بينه وبين غيره.
(قال) أي القدوري رحمة الله: (ولا بين المسلم والحربي في دار الحرب) أي: ولا ربا أيضا بين المسلم الذي دخل دار الحرب بأمان وباع درهما بدرهمين، وكذا إذا باع خمرا، أو خنزيرا، أو ميتة، أو قامرهم، وأخذ المال كل ذلك يحل له إذا كان في دار الحرب، عند أبي حنيفة، ومحمد، (خلافا لأبي يوسف، والشافعي، رضي الله عنهما) ومالك وأحمد.
(لهما) أي: لأبي يوسف والشافعي: (الاعتبار بالمستأمن منهم في دارنا) يعني: المستأمن من أهل الحرب الذي دخل دارنا بأمان تجري الربا بينه وبين المسلم، فكذلك بجامع تحقق الفضل الحالي عن العرض المستحق بعقد البيع.
(ولنا قوله عليه الصلاة والسلام) أي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب» ، هذا حديث غريب ليس له أصل مسند، وقال الكاكي: (ولنا الحديث المذكور في المتن) . وفي المبسوط عن مكحول، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا بين المسلم» . . . الحديث. وهذا الحديث وإن كان مرسلا فمكحول ثقة، والمرسل من مثله مقبول، وقال الأكمل:(44/52)
(ولأبي حنيفة، ومحمد رحمه الله ما روى مكحول. . .) إلى آخره، ثم قال: (ذكره محمد بن الحسن وذكره الأترازي كذا) ، ثم قال: (كذا في شرح أبي نضر) قلت: أسند البيهقي في المعرفة في كتاب السير عن الشافعي رضي الله عنه قال: قال أبو يوسف رحمه الله: (إنما قال أبو حنيفة رضي الله عنه هذا؛ لأن بعض النسخة حدثنا عن مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا بين أهل الحرب» أظنه قال: «وأهل الإسلام» . قال الشافعي رضي الله عنه: (هذا ليس بثابت ولا حجة فيه) . انتهى.
قلت: لا نسلم عدم ثبوته؛ لأن جلالة قدر الإمام لا تقتضي أن يجعل لنفسه مذهبا من غير دليل واضح، وأما قوله: (ولا حجة فيه) فبالنسبة إليه، لأن مذهبه عدم العمل بالمرسلات، إلا مرسل سعيد بن المسيب، والمرسل عندنا حجة على ما عرف في موضعه، والله أعلم.
(ولأن مالهم) أي: مال أهل الحرب (مباح في دارهم) ؛ لأنه غير معصوم، أي: في أخذه (غدر) ؛ لأن الغدر حرام (بخلاف المستأمن منهم) ، هذا جواب عن قياس أبي يوسف والشافعي رضي الله عنهما تقريره ما قاله بقوله: (لأن ماله) أي: من المستأمن (صار محظورا) أي: ممنوعا أخذه (بعقد الأمان) ، ولهذا لا يحل تناوله بعد انقضاء المدة، وفي الحجى في الكناية: مستأمن هنا باشر مسلما أو ذميا في دارهم أو من أسلم هناك شيئا من العقود التي لا تجوز فيما بيننا؛ كالربويات، وبيع الميتة، جاز عندهما.(44/53)
خلافا لأبي يوسف والأئمة الثلاثة، والله أعلم.
جـ - قال في تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار والتعليق عليه رد المحتار:
(ولا بين حربي ومسلم مستأمن) ولو بعقد فاسد أو قمار (ثمة) ؛ لأن ماله ثمة مباح، فيحل برضاه مطلقا بلا عذر خلافا للثاني. والثلاثة (و) حكم (من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر كحربي) فللمسلم الربا معه خلافا لهما؛ لأن ماله غير معصوم فلو هاجر إلينا، ثم عاد إليهم فلا ربا اتفاقا جوهرة:
قلت: ومنه يعلم حكم من أسلما ثمة ولم يهاجرا.
الزائد بلا عوض، وهو عين الربا تأمل (قوله: ولا بين حربي ومسلم مستأمن) احترز بالحربي عن المسلم الأصلي والذمي، وكذا عن المسلم الحربي إذا هاجر إلينا، ثم عاد إليهم، فأنه ليس للمسلم أن يرابي معه اتفاقا؛ كما يذكره الشارح، ووقع في البحر هنا غلط حيث قال: وفي المجتبى مستأمن منا باشر مع رجل، مسلما كان أو ذميا في دارهم، أو من أسلم هناك شيئا من العقود التي لا تجوز فيما بيننا؛ كالربويات وبيع الميتة جاز عندهما، خلافا لأبي يوسف فإن مدلوله جواز الربا بين مسلم أصلي مع مثله أو مع ذمي هنا، وهو غير صحيح؛ لما علمته من مسألة المسلم الحربي، والذي رأيته في المجتبى هكذا مستأمن من أهل دارنا، مسلما كان أو ذميا في دارهم، أو من أسلم هناك باشر معهم من العقود التي لا تجوز إلخ. وهي(44/54)
عبارة صحيحة فما في البحر تحريف فتنبه قوله: (ومسلم مستأمن) مثله الأسير لكن له أخذ مالهم ولو بلا رضاهم؛ كما مر في الجهاد، قوله: (ولو بعقد فاسد) أي ولو كان الربا بسبب عقد فاسد من غير الأموال الربوية كبيع بشرط؛ كما حققناه فيما مر، وأعم منه عبارة المجتبى المذكورة، وكذا قول الزيلعي، وكذا إذا تبايعا فيها بيعا فاسدا، قوله: (ثمة) أي في دار الحرب قيد به؛ لأنه لو دخل دارنا بأمان فباع منه مسلم درهما بدرهمين، لا يجوز اتفاقا عن مسكين. قوله: (لأن ماله ثمة مباح) قال في فتح القدير: لا يخفى أن هذا التحليل إنما يقتضي حل مباشرة العقد إذا كانت الزيادة ينالها المسلم، والربا أهم من ذلك إذ يشمل ما إذا كان الدرهمان أي في بيع درهم بدرهمين من جهة المسلم ومن جهة الكافر. وجواب المسألة بالحل عام في الوجهين، وكذا القمار قد يفضي إلى أن يكون مال الخطر للكافر بأن يكون الغلب له، فالظاهر أن الإباحة بقيد نيل المسلم الزيادة، وقد ألزم الأصحاب في الدرس أن مرادهم من حل الربا والقمار ما إذا حصلت الزيادة نظرا إلى العلة، وإن كان إطلاق الجواب خلافه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. اهـ.
قلت: ويدل على ذلك ما في السير الكبير وشرحه قال: وإذا دخل المسلم دار الحرب بأمان، فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب أنفسهم بأي وجه كان؛ لأنه إنما أخذ المباح على وجه عري عن الغدر فيكون ذلك طيبا له، والأسير والمستأمن سواء، حتى لو باعهم درهما(44/55)
بدرهمين أو باعهم ميتة بدارهم، أو أخذ مالا منهم بطريق القمار فذلك كله طيب له. اهـ ملخصا.
فانظر كيف جعل موضوع المسألة الأخذ من أموالهم برضاهم، فعلم أن المراد من الربا والقمار في كلامهم ما كان على هذا الوجه، أي ولو بعقد فاسد. قوله: (بلا عذر) ؛ لأنه لما دخل دارهم بأمان، فقد التزم أن لا يغدرهم، وهذا القيد لزيادة الإيضاح؛ لأن ما أخذه برضاهم لا غدر فيه. قوله: (خلافا للثاني) أي أبي يوسف، وخلافه في المستأمن دون الأسير. قوله: (والثلاثة) أي الأئمة الثلاثة. قوله: (لأن ماله غير معصوم) العصمة الحفظ والمنع، وقال في الشرنبلالية: لعله أراد بالعصمة التقوم أي لا تقوم له، فلا يضمن بالإتلاف؛ لما قال في البدائع معللا لأبي حنيفة؛ لأن العصمة وإن كانت ثابتة، فالتقوم ليس بثابت عنده حتى لا يضمن بالإتلاف، وعندهما نفسه وماله معصومان متقومان. اهـ.
قوله: (فلا ربا اتفاقا) أي لا يجوز الربا معه فهو نفي بمعنى النهي؛ كما في قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} (1) فافهم. قوله: (ومنه يعلم. . .) إلخ. أي يعلم مما ذكره المصنف مع تعليله أن من أسلما ثمة ولم يهاجرا لا يتحقق الربا بينهما أيضا؛ كما في النهر عن الكرماني، وهذا يعلم بالأولى. قوله: (إلا في هذه الست مسائل) أولها السيد مع عبده وآخرها من أسلما
__________
(1) سورة البقرة الآية 197(44/56)
ولم يهاجرا، وحقه أن يقول المسائل بالتعريف، والله سبحانه أعلم (1) .
د - جاء في المدونة الكبرى ما نصه في الربا بين المسلم والحربي وبيع المجوسي من النصراني:
قلت: هل سمعت مالكا يقول: بين المسلم إذا دخل بلاد الحرب وبين الحربي ربا؟ (قال) : لم أسمع من مالك شيئا، ولا أرى للمسلم أن يعمد لذلك (2) .
وفي مقدمات ابن رشد: (فصل) فإن فات البيع، فليس له إلا رأس ماله قبض الربا أو لم يقبضه، فإن كان قبضه رده إلى صاحبه، وكذلك من أربى، ثم تاب، فليس له إلا رأس ماله، قبض الربا أو لم يقبضه، فإن كان قبضه رده إلى صاحبه، وكذلك من أربى ثم تاب فليس له إلا رأس ماله، وما قبض من الربا وجب عليه أن يرده إلى من قبضه منه، فإن لم يعلمه تصدق به عنه؛ لقول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (3) الآية، وأما من أسلم، وله ربا فإن كان قبضه فهو له؛ لقول الله عز وجل: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (4) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم على شيء فهو له» ، وأما إن كان الربا لم يقبضه فلا يحل له أن يأخذه، وهو موضوع عن الذي هو عليه ولا خلاف في هذا أعلمه؛ لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (5) . نزلت هذه
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 \ 186.
(2) المدونة الكبرى للإمام مالك وبهامشه مقدمات ابن رشيد - الطبعة الأولى بالمطبعة الخيرية 3 \ 79.
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 278(44/57)
الآية في قوم أسلموا، ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم، وكانوا قد اقتضوه وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه، وقيل: نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا يسلفان في الربا، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا فأنزل الله الآية بتحريم اقتضاء ما كان بقي لهما من الربا، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته في يوم عرفة في حجة الوداع: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب (1) » .
(فصل) وفي هذا ما يدل على إجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف؛ لأن مكة كانت دار حرب، وكان بها العباس بن عبد المطلب مسلما، إما من قبل بدر على ما ذكره أبو إسحاق من أنه اعتذر إلى النبي عليه الصلاة والسلام لما أسر يوم بدر وأمره أن يفتدي، فقال له: إني كنت مسلما ولم أخرج لقتالكم إلا كرها، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: «أما ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافد نفسك (2) » أو من قبل فتح خيبر إن لم يصح ما ذكره أبو إسحاق على ما دل عليه حديث الحجاج بن علاط من إقراره للنبي عليه الصلاة والسلام بالرسالة وتصديقه ما وعده به. وقد كان الربا يوم فتح خيبر محرما على ما روي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقلادة، وهو بخيبر من غنائمها فيها ذهب وخرز فأمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وبيع وحده، وقال: الذهب بالذهب وزنا بوزن (3) » . فلما لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان
__________
(1) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/353) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن النسائي البيوع (4573) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .(44/58)
من رباه بعد إسلامه؛ إما من قبل بدر وإما من قبل فتح خيبر إلى أن ذهبت الجاهلية بفتح مكة، وإنما وضع منه ما كان قائما بما لم يقبض دل ذلك على إجازته إذا حكم له بحكم ما كان من الربا قبل تحريمه، وبحكم الربا بين أهل الذمة والحربيين إذا أسلموا، وبحديث الحجاج بن علاط الذي دل على أن العباس كان مسلما حين فتح خيبر، هو ما روى أنس بن مالك أنه قال للنبي عليه الصلاة السلام حين فتح خيبر: إن لي بمكة أهلا، وقد أردت أن آتيهم فإن أذنت لي أن أقول فعلت، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتى مكة وأشاع بها أن أصحاب محمد قد استبيحوا وأني جئت لأخذ مالي فأبتاع من غنائمهم، ففرح بذلك المشركون، واختفى من كان بها من المسلمين، فأرسل العباس بن عبد المطلب غلامه إلى الحجاج يقول له: ويحك ما جئت به فما وعد الله به رسوله خير مما جئت به، فقال له: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له: ليخل لي بيتا فإن الخبر على ما يسر، فلما أتاه الغلام بذلك قام إليه فقبل ما بين عينيه، ثم أتاه الحجاج بن علاط فخلى به في بعض بيوته، وأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتحت عليه خيبر وجرت فيها سهام المسلمين، واصطفى رسول الله منها صفية لنفسه، وأن رسول الله أباح له أن يقول ما شاء فيستخرج ماله، وسأله أن يكتم ذلك عليه ثلاثا حتى يخرج ففعل، فلما أخبر بذلك بعد خروجه فرح المسلمون، ورجع ما كان بهم من المقت على المشركين، والحمد لله رب العالمين. نقلت الحديث بالمعنى واختصرت منه الحديث لطوله، وبالله التوفيق.(44/59)
واحتج الطحاوي لإجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: «أيما دار قسمت في الجاهلية فهو على قسم الجاهلية (1) » الحديث. وإنما اختلف أهل العلم فيمن أسلم، وله ثمن خمر أو خنزير لم يقبضه، فقال أشهب والمخزومي: (هو له حلال بمنزلة ما لو كان قبضه) ، وقال ابن دينار وابن أبي حازم: (يسقط الثمن عن الذي هو عليه كالربا) ، وأكثر قول أصحابنا على قول أشهب والمخزومي.
هـ - قال النووي: (فرع الربا يجري في دار الحرب جريانه في دار الإسلام) . وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن، وعن أبي حنيفة: أن الربا في دار الحرب إنما يجري بين المسلمين المهاجرين، فأما بين الحربيين وبين مسلمين لم يهاجرا أو أحدهما فلا ربا، وقال: (إن الذميين إذا تعاقدا عقد الربا في دار الإسلام فسخ عليهما) . فالاعتبار عنده بالدار، وعندهما الاعتبار بالعاقد، فإذا أربى الذي في بلاد الإسلام من الذمي لم يفسخ، كذا قال القفال في شرح التلخيص قال: (وهكذا سائر البياعات الفاسدة) . والله أعلم.
واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بحديث مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب» ، وبأن أموال أهل الحرب مباحة للمسلم بغير عقد، فالعقد أولى، ودليلنا عموم الأدلة المحرمة للربا؛ لأن كل ما كان حراما في دار الإسلام كان حراما في دار الشرك، كسائر الفواحش
__________
(1) موطأ مالك الأقضية (1465) .(44/60)
والمعاصي، ولأنه عقد فاسد يستباح به المعقود عليه كالنكاح.
قلت: وهذا الاستدلال إن كان أبو حنيفة يوافق على فساده في دار الحرب فلا دليل عنده، وأما حديث مكحول فمرسل إن صح الإسناد إلى مكحول، ثم هو محتمل لأن يكون نهيا فيكون المقصود به تحريم الربا بين المسلم والحربي؛ كما بين المسلمين، واعتضد هذا الاحتمال بالعمومات، وأما استباحة أموالهم إذا دخل إليهم بأمان فممنوعة، فكذا بعقد فاسد، ولو فرض ارتفاع الأمان لم يصح الاستدلال؛ لأن الحربي إذا دخل دار الإسلام يستباح ماله بغير عقد، ولا يستباح بعقد فاسد، ثم ليس كل ما استبيح بغير عقد استبيح بعقد فاسد، كالفروج تستباح بالسبي ولا تستباح بالعقد الفاسد.
ومما استدلوا به على أنه لا ربا في دار الحرب أن العباس بن عبد المطلب كان مسلما قبل فتح مكة، فإن الحجاج بن علاط لما قدم مكة عند فتح خيبر واجتمع به في القصة الطويلة المشهورة دل كلام العباس على أنه مسلم حينئذ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: «وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب (1) » ، فدخل في ذلك الربا الذي من بعد إسلامه إلى فتح مكة، فلو كان الربا الذي بين المسلم والحربي موضوعا لكان ربا العباس موضوعا يوم أسلم.
والجواب: أن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه فيكفي حمل اللفظ عليه، وليس ثم دليل على أنه بعد إسلامه استمر على الربا، ولو
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/73) ، سنن الدارمي البيوع (2534) .(44/61)
سلم استمراره عليه لم يكن فيه حجة؛ لأنه قد لا يكون عالما بتحريمه، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ (1) .
وسئل هل يجوز للمسلم أخذ الربا من الحربي ويقرر عليه في المعاملات وبالتطفيف وغيره، وما المراد من الحربي وما علامته؟ (فأجاب) بأن الذي صرح به أئمتنا أن العقد مع الحربي بالاختيار كهو مع المسلم، فلا بد من حل ما أخذه المسلم منه بعقد أن توجد جميع شروط البيع فيه، وإلا لم يحل له أكله ولا التصرف فيه فعلم أنه لا يجوز أخذ الربا منه ولا التطفيف في كيل أو وزن، ومن فعل ذلك عزر عليه التعزير الشديد، والمراد بالحربي: الكافر الذي ليس له أمان بنحو عقد جزية أو تأمين مسلم بشروطها المعروفة في كتب الفقه (2) .
و (فصل) ويحرم الربا في دار الحرب، كتحريمه في دار الإسلام.
وبه قال مالك، والأوزاعي، وأبو يوسف، والشافعي، وإسحاق، وقال أبو حنيفة: (لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب) . وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب: (لا ربا بينهما) ؛ لما روى مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب» ، ولأن أموالهم مباحة، وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام، فما لم يكن كذلك كان مباحا.
__________
(1) المجموع شرح المهذب 10 \ 438.
(2) الفتاوى الكبرى الفقهية 2 \ 238.(44/62)
ولنا قول الله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) وقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (3) ، وعموم الأخبار يقتضي تحريم التفاضل. وقوله «من زاد أو ازداد فقد أربى (4) » عام. وكذلك سائر الأحاديث. ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار الحرب، كالربا بين المسلمين، وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن، وتظاهرت به السنة، وانعقد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول، لم يرد في صحيح، ولا مسند، ولا كتاب موثوق به، وهو مع ذلك مرسل محتمل. ويحتمل أن المراد بقوله: لا ربا النهي عن الربا، كقوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (5) ، وما ذكروه من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام، فإن ماله مباح إلا فيما حظره الأمان، ويمكن حمله بين المسلمين على هبة التفاضل، وهو محرم بالإجماع فكذا هاهنا (6) .
ز - أموال أهل الحرب:
من صاحب الإمضاء مدير جريدة الوفاق ببيتبزرغ - جاوا: محمد بن
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(5) سورة البقرة الآية 197
(6) المغني 4 \ 39.(44/63)
محمد سعيد الفتة. بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده.
ما قول السيد البار بالمسلمين، والرشيد الحريص على أحكام رب العالمين، في فتوى بعض العلماء: بحل أموال أهل الحرب فيما عدا السرقة والخيانة ونحوها مما كان برضاهم وعقودهم، فهو حل لنا مهما يكن أصله حتى الربا الصريح؟ !
أليست هذه الفتوى وأمثالها الضربة القاضية على جميع ما حرمه الله، والتعدي على الحدود التي لم يستثن منها اضطرارا ولا عذرا لفاعل؟ الشرك والكفر بغير إكراه، والقتل عمدا، وفي القصاص (كذا) والسرقة والربا ونحو ذلك، لا كالخمر والميتة والدم ونحوها للمضطر، وتأجيل بعض العبادات لعذر؛ كما بينه الشارع مع بقاء الحرمة والحكم والقضاء والكفارة إلا في الخطأ والنسيان، عدا ما استثناه منهما؛ كما هو الحق المنصوص به في كتاب الله المؤيد بالتواتر والحق المهيمن بالإجماع والتواطؤ! ! أفتونا بما أمر الله به أن يوصل؟
ج - أصل الشريعة الإسلامية أن أموال أهل الحرب مباحة لمن غلب عليها وإحرازه بأي صفة كان الإحراز، إلا أن الفقهاء خصصوا هذا العموم بما ورد في الشريعة من التشديد في تحريم الخيانة، فقالوا: إن المسلم لا يكون خائنا في حال من الأحوال، فإذا ائتمنه أي إنسان وإن كان حربيا على مال وجب عليه حفظ الأمانة وحرمت عليه الخيانة، فإذا كان الأصل في مال الحربي أنه غنيمة لمن غنمه بالقهر أو بالحيلة أو بكل وسيلة ما عدا الخيانة أفلا(44/64)
يكون حله أولى إذا أخذه المسلم برضاه، ولو بصورة العقود الباطلة في دار الإسلام بين المسلمين والخاضعين لحكمهم من غيرهم؟
إنه لم يظهر لي أدنى وجه لقياس حل سائر المحرمات كالكفر والخمر والميتة، وهي من المحرمات لذاتها في دار الإسلام ودار الحرب على مال الحربيين المباح في أصل الشريعة؛ إذ الأصل في القياس أن يلحق الشيء بمثله في علة الحكم لا بضده.
هذا وإن الربا الذي حرمه الله تعالى في دار الإسلام، وكذا في دار الحرب بين المسلمين إن وجدوا فيها، هو نوع من أنواع أكل المال المحترم بالباطل، وأخذ المال من صاحبه برضاه واختياره ليس من أكله بالباطل، والمضطر إلى أخذ المال بالربا لا يعطي الزيادة برضاه واختياره، والشرع لم يجعل له حقا بأخذها فكانت حراما؛ لأنها من قبيل الغصب على كونها بدون مقابل، ولذلك عللت في نص القرآن بأنها ظلم؛ إذ قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1) ، وظلم الحربي غير محرم؛ لأنه جزاء على ظلمه، فإنه لا يكون إلا أشد ظلما من المسلم؛ لأنه يخون والمسلم لا يخون، ولأن المسلم يمنعه دينه من أعمال في الحرب، ومع أهل الحرب لا يمنع الكافر دينه منها؛ كقتل غير المقاتلين والتمثيل بالقتلى وغير ذلك مما هو معروف في الإسلام، ونرى غير المسلمين يرتكبونه، حتى في البلاد التي جعلوها تحت حكمهم لا المحاربة لهم فقط،
__________
(1) سورة البقرة الآية 279(44/65)
والمسلمون يساوون غيرهم ممن يدخل تحت حكمهم بأنفسهم.
على أن المسلم في دار الإسلام يجوز له أن يقضي دائنه دينه بأفضل مما أخذ منه إذا كان بمحض اختياره، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم من كان اقترض منه بعيرا بسن فوق سن بعيره؛ كما في الصحيحين. ولو كان ذلك مشروطا لكان ربا. قال أبو هريرة كما في البخاري: «إن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال: دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا، واشتروا له بعيرا فأعطوه إياه فقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه، فقال: اشتروه فأعطوه إياه فإن خيركم أحسنكم قضاء (1) » . وما رواه الحارث عن علي: «كل قرض جر منفعة فهو ربا» فسنده ضعيف، بل قالوا: إنه ساقط، فإن راويه سوار بن مصعب متروك يروي المنكر، بل اتهم برواية الموضوعات.
لولا كتاب خاص شرح لنا فيه صديقنا السائل سبب سؤاله لما فهمنا قوله فيه: إن تلك الفتوى ضربة قاضية على جميع ما حرمه الله تعالى. فقد كتب إلينا: إن بعض المستمسكين بحبل الدين في جاوه قد استنكروا الفتوى المسئول عنها؛ لأنهم فهموا منها أن استحلال الربا في دار الحرب يفضي إلى استحلال سائر المعاصي؛ كالزنا واللواط والقتل وغير ذلك فيها أو مطلقا. وهذا سوء فهم منهم، فإن الفتوى ليست في استحلال الربا مطلقا؛ كما تقدم. ولا يخفى على أحد منهم أن حرمة سفك الدم بغير حق أشد من حرمة أخذ المال بغير حق، فهل يقيسون إذا إباحة قتل المحارب على
__________
(1) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2390) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) ، سنن الترمذي البيوع (1316) ، سنن النسائي البيوع (4618) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2423) ، مسند أحمد بن حنبل (2/456) .(44/66)
إباحة قتل المسالم من مسلم وذمي ومعاهد؟ ولدار الحرب أحكام أخرى تخالف أحكام دار الإسلام منها عدم إقامة الحدود فيها.
ونقول لهم من جهة أخرى: إذا أقام المسلم في غير دار الإسلام فهل يدعون أن الله تعالى يأمره بأن يدفع لأهلها كل ما يوجبه عليه قانون حكومتها من مال الربا وغيره - ولا مندوحة له عن ذلك - ويحرم عليه أن يأخذ منهم ما يعطونه إياه بحكم ذلك القانون من ربا وغيره برضاهم واختيارهم؟ أعني هل يعتقدون أن الله تعالى يوجب على المسلم أن يكون عليه الغرم من حيث يكون لغيره الغنم، أي يوجب عليه أن يكون مظلوما مغبونا؟
إن تحريم الربا من الأحكام المعقولة المعنى لا من التعبديات، وما حرم الله تعالى شيئا إلا لضرره على عباده الخاضعين لشرعه، وقد علل تحريم الربا في نص القرآن بأنه ظلم من حيث إنه استغلال لضرورة الفقير الذي لا يجد قوته أو ضرورته إلا بالاقتراض. والقرآن إنما حرم الربا الذي كان معهودا بين الناس في الجاهلية، وهو الربا المضاعف؛ كما تراه في تفسير ابن جرير وغيره من كتب التفسير المأثور: ومنه قول ابن زيد - زيد أحد علماء الصحابة الأعلام وابنه من رواة التفسير المأثور: إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف، وفي السن: يكون للرجل على الرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول: تقضيني أو تزيدني. . .؟ فإذا كان عنده شيء يقضيه، قضى؛ وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض (أي في(44/67)
السنة الثانية) يجعلها ابنة لبون (أي في السنة الثالثة) ، ثم حقة (أي ابنة السنة الرابعة) ، ثم جذعة (في الخامسة) ، ثم رباعيا (وهو ما ألقى رباعيته ويكون في السنة السادسة) ، ثم هكذا إلى فوق، وفي العين (أي الذهب والفضة يأتيه فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا، فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه. اهـ. من تفسير آية آل عمران) .
وضرر هذا عظيم، وهو قسوة تحرمها الآن جميع القوانين، ثم أوجب القرآن على التائب منه أخذ رأس المال فقط. وذكر ابن حجر المكي في الزواجر: أن ربا الجاهلية كان الإنساء فيه بالشهور، والذي يسمى في عرف المحدثين بربا النسيئة، وفيه ورد حديث: «لا ربا إلا في النسيئة (1) » رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أسامة بن زيد مرفوعا، ورواه مسلم عن ابن عباس عنه بلفظ: «إنما الربا في النسيئة (2) » ، وما صح من النهي عن ربا الفضل في الحديث فلسد الذريعة؛ كما نص عليه المحققون.
وإننا قد فصلنا القول في مسألة الربا في التفسير وغيره من قبل، فلا نعود إليها هنا، وإنما غرضنا بيان أن تلك الفتوى ليس فيها خطر على التوحيد ولا تقتضي تحليل شيء من المحرمات، ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها فلا يعملن بها (3) .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(3) فتاوى محمد رشيد رضا 5 \ 1974 - 1978.(44/68)
خامسا: نذكر فيما يلي المادة التاسعة من نظام التوفير والادخار لموظفي الشركة السعودية الموحدة للكهرباء بالمنطقة الوسطى. والفقرات (ج، د، هـ) من النقاط البارزة في نظام التوفير والادخار لموظفي الشركة السعودية الموحدة للكهرباء بالمنطقة الشرقية، وما جاء في عوائد ومميزات العمل في أرامكو للسعوديين مع التعليق على ذلك.
أ - المادة التاسعة يؤدي الصندوق للعامل، أو لورثته الذي انتهى اشتراكه قبل خمس سنوات من تاريخ اشتراكه، مجموع ما ادخره من أموال أثناء مدة اشتراكه، فإذا كانت مدة اشتراك العامل في الصندوق أكثر من خمس سنوات وأقل من عشر سنوات، يؤدي الصندوق للعامل أو لورثته مجموع ما ادخره من أموال أثناء مدة اشتراكه مضافا إليها 50 % من مجموع هذه الأموال، أما إذا بلغت مدة اشتراك العامل في الصندوق عشر سنوات فأكثر، فيؤدي الصندوق له أو لورثته مجموع ما ادخره من أموال عن مدة اشتراكه مضافا إليها 100 % من مجموع مدخراته لدى الصندوق.
ب - الفقرات ج، د، هـ من نظام الادخار لشركة الكهرباء السعودية بالمنطقة الشرقية:
جـ - تدفع الشركة كل شهر مبلغا يساوي 100 % من المبلغ يدخره(44/69)
المشترك.
د - تضيف الشركة إلى حساب المشترك في (1) محرم من كل سنة مبلغا يعادل 6% من حسابه مقابل المكاسب.
هـ - تصبح مساهمات الشركة والمكاسب على هذه المساهمات مستحقة إلى المشترك؛ كما يلي:
1 - 50 % بعد إكمال ستين شهرا.
2 - 100 % بعد إكمال مائة وعشرين شهرا من الاشتراك في النظام.
- جاء في عوائد ومميزات العمل في أرامكو للسعوديين.
وضعت أرامكو هذا النظام منذ زمن طويل بقصد تشجيع موظفيها السعوديين على ادخار جزء من رواتبهم بشكل منتظم، ويتوقف هذا الجزء على رغبة الموظف الخاصة، وهو يتراوح بين 1 و 10 في المائة من الراتب الشهري للموظف. وهذا المبلغ الذي لا يشكل عبئا على الموظف يصبح رصيدا معتبرا بعد بضع سنوات؛ إذ أنه ينمو باستمرار من ناحية الموظف وتزيد أرامكو فيه باستمرار أيضا، وبنسب متفاوتة، ما دام الموظف منتظما في العمل لديها ومشتركا في النظام، وتبلغ مساهمة أرامكو في هذا النظام 100 في المائة بعد عشر سنوات. أي: أن الشركة تدفع في ذلك الوقت وما(44/70)
يليه مبلغا مساويا للمبلغ الذي يدخره الموظف.
وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يجوز للمشترك بالنظام أن يفوض أرامكو باستثمار مدخراته. وفي هذه الحال تضاف العمولات المستحقة لمدخراته إلى رصيده العام؛ كما يحرز المشترك مكاسب على مساهمة أرامكو المقدرة، ويضاف ذلك إلى مدخراته أيضا.
ومن الجدير بالذكر أن نسبة المردود على موجودات المستثمرين للعام المنتهي في 28 شعبان 1401 هـ (30 يونيه 1981 م) قد بلغت 13. 7 في المائة. وهناك مشروع يجري إعداده حاليا، يسمح بموجبه للموظف المشترك في نظام الادخار أن يقترض من مدخراته مبلغا لا يقل عن ألف ريال ولا يزيد عن راتب شهرين، وذلك حسب المدة التي قضاها الموظف في الخدمة، ثم يسدد القرض على أقساط شهرية دون أن تتأثر العائدات على المدخرات.
الشروط المطلوبة للاشتراك في النظام:
يصبح الموظف مستوفيا للشروط الواجب توفرها فيه للاشتراك في هذا النظام بعد التحاقه بأرامكو مباشرة، وما عليه عند ذلك إلا أن يملأ استمارة خاصة في مكتب شئون الموظفين يخول الشركة بموجبها اقتطاع الجزء الراغب في ادخاره من راتبه الشهري، وكذلك استثماره إذا أراد.
نسبة مساهمة الشركة:
تتحدد نسبة مساهمة أرامكو في مدخرات الموظف بعدد السنوات التي يقضيها في الخدمة المتواصلة معها، وذلك حسب الجدول التالي:(44/71)
عدد سنوات الخدمة المتواصلة ... النسبة المئوية من مدخرات الموظف الشهرية التي تساهم بها أرامكو
سنة واحدة ... 5 في المائة
سنتان اثنتان ... 15 في المائة
ثلاث سنوات ... 25 في المائة
أربع سنوات ... 35 في المائة
خمس سنوات ... 50 في المائة
ست سنوات ... 60 في المائة
سبع سنوات ... 70 في المائة
ثماني سنوات ... 80 في المائة
تسع سنوات ... 90 في المائة
عشر سنوات ... 100 في المائة(44/72)
سادسا: نقول عن بعض المعاصرين في معنى الادخار، وأنواع بنوك الادخار وتوظيف الأموال المدخرة مع التعليق عليها.
1 - بنوك الادخار بقلم فهد الدغيثر (1) .
الادخار هو: الزيادة في الدخل على مصروفات الاستهلاك.
وينطبق هذا التعريف على الادخار الفردي والادخار العام. ويعتمد حجم الادخار على الدخل، وادخار المجتمع يميل إلى الاستقرار على
__________
(1) مجلة التجارة بجده، شهر ذي القعدة عام 1382 هـ.(44/72)
مستويات مختلفة من الدخل. . وبمعنى آخر فإن الميل للادخار يكون العادة مستقرا. ولا تستطيع الاحتفاظ بالمستويات المختلفة من الدخل، إلا إذا كان الاستثمار مساويا للادخار. أما إذا نقص حجم الاستثمار عن حجم الادخار - أي جزء من الكميات المدخرة، لم تأخذ طريقها نحو الاستثمار - فإن المجتمع لن يستفيد من هذا الادخار مما يعمل على هبوط مستوى الدخل.
ويتعذر الادخار ما دامت الدخول الفردية منخفضة جدا؛ كما أن ندرة الادخار تقف بالدخول تحت مستويات منخفضة جدا. وهذا هو الواقع المؤلم لكثير من الدول النامية، وهي الآن تحاول جاهدة أن تنتشل نفسها من هذه الدائرة، وقبل اكتشاف البترول كانت بلادنا تعيش ضمن هذه الدائرة الخبيثة المفرغة. فالبلاد بطولها وعرضها، وبمعظم قطاعاتها الاقتصادية كانت تعيش على الكفاف. فالدخول محدودة ومستواها منخفض جدا، لا يعطي مجالا للادخار، ثم اكتشف البترول وتدفقت عائداته بكميات كبيرة.
لذلك ارتفعت متوسطات الدخول بعض الشيء، وزادت النفقات على البضائع الاستهلاكية، والمشاريع العمرانية، وأصبحت تسود المجتمع في الغالب - وخاصة في المدن الكبيرة - عادات الإسراف؛ كما أن الاستهلاك المظهري، وحب المباهات في الأفراح والولائم وإقامة العمارات الفخمة. كل ذلك استنفد أي فائض يزيد عن الحاجات اليومية.(44/73)
ولسوء الحظ لم يكن بالبلاد إنتاج محلي، لكي يشارك في الاستفادة من تلك النفقات الباهظة، ولم تكن تعرف مؤسسات ادخارية للحد من هذه الطفرة في المصروفات، ولامتصاص جزء منها وإعادتها إلى تيار النشاط الاقتصادي على شكل استثمارات إنتاجية نافعة، كذلك لم يكن بالبلاد ضرائب تصاعدية لاقتطاع قدر معين من الدخل، وهذا ما يعبر عنه بالادخار الإجباري، وكانت النتيجة الحتمية لهذا الواقع الأليم تزايد الطلب على البضائع المستوردة من الخارج، والتي كان جلها من البضائع الاستهلاكية.
ومن ثم ارتفاع هائل في مستوى الأسعار، وأرباح تجارة ضخمة، وموجة عارمة من التضخم؛ ولدت آثارا سيئة، إذ كان من جرائها أن هربت رءوس الأموال إلى الخارج، مما عمل مع التزايد في الطلب على الواردات، على إيجاد عجز في ميزان المدفوعات، فلجأت إلى قروض أجنبية أدت إلى نتائج عكسية؛ لأنها كانت لتمويل عمليات استهلاكية وغير إنتاجية. ومخافة الانهيار الاقتصادي جاءت السياسة المالية الرشيدة عام 1377 هـ واضعة نصب عينيها محاربة التضخم، ومعالجة الأوضاع المالية المتدهورة، فنجحت في تحقيق أهدافها في تدعيم النقد وتقوية المركز المالي للبلاد، ولكن هذا العلاج كان وقتيا، فالعلاج الناجح يجب أن يكون جذريا، متمثلا في سياسة اقتصادية مالية متكاملة، تعنى بموازنة الإيرادات والمصروفات ومحاربة التضخم؛ كما تعنى في الوقت نفسه بوضع سياسة(44/74)
تخطيطية للتنمية الاقتصادية وإدخال روح من الحياة والمؤسسات الحديثة إلى الاقتصاد الوطني، لكي تكسبه النشاط والقوة والحيوية. . وتبني صرحه الوطيد، ونحن اليوم على أبواب فجر جديد، والحوافز تدفعنا نحو بناء اقتصاد حديث، يختار من النظم والمؤسسات الحديثة ما يلائم مجتمعنا وبيئتنا الاجتماعية والدينية، وفي نفس الوقت تسرع بنا الخطى؛ لكي ندرك الزمن الذي سبقنا، لا بد لنا والحال هذه من نظرة واقعية إلى اقتصادنا الوطني ودراسة أسسه وقواعده.
ورأس المال هو أحد العوامل الفعالة والضرورية لقيام برامج التنمية الاقتصادية. . والواقع المؤلم يبين أننا نلتهم دخلنا الكبير التهاما، ومعدل تكوين رأس المال يكاد يكون سلبيا. وللخروج من ذلك لا بد أن نعمل على إيجاد وسائل وسبل للحد من الإنفاق الاستهلاكي الذي يعم مجتمعنا، وتوليد مدخرات أهلية من تلك الدخول المتزايدة، وتعبئتها، لتأخذ دورها الفعال في عملية تكوين رأس المال. وهذا شرط أساسي لقيام وازدهار برامج التنمية الاقتصادية؛ لأن اعتمادنا على دخلنا من البترول الذي يذهب جله إلى المصروفات الجارية والضرورية، سوف يحد من مقدرتنا على توسيع وتطوير برامج التنمية الاقتصادية.
ومن بين الوسائل التي من الممكن اتباعها لخلق مدخرات أهلية، إقامة مؤسسات ادخارية؛ لتعمل على تشجيع الادخار واجتذاب المكتنزات من غياهب البلاليع؛ لإعادتها إلى تيار النشاط الاقتصادي على شكل(44/75)
استثمارات إنتاجية؛ كما أنها سوف تعمل على خلق روح ووعي ادخاري في المجتمع وتحد من الإسراف في الإنفاق الاستهلاكي؛ كما أنها باقتطاعها جزءا من المصروفات سوف تحد من عنفوان التضخم الذي يصحب المصروفات الكبيرة على مشروعات التنمية الاقتصادية؛ كما سوف تضع حدا لحجم الواردات.
مؤسسة الادخار:
ومن بين المؤسسات التي تقوم بدور تجميع المدخرات واستثمارها:
1 - حسابات التوفير بالبنوك التجارية: في أي بنك تجاري في العالم يوجد نوعان من الحسابات: حسابات جارية، وأخرى تدعى حسابات التوفير، فبالنسبة للأولى؛ فإن البنك في الغالب لا يدفع عليها فائدة، ولصاحبها الحق في أن يسحبها في أي وقت شاء، أما حسابات التوفير فإنها لا تسحب إلا بعد إشعار ومضي مدة معينة متفق عليها، وتستحق الفوائد إذا ما بقيت سنة أو أكثر.
2 - صناديق البريد للتوفير: الغرض من إنشاء هذه الصناديق هو تشجيع أصحاب الدخول الصغيرة على اقتطاع جزء من دخولهم، وإيداعها في صناديق البريد التي تشرف عليها الحكومة إشرافا كاملا، وتدار في العادة بواسطة مجلس من كبار الموظفين.
وتمتاز صناديق البريد - لكونها مرتبطة بإدارة البريد - بأنها تستطيع التغلغل في طول البلاد وعرضها؛ كما تمتاز بتوفير المصروفات الجارية على(44/76)
الموظفين والإدارة؛ لأن القائمين بالعمل عليها في العادة هم موظفو البريد.
وتعطي صناديق البريد للمودعين لديها فوائد تتراوح بين 1. 5 % و 2. 5 %، ويقوم المجلس المشرف عليها باختيار أنواع الاستثمارات التي توجه إليها تلك المدخرات، لما فيه صالح المدخرين والمجتمع.
ولا أعتقد أن هذا النظام من الممكن إدخاله في بلادنا في الوقت الحاضر على الأقل، وذلك:
أولا: لتحريم سعر الفائدة.
وثانيا: لأن إدارة البريد عندنا يعوزها التنظيم والكفاءة الإدارية، وحتى الآن لم تستطع أن تقوم بعملها الطبيعي على الوجه المطلوب، فإذا ما أسندنا إليها عملا كهذا فحري أن يصيبه الفشل، ويكون في ذلك تأثير سيئ على الروح الادخارية التي نصبو إلى خلقها في مجتمعنا.
3 - بنوك الادخار التعاونية: تعتبر بنوك الادخار التعاونية أهم المؤسسات التي تضطلع بعمليات الادخار، وهي أنسبها وأكثرها ملاءمة لأوضاعنا الاجتماعية والدينية؛ لأنها لا تدفع فوائد على الودائع الموضوعة لديها، بل تقدم أرباحا للمودعين الذين هم في نفس الوقت أصحاب المؤسسة.
وقد قامت البنوك التعاونية في كثير من دول العالم، ولاقت نجاحا كبيرا، ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية، وبلغ مجموع ودائعها 30 مليونا من الدولارات.(44/77)
ونظرا لملائمة هذا النوع من المؤسسات الادخارية لبيئتنا الدينية، فسأقدم عرضا موجزا عن كيفية إدارتها ومختلف أوجه نشاطها.
أ - إدارة بنك الادخار التعاوني: أرى أن تتبنى الحكومة هذا المشروع في بادئ الأمر، وتقوم بإنشاء فروع له في المدن الكبرى، كما تقوم بتحمل كافة المصروفات الإنشائية، على أن تستعيدها من أرباح البنك بعد أن يشب ويستطيع الوقوف على رجليه، وتوضع إدارته تحت إشراف موظفين من ذوي الخبرة والكفاءة والنزاهة، على أن يكون للحكومة حق مراقبة أعماله وحساباته واستثماراته، وذلك للمحافظة على مصالح المودعين.
ب - عمليات البنك: حيث إن الهدف من إنشاء البنك، تشجيع روح الادخار، وخاصة بين أصحاب الدخول الصغيرة. فيجب أن يتضمن النظام الأساسي للبنك ضمانات كافية لدرء الأخطار التي قد تصيب ودائعهم، ومن تلك الأخطار؛ السحب المفاجئ للمبالغ الكبيرة، مما يغير سيولة البنك، وفي سبيل ذلك لا بد من وضع حد أعلى لحجم الودائع التي توضع في البنك باسم شخص واحد، فهذا التحديد سوف يعمل على جلب المدخرات الحقيقية فقط، ويمنع تسرب الأموال السائلة الكبيرة التي تستغني عنها الشركات والأفراد لفترة قصيرة ومؤقتة، والتي سوف يؤثر في البنك التعاوني سحبها.
وفي البنوك التعاونية يعطى لكل مودع (دفتر توفير) يدون فيه مقدار ما أودعه وتاريخ الإيداع، ولا يحسب أي مبلغ إلا بإحضاره، كما تحرم المبالغ التي تسحب قبل مضي عام على إيداعها من الأرباح، وذلك لتشجيع المدخرين على عدم سحب ودائعهم بسرعة، مما يضر نشاط البنك(44/78)
واستثماراته.
جـ - استثمارات البنك: بعد أخذ الاحتياطات الكفيلة بملاقاة التغييرات المفاجئة في حجم ودائع البنك، أعتقد أنه سوف يكون في موقف يستطيع أن يستثمر أمواله في مشاريع التنمية الاقتصادية الطويلة الأجل من صناعية وزراعية، كما يستطيع شراء الأوراق المالية، وتقديم القروض لتمويل المشاريع التي يتوقع نجاحها.
ولا شك أن ما سوف يلاقيه من مؤازرة وتشجيع من الحكومة، سوف يقوي مركزه ويشجعه على المضي في اتباع خطة استثمارية ناجحة.
الأرباح:
وباتباع البنك سياسة استثمارية سليمة، سوف يكون لديه مجال لجني ثمار هذه الاستثمارات متمثلة فيما سوف تدر عليه من أرباح، وفي هذه الحال يجب أن يعمل البنك في بناء احتياجات كبيرة لتقوية مركزه المالي. . وما تبقى يوزع أرباحا للمودعين.
(نقلا عن مجلة المالية والاقتصاد، العدد السادس، شوال 1382) .
1 - ذكر الالتجاء إلى القروض الأجنبية ص 123، والقروض الأجنبية لا بد فيها من فائدة محددة، متفاوتة بتفاوت المقترضين ومؤجلة، وهذا من ربا الفضل والنسأ، ولم ينكره الكاتب.
2 و 3 - اقترح لحسابات التوفير ص 124، وصناديق البريد للتوفير ص 124، وسيلتين من وسائل الادخار، وهاتان الوسيلتان الربح فيهما مضمون ص 124، فهو ربا.
4 - عقب على ذلك بأنه لا يمكن تطبيق نظام حسابات التوفير(44/79)
وصناديق البريد، للتوفير في الوقت الحاضر، وذكر من الموانع لتحريم سعر الفائدة ص125، فهذا يعني أن حال الناس ستتغير فتطيب نفوسهم بقبول سعر الفائدة المحرمة شرعا في المستقبل.
5 - أطلق القول في أن البنك يستطيع شراء الأوراق المالية وتقديم القروض لتمويل المشاريع التي يتوقع نجاحها ص 126.
ذكر هذه الأساليب التي يستطيعها البنك، ومن المعلوم أن تقديم القروض وشراء الأوراق المالية يشتمل على المشروع والممنوع، وقد أجمل الكلام في ذلك، وسبق الكلام في بحث البورصة على الأسهم والسندات ص 119 وما بعدها.
4 - توظيف الأموال المدخرة:
إن توظيف المدخرات الشخصية تختلف تبعا للأمور التالية:
1 - مقدار مردودها.
2 - أخطار الخسارة، أو الربح التي تتعرض لها.
3 - مدى سيولتها، أو سهولة بيعها وشرائها.
4 - مدى الاعتبار الاجتماعي الذي تضفيه على صاحبها.
إذا فإن الأشكال التي سيتخذها الادخار الشخصي تتوقف على الأسباب التي حملت المدخر على توظيف أمواله، وعلى موقفه من الأخطار التي يتعرض لها.
1 - يترتب على الذي لا يريد سوى الاحتراز من الأخطار التي قد يتعرض لها في المستقبل كخسارة الدخل بسبب الوفاة، أو الإصابة بمرض، أو حدوث عارض، أو التعرض للبطالة، أن يبرم عددا من عقود التأمين(44/80)
بنسبة الأخطار التي يرغب في توقي سوءها.
فالأقساط التي يدفعها تؤلف المبلغ المدخر الذي يصبح مستحقا في حال وقوع حادث مؤسف، وبواسطة هذه الأقساط تستطيع شركة التأمين أن تتحمل نتائج الأخطار الفردية، عن طريق قانون الأعداد الكبيرة، بعقد التأمين على الحياة؛ إما للتعويض عن الأخطار فقط، أو على أساس تكوين رأس مال.
ففي الحالة الأولى: لا يقبض المؤمن عليه عند الاستحقاق أي مبلغ، وفي الحالة الثانية: يقبض مبلغ الرأس مال المتراكم من جراء الأقساط الإضافية المدفوعة دوريا.
وقد يعتقد بعض الأشخاص أن التأمين على الحياة مع تكوين رأس مال أصلح من مجرد التأمين على الأخطار. وهذا مجرد وهم؛ إذ أن عدم إقدام شركة التأمين على دفع أي مبلغ للمؤمن عند الاستحقاق، لا يعني أن هذا الأخير كان مخطئا في صفقته، ولأن الشركة خدمته من حيث إنها كانت مستعدة أن تدفع إلى ورثته رأس مال معين، أو ريعا محددا، في حال وفاته طيلة مدة سريان العقد، ومن جهة ثانية، فإن إعادة رأس المال عند الاستحقاق ليست صفقة رابحة كما يعتقد البعض؛ لأن شركة التأمين قد استثمرت فائدة الأقساط المدفوعة خلال مدة العقد، وهي لا تدفع سوى فائدة مخفضة إلى المؤمنين لديها؛ إذ أنها تستفيد من الفرق بين المردود الناشئ عن الأموال التي وظفها (سندات دين، رهونات، أسهم مالية) وبين الفائدة التي تدفعها إلى زبائنها.
ولو قدم المؤمن بنفسه على توظيف أمواله بهذه الطرق، لتمكن من(44/81)
الحصول على أرباح أوفر، ولكن الواقع هو أن معظم الناس يجهلون إمكانات توظيف الأموال كيما يقوموا بذاتهم بهذه المهمة. بذلك تقضي مصلحتهم باللجوء إلى مؤسسة متخصصة، كشركة التأمين.
إن نظام دفع الأقساط دوريا، يرغم المدخر على الاستمرار في رغبته في الادخار، ولو لم يكن مرغما على تأدية هذه المبالغ في فترات معينة، لسولت له نفسه سحب بعض المال من مدخراته لاستهلاكها، أو لتوظيفها في مشروعات تنطوي على المجازفة.
2 - إن توظيف الأموال في سندات مالية تسمح بالجمع بين المردود المرتفع نسبيا وبين الأخطار الضئيلة نسبيا، والسيولة المرضية. وثمة مجموعة من السندات المالية تختلف تبعا لمعدل مردودها، ودرجة سيولتها، والأخطار التي قد تتعرض لها.
إن صناديق الدولة هي في الغالب غير معرضة لخطر عدم التسديد؛ لأن الدولة تراقب النظام الضرائبي، وتراقب إصدار النقد بصورة مباشرة، أو غير مباشرة. وفضلا عن ذلك أن سندات الدين الحكومية هي غالبا شديدة السيولة، أي أنه يمكن بيعها وشراؤها بسهولة، بسبب اتساع أسواقها.
إن الديون العامة تبلغ رقما كبيرا جدا، وتتهافت على شراء سنداتها المصارف وشركات التأمين، ومؤسسات توظيف الأموال، وحتى الأفراد العاديون.
أما السندات المالية الخاصة التي تصدرها الشركات الصناعية والتجارية والمالية، أو المؤسسات التي لا تتوخى الربح؛ كاللجان المدرسية، والمؤسسات الدينية الكندية، فإنها تمنح في الغالب ربحا أعلى من سندات الحكومة؛(44/82)
بسبب ضآلة سيولتها وخطر عدم تسديدها، الأمر الذي قد لا تنجو منه المؤسسات الخاصة المدينة. وكلما كان إصدار سندات الدين محدودا يضيق معه مجال بيعها، وتزداد بالتالي الصعوبة التي يلقاها الشاري، أو البائع في إيجاد ما يقابلها.
وتصدر بعض الشركات سندات مالية قابلة للتحويل إلى أسهم، وهي تتيح لحاملها فرصة الإسهام في الارتفاع المحتمل لسعر هذه الأسهم، وتضمن له في الوقت نفسه تأدية قيمتها عند الاستحقاق إذا كان سعر السهم لم يبرر عملية التحويل. ولا شك أن إمكان تحويل سند الدين إلى سهم يؤدي إلى تخفيض معدل الفائدة المقررة.
ويتعرض توظيف الأموال في السندات المالية إلى خطر تخفيض النقد. وبما أن الديون تحرر بوحدات نقدية، فإن تسديدها يتم بوحدة النقد ذاتها، مهما كانت قيمتها الشرائية، لذلك تخف القيمة الفعلية للأموال الموظفة في السندات المالية في فترات ارتفاع الأسعار.
3 - إن قروض الرهائن هي ديون تضمنها عقارات، تعطي مردودا مرتفعا يعوض ضآلة سيولتها، ويجري عقدها غالبا بواسطة كتاب العدل. ويختلف خطرها تبعا لأولوية حق تسديد الدين. فالديون المعقودة بشكل (رهن أول) أضمن من تلك المعقودة بشكل (رهن ثان) ؛ إذ أن ضمانة هذه الفئة الأخيرة قد تتلاشى في حال هبوط سعر العقار، ولذلك فإن معدلات مردود قروض (الرهن الثاني) مرتفعة جدا.
إن الشركة المركزية للرهائن والسكن - المؤسسة في كندا - تضمن القروض الرهنية التي تجريها المصارف وتقرها الشركة. وتستطيع المصارف(44/83)
أن تحول هذه القروض إلى الجمهور.
4 - والسندات هي عبارة عن وثائق دين، في حين أن الأسهم المالية هي وثائق ملكية، أو حصص من رأس مال المؤسسة، ولها نموذجان رئيسيان هما: الأسهم ذات الامتياز، والأسهم العادية.
فالأسهم ذات الامتياز تتمتع ببعض الفوائد الخاصة بالنسبة إلى الأرباح، أو تسديد قيمتها في حالة حل الشركة، وهي تمنح حق الأولوية على أرباح الشركة عند دفع حصص الأرباح. بمعنى أن السهم ذا الامتياز بفائدة 5 % يمنح حصة من الأرباح بنسبة 5 % من القيمة الاسمية قبل توزيع أي حصة من الأرباح على المساهمين العاديين. وإذا كان الربح ضئيلا فيمكن تخصيصه بالمساهمين ذوي الامتياز حصرا. وعند حل الشركة فللمساهم ذي الامتياز حق الأولية في أموال أصول الشركة الصافية، ويؤدى له مبلغ القيمة الاسمية للسهم بعد دفع سندات الدين حتما، لأجل توزيع المتبقي على المساهمين العاديين. إذا فالسهم ذو الامتياز يتمتع بضمانات استقرار غير متوفرة للسهم العادي، وهو بذلك أقل عرضة للمضاربة من هذا الأخير.
وتعويضا عن الأخطار الكبيرة التي يتعرض لها، فإن السهم العادي يتمتع بميزة أهم إمكانات التقدير؛ إذ أنه يشترك كليا في حالتي ازدهار المؤسسة، وتردي أحواله الاقتصادية. وغني عن البيان أن توظيف الأموال في الأسهم المالية لا يتطلب مجرد الحذر فحسب، بل يقتضي أيضا الإحاطة بأدق المعلومات عن الأسواق المالية، والإلمام الكامل بالأحوال الاقتصادية.
إن أسعار الأسهم تخضع لتغيرات واسعة، وللقوى التي تؤثر على مجموع(44/84)
الأسواق المالية، كتغير معدلات الفائدة، والأوضاع الاقتصادية المرتقبة بشكل عام، فضلا عن المؤثرات الخاصة بكل صناعة وبكل مؤسسة خاصة.
إن مجموعة العوامل التي تؤثر على أسعار الأسهم معقدة جدا، وما لم يكن الإنسان متمتعا بخبرة واسعة في هذا الموضوع، أو مزودا بنصائح الخبراء. فالحكمة تقضي بتحديد توظيف أمواله في الأسهم بجزء يسير من مدخراته، أو أن يستنكف عن هذه الرغبة كليا.
ويمكن مع ذلك الحئول دون مصاعب الإشراف على مجموعة الأسهم، وتفادي المصاعب المتعلقة بتوظيف الأموال في الأسهم، بواسطة شركات توظيف الأموال، أو احتكارات التوظيف، فتهتم هذه الشركات حصرا بالإشراف على مجموعة الأسهم التي يتم تحويلها عن طريق إصدار أسهم خاصة بها. إن كل سهم من هذه الشركات يمثل حصة من مجموعة أسهم متنوعة ومختارة بدراية وحكمة، إن توظيف الأموال المدخرة في هذه الشركات يحول دون التعرض لخسائر من جراء النقص في المعلومات، أو عدم الخبرة بالشئون المالية، ويحمي المعنيين من الأخطار التي لا يمكن التنبؤ بها، والتي قد تصيب إحدى المؤسسات الخاصة؛ لذلك فإن تنويع توظيف الأموال يخفف الأخطار الخاصة. إن توظيف الأموال في أسهم خاصة بشركات التوظيف يفقد صفة المضاربة بشراء هذا النوع من الأسهم، يضع الإنسان ثقته بتقدير وحسن تدبير الخبراء الذين يشرفون على الأموال الموجودة في أصول هذه الشركات، فضلا عن أن مثل هذا التوظيف يمتاز بحماية الأموال المدخرة من هبوط قيمة النقد، أو ارتفاع الأسعار؛ إذ أن ثمن الأسهم ينسجم بصورة طبيعية مع تحركات الأسعار.(44/85)
5 - إن توظيف الأموال في العقارات يتمتع بتأييد ملائم؛ لأنه يمثل مالا ملموسا لا يخضع للتأثيرات الخفية الملتوية التي تتعرض لها الأسهم المالية، فضلا عن أنه يمنح امتيازا اجتماعيا تستطيع أن تقدمه الأموال المنقولة.
إن الإقدام دوريا على تسديد قرض رهن معقود لشراء عقار، يفرض على المالك المدين نوعا من الإكراه لا يعرفه المستأجر. ويماثل هذا الإكراه ذلك الذي يفرضه على نفسه كل من يرغب في تكوين رأس مال لدى شركة تأمين على أنه يجب هنا أيضا تجنب الوقوع في الوهم والخيال؛ إذ يجب ألا يفكر المستأجر الذي يدفع أجرة أجاره أنه يخسر دراهمه، ورغم أنه يبدو أن هذه الأجرة تزيد نسبيا عن بعض الأقساط الشهرية المتعلقة بتسديد القروض الرهنية، فالواقع أن كثيرا ما يغرب عن البال، بعض العناصر التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار أثناء القيام بمقارنات حكيمة. فأجرة الدار تتضمن فائدة المال الموظف من قبل المالك، وقيمة استهلاك العقار وما يدفعه المالك من نفقات الصيانة وقسط التأمين والضرائب العقارية، وأحيانا التدفئة. فعلى المستأجر الذي يرغب في أن يصبح مالكا أن يدرك جميع الأعباء التي ستتحول عليه، بالإضافة إلى تأدية أقساط القرض الرهني. وكثيرا ما تهمل فائدة رأس المال المدفوع ثمنا للعقار؛ إذ يعتقد مالك الدار غير المرهونة أنه سكنها مجانا. وهذا خطأ فاحش؛ لأن رأس المال البالغ (15) ألف دولار الموظف بفائدة قدرها 8 %، يعطي مبلغ (1200) دولار سنويا. ومعنى ذلك أن أجرة الدار تبلغ من حيث الفائدة مائة دولار شهريا.
6 - وتعد الأموال المنقولة، والسيارات، وأثاث المنزل، والقطع الفنية،(44/86)
بمثابة أموال موظفة؛ لأنها تتبع الرغبة في التفاخر وحب الظهور، ولو لم تكن هذه هي الغاية المنشودة من اقتناء هذه الأموال لأمكنها أن تحقق بشكل عام رفاهية حقيقية تكلف أقل بكثير من هذا المردود النفساني، يحل محل المردود المالي الذي هو في الغالب سلبي، نظرا لسرعة هبوط قيمة الأشياء المذكورة، ولنفكر في الغرور المؤقت الذي يسببه امتلاك سيارة من آخر طراز.
7 - إن اقتناء الذهب يعد طريقة ادخار منتشرة كثيرا في فرنسا، وفي البلاد التي تزعزعت فيها الثقة باستمرار النقد من جراء تجارب مؤسفة. والذهب بحد ذاته يماثل السراب، إذ يعده الناس رمز الثروة وكيانها الفعلي، غير أن هذا الاعتقاد مجرد وهم، ويئول بالخسارة على صاحبه؛ ذلك أن التوظيف بالذهب لا يعطي أي فائدة، فضلا عن أن قيمته الشرائية غير ثابتة في الواقع. فمنذ عام 1934 م ظل سعر (أونصة) الذهب 35 دولارا في الولايات المتحدة، في حين أن بقية الأسعار قد تضاعفت منذ ذلك التاريخ؛ ولذلك يمكن القول: إن سعر الذهب قد هبط بنسبة 50 % خلال الفترة المذكورة.
8 - تعد الودائع في المصارف وفي صناديق الادخار طريقة يسيرة، وإنما لا تدر ربحا كافيا، وأن ضمان هذه الودائع أكيد في الغالب، ولكن ضآلة معدل الفائدة الممنوحة لا تؤلف تعويضا كافيا لهبوط طاقة الشراء الناجم عن ارتفاع الأسعار.
9 - يعد تخزين المال، أو تجميع الادخار نقدا، أو في ودائع تسحب عند الطلب الإيداع الأكثر سيولة، ذلك أن النقد بمقتضى تعريفه: هو المال الأكثر سيولة إذ يقبله أي إنسان لقاء أي سلعة أخرى. ولا تخلو هذه السيولة الكاملة من ثمن؛ إذ أن حيازة الأوراق النقدية لا تعطي فائدة ما،(44/87)
فضلا عن أن الودائع التي تسحب عند الطلب تعطي فوائد ضئيلة، أو قد لا تعطي أي فائدة؛ لذلك، فإن تخزين المال يعد في الغالب طريقة ادخار انتقالية، بسبب سيولته ومردوده الذي هو بحكم العدم (1) .
1 - جعل التأمين التجاري نوعا من الادخار، وقد عرضه ولم يذكر أنه ممنوع شرعا، وقد سبق أن نظره المجلس وأصدر قرارا فيه بالمنع.
2 - الادخار الذي يكون في سندات مالية وأسهم يكون منطلقا لبيع هذه الأسهم وبشرائها بصورة أو بأخرى، قد تكون مشروعة، أو ممنوعة، والكاتب لم يقيد ذلك بالمشروع، وقد سبق تفصيل الكلام على الأوراق المالية في بحث البورصة ص (119) وما بعدها.
3 - أسلوب قروض الرهائن، وهي ديون تضمنها عقارات، هذا يؤدي إلى أن الأرباح المتحصلة على القروض ربا، وهو من القرض الذي جر نفعا، كما أن العقار المرهون ينتفع به المقرض، والانتفاع بالمرهون من الانتفاع الممنوع؛ إذ ليس المرهون مركوبا ولا محلوبا يركب ويحلب ص (130) .
4 - الادخار عن طريق وضع الودائع في المصارف وصناديق التوفير ص 133، هذا من الربا، وقد أصدر فيه سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء توصية في مجلس هيئة كبار العلماء لمنع ذلك وسيأتي ذكرها في الكلام على الحكم.
__________
(1) الاقتصاد، وجيه إبراهيم ص 62 - 68.(44/88)
سابعا: حكم الادخار:
اختلف العلماء المعاصرون في حكم الادخار:
فمنهم من أجازه؛ لأن مصلحة الناس تقتضيه، ولأنه لا يدخل في عموم(44/88)
أدلة الربا، ومنهم من منعه؛ لأن أدلة الربا تتناوله بعمومها؛ لأن المناط المقتضي للمنع في أدلة تحريم الربا، وهو الزيادة بدون مقابل موجود في الادخار.
فالشركات تدفع للمدخرين زيادة بدون مقابل كما سبق بيانه في الأمر الخامس، ومنهم من يرى مراعاة اختلاف أوضاع الناس، كالبلاد التي يمكن أن تطبق فيها شركة المضاربة ويقتنع بها الناس ويثقوا بالقائمين عليها تطبق فيها، والبلاد التي لا يمكن أن يطبق فيها إلا الادخار؛ لأن أهلها لا يثقون إلا بربح محدد مضمون يطبق فيها الادخار.
وفيما يلي ذكر نقول عنهم:
1 - ربح صندوق التوفير في إدارة البريد (مجلة المنار) .
2 - صندوق التوفير في إدارة البريد، وبيان حكمة تحريم الربا (مجلة المنار) .
3 - صندوق التوفير (مجلة المنار) .
4 - ربح صندوق التوفير (مجلة المنار) .
5 - فتوى رئيس لجنة الفتوى بالأزهر: عبد المجيد سليم.
6 - توصية هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية بتحريم وضع الأموال في البنوك لأخذ فوائد عليها.
7 - فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بتحريم الادخار.
8 - جواب محمد بن عبد الله العربي، عضو مجمع البحوث الإسلامية بأن ما أمكنه تطبيقه من شركة المضاربة، أو الادخار، فإنه يطبق على حسب اختلاف أوضاع الناس.(44/89)
1 - أشيع في هذه الأيام أن الحكومة استفتت مفتي الديار المصرية في ربا صندوق التوفير الذي أنشئ في إدارة البريد، فأفتاها به.
والحق أن الحكومة لم تستفت في ذلك؛ إذ لا معنى للاستفتاء في شيء صدر به الأمر العالي، ونفذ منذ سنين، ولكن بعض رجال الحكومة، ومنهم مدير البوسطة قالوا للمفتي في حديث عادي: إن أكثر من ثلاثة آلاف مسلم من مودعي النقود في صندوق التوفير لم يأخذوا الفائدة المخصوصة بذلك - بمقتضى الدكريتو الخديوي - تدينا فهل توجد طريقة شرعية تبيح للمسلمين أخذ ربح أموالهم من صندوق التوفير؟
فقال: (إن الربا المنصوص لا يحل بحال ولما كانت مصلحة البريد تستغل الأموال التي تأخذها من الناس لا لأنها تقترضها للحاجة، فمن الممكن تطبيق استغلال هذه الأموال على قواعد شركة المضاربة (1) .
ويقال: إن الحكومة كلفت المفتي ببيان هذا التطبيق لتغير قانون صندوق التوفير، وتجعله مطابقا لأحكام الشريعة؛ رعاية لمصلحة رعيتها المسلمين، إنه شرع في ذلك بمساعدة بعض العلماء.
ويقال أيضا: إنه لما علم الأمير بذلك افترضه وأمر بتأليف لجنة من علماء الأزهر ليبينوا كيفية هذا التطبيق على الوجه الشرعي، حتى إذا عرض عليه القانون المنقح لإصدار أمره به يكون على بصيرة من المشروع.
ويقال: إن اللجنة التي ندبها الأمير هي غير اللجنة التي تشتغل مع المفتي بالتطبيق الذي طلبته الحكومة. وفي هذا مزيد عناية ببيان الحق، ولكن الناس فهموا منه أن الأمير على خلاف مع حكومته في ذلك، فعسى أن يزول
__________
(1) المنار 6 \ 717، 718.(44/90)
سوء الفهم، ويرجع إلى الحق أهل الوهم. . وإن لنا في موضوع الربا والمصارف قولا مبينا نرجئه لفرصة أخرى.
2 - صندوق التوفير في إدارة البريد، وبيان حكمة تحريم الربا.
(س 4) مصطفى أفندي رشدي المورلي بنيابة الزقازيق: ما هو رأي سيادتكم في صندوق التوفير بعد تعديله الأخير، وهل يجوز الادخار فيه وأخذ أرباحه شرعا؟ ولا يخفى على حضرتكم فوائده سيما أنه يربي ملكة الاقتصاد في الإنسان، وهو ما يؤيده الشرع في ذاته، أفيدونا آجركم الله؟
(ج) إن التعديل الذي تعنونه، قد كان برأي لجنة من علماء الأزهر جمعها أمير البلاد لأجل تطبيق إيداع النقود في الصندوق على قواعد الفقه المعروفة، وقد كتبوا في ذلك ما ظهر لهم وأرسلته (المعية) إلى الحكومة فعرضته على المفتي، وبعد التصديق عليه أمرت بالعمل به. هذا ما اشتهر، ونحن لم نقف على ما كتبوه فنبدي رأينا فيه، ولكننا مع ذلك لا نرى بأسا من العمل به؛ لأننا إنما ننتقد من الحيل على علماء الظاهر، أو علماء الرسوم - كما يقول الغزالي - ما ينافي مقاصد الشرع الثابتة بالكتاب والسنة، كالحيلة في منع الزكاة والحيلة في الربا الحقيقي الذي علل القرآن تحريمه بقوله تعالى: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1) ، والذي فصل بينه وبين التجارة بقوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) ، فالتعاقد في عمل يفيد الآخذ والمعطي بيع أو تجارة، والذي يفهم سبب تحريمه من قوله تعالى:
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 275(44/91)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (1) ، وذلك أنه كان في المدينة وغيرها من اليهود والمشركين من يقرض المحتاج بالربا الفاحش، كما نعهد من اليهود والخواجات في هذه البلاد، وفي ذلك من خراب البيوت ما فيه.
فالحكمة في تحريم الربا إزالة نحو هذا الظلم والمحافظة على فضيلة التراحم والتعاون، أو فقل: أن لا يستغل الغني حاجة أخيه الفقير إليه - كما قال الأستاذ الإمام - وهذا هو المراد بقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) ، ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطي والتي لولاها لفاتتهما المنفعة مما تدخل في التعليل {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (3) ؛ لأنها ضده على أن المعاملة التي يقصد بها البيع والاتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج. ولا يخفى أن إدارة البريد هي مصلحة غنية من مصالح الحكومة، وأنها تستغل المال الذي يودع في صندوق التوفير فينتفع المودع والعمال المستخدمون في المصلحة والحكومة، فلا يظلم أحدهم الآخر.
فالأرجح أن ما قالوه ليس من الحيل الشرعية، وإنما هو من قبيل الشركة الصحيحة (4) ، من قوم المال، ومن آخرين الاستغلال فلا مانع إذن في رأينا من العمل بتعديلهم على أن العبرة في نظر الفقه بالعقد، ولذلك يحتال بعض علماء الرسوم في الربا الحقيقي فيأكلونه بلا عقد، ويقولون: إن ذلك
__________
(1) سورة آل عمران الآية 130
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) المنار 7 \ 28.(44/92)
من قبيل البيوع الفاسدة، وهي صغيرة، أو مكروهة، وهذا شيء لا يحل ولا نقول به.
والحاصل أن المسألة قد أحلوها من طريق الفقه الظاهر، والباحث في الفقه الحقيقي، وهو - حكمة الشرع وسره - لا يرى ما ينافي حلها بناء على ما تقدم. والتضييق في التعامل يفقر الأمة ويضعفها ويجعلها مسودة للأمم، والله أعلم وأحكم.
3 - وأما المسألة الثانية: وهي مسألة صندوق التوفير، فهي عامة في جميع المسالك الأوربية وما على نسقها من البلاد كمصر. وقد أجازه جماعة من علماء المذاهب الأزهريين، وأفتى به مفتي الديار المصرية بعد تطبيق استغلال مصلحة البريد المصرية للأموال الموفرة فيه على بعض أحكام الشركات الشرعية، كما بيناه في المنار فراجعوا ذلك في المجلدين السادس والسابع.
ونزيدكم على ذلك أن علماء الأزهر نظروا في ذلك وأقروا ما أقروه فيه بطلب أمير البلاد بناء على اعتبارهم أنها بحسب حالها الشرعية دار إسلام. وكان ذلك قبل الحرب الأخيرة، ووضع مصر تحت الحماية الأجنبية التي لا يعترفون بها ببضعة عشر عاما، وبلاد جاوه ليست دار إسلام ولا تجرى فيها المعاملات المالية على الشريعة الإسلامية، فلا يجب على المسلم فيها أن يلتزم في هذه المعاملات مع الحكومة الهولندية، أو الشركات الهولندية، أو الأفراد أحكام شريعته في الربا وعقود البيع والإجارة والقروض وغيرها، بل يحل له أن يأخذ من أموالهم ما تبيحه له شرائعهم وقوانينهم ما كان بتراض منه ومنهم دون ما كان خيانة.(44/93)
ثم إن الربا إنما يتحقق في عرف الفقهاء بالعقد الذي يشترط فيه من يعطي المال أن يأخذ عليه ربحا معينا، فمن أقرض رجلا مالا بغير عقد ولا شرط فرده إليه وزاده من غير اشتراط زيادة كان ذلك حلالا، وقد ثبت في الحديث الصحيح استحباب ذلك كما بين في محله من صحيح البخاري وغيره، وحديث: «كل قرض جر منفعة فهو ربا» ، غير صحيح كما بينا ذلك من قبل.
فعلم بهذا أن للجاويين وأمثالهم عدة وجوه لوضع شيء من أموالهم في صندوق التوفير الذي وضعته حكومتهم وأخذ الربح منها. ومثله وضع المال في مصارفهم المالية وأخذ الربح منها كما يفعل مسلمو الصين.
ومما يبعث العجب من حال كثير من المسلمين أنهم قد اختاروا لأنفسهم بلبسهم الدين مقلوبا كالفرو أن يقترضوا المال من الأوربيين بالربا ولا يقرضوهم، ويودعوا أموالهم في مصارفهم (البنوك) ليستغلوها ولا يستبيحون لأنفسهم أن يشاركوهم في شيء من ربحها، ومعنى هذا أنهم يفهمون من دينهم أنه أباح لهم أن يتلفوا ثروتهم ويعطوها للأجانب حتى الفاتحين منهم لبلادهم باسم الفتح، أو الاستعمار، أو باسم آخر، وحرم عليهم أن ينتفعوا بشيء منهم - ولو كان برضاهم - وبعض ثمرة ما أعطوهم من المال.
وأعجب من هذا أن منهم من يشكو من شرع دينه، ويزعم أنه لا ينطبق على مصلحة الأمة في هذا العصر، وإن تركه إلى شرائع تلك الأمم أنفع لهم. وإنما الأمر بضد ذلك، فقاعدة الشرع الإسلامي أنه لا حرام إلا ما كان ضارا، ومنه إضاعة المال، ولو عرف المسلمون حقيقة شرعهم والتزموا(44/94)
أحكامه لكانوا أغنى الأمم وأعزها، ولما أضاعوا ملكهم وملكهم، وإنما أضاعوهما بجهله وترك العمل به. والذنب الأكبر في هذا على علمائهم الجامدين، وحكامهم الجاهلين، أو المارقين.
هذا وإن على المسلمين أن يراعوا في غير دار الإسلام أحكام دينهم وحكمه فيما بينهم حتى في المعاملات، فلا يباح للموسر منهم أن يقسو على المحتاج إذا اقترض منه فيستغل ضرورته أو حاجته بما تبيح له قوانين البلاد من الربا.
والفرق بين هذا وبين ربح صندوق التوفير والمصارف المالية عظيم جدا، فإن الربا إنما حرم في دار الإسلام لضرره، كما علله تعالى بقوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1) .
وليس في أخذ الربح من صندوق التوفير والمصارف ظلم لأحد، ولا قسوة على محتاج حتى في دار الإسلام. وقد فصلنا القول في الربا هذا في تفسير آية آل عمران فيه فليراجع (2) .
4 و 5 - ربح صندوق التوفير
من صاحب الإمضاء بمصر:
سيدي الأستاذ الجليل حفظه الله،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فإنا كثيرا ما سمعنا من الناس إباحة وضع الأموال في صناديق التوفير بالبريد وأخذ الفوائد منها، وذلك مما لا شك أنه الربا المحرم بإجماع
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) المنار 22 \ 751.(44/95)
المسلمين لا نعلم بينهم خلافا، ثم إذا ناظرناهم فيه استندوا إلى أن الأستاذ الإمام - رحمه الله وغفر له - أفتى بجوازه في فتوى رسمية، ولما كنا لم نر هذه الفتوى ولم نعلم وجهها، وكنتم أخص الناس بالإمام وأعلمهم بأقواله وفتاويه لجأنا إليكم لتبينوا لنا فتوى الإمام أولا، وهل هي لا تعارض الكتاب والسنة ثانيا؟ خصوصا وإن المجالس الحسبية قررت وضع أموال القاصرين في هذه الصناديق بناء على هذه الفتوى المزعومة كما يقولون، وليكن بيانكم شافيا وافيا كما هو دأبكم إن شاء الله تعالى.
كتبه: أبو الأشبال عفا الله عنه بمنه.
(ج) إن كان للأستاذ الإمام فتوى رسمية في مسألة صندوق التوفير فهي توجد في مجموعة فتاويه بوزارة الحقانية ومنها تطلب، وأنا لم أر له فتوى في ذلك، ولكنني سمعت منه في سياق حديث عن مقاومة الخديوي له ما حاصله أن الحكومة أنشأت صندوق التوفير في مصلحة البريد بدكريتو خديوي (أمر عال) ليتيسر للفقراء حفظ ما زاد من دخلهم عن نفقاتهم وتثميره لهم، وقد تبين لها أن زهاء ثلاثة آلاف فقير من واضعي الأموال في صندوق البريد لم يقبلوا أخذ الربح الذي استحقوه بمقتضى الدكريتو. فسألتني الحكومة: هل توجد طريقة شرعية لجعل هذا الربح حلالا حتى لا يتأثم فقراء المسلمين من الانتفاع به؟ فأجبتها مشافهة بإمكان ذلك بمراعاة أحكام شركة المضاربة في استغلال النقود المودعة في الصندوق، فذاكر رئيس النظار الخديوي في تحوير الدكريتو الخديوي وتطبيقه على الشرع، فأظهر سموه الارتياح لذلك. ولما قال له رئيس النظار: إننا استشرنا المفتي في(44/96)
ذلك غضب غضبا شديدا، وقال: كيف يبيح المفتي الربا؟ لا بد أن أستشير غيره من العلماء في ذلك. ثم جمع سموه جمعية من علماء الأزهر في قصر القبة، وكلفهم وضع طريقة شرعية لصندوق التوفير ليظهر أمام العامة بأنه هو المحامي عن الدين والمطبق للمشروع على الشريعة، وأن الحكومة كانت عازمة على إكراه المسلمين على أكل الربا بمساعدة المفتي لولا تداركه الأمر، وقد وضع له العلماء مشروعا قدمته المعية لنظارة المالية.
(قال) : وإن نظارة المالية عرضت علي ذلك المشروع لإقراره - أو قال للتصديق عليه - فوجدته مبنيا على ما كنت قلته للحكومة شفاها. هذا ما سمعت منه رحمه الله تعالى. وأظن أنه قال: إن أولئك العلماء كانوا من فقهاء المذاهب الأربعة، أو الثلاثة، ولا أجزم بذلك.
ومهما تكن صفة الطريقة التي وضعها العلماء لاستغلال أموال التوفير فلا يظهر عدها من الربا المجمع على تحريمه، وهو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية، وقد بينه الإمام أحمد لما سئل عن الربا الذي لا يشك فيه بمثل ما بينه غيره من أخذ الزيادة في مقابلة التأجيل؟ فقال: هو أن يكون له دين فيقول له - أي إذا حل أجل الدين: إما أن تقضي، وإما أن تربي، فإن لم يقض زاده هذا في المال وزاده هذا في الأجل. وذكر الفقيه ابن حجر في الزواجر: إن الإنساء فيه كان بالشهور؛ ولهذا كان يتضاعف ويخرب البيوت (1) .
__________
(1) مجلة المنار 9 \ 527.(44/97)
6 - وجاء أيضا إلى اللجنة الاستفتاء الآتي:
1 - تدفع مصلحة البريد - وكذلك البنوك - حوالي واحدا ونصفا في المائة أرباحا لحسابات صندوق التوفير؛ فهل هذا حرام شرعا؟
2 - إذا وجد الإنسان أمامه فرصا لدفع مبلغ ما عن طريق المساعدة لبعض الأشخاص، وعند وقت دفع زكاة المال خصم ما سبق دفعه وصرف الباقي، فهل زكاة المال دفعت صحيحا، أم ما دفعه قبل ميعاد الزكاة لا يحتسب ضمن الزكاة؟ خميس علي السيد
الجواب: بعد حمد الله تعالى والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه تفيد اللجنة بما يأتي:
(عن الأول) : إن أخذ زيادة عن رأس المال المودع في صندوق التوفير، أو في أحد المصارف محرم؛ لأنه من الربا المحرم بالكتاب والسنة والإجماع.
جاء في كتاب سماحة الرئيس رقم 900 \ 2 وتاريخ 26 \ 4 \ 1398 هـ الموجه إلى صاحب السمو ولي العهد بأن من وصايا مجلس هيئة كبار العلماء: وضع الأموال في البنوك لأخذ فائدة ربوية بنسبة معينة يحصل عليها صاحب المال من البنك ونحوه، ويدفعها له: إما بعد مضي الأجل الذي يتفق عليه، وإما عند سحب المال، فيدفع له ما اتفق عليه من الربا الذي سمي ربحا، أو فائدة، وهذا ربا صريح حرمه الله ورسوله، وأجمع سلف الأمة على تحريمه، وتسميته وديعة، أو باسم غير ذلك لا يغير من حكم الربا المحرم فيه(44/98)
شيئا، فقد جمع ربا الفضل وربا النسيئة؛ لأنه بيع نقود بنقود نسيئة بزيادة ربح ربوي إلى أجل.
7 - فتوى رقم 2735 وتاريخ 2 \ 12 \ 1399 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الاستفتاء المقدم لسماحة الرئيس العام من الدكتور نور محمد خان المحال من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم 2030 \ 2 في 14 \ 10 \ 1399 هـ ونصه:
(إن مسألة حساب الودائع وحسابات التوفير التي يعامل بها في البنوك الرسمية لا أدري ما حكمها، ففي نظر بعض الشيوخ جائز؛ لأن المال المودع يستعمل في التجارة، وفي نظر بعض الشيوخ حرام لوصفهم لهذه المسألة مسألة الربا، وتمشيا لحكم الله تعالى في قوله جل وعلا: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) فنرجو من حضرتكم بيان وإيضاح حكم الودائع وحسابات التوفير؟
وأجابت بما يلي:
لا شك في تحريم الفوائد وحساب التوفير؛ لعموم الأحاديث في تحريم ربا الفضل والنسيئة، وقد سبق أن ورد إلى اللجنة الدائمة سؤال مماثل لهذا السؤال أجابت عنه بالفتوى الآتي نصها:
(لا شك أن فوائد الأموال المودعة في البنوك حرام، وهي من ضروب الربا، لا يجوز أخذها ولا الدخول مع البنك عند الاستيداع في اشتراطه؛
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(44/99)
لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد (1) » ، ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منهما غائبا بناجز (2) » ، وفي لفظ رواه أحمد والبخاري: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء (3) » ، ولا يخفى أن العملات الورقية حلت محل الذهب والفضة في الثمنية فصار لها حكمها ليجري فيها من ربا الفضل وربا النسيئة ما يجري في الذهب والفضة. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
8 - قال الأستاذ الدكتور \ محمد بن عبد الله العربي عضو مجمع البحوث الإسلامية: كذلك يوجد إلى جانب النشاط المصرفي العادي الذي تمارسه بنوك الودائع، بنوك تخصصية في جمع المدخرات الصغيرة، وهي التي تسمى في جمهورية مصر العربية: (صناديق توفير البريد وبنوك الادخار المحلي) وتتولاها هيئات حكومية.
هدف هذه المنشآت هو تشجيع الادخار الصغير عند سواد الشعب في بلد مزاجه القومي يجنح إلى التبذير وينفر من الادخار.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2176، 2202) ، صحيح مسلم المساقاة (1584، 1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241، 1241) ، سنن النسائي البيوع (4565، 4565) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (3/50، 3/97) ، موطأ مالك البيوع (1324، 1324) .(44/100)
ولما كان كثير من البلاد الإسلامية في أشد الحاجة إلى تنمية رأس المال القومي لمواجهة مرحلة التصنيع التي تجتازها الآن، والتصنيع يحتاج إلى تمويل ضخم، والتمويل الضخم لا يتأتى إلا إذا اشترك فيه كل مواطن على قدر سعته، حتى لو لم يكن من الأغنياء الذين يودعون فائض أموالهم في بنوك الودائع، فقد نشأت الضرورة إلى تشجيع الادخار عند سواد الشعب.
كيف يمكن مواجهة هذه الضرورة؟
مواجهتها لا تكون إلا بإغراء الناس على الادخار، والإغراء قد يتخذ إحدى صورتين لا ثالث لهما:
الصورة الأولى: تكون بتنفيذ عقد المضاربة. فالمدخرات الصغيرة التي تتجمع في صناديق الادخار توجهها الهيئات المشرفة عليها إلى استثمارات تؤتي ربحا وبعضها قد لا يؤتي ربحا، ومن التسوية في نهاية العام يتضح صافي الربح الذي توزعه على المدخرين بنسبة مدخراتهم، وفي هذه العملية تستوي هيئات الادخار مع بنوك الودائع في الاستناد إلى عقد المضاربة.
هذا الربح قد يكثر في عام، وقد يقل في عام، وقد ينعدم في عام ثالث، كما يحصل في استثمار البنوك لودائع المودعين: وإذا لن تلتزم هيئة الادخار بفرض ربح معين للمدخر، بل تترك تحديد الربح إلى نهاية العام.
ولكن المدخر الصغير قد لا يقبل على حرمان نفسه من بعض دخله إذا لم يكن واثقا من ربح معين محدود مهما كان طفيفا يظفر به نظير هذا الحرمان، فليست عنده روح المغامرة التي توجد عند كبار أصحاب المال الذين يودعون أموالهم في البنوك لآجال معينة، ومن أجل ذلك تعرض الصورة الثانية، وأترك البت في شرعيتها إلى اجتهاد الفقه الإسلامي، وإن(44/101)
كنت أضع أمامه الملاحظات التي قد تنير له الطريق.
الصورة الثانية: تحدد الهيئة المشرفة على الادخار - سواء كانت مصلحة حكومية، أو مؤسسة عامة، أو بنكا مؤمنا - بنسبة معينة من رأس المال المدخر، تحددها مقدما كربح نتيجة استثمارها للمال المدخر. فنقول مثلا: كل جنيه يدخر مدى عام تصرف الهيئة لصاحبه 4 أو 5 % منه.
ولنبدأ بالملاحظات التي نضعها تحت أنظار فقهنا الإسلامي:
الملاحظة الأولى: المظهر في هذه العملية مظهر ربوي. ولكن إذا تأملنا في الواقع نجد أننا لسنا هنا نتعامل مع شخص مراب همه ينحصر في اقتطاع الفائدة الربوية، بل العملية تقوم بين مدخر صغير من جانب وهيئة حكومية من جانب آخر، أي ولي الأمر الذي يمثل المجتمع ونصيبه في ربح هذه المدخرات يرده إلى المجتمع في صورة مصانع، أو منشآت تخدم المجتمع كله، فاختلفت هنا بشاعة الربا، وبشاعة ظلم المرابي، وبشاعة الاغتناء الفاحش الذي يمتصه المرابون من دماء المجتمع.
الملاحظة الثانية: قد يقال: إن هذه العملية تنطوي على مخالفة لأحكام عقد المضاربة الذي يشترط فيه أن يكون الربح الذي يتفق عليه بين رب المال (المدخر) ، وبين الهيئة المشرفة على الادخار (المضارب) ، ربحا غير محدود النسبة إلى رأس المال بأن يكون لأحدهما نصف الربح قل، أو كثر، وللآخر النصف الباقي، أو الثلث، أو الربع: أما تحديده بنسبة معينة من رأس المال فشرط باطل، وإذا لم يأت العمل بأي ريع فلا ريع مطلقا لرب المال (المدخر) والتحديد بنسبة ثابتة من رأس المال المدخر يعيبه فوق ذلك عيب الغرر.(44/102)
هذا كلام وجيه وقاعدة شرعية لا جدال فيها. ولكن لكل قاعدة استثناء قد تبيحه الضرورات.
إن ولي الأمر هنا يملك أن يفي للمدخر بالنسبة التي فرضها على نفسه، وهو في تقديره لهذه النسبة يجعلها دائما في حدود الاحتمال وفي نطاق الواقع، مما ييسر له الوفاء بالنسبة التي فرضها على نفسه والتي قبلها المدخر من البداية.
فإذا صدق تقديره في 99 % من الحالات، ولم يصدق في 1 % من الحالات، فإنه يستطيع أيضا أن يفي بالنسبة المتفق عليها بالالتجاء إلى موارد الدولة الأخرى.
صحيح أنه إذا التجأ إلى موارد الدولة الأخرى في سبيل الوفاء بالنسبة المتفق عليها يكون قد ألحق ضررا بمال المجتمع، ولكن النفع الذي حققه المجتمع في 99 % من الحالات لا شك يعدل الضرر اليسير الذي يصيب المجتمع في 1 % من الحالات.
والقاعدة الشرعية التي تقرر أن (الغنم بالغرم) تعطي هذا الاستثناء، فالغنم الذي يفيء إلى المجتمع في 99 % من الحالات يقابله الغرم الذي يصيب المجتمع في 1 % من الحالات.
الملاحظة الثالثة: قد يقال: إن ولي الأمر إذا احتاج إلى مال للوفاء بما يتطلبه الشعب من خدمات، فله في مجال الضرائب التي يفرضها على الرعية متسع كبير يؤتيه ما يشاء من مال يوجهه أينما يريد.
وهذا صحيح، ولكن يجب أن لا ننسى أن لكل شعب طاقة ضريبية يجب على ولي الأمر ألا يتجاوزها، وإلا ألحق بشعبه وبالاقتصاد القومي(44/103)
أضرارا فادحة، هذه حقيقة ثابتة استنبطها العلم - علم المالية العامة وعلم السياسة - من واقع تجارب الشعوب والدول.
فإذا كان ولي الأمر قد استنفد الطاقة الضريبية لشعبه، ولا زالت البلاد في حاجة ماسة إلى تنمية رأس المال القومي، فأين يكون اختياره؟ أيختار تجاوز الطاقة الضريبية بما يرهق الشعب ويعطل قواه الإنتاجية ويؤثر أسوأ تأثير في الاقتصاد القومي؟ أم يختار حث الشعب في جملته على الادخار، ولو بشيء يسير يترك تقديره لكل مواطن؟ ثم يغريه بربح معين ثابت على كل ما يدخره، ومن مجموع هذه المدخرات الصغيرة يتكون رأس مال كبير يمكن ولي الأمر من أداء الخدمات التي يتطلبها الشعب، ويحقق الأماني التي يتطلع إليها الشعب.
فهذه مجرد ملاحظات مستقاة من الواقع، لا أقطع فيها برأي وإنما أضعها تحت أنظار فقهنا الإسلامي ليتولى هو البت فيها وفي الخيار الذي يشير به على ولي الأمر.
الخلاصة:
ها نحن رسمنا صورتين: الأولى: لا جدال في شرعيتها، إذا كان نفاذها يكفله أنها تتفق مع ميول البيئة التي يراد سريانها فيها وتتجاوب مع شيمتها وخصالها. والثانية: يشوبها بعض الشك في شرعيتها، ولكنها قد تكون أكثر تجاوبا مع ميول بيئات أخرى درجت على ألا تجازف بادخار شيء إلا إذا كفلت لما تدخره ربحا محدودا من البداية (1) .
__________
(1) التوجيه التشريعي في الإسلام من بحوث مؤتمرات مجمع البحوث الإسلامية ج 2 ص 66.(44/104)
وقال أيضا:
قلنا في صدد الكلام على بنوك الادخار: إن اختيار إحدى الصورتين السابق بيانهما يتوقف على مدى استعداد كل بيئة للتجاوب مع مقتضيات كل من الصورتين: هل تحجم البيئة عن الادخار إذا لم تضمن فائدة معينة من البداية، أو تقبل على الادخار حتى لو كان الربح الذي سيعود عليها غير محدد المقدار من البداية؟
وظاهر مما تقدم أننا نؤثر اختيار الصورة الأولى لبعدها عن شبهة الربا. ولكن هل كل البيئات تتشابه في استعدادها للتجاوب معها؟ ألا تختلف البيئة الريفية عن البيئة الحضرية؟
ظهر من تجربة قامت بها جمهورية مصر العربية في إحدى المناطق الريفية أن الثقة المتبادلة بين بنك الادخار المحلي وبين البيئة التي يعمل فيها لها تأثير كبير في الإقبال على الصورة الأولى. والثقة أساسها المعرفة الشخصية بين الفريقين، وهذا أكثر بروزا وشيوعا في البيئات الريفية منه في البيئات الحضرية.
هذه التجربة أقامتها مؤسسة الادخار في بلدة ميت غمر والقرى المحيطة بها، فأنشأت بنك ادخار محلي لا يفرض فائدة ثابتة على مدخرات أهل هذه المنطقة، بل يشاركهم في أرباح المشروعات التي يستثمر فيها مدخراتهم عن طريقة تطبيق عقد المضاربة.
وقد تجاوبت هذه البيئة الريفية تجاوبا كاملا مع الفكرة التي تمثلها الصورة الأولى التي عرضنا لها في كلامنا على بنوك الادخار، وقد نجحت التجربة التي لم يمض عليها أكثر من سنة واحدة نجاحا لم يكن في حسبان المؤسسة التي أنشأت البنك. بحيث لو عرض البنك على المودعين(44/105)
(المدخرين) أن يقرر لهم فائدة ثابتة على مدخراتهم لرفضوا هذا العرض لا فقط لشبهة الربا فيه؛ بل لأن الأرباح التي يوزعها عليهم البنك تتجاوز 10% من قيمة مدخراتهم، وذلك بفضل القروض التي يقدمها البنك في مشروعات صناعية صغيرة محلية، ثم يقاسم القائمين بها الأرباح التي يحصلون عليها، ثم يوزع البنك نصيبه من هذه الأرباح على المدخرين بنسبة مدخراتهم بعد خصم مصاريف إدارة البنك وأجور عماله.
وهذه بعض أمثلة من هذه المشروعات التي وظف فيها البنك مدخرات المودعين من واقع مشاهداتي الشخصية وزيارتي لهذه المشروعات وفحصي لدفاتر البنك.
1 - أقرض البنك صاحب مصنع يدوي لعلب الكرتون، الاتفاق بينه وبين البنك على اقتسام الأرباح مناصفة. أنتج المشروع أرباحا مقدارها 250ج و500 مليم في ستة أشهر حصل البنك منها على 125ج و 250 م.
2 - قام البنك بمشاركة أحد الأهالي في تجارة الإسمنت مقابل المناصفة في الأرباح الناتجة، القرض بمبلغ ألف جنيه، لم يكن للبنك أي إشراف على المقترض إلا الثقة المتبادلة بين الطرفين. بعد ثلاثة شهور سدد المقترض من أصل القرض مضافا إليه مبلغ 41 جنيها و 685 مليما نصيب البنك في الأرباح الناتجة عن العملية.
3 - قرض من البنك إلى أحد عملائه المدخرين بمبلغ 1000 جنيه مشاركة من البنك في إقامة مصنع صغير للصاج. اتفق على اقتسام الأرباح بينهما بنسبة 30 % للبنك و 70 % للصانع، بعد ثلاثة شهور دفع الصانع إلى(44/106)
البنك أرباحا مقدارها 30 جنيها، كما سدد جزءا من رأس المال. بعد ثلاثة شهور أخرى دفع الصانع أرباحا مقدارها 40 جنيها وسدد جزءا من رأس المال. أي أن الألف في خلال ستة أشهر آتت للبنك أرباحا مقدارها 70 جنيها، بخلاف أرباح الصانع، وله 70 %، وبخلاف قدرته على تسديد جزء كبير من رأس المال.
4 - قدم البنك لأحد مدخريه مبلغ 15 ألف جنيه لإقامة مصنع للطوب، المدخر عنده خبرة فنية في هذه الصناعة. الاتفاق على تقسيم أرباح المشروع بنسبة 70 % للبنك و30 % للصانع حقق المشروع في الشهر الأول من إقامة المصنع أرباحا مقدارها 300 جنيه، وينتظر أن تزداد الأرباح في الشهور التالية.
5 - قدم البنك للفلاحين قروضا صغيرة بين 10، 15 جنيها للقيام بشراء مواد خام لصناعات يدوية يباشرونها في منازلهم؛ كصناعة الحصير، وصناعة الجريد الذي يحولونه إلى أقفاص، وصناعة الغاب الذي يحولونه إلى كراسي. ويدفع الصانع أرباحا للبنك عن العشرة الجنيهات التي اقترضها مقدارها 15 إلى 20 قرشا أسبوعيا.
وأكتفي بهذه الأمثلة عن النشاط التعاوني الذي يباشره هذا البنك الريفي تطبيقا لعقد المضاربة. ولكننا في الاستشهاد بهذه التجربة يجب أن نقرنها بالعاملين الأساسين في نجاحها، وهناك عاملان لا يمكن أن يتوافرا في جميع البيئات على السواء.
العامل الأول: هو الثقة المتبادلة بين القائمين على البنك وكلهم من أهل هذه المنطقة الريفية - وبين المدخرين من أهلها، ثقة(44/107)
تنبعث من المعرفة الشخصية بين الطرفين.
العامل الثاني: هو الخلق الريفي. خلق الزراع. فالزارع يلقي البذر في الأرض ولا يعلم ثمار زرعه إلا يوم الحصاد. فهو قد ألف انتظار الثمرة، ولذلك لا يجد حرجا - عندما يودع مدخراته في البنك - في انتظار النتيجة النهائية للمشروعات الاستثمارية التي يوظف البنك فيها أموال المدخرين.
هذان العاملان لا يتوافران في البيئات الحضرية، ومن أجل هذا الاعتبار اقترحنا الصورة الثانية.
فإذا كان الهدف الذي يسعى إليه مجتمع إسلامي تلبية لضرورات العصر - هو تشجيع الادخار ابتغاء تنمية رأس المال القومي الذي تتطلبه مرحلة التصنيع والتسلح، التي يجتازها المجتمع، فله الخيار بين الصورتين حسبما تهديه طبيعة البيئات المتباينة فيه (1) .
__________
(1) التوجيه التشريعي في الإسلام، من بحوث مؤتمرات مجمع البحوث الإسلامية ج 2 ص72.(44/108)
ثامنا: من المعلوم أن كل مسألة من المسائل لا بد من معرفة مناط تشريعي ومعرفة مناط التطبيق، وبيان مستند حكمها من الشريعة، وموقف العلماء من ذلك:
وبما أن الموضوع الذي يراد بحثه من الموضوعات الهامة، وأنه يتصل بموضوع الربا، فقد سبق الكلام على الأمور الثلاثة، ولوضوحها لم نتعرض لها بتلخيص.
أما بقية عناصر الموضوع فقد وضع لها ملخص مختصر جدا، وفيما يلي بيانه مرتبا حسب ترتيب عناصر الموضوع.(44/108)
أ - 4: اختلف أهل العلم في حكم جريان الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب:
فأجازه أبو حنيفة ومحمد بن الحسن، ومن وافقهما، والحجة في ذلك السنة، والمعنى.
ومنعه الأئمة: مالك، والشافعي، والإمام أحمد، وأبو يوسف، والأوزاعي، وإسحاق، ومن وافقهم، والحجة في ذلك الكتاب والسنة والإجماع والمعنى، وفيما يلي بيان ذلك باختصار مع الإحالة إلى الصفحات المشتملة على التفصيل.
أولا: ذهب الإمام أبو حنيفة، والإمام محمد بن الحسن الشيباني، ومن وافقهما إلى جواز جريان الربا بين المسلم والحربي في دار الحرب، واستندوا إلى السنة والمعنى.
1 - السنة: استدلوا بدليلين:
الأول: حديث مكحول: «لا ربا بين المسلم والحربي في دار الحرب» 11 \ 104، 107.
ونوقش هذا الحديث من وجهين:
الوجه الأول: قال العيني: (هذا حديث غريب ليس له أصل) ص 107، وقال الشافعي: (هذا الحديث ليس بثابت ولا حجة فيه) ص 107، وقال النووي: (وأما حديث مكحول فمرسل إن صح الإسناد إلى مكحول) ص 113، وقال ابن قدامة: (وخبرهم مرسل لا نعرف صحته) ص 115، وقال أيضا: (خبر مجهول لم يذكر في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به، ومع ذلك مرسل) ، ص 115.(44/109)
أجيب عن ذلك: بأنه مرسل ومكحول ثقة، والمرسل من مثله مقبول، وبأنه ثابت؛ لأن جلالة قدر الإمام لا تقتضي أن يجعل لنفسه مذهبا من غير دليل واضح، وأما قول الشافعي: (لا حجة فيه) ، فبالنسبة إليه؛ لأن مذهبه عدم العمل بالمرسلات إلا مرسل سعيد بن المسيب، والمرسل عند الحنفية حجة على ما عرف في موضعه، ص 107.
وأجيب: بأنه مع تسليم أنه مرسل، فلا يصح أن يكون معارضا للأدلة القطعية من الكتاب والسنة والإجماع الدالة على عموم تحريم الربا بدون تخصيص، ص 111.
ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، كقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (1) ، فيكون المقصود به تحريم الربا بين المسلم والحربي كما بين المسلمين، ص 113 وص 115.
الثاني: قصة العباس بن عبد المطلب، فإنه كان مسلما قبل الفتح ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم ربا العباس يوم الفتح، فدخل في ذلك الربا الذي بعد إسلامه إلى فتح مكة، فلو كان الربا الذي بين المسلم والحربي موضوعا لكان ربا العباس موضوعا يوم أسلم، ص 111.
وأجاب عنه النووي: بأن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه، فيكفي حمل اللفظ عليه، وليس ثم دليل على أنه بعد إسلامه استمر على الربا، ولو سلم استمراره عليه لم يكن فيه حجة؛ لأنه قد لا يكون عالما بتحريمه فأراد النبي صلى الله عليه وسلم إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ، ص 114.
2 - وأما المعنى: فهو أن مالهم مباح في دارهم، فبأي طريق أخذه
__________
(1) سورة البقرة الآية 197(44/110)
المسلم أخذ مالا مباحا إذا لم يكن منه غدر، ص 104.
وأجيب عنه: بأنه منقوض بالحربي إذا دخل دار الإسلام: فإن ماله مباح إلا فيما حظره الأمان، ويمكن حمله بين المسلمين على هبة التفاضل، وهو محرم بالإجماع، فكذا ههنا، ص 115.
القول الثاني: إنه لا يجوز الربا بين المسلمين والحربي، كما لا يجوز بين المسلمين، وبهذا قال الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو يوسف، والأوزاعي، وإسحاق وغيرهم.
والحجة لذلك الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الربا، وقد سبقت وسبق الكلام عليها. وكما لا يجوز الربا بين المسلم والمستأمن منهم في دارنا، فكذا لا يجوز هنا بجامع تحقق الفضل الخالي عن العوض المستحق بعقد البيع ص 115. وأجيب عنه:
بأنه قياس مع الفارق؛ لأن المستأمن منهم صار ماله محظورا بعقد الأمان، ص 107، 108.
ب - 5 - ما يتعلق بمواد النظام:
أ - المنطقة الوسطى:
أ - قبل تمام خمس سنوات من المدة التي يدفع الموظف فيها جزءا من راتبه للادخار، إذا طلب الشخص، أو توفي يدفع له، أو لورثته بدون زيادة، وهذا لا شيء فيه.
ب - بعد خمس سنوات وقبل السنة العاشرة يستحق الموظف، أو ورثته سحب ما دفعه من مساهمة مضافا إليها 50 % من الشركة.
ج - بعد بلوغ مدة الاشتراك أكثر من عشر سنوات يستحق الموظف أو(44/111)
ورثته سحب الأسهم التي دفعها الموظف للادخار ويأخذ معها مثلها 100 %.
ب - المنطقة الشرقية:
أ - إن سحب أسهمه قبل ستين شهرا لم يستحق إلا ما دفعه.
ب - إن سحب أسهمه بعد ستين شهرا وقبل إكمال مائة وعشرين شهرا 50 %.
ج - إن سحب أسهمه بعد إكمال مائة وعشرين شهرا من الاشتراك في النظام استحق 100 % مضافا إلى ما دفعه.
ج - شركة أرامكو:
أ - يتراوح الحسم من الشركة على الموظف من راتبه من 1 إلى 10 في المائة.
ب - تضيف الشركة إلى هذا نسبة منها كما في رقم 120.
ج - يستحق الموظف أرباح مساهمته من أرامكو؛ إذ إنها تشغل هذه المبالغ.
د - يستحق الموظف أرباح مساهمة أرامكو مع الأسهم أيضا.
هـ - يستحق الموظف سحب أسهمه ومساهمة أرامكو، أو أرباحهما، ولو قبل خمس سنوات، أما بين الخمس والعشر وبعد العشر فهو كالشركتين سابقا.
تتفق جميع هذه الشركات في ضمان ربح معين نسبة من رأس مال المساهمة لمن يدفع مبلغا للادخار من بعد خمس إلى عشر، ومن بعد العشر إلخ، إلا أن أرامكو تدفع له قبل بلوغ الخمس بنسب متفاوتة، وتدفع له أرباح الأسهم التي تساهم بها، وما ربحته أسهمه، وبهذا تبين أن هذا صورة(44/112)
من صور الربا، وهي محرمة بالكتاب والسنة والإجماع.
6 - فيما يلي تعريف الادخار بصفة عامة، وبيان أنواع الادخار ووسائل خلق المدخرات وتوظيف المدخرات.
وأما تعريف الادخار وموضوع البحث فهو ما ذكر مع زيادة قيود تفهم مما ذكرته الشركات الثلاث في أنظمتها.
1 - الادخار: هو الزيادة في الدخل على مصروفات الاستهلاك ص 132.
2 - أنواع الادخار: الادخار العام والفردي والإجباري (فرض قدر معين من الضرائب) ص 132.
3 - من وسائل خلق المدخرات.
أ - حسابات التوفير بالبنوك التجارية، وتستحق الفوائد إذا ما بقيت ستة أشهر، فأكثر، وهذا ربا فهو محرم.
ب - صناديق البريد للتوفير، وفوائدها من 15 %، أو 2. 5 % وهذا محرم؛ لأنه ربا.
ج - بنوك الادخار التعاونية، وهذه توزع أرباحا على المودعين، والمودعون هم المستثمرون، وعليه لا يكون فيه ربا، اللهم إلا إذا كانت معاملات البنك؛ كإقراضه واقتراضه، وبيع وشراء الأوراق المالية بدون تقييد بالشريعة فتكون هذه المعاملة ممنوعة.
4 - توظيف المدخرات، ص 112 وما بعدها:
أ - يكون بطريق التأمين التجاري، وقد بحثه المجلس وأصدر قرارا بمنعه.
ب - توظيف الأموال في سندات مالية، وقد بحث هذا في البورصة(44/113)
ص 119 وما بعدها.
ج - قروض الرهائن وهي: ديون تضمنها عقارات، وهذا مشتمل على أن تكون قروضا ربوية، أو غير ربوية، وكذلك الرهون قد ينتفع بها المرتهن، وقد يكون انتفاعه مشروعا إذا كان المرهون مما يركب ويحلب فيركبه ويحلبه بنفقته، وقد يكون مشروعا إذا انتفع به بغير ذلك ص 130.
د - توظيف الأموال في العقارات.
هـ - توظيف الأموال في السيارات والحاجات المنزلية وما أشبهها.
ومن وظائف الادخار اقتناء الذهب.
ز - توظيف الأموال بإيداعها في المصارف وفي صناديق الادخار بفائدة محددة وهذا ربا ص 133.
7 - اختلف العلماء المعاصرون في حكم الادخار:
فمنهم من أجازه مطلقا، ومنهم من منعه مطلقا، ومنهم من رأى أنه إذا أمكن تطبيق الادخار على طريق المضاربة، طبق وإلا طبق على طريقة نظام الادخار بربح مضمون.
وفيما يلي بذلك مع الأدلة والمناقشة:
القول الأول: إن الادخار جائز، وممن قال به: محمد عبده مفتي الديار المصرية سابقا، ومحمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، وجماعة من الأزهريين من علماء المذاهب (136، 137، 138، 141) ، والحجة لذلك أن مصلحة البريد تستغل الأموال التي تأخذها من الناس، لا أنها تقترضها للحاجة فمن الممكن تطبيق استغلال هذه الأموال على قواعد شركة المضاربة، هذه حجة محمد عبده ص 136، وحجة محمد رشيد رضا أن مصلحة البريد مصلحة(44/114)
غنية من مصالح الحكومة، وأنها تستغل المال الذي يودع في صندوق البريد فينتفع المودع والعمال والمستخدمون في المصلحة والحكومة، فلم يظلم أحدهم الآخر، ص 137، 138.
ويمكن مناقشة ذلك: بأنه لا فرق بين الحكومة وبين غيرها في تحريم الربا، وأنه يمتنع إدخال الادخار تحت شركة المضاربة الشرعي؛ لأن الادخار مضمون ربحه ومحدد بنسبة من المبلغ المدفوع، وهذان الأمران غير موجودين في المضاربة فافترقا.
وقد استدل على جوازه: بالضرورة ص 144.
ويمكن أن يجاب: بأنه ليس هناك ضرورة إليه، بل في الأخذ بالمعاملات التي شرعها الله خير وبركة.
واستدل أيضا على جوازه: بأن الأخذ بالجواز أيسر من فرض الضرائب على الشعب، وهو من باب ارتكاب أخف المفسدتين، ص 145.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن الضرائب ممنوعة والادخار ممنوع، وإذا دعت الضرورة إلى فرض الضرائب فلكل ظروف ملابساتها، والنظر في المصالح والمفاسد والموازنة بينها، وترجيح جانب ما ينبغي الأخذ به.
القول الثاني: هو القول بالمنع، وممن قال به: رئيس لجنة الفتوى عبد المجيد سليم، واللجنة الدائمة في الفتوى رقم 2735 وتاريخ 2 \ 12 \ 1399 هـ، ومجلس هيئة كبار العلماء في التوصية رقم 90 \ 2 وتاريخ 26 \ 4 \ 1398 هـ، والحجة لذلك أنه داخل في عموم أدلة الربا.
القول الثالث: إنه إذا أمكن تطبيقه من جهة قبول الناس له طبق على طريق المضاربة الشرعية فيطبق، هذا اختيار محمد العربي ص 146، ونوقش(44/115)
بما تقدم في جواب أدلة القول الأول - نظام الادخار.
هذا ما تيسر جمعه وترتيبه والتعليق عليه وتلخيصه من بحث الادخار وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/116)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية
والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات
تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(44/117)
ترجمة معاني القرآن
من الفتوى رقم 2233
السؤال: ما حكم إعطاء ترجمة القرآن بلغة أخرى إن جاز هذا التعبير لغير المسلم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: يجوز إعطاء ترجمة معاني القرآن الكريم لغير المسلم؛ من أجل البلاغ، ودعوته إلى الإسلام، وتغليبا لجانب الترجمة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/118)
حمل المصحف إلى بلد يهان فيه
من الفتوى رقم 2358
السؤال: هل يجوز حمل المصحف - القرآن - إلى بلاد الكفار؟
الحمد لله وحده والصلاة على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد:
الجواب: حمل المسلم المصحف - القرآن - إلى بلاد الكفار من المسائل التي اختلف الفقهاء في حكمها، فقال جماعة منهم بجواز حمله إلى بلادهم، وقال آخرون بمنع ذلك؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن السفر به إلى بلادهم؛ خشية أن يمتهنوه، أو يحرفوه، أو يشبهوا على المسلمين فيه، روى البخاري ومسلم عن(44/118)
ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (1) » ، وروى مسلم أيضا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه كان ينهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (2) » ، «لا تسافروا بالقرآن فإني لا آمن أن يناله العدو (3) » .
وقال آخرون: يجوز حمله إلى بلادهم للبلاغ وإقامة الحجة عليهم، وللتحفظ والتفهم لأحكامه عند الحاجة إذا كان للمسلمين قوة، أو سلطان، أو ما يقوم مقامهما من العهود والمواثيق، ونحو ذلك مما يكفل حفظه ويرجى معه التمكن من الانتفاع به في البلاغ والحفظ والدراسة، ويؤيد ذلك ما ورد في آخر حديث النهي عن السفر به إلى بلادهم من التعليل، وهذا الأخير هو الأرجح، لحصول المصلحة مع انتفاء المفسدة التي خشيها النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) البخاري برقم 299، ومسلم برقم 1869، وأبو داود 2610.
(2) مالك في الموطأ 2 \ 5، وأحمد 2 \ 6، و 7 و 55 و 36، والنسائي في فضائل القرآن 85، وابن ماجه برقم 2880.
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/10) ، موطأ مالك الجهاد (979) .(44/119)
فتوى رقم 3497
السؤال: أنا مسئول عن بريد الموسم، ويوجد في هذه البلدة المغتربون وغيرهم، فيأتون أحيانا بظروف وفي داخل الظرف مصحف متوسط الحجم، ويريدون إرسالها إلى بلاد غير عربية والغالب على أهلها الكفر، فهل يجوز إرسال(44/119)
القرآن الكريم إلى البلد مع العلم أنه ورد في البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو (1) » متفق عليه؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد:
الجواب: إذا كان المرسل إليه المصحف مسلما فلا حرج في إرساله سواء كان البلد عربيا، أو غير عربي، وسواء كان أهلها مسلمين أم غير مسلمين؛ لأنه والحال ما ذكر لا تناله أيدي الكفار؛ لأنه لم يرسل إليهم ولا خطر عليه منهم، إلا إذا كان البلد الذي فيه المسلم المرسل إليه المصحف بلدا حربيا، أو لا يؤمن على المصحف من أخذ الكفار له من يد المرسل إليه، أو من موزع البريد، فإنه يمنع إرسال المصحف إليه، عملا بالحديث الصحيح المذكور في السؤال.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2990) ، صحيح مسلم الإمارة (1869) ، سنن أبو داود الجهاد (2610) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2879) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الجهاد (979) .(44/120)
كتابة الآيات فيما يهان من الصحف والوصفات الطبية وغير ذلك
فتوى رقم 2779
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. . وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة(44/120)
الرئيس العام من المستفتي وزير الصحة حسين الجزائري والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم 1455 \ 2 في 15 \ 7 \ 1399 هـ.
والسؤال: تلقت هذه الوزارة خطابا برقم 346 \ خ في 16 \ 6 \ 1399 هـ، من مدير إدارة التوعية الإسلامية بوزارة الحج والأوقاف، ومفاده: أن الوصفات الطبية كتب على كل ورقة منها (بسم الله الرحمن الرحيم) ، ولكون مصيرها الرمي، وصيانة لاسم الله وحفظه، فإن مدير إدارة التوعية الإسلامية يطلب من الوزارة عدم كتابة البسملة على دفاتر الوصفات الطبية، وفي اعتقادنا أن هذا الأمر لا يقتصر فقط على الوصفات الطبية المشار إليها، بل يتعداها إلى جميع ما يكتب من أسماء الله والآيات والأحاديث التي ترد في الصحف والمجلات، ومصيرها كذلك إلى القمائم والنفايات، كذلك حال جميع المطبوعات للدولة تتصدر كل ورقة منها البسملة، ومن المعلوم أن هذه الأوراق تصل إلى أيدي الأطفال فيعبثون بها، وتلقى في أماكن لا يوثق بطهارتها، فضلا عن وصولها إلى أماكن النجاسة، والوصفة الطبية قد يكون وصولها إلى النفايات أقل كثيرا من وصول الصحف والمجلات؛ حيث إن الوصفات يحتفظ بها الصيدلي بعد صرفها، وقد تحرق هذه الوصفات بعد انتهاء الغرض من حفظها، إلا أننا نلتمس من سماحتكم الفتوى الشرعية الصحيحة صيانة لأسماء ربنا وكتابه وهدي نبيه، وحتى تؤخذ الفتوى قاعدة عامة ينتفع بها، وإن استحسن سماحتكم نشرها في وسائل الإعلام تعميما لفائدتها؟
والجواب: تكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول كل ورقة من أوراق الوصفات الطبية؛ لما ورد من الأدلة في فضل كتابتها، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتبها في مقدمة رسائله.
ولسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله فتوى في مشروعية(44/121)
كتابتها هذا نصها: (إن كتابة " بسم الله الرحمن الرحيم " مشروعة في أول كتب العلم والرسائل، فقد جرى على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكاتباته، واستمر على ذلك خلفاؤه وأصحابه من بعده وسار عليه الناس إلى يومنا هذا، وقد حث الله تعالى عليها في القرآن، فقال جل وعلا: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} (1) قال الزهري هي: بسم الله الرحمن الرحيم، وذلك أن الكفار كانوا يقرون بها، كما حث على كتابتها رسول الله صلى الله عليه وسلم: فروى عبد القادر الرهاوي في الأربعين من حديث أبي هريرة مرفوعا: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أقطع» ، ورواه الخطيب في جامعه بنحوه.
فيجب تعظيم ما فيه بسم الله الرحمن الرحيم، أو أي شيء من القرآن، أو السنة؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (2) والحرمات: امتثال الأمر من فرائضه وسننه، ومما فرضه احترام كتابه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبسم الله الرحمن الرحيم بعض آية من القرآن في سورة النمل بإجماع العلماء، وقال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (3) ، والشعائر: كل شيء لله تعالى فيه أمر أشعر به وأعلم، ومن ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما يجب تعظيم ذلك فيشرع للإنسان أن يحرقه إذا دعت إليه الحاجة، كما فعل عثمان
__________
(1) سورة الفتح الآية 26
(2) سورة الحج الآية 30
(3) سورة الحج الآية 32(44/122)
رضي الله عنه، فإنه جمع الناس على مصحف واحد وحرق ما سواه من المصاحف، ووافقه الصحابة رضي الله عنهم فكان هذا إجماعا منهم، ومن رأى أحدا يفعل شيئا من الإهانة فيجب الإنكار عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » ، وسوف نقوم حول ذلك بما يلزم إن شاء الله. وأما كون بعض الأوراق التي تكتب عليها البسملة قد ترمى في بعض المحلات غير اللائقة فلا حرج على الكاتب في ذلك، وإنما إثم ذلك على من رماها أو امتهنها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(44/123)
فتوى رقم 11018
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. . وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة الرئيس العام من مدير جمرك مطار المدينة عن طريق مركز الدعوة والإرشاد بالمدينة المنورة، والمحال إلى اللجنة من إدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 237 في 21 \ 1 \ 1408 وقد سأل سؤالا هذا نصه: بناء على خطاب مدير عام جمرك ميناء جدة الإسلامي رقم 7913 \ 11191 \ ش في 2 \ 12 \ 1407 بخصوص ثلاجات ماء، وجدت بالحرم النبوي الشريف مكتوب عليها عبارة (Goot) معناها لفظ الجلالة (الله) باللغة الألمانية، وطلب سعادته إبلاغ فضيلتكم لإبداء رأيكم(44/123)
حيال هذا الموضوع وموافاتنا به ليتسنى لنا اتخاذ ما يجب، وفقكم الله لما فيه خدمة الدين والوطن؟
الجواب: وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت: بأنه لا حرج في ذلك؛ لأن كتابة اسم الجلالة على الثلاجة ليس محل امتهان، ولعله يشار به إلى أنه يوضع فيه ماء في سبيل الله تعالى.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/124)
فتوى رقم 204
السؤال: يوجد بعض علب لبيع الألبان ومكتوب على العلبة بعض آية من القرآن الكريم هو {لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} (1) ، ومصير هذه العلب بعد الاستعمال الرمي في الكناسات وامتهانها؛ فإن كان لا يجوز وضعها على العلب ولا رميها في الأقذار فأفيدوني لأبلغ باعة الألبان ليحتاطوا في ذلك والله يحفظكم؟
الجواب: وقد أجابت بما يلي: إن هؤلاء يأخذون كلمات من القرآن والحديث ولا يقصدون بذلك حكايتها على أنها قرآن، أو حديث، ولذلك لم يقولوا: قال الله تعالى، ولا قال النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أخذوها استحسانا لها، ولمناسبتها ما قصدوا استعمالها فيه من جعلها في لافتة، أو استعمالها في الدعاية إلى ما كتبت عليه، وبذلك خرجت في كتابتهم عن أن تكون قرآنا
__________
(1) سورة النحل الآية 66(44/124)
أو حديثا، ومثل هذا يسمى اقتباسا، وهو عند علماء البديع: أخذ شيء من القرآن، أو الحديث على غير طريق الحكاية ليجعل به الكلام نثرا أو نظما، وعلى هذا لا يكون حكمه حكم القرآن من تحريم حمله، أو مسه على غير المتطهر، أو تحريم النطق به على من كان جنبا، ولكن لا يليق بالمسلم أن يقتبس شيئا من القرآن، أو الحديث للأغراض الدنيئة، أو يكتبه عنوانا، أو دعاية لصناعة، أو مهنة، أو عمل خسيس؛ لما في نفس الاقتباس لذلك من الامتهان، وأما رمي الأوراق المكتوبة، أو العلب، أو الأواني المكتوب عليها في الأقذار ونحوها، أو استعمالها فيما فيه امتهان لها فلا يجوز، وإن كان المكتوب قرآنا كان ذلك أشد خطرا، وإن قصد برمي ما فيه القرآن امتهانه، أو كان مستهترا بقذفه في القاذورات، أو باستعماله فيها كان ذلك كفرا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(44/125)
فتوى رقم 1614
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. . وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة الرئيس العام من المستفتي مدير عام الجمارك والمحال إلى اللجنة من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء،
والسؤال: يرد الجمارك لبعض التجار أنواع مختلفة من السجاد بمختلف المقاسات، وقد استفسر بعضهم عن إمكانية فسح السجاد التي تحمل لفظ الجلالة، أو اسم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدمه. من العينة المرفقة، إن هذه(44/125)
الأصناف تعلق على الحائط ولا توضع على الأرض؟
وبعد دراسة اللجنة للسؤال أجابت بما يلي: لا يجوز الفسح للسجاد الذي كتب عليه لفظ الجلالة، أو اسم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما يترتب على ذلك من الإهانة بافتراشها والصلاة عليها، وكونها توضع على الجدران لا يلتزم به كل من كانت عنده هذه السجاد، بل من الناس من وضعها على الحائط ومنهم من يفرشها في الأرض، ومن القواعد المقررة في الشريعة سد الذرائع الموصلة إلى انتهاك محارم الله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/126)
فتوى رقم 1871
السؤال: يجري بيع لوحات تعلق على الحائط مكتوب عليها آية الكرسي تعلق على الغرف تكريما وافتخارا بالقرآن الكريم، هل مثل هذه اللوحات محرم بيعها في الأسواق واستيرادها إلى المملكة؟
الحمد لله وحده والصلاة على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: القرآن نزل ليكون حجة على العالمين، ودستورا ومنهاجا لجميع أفراد المسلمين، يحلون حلاله، ويحرمون حرامه، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، يحفظ في الصدور ويكتب في المصاحف والرقاع والألواح ونحوها للرجوع إليه، وتلاوته منها عند الحاجة، هذا هو الذي فهمه المسلمون الأوائل ودرج عملهم عليه، أما ما بدأ يظهر في هذه الأزمنة(44/126)
من كتابة بعض القرآن على لوحة، أو رقعة كتابة مزخرفة وتعليقها داخل غرفة، أو سيارة، أو نحو ذلك، هذا ليس من عمل السلف، وقد يكون في ذلك من المفاسد أعظم مما قصد الكاتب، أو المعلق من تعظيمه والافتخار به من شغل المعتنين بذلك عن الاهتمام بأغراض القرآن التي نزل من أجلها، فالأولى بالمسلم أن يترك هذه الأشياء ويبتعد عن التعامل فيها، وإن كان الأصل فيها الحل خشية أن يكثر استعمالها والتعامل فيها فتشغل الناس عما هو المقصود من القرآن.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/127)
الفتوى رقم 6901
السؤال: ما حكم من يضع متاعه، أو حاجياته، أو يلفها في كتب، أو ورق يحتوي على سور وآيات من القرآن الكريم والسنة المطهرة، فأنكر عليه شخص بالقول، فرد عليه فقال - أي الذي يضع البضاعة -: لا بأس بهذا ولا ضرر في ذلك، واستمر في عمله هذا، وقال: لا أجد غير هذا الورق، مع العلم أنه يقرأ ويكتب وهذه ظاهرة شائعة عندنا، فما حكم الله في هذا العمل، وهل أسير في الشارع راكعا لجمع تلك الآيات والسور التي كثر رميها على الأرض في حين أن الناس تسخر، فماذا أفعل لإزالة هذا المنكر المنتشر؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: أولا: لا يجوز أن يضع المسلم متاعه، أو حاجته في أوراق كتب(44/127)
فيها سور وآيات من القرآن الكريم، أو الأحاديث النبوية، ولا أن يلقي ما كتب فيه ذلك في الشوارع والحارات والأماكن القذرة؛ لما في ذلك من الامتهان وانتهاك حرمة القرآن والأحاديث النبوية وذكر الله، ودعوى أنه لا يجد غير هذا الورق دعوى يكذبها الواقع، فإن وسائل صيانة المتاع كثيرة وفيها غنية عن استعمال ما كتب فيه القرآن والأحاديث النبوية، أو ذكر الله وإنما هو الكسل وضعف الدين.
ثانيا: يكفيك للخروج من الإثم والحرج أن تنصح الناس بعدم استعمال ما ذكر فيما فيه امتهان، وأن تحذرهم من إلقاء ذلك في سلات القمامة وفي الشوارع والحارات ونحوها، ولست مكلفا بما فيه حرج عليك من جعل نفسك وقفا على جمع ما تناثر من ذلك في الشوارع ونحوها، وإنما ترفع من ذلك ما تيسر منه دون مشقة وحرج.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/128)
حكم رمي الجرائد في الزبائل
السؤال: يذكر السائل أن بعض الجرائد يكتب فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم) : وأنها ترمى بالشوارع، وبعض الناس يستعملها للتنظيف فما حكم ذلك؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: كتابة بسم الله الرحمن الرحيم مشروعة في أول كتب العلم والرسائل، فقد جرى على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكاتباته، واستمر على(44/128)
ذلك خلفاؤه وأصحابه من بعده، وسار عليه الناس إلى يومنا هذا، فتعظيمها وصيانتها واجبان، وإهانتها محرمة، والإثم على من يهينها؛ لأنها آية من كتاب الله جل وعلا وبعض آية من سورة النمل، ولا يجوز لأحد أن يستعملها في التنظف، أو اتخاذها سفرة، أو ملفا للحوائج، كما لا يجوز إلقاؤها بالزبالات والقمائم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/129)
فتوى رقم 3407
السؤال: لدي جرائد قديمة كثيرة مطروحة بعد القراءة، فهل يجوز إعطاء الجرائد للغسال وبياع العيش أو الخبز لاستعمالها في ذلك عند اللزوم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: لا يجوز إعطاء الجرائد للغسال ليلف فيها الملابس، ولا لبائع العيش، أو الخبز ليستعملها لفافة للخبز أو العيش؛ لأن الغالب في الجرائد أن فيها مقالات إسلامية تشتمل على آيات قرآنية وأحاديث نبوية ويكتب فيها الكثير من أسماء الله تعالى واستعمالها فيما ذكر امتهان لآيات القرآن والأحاديث النبوية وأسماء الله تعالى، فالواجب صيانتها، أو إحراقها، أو دفنها في مكان طاهر.(44/129)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/130)
من الفتوى رقم 3916
السؤال: هل يجوز لنا إحراق الجرائد بعد القراءة، وهل يجوز إحراق أوراق القرآن الكريم التي نجدها في الشوارع؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: نعم يجوز إحراق أوراق الجرائد صيانة لما قد يكون فيها من آية قرآنية، أو حديث نبوي، أو نحو ذلك مما يجب احترامه، ويجوز أيضا إحراق أوراق المصحف صيانة لها من الإهانة ومحافظة على حرمتها، ولك أيضا أن تحفظها من الإهانة بدفنها في أرض طيبة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/130)
من الفتوى رقم 9354
السؤال: ما حكم استعمال ورق الجرائد في لف الأشياء، أو فرشه على الأرض ثم إلقائه في القمامة، مع العلم أن بعض الصفحات تحتوي على آيات من كتاب الله الكريم، وكيف يمكن صيانة الآيات المطبوعة في الجرائد مع تداولها بين جميع الناس على اختلاف دياناتهم؟(44/130)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: لا يجوز استعمالها فيما ذكر، ولا إلقاؤها في القمامة؛ لما في ذلك من امتهان ما فيها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأسماء الله تعالى، وطريق العمل فيها حفظ ما احتيج إليه منها وإحراق ما لا يحتاج إليه، أو دفنه بعيدا عن الأقذار وممر الناس.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/131)
فتوى رقم 9798
السؤال: إن كثيرا من أصحاب الشركات ومصانع الورق يستوردون الأوراق الفاضلة (ويست بيبر) من البلاد الأجنبية لكي يصنعون منها ورقا جديدا على حسب رضاهم، وتلك الأوراق تنزل على ميناء كلكته من البواخر، وبعده تذهب إلى مخازن المصانع، وفي تلك الأوراق وجدت نسخ قرآن كريم وكتبا في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأجزاء منهما، بعض منها مناسب للاستعمال وبعض منها لا، وإنما أصحاب الشركات والمصانع من غير المسلمين، والمسلمون يقولون: إن هذا توهين لكتبنا الدينية فلا نسمح للشركات إلا أن تدبر الاحترام لكتبنا المعززة على حسب الشريعة الإسلامية، وهم يصرون على الحكومة أنها تمنع استيراد هذه الأموال التي منها وصلت الميناء لا تسمح بإخراجها عن الميناء، فبدأ الامتعاض في قلوبهم وأجمعوا على مطالباتهم، والحكومة لم تمنع استيرادها، أو تمنع إخراج الأموال الموصولة بالميناء، فتلك الشركات تحمل خسارة عظيمة وتغلق أبواب المصانع الورقية، ولكن حكومة(44/131)
الهند ترغب في جذب قلوب المسلمين على حسب دينهم، ولا ترغب الجبر على أي فريق، فالحكومة تريد الفتاوى من حضرتكم مع الأدلة والبراهين الإسلامية في هذه القضية؛ لكي لا تخطئ في العدل، أو الإنصاف.
فمن فضلكم تكتبون الجواب المشروح في القضية المذكورة، مع الأدلة والبراهين من كتب الدين الإسلامي، مع أرقام الصفحات للاستدلال لكي نكشفها على المسلمين وعلمائهم.
ما هو مصرف هذه الأوراق والكتب المعززة؟ هل يجوز للمسلمين أن يضعوها في الماكينة بالمصنع مع كمال الاحترام، والماكينة تغير هيئتها بالأدوية وتصير مثل القطن، وبعده تصنع منها أوراقا جديدة؟
لو تدفن في القبر، أو قعر الأرض فيبقى الخطر أن الأطفال يأخذونها من القبور ويبيعونها في السوق مرة ثانية، ولو نوضعها في البحيرة، أو في البحر فيبقى الخطر المذكور أيضا والنظير لكليهما موجود عند الشرطة.
فساعدونا في هذه القضية بجوابكم المفصل تحت القوانين الإسلامية لكي نقدمه إلى أصحاب العدل بحكومتنا وجزاكم الله خيرا جزيلا في الدارين؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: أولا: يجب صيانة الأوراق المكتوب بها القرآن العظيم؛ لأنه كلام رب العالمين فيحرم امتهانها، أو تعريضها للإهانة.
ثانيا: لا يجوز تمكين غير المسلمين من مس الكتاب الكريم (القرآن) .
ثالثا: يجوز للمسلمين إزالة رسم القرآن من الأوراق والمصاحف المتمزقة؛ إما بالإحراق، أو دفنها في أرض طاهرة احتراما للقرآن وصونا له عن الأذى والإهانة.
وسبق أن عرض موضوع استعمال الأوراق التي فيها شيء من القرآن(44/132)
على مجلس هيئة كبار العلماء في دورته السادسة والعشرين، وصدر منه قرار بالإجماع يمنع ما ذكره السائل، وهذا نص ما قال مجيبا لمعالي وزير الحج والأوقاف في المملكة العربية السعودية:
(1) ما عملتم به بشأن الأوراق التجريبية من طحنها ثم حرقها ثم دفنها في مكان طاهر عمل جيد وموافق لما ذكره أهل العلم، اقتداء بالخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
(2) يرى المجلس عدم الموافقة على طلب مصنع الغدير؛ لما يترتب على ذلك من الإهانة والابتذال لما في الأوراق من كلام الله عز وجل.
رابعا: أما كتب الحديث الشريف والأجزاء التي فيها شيء من كلام الله، أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فالواجب أيضا صيانتها وعدم إهانتها وذلك بإحراقها، أو دفنها بأرض طيبة بعيدة عن متناول الصبيان.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/133)
استعمال ألفاظ القرآن فيما يعتاده الناس من أفعال
من الفتوى رقم 3114
السؤال: ما حكم تأول القرآن عندما يعرض لأحد منا شيء من أمور الدنيا، كقول أحدنا عندما يحصل عليه شدة، أو ضيق: {تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} (1) سورة مريم.
عندما يلاقي صاحبه: {جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (2)
__________
(1) سورة مريم الآية 83
(2) سورة طه الآية 40(44/133)
عندما يحضر طعام: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (1) إلى آخر ما هناك مما يستعمله بعض الناس اليوم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: الخير في ترك استعمال هذه الكلمات وأمثالها فيما ذكر تنزيها للقرآن وصيانة له عما لا يليق.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الحاقة الآية 24(44/134)
من الفتوى رقم 6252
السؤال: استعمال بعض آيات القرآن في المزاح ما بين الأصدقاء مثال:
1 - {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} (1) 2 - {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} (2) 3 - {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} (3) هل يجوز استعمال هذه الآيات في المزاح ما بين الأصدقاء؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: لا يجوز استعمال آيات القرآن في المزاح على أنها آيات من القرآن، أما إذا كان هناك كلمات دارجة على اللسان لا يقصد بها حكاية آية من القرآن، أو جملة منه فيجوز.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الحاقة الآية 30
(2) سورة عبس الآية 40
(3) سورة الفتح الآية 29(44/134)
من الفتوى رقم 8691
ما الحكم في تسمية بعض الأفلام السينمائية ببعض الآيات القرآنية: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (1) و {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (2) و {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} (3) وما الحكم في الأغاني الدينية والوطنية والموشحات؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: لا يجوز تسمية الأفلام السينمائية ببعض الآيات القرآنية؛ لأن ذلك من الاستهانة بالقرآن، ومن التلبيس.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الفجر الآية 14
(2) سورة البقرة الآية 83
(3) سورة الضحى الآية 2(44/135)
فتوى رقم 5959
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم من الدكتور ن. م. ف إلى سماحة الرئيس العام، والمحال إليها برقم 1007 في 10 \ 5 \ 1403 هـ ونصه: (أنه يتوفر للمستشفى التخصصي وسائل اتصالات داخلية جيدة تسمح للمخاطب بمقاطعة المكالمة القادمة والانتقال إلى مكالمة أخرى مدة تطول، أو تقصر حسبما تدعو الحاجة ثم العودة إلى المكالمة الموقوفة، وخلال فترة الانقطاع المذكورة يمكن للمتكلم أن يستمع إلى مادة مسجلة مناسبة، ولقد رغبنا أن نملأ فترة الانقطاع هذه بمادة دينية سواء مقاطع من القرآن الكريم، أو من الأحاديث الشريفة، وحيث إنه قد يتخلل الانقطاعات أمور دنيوية يدخل فيها الجد والهزل حسب مكانة وظروف المتحدثين فقد رأينا الاستئناس برأي سماحتكم(44/135)
قبل إدخال مثل هذه المواد الدينية؟
وأجابت بما يلي:
أولا: لا يجوز قطع المكالمة، أو وقفها؛ لما في ذلك من الأذى إلا لمقتض يدعو إلى ذلك؛ كإساءة المتكلم إساءة لا تزول إلا بقطعها، أو طروء أمر ضروري، أو إصلاح يدعو إلى وقفها، أو قطعها.
ثانيا: القرآن الكريم كلام الله تعالى فيجب احترامه وصيانته عما لا يليق به من خلطه بهزل، أو مزاح يسبق تلاوته، أو يتبعها، ومن اتخاذه تسلية، أو ملء فراغ مثل ما ذكرت، بل ينبغي القصد إلى تلاوته قصدا أوليا عبادة لله وتقربا إليه مع تدبر معانيه والاعتبار بمواعظه، لا لمجرد التسلية والتفكه وملء الفراغ، وكذلك أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز خلطها بالهزل والدعابات، بل تجب العناية بها وصيانتها عما لا يليق والقصد إليها لفهم أحكام الشرع منها والعمل بمقتضاها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/136)
اللحن في التلاوة
فتوى رقم 511
السؤال: ما حكم العاجز عن أداء حرف الضاد من مخرجه، وقد اختلفت فيه الناس؛ فمنهم من يقول: على العاجز أن ينطق به ظاء، ومنهم من يقول: عليه أن(44/136)
ينطق به دالا، فبينوا لنا الحق في ذلك؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: يجب على من لا يحسن إخراج الضاد من مخرجها أن يجتهد طاقته، ويبذل وسعه في تمرين لسانه على إخراج الضاد من مخرجه والنطق به نطقا صحيحا، فإن عجز بعد بذل جهده عن النطق الصحيح فهو معذور، وما عليه إلا أن ينطق به كما يتيسر له، فلا يكلف بنطقه ظاء، أو دالا على الخصوص؛ لقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) سورة الحج الآية 78(44/137)
من الفتوى رقم 5948
السؤال: أنا يمني لي في السعودية أكثر من عشر سنوات، يتيم الأبوين وأحب قراءة القرآن الكريم وكثيرا ما أقرأ في المسجد، ولكني في بعض الآيات لا أنطقها نطقا صحيحا وهذا راجع إلى أنني لم أدخل المدارس بتاتا، فهل قراءة القرآن الكريم بهذه الصورة غير السليمة في بعض الآيات يلحقني ذنبا أم لا، راجيا توضيح ذلك؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:(44/137)
الجواب: عليك أن تحاول تصحيح قراءتك، وذلك بأن تتعلم قراءته على أحد القراء المعتبرين، وتكثر قراءة ما أتقنته في المسجد وغيره، ومتى اجتهدت في ذلك يسر الله أمرك، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران (1) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 6 \ 48 و 94 و 110 و 192، والبخاري برقم 4937، ومسلم برقم 798، وأبو داود برقم 1454، والترمذي برقم 2906، وابن ماجه برقم 3779، والنسائي في فضائل القرآن برقم 70، والدارمي في السنن برقم 3371، وابن أبي شيبة برقم 1085.(44/138)
فتوى رقم 9550
السؤال: كان رجل يقرأ القرآن ويلحن فيه، وكان رجل يصلي إلى جنبه فرد عليه وهو في التشهد، فهل على القارئ إثم، وهل صلاة من رد عليه صحيحة، أفتوني على ذلك مع الدليل المقنع؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: أولا: إذا كان القارئ مبتدئا بتحفظ القرآن ويعالج ضبطه فلا إثم عليه، بل له أجر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران (1) » رواه البخاري ومسلم.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4937) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (798) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2904) ، سنن أبو داود الصلاة (1454) ، سنن ابن ماجه الأدب (3779) ، مسند أحمد بن حنبل (6/110) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3368) .(44/138)
ثانيا: المصلي الذي رد على القارئ غير إمامه وصحح له خطأه مخطئ معذور في رده عليه؛ لجهله وصلاته صحيحة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/139)
من الفتوى رقم 9566
السؤال: كيف أتعلم تجويد القرآن، وفي أي كتاب أجد هذا التجويد، وقد سمعت من إذاعتكم في برنامج: (ناشئ في رحاب القرآن) ولقد اشتريت (هداية المستفيد) وما فهمت معناه؛ لأنه ليس واضحا، ولقد تعلمنا في المدرسة الإسلامية في جيبوتي، فهل تجدون سبيلا إلى الحل، وقد جئت من بلاد المستعمرة الحبشة وما تعلمت، هل لكم أن ترسلوا لي كاسيت مسجلة بالقرآن؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: يمكن أن يتم تعلمك القرآن مجودا بتعلم قواعد التجويد والإلمام بها من كتاب الهداية وغيرها، وأن يتم ذلك على يدي معلم ماهر في القراءة، وأن تكثر التمرن على تجويد القرآن عمليا، ويمكنك أن تستعين في ذلك أيضا بالاستماع إلى برامج إذاعة القرآن من الإذاعة السعودية.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/139)
حفظ القرآن
من الفتوى رقم 6292
السؤال: أقرأ القرآن ولا أستطيع حفظه هل لي أجر على هذا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: الذي يقرأ القرآن ويتدبره ويعمل به يثاب عليه وإن لم يحفظه، ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ ويتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران (1) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4937) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (798) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2904) ، سنن أبو داود الصلاة (1454) ، سنن ابن ماجه الأدب (3779) ، مسند أحمد بن حنبل (6/98) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3368) .(44/140)
من الفتوى رقم 7349
السؤال: كيف أحافظ على حفظي القرآن؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: من أسباب حفظ القرآن: تكراره، وتعاهده كثيرا، والصدق، والإخلاص، والرغبة في حفظه وتفهمه وتدبره، والضراعة إلى الله سبحانه وسؤاله التوفيق لذلك، مع الحذر من المعاصي والتوبة إلى الله سبحانه عما سلف منها.(44/140)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/141)
من الفتوى رقم 7731
السؤال: ما حكم من يكثر من قراءة القرآن الكريم ولكن لضعف ذاكرته لا يستطيع أن يحفظه، وما حكم من حفظ القرآن ونسيه كمن يحفظه للاختبار، أفي ذلك وزر؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: من أكثر من قراءة القرآن لكنه لم يحفظه لضعف ذاكرته يؤجر على قراءته، ويعذر في عدم حفظه؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ، ومن حفظ القرآن للاختبار مثلا ثم نسيه فقد أساء، وفاته خير كثير.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(44/141)
من الفتوى رقم 11469
السؤال: حفظت في الصغر خمسة أجزاء من القرآن الكريم مرتين ثم أنسيتها، وأحاول جاهدا استعادة حفظها في الكبر رغم كثرة القراءة في المصحف،(44/141)
ولكني عجزت وأخشى الله تعالى؛ لقوله في سورة طه الآية (126) : {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (1) السؤال: هل المقصود آيات القرآن الكريم أم آيات الله في الكون؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: المقصود بالنسيان ترك العمل بها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة طه الآية 126(44/142)
نسيان القرآن
من الفتوى رقم 5168
السؤال: رجل حفظ من القرآن خمسة أجزاء ثم لكثرة أعماله وأشغاله لم يراجع ما حفظ لفترة طالت جدا حتى نسي ما حفظ فما حكمه، هل يأثم على ذلك، وهل هناك أحاديث تهدد وتتوعد أمثاله؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: ينبغي نصحه وترغيبه لعله يرجع له تعلم القرآن كله وتلاوته وتدبره والعمل به، وينبغي أيضا تحذيره من سوء عاقبة انشغاله بالدنيا عن أمور دينه، أما الحديث الذي فيه الوعيد لمن حفظ القرآن ثم نسيه فهو حديث ضعيف.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/142)
من الفتوى رقم 5169(44/142)
السؤال: ما حكم من استظهر كتاب الله على ظهر قلبه ثم نسيه هل يعاقب، أو لا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: القرآن كلام الله تعالى، وهو أفضل الكلام ومجمع الأحكام، وتلاوته عبادة تلين بها القلوب وتخشع النفوس، إلى غير ذلك من منافعه التي لا تحصى، من أجل ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعاهده حتى لا ينسى، فقال صلى الله عليه وسلم: «تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها (1) » ، فلا يليق بالحافظ له أن يغفل عن تلاوته ولا أن يفرط في تعاهده، بل ينبغي أن يتخذ لنفسه منه وردا يوميا يساعده على ضبطه، ويحول دون نسيانه رجاء الأجر والاستفادة من أحكامه؛ عقيدة وعملا، ولكن من حفظ شيئا من القرآن ثم نسيه عن شغل، أو غفلة ليس بآثم، وما ورد من الوعيد في نسيان ما قد حفظ لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 4 \ 411، والبخاري برقم 5033، ومسلم برقم 791، والنسائي في المجتبى 2 \ 154 وفضائل القرآن برقم 64، وابن أبي شيبة في المصنف برقم 10041، والدارمي في السنن برقم 2248، والحاكم في المستدرك 1 \ 553.(44/143)
من الفتوى رقم 9455(44/143)
السؤال: إنني شاب عمري الآن 23 عاما، وعندما كنت في سن الثانية عشرة التحقت بمدرسة تحفيظ القرآن الكريم فحفظت القرآن الكريم كله، والآن نسيت ما حفظت منه إلا القليل، ولم أحفظ إلا أجزاء معدودة حوالي أربعة أجزاء فهل علي إثم بذلك، وحاولت حفظه الآن لكن أجد صعوبة في ذلك، فماذا أفعل هل أعود لحفظه مرة ثانية، وهل علي إثم فيما نسيت منه أي من حفظه؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
الجواب: ننصحك بالعودة إلى حفظه مرة ثانية، والمداومة على قراءته وتعاهده والعمل به، ونرجو الله لنا ولك العون والتوفيق، ولا إثم عليك في ذلك إن شاء الله؛ لأن الأحاديث الواردة في وعيد من نسي شيئا منه كلها ضعيفة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/144)
هجر القرآن
من الفتوى رقم 6561
السؤال: ما حكم قراءة القرآن أهي واجبة أم مستحبة، حيث سألنا عن حكمه فمنهم من قال: ليس بواجب، إن قرئ فلا بأس وإن لم يقرأ فلا شيء عليه، فإذا كان كذلك فقد يهجره الكثير، فما حكم هجره وما حكم تلاوته؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: المشروع في حق المسلم أن يحافظ على تلاوة القرآن ويكثر من ذلك حسب استطاعته، امتثالا لعموم قول الله سبحانه وتعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} (1) الآية، وقوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ} (2) الآية، وقوله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} (4) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا القرآن، فإنه يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة (5) » أخرجه مسلم في صحيحه، وأن يبتعد عن هجره والانقطاع عنه بأي معنى من معاني الهجر التي ذكرها العلماء في تفسير هجر القرآن. . قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره (6) : يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 45
(2) سورة الكهف الآية 27
(3) سورة النمل الآية 91
(4) سورة النمل الآية 92
(5) مسلم برقم 804.
(6) تفسير ابن كثير 6 \ 117.(44/145)
{يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (1) وذلك أن المشركين كانوا لا ينصتون للقرآن ولا يستمعونه كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (2) الآية، فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه فهذا من هجرانه، وترك الإيمان به، وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر، أو قول، أو غناء، أو لهو، أو كلام، أو طريقة مأخذوة من غيره من هجرانه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الفرقان الآية 30
(2) سورة فصلت الآية 26(44/146)
من الفتوى رقم 7108
السؤال: أثناء السير بالسيارة، أو الجلوس بالمنزل كثيرا ما نسمع آيات القرآن الكريم تتلى، ولكن يكون الإنسان في حاجة إلى استماع شيء آخر مثل الأخبار، أو قراءة الجريدة نظرا لعدم توفر الوقت للسماع للذكر، وفعل مثل هذه الأشياء بالترتيب، فهل إقفال الراديو، أو غيره لغرض استماع الأخبار، أو قراءة الصحف يعتبر إعراضا عن ذكر الله، وما هو الحل في مثل ذلك؟(44/146)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: لا حرج من سماع الأخبار وقراءة الصحف بدلا من فتح الإذاعة على القرآن؛ لأن كل شيء له وقته، ولا يتضمن ذلك الإعراض عن القرآن ولا هجره إذا كان للمؤمن أوقات أخرى يقرأ فيها القرآن، أو يستمع فيها إذاعة القرآن.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/147)
من الفتوى رقم 7175
السؤال: رجل درس القرآن إلا أنه يمضي عليه الحول لم يقرأ القرآن فما حكم الشرع في هجره القرآن؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: لا ينبغي ذلك، وعلى من حوله من أهل العلم نصحه وبيان فضيلة تلاوته وتدبره والاتعاظ به عسى أن يتعظ ويقبل على تلاوته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/147)
من الفتوى رقم 8844
السؤال: قراءة القرآن واجبة أم مستحبة؟ وما حكم هجره هل هو حرام أم مكروه؟(44/147)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: أنزل الله القرآن للإيمان به، وتعلمه، وتلاوته، وتدبره، والعمل به، وتحكيمه، والتحاكم إليه، والاستشفاء به من أمراض القلوب وأدرانها، إلى غير ذلك من الحكم التي أرادها الله من إنزاله.
والإنسان قد يهجر القرآن فلا يؤمن به ولا يسمعه ولا يصغي إليه، وقد يؤمن به ولكن لا يتعلمه، وقد يتعلمه ولكن لا يتلوه، وقد يتلوه ولكن لا يتدبره، وقد يحصل التدبر ولكن لا يعمل به، فلا يحل حلاله ولا يحرم حرامه، ولا يحكمه ولا يتحاكم إليه، ولا يستشفي به مما فيه من أمراض في قلبه وبدنه، فيحصل الهجر للقرآن من الشخص بقدر ما يحصل منه من الإعراض كما سبق.
فعلى العبد أن يتقي الله في نفسه، وأن يحرص على الانتفاع بالقرآن في شتى وجوه الانتفاع، ويفوته من الخير بقدر ما يتصف به من الهجر، أما التلاوة فمشروعة ويستحب الإكثار منها، وأن يختم كل شهر لكن لا يجب ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/148)
قراءة الجنب
من الفتوى رقم 2217
السؤال: جرت بيننا مناقشة البارحة حول جواز قراءة القرآن غيبا، أو من(44/148)
كتاب يحوي بعض الآيات القرآنية لو كان الشخص غير طاهر، مع أن الله سبحانه يقول: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1) ، فما الحكم في ذلك؟
الجواب: إن من أراد مس المصحف من المسلمين فعليه أن يتطهر من الحدث الأصغر والأكبر، والحدث الأصغر ما أوجب وضوءا، والحدث الأكبر ما أوجب غسلا، لعموم قوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (2) ولما جاء في كتاب عمرو بن حزم «أن لا يمس القرآن إلا طاهر (3) » ، وأما قراءته غيبا فيجوز ممن ليس عليه حدث أكبر، فالجنب مثلا لا يقرأ القرآن لا غيبا ولا نظرا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الواقعة الآية 79
(2) سورة الواقعة الآية 79
(3) قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: (لا يمسه إلا المطهرون) : وقال آخرون: (لا يمسه إلا المطهرون) ، أي من الجنابة والحدث، قالوا: ولفظ الآية خبر ومعناها الطلب، قالوا: والمراد بالقرآن هاهنا المصحف كما روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو، واحتجوا في ذلك بما رواه الإمام مالك في موطئه: (عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم '' ألا يمس القرآن إلا طاهر ''، وروى أبو داود في المراسيل من حديث الأزهري قال: قرأت في صحيفة عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: '' ولا يمس القرآن إلا طاهر ''، وهذه وجادة جيدة قد قرأها الزهري وغيره، ومثل هذا ينبغي الأخذ به، وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص، وفي إسناد كل منهما نظر) اهـ، ج 4 ص 299 طبعة دار الفكر للنشر والتوزيع.(44/149)
من الفتوى رقم 3204(44/149)
السؤال: هل يجوز أن يقرأ الإنسان غيبا، وهو جنب، أو يتيمم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: جمهور العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يقرأ القرآن، وهو جنب، ولو عن ظهر قلب دون أن يمس المصحف؛ لما رواه أحمد وأصحاب السنن عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان لا يحجزه شيء عن القرآن إلا الجنابة (1) » . قال الحافظ ابن حجر: (إسناده حسن، فإن لم يجد الماء، أو عجز عنه لمرض تيمم) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 1 \ 84 و 124، وأبو داود في السنن برقم 229، والترمذي في الجامع برقم 146، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي في المجتبى 1 \ 144، وابن ماجه برقم 596.(44/150)
من الفتوى رقم 9620
السؤال: كما نعلم أن القرآن الكريم له حرمته حيث لا يمسه إلا المطهرون، ما رأيك في الشريط المسجل عليه قرآن كريم للرجل، أو المرأة إذا كان عليه جنابة، أو المرأة إذا كانت حائضة، هل يجوز لمس، أو حمل الشريط الذي فيه قرآن كريم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: لا حرج في حمل، أو لمس الشريط المسجل عليه القرآن لمن كان عليه جنابة ونحوها.(44/150)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/151)
قراءة الحائض
فتوى رقم 3713
السؤال: أفتونا في حكم لمس الحائض المصحف وتلاوته، وكذلك في دخولها المسجد، وهل يحل لها أن تجلس فيه أو لا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: أولا: لا يجوز للحائض مس المصحف عند جمهور العلماء؛ لقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب عمرو بن حزم: «لا يمس القرآن إلا طاهر (2) » ، أما قراءة الحائض والنفساء القرآن بلا مس المصحف فلا بأس به في أصح قولي العلماء؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يمنع من ذلك.
ثانيا: لا يجوز للحائض ولا الجنب الجلوس في المسجد ولا اللبث فيه عند جمهور الفقهاء؛ لقول عائشة رضي الله عنها: «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن ينزل
__________
(1) سورة الواقعة الآية 79
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .(44/151)
فيهم رخصة، فخرج إليهم فقال: وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب (1) » رواه أبو داود، الحديث عام في تحريم الجلوس في المسجد للحائض والجنب ومرورهما به، لكنه خصصه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} (2) ، فإن معناها: يا أيها المؤمنون لا تقربوا مواضع الصلاة - أي المساجد - وأنتم سكارى حتى تفيقوا من سكركم، ولا تقربوها وأنتم جنب حتى تغتسلوا من الجنابة، إلا إذا كان دخولكم إياها على وجه الاجتياز والمرور فلا بأس به، والحائض حكمها حكم الجنب في ذلك، ويدل على الاستثناء أيضا ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: (كان أحدنا يمر بالمسجد جنبا مجتازا) ، وما رواه ابن المنذر عن زيد بن أسلم قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون في المسجد وهم جنب» .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أبو داود برقم 232.
(2) سورة النساء الآية 43(44/152)
من الفتوى رقم 9402
السؤال: سمعت في (نور على الدرب) أنه يجوز للحائض إعراب القرآن وأنا أعلم المسلمات التجويد، ويأتين إلي من أماكن بعيدة ويكون وقتهن محدودا، هل(44/152)
يحل لي أن أعلمهن التجويد وأصحح لهن بعض آيات من القرآن، أو أتلو لهن أثناء الحيض، وكذلك الحائض منهن تتعلم أم تنتظر حتى تتطهر، أفتونا مأجورين، وأنا أقرأ من كتب التفسير المجزأة أثناء الحيض هل هذا جائز أم الأحوط الترك؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: يجوز لك أن تقرئي القرآن وأنت حائض، وأن تعلمي الحيض التلاوة والتجويد حال الحيض لكن دون مس للمصحف، وللحائض أن تمس كتب تفسير القرآن وتتعرف الآيات منها في أصح قولي العلماء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/153)
قراءة من به حدث أصغر
من الفتوى رقم 557
السؤال: هل يجوز تلاوة القرآن وحمله لمن استجمر بعد خروجه البر - يعني الحمام - كما يحصل في المدارس عند عدم وجود ماء، فيقوم المدرس بتلاوة درس القرآن بعد خروجه البر، فهل يكفيه الاستجمار، أو يلزمه الوضوء، ولو مع مشقة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: يجوز لمن استجمر ولم يتوضأ أن يقرأ القرآن إذا لم يكن جنبا؛ مدرسا، أو طالبا، لكن قراءته على وضوء أفضل، أما مس المصحف فلا يجوز عند جمهور العلماء إلا لمتطهر من الحدث الأكبر والأصغر، واستدلوا بقوله(44/153)
تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (1) ، وبما في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: «ألا يمس القرآن إلا طاهر (2) » ، ويجوز حمله بعلاقته؛ لأنه ليس بمس، وبذلك قال الحنابلة وأبو حنيفة والحسن البصري وجماعة، وإن احتاج المحدث حدثا أصغر أو أكبر إلى مسه ولا ماء يتطهر به تيمم، وجاز له مسه بذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) سورة الواقعة الآية 79
(2) موطأ مالك النداء للصلاة (468) .(44/154)
من الفتوى رقم 1777
السؤال: هل علي إثم بقراءة القرآن بدون طهارة لعدم وجود الماء والتراب؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: إذا كنت على الحالة التي ذكرتها جاز لك أن تقرأ القرآن على غير طهارة؛ لعموم قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) ، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة الحج الآية 78(44/154)
من الفتوى رقم 4588(44/154)
السؤال: هل يصح للإنسان أن يقرأ القرآن وهو بدون وضوء، وما هو الدليل، وهل فيه اختلاف، ما هو الراجح؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: يجوز للمسلم أن يقرأ القرآن من غير مس المصحف وهو محدث الحدث الأصغر من غير خلاف بين العلماء؛ لأنه لم يرد في الشرع ما يمنع من ذلك والأصل الجواز، لكن قراءته على وضوء أفضل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/155)
من الفتوى رقم 6505
السؤال: هل تجوز قراءة القرآن وأنا غير جنب لكني غير متوضئ، وهل تجوز وأنا غير مستقبل القبلة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: تجوز قراءته لغير الجنب ولو كان غير متوضئ ولا مستقبل القبلة، لكن لا تمس المصحف إلا وأنت على طهارة من الحدث الأكبر والأصغر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/155)
قراءة من به سلس
من الفتوى رقم 6984
السؤال: إنني أقرأ القرآن، ولم ينشرح صدري إلا بقراءة القرآن، وأنا يمشي معي البول بدون ما أتحكم في نفسي، ولم أستطع الامتناع من البول حيث إنه يمشي باستمرار وغير البول نظيف، فهل يجوز لي قراءة المصحف؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: إذا كان الواقع ما ذكر فلا حرج عليك بقراءة القرآن ومس المصحف وأنت على حالك المذكورة، ولا حرج عليك في الصلاة وحالتك ما ذكرت، لكن تستنجي وتتوضأ لكل صلاة بعد دخول الوقت ولا يضرك ما خرج من البول بعد ذلك، وتغسل ما أصاب بدنك أو ثوبك منه قبل الصلاة، ولا يضرك بعد لو وجد معك في الصلاة، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) ، وقال سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (2) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 286
(2) سورة الحج الآية 78(44/156)
رد السلام على القارئ
من الفتوى رقم 8501
السؤال: هل يجوز عندما يكون الإنسان يقرأ القرآن ويمر شخص ويرد السلام عليه، هل يجوز الامتناع عن القراءة وقطع القراءة ويرد السلام؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: يرد السلام على من سلم عليه، ثم يعود للقراءة جمعا بين الفضيلتين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/157)
من الفتوى رقم 9328
السؤال: إذا دخل الإنسان المسجد وصلى تحية المسجد وعلى يمينه أو يساره رجل يقرأ القرآن، هل يسلم عليه أو يتركه؛ لأنه إن سلم عليه خشي المسلم أن يضيع على القارئ حضور قلبه للقراءة ويأثم المسلم، وإن لم يسلم ربما يكون في قلبه عليه حزازة إن رآه ما سلم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أفشوا السلام بينكم (1) » كما في الحديث، وربما أن القارئ ما يعلم أنه ما ترك السلام إلا خشية أن يضيع عليه حضور قلبه، فأيهما أفضل يسلم أو يتركه ويسلم إذا أقيمت الصلاة؟ جزاكم الله خيري الدنيا والآخرة وأمد في عمركم آمين.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (54) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2688) ، سنن أبو داود الأدب (5193) ، سنن ابن ماجه المقدمة (68) ، مسند أحمد بن حنبل (2/391) .(44/157)
الجواب: السنة أن يسلم عليه؛ لما جاء في الأحاديث الصحيحة من شرعية السلام والمصافحة عند اللقاء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/158)
من الفتوى رقم 9490
السؤال: إنه في يوم من الأيام في صلاة الظهر كان الجماعة في المسجد، وكان فيه شخص يقرأ في الصف الأول في المسجد وإذ بشخص آخر دنا من حوله وصلى ركعتين تحية المسجد ثم سلم وأراد السلام ومصافحة الشخص الذي يقرأ القرآن ومد يده عليه لكي يصافحه فما كان من الشخص الذي يقرأ القرآن إلا أن مد يده اليمنى على عضده الأيسر ولم ينظر لهذا الذي يريد السلام عليه ولا زال يواصل قراءته في المصحف، وفي خلال نصف دقيقة عاد الذي يقرأ القرآن وتحدث في المسجد بصوت عال: لا يجوز السلام والمصافحة على من يقرأ في المسجد أو غير المسجد وكررها مرارا. نرجو من سماحتكم التكرم بالإجابة على هذا السؤال والرد إلينا بأسرع ما يمكن، مع تكرم سماحتكم إعلان ذلك في الوسائل الإعلامية ليكون البعض على يقين بعدم التخبط بإجازة محرم أو تحريم حلال حفظكم الله؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: يجوز بدء قارئ القرآن بالسلام وعليه أن يرد السلام؛ لأنه لم(44/158)
يثبت دليل شرعي على المنع من ذلك، والأصل عموم الأدلة في مشروعية البدء بالسلام والرد على من سلم حتى يثبت ما يخصص ذلك من الأدلة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/159)
من الفتوى رقم 4488
السؤال: خطب أحد الخطباء خطبة ممتازة يشكر عليها وكان هدفها المرأة ما لها وما عليها وحدودها الشرعية وحقوقها وكانت مثيرة جدا، وفي أثناء الخطبة قال (وهو أول نظام علمي) فهل القرآن نظام أو شريعة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: الأولى أن يسمى القرآن بما سماه الله به في كتابه من كونه شريعة ومنهاجا وذكرا وموعظة، أما تسميته نظام فلم يرد ذلك في الكتاب ولا في السنة فيما نعلم، وإن كان قد اشتمل على تنظيم أمور المسلمين في دينهم ودنياهم، وكان الاقتصار على أسمائه التي سماها الله وسماه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - أولى وأحوط، وليس هو أول نظام كما قال الإمام المذكور بل قبله كتب سماوية أوضح الله فيها ما يحتاجه العباد المنزلة عليهم كالتوراة والإنجيل، والقرآن أشرفها وأعظمها وأكملها وقد قال الله سبحانه وتعالى فيه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) .
__________
(1) سورة النحل الآية 89(44/159)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(44/160)
من فتاوى سماحة الشيخ \
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
السؤال الأول: ما حكم تارك الزكاة؟ وهل هناك فرق بين من تركها جحودا أو بخلا أو تهاونا؟
الجواب: بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه وبعد: ففي حكم تارك الزكاة تفصيل. . فإن كان تركها جحدا لوجوبها مع توافر شروط وجوبها عليه كفر بذلك إجماعا ولو زكى ما دام جاحدا لوجوبها. أما إن تركها بخلا أو تكاسلا فإنه يعتبر بذلك فاسقا، قد ارتكب كبيرة عظيمة من كبائر الذنوب، وهو تحت مشيئة الله إن مات على ذلك؛ لقول الله - سبحانه -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) .
وقد دل القرآن الكريم والسنة المطهرة المتواترة على أن تارك الزكاة يعذب يوم القيامة بأمواله التي ترك زكاتها، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، وهذا الوعيد في حق من ليس جاحدا لوجوبها، قال الله - سبحانه - في سورة التوبة: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة التوبة الآية 34
(3) سورة التوبة الآية 35(44/161)
ودلت الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما دل عليه القرآن الكريم في حق من لم يزك الذهب والفضة. كما دلت على تعذيب من لم يزك ما عنده من بهيمة الأنعام - الإبل والبقر والغنم - وأنه يعذب بها نفسها يوم القيامة.
وحكم من ترك زكاة العملة الورقية وعروض التجارة حكم من ترك زكاة الذهب والفضة؛ لأنها حلت محلها وقامت مقامها.
أما الجاحدون لوجوب الزكاة فإن حكمهم حكم الكفرة، ويحشرون معهم إلى النار، وعذابهم فيها مستمر أبد الأباد كسائر الكفرة، لقول الله - عز وجل - في حقهم وأمثالهم في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (1) وقال في سورة المائدة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (2) .
والأدلة في ذلك كثيرة من الكتاب والسنة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 167
(2) سورة المائدة الآية 37(44/162)
السؤال الثاني: رجل عنده عدد من أنواع المواشي لكن لا يبلغ كل نوع منها نصابا بمفرده، فهل فيها زكاة؟ وإن كان كذلك فكيف يخرجها؟(44/162)
الجواب: المواشي من الإبل والبقر والغنم لها نصب معلومة لا تجب فيها الزكاة حتى تبلغها مع توافر الشروط التي من جملتها أن تكون الإبل والبقر والغنم سائمة، وهي الراعية جميع الحول أو أكثره، فإذا كان نصاب الإبل أو البقر أو الغنم لم يكمل فلا زكاة فيها، ولا يضم بعضها إلى بعض، فلو كان عند إنسان ثلاث من الإبل للقنية، وعشرون من الغنم للقنية، وعشرون من البقر للقنية لم يضم بعضها إلى بعض؛ لأن كل جنس منها لم يبلغ النصاب، أما إذا كانت للتجارة فإنه يضم بعضها إلى بعض؛ لأنها والحال ما ذكر تعتبر من عروض التجارة، وتزكى زكاة النقدين. كما نص على ذلك أهل العلم. والأدلة في ذلك واضحة لمن تأملها.(44/163)
السؤال الثالث: هل يجوز للرجلين أو الثلاثة أن يجمعوا مواشيهم من أجل الزكاة؟
الجواب: لا يجوز جمع الأموال الزكوية أو تفريقها من أجل الفرار من الزكاة أو من أجل نقص الواجب فيها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة (1) » خرجه البخاري في صحيحه. فلو كان عند رجل أربعون من الغنم ففرقها حتى لا تجب فيها الزكاة، لم تسقط عنه الزكاة، ويكون بذلك آثما لكونه متحيلا في ذلك على إسقاط ما أوجب الله.
وهكذا جمع المتفرق خشية الصدقة لا يجوز، فلو كان لرجل غنم أو إبل
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1450) ، سنن النسائي الزكاة (2447) ، مسند أحمد بن حنبل (1/11) .(44/163)
أو بقر تبلغ النصاب فضمها إلى إبل أو بقر أو غنم رجل آخر حتى ينقص الواجب عنهما بسبب الخلطة التي لا أساس لها؛ وإنما اختلطا لقصد نقص الواجب عند مجيء عامل الزكاة، لم يسقط عنهما الواجب، وكانا بذلك آثمين، وعليهما إخراج بقية الواجب.
فلو كان لأحدهما أربعون من الغنم، وللآخر ستون من الغنم فاختلطا عند مجيء العامل حتى لا تجب عليهما إلا شاة واحدة لم ينفعهما هذا الاختلاط، ولم يسقط عنهما بقية الواجب لكونه حيلة محرمة. وعليهما شاة أخرى تدفع للفقراء خمسا قيمتها على صاحب الأربعين، وثلاثة أخماسها على صاحب الستين. وهكذا الشاة التي سلما للعامل بينهما على هذه النسبة. وعليهما التوبة إلى الله - سبحانه - وعدم العودة إلى مثل هذه الحيلة.
أما إذا كانت الخلطة للتعاون بينهما وليست حيلة على إسقاط الواجب أو نقصه فلا بأس بها، إذا توافرت شروطها الموضحة في كتب أهل العلم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المذكور آنفا: «وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1451) ، سنن النسائي كتاب الزكاة (2455) ، مسند أحمد بن حنبل (1/12) .(44/164)
السؤال الرابع: رجل عنده مائة من الإبل لكن أغلب السنة يعلفها. . فهل فيها زكاة؟
الجواب: إذا كانت الماشية من الإبل أو البقر أو الغنم ليست سائمة جميع الحول أو أكثره، فإنها لا تجب فيها الزكاة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط في وجوب الزكاة فيها أن تكون سائمة، فإذا أعلفها صاحبها غالب الحول(44/164)
أو نصف الحول فلا زكاة فيها إلا أن تكون للتجارة؛ فإنها تجب فيها زكاة التجارة، وتكون بذلك من عروض التجارة: كالأراضي المعدة للبيع، والسيارات، ونحوها. إذا بلغت قيمة الموجود منها نصاب الذهب أو الفضة. كما تقدم.(44/165)
السؤال الخامس: يختلف تقدير الفقير الذي يعطى من الزكاة من وقت لآخر فما هو الضابط لذلك، وإذا تبين للمعطي أنه وضعها في غير مستحقها، فهل يخرجها مرة أخرى؟
الجواب: يعطى الفقير من الزكاة قدر كفايته لسنة كاملة، وإذا تبين لدافع الزكاة أن المعطى ليس فقيرا لم يلزمه القضاء إذا كان المعطى ظاهره الفقر. للحديث الصحيح الوارد في ذلك، وهو أن رجلا ممن كان قبلنا أعطى إنسانا صدقة يظنه فقيرا، فرأى في النوم أنه غني، فقال: " اللهم لك الحمد، على غني " وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وأخبر أن صدقته قد قبلت.
وقد تقرر في الأصول: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت شرعنا بخلافه، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - تقدم إليه شخصان يطلبان الصدقة فرآهما جلدين، فقال: «إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب (1) » ، ولأن التأكد من حاجة الفقير من كل الوجوه فيه صعوبة ومشقة، فاكتفي في ذلك بظاهر الحال، ودعوى المعطى أنه فقير إذ لم يتبين لدافع الزكاة خلاف ذلك مع بيان الحكم الشرعي له إذا كان ظاهره القوة على الكسب للحديث المذكور.
__________
(1) سنن النسائي الزكاة (2598) ، سنن أبو داود الزكاة (1633) .(44/165)
السؤال السادس: رجل في بلد غير بلده وسرقت دراهمه فهل يعطى من الزكاة بالرغم من أن المعاملات المالية تيسرت في الوقت الحاضر؟
الجواب: هذا المسئول عنه يعتبر من أبناء السبيل، فإذا ادعى الحاجة أو ضياع النفقة أو سرقتها، فإنه يعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده ولو كان غنيا في بلده.(44/166)
السؤال السابع: يشكك بعض الناس في إعطاء الزكاة للمجاهدين المسلمين في البوسنة والهرسك وأمثالهم. فما رأي سماحتكم في ذلك؟ وهل الأولى في هذا الوقت أن تعطى لهم، أو القائمين على المراكز الإسلامية في أنحاء العالم؟ أو فقراء البلد نفسه، ولو كانت حاجة أولئك أكثر؟
الجواب: المسلمون في البوسنة والهرسك مستحقون للزكاة: لفقرهم، وجهادهم، ولكونهم مظلومين، وبحاجة إلى النصر، وتأليف القلوب. وهم من أحق الناس بالزكاة. . وهكذا أمثالهم. وهكذا القائمون على المراكز الإسلامية بالتعليم والدعوة إلى الله إذا كانوا فقراء، وهكذا فقراء المسلمين في العالم يستحقون من إخوانهم الأغنياء أن يواسوهم، ويعطفوا عليهم رحمة لهم، وتأليفا لقلوبهم، وتثبيتا لهم على الإسلام على أن يكون الدفع لهم بواسطة الثقاة الأمناء، وهم جديرون أيضا بالعطف والمساعدة من غير الزكاة للأسباب المذكورة، لكن فقراء البلد التي فيها المزكي أولى من(44/166)
غيرهم بالزكاة إذا لم يوجد لهم ما يسد حاجتهم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن: «ادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم (1) » متفق على صحته.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .(44/167)
السؤال الثامن: من المعلوم أنه حصل خلاف بين أهل العلم في إخراج زكاة الحلي الملبوس أو المعد للبس أو العارية؟ فما رأي سماحتكم في ذلك؟ وعلى فرض القول بوجوب الزكاة في ذلك فهل فيه نصاب؟ وإن كان فيه نصاب فيظهر من الأحاديث الدالة على الوجوب في الحلي التي توعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها بالنار. أنها لا تبلغ نصابا. . فكيف يجاب عن ذلك؟
الجواب: في وجوب زكاة الحلي الملبوس أو المعد للبس أو العارية من الذهب والفضة خلاف مشهور بين العلماء؟ والأرجح وجوبها فيه لعموم الأدلة في وجوب الزكاة في الذهب والفضة، ولما ثبت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن امرأة دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - «أتعطين زكاة هذا؟ فقالت: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار؟ فألقتهما وقالت هما لله ولرسوله (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي الزكاة (637) ، سنن النسائي الزكاة (2479) ، سنن أبو داود الزكاة (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (2/204) .(44/167)
ولما ثبت من حديث أم سلمة - رضي الله عنها - «أنها كانت تلبس أوضاحا من ذهب، فقالت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال - عليه الصلاة والسلام-: ما بلغ أن يزكى فزكي فليس بكنز (1) » ولم يقل لها - صلى الله عليه وسلم-: إن الحلي ليس فيه زكاة.
وكل هذه الأحاديث محمولة على الحلي التي تبلغ النصاب جمعا بينها وبين بقية الأدلة؛ لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، كما أن الآيات القرآنية يفسر بعضها بعضا.
وكما أن الأحاديث تفسر الآيات، وتخص عامها، وتقيد مطلقها؛ لأن الجميع من عند الله سبحانه، وما كان من عند الله فإنه لا يتناقض، بل يصدق بعضه بعضا. ويفسر بعضه بعضا.
وهكذا لا بد من تمام الحول كسائر أموال الزكاة: من النقود، وعروض التجارة، وبهيمة الأنعام. . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن أبو داود الزكاة (1564) .(44/168)
السؤال التاسع: يرد بعض الفقهاء وجوب زكاة الحلي المعد للاستعمال بعدم انتشار ذلك بين الصحابة والتابعين؛ مع أنه مما لا يخلو منه بيت تقريبا، فهو كالصلاة في وجوبها، وتحديد أوقاتها، وكذا الزكاة عموما بوجوبها وتحديد أنصبتها. . الخ. وبالرغم من ذلك فقد ثبت عن بعض الصحابة القول بعدم الوجوب كعائشة - رضي الله عنها - وابن عمر - رضي الله عنهما - وغيرهما، فكيف يجاب عن ذلك؟
الجواب: هذه المسألة كغيرها من مسائل الخلاف المعول فيها وفي غيرها على الدليل، فمتى وجد الدليل الذي يفصل النزاع وجب الأخذ(44/168)
به، لقول الله - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) وقوله - عز وجل -: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) ولا يضر من عرف الحكم الشرعي وقال به من خالفه من أهل العلم.
وقد تقرر في الشريعة أن من أصاب الحكم من المجتهدين المؤهلين فله أجران. . ومن أخطأ فله أجر على اجتهاده، ويفوته أجر الصواب، وقد صح بذلك الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحاكم إذا اجتهد وبقية المجتهدين من أهل العلم بشرع الله حكمهم حكم الحاكم المجتهد في هذا المعنى.
وهذه المسألة قد اختلف فيها العلماء من الصحابة ومن بعدهم، كغيرها من مسائل الخلاف، فالواجب على أهل العلم فيها وفي غيرها بذل الوسع في معرفة الحق بدليله. ولا يضر من أصاب الحق من خالفه في ذلك. وعلى كل واحد من أهل العلم أن يحسن الظن بأخيه وأن يحمله على أحسن المحامل، وإن خالفه في الرأي ما لم يتضح من المخالف تعمده مخالفة الحق، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10(44/169)
السؤال العاشر: رجل يتعامل بأنواع من التجارة كتجارة الألبسة والأواني وغيرها. فكيف يخرج زكاتها؟(44/169)
الجواب: يجب عليه إخراج الزكاة إذا تم الحول على العروض التي عنده المعدة للتجارة إذا بلغت قيمتها النصاب من الذهب أو الفضة للأحاديث الواردة في ذلك، ومنها حديث سمرة بن جندب وأبي ذر الغفاري رضي الله عنهما.(44/170)
السؤال الحادي عشر: انتشر في الوقت الحاضر الاكتتاب في الشركات عن طريق الأسهم فهل في هذه الأسهم زكاة، وكيف تخرج؟
الجواب: على أصحاب الأسهم المعدة للتجارة إخراج زكاتها إذا حال عليها الحول كسائر العروض من الأراضي والسيارات وغيرها،. أما إن كانت للمساهمة في أموال معدة للتأجير لا للبيع كالأراضي والسيارات فإنها لا زكاة فيها، وإنما الزكاة تكون في الأجرة إذا حال عليها الحول، وبلغت النصاب كسائر النقود، والله ولي التوفيق.(44/170)
السؤال الثاني عشر: رجل يعتمد في دخله على المرتب الشهري فيصرف بعضه ويوفر البعض الأخر فكيف يخرج زكاة هذا المال؟
الجواب: عليه أن يضبط بالكتابة ما يدخره من مرتباته، ثم يزكيه إذا حال عليه الحول. . كل وافر شهر يزكى إذا حال عليه الحول. . وإن زكى الجميع تبعا للشهر الأول فلا بأس، وله أجر ذلك، وتعتبر الزكاة معجلة عن الوفر الذي لم يحل عليه الحول.
ولا مانع من تعجيل الزكاة إذا رأى المزكي المصلحة في ذلك. أما تأخيرها بعد تمام الحول فلا يجوز إلا لعذر شرعي: كغيبة المال، أو غيبة الفقراء.(44/170)
السؤال الثالث عشر: توفي رجل وخلف أموالا وأيتاما فهل في هذه الأموال زكاة؟ وإن كان كذلك فمن يخرجها؟
الجواب: تجب الزكاة في أموال اليتامى من النقود، والعروض المعدة للتجارة، وفي بهيمة الأنعام السائمة، وفي الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة، وعلى ولي الأيتام أن يخرجها وقتها، فإن لم يكن لهم ولي من جهة والدهم المتوفى، وجب رفع الأمر إلى المحكمة حتى تعين لهم وليا يتولى شئونهم وشئون أموالهم، وعليه في ذلك تقوى الله والعمل بما فيه صلاحهم وصلاح أموالهم، لقول الله- سبحانه -: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} (1) . وقوله - سبحانه -: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (2) . والآيات في هذا المعنى كثيرة ويعتبر الحول في أموالهم من حين مات والدهم لأنها بموته دخلت في ملكهم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 220
(2) سورة الأنعام الآية 152(44/171)
السؤال الرابع عشر: تعددت في هذا الوقت أنواع المصوغات - كالألماس والبلاتين وغيرهما - المعدة للبس وغيره فهل فيها زكاة؟ وإن كانت على شكل أوان للزينة أو الاستعمال؟ أفيدونا أثابكم الله؟
الجواب: إن كانت المصوغات من الذهب والفضة ففيها زكاة، إذا بلغت النصاب، وحال عليها الحول، ولو كانت للبس أو العارية في أصح(44/171)
قولي العلماء لأحاديث صحيحة وردت في ذلك، أما إن كانت من غير الذهب والفضة كالماس والعقيق، ونحو ذلك فلا زكاة فيها إلا إذا أريد بها التجارة، فإنها تكون حينئذ من جملة عروض التجارة، فتجب فيها الزكاة كغيرها من عروض التجارة، ولا يجوز اتخاذ الأواني من الذهب والفضة ولو للزينة؛ لأن اتخاذها للزينة وسيلة إلى استعمالها في الأكل والشرب، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم - يعني الكفار - في الدنيا ولكم في الآخرة (1) » متفق على صحته.
وعلى من اتخذها زكاتها مع التوبة إلى الله عز وجل، وعليه أيضا أن يغيرها من الأواني إلى أنواع أخرى لا تشبه الأواني: كالحلي، ونحوه.
__________
(1) صحيح البخاري الأطعمة (5426) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2067) ، سنن الترمذي الأشربة (1878) ، سنن النسائي الزينة (5301) ، سنن أبو داود الأشربة (3723) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3414) ، مسند أحمد بن حنبل (5/397) ، سنن الدارمي الأشربة (2130) .(44/172)
السؤال الخامس عشر: هناك بعض المزارع يعتمد أصحابها في الزراعة على الأمطار فهل في محصول هذه الزراعة زكاة؟ وهل يختلف عن غيره الذي يسقى بالمكائن والمواطير؟
الجواب: ما يسقى بالأمطار والأنهار والعيون الجارية من الحبوب والثمار: كالتمر، والزبيب، والحنطة، والشعير، ففيه العشر.
وما يسقى بالمكائن وغيرها ففيه نصف العشر، لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بالسواقي أو النضح نصف العشر (1) » رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
__________
(1) سنن ابن ماجه الزكاة (1818) ، مسند أحمد بن حنبل (5/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1667) .(44/172)
السؤال السادس عشر: تنتج بعض المزارع أنواعا من الفواكه والخضروات فهل فيها زكاة؟ وما هي الأشياء المزروعة التي تدخلها الزكاة؟
الجواب: ليس في الفواكه ونحوها من الخضروات التي لا تكال ولا تدخر كالبطيخ والرمان ونحوهما زكاة، إلا إذا كانت للتجارة، فإنه يزكي ما حال عليه الحول من قيمتها إذا بلغت النصاب، كسائر عروض التجارة.
وإنما تجب الزكاة في الحبوب والثمار التي تكال وتدخر: كالثمر، والزبيب، والحنطة، والشعير، ونحو ذلك. لعموم قوله - تعالى -: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (1) وقوله - تعالى -: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (2) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة (3) » متفق على صحته.
فدل على وجوبها فيما بلغ ذلك من الحبوب التي تكال وتدخر، ولأن أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الزكاة من الحنطة والشعير يدل على وجوبها في أمثالهما والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 141
(2) سورة البقرة الآية 43
(3) صحيح البخاري الزكاة (1447) ، صحيح مسلم الزكاة (979) ، سنن الترمذي الزكاة (626) ، سنن النسائي الزكاة (2476) ، سنن أبو داود الزكاة (1558) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1793) ، مسند أحمد بن حنبل (3/30) ، موطأ مالك الزكاة (576) ، سنن الدارمي الزكاة (1633) .(44/173)
السؤال السابع عشر: اختلفت المكاييل التي تعرف بها الأنصبة في الزكاة فما هو المعتمد في معرفتها في هذا الوقت حيث تجد اختلافا بين علمائنا المعاصرين في تحديدها؟(44/173)
الجواب: العمدة في ذلك على صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو خمسة أرطال وثلث بالعراقي، وأربع حفنات باليدين المعتدلتين المملوءتين. كما نص على ذلك أهل العلم وأئمة اللغة، والله ولي التوفيق.(44/174)
السؤال الثامن عشر: كثير من الناس يتعامل مع البنوك وقد يدخل في هذه المعاملات معاملات محرمة كالربا مثلا فهل في هذه الأموال زكاة، وكيف تخرج؟
الجواب: يحرم التعامل بالربا مع البنوك وغيرها، وجميع الفوائد الناتجة عن الربا كلها محرمة، وليست مالا لصاحبها، بل يجب صرفها في وجوه الخير إذا كان قد قبضها وهو يعلم حكم الله في ذلك.
أما إن كان لم يقبضها فليس له إلا رأس ماله لقول الله - عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) .
أما إن كان قد قبضها قبل أن يعرف حكم الله في ذلك فهي له، ولا يجب عليه إخراجها من ماله، لقول الله - عز وجل-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 275(44/174)
وعليه زكاة أمواله التي ليست من أرباح الربا كسائر أمواله التي يجب فيها الزكاة، ويدخل في ذلك ما دخل عليه من أرباح الربا قبل العلم، فإنها من جملة ماله للآية المذكورة، والله ولي التوفيق.(44/175)
السؤال التاسع عشر: ما حكم صدقة الفطر؟ وهل يلزم فيها النصاب؟ وهل الأنواع التي تخرج محددة؟ وإن كانت كذلك فما هي؟ وهل تلزم الرجل عن أهل بيته بما فيهم الزوجة والخادم؟
الجواب: زكاة الفطر فرض على كل مسلم صغير أو كبير ذكر أو أنثى حر أو عبد، لما ثبت عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير على الذكر والأنثى والصغير والكبير والحر والعبد من المسلمين وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس للصلاة (1) » متفق على صحته.
وليس لها نصاب، بل يجب على المسلم إخراجها عن نفسه وأهل بيته: من أولاده، وزوجاته، ومماليكه، إذا فضلت عن قوته وقوتهم يومه وليلته.
أما الخادم المستأجر فزكاته على نفسه إلا أن يتبرع بها المستأجر أو تشترط عليه أما الخادم المملوك فزكاته على سيده، كما تقدم في الحديث.
والواجب إخراجها من قوت البلد سواء كان: تمرا، أو شعيرا، أو برا، أو ذرة، أو غير ذلك، في أصح قولي العلماء؛ ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط في ذلك نوعا معينا، ولأنها مواساة، وليس على المسلم أن يواسي من غير قوته.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1503) ، صحيح مسلم الزكاة (984) ، سنن الترمذي الزكاة (675) ، سنن النسائي الزكاة (2504) ، سنن أبو داود الزكاة (1611) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1826) ، مسند أحمد بن حنبل (2/102) ، موطأ مالك الزكاة (627) ، سنن الدارمي الزكاة (1661) .(44/175)
السؤال العشرون: ما حكم إخراج صدقة الفطر للمجاهدين في البوسنة والهرسك وغيرها وإن كان الحكم بالجواز، فما هو الأفضل في ذلك؟
الجواب: المشروع إخراجها في فقراء المسلمين في البلد التي فيها المزكي لأنهم أحوج إليها غالبا، ولأنها مواساة لهم حتى يستغنوا بها عن السؤال أيام العيد، وإن نقلت إلى غيرهم من الفقراء أجزأت، في أصح قولي العلماء؛ لأنها بلغت محلها، لكن صرفها في فقراء البلد أولى وأفضل وأحوط.
ويجوز التوكيل في دفعها للفقراء في البلاد وخارجها إذا كان الوكيل ثقة كزكاة المال، ويجوز توكيله في شراء الطعام المجزئ، وتوزيعه على الفقراء، والله ولي التوفيق.(44/176)
الطواف وأهم أحكامه
دراسة فقهية مقارنة
د \ شرف بن علي الشريف (1)
مقدمة:
الحمد لله الذي جعلنا من جيران بيته الحرام، والصلاة والسلام على من أرسله ربه رحمة للأنام، نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن البيت العتيق، وهو الكعبة المشرفة بمكة المكرمة، هو بيت الله عز وجل، أضافه لنفسه تشريفا وتكريما لهذا البيت، قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (2) وقد شرف الله بيته من وجوه كثيرة. شرف الله بقعته وأرضه على غيرها، وبوأ الله مكانه لخليله إبراهيم عليه السلام، وأوجب على المستطيع من المسلمين حجه، وقد جعله الله آمنا؛ يأمن فيه الناس والطير والوحش، وفيه آيات كثيرة، مثل: مقام إبراهيم عليه السلام، وإهلاك من أراده بسوء مثل أصحاب الفيل. وفي هذا البيت من العلامات والدلالات التي تدل على حرمته وتعظيمه الشيء الكثير، ومنها أن الله سبحانه وتعالى جعله قبلة وشرع الطواف به، ولهذا اتفق المسلمون جميعا أنه لا يشرع الطواف إلا بهذا البيت؛ لأن الله
__________
(1) عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة - جامعة أم القرى بمكة المكرمة.
(2) سورة الحج الآية 26(44/177)
أمر به بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) ، ومن طاف بغيره من شجر أو حجر أو قبر أو مسجد فهو ضال، بل من اعتقد الطواف بغيره دينا وقربة لله عز وجل فهو مشرك كافر، نسأل الله العافية.
فهذا الطواف المشروع بالبيت العتيق هو الوحيد في مكة المكرمة، ولا يوجد في غيرها من بقاع العالم، له أحكام كثيرة مهمة، ويجب على المسلمين معرفتها. وحسب اطلاعي لم أجد مؤلفا مستقلا يذكر أحكام الطواف مع أهميتها، وحاجة كثير من المسلمين لها شديدة، وخاصة في هذا العصر الذي كثرت فيه الأخطاء في الطواف؛ لجهل كثير من المسلمين بتعاليم دينهم منها أحكام الطواف، فعزمت متوكلا على الله جل وعلا جمع ما تفرق من أحكام الطواف، ووضعها في بحث مستقل، بعبارة سهلة، أذكر فيه آراء الفقهاء الأربعة مع أدلتها، وبعد الموازنة بين الأدلة أرجح ما عضده الدليل، وقد أذكر بعض الملاحظات المهمة، وقد أذكر إضافات يسيرة، أراها ضرورية لأن توجد في هذا البحث وهي اجتهادات أرجو أن توفق للصواب.
ومنهج البحث دراسة فقهية موضوعية مقارنة، تقوم على الترجيح على أساس قوة الدليل، ويتكون هذا البحث من مقدمة، وفصلين وخاتمة، فالمقدمة أتكلم فيها عن أهمية الكعبة واحترامها عند المسلمين، وعن الطواف وأهمية معرفة أحكامه. أما الفصل الأول فأتكلم فيه عن الطواف
__________
(1) سورة الحج الآية 29(44/178)
وآدابه، والفصل الثاني فقد عقدته لبيان شروط الطواف، وأخيرا ختمت البحث ببيان صفة الطواف، وأسباب الزحام، وإبراز الفائدة التي يجنيها القارئ لهذا البحث.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يوفقني والمسلمين لخدمة دينه، إنه سميع قريب مجيب الدعاء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(44/179)
الفصل الأول
تعريف الطواف وآدابه
الطواف في اللغة: هو الدوران (1) ، وقد ورد في الكتاب العزيز باستعمالات متعددة تؤدي كلها هذا المعنى، من ذلك قوله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} (2) ، وقوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} (3) ، وقوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} (4) وقوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} (5) ، وقوله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} (6) ، وقوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} (7) .
__________
(1) لسان العرب 9 \ 225، معجم لغة الفقهاء ص 293.
(2) سورة القلم الآية 19
(3) سورة الإنسان الآية 19
(4) سورة الطور الآية 24
(5) سورة الواقعة الآية 17
(6) سورة الرحمن الآية 44
(7) سورة الصافات الآية 45(44/179)
وقوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ} (1) وقوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ} (2) ، وقوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (3) ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} (4) ، وقوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} (5) .
أما معناه الاصطلاحي: فهو الدوران حول الكعبة طاعة لله ومنه قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (6) ، وقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (7) .
تقول: طفت أطوف طوفا، وطوافا، والجمع: أطواف، والمطاف: موضع الطواف حول الكعبة.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 71
(2) سورة الإنسان الآية 15
(3) سورة البقرة الآية 158
(4) سورة الأعراف الآية 201
(5) سورة البقرة الآية 125
(6) سورة الحج الآية 26
(7) سورة الحج الآية 29(44/180)
تسمية الطواف شوطا:
قد تقدم معنى الطواف، أما الشوط فهو الجري مرة إلى الغاية، والمراد(44/180)
به: الطوفة حول الكعبة (1) وتسمية الطواف شوطا كرهه الإمام الشافعي (2) رحمه الله، وكره تسميته دورا أيضا، وسبب كراهة إطلاق الشوط أو الدور على الطواف ما روي أن مجاهد كره أن يقال: شوطا أو دورا، فقال الشافعي: (أكره ما كره مجاهد) ، واستدل على ذلك بأن الله تعالى سماه: طوافا، تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (3) ؛ ولذا يقال طواف وطوافان، ولا يقال: شوط أو دور. وبهذا قال جمهور الشافعية (4) تبعا للإمام الشافعي.
وخالف في ذلك بعض الفقهاء وعلى رأسهم النووي رحمه الله تعالى، واختار عدم الكراهية في تسمية الطواف شوطا؛ لأن هذه التسمية وردت على ألسنة الصحابة، وفي الأحاديث الصحيحة منها: حديث ابن عباس المتفق عليه، قال: «. . . أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا ثلاثة أشواط، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم (5) » . قال النووي: (. . . وهذا الذي استعمله ابن عباس مقدم على قول مجاهد) ، وقال: (ثم إن الكراهة إنما ثبتت بنهي الشرع، ولم يثبت في تسميته شوطا نهي، فالمختار أنه لا يكره) (6) .
وما قاله النووي حق؛ لأن روايات الصحابة رضي الله عنهم نطقت
__________
(1) فتح الباري 3 \ 470، مختار الصحاح ص (351) .
(2) الأم 2 \ 150، حاشية الجمل 2 \ 439، أخبار مكة للفاكهي 1 \ 299.
(3) سورة الحج الآية 29
(4) حاشية الجمل 2 \ 439، المجموع 8 \ 55.
(5) صحيح البخاري الحج (1602) ، صحيح مسلم الحج (1266) ، سنن النسائي مناسك الحج (2945) ، سنن أبو داود المناسك (1886) ، مسند أحمد بن حنبل (1/295) .
(6) المجموع 8 \ 55، 56.(44/181)
بشوط، ولو كان مكروها لم يذكروه في رواياتهم؛ لأن العبرة بالمقاصد والمعاني، وليست بالألفاظ والمباني كما قيل.(44/182)
فضل الطواف:
الطواف بالبيت الحرام عبادة من أفضل العبادات والقربات التي شرعها الله في كتابه وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو من أعظم عبادة أهل مكة في النوافل، ومن عبادتهم الدائمة التي امتازوا بها على سائر أهل الأمصار. وقد ورد في فضل الطواف أحاديث نذكر بعضا منها:
1 - عن عبد الله بن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من طاف بالبيت أسبوعا فهو كعدل رقبة (1) » .
2 - عن ابن عمر أيضا قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من طاف بالبيت أسبوعا، لا يضع قدما ولا يرفع أخرى، إلا حط الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة، ورفع له بها درجة (2) » .
3 - عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه (3) » .
4 - عن أبي هريرة أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من طاف بالبيت سبعا ولا يتكلم إلا سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا
__________
(1) مختصر سنن أبي داود 2 \ 382 ذكره ابن القيم. سنن النسائي 5 \ 221.
(2) مختصر سنن أبي داود 2 \ 382 ذكره ابن القيم. سنن النسائي 5 \ 221.
(3) جامع الترمذي بشرح تحفة الأحوذي 3 \ 603، 604 قال الترمذي: (حديث غريب) وقال: (إسناده ضعيف) . انظر سنن ابن ماجه 2 \ 982.(44/182)
حول ولا قوة إلا بالله، محيت عنه عشر سيئات، وكتبت له عشر حسنات، ورفع له بها عشر درجات (1) » .
فهذه الأحاديث تدل بوضوح على فضل الطواف، وكثرة حسنات الطائفين، وهي أحاديث عامة في كل الأوقات. فينبغي لمن كان بمكة أن يكثر من الطواف.
5 - عن عطاء بن السائب، عن ابن عبيد بن عمير عن أبيه: أن ابن عمر كان يزاحم على الركنين (2) ، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، إنك تزاحم على الركنين زحاما ما رأيت أحدا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يزاحم عليه، فقال: إن أفعل، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن مسحهما كفارة الخطايا (3) » وسمعته يقول: «من طاف بهذا البيت سبوعا (5) » ، وسمعته يقول: «لا يضع قدما، ولا يرفع أخرى إلا حط الله عنه بها خطيئة، وكتبت له بها حسنة (6) » ، قال الترمذي: (وهذا حديث حسن) (7) . وقد ذكر بعض العلماء أن الطواف أفضل أركان الحج (8) ، وأفضل أركان العمرة (9) .
__________
(1) نيل الأوطار 5 \ 53.
(2) المقصود بالركنين: الحجر الأسود، والركن اليماني.
(3) سنن الترمذي الحج (959) ، سنن النسائي مناسك الحج (2919) .
(4) سنن الترمذي الحج (959) ، سنن النسائي مناسك الحج (2919) ، سنن ابن ماجه المناسك (2956) ، مسند أحمد بن حنبل (2/95) .
(5) (4) فأحصاه كان كعتق رقبة
(6) سنن الترمذي الحج (959) ، سنن النسائي مناسك الحج (2919) ، سنن ابن ماجه المناسك (2956) .
(7) تحفة الأحوذي 3 \ 604.
(8) حاشية الجمل على شرح المنهج 2 \ 427.
(9) حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب 1 \ 467.(44/183)
ولا شك أن الطواف فضله كبير؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر به في كتابه العزيز، وقد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعلوم قطعا أن الله لا يأمر إلا بما له فضل كبير، وفيه فائدة لنا، ولا يفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ما ينفع في الدنيا والآخرة، ويكفيه فضلا أنه طاعة لله واستجابة لأمره والحمد لله أولا وآخرا.(44/184)
آداب الطواف:
الطواف عبادة لله عز وجل، فينبغي لمن يطوف أن يكثر الدعاء؛ لأن ذلك مستحب في جميع الأحوال، ففي حال تلبسه بهذه العبادة أولى، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدع الحديث إلا ذكر الله تعالى، أو قراءة القرآن، أو أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر، أو ما لا بد له منه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير (1) » .
وينبغي له أن يكون في طوافه خاشعا متخشعا، حاضر القلب، ملازم الأدب بظاهره وباطنه، وفي هيئته، وحركته، ونظره، فإن الطواف صلاة فيتأدب بآدابها ويستشعر بقلبه من يطوف ببيته.
ويلزمه أن يصون نظره عن ما لا يحل النظر إليه، من امرأة، أو شاب حسن الصورة، فإنه يحرم النظر إلى المرأة، والأمرد - الذي لم ينبت له شعر في وجهه - إلا لحاجة شرعية، مثل الأمر بالمعروف، ويصون نظره وقلبه عن احتقار من يراه من الضعفاء والمرضى، ومن يجهل الطواف فيعلمه برفق
__________
(1) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .(44/184)
ويكره له الأكل والشرب في الطواف، وكراهة الشرب أخف، ولا يبطل الطواف بواحد منهما ولا بهما جميعا. روي عن ابن عباس أنه شرب وهو يطوف، قال: (وروي من وجه لا يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرب وهو يطوف) . قال البيهقي: (لعله أراد حديث ابن عباس: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرب ماء في الطواف» ، وهو غريب بهذا اللفظ) (1) .
ويكره للطائف وضع يده على فيه، كما يكره ذلك في الصلاة، إلا أن يحتاج إليه أو يتثاءب؛ فإن السنة وضع اليد على الفم؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع (2) » .
ويكره أن يشبك بين أصابعه أو يفرقع بها، ويكره أن يطوف وهو يدافع البول أو الغائط أو الريح، أو هو شديد التوقان إلى الأكل، وما في معنى ذلك، كما يكره الصلاة في هذه الأحوال.
ويستحب أن يدعو عقب ركعتي الطواف خلف المقام بما أحب من أمر الآخرة والدنيا، وقد روي عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلى خلف المقام ركعتين، ثم قال: «اللهم هذا بلدك، ومسجدك الحرام، وبيتك الحرام، أنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، أتيتك بذنوب كثيرة، وخطايا جمة، وأعمال سيئة، وهذا مقام العائذ بك من النار، فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إنك دعوت عبادك إلى بيتك الحرام، وقد جئت
__________
(1) السنن الكبرى 5 \ 85، ورد عليه ابن التركماني وقال: (إسناد جيد) .
(2) جامع الترمذي بشرح تحفة الأحوذي 2 \ 367.(44/185)
إليك طالبا رحمتك، مبتغيا مرضاتك، وأنت مننت علي بذلك فاغفر لي، وراحمني إنك على كل شيء قدير (1) » .
__________
(1) كشاف القناع 2 \ 484 (التلخيص الحبير في تخريج الرافعي الكبير على الوجيز) بهامش المجموع 7 \ 323.(44/186)
التطوع في المسجد الحرام بالطواف:
يستحب الإكثار من الطواف كل وقت، لأهل مكة ومن دخلها من غيرهم؛ لأن الطواف نسك فريد، اختص به هذا البلد الأمين - مكة المكرمة - دون غيره من بلدان العالم.
إلا أن العلماء رحمهم الله تعالى اختلفوا في التطوع في المسجد الحرام بالصلاة والطواف، أيهما أفضل، والذي عليه جمهورهم: أن الطواف لغير أهل مكة أفضل، أما أهل مكة فالصلاة لهم أفضل؛ لأن الصلاة في نفسها أفضل من الطواف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شبه الطواف بالصلاة، ولكن الغرباء لو اشتغلوا بالصلاة لفاتهم الطواف من غير إمكان التدارك، فكان الاشتغال بما لا يمكن تداركه أولى. وروي هذا القول عن ابن عباس، وعطاء، وسعيد بن جبير ومجاهد (1) . وقال بعض الشافعية (2) ، والحنفية (3) ، والحنابلة (4) : (الطواف أفضل مطلقا) ، واستدلوا بأن الله قدم الطواف على الصلاة في قوله تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (5) .
__________
(1) المجموع 8 \ 56، المغني والشرح الكبير 3 \ 586.
(2) المجموع 8 \ 56، المغني والشرح الكبير 3 \ 586.
(3) حاشية ابن عابدين 2 \ 502.
(4) المغني والشرح الكبير 3 \ 586، الفروع 3 \ 496.
(5) سورة البقرة الآية 125(44/186)
وقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (1) .
والذي يظهر لي أن الطواف عند الكعبة أفضل من التطوع؛ لأن الطواف يشتمل على صلاة ركعتين وزيادة دعاء وذكر، ثم إن الطواف مختص بهذا المكان، أما الصلاة ففي كل مكان طاهر، مما يدل على ذلك أن تحية المسجد الحرام الطواف، وقد بالغ بعض العلماء في تفضيل الطواف على غيره من أعمال الحج، فقد حكي عن القرافي أنه قال: (أفضل أركان الحج الطواف؛ لأنه مشتمل على الصلاة، وهو في نفسه شبيه بها، والصلاة أفضل من الحج، فيكون أفضل الأركان) (2) وقال آخر: (والطواف من حيث ذاته أفضل من صلاة التطوع، ولأنه قربة مستقلة، ومشبه بالصلاة) (3) .
والحق أن جنس الصلاة أفضل من جنس الطواف، والحج كله لا يقاس بالصلاة، التي هي عمود الدين، فكيف يقاس بها بعض أفعاله، لكنه يقال في أفضلية الطواف لمكانه وزمانه فيقدم العمل المفضول في مكانه وزمانه على الفاضل (4) ، لا؛ لأن جنسه أفضل، وهذا ما قصده من فضل الطواف على الصلاة والله أعلم.
__________
(1) سورة الحج الآية 26
(2) حاشية المدني على كنون بهامش الرهوني على الزرقاني 2 \ 436.
(3) حاشية الجمل 2 \ 427.
(4) انظر فتاوى ابن تيمية 26 \ 196.(44/187)
أنواع الطواف:
ذكر العلماء ستة أنواع للطواف منها ثلاثة مشروعة في الحج، وهي كالتالي:
1 - طواف حين دخول مكة، وله عدة أسماء: فيسمى طواف القدوم، وأول العهد، والدخول، واللقاء، والورود، والوارد، والقادم، والتحية، وأشهرها: طواف القدوم.
2 - طواف الإفاضة، ويقال له: طواف الزيارة، والركن، والفرض، والصدر.
3 - طواف الوداع، ويقال له: طواف الصدر، وآخر العهد، ومحله: عند إرادة السفر من مكة بعد قضاء مناسكه كلها.
وهذه الثلاثة مشروعة في الحج، وسأتكلم عنها تفصيلا إن شاء الله تعالى.
4 - ما يتحلل به في فوات الحج.
5 - طواف نذر.
6 - طواف تطوع.(44/188)
أولا: طواف القدوم:
يسن طواف القدوم لكل قادم إلى مكة المكرمة، سواء كان تاجرا أو زائرا أو حاجا أو معتمرا، ونحوهم ممن يدخل مكة من خارجها.
حكم طواف القدوم:
اتفق جمهور الفقهاء على أن طواف القدوم سنة من سنن الحج، لو تركه لم يأثم، ولم يلزمه دم، وبه قال: أبو حنيفة (1) ، والشافعي (2) وأحمد بن حنبل (3) وابن المنذر (4) ، وقال مالك (5) : (طواف القدوم واجب على كل من أحرم من الحل، وكان وقته واسعا غير مضايق للوقوف بعرفة، وليس له عذر، فإذا لم يطف لزمه دم) ، وبه قال أبو ثور (6) .
الأدلة:
استدل من قال طواف القدوم واجب بما يلي:.
«ما روته عائشة رضي الله عنها: أن أول شيء بدأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة أنه توضأ، ثم طاف بالبيت، ثم حج أبو بكر، فكان أول
__________
(1) فتح القدير 2 \ 457، بدائع الصنائع 3 \ 1099.
(2) المجموع 8 \ 19.
(3) المغني والشرح الكبير 3 \ 469، كشاف القناع 2 \ 477.
(4) المجموع 8 \ 19.
(5) جواهر الإكليل 1 \ 173، حاشية على كفاية الطالب الرباني 1 \ 401، أضواء البيان 5 \ 214.
(6) المجموع 8 \ 19.(44/189)
شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم يكن غيره، ثم عمر مثل ذلك، ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت (2) » ، فهذا الحديث يدل على وجوب الطواف، مع قوله: «خذوا عني مناسككم (3) » .
أدلة الجمهور على أن طواف القدوم سنة:
1 - قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (4) ، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار، وقد تعين أن المقصود بهذا الطواف طواف الزيارة بالإجماع، فلا يكون غيره كذلك.
2 - من أسماء هذا الطواف: طواف التحية، والتحية في اللغة: اسم الإكرام، يبتدئ به الإنسان على سبيل التبرع، فلا يدل على الوجوب.
3 - قياسا على تحية المسجد فإنها ليست واجبة، وليس على من تركها شيء، فكذلك طواف القدوم سنة، وليس على من تركه دم.
ومن هذه الأدلة، يتبين أن الراجح قول الجمهور: وهو أن طواف القدوم سنة من فعله أثيب، ومن تركه لا شيء عليه؛ لما تقدم من أدلة. والله أعلم.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 8 \ 219، صحيح البخاري مع فتح الباري 3 \ 477.
(2) وفي لفظ البخاري: ثم لم تكن عمرة، وهي أقرب. (1)
(3) إرواء الغليل 4 \ 271. صحيح.
(4) سورة الحج الآية 29(44/190)
ثانيا: طواف بعد الوقوف بعرفة:
ويقال له: طواف الإفاضة، والزيارة، والركن، والفرض(44/190)
والصدر (1) ، وهذا الطواف هو طواف الفرض الذي لا بد منه، كما قال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) وهو ركن الحج الذي لا يصح الحج إلا به إجماعا (3) ؛ لما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله، إنها حائض قال: حابستنا هي؟ . قالوا: يا رسول الله، أفاضت يوم النحر. قال: اخرجوا (4) » .
فدل هذا الحديث على أن طواف الإفاضة لا يكمل الحج إلا به وكما دل الأمر في الآية المتقدمة على فعله.
حكم طواف الإفاضة، بدايته ونهايته:
أجمع (5) العلماء رحمهم الله تعالى، على أن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، لا يتم الحج إلا به، ولا خلاف (6) بينهم في أن هذا الطواف لا تحديد لانتهاء وقته، ولو بقي خمسين سنة أو أكثر، فإنه يبقى دينا في ذمته ما دام حيا، واتفقوا (7) على أنه يستحب فعله يوم النحر، بعد الرمي
__________
(1) انظر ص (188) من هذا البحث رقم (2) من الهامش.
(2) سورة الحج الآية 29
(3) المجموع 8 \ 22، والإجماع لابن المنذر ص23.
(4) صحيح البخاري مع فتح الباري 3 \ 567.
(5) المغني والشرح الكبير 3 \ 465، أضواء البيان 5 \ 213، صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 58.
(6) المغني والشرح الكبير 3 \ 466، صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 58.
(7) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 58.(44/191)
والنحر، والحلق. وهو أفضل وقت لبدايته؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواه جابر (1) رضي الله عنه، وإنما الخلاف بينهم في أول وقت جواز الطواف وصحته، ولزوم الدم على تأخير الطواف بعد يوم العيد، إلا الحائض فليس عليها دم للتأخير، بالاتفاق للعذر (2) .
فذهب الشافعية (3) والحنابلة (4) . إلى أن أول وقت جواز الطواف هو: بعد منتصف ليلة النحر، ولا جزاء ولا دم على من أخره، وبعدم الجزاء قال: عطاء، وعمرو بن دينار، وابن عيينة وأبو ثور، وأبو يوسف، ومحمد، وابن المنذر (5) فكلهم قالوا: لا دم عليه ولو أخره سنين عديدة إذا أتى به.
واتفق الحنفية (6) والمالكية (7) على أن أول وقت طواف الإفاضة، طلوع الفجر الثاني يوم النحر، فلا يصح قبله. ويلزمه دم عند أبي حنيفة (8) ، إذا أخره عن أيام النحر الثلاثة: (يوم العيد ويومين بعده) ، إذا غربت الشمس من اليوم الثالث ولم يطف؛ لزمه الدم لترك الواجب، عند أبي حنيفة (9) ، ويلزمه الدم عند المالكية إذا أخر الطواف حتى ينتهي شهر
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 8 \ 194.
(2) فتح القدير 3 \ 62.
(3) المجموع 8 \ 224، 282.
(4) كشاف القناع 2 \ 506.
(5) المجموع 8 \ 224.
(6) حاشية رد المحتار 2 \ 518، فتح القدير 2 \ 493، بدائع الصنائع 3 \ 1109.
(7) حاشية على كفاية الطالب الرباني 1 \ 413، أضواء البيان 5 \ 215، 216.
(8) حاشية رد المحتار 2 \ 519، فتح القدير 2 \ 493، بدائع الصنائع 3 \ 1109.
(9) حاشية رد المحتار 2 \ 519.(44/192)
ذي الحجة، وهو الرأي المشهور عندهم والرأي الثاني: يلزمه الدم إذا أخره عن يوم العيد (1) ، أي: إذا أخر طواف الإفاضة إلى اليوم الحادي عشر لزمه دم.
أدلة من يرى جواز الطواف بعد منتصف ليلة النحر:
استدل من قال بصحة طواف الإفاضة بعد نصف ليلة النحر بأدلة منها:
1 - قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) وإذا طاف في أي وقت صح طوافه.
2 - يصح طواف الإفاضة بعد نصف الليل؛ قياسا على الرمي في ابتداء وقته.
3 - ما روت عائشة رضي الله عنها «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت (3) » .
4 - «أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسودة ليلة المزدلفة بالدفع بليل إلى منى (4) » .
5 - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عمن ذبح قبل أن يرمي فقال: إرم
__________
(1) حاشية على كفاية الطالب الرباني 1 \ 413.
(2) سورة الحج الآية 29
(3) مختصر سنن أبي داود 2 \ 404، 405، قال البيهقي: (هذا إسناد صحيح، لا غبار عليه) . قال ابن القيم: (قد أنكر الإمام أحمد هذا الحديث وضعفه) ص 405، المرجع السابق.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 38، 39.(44/193)
ولا حرج، قال: فما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم، ولا أخر، إلا قال: افعل ولا حرج (1) » . وجه الاستدلال من هذا الحديث: أنه ينفي توقيت آخره، وينفي وجوب الدم بالتأخير، ولأنه لو توقت آخره لسقط بمضي آخره كالوقوف بعرفة فلما لم يسقط دل أنه لم يوقت.
أدلة من يرى أن طواف الإفاضة لا يصح قبل يوم النحر:
استدلوا بأدلة منها:
1 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف الإفاضة يوم النحر، بعدما رمى ونحر، كما ثبت ذلك في حديث جابر (2) ، قد قال: «خذوا عني مناسككم» .
2 - ليلة النحر وقت ركن الوقوف بعرفة، فالوقت الواحد لا يكون وقتا لركنين، فلا يصح أن يكون وقتا لطواف الإفاضة.
3 - طواف الإفاضة مؤقت بأيام النحر عند أبي حنيفة، فإذا أخره عنها فقد ترك الواجب، فأوجب ذلك نقصانا فيه، فيجب جبره بالدم، والدليل على أن طواف الإفاضة وقته أيام النحر قوله تعالى:. . . {فَكُلُوا مِنْهَا} (3) ثم قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (4) فكان وقتهما واحدا؛ لأن الله تعالى عطف الطواف على الذبح.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 54.
(2) صحيح مسلم 8 \ 194.
(3) سورة الحج الآية 28
(4) سورة الحج الآية 29(44/194)
والراجح عندي: والله أعلم، أن طواف الإفاضة أول وقته الثلث الأخير ليلة يوم العيد بعد غياب القمر؛ لثبوت إذن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لضعفة أهله وبعض نسائه بالانصراف من مزدلفة، ولحديث أم سلمة وفيه: «ثم مضت فأفاضت (1) » . ولكن الأفضل لوقته بعد طلوع الشمس، وأما آخره فلا حد له، وأما إيجاب الدم فالأصل عدمه حتى يرد الشرع به. والله أعلم.
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (1942) .(44/195)
ثالثا: حكم طواف الوداع:
المغادر لمكة المكرمة لا يخرج عن أن يكون أحد ثلاثة:
1 - أن يغادرها بعد أداء مناسك الحج.
2 - أن يغادرها بعد أداء مناسك العمرة.
3 - أن يغادرها من لم يكن حاجا ولا معتمرا.
وقد اختلف العلماء في ذلك:
فمنهم من يقول: طواف الوداع واجب مستقل يجب على كل خارج من مكة، ومنهم من قال: يجب على الحاج دون المعتمر، فقال أكثر أهل العلم: (طواف الوداع في الحج واجب، يجب بتركه دم) ، وممن قال بهذا القول: الحسن البصري، والحكم، وحماد، والثوري وإسحاق وأبو ثور (1) وبه قال أبو حنيفة (2) وأصح القولين عند الشافعية، وهو المذهب (3) ، وأحمد
__________
(1) المجموع 8 \ 284.
(2) بدائع الصنائع 3 \ 1131.
(3) المجموع 8 \ 254، 284.(44/195)
ابن حنبل (1) .
وقال مالك: طواف الوداع سنة لا شيء في تركه (2) ، وهو القول الثاني عند الشافعية، وبه قال داود وابن المنذر (3) .
أما إذا غادر مكة من فرغ من مناسك العمرة فقد اختلف العلماء في حكم طواف الوداع عليه.
فقال الجمهور من العلماء، وهم الحنفية (4) والمالكية (5) ، وقول للشافعية (6) . وأحد القولين عند الحنابلة (7) : (طواف الوداع للمعتمر مستحب، وليس واجبا، فمن فعله فقد أحسن، ومن تركه لا شيء عليه) .
وقال بعض العلماء من الشافعية (8) والحنابلة (9) بوجوب طواف الوداع على المعتمر. وهؤلاء العلماء هم الذين قالوا: (إن طواف الوداع نسك مستقل يجب على كل من أراد الخروج من مكة: حاجا، أو معتمرا، أو غير حاج
__________
(1) المغني والشرح الكبير 3 \ 469، كشاف القناع 2 \ 513.
(2) المدونة 1 \ 501، المنتقى للباجي 2 \ 294، أضواء البيان 5 \ 214.
(3) المجموع 8 \ 284.
(4) حاشية ابن عابدين 2 \ 525.
(5) مواهب الجليل 3 \ 137.
(6) مغني المحتاج 1 \ 511.
(7) حاشية ابن قاسم على الروض المربع 4 \ 203.
(8) نهاية المحتاج 3 \ 306، 307، مغني المحتاج 1 \ 512.
(9) الروض الندي ص192، حاشية ابن قاسم على الروض المربع 4 \ 203.(44/196)
ولا معتمر؛ لأن طواف الوداع ليس من مناسك الحج والعمرة) .
أما المرأة الحائض والنفساء فقد ذهب العلماء كافة إلى سقوط طواف الوداع عنهما في حج أو عمرة أو غيرهما. وقد حكى ابن المنذر عن عمر وابن عمر، وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - أنهم أمروا الحائض والنفساء بالانتظار في مكة حتى تطهر ثم تطوف للوداع (1) . وقد استدلوا بحديث عائشة - رضي - «أن صفية بنت حيي - زوج النبي - حاضت فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحابستنا هي؟ قالوا: إنها قد أفاضت، قال: فلا إذا (2) » وحديث «ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: رخص للحائض أن تنفر إذا أفاضت (3) » .
فهذان الحديثان يدلان على سقوط طواف الوداع عن الحائض، وهذا يرد على من ألزمها البقاء حتى تطهر ثم تطوف للوداع.
وقد استدل من أوجب طواف الوداع في الحج بما يلي:
1 - ما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض (4) » .
2 - ما رواه ابن عباس أيضا قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» قال
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 9 \ 79.
(2) صحيح البخاري بشرح فتح الباري 3 \ 586 - حديث رقم (1757) .
(3) صحيح البخاري بشرح فتح الباري 3 \ 586، حديث رقم (1760) .
(4) صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري 3 \ 585 حديث رقم (1755) باب (144) .(44/197)
زهير: (ينصرفون كل وجه، ولم يقل: في) (1) .
فهذا الحديث بروايتيه يدل على وجوب طواف الوداع للأمر به، والأمر يدل على الوجوب، وزاد الوجوب تأكيدا استثناء الحائض من الإتيان به؛ لأن الاستثناء لا يكون إلا من أمر مؤكد.
أدلة من لم ير طواف الوداع واجبا:
استدل بما يلي:
1 - ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للحائض في ترك طواف الوداع، ولم يوجب عليها دما، وهذا دليل على عدم وجوب طواف الوداع؛ لأنه لو كان واجبا لأمرها بجبره بدم، ولكنه لم يأمرها بشيء، فدل ذلك على أنه سنة ولا شيء على من تركه.
2 - قياسا على طواف القدوم، فإن طواف القدوم، وطواف الوداع يأتي بهما الأفقي دون المكي، وما هو من الواجبات فالأفقي والمكي فيه سواء، فدل سقوط طواف الوداع عن المكي أنه سنة، وليس واجبا ولا شيء على من تركه.
أما من قال بوجوب طواف الوداع على كل خارج من مكة: حاجا، أو معتمرا، أو غيرهما فقد استدل بعمومات الأحاديث السابقة عن ابن عباس.
ويظهر لي أن هذا القول فيه حرج ومشقة لو ألزمنا كل خارج من مكة بطواف الوداع. لكن عموم الأحاديث مخصص بحج أو عمرة، والله أعلم.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 79.(44/198)
الترجيح
والذي يترجح عندي هو: القول بأن طواف الوداع واجب في الحج لقوة أدلة من قال بذلك، فإنه قد اجتمع فيه ثلاثة أمور تدل على وجوبه:
أولها: أنه مأمور به بقول ابن عباس رضي الله عنهما: «أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت (1) » ، وهذا الحديث له حكم الرفع، وهو حديث صحيح متفق عليه، يدل على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بطواف الوداع.
ثانيها: أنه منهي عن تركه في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -:. . . «لا ينفرن (2) » . وهو دليل على منع الخروج من مكة دون وداع، وهو ظاهر في وجوب طواف الوداع؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه (3) » .
ثالثها: أنه رخص للحائض ونحوها في تركه، ولا تكون الرخصة إلا مقابل عزيمه، فدل ذلك على وجوبه، وإن لم يطف للوداع جبره بدم كواجبات الحج الأخرى.
أما قياس طواف الوداع على طواف القدوم في إتيان الأفقي بهما دون المكي فهو قياس مع الفارق؛ لأن المكي والأفقي سواء في واجبات الحج إذا كانت العلة مشتركة، وهاهنا ليست العلة مشتركة؛ لأن علة هذا الطواف التوديع للخارج من مكة وهو: الأفقي، وليست هذه العلة موجودة في المكي فافترقا.
وأما الاستدلال بترخيص النبي - صلى الله عليه وسلم - للحائض على عدم وجوبه فهو استدلال
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1755) ، صحيح مسلم الحج (1328) ، مسند أحمد بن حنبل (6/431) ، سنن الدارمي المناسك (1934) .
(2) صحيح مسلم الحج (1327) ، سنن أبو داود المناسك (2002) ، سنن ابن ماجه المناسك (3070) ، سنن الدارمي المناسك (1932) .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 101.(44/199)
في غير محله، بل أنه يدل على الوجوب، كما ورد به منطوق النص صريحا.
أما طواف الوداع للعمرة فالأحوط والأولى أن يؤتى به ولا ينبغي التساهل فيه والتقليل من شأنه، خروجا من خلاف من أوجبه، لكن إن منعه زحام شديد؛ كزحام ليلة سبع وعشرين من رمضان أو كان له عذر ظاهر فلا شيء عليه؛ لأنه لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به، وإنما الأحاديث التي وردت بالأمر به في الحج، والعمرة تخالف الحج في الأركان والواجبات. ولم يعرف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوجب طواف الوداع في عمره التي اعتمرها.
ويرد على الذين ألزموا الحائض المقام في مكة حتى تطهر ثم تطوف للوداع بما ورد من أحاديث تقدمت لا تلزم الحائض بطواف الوداع، وإذا ثبت إلزامهم لها بالبقاء حتى تطوف للوداع فيظهر لي أنهم استحبوا بقاءها ولم يروه ملزما؛ لأن حديث عائشة - رضي الله عنها - المتقدم نص في محل النزاع، ولا اجتهاد مع وجود نص. وقد ذكر ابن حجر - رحمه الله - نقلا عن ابن المنذر ثبوت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك، قال ابن حجر: (وبقي عمر فخالفناه؛ لثبوت حديث عائشة) (1) .
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 3 \ 587.(44/200)
الفصل الثاني
شروط الطواف
الشرط الأول: النية في الطواف:
لا خلاف بين العلماء - رحمهم الله - تعالى أن النية شرط في الطواف، إن كان في غير حج أو عمرة (1) كسائر العبادات الأخرى، من صوم وصلاة ونحوها فلا تصح بدون نية.
أما إن كان الطواف في حج أو عمرة، فقد اختلف العلماء في اشتراط النية فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها شرط مطلقا.
القول الثاني: أنها ليست بشرط مطلقا.
القول الثالث: فصل فقال: إن ما كان من أمور الحج محتاجا إلى فعل كالطواف، والسعي، والرمي فتشترط فيه النية، وما كان محتاجا إلى لبث فقط كالوقوف بعرفة فلا تشترط له النية.
__________
(1) المجموع (8 \ 16) ، النيات في العبادات ص (342) ، رسالة دكتوراة للدكتور عمر سليمان الأشقر.(44/201)
فالقول الأول: قال به جمهور العلماء، ومنهم الحنابلة (1) ، وإسحاق وأبو ثور، وابن القاسم المالكي، وابن المنذر (2) ، ووجه عند الشافعية (3) ، فقالوا: لا يصح الطواف إلا بنية؛ لأنه عبادة تتعلق بالبيت، فاشترطت لها النية، ولأنه صلاة كما ورد في الحديث: «الطواف بالبيت صلاة (4) » ، والصلاة لا تصح بدون نية.
والقول الثاني: قال به أبو حنيفة (5) ، ومالك (6) ، والثوري (7) ، والقول الأصح عند الشافعية (8) ، فقالوا: لا تشترط النية. واستدلوا بقولهم: أن نية النسك حجا أو عمرة، تشمل جميع أفعاله، فسائر أعمال الحج: مثل الوقوف بعرفة، والمبيت بمزدلفة، والرمي لا تفتقر إلى نية؛ لأن نية الحج تكفي فيها، فكذلك الطواف، ولأن نية العبادة تشمل جميع أجزائها، فكما لا يحتاج كل ركوع، وسجود من الصلاة إلى نية خاصة لشمول نية الصلاة لجميع ذلك، فكذلك لا تحتاج أفعال الحج لنية تخص كل واحد منها لشمول نية الحج لجميعها.
والقول الثالث: الذي قال بالتفصيل، فما يحتاج من أعمال الحج إلى
__________
(1) كشاف القناع (2 \ 485) ، غاية المنتهى (1 \ 426) ، الشرح الكبير مع المغني (3 \ 398) .
(2) المجموع (8 \ 18) .
(3) المجموع (8 \ 18) .
(4) سنن الدارمي (2 \ 44) ، سنن النسائي (5 \ 222) .
(5) تبيين الحقائق (2 \ 37) ، بدائع الصنائع (3 \ 1101) أصل النية شرط دون التعيين.
(6) مواهب الجليل (3 \ 88، 89) .
(7) المجموع (8 \ 18) .
(8) المجموع (8 \ 20) .(44/202)
لبث لا يحتاج إلى نية، وما يحتاج إلى فعل يفتقر إلى نية، قال به أبو علي بن أبي هريرة من الشافعية (1) ولم يذكر له دليلا.
والراجح عندي من هذه الأقوال الثلاثة: أولها وهو اشتراط النية مطلقا، لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (2) ، فهذه الآية دليل على وجوب النية في العبادات، فإن الإخلاص من عمل القلب، وهو الذي يراد به وجه الله تعالى لا غيره (3) ، ولما ورد في الحديث الصحيح «الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى (4) » ، فهذا الحديث يدل على أن الأعمال الشرعية معتبرة بالنية، والطواف منها.
وللأدلة التي ذكرها من اشترط النية مطلقا، أما ما استدل به من لم يشترط النية، قياسا على بقية أعمال المناسك فيبدو لي أنه قياس غير صحيح؛ لأن الطواف يختلف عن بقية أعمال الحج الأخرى لجواز تكراره، ولأنه يشتمل على أفعال وأقوال، وكذلك قياس الطواف على الركوع والسجود في الصلاة لا يصح؛ لأن الصلاة فعل متصل بدون انقطاع، بخلاف الطواف في الحج فإنه ينفصل عن أعمال الحج زمنا طويلا فلا يقاس المنفصل على المتصل مع أن هذه القياسات معارضة بالنصوص المتقدمة فصح يقينا اشتراط النية لكل طواف في الحج أو العمرة أو غيرهما، والله أعلم.
__________
(1) المجموع (8 \ 17) .
(2) سورة البينة الآية 5
(3) تفسير القرطبي (10 \ 7234) .
(4) صحيح البخاري مع فتح الباري (1 \ 135) .(44/203)
الشرط الثاني: الطهارة للطواف
اختلف العلماء في لزوم الطهارة للطواف، وكان خلافهم على ثلاثة آراء كما يلي:
الرأي الأول: يقول: إن الطهارة - من الحدث الأصغر أو الأكبر والنجاسة - شرط لصحة الطواف: فمن طاف محدثا لا يجزئه طوافه، ولا يعتد به، سواء كان طوافه ركنا، أو واجبا، أو نافلة.
قال بهذا القول أكثر العلماء، قال النووي: حكاه الماوردي عن جمهور العلماء، حكاه ابن المنذر عن عامة العلماء في طهارة الحدث (1) .
وممن قال بهذا: الإمام مالك وأصحابه والإمام الشافعي وأصحابه (2) ، والقول المشهور في مذهب الإمام أحمد، وبه قال أكثر أصحابه، واقتصر عليه كثير منهم (3) ، قال الماوردي: وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد، وعليه الأصحاب (4) . وخص ابن حزم اشتراط الطهارة للمرأة الحائض (5) .
__________
(1) المجموع (8 \ 17) .
(2) نهاية المحتاج (3 \ 269) ، حاشية الشرقاوي (1 \ 470) ، حاشية الجمل (2 \ 470) ، المجموع (8 \ 17) .
(3) كشاف القناع (2 \ 485) ، غاية المنتهى ص (426) ، الروض الندي ص (184) ، المغني والشرح الكبير (3 \ 390) .
(4) الإنصاف (4 \ 16) .
(5) المحلى (7 \ 256) ، قال: الطواف بالبيت على غير طهارة جائز إلا على الحائض فقط.(44/204)
فعلى هذا القول: الطهارة من الحدث الأصغر، والأكبر، والنجاسة في البدن، والثوب، والمطاف شرط لصحة الطواف، فلو طاف محدثا أو عليه جنابة، أو في بدنه، أو ثوبه، أو مطافه نجاسة لم يصح طوافه.
والرأي الثاني: يقول: إن الطهارة للطواف واجبة، يجبر تركها بدم على تفصيل في الدم الواجب.
وإليه ذهب الإمام أبو حنيفة وأكثر أصحابه (1) ، ورواية عن الإمام أحمد (2) ، ونصرها ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (3) .
فعلى هذا القول عند أبي حنيفة وأصحابه: لو طاف جنبا أو محدثا، أو عليه نجاسة صح طوافه وجبره بدم، إن لم يستطع أن يتطهر ويعيد ما دام موجودا في مكة؛ لأن إعادة الطواف جبر له بجنسه، وجبر الشيء بجنسه أولى؛ لأن الجبر فيه أتم وإن لم يتمكن من إعادة الطواف حتى رجع إلى أهله لزمه جبران النقص فإن كان الطواف تطوعا فعليه صدقة.
وخالف السرخسي في ذلك، وقال: ليس لطواف التحية محدثا، ولا جنبا شيء (4) .
أما إن كان الطواف ركنا، أو واجبا فعليه شاة إذا طاف وهو محدث، وإن طاف وهو جنب فعليه بدنة؛ لأن الجنابة أغلظ من الحدث فيجب
__________
(1) بدائع الصنائع (3 \ 1099) ، فتح القدير (3 \ 49) ، المبسوط (4 \ 34)
(2) المقنع (1 \ 445) ، المغني والشرح الكبير (3 \ 390) ، حاشية ابن القاسم على الروض المربع (4 \ 109) .
(3) فتاوى ابن تيمية (26 \ 123) ، إعلام الموقعين (3 \ 31، 36، 26، 27) .
(4) بدائع الصنائع (3 \ 1099) ، فتح القدير (3 \ 49) ، المبسوط (4 \ 34) .(44/205)
جبرانها بالبدنة إظهارا للتفاوت (1) .
وعند الإمام أحمد على هذا القول: أنه إذا طاف على غير طهارة فإن طوافه يصح ويجبره بدم، ورواية أخرى عنه: يصح من ناس للحدث ومعذور فقط وعنه يصح من الحائض وتجبره بدم (2) .
الرأي الثالث: ويرى أن الطهارة للطواف سنة (3) وإليه ذهب الإمام أحمد في قول، وبعض أصحاب أبي حنيفة (4) في النجاسة الحقيقية لا الحكمية. وهو اختيار ابن تيمية في أن الطهارة من الحدث لا تشترط في الطواف، ولا تجب ولكن تستحب فيه الطهارة الصغرى (5) .
وقد استدل من قال باشتراط الطهارة للطواف بأدلة كثيرة كلها تدور على الأسس التالية:
1 - فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - للطهارة من أجل الطواف.
2 - نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الحائض عن الطواف مع تجويزه لها أن تباشر بقية مناسك الحج.
__________
(1) بدائع الصنائع (3 \ 1099) .
(2) الإنصاف (4 \ 16) ، المقنع (1 \ 445) ، إعلام الموقعين (3 \ 33) ، فتاوى ابن تيمية (26 \ 123) .
(3) تنبيه: الخلاف بين أصحاب أبي حنيفة في الوجوب والسنة لفظي؛ لأنهم جميعا يقولون بوجوب الدم
(4) فتح القدير 3 \ 49، بدائع الصنائع 3 \ 1099
(5) فتاوى ابن تيمية 26 \ 199.(44/206)
3 - إلحاق الطواف بالصلاة، وتشبيهه بها.
4 - كون الطواف عبادة متعلقة بالبيت.
وفيما يلي نذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنة، والقياس:
1 - استدلوا بقوله تعالى:. . . {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} (1) فإن الآية تدل في الجملة على الأمر بالطهارة للطائفين.
2 - حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «أول شيء بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة أنه توضأ، ثم طاف بالبيت (2) » .
وجه الاستدلال: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ ثم طاف، وقد قال في الحج: «لتأخذوا مناسككم (3) » ، وهذا أمر يدل على الوجوب، فلما توضأ للطواف، لزمنا أن نأخذ عنه الوضوء للطواف امتثالا لأمره، ولأن فعله في الطواف بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (4) وقد تقرر في الأصول: أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لبيان نص من كتاب الله، فهو على اللزوم والتحتم (5) فدل ذلك على اشتراط الطهارة للطواف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بينه بفعله وقال: «خذوا عني مناسككم» ، ومن فعله الذي بينه: الوضوء للطواف، ولم يرد دليل يخالف ذلك فثبت أن الطهارة للطواف شرط.
__________
(1) سورة الحج الآية 26
(2) صحيح البخاري مع فتح الباري 3 \ 496، صحيح مسلم بشرح النووي 8 \ 220.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 45.
(4) سورة الحج الآية 29
(5) أضواء البيان 5 \ 202، 203(44/207)
3 - عن عائشة قالت: «خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نذكر إلا الحج فلما جئنا سرف طمثت، فدخل علي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك؟ قلت: لوددت والله أني لم أحج العام. قال: لعلك نفست؟ قلت: نعم، قال: فإن ذلك شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري (1) » ، وفي رواية مسلم «أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي (2) » .
هذا الحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل؛ لأن النهي في العبادات يقتضي الفساد، وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته، وفي معنى الحائض: الجنب والمحدث، وهو قول الجمهور، ذكره ابن حجر، (3) وذكره الزرقاني في شرحه على الموطأ نصا (4) قال النووي: (فيه دليل على أن الطواف لا يصح من الحائض، وهذا مجمع عليه لكن اختلفوا في علته على حسب اختلافهم في اشتراط الطهارة للطواف (5) .
4 - «عن عائشة أن صفية حاضت فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وإنها لحابستنا، فقالوا: يا رسول الله، قد زارت يوم النحر، قال: فلتنفر معكم (6) » وهذا دليل يعضد حديث عائشة، ويدل على أن الحائض تنتظر حتى تطهر ثم تطوف، وهذا يدل على اشتراط الطهارة.
__________
(1) صحيح البخاري مع فتح الباري 3 \ 504، 1 \ 407، كتاب الحيض حديث رقم (305)
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 8 \ 147
(3) فتح الباري 3 \ 505
(4) شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك 2 \ 313.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 8 \ 147.
(6) صحيح مسلم بشرح النووي 8 \ 81(44/208)
5 - روى الترمذي في جامعه: عن طاوس عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير (1) » ، قال الترمذي: (روي مرفوعا وموقوفا) ، (2) وقال الزيلعي في نصب الراية: (رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك، وسكت عنه، وأخرجه الترمذي، وعن الحاكم رواه البيهقي، وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في [الإمام] : (روي مرفوعا وموقوفا) (3) وقال ابن حجر في [التلخيص الحبير] : (صححه ابن السكن، وابن خزيمة، وابن حبان) (4) .
وله طريق أخرى مرفوعة أخرجها الحاكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال الله لنبيه: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (5) فالطواف مثل الصلاة، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الطواف بمنزلة الصلاة إلا أن الله قد أحل فيه المنطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير (6) » وصحح إسناده، وهو كما قال فإنهم ثقات (7) .
وروى النسائي وأحمد من طريق ابن جريج عن الحسن بن مسلم عن طاوس عن رجل أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الطواف صلاة، فإذا طفتم فأقلوا الكلام (8) » وهذا الرواية صحيحة، وهي تعضد رواية عطاء بن السائب وهو الأول عند الترمذي، وترجح الرواية المرفوعة، والظاهر أن المبهم
__________
(1) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .
(2) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 4 \ 23
(3) نصب الراية 3 \ 57
(4) التلخيص الحبير بحاشية المجموع 2 \ 96.
(5) سورة الحج الآية 26
(6) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .
(7) التلخيص الحبير بحاشية المجموع 2 \ 99.
(8) سنن النسائي مناسك الحج (2922) ، مسند أحمد بن حنبل (3/414) .(44/209)
فيها هو ابن عباس، وعلى تقدير أن يكون غيره فلا يضر إبهام الصحابة (1) . رواه الطبراني في معجمه الأوسط عن طاوس عن ابن عمر: لا أعلمه إلا عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «الطواف صلاة، فأقلوا فيه الكلام (2) » فدلت هذه الروايات على أن الطهارة شرط لصحة الطواف؛ لأن (الطواف صلاة) يدل على أنه يشترط في الطواف ما يشترط في الصلاة، إلا ما أخرجه دليل خاص، كالمشي في الطواف، والانحراف عن القبلة، والكلام ونحوها.
قال النووي: (الصحيح أنه موقوف على ابن عباس، وتحصل منه الدلالة أيضا، لأنه قول صحابي اشتهر، ولم يخالفه أحد من الصحابة فكان حجة، وقول الصحابي حجة أيضا عند أبي حنيفة) (3) .
6 - الطواف عبادة متعلقة بالبيت، فكانت الطهارة شرطا لها كالصلاة.
وقد استدل من لم يشترط الطهارة بأدلة من الكتاب الكريم، والسنة والقياس، وفتاوى بعض علماء السلف، وهي كما يلي:
أولا: من القرآن الكريم:
1 - قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (4) وجه الاستدلال من هذه الآية كما قرره علماء الحنفية: أن الله تعالى أمر بالطواف نصا،
__________
(1) التلخيص الحبير بحاشية المجموع 2 \ 100.
(2) نصب الراية 3 \ 58
(3) المجموع 8 \ 18
(4) سورة الحج الآية 29(44/210)
وهو: الدوران حول الكعبة من غير قيد الطهارة، وذلك يتحقق من المحدث والطاهر فاشتراط الطهارة يكون زيادة على النص، ومثل هذه الزيادة لا تثبت بخبر الواحد، ولا بالقياس، ولا تجوز الزيادة على النص بخبر الواحد؛ لأنها نسخ له (1) .
ثانيا: من السنة والآثار:
1 - ما رواه سعيد بن منصور: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر عن عطاء قال: حاضت امرأة وهي تطوف مع أم المؤمنين عائشة - رضي - فأتمت بها عائشة سنة طوافها. وهذا يدل على أن عائشة لم تشترط الطهارة للطواف، والناس إنما تلقوا منع الحائض من الطواف من حديث عائشة (2) .
2 - ما رواه أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة قال: (سألت حمادا ومنصورا عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة فلم يروا به بأسا) (3) .
ثالثا: القياس:
قياسا على أركان الحج وواجباته فإنها لا تشترط لها الطهارة، فكذلك الطواف لا تشترط له الطهارة.
رابعا: فتاوى بعض السلف:
1 - أفتى عطاء بأن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها.
__________
(1) المبسوط 4 \ 34، فتح القدير 3 \ 49، 50.
(2) إعلام الموقعين 3 \ 33.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية 26 \ 182.(44/211)
وهذا يدل على أنه لم يشترط الطهارة لصحة الطواف (1) .
2 - روي عن عطاء: (إذا طافت المرأة ثلاثة أطواف فصاعدا، ثم حاضت، أجزأ الطواف) (2) .
3 - قال ابن أبي شيبة: حدثنا غندر، حدثنا شعبة: (سألت الحكم وحمادا، ومنصورا، وسليمان عن الرجل يطوف بالبيت على غير طهارة، فلم يروا به بأسا) (3) .
الجواب عن دليل الحنفية:
1 - الآية عامة فيجب تخصيصها بما ذكرناه من أدلة.
2 - أن الطواف بغير طهارة مكروه عند أبي حنيفة، ولا يجوز حمل الآية على طواف مكروه؛ لأن الله تعالى لا يأمر المكروه.
والجواب عن قياسهم على الوقوف وغيره أن الطهارة ليست واجبة في غير الطواف من أركان الحج فلم تكن شرطا بخلاف الطواف فإنهم سلموا وجوبها فيه على الراجح عندهم، واعتبار الزيادة على النص نسخا له قاعدة غير مسلمة على إطلاقها؛ لأن الزيادة لا تعتبر نسخا إلا إذا أثبتت شيئا نفاه المتواتر، أو نفت شيئا أثبته، أما إن كانت الزيادة زيد فيها شيء لم يتعرض له النص المتواتر، فهي زيادة مسكوت عنه لم ترفع حكما شرعيا، وإنما رفعت
__________
(1) إعلام الموقعين 3 \ 31. لم يعقب عليه ابن حجر بتصحيح ولا تضعيف.
(2) إعلام الموقعين 3 \ 31.
(3) فتح الباري 3 \ 505.(44/212)
البراءة الأصلية التي هي الإباحة العقلية، ورفعها ليس بنسخ (1) .
مناقشة أدلة من يشترط الطهارة:
قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تطوفي بالبيت (2) » لا يخرج معناه عن أربعة تقادير:
1 - إما أن تكون الحائض ممنوعة من دخول المسجد والطواف لا يكون إلا في المسجد.
2 - وإما أن تكون عبادة الطواف لا تصح مع الحيض كالصلاة.
3 - أو لمجموع الأمرين.
4 - أول لكل واحد من الأمرين، فإن قيل المعنى الأول لم يمنع صحة الطواف مع الحيض كما قاله أبو حنيفة ومن وافقه، وكما هو إحدى الروايتين عن أحمد، وعلى هذا فلا يمتنع الإذن لها في دخول المسجد لهذه الحاجة التي تلتحق بالضرورة، ويقيد بها مطلق نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس بأول المطلق قيد بأصول الشريعة وقواعدها وإن قيل بالمعنى الثاني، فغايته أن تكون الطهارة شرطا من شروط الطواف فإذا عجزت عنها سقط اشتراطها، كما لو انقطع دمها، وتعذر عليها الاغتسال والتيمم فإنها تطوف على حسب حالها، كما تصلي بغير طهور (3) .
فإن قيل يجوز أن تكون علة النهي عن طوافها وهي حائض، أن الحائض لا تدخل المسجد، قلنا: هذا فاسد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «حتى
__________
(1) أضواء البيان 5 \ 212.
(2) صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود المناسك (1778) ، سنن ابن ماجه المناسك (3000) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) ، موطأ مالك الحج (940) .
(3) إعلام الموقعين 3 \ 26.(44/213)
تغتسلي (1) » ولم يقل حتى ينقطع دمك وهو ظاهر. ذكره النووي (2) .
مناقشة حديث: «الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت. . . (3) » .
1 - هذا الحديث من جنس قوله: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (4) » فإباحة الطواف للضرورة لا تنافي تحريمه بذلك النص، كإباحة الصلاة بلا وضوء للضرورة بالتيمم، بل وبلا وضوء ولا تيمم للضرورة (5) .
ويرى ابن تيمية رحمه الله أن الحائض تفعل ما تقدر عليه، ويسقط عنها ما تعجز عنه. قال: (وهذا هو الذي تدل عليه النصوص المتناولة لذلك، والأصول المشابهة له، وليس في ذلك مخالفة للأصول) .
والنصوص التي تدل على وجوب الطهارة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت (6) » إنما تدل على الوجوب مطلقا، كقوله: «إذا أحدث أحدكم فلا يصلي حتى يتوضأ (7) » وقوله: «لا يطوف بالبيت عريان (8) » . وأمثال ذلك من النصوص.
وقد علم أن وجوب ذلك جميعه مشروط بالقدرة، كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (9) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (10) » .
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1211) .
(2) المجموع 8 \ 18.
(3) سنن الترمذي الحج (945) ، مسند أحمد بن حنبل (6/137) .
(4) صحيح البخاري الحيل (6954) ، صحيح مسلم الطهارة (225) ، سنن الترمذي الطهارة (76) ، سنن أبو داود الطهارة (60) ، مسند أحمد بن حنبل (2/308) .
(5) مجموع فتاوى ابن تيمية 26 \ 201.
(6) سنن الترمذي الحج (945) ، مسند أحمد بن حنبل (6/137) .
(7) سنن أبو داود الطهارة (205) ، مسند أحمد بن حنبل (1/86) ، سنن الدارمي الطهارة (1141) .
(8) سنن الترمذي تفسير القرآن (3092) .
(9) سورة التغابن الآية 16
(10) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .(44/214)
2 - غاية ما في الطهارة أنها شرط في الطواف، ومعلوم أن كونها شرطا في الصلاة، أو كد منها في الطواف، وشروط الصلاة تسقط بالعجز فإنه يجوز للمصلي أن يصلي عريانا، ومع الحدث والنجاسة في صورة المستحاضة ويصلي مع الجنابة، وحدث الحيض مع التيمم، وإذا كانت شروط الصلاة تسقط بالعجز، فسقوط شروط الطواف بالعجز أولى وأحرى.
3 - أن من قال باشتراط الطهارة للطواف وأوجبها لا معارضة بينه وبين قولنا، فإن قولهم المقصود به حال القدرة، والسعة وقولنا حال الضرورة، والعجز، وهذا القول لا ينافي نص الشارع، وكلام الأئمة، وغاية المفتي به أنه يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد شريعته، وأصولها.
4 - القياس على طواف الوداع، فكما يسقط طواف الوداع عن الحائض بالنص فكذلك طواف الأفاضة.
قال ابن القيم: (إن القول باشتراط طهارة الحدث للطواف لم يدل عليه نص ولا إجماع، بل فيه النزاع قديما وحديثا) (1) .
قال ابن تيمية: (لم ينقل أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر الطائفين بالوضوء، ولا باجتناب النجاسة، كما أمر المصلين بالوضوء) (2) .
حديث: «الطواف بالبيت صلاة (3) » . . . يرد عليه بما يلي:
ناقش ابن تيمية هذا الحديث فقال: (إن الطواف يشبه الصلاة من
__________
(1) إعلام الموقعين 3 \ 31.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 26 \ 176.
(3) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .(44/215)
بعض الوجوه، وليس كالصلاة من كل الوجوه) (1) .
فالوضوء للصلاة معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، ومن أنكره فهو كافر. ولم ينقل شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وجوب الوضوء للطواف ومنع الحائض لا يستلزم منع المحدث (2) .
والاحتجاج بحديث: «الطواف بالبيت صلاة. . . (3) » على وجوب الطهارة الصغرى للطواف حجة ضعيفة، فإن غايته أن يشبه بالصلاة في بعض الأحكام، وليس المشبه كالمشبه به من كل وجه، وإنما أراد أنه كالصلاة في اجتناب المحظورات التي تحرم خارج الصلاة، فأما ما يبطل الصلاة وهو الكلام والأكل والشرب والعمل الكثير، فليس شيء من هذا مبطلا للطواف. . . (4) .
إلى أن قال: (فمن أوجب له الطهارة الصغرى فلا بد له من دليل شرعي، وما أعلم ما يوجب ذلك. . .) (5) ثم قال: (. . . والطواف لا يجب فيه ما يجب في الصلاة، ولا يحرم فيه ما يحرم في الصلاة، فيبطل أن يكون مثلها) (6) أو أن يكون التشبيه في الثواب لا في الأحكام.
مناقشة القياس:
ما ذكروا من القياس أن الطواف عبادة متعلقة بالبيت فكانت الطهارة وغيرها شرطا فيها كالصلاة، هذا قياس فاسد، فإنه يقال: لا نسلم أن
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 26 \ 212.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 26 \ 194893.
(3) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية 26 \ 198.
(5) مجموع فتاوى ابن تيمية 26 \ 199
(6) مجموع فتاوى ابن تيمية 26 \ 212(44/216)
العلة في الأصل كونها متعلقة بالبيت، فالطهارة إنما وجبت لكونها صلاة، سواء تعلقت بالبيت، أو لم تتعلق، فصلاة التطوع في السفر وصلاة الخوف إذا صلى إلى غير القبلة تشترط لها الطهارة، وليست متعلقة بالبيت وأيضا النظر إلى البيت عبادة متعلقة بالبيت، ولا تشترط لها الطهارة، وكذلك الاعتكاف عبادة متعلقة بالمسجد، ولم تكن الطهارة شرطا فيه، فدل ذلك على فساد هذا القياس،؛ لأن القياس الصحيح: ما بين فيه أن المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم، أو دليل العلة (2) ولم يوجد في مسألتنا ذلك.
الترجيح:
الراجح والله أعلم أن الطهارة شرط لصحة الطواف؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت (1) » ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لزوجه عائشة رضي الله عنها: «اصنعي ما يصنع الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت (2) » وكانت رضي الله عنها حائضا. وكما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له عن زوجه صفية رضي الله عنها أنها حاضت، فقال: «أحابستنا هي؟ ، فقيل له: إنها قد أفاضت فقال: فلا إذا (3) » ، وحديث: «الطواف بالبيت صلاة (4) » .
فترجح بهذه الأدلة وغيرها اشتراط الطهارة للطواف، فلا يصح طواف حول الكعبة إلا بالطهارة إلا إذا وجدت ضرورة، مثل امرأة حاضت أو ولدت ولا يمكنها الانتظار لعدم وجود محرم أو نفقة كافية، ولا يمكنها السفر والعودة بعد الطهر لبعد المكان، أو لقلة المال، فيجوز لها في
__________
(1) سنن الترمذي الحج (945) ، مسند أحمد بن حنبل (6/137) .
(2) صحيح البخاري الحيض (294) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، سنن النسائي الطهارة (290) ، سنن أبو داود المناسك (1782) ، سنن ابن ماجه المناسك (2963) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) .
(3) صحيح البخاري الحج (1757) ، سنن أبو داود المناسك (2003) ، سنن ابن ماجه المناسك (3072) ، مسند أحمد بن حنبل (6/82) .
(4) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .(44/217)
مثل هذه الحال أن تغتسل وتتنظف، كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسماء بنت عميس أن تغتسل لإحرامها (1) ثم تستثفر وتطوف على حسب حالها؛ لأن هذا أقصى ما تقدر عليه ويسقط شرط الطهارة بالعجز عنه، كما لو عجز المصلي عن ستر العورة واستقبال القبلة ولقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (3) » ، فهذه المرأة لا تستطيع إلا هذا، وقد اتقت الله ما استطاعت فلا يلزمها غير ذلك، أما لو أمكنها أن تقيم بمكة حتى تطهر وتطوف، فإنه لا يجوز لها أن تطوف قبل ذلك، والله أعلم.
أما أدلة من لم يشترط الطهارة للطواف فهي عامة فتخصصها أدلة من اشترط الطهارة، وما روي من آثار تجيز الطواف بدون طهارة فهي اجتهادات إن صحت لا تقاوم الأدلة الصحيحة الصريحة.
أما من فرق بين الحدث الأكبر والحدث الأصغر فاشترط الطهارة للطواف في الحدث الأكبر ولم يشترطها في الحدث الأصغر فالقياس صحيح يرده فإن علة المنع من الطواف واحدة وهي عدم الطهارة وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «حتى تطهري (4) » أو «حتى تغتسلي (5) » .
واشتراط الطهارة أحوط في الدين وأبرأ للذمة. ومادام أن الطواف
__________
(1) صحيح مسلم مع شرح النووي 8 \ 133
(2) سورة التغابن الآية 16
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 101
(4) صحيح البخاري الحيض (305) ، صحيح مسلم الحج (1211) ، مسند أحمد بن حنبل (6/273) .
(5) صحيح مسلم الحج (1211) .(44/218)
صلاة كما ثبت بذلك الحديث، فلا يصح من الجنب والمحدث والحائض؛ فإن الصلاة لا تصح منهم، وإذا لم يشبه الطواف الصلاة في اشتراط الطهارة فبأي شيء يشبهها، والله أعلم.(44/219)
الشرط الثالث: ستر العورة:
معنى الستر: الستر بفتح السين: التغطية، وبكسرها ما يستر به.
العورة لغة: النقصان، والشيء المستقبح، ومنه كلمة عوراء أي قبيحة.
العورة اصطلاحا: سوأة (1) الإنسان، وكل ما يستحيا منه (2) .
حدود العورة:
عورة الرجل والأمة من السرة إلى الركبة عند الجمهور، وبه قال المالكية، (3) والشافعية، (4) والحنابلة، (5) وعند الحنفية: (6) ما تحت السرة، إلى ما تحت الركبة.
أما عورة المرأة الحرة البالغة فكلها عورة إلا وجهها في الصلاة بحيث لا يراها أجنبي، أما إذا كان يراها أجنبي فيجب تغطية الوجه، وبهذا قال الحنابلة (7) .
__________
(1) السوأة: القبل والدبر، وهي العورة المغلظة
(2) انظر فيما تقدم: مختار الصحاح ص461، حاشية الروض المربع 1 \ 492.
(3) الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي 1 \ 196، 197.
(4) مغني المحتاج 1 \ 85.
(5) حاشية الروض المربع 1 \ 497.
(6) حاشية ابن عابدين 1 \ 404، 405.
(7) حاشية الروض المربع 1 \ 497.(44/219)
وقال المالكية، (1) والشافعية: (2) الحرة كلها عورة إلا الوجه والكفان، وقال الحنفية (3) كلها عورة إلا الوجه والكفان والقدمان، وعند خوف الفتنة يجب عليها تغطية الوجه والكفين عند الفقهاء، (4) وما عدا الوجه، والكفين والقدمين فهو عورة بالإجماع (5) فيجب ستر العورة بما لا يصف بشرتها من سواد، وبياض؛ لأن الستر إنما يحصل بذلك.
حكم ستر العورة في الطواف:
اتفق جمهور الفقهاء وهم: المالكية، (6) والشافعية، (7) والحنابلة، (8) على أن ستر العورة شرط في الطواف.
وخالف الحنفية (9) في ذلك، وقالوا: ليس شرطا ولكنه واجب، فعليه أن يعيد مادام بمكة، وإن لم يعد لزمه دم.
وقد استدل من اشترط ستر العورة لصحة الطواف ما يلي:
1 - قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (10) .
__________
(1) الشرح الكبير بهامش الدسوقي 1 \ 196، 197.
(2) مغني المحتاج 1 \ 85.
(3) حاشية ابن عابدين 1 \ 404، 405.
(4) الشرح الكبير بهامش الدسوقي 1 \ 196، 197، حاشية ابن عابدين 1 \ 404، 405، مغني المحتاج 3 \ 128.
(5) حاشية الروض المربع 1 \ 497.
(6) الشرح الكبير بهامش حاشية الدسوقي 2 \ 27، مواهب الجليل 3 \ 64.
(7) نهاية المحتاج 3 \ 269.
(8) كشاف القناع 2 \ 485.
(9) فتح القدير 3 \ 58، الفقه على المذاهب الأربعة 1 \ 657
(10) سورة الأعراف الآية 31(44/220)
ومن الزينة التي أمروا بأخذها عند كل مسجد: لبسهم الثياب عند المسجد الحرام للطواف؛ لأنه هو صورة سبب النزول، فدخولها في حكم الآية قطعي عند الجمهور، فالأمر في الآية: شامل لستر العورة للطواف وهو أمر محتم أوجبه الله مخاطبا به بني آدم، وهو السبب الذي نزل فيه الأمر (1) .
2 - الحديث المتفق عليه: « ... ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان (2) » فهذا الحديث يدل دلالة واضحة على أن علة المنع اتصاف الطائف بالعري، وهو دليل على اشتراط سترة العورة.
سبب الحديث:
كما ذكره ابن حجر نقلا عن ابن إسحاق: أن قريشا ابتدعت قبل الفيل أو بعده، أن لا يطوف بالبيت أحد ممن يقدم عليهم من غيرهم أول ما يطوف إلا في ثياب أحدهم، فإن لم يجد طاف عريانا، فإن خالف فطاف بثيابه ألقاها إذا فرغ، ثم لم ينتفع بها، فجاء الإسلام فهدم ذلك كله (3) .
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة، فتقول: من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله. فنزلت هذه الآية (4) .
__________
(1) أضواء البيان 5 \ 209، 210.
(2) صحيح البخاري مع فتح الباري 3 \ 483، صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 116
(3) فتح الباري 3 \ 483.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 18 \ 162.(44/221)
{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (1) وثبت عن ابن عباس ما يدل على أنه فسر {خُذُوا زِينَتَكُمْ} (2) بلبس الثياب للطواف استنادا لسبب النزول، ولتعلق هذا التفسير بسبب النزول له حكم الرفع، وجماهير علماء التفسير مطبقون على هذا التفسير المتعلق بسبب النزول (3) .
وبهذه الأدلة يظهر واضحا أن ستر العورة شرط لصحة الطواف، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف ساترا عورته، ولفضل مكان الطواف وتعظيمه.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 31
(2) سورة الأعراف الآية 31
(3) أضواء البيان 5 \ 210، 211.(44/222)
الشرط الرابع: أن يطوف داخل المسجد حول الكعبة:
وكلما زيد في المسجد صح الطواف فيه، قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الطواف لا يجزئ خارج المسجد (1) فيصح الطواف في ساحات الحرم، والأروقة، ومن وراء زمزم، والأعمدة إذا كان هناك زحمة ونحوها، لكن الأولى والأفضل القرب من الكعبة قدر المستطاع للرجال، وكل ما تقدم محل اتفاق بين جميع الفقهاء من اعتبر الطواف داخل المسجد ركنا ومن رآه شرطا لصحة الطواف إلا أن علماء المالكية يرون صحة الطواف في الأروقة إذا كان فيه زحمة، فإذا زالت الزحمة أثناء الطواف وجب إكمال الباقي بالقرب من الكعبة، فلو أكمل بعد زوال الزحمة في السقائف، فهل يطالب بإعادة ما فعله بعد زوال الزحمة أو يؤمر بإعادة
__________
(1) الإجماع لابن المنذر ص20(44/222)
الطواف كله والظاهر الأول. أما إذا طاف في الأروقة خوفا من الحر والبرد فيعيد مادام بمكة، وإلا عليه دم (1) .
وقد اختلف الفقهاء - رحمهم الله - في الطواف على سطح المسجد هل يصح أو لا يصح؟
فمن اعتبر السطح داخلا في المسجد، وأن هواء البيت له حكم البيت صحح الطواف، ومن لم يعتبره قال: بعدم صحة الطواف عليه، فقال الحنفية، (2) والقول الصحيح عند الشافعية: (3) يجزئ الطواف على سطح المسجد، ولو ارتفع عن سطح الكعبة، ويتوجه الإجزاء عند الحنابلة (4) .
وقد اتفق فقهاء الشافعية على صحة الطواف على سطح المسجد إذا كان البيت أرفع بناء من المسجد، وقال المالكية: لا يجزئ الطواف فوق سطح المسجد (5) ويظهر - والله أعلم - أن الراجح من أقوال العلماء صحة الطواف في المسجد، مادام أنه محيط بالكعبة، ولم تحجز الجدران بينه وبين الكعبة؛ لأن الله - عز وجل - أمر بالطواف بالبيت: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (6) والطواف حوله طواف به، فيجوز الطواف في الأروقة للعذر، من
__________
(1) بلغة السالك 1 \ 275.
(2) حاشية ابن عابدين 2 \ 497.
(3) صححه النووي في المجموع 8 \ 39.
(4) كشف القناع 2 \ 483، غاية المنتهى 1 \ 424.
(5) مواهب الجليل 3 \ 75، شرح الزرقاني على خليل 2 \ 363، بلغة السالك 1 \ 275
(6) سورة الحج الآية 29(44/223)
زحمة، أو حر، أو برد، أو مطر ونحوها من الأعذار، ويجوز لغير عذر إلا أن فيه كلفة ومشقة لبعد المسافة، وفيه تفويت لفضيلة القرب من الكعبة، وخلافا للسنة.
أما الطواف فوق سطح المسجد يظهر لي جوازه للعذر، قياسا على صحة الصلاة فوق سطح المسجد، وعلى جبل أبي قبيس وغيرها، ولهواء البيت حكمه، كما أن مساكن الناس لهوائها حكمها، فكذلك بيت الله، والمقصود بالطواف عبادة الله في هذا المكان، وبناء الكعبة علامة له، وتحديد لموقعه، فلو انهدم بناء الكعبة - نعوذ بالله من ذلك - صح استقبال مكانها والطواف حوله.
فصح بذلك أن الطواف على سطح المسجد طواف بالكعبة مهما ارتفع، لكنه خلاف الأفضل والسنة؛ لأنه بعيد، وكلما قرب من الكعبة كان أفضل.(44/224)
الشرط الخامس: أن يبتدئ طوافه من الحجر الأسود:
فلو بدأ طوافه من الركن اليماني لم يحسب له حتى يصل إلى الحجر الأسود، ولو بدأ طوافه بعد الحجر الأسود من باب الكعبة مثلا لم يحسب له حتى يصل إلى الحجر الأسود، فإذا وصله كان ذلك أول طوافه، وبهذا قال جمهور العلماء، واعتبروا البدء من الحجر الأسود شرطا لصحة الطواف، ومنهم الشافعية، (1) والحنابلة (2) . ومحمد بن الحسن من الحنفية، (3) . قال النووي: (وبه قال جمهور العلماء، وهذا مذهب عطاء، ومالك، وإسحاق
__________
(1) المجموع 8 \ 29، نهاية المحتاج 3 \ 269، الأم 2 \ 145
(2) كشاف القناع 2 \ 485
(3) شرح فتح القدير 2 \ 495(44/224)
وابن المنذر) (1) وقد استدلوا بما يلي:
1 - فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه حينما بدأ طوافه ابتدأ من الحجر الأسود.
2 - روي أن إبراهيم عليه السلام لما انتهى في البناء إلى مكان الحجر قال لإسماعيل عليه السلام: (ائتني بحجر أجعله علامة لابتداء الطواف) (2) .
3 - قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (لا اختلاف أن حد مدخل الطواف من الحجر الأسود، وأن إكمال الطواف إليه) .
وخالف الحنفية (3) في اشتراط البدء من الحجر الأسود فقالوا: (هو سنة في ظاهر الرواية) ، ورجح ابن الهمام الوجوب (4) وهو قول المالكية (5) للمواظبة المستمرة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقد اختلف الفقهاء الذين اشترطوا لصحة الطواف البدء من الحجر الأسود في محاذاة الطائف للحجر الأسود والبدء من أمامه موازيا له، فمنهم من قال: يشترط أن يبدأ من الحجر محاذيا له بجميع بدنه، فلو حاذاه ببعض بدنه وكان بعض بدنه الآخر مجاوزا إلى جهة باب الكعبة فإن الشرط الأول غير مجزئ، وقال آخرون منهم: يجزئه إذا استقبله ببعض بدنه. وممن اشترط محاذاة جميع البدن للحجر الأسود في بدء الطواف الحنابلة (6) وأصح القولين عند
__________
(1) المجموع 8 \ 29
(2) بدائع الصنائع 6 \ 1106.
(3) فتح القدير 2 \ 495.
(4) فتح القدير 2 \ 495.
(5) مواهب الجليل 3 \ 64، 67، حاشية الدسوقي 2 \ 27.
(6) المغني 5 \ 215.(44/225)
الشافعية، (1) واستدلوا بقولهم: (بأن ما وجب فيه محاذاة البيت، وجبت محاذاته بجميع البدن كالاستقبال في الصلاة، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استقبل الحجر واستلمه، وظاهر هذا أنه استقبله بجميع بدنه ولأن الطواف على البدن كله، لا على بعض البدن دون بعض، فلم يصح طوافه إلا إذا حاذى الركن ببدنه كله. والذين قالوا: يجزئه الطواف بمحاذاة الحجر الأسود ببعض البدن منهم: المالكية (2) وأحد القولين عند الشافعية وهو القديم (3) واحتمال عند الحنابلة (4) ، واستدلوا بقولهم (لأنه لما جازت محاذاة بعض الحجر حازت محاذاته ببعض البدن، ولأنه حكم يتعلق بالبدن فأجزأ فيه بعضه. ولأن الواجب طواف بالبيت، وموضع البداءة الحجر وقد بدأ منه) .
والراجح عندي أن البدء من الحجر الأسود شرط لصحة الطواف لاستمرار فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع قوله: «خذوا عني مناسككم» وأنه يجزئ الاستقبال ببعض البدن، ويصح طوافه؛ لأنه لو كان الاستقبال للحجر بكل البدن شرطا لكان في ذلك حرج شديد، وما جعل الله علينا في الدين من حرج، ولو كان ذلك شرطا في صحة الطواف لبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لصحابته الذين حجوا معه وعددهم كبير؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، لكن الذي ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه استلم الحجر الأسود
__________
(1) المجموع 8 \ 29.
(2) مواهب الجليل 3 \ 66، 67.
(3) المجموع 8 \ 29.
(4) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 394.(44/226)
وقبله، ثم بدأ طوافه فيمكن أن يكون ذلك ببعض البدن. ويخالف القياس على استقبال القبلة، فإن الطائف لا يستقبل البيت، وإنما يستقبل بعضه، فكذا يجزئه من الحجر بعضه، والأحوط للطائف أن يجعل الحجر عن يمينه ليمر عليه بجميع بدنه خروجا من الخلاف، والله أعلم.(44/227)
الشرط السادس: الطواف ماشيا على رجليه إذا كان قادرا على المشي:
وقد أجمع (1) العلماء على أن طواف الماشي أولى وأفضل من طواف الراكب والمحمول.؛ لأن طواف الراكب أو المحمول يزاحم الطائفين، وربما حصل منه أذى لهم، أو كان فيه تمييز للأغنياء عن الفقراء.
وأجمعوا (2) على أنه يطاف بالصبي والمريض ويجزئهما، إلا ما روي عن عطاء في المريض فإن له قولين:
أحدهما: هذا.
والثاني: يستأجر من يطوف عنه.
ولم يختلف العلماء في صحة طواف الراكب أو المحمول إذا كان له عذر؛ لأنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن (3) .
__________
(1) المجموع 8 \ 27، الشرح الكبير مع المغني 3 \ 394.
(2) المجموع 8 \ 60، الإجماع لابن المنذر ص20.
(3) صحيح مسلم شرح النووي 9 \ 19.(44/227)
وأن أم سلمة - رضي الله عنها - طافت وهي راكبة (1) وكان لهما عذر، فإن عذر النبي - صلى الله عليه وسلم - ازدحام الناس، ولأجل تعليمهم كيفية الطواف والإجابة على أسئلتهم. وعذر أم سلمة - رضي الله عنها - كما ذكر في الحديث كانت مريضة. وإنما الذي اختلف فيه الفقهاء هو صحة طواف الراكب أو المحمول وليس له عذر.
وللعلماء في إجزاء طوافه وصحته ثلاثة أقوال:
القول الأول: من طاف محمولا أو راكبا لغير عذر لا يجزئ طوافه ولا يصح.
وهذا القول مروي عن الإمام أحمد بن حنبل، وهو ظاهر كلام الخرقي، (2) وعلى هذا فالمشي شرط لصحة الطواف، فإذا طاف راكبا أو محمولا لغير عذر لم يجزئه طوافه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورد عنه أنه قال: «الطواف بالبيت صلاة (3) » ؛ ولأن الطواف عبادة تتعلق بالبيت، فلم يجز فعلها راكبا لغير عذر كالصلاة.
القول الثاني: يجزئه طوافه راكبا ويجبره بدم إذا لم يستطع إعادته.
وبهذا قال أبو حنيفة، (4) وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل، (5) ودليل هذا: أنه ترك صفة واجبة في الحج، أشبه ما لو دفع من عرفة قبل
__________
(1) صحيح مسلم شرح النووي 9 \ 20.
(2) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 394.
(3) سنن الترمذي الحج (960) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1847) .
(4) فتح القدير 3 \ 58، المبسوط 4 \ 45.
(5) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 394.(44/228)
الغروب.
وعند المالكية يلزمه دم إذا كان الطواف واجبا، وأما غيره فسنة ولا دم عليه (1) .
القول الثالث: يجزئه طوافه ولا جزاء عليه:
وهذا مذهب الشافعي، (2) وداود، وابن المنذر (3) ورواية عن أحمد بن حنبل اختارها أبو بكر (4) .
واستدلوا: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف راكبا. قال ابن المنذر: (لا قول لأحد مع فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقا، فكيفما أتى به أجزأه راكبا أو ماشيا؛ لأنه لا يجوز تقييد المطلق بغير دليل) .
والذي يترجح عندي من هذه الأقوال الثلاثة، هو القول الأول: وهو أن طواف الراكب أو المحمول لغير عذر لا يصح ولا يجزئه، فالمشي في الطواف مع القدرة عليه شرط لصحة الطواف لما يلي:
1 - لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف ماشيا في غير حجة الوداع، ولم يركب في طوافه في حجة الوداع إلا لعذر، كما ورد في روايات الحديث من رواية ابن عباس عند مسلم قال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) حاشية العدوي على كفاية الطالب 1 \ 404.
(2) نهاية المحتاج 3 \ 269.
(3) المجموع 8 \ 27.
(4) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 394.(44/229)
لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثروا عليه ركب (1) » وفي رواية أخرى «فإن الناس غشوه (2) » ، وروي عن ابن عباس «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف راكبا لشكاة به (3) » فهذه الروايات وغيرها تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطف راكبا إلا لعذر وهو كثرة الناس، وشدة الزحام، فركب ليروه من بعد لئلا يقتل بعضهم بعضا من الزحام، أو أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد تعليمهم فلا يتمكن إلا بالركوب، أو أنه كان شاكيا من التعب والإرهاق في أعمال الحج.
2 - ولأن الصحابة رضوان الله عليهم طافوا مشاة.
3 - ولحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: شكوت إلى النبي أني أشتكي فقال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة (4) » فدل ذلك على أن الأصل في الطواف المشي إلا لعذر، وهذا دليل واضح على أن الطواف راكبا أو محمولا لا يصح إلا من عذر، وهو تقييد للأمر المطلق في الطواف، ويرد به وبما سبق قبله على من احتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف راكبا لغير عذر، والله أعلم.
قال الشافعي: وأكثر ما طاف رسول الله بالبيت، وبالصفا والمروة لنسكه ماشيا، فأحب إلي أن يطوف ماشيا إلا من علة (5) .
صحة طواف الحامل والمحمول:
وصور هذه المسألة: أن يحمل رجل أو امرأة وهو محرم صبيا أو مريضا
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 19.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 19.
(3) مختصر سنن أبي داود 2 \ 377.
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 20.
(5) الأم 2 \ 148.(44/230)
أو كبيرا فيطوف به، فإنه لا يخل من إحدى الحالات التالية:
1 - إما أن ينويا جميعا الطواف عن المحمول.
2 - ينوي المحمول عن نفسه ولا ينوي الحامل شيئا.
3 - أن ينويا الطواف عن الحامل وحده.
4 - أن ينوي كل واحد منهما الطواف عن نفسه.
فإن نويا جميعا الطواف عن المحمول، أو نوى المحمول عن نفسه، ولم ينو الحامل شيئا فيقع الطواف عن المحمول، ويصح منه دون الحامل بغير خلاف (1) .
وإن نويا الطواف عن الحامل وحده وقع عنه، ولا شيء للمحمول، وكذلك إن نوى الحامل عن نفسه، ولم ينو المحمول.
أما إن نوى كل واحد الطواف عن نفسه الحامل والمحمول، أو كان المحمول صبيا ونوى الحامل الطواف الواحد عنه وعن المحمول فإن هذه المسألة موضع خلاف بين الفقهاء؛ لأنه طواف واحد، فهل يقع عن أثنين، أو يقع عن أحدهما، أو لا يقع لواحد منهما؟
فهذه الحالة اختلف فيها العلماء وتفصيل أقوالهم كالتالي:
الأول: ذهب أبو حنيفة (2) وابن المنذر (3) وأحد القولين عند الشافعية
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 395.
(2) بدائع الصنائع 3 \ 1100.
(3) المجموع 8 \ 61.(44/231)
والحنابلة: (1) إلى أن الطواف يقع عن الحامل والمحمول، ويصح منهما؛ لأن كل واحد منهما طاف بنية صحيحة، فأجزأ الطواف عنه، كما لو لم ينو صاحبه، ولأنه لو حمله بعرفات لصح الوقوف منهما، فكذلك الطواف.
الثاني: وذهب الشافعية، والحنابلة في أحد القولين: (2) أن الطواف يقع للمحمول دون الحامل؛ لأنه طواف واحد فيجزئ عن المحمول، ولم يجزئ عن الحامل، كما لو نويا جميعا، ولأنه طواف واحد، فلم يقع عن شخصين كالراكب، ووقوعه عن المحمول أولى؛ لأنه لم ينو الطواف إلا لنفسه، والحامل لم يخلص قصده بالطواف لنفسه، فإنه لو لم يقصد الطواف بالمحمول لما حمله؛ لأن تمكنه من الطواف لا يتوقف على حمله، فصار المحمول مقصودا لهما، ولم يخلص الحامل القصد لنفسه فلم يقع له، لعدم التعيين. ومال إلى هذا الرأي ابن قدامة (3) .
الثالث: ذهب الإمام مالك، (4) ، وقول ثالث للشافعية وهو الأصح (5) ، وقول عند الحنابلة، (6) ، أنه يقع الطواف للحامل دون المحمول؛ لأنه طواف واحد، فلا يكفي عن طوافين، ولأن الفعل والحركة والدوران للحامل فكان الطواف له، أما المحمول فلم يوجد منه فعل، فلم يقع عنه إلا
__________
(1) المجموع 8 \ 61، الشرح الكبير مع المغني 3 \ 396.
(2) الأم 2 \ 178، المجموع 8 \ 61، الشرح الكبير مع المغني 3 \ 396.
(3) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 396.
(4) مواهب الجليل 3 \ 107.
(5) المجموع 8 \ 28، 61.
(6) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 396.(44/232)
بنية منه ومن الحامل له) .
الرابع: وقال أبو حفص العكبري: (لا يجزئ الطواف عنهما جميعا؛ لأن فعلا واحد لا يقع عن اثنين، وليس أحدهما أولى به من الآخر) (1) .
الترجيح
ترجح عندي القول بصحة الطواف راكبا على (عربية) أو محمولا على ظهر إنسان، أو على أكتاف الرجال في (شبرية) ، أو صبيا، كل ذلك ونحوه يصح إذا كان لعذر؛ لما ورد من أدلة سبقت، أما إذا كان لغير عذر فلا يصح؛ لأن الطواف صلاة فلا يصح فعلها راكبا إلا لعذر، فكذلك الطواف، ولأن في المشي فائدة صحية مع ما فيه من طاعة الله.
وأن الراجح صحة الطواف الواحد عن الحامل والمحمول؛ لأنهما نويا الطواف جميعا، وفي الحديث: «إنما الأعمال بالنيات (2) » ، وقد صدق على كل منهما أنه طاف بالبيت، وقياسا على حمله في بقية المناسك؛ كالوقوف بعرفة، ومزدلفة، فإن النسك قد تم لكل منهما، وقياسا على الركوب على بعير، فلو ركبه اثنان فطاف بهما صح طوافهما، ولأن الحامل ازداد كلفة ومشقة.
وأيضا لم ينقل أن أحدا من الصحابة والتابعين قال: أنه لا يجزئ عنهما، ولا شك أنه قد وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزمن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم قضايا من هذا النوع، فلم يأمروا الحامل أن يطوف طوافا
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 396.
(2) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(44/233)
آخر، وقد رجح هذا القول الشيخ السعدي (1) .
وفي الشرع يجوز أن يكون فعل واحد حقيقة كفعلين، كالوصي إذا باع مال نفسه من الصغير، لكنه لو استطاع الإنسان أن يطوف عن نفسه أولا، ثم يحمل من يطوف به كان أولى خروجا من خلاف الفقهاء. والله أعلم.
__________
(1) الفتاوى السعدية ص256.(44/234)
الشرط السابع: الطواف بالبيت كله.
فيشترط كون الطائف خارجا عن الشاذروان وعن الحجر، وبهذا قال المالكية (1) ، والشافعية (2) ، والحنابلة، (3) وبه قال: عطاء، وأبو ثور، وابن المنذر (4) .
قال النووي: فإن طاف على الشاذروان، ولو في خطوة واحدة لم تصح طوفته تلك؛ لأنه طاف في البيت إلا بالبيت، ولو طاف وكان يمس الجدار بيده، في موازاة الشاذروان أو غيره من أجزاء البيت، ففي صحة طوافه وجهان أصحهما لا يصح؛ لأنه طاف وبعضه في البيت، فلم يطف
__________
(1) قوانين الأحكام لابن جزي ص121، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 \ 27.
(2) الأم 2 \ 150، المجموع 8 \ 26.
(3) المغني والشرح الكبير 3 \ 397، 398.
(4) المغني والشرح الكبير 3 \ 397، 398.(44/234)
بكل البيت بجميع بدنه.
وقد خالف في ذلك الحنفية، (1) فلم يروا أن الطواف من وراء الحجر أو الشاذروان شرط. ولكنه من وراء الحجر واجب، ومن وراء الشاذروان مستحب، فلو طاف داخل الحجر فعليه أن يعيد الطواف كله، وهو الأفضل مراعاة للترتيب، وإن أعاده على الحجر خاصة أجزأه؛ ولأنه المتروك هو لا غير وقد استدراكه، أما إذا لم يعد حتى رجع إلى أهله فإنه يجب عليه دم؛ لأنه قد ترك بعض الطواف، والطواف من وراء الحجر واجب فيجبر بدم، أما الشاذروان فينبغي عندهم أن يطوف من ورائه، وهو مستحب خروجا من الخلاف، كي لا يكون بعض طوافه بالبيت على أنه منه، مع أن الشاذروان ليس من البيت عند الحنفية (2) .
الترجيح
الراجح -والله أعلم- أنه يشترط الطواف بجميع البيت بما في ذلك
__________
(1) بدائع الصنائع 3 \ 1108، فتح القدير 2 \ 452، 453، 494.
(2) فتح القدير 2 \ 494.(44/235)
الشاذروان وجميع الحجر؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - أمر بالطواف بجميع البيت في قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف من وراء الحجر والشاذروان، وقال: «خذوا عني مناسككم» ، وطاف الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من ورائه كله، وهذا يقتضي وجوب الطواف خارج الحجر كله، سواء كان كله من البيت أو بعضه، ولأنه وإن كان بعضه من البيت فالمعتمد هو الاقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فوجب الطواف بجميعه، ولأنه الأحوط. والله أعلم.
__________
(1) سورة الحج الآية 29(44/236)
الشرط الثامن: أن يكمل سبعة أشواط، كل مرة يبدأ من الحجر الأسود حتى يعود إليه:
ولو بقي شيء من الأشواط السبعة لم يصح طوافه، سواء قلت البقية أو كثرت، وسواء بقي في مكة أو ذهب إلى وطنه، ولا يجبر بالدم.
وبهذا قال جمهور العلماء منهم: الأئمة؛ مالك (1) ، والشافعي (2) ، وأحمد، (3) ، وبه قال: عطاء وإسحاق، وأبو ثور (4) ، وعند الحنفية أكثر الأشواط شرط (5) .
__________
(1) الشرح الكبير بحاشية الدسوقي 2 \ 27، مواهب الجليل 3 \ 64.
(2) الأم 2 \ 152، المجموع 8 \ 21، 22، نهاية المحتاج 3 \ 269.
(3) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 402، كشاف القناع 2 \ 485.
(4) المجموع 8 \ 22.
(5) بدائع الصنائع 3 \ 1110 (الفرض ثلاثة أشواط وأكثر الرابع) .(44/236)
وقال أبو حنيفة (1) : إكمال الأشواط السبعة ليس شرطا، ولكنه واجب، فإذا طاف أربعة أو ثلاثة أشواط وأكثر الرابع، فيلزمه إتمام ما بقي من السبعة إن كان بمكة، أو الدم إن سافر لبلده؛ لأنه أتى بأكثر الطواف، والأكثر يقوم مقام الكل فيما يقع به التحلل في باب الحج.
أما إن طاف أقل من ذلك، فيلزمه الرجوع في طواف الإفاضة، ولا يجبره بالدم؛ لأنه فرض.
وخالف ابن الهمام (2) الحنفية في هذا القول، وجزم بأن السبعة ركن ولا يجزئ أقل منها؛ لأن الطواف ليس من قبيل ما يقام فيه الأكثر مقام الكل.
وقد استدل من اشترط سبعة أشواط كاملة بما يلي:
1 - ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف سبعا كاملة، وهذا بيان للطواف المأمور به، فلا يجوز النقص منه، كالصلاة.
2 - إن مقادير العبادات لا تعرف بالرأي والاجتهاد، وإنما تعرف بالتوقيف، ورسول الله صلى الله عليه وسلم طاف سبعة أشواط فلا يعتد بما دونها.
والراجح عندي أن عدد الطوفات السبع شرط لصحة الطواف؛ لأن العبادات توقيفية، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمراره على سبعة أشواط في حجه وعمرته مع قوله: «خذوا عني مناسككم» فكان ذلك بيانا للعدد المطلوب من الأشواط، ولأن الطواف صلاة، كما صح ذلك (3) .
والصلاة لو
__________
(1) بدائع الصنائع 3 \ 1110، فتح القدير 2 \ 495.
(2) البحر الرائق 2 \ 353، فتح القدير 3 \ 56.
(3) انظر ص210 من هذا البحث.(44/237)
نقص منها ركعة بطلت، فكذلك الطواف يجب أن يكون سبعة كاملة، ولو نقص منها شوط أو بعضه بطل، فيجب التأكد من كمال الأشواط، فيبدأ من الحجر الأسود وينتهي من حيث بدأ، وينبغي الاحتياط في البدء بحيث يجعل الحجر الأسود عن يمينه، وينتهي بأن يجعل الحجر الأسود في نهاية الشوط الأخير عن يساره؛ ليتأكد من إكمال الشوط الأخير بيقين؛ لأن بعض الطائفين يبدأ على الخط المقابل للحجر الأسود، وينتهي ويخرج من الطواف قبل أن يصل إليه، وهذا خطأ؛ لأنه لم يكمل شوطه، والله أعلم بالصواب.
الشك في عدد الطواف:
الشك؛ إما أن يكون في أثناء الطواف، أو بعد فراغه منه، فإن شك بعد فراغه، فلا يلتفت إلى هذا الشك؛ لأنه من تلاعب الشيطان ووسوسته، ولا شيء عليه في هذا الشك.
وأما إن كل الشك في أثناء الطواف، فيلزمه الأخذ بالأقل؛ لأنه المتيقن، فلو شك في طواف أربعة أو خمسة جعلها أربعة؛ لأنها اليقين وأكمل الباقي. وهذا القول: أجمع عليه العلماء، ذكره ابن المنذر (1) .
أما إذا طاف واعتقد أنه أكمل سبعة أشواط، وأخبره عدل أو عدلان أنه إنما طاف ستا، لم يلزمه العمل بقولهما، لكن يستحب له احتياطا أن يأخذ بالأقل، ولو اختلف الطائفان معا في عدد الطواف. فيأخذان بقول المتيقن الذي لا يشك، وإن لم يكن أحدهما متيقنا، فيأخذان بما تيقناه،
__________
(1) المغني والشرح الكبير 3 \ 392، المجموع 8 \ 21، 22، الأم 2 \ 152، الإجماع ص20.(44/238)
وقال عطاء، والفضيل يأخذ بقول صاحبه الذي لا يشك، وقال الشافعي وابن المنذر: (لا يجزئ كل منهما إلا علم نفسه، لا يقبل قول غيره) .
وقال مالك: (أرجو أن يكون فيه سعة) (1) .
__________
(1) حاشية الرهوني على الزرقاني 2 \ 438.(44/239)
الشرط التاسع: الترتيب في الطواف، وهو أن يجعل الكعبة عن يساره في الطواف.
وهو شرط لصحة الطواف، فإن عكسه بأن جعل الكعبة عن يمينه في الطواف ومر من الحجر الأسود إلى الركن اليماني لم يصح طوافه، وبهذا قال جمهور العلماء منهم: مالك (1) ، والشافعي (2) ، وأحمد (3) ، وداود (4) وأبو ثور (5) ، وخالف في ذلك أبو حنيفة (6) ولم يشترط الترتيب، واختلف أصحابه في حكم الترتيب، فمنهم من قال بوجوبه (7) .
وعلى هذا أن طاف منكوسا بأن جعل الكعبة على يمينه في الطواف، فإن عليه أن يعيد طوافه إن كان بمكة، وإن رجع إلى أهله ولم يعده لزمه دم وأجزأه طوافه.
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 \ 27.
(2) نهاية المحتاج 3 \ 269، المجموع 8 \ 60.
(3) كشاف القناع 2 \ 485، المغني والشرح الكبير 3 \ 399.
(4) المجموع 8 \ 60.
(5) المجموع 8 \ 60.
(6) فتح القدير 3 \ 58.
(7) فتح القدير 3 \ 58.(44/239)
ومنهم من قال: (إنه سنة) (1) .
واستدل ابن الهمام على الوجوب بفعل النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل المواظبة من غير ترك في طوافه كله في حجه وجميع عمره، وفعله عليه الصلاة والسلام في موضع التعليم؛ لأنه كان يقول: «خذوا عني مناسككم» ، وذلك تعليم من النبي صلى الله عليه وسلم مناسك الحج، فيحمل هذا الفعل على الوجوب إلى أن يقوم دليل على عدمه.
ومن أدلة الحنفية على عدم اشتراط الترتيب إطلاق قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) ، فالطواف مطلق من غير شرط البداية باليمين أو باليسار، ولأن الترتيب ترك هيئة فلم تمنع الإجزاء، كما لو ترك الرمل والاضطباع.
واستدل الجمهور على اشتراط الترتيب بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه جعل البيت على يساره في الطواف، وقال: «لتأخذوا مناسككم (3) » وذلك تعليم منه صلى الله عليه وسلم مناسك الحج. ولأن الطواف عبادة متعلقة بالبيت، فكان الترتيب شرطا لصحتها كالصلاة.
ويظهر لي رجحان قول الجمهور بأن الترتيب شرط لصحة الطواف؛ لأنه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين كيفية الطواف، وهذا الفعل مفسر لقوله تعالى:
__________
(1) بدائع الصنائع 3 \ 1106.
(2) سورة الحج الآية 29
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 45.(44/240)
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (1) ، وقد استمر على هذا الفعل خلفاؤه الراشدون وصاحبته الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
ويرد على الحنفية بقولهم: (أنه ترك هيئة) بأنه اختلاف الهيئة يبطل العمل كاختلاف هيئة الصلاة وترتيبها، فإنه مبطل لها فكذلك الطواف. وكذلك لو طاف مستقبلا للكعبة أو مستدبرا لها، أو معترضا، بأن يمشي على جنبه، أو جعلها على يمينه ومشى القهقري -على الخلف- فإن طوافه لا يصح على هذه الصفات؛ لأنه مخالف لما ورد به الشرع.
الحكمة في الطواف على يساره:
قد ذكر العلماء تعليلات عديدة لجعل الكعبة على يسار الطائف فمنها:
أن الذي يطوف بالكعبة مؤتم بها؛ لأن الواحد مع الإمام يكون الإمام على يساره، وقيل: لأن القلب في الجانب الأيسر، فجعل الشق الذي هو محل القلب إلى جهة البيت، وليكون أقرب موافقة لقوله تعالى: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} (2) ، واعترض بعضهم على أن محل القلب في الشق الأيسر للإنسان وقال: (إن القلب في الوسط، لكن رأسه يميل إلى جهة اليمين قليلا، وإبرته تميل إلى اليسار قليلا) لكن الذي يمكن أن يقال: (إن جهة اليسار من القلب هي محل الروح ومنبعه، ومنه ينبعث في الشريان الأعظم المسمى بالأبهر إلى جميع الجسد، ولذلك نجد حركة النبض في الجهة اليسرى، والروح أشرف ما في الجسد، فجعل ذلك الشق مواجها
__________
(1) سورة الحج الآية 29
(2) سورة إبراهيم الآية 37(44/241)
للبيت الشريف؛ ليكون الإقبال على بيت الله بما هو أشرف) (1) .
وقيل: ليكون الباب في أول طوافه؛ (2) ؛ لقوله تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (3) . وقيل: يجعل البيت عن يساره؛ لكون الحركة الدورية تعتمد فيها اليمنى على اليسرى، فلما كان الإكرام في ذلك للخارج جعل لليمنى، (4) ، ولأن جهة اليمين أقوى من جهة اليسار، وذلك مشاهد، والطواف سير دوري، ولا شك أن أبعد الجهات إلى المركز الذي هو جهة البيت أقوى حركة من الجهة التي هي أقرب إليه، فجعل الشق الأيمن الأقوى إلى الحيز الذي فيه الحركة أقوى، والشق الأيسر الأضعف إلى الحيز الذي الحركة فيه أضعف ليتعادلا (5) .
وقيل: إن الطائف على يساره يكون عن يمين البيت؛ لأن كل ما كان عن يسار شيء فذلك الشيء عن يمينه، وأن من استقبل شيئا ثم أراد المشي بجهة يمينه، فإنه يجعل ذلك الشيء عن يساره قطعا (6) ، وقد ثبت في حديث مسلم عن جابر «أنه صلى الله عليه وسلم أتى الحجر فاستلمه، ثم مشى على يمينه (7) » .
وقيل: ليكون قلبه إلى وجه البيت؛ إذ باب البيت وجهه، فلو جعل
__________
(1) حاشية الرهوني على الزرقاني 2 \ 437.
(2) البحر الرائق 2 \ 351، ابن عابدين 2 \ 494.
(3) سورة البقرة الآية 189
(4) الفروع 3 \ 497.
(5) حاشية الرهوني على الزرقاني. 2 \ 437.
(6) حاشية الجمل 2 \ 430.
(7) صحيح مسلم بشرح النووي 8 \ 196.(44/242)
الطائف البيت عن يمينه لأعرض عن باب البيت الذي هو وجهه، ولا يليق بالأدب الإعراض عن وجوه الأماثل (1) .
أقول: وكل هذه التعليلات لها وجه من النظر، وكلها تدل على احترام الكعبة وتعظيمها؛ لأنها بيت الله، لكن الأولى أن يقال: إنه أمر تعبدي غير متيقن الحكمة، فنحن مأمورون باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن نطوف على اليمين، ونجعل الكعبة على اليسار؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت أنه طاف على هذه الطريقة، وكان يعجبه التيامن في شأنه كله صلى الله عليه وسلم، جعلنا الله جميعا من أصحاب اليمين.
__________
(1) حاشية الدسوقي 2 \ 28.(44/243)
الشرط العاشر: الموالاة: اتفق الفقهاء على أن الموالاة بين الأشواط في الطواف مشروعة، وأن الفصل اليسير بين الأشواط لا يؤثر في الموالاة والتتابع، ثم اختلفوا بعد ذلك في صفة المشروعية للموالاة.
وكان خلافهم على النحو التالي:
1 - قال المالكية (1) ، والحنابلة في رواية (2) : الموالاة شرط مطلقا سواء فصل بين الأشواط عمدا أو سهوا.
2 - قال الشافعية في قول (3) ورواية لدى الحنابلة (4) : أنها شرط عند عدم العذر، وليست شرطا عند وجوده، فيبطل الطواف بالفصل
__________
(1) مواهب الجليل 3 \ 75، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 \ 27.
(2) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 399.
(3) المجموع 8 \ 22، 47.
(4) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 400.(44/243)
الطويل من غير عذر، ولا يبطل به إذا كان لعذر.
3 - قال الحنفية (1) ، والقول الأصح عند الشافعية (2) ، وتخريج عند الحنابلة: (3) : إن الموالاة سنة، فعلى هذا لا يضر الفصل بين الأشواط مطلقا، سواء كان طويلا أو قصيرا بعذر أو بغير عذر، ولكنه يكون تاركا للسنة.
وقد استدل من ذهب إلى أن الموالاة شرط بما يلي:
1 - فعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد والى بين طوافه وقال: «خذوا عني مناسككم» .
2 - الطواف صلاة، فاشترطت له الموالاة، كسائر الصلوات والموالاة بين ركعاتها.
3 - الطواف عبادة تعلقت بالبيت فاشترطت لها الموالاة، كالصلاة (4) .
وقد استدل من قال بجواز قطعه لعذر ويبني:
1 - روي عن الإمام أحمد قوله: (إذا أعيا في الطواف لا بأس أن يستريح) ، وقال: (الحسن غشي عليه فحمل إلى أهله، فلما أفاق أتمه؛ لأنه قطعه لعذر فجاز البناء عليه كما لو قطعه للصلاة) .
__________
(1) فتح القدير 2 \ 494.
(2) المجموع 8 \ 22، 47.
(3) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 399، 400.
(4) الأدلة من الشرح الكبير مع المغني 3 \ 399، 400.(44/244)
قطع الطواف:
اتفق الجمهور (1) الفقهاء على قطع الطواف إذا أقيمت الصلاة المكتوبة
__________
(1) أضواء البيان 5 \ 228، الشرح الكبير مع المغني 3 \ 400، مواهب الجليل 3 \ 77.(44/244)
وهو يطوف ليصلي مع الجماعة.
وممن قال بذلك؛ ابن عمر، وسالم، وعطاء، وأبو ثور، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وأصحابهم، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الشافعية (1) ، فإنهم قالوا: إن كان الطواف مفروضا كره قطعه للصلاة المفروضة، وإن كان طواف نفل استحب قطعه ليصليها، ودليلهم: أن الطواف صلاة فلا يقطع لصلاة مثله.
ويرد عليهم بحديث: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (2) » ، وأن هذا القول مخالف لقول عامة العلماء، وليس له دليل، وهو مخالف لفعل ابن عمر رضي الله عنهما؛ فإنه كان يطوف بالبيت، فلما أقيمت الصلاة صلى مع الإمام ثم بنى على طوافه (3) .
وقد اختلف العلماء في قطع الطواف لصلاة جنازة أو حاجة عرضت له لا بد منها.
فقال بجوازه (4) ، والحنابلة (5) ، والشافعية (6) ، ويرى الشافعية: أن الاستمرار في الطواف أولى، ويشترط الحنابلة أن يكون الفصل يسيرا، فإن
__________
(1) المجموع 8 \ 47.
(2) صحيح البخاري مع فتح الباري 2 \ 148.
(3) المجموع 8 \ 47.
(4) فتح القدير 2 \ 494.
(5) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 400.
(6) المجموع 8 \ 60.(44/245)
طال عرفا بطل طوافه، وخالف في ذلك المالكية (1) ، وقالوا: (لا يجوز قطع الطواف إلا للصلاة المكتوبة خاصة، كما كره (2) بعض الشافعية قطعه لصلاة الجنازة إذا كان الطواف فرضا.
__________
(1) مواهب الجليل 3 \ 77.
(2) المجموع 8 \ 48.(44/246)
فائدة الخلاف بين من أجاز قطع الطواف ومن منعه.
الذين قالوا بجواز قطع الطواف فإنهم قالوا: يبني على ما مضى من طوافه، والذين منعوا القطع قالوا: إذا قطع طوافه يبدأ من جديد كأن لم يطف.
فعلماء المالكية (1) يرون أن الطواف لا يقطع إلا للصلاة المكتوبة، فإذا قطعه له يبني على ما مضى من طوافه من حيث قطع، ويندب عندهم أن يبدأ ذلك الشوط الذي قطعه في أثناء الطواف، أما إذا قطعه لغير الصلاة المكتوبة، فإنه يبدأ طوافه من جديد؛ لأنه لا يجوز قطع الطواف لغير الصلاة ابتداء.
أما علماء الحنفية (2) ، والشافعية (3) فقالوا: يبني على ما مضى من طوافه إذا قطعه، ووافقهم الحنابلة على البناء، إذا قطعه لصلاة فريضة أو جنازة، أما إذا قطعه لحدث ففيه تفصيل.
ففي إحدى الروايتين عند الحنابلة، (4) ، إذا سبقه الحدث فإنه يبني على
__________
(1) مواهب الجليل 3 \ 76، 78، أضواء البيان 5 \ 328.
(2) فتح القدير 2 \ 494.
(3) المجموع 8 \ 49.
(4) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 399.(44/246)
ما مضى، وبهذا يوافق الحنفية والشافعية، والرواية الثانية (1) ، إن سبقه الحدث أو أحدث عمدا، فإن طوافه يبطل، ويبدأ الطواف من جديد؛ لأن الطهارة شرط لصحة الطواف، وقياسا على الصلاة، وذلك مستحب عند الشافعية (2) ، وهو بدء الطواف من جديد كلما قطعه ولا يوجبونه.
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 399، كشاف القناع 2 \ 483.
(2) المجموع 8 \ 49.(44/247)
كيفية البناء على ما مضى من طوافه:
المراد بالبناء: أنه يكمل ما بقي من طوافه، فيبني على ما أتى به من أشواط، فإن قطع طوافه عند انتهاء شوط من أشواطه عند الحجر الأسود، بنى على الأشواط المتقدمة، وبدأ من عند الحجر الأسود، وجاء ببقية الأشواط.
وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء، قال ابن قدامة: (وإذا صلى بنى على طوافه، قال ابن المنذر: (ولا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا الحسن البصري، فإنه قال: يستأنف (1) يعني يبدأ طوافه الذي قطعه من جديد) .
وإن كان قطعه في أثناء شوط، فقد اختلف العلماء على قولين:
فمنهم من قال: أن يبتدئ من الموضع الذي وصل إليه، ويعتد ببعض الشوط الذي فعله قبل قطع الطواف، وهذا أصح الوجهين عند الشافعية (2) ، وبعض المالكية (3) لصلاة الفرض وحدها؛ لأن المالكية لا يجيزون قطع الطواف إلا لصلاة الفريضة، وقال آخرون: لا يعتد ببعض
__________
(1) الشرح الكبير مع المغني 3 \ 400، انظر المجموع 8 \ 60.
(2) المجموع 8 \ 49.
(3) مواهب الجليل 3 \ 78.(44/247)
الشوط. ويبدأ الشوط الذي قطع الطواف في أثنائه من الحجر الأسود. وهو قول أحمد بن حنبل وأصحابه (1) ، وأحد وجهين عند الشافعية، (2) ، ومندوب عند المالكية (3) إن قطعه لصلاة مفروضة.
ويظهر لي أن الموالاة شرط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم والى في طوافه مع قوله: «خذوا عني مناسككم» ، ولأن الطواف صلاة فاشترطت له الموالاة، كالموالاة بين ركعات الصلاة.
والتفريق اليسير لا يبطل الموالاة؛ كالاستراحة من تعب، أو من سبقه الحدث فذهب وتوضأ فرجع، ونحوهما فإنه يبني على طوافه السابق، وكذلك من حضرته جنازة وهو يطوف، وإذا قطع الشوط قبل إتمامه فيتمه من مكانه الذي قطعه فيه إن صلى فيه، إن كان القطع لصلاة فريضة أو جنازة، أما إن ذهب إلى الصفوف، ثم رجع منها أو خرج من الحرم فيبدأ الشوط الذي لم ينته من الحجر الأسود؛ لأنه استقبل البيت واستدبره ومشى في غير طواف، وهذا هو الأحوط وخروجا من الخلاف، والله أعلم.
__________
(1) كشاف القناع 2 \ 483، 484. واقتصر على هذا القول، الشرح الكبير مع المغني 3 \ 400، الإنصاف 4 \ 17.
(2) المجموع 8 \ 49.
(3) مواهب الجليل 3 \ 78، أضواء البيان 5 \ 328، حاشية العدوي 1 \ 403.(44/248)
الخاتمة
الحمد لله على تسهيله، وتيسيره، وتوفيقه على الانتهاء من إتمام هذا البحث، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى محمد بن عبد الله صلى(44/248)
الله عليه وسلم، وبعد:
فلعلي في هذا البحث قد قدمت لإخواني زوار بيت الله الحرام ما يهمهم من شروط الطواف؛ ليطوفوا طوافا صحيحا متقبلا إن شاء الله تعالى.
وقد تبين لي أن الفقهاء الأربعة - رحمهم الله تعالى - اتفقوا على شرط واحد، وهو الطواف حول الكعبة، واختلفوا في بقية الشروط، وهذه الشروط العشرة التي ذكرت في البحث عند التدقيق، لا يطلق الشرط بمسماه الاصطلاحي عند الفقهاء إلا على ثلاثة منها:
1 - النية.
2 - الطهارة.
3 - ستر العورة.
أما بقية الشروط فيطلق عليها أركان لا شروط؛ لأنها داخل الماهية، وتستمر حتى الانتهاء من الطواف، ولكني ذكرتها شروطا جريا على ما ذكره الفقهاء، وباعتبار أن صحة الطواف تتوقف على الإتيان بها.
كما تبين لي أن فقهاء الحنابلة لم يذكروا للطواف واجبات.
وكل ما أتمناه أن يحصل قارئ البحث على فائدة كبيرة تسهل عليه معرفة أحكام الطواف، وسهولة الاطلاع عليها بسهولة ويسر، وإن أراد التوسع يجد المراجع أمامه، وأن يهتم المسلم بعبادته؛ ليقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفيما يلي سأختم خاتمتي بصفة الطواف، وذكر أسباب الزحام فيه، ومحاولة تقديم بعض الحلول. والله المستعان، وصلى الله وسلم على قدوتنا وإمامنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.(44/249)
صفة الطواف
إذا دخل المسجد الحرام، فليقصد الحجر الأسود، ويستقبله، ثم يقبله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله، فإذا لم يستطع أن يقبله، لمسه بيده وقبلها، أو لمسه بمسواك أو عصا -إن لم يؤذ به أحدا- وقبل ما لمس به الحجر؛ لأن «النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع، يستلم الركن بمحجن معه ويقبله، (1) » ولما روي عن ابن عمر «أن النبي صلى الله عليه وسلم استلمه بيده وقبلها (2) » ، والتقبيل واللمس للحجر الأسود سنة إذا لم يكن فيه زحام مؤذ للطائف أو لغيره؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب عن المزاحمة، ولأن المزاحمة الشديدة فيها إيذاء للمسلم، وإيذاء المسلم محرم فيجب تركه، فيقدم على المستحب، ولكن مجرد الزحام لا يعتبر عذرا في ترك السنة، فإن الطائفين إما مزاحم ولو أحدث ضررا، وإما متساهل لا يفكر في تقبيل الحجر الأسود لأجل الزحمة اليسيرة.
فالطائف إن وجد زحمة يسيرة لا ضرر فيها، فيقبل أو يلمس الحجر، فإنه سنة وفضيلة، وإن وجد زحمة يحدث فيها ضرر، أو يحتمل حدوثه فلا يقبل ولا يلمس.
أما النساء فلا يستحب لهن تقبيل الحجر ولا استلامه، إلا عند خلو المطاف في الليل أو غيره؛ لما فيه من ضررهن، وضرر الرجال بهن، لما روى عطاء أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت:
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 20.
(2) صحيح البخاري بشرح فتح الباري 3 \ 473.(44/250)
انطلقي عنك، وأبت (1) ، ولما روى نافع قال: «رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيه ثم قبل يده، وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله يفعله (2) » ، فإن لم يستطع تقبيل الحجر ولا استلامه، فإنه يستقبله، بحيث يكون جميع الحجر أمامه، وإن جعل الحجر عن يمينه احتياطا بحيث يضمن أن الحجر داخل في طوافه فهو أولى، بحيث يجعل رجله اليمنى على الخط الموجود علامة على بداية الطواف، ودليل الاستقبال حديث النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: «إنك رجل قوي. . ولكن إن وجدت فرجة فاستلمه، وإلا فاستقبله وكبر وهلل (3) » .
فإن لم يمكنه الاستقبال لوجود زحام فإنه يمر أمام الحجر الأسود ويشير إليه بيده اليمنى؛ لحديث: «طاف النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت على بعير، كلما أتى الركن أشار إليه بشيء كان عنده وكبر (4) » .
ثم يقول مع الاستقبال أو الإشارة للحجر الأسود، أو تقبيله: باسم الله، والله أكبر، إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا رواه عبد الله بن السائب عن النبي صلى الله عليه وسلم (5) ، وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقول إذا استلم الحجر: (اللهم إيمانا بك،
__________
(1) صحيح البخاري بشرح فتح الباري 3 \ 480، ذكر في فتح الباري معنى حجرة: أي ناحية، وفي رواية: حجزة.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 15، إرواء الغليل 4 \ 312.
(3) نصب الراية 3 \ 39، قال: رواه أحمد والشافعي، وإسحاق بن راهويه، وأبو يعلى الموصلي.
(4) صحيح البخاري مع فتح الباري 3 \ 476.
(5) التلخيص الحبير بهامش المجموع 7 \ 321.(44/251)
وتصديقا بكتابك، واتباعا لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم) (1) .
ومهما أتى به من الدعاء والذكر فحسن، لما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله (2) » ، ويقول هذا الدعاء وهو يسير، ولا يقف حتى يكمل دعاءه؛ لأنه بوقوفه يزيد في الزحام، وزيادة الزحام تؤذي المسلمين، والإيذاء منهي عنه شرعا؛ لأن فيه ضررا، وبعد ذلك ينحرف على يمينه، ويجعل الكعبة عن يساره، فإذا كان قادما من خارج مكة فيضطبع -يجعل وسط إحرامه تحت كتفه اليمنى، ويضع طرفيه على كتفه اليسرى، وتبقى الكتف اليمنى مكشوفة- في حال الطواف لا قبله، ولا بعده، ثم يرمل في الأشواط الثلاثة الأول من الحجر الأسود حتى يعود إليه.
والاضطباع والرمل يسنان في طواف القدوم والعمرة لغير أهل مكة والمحرمين منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعا (3) ، ورمل من الحجر الأسود الأشواط الثلاثة حتى عاد إليه (4) ، فإذا بدأ الطائف من الحجر الأسود فإنه يستمر في طوافه من وراء الحجر حتى يصل إلى الركن اليماني فيستلمه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استلمه، كما ثبت ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما (5) ، فإن لم يستطع استلامه لشدة الزحام مر ولم يشر إليه، ولا يقبله؛
__________
(1) السنن الكبرى 5 \ 79، عون المعبود 5 \ 344.
(2) مختصر سنن أبي داود 2 \ 380.
(3) مختصر سنن أبي داود 2 \ 378.
(4) مختصر سنن أبي داود 2 \ 380، صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 19، (رمل من الحجر إلى الحجر ثلاثا) .
(5) صحيح البخاري مع فتح الباري 3 \ 471، ص374، صحيح مسلم بشرح النووي 9 \ 15.(44/252)
لأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحجر الأسود، ثم يستمر في طوافه قائلا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (1) ، حتى يصل إلى مكانه الذي بدأ منه أمام الحجر الأسود، وبهذا أكمل شوطا.
ثم يستمر مثل ما فعل مما تقدم - غير الرمل في الثلاثة الأول - حتى يكمل سبعة أشواط، وبهذا قد أكمل طوافه الواجب أو المسنون، ويجب أن يعلم أن كمال الشوط من المكان الذي بدأ منه حتى ينتهي إليه لا ينقص منه شيئا، وأن استلام الركن اليماني، وتقبيل الحجر الأسود، أو استلامه والإشارة إليه في كل شوط مستحب؛ لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى ابن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني، والحجر في كل طوفة (2) » . قال نافع: (وكان ابن عمر يفعله) (3) .
ثم بعد ما ينتهي من الأشواط السبعة يصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام، كما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم (4) ، وهما سنة مؤكدة، ويقرأ في الركعة الأولى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (5) وفي الثانية سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (6) استحبابا (7) فإن لم يستطع أن يصلي الركعتين خلف المقام ففي أي مكان من الحرم أو غيره. والله أعلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 201
(2) مختصر سنن أبي داود 2 \ 374، 375، قال: (في كل طوفة) .
(3) تحفة الأحوذي 3 \ 592.
(4) تحفة الأحوذي ص 608.
(5) سورة الكافرون الآية 1
(6) سورة الإخلاص الآية 1
(7) تحفة الأحوذي ص 608.(44/253)
أسباب الزحام في الطواف ومحاولة تقديم الحلول:
إن الطواف في مكان معين، وكثرة الطائفين، وحبهم لفعل الخير، وخصوصا في أيام المواسم كالحج، ورمضان، وليلة سبع وعشرين منه، يحدث تجمعات كبيرة، وهذا التجمع لا بد من التزاحم فيه، ولكن الذي يحدث الزحام الضار عدة أمور من أهمها:
1 - جهل كثير من المسلمين بتعاليم الإسلام، فلا يعرفون شفقة ولا رحمة، فتجدهم يطوفون جماعات متراصين يدفعون من أمامهم دون هوادة ولا رحمة ولا شفقة.
وعلاج هذا هو: تعليم المسلمين حب إخوانهم، والإكثار من الدروس في الحرم وغيره من المساجد حول تراحم المسلمين وتعاطفهم، وتحريم إيذاء المسلم بالقول أو الفعل، ثم تنبيه هيئة الحرم الذين يراقبون الطواف، على من يرونه يزاحم، سواء كانوا جماعات أو فرادى، ويخبرونه بأن هذا العمل محرم ولا يجوز.
2 - الزحام عند الحجر الأسود، هذا طبيعي؛ لالتقاء من يبدأ طوافه ممن هو مستمر فيه، ومن يقبل الحجر الأسود.
وعلاجه بثلاثة أمور:
أولها: أن يعرف الطائف أن استقبال الحجر الأسود، والوقوف أمامه أو مسحه أو تقبيله مستحب وليس واجبا، كما يجب عليه أن يعرف أن إيذاء المسلم حرام، فترك إيذاء المسلم واجب، فكان الإتيان بالواجب متعينا، فإذا عرف أن الوقوف لاستقبال الحجر الأسود فيه(44/254)
ضرر على أخيه المسلم، وبالتزاحم المضر، وأن الضرر محرم، والوقوف مستحب، فإنه سيقدم الواجب على المستحب، ولا يقف، بل يستمر مع الطائفين.
ثانيا: وجود الخط - الذي هو علامة بدء الطواف - يسبب تدافع الطائفين لمعرفة مكان الخط، وتزاحمهم عنده، فيجب إزالة الخط القريب من الكعبة حتى يصل إلى زمزم، ويبقى الأخير من زمزم إلى الأورقة؛ لأن الزحام كلما بعد يخف، والبعيد عن الكعبة يصعب عليه تحديد بداية الطواف فيبقى الخط هناك، أما القريب من الكعبة فليس بحاجة إلى الخط.
ثالثها: يجب على الرجال الذين يقفون عند الحجر تنبيه المزاحمين، وتفريق الزحام كلما كثر على تقبيل الحجر الأسود.
3 - الزحام بين مقام إبراهيم والكعبة، والسبب في ذلك ضيق المكان، وكثرة المصلين تحت جدار الكعبة، وعند المقام والملتزمين بباب الكعبة، والداعين.
وعلاج هذا منع المصلين تحت جدار الكعبة، وعند المقام والملتزمين وقت الزحام، ومراقبة ذلك من قبل هيئة الحرم وشرطته، وإعلام الناس بأن ركعتي الطواف لا يلزم أن تكون وراء المقام، بل كل الحرم مقام إبراهيم.
وأما وضع المقام فأقترح أن يدرس علماؤنا الأفاضل وضعه، إما بتصغير البناية التي عليه إلى أصغر حجم ممكن على قدر مساحة الحجر،(44/255)
الحفر للحجر، وإنزاله تحت الأرض، ووضع زجاج قوي عليه بحيث تمكن رؤية الحجر، ولا يتكسر من المشي عليه، ويتسع المطاف، أو إلصاقه بالكعبة، أو ما يرونه مناسبا ونافعا. والله أعلم.(44/256)
ابن تيمية والدفاع عن الإسلام
661 - 738 هـ
د. محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله جلت قدرته أثنى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ووصفهم بالخيرية في قوله سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) .
فصفات الخيرية التي مدحت بها أمة الإسلام، وفقا للنص الكريم في هذه الآية، لا تتم إلا إذا تحققت أمور ثلاثة:
1 - الأمر بالمعروف.
2 - النهي عن المنكر.
3 - وركيزة ذلك الإيمان بالله.
وكل واحد من هذه الأمور الثلاثة يتطلب: عقيدة قلبية، وصدقا في العمل، واحتسابا لما عند الله، وصبرا في سبيل ذلك. . مع العلم والبصيرة.
والدعاة والعلماء المخلصون في هذه الأمة، يحرصون على التحلي بذلك، عند دعوتهم إلى الله؛ تمسكا بكتابه الكريم، فهما وعملا، واتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كانت وصيته عليه الصلاة والسلام في آخر حياته لأصحابه، وهي وصية خاصة لهم؛ لأنهم أول من تحمل الأمانة عن رسول الله، في تبليغ
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110(44/257)
شرع الله، وعامة للأمة بعدهم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، دعوة وتمسكا، وصدورا عنها في كل أمر ونهي؛ لأنها من أفضل الأعمال، ووظيفة أنبياء الله من قبل.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن كل فرد من أبناء الإسلام على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله، كالحارس الذي يوكل إليه شيء يحفظه، فإنه يحاسب ويجازى إذا فرط فيه، أو كان سببا في نفاذ العدو عن طريقه.
وإن الإسلام علاوة على كونه امتثالا لأوامر الله جل وعلا، واتباعا لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أداء العبادات: الفعلية، والقولية، والاعتقادية، فهو أمانة في الحرص على طلب العلم الشرعي، مع الحرص على سلامة مآخذه ومداخله، والبعد عن الأمور التي يريد الجهال وأعداء الله، وأعداء رسوله، إدخالها فيه، كما أن هذا العلم أمانة في حسن التبليغ للناس، وتبصيرهم بما أوجب الله عليهم.
فبنوا إسرائيل لما قصروا في هذا الجانب، وحولوا أوامر الله إلى رغبات شخصية، ومطامع دنيوية، عاقبهم الله، وفضحهم الله في القرآن الكريم بنماذج من أعمالهم، وما ترتب عليها من عقاب، فهي لهم ولمن عمل مثل عملهم، كما روي عن سفيان الثوري رحمه الله، في قوله: (من فسد من علماء المسلمين، ففيه شبه باليهود، معهم علم ولم يعملوا به، ومن فسد من عبادهم، ففيه شبه بالنصارى، يعبدون الله على جهل وضلال) .
ومن الأعمال الكثيرة التي أبانها القرآن، نورد مثالين فقط:
المثال الأول: يقول الله - سبحانه وتعالى - في سورة آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (1) . فهذه الآية توضح أن سنة
__________
(1) سورة آل عمران الآية 187(44/258)
الله - سبحانه وتعالى - في خلقه، اقتضت إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وأن الناس بعد الرسل عليهم أمانة التبليغ والإيضاح، وتحري الصدق، وعدم كتمان شرع الله، أو تحريفه أو تبديله، وأن يكون المقصد ابتغاء ما عند الله، بالدعوة والتبليغ، لا مكاسب الدنيا، من مال وجاه، أو رياء أو غير ذلك.
فخان أهل الكتاب هذا الميثاق، واستحقوا بذلك غضب الله ومقته؛ لأنهم عدلوا في شرع الله، حسب ما تصبوا إليه أنفسهم، واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون.
ومن قصر من هذه الأمة عن أداء حق الله في تبليغ دعوته، وتعليم الناس أمور دينهم، أو غلب دنياه وهواه على أمر الله، فإنه يكون ممن سلك طريقة أهل الكتاب، في تعمد المخالفة لما أمر به، وفي الإخلال بميثاق الله الذي أخذ على أهل العلم، في وجوب بيانه، وعدم كتمانه ألم يقل سبحانه وتعالى في سورة الزخرف في إبانة الدور المطلوب في إبلاغ أمانة الله إلى عباد الله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (1) {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (2) .
وتأتي أهمية نشر العلم، والحرص بجد واجتهاد على تبليغه، من العمق في فهم نصوص شرع الله، وإدراك المسئولية المناطة بأعناق العلماء في أداء الواجب المفروض عليهم، لعل الله أن يخفف مسئولية السؤال، وأن يقيل العثرات.
والمسئولية تبدأ بالنفس أولا؛ لأن الله - جل وعلا - يقول: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) ؛ إذ أساس الدعوة القدوة الصالحة، وركيزة العلم العمل؛ لأن العلم بلا عمل، كشجر بلا ثمر.
ثم على الإنسان واجب البدء بمن حوله، يقول سبحانه وتعالى في توجيه كريم للفئة
__________
(1) سورة الزخرف الآية 44
(2) سورة الزخرف الآية 45
(3) سورة الصف الآية 3(44/259)
المؤمنة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (1) .
ثم تأتي مرتبة التعليم والدعوة، بحسب القدرة العلمية، وذلك بتعليم الناس أمور دينهم، وتوجيههم إلى ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم؛ لأن العلماء هم ورثة الأنبياء، فالأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذه بحقه، وحق العلم تبليغه وتعريف الناس به، وقد أمر كل فرد في البيئة الإسلامية بالسؤال عما ينقصه في الأمور الدينية، فقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) .
المثال الثاني: يقول سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (3) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4) {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} (5) .
فهذا الآيات الكريمات، يستفاد منها أن بني إسرائيل، قد استحق منهم اللعن - وهو الطرد من رحمة الله - الذين كفروا بعصيانهم، واعتدائهم على حرمات الله؛ مما أمات عندهم الإحساس بما يجب عليهم عمله، فأضاعوه، وأغضبوا الله بذلك العمل، فطمس الله على قلوبهم، فكانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، وكانوا يتولون الذين كفروا ويحبونهم من دون الله، وكانت وجوههم لا تتمعر غضبا لله سبحانه وتعالى.
قال ابن كثير في تفسيره: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما وقعت بنوا
__________
(1) سورة التحريم الآية 6
(2) سورة النحل الآية 43
(3) سورة المائدة الآية 78
(4) سورة المائدة الآية 79
(5) سورة المائدة الآية 80(44/260)
إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم - قال راوي الحديث: وأحسبه قال: في أسواقهم - وواكلوهم، وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال: لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا (2) » .
وفي رواية أبي داود من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل: كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك؛ ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: إلى قوله: ثم قال: كلا والله، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو تقصرنه على الحق قصرا (5) » (6) .
وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سيكون فيها الخير إلى يوم القيامة، ما داموا يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويدعون إلى الله، عن إيمان وعقيدة، وما دام فيهم علماء يوضحون لهم الحق، ويباعدونهم عن كل ما يخالف شرع الله؛ لأن الأمر والنهي، والدعوة لا بد أن تكلم عن حلم وعلم، وعن بصيرة وعقل.
وقد هيأ الله بين الفينة والفينة في صفوف هذه الأمة، وفي كل مكان رجالا عرفوا دين الله بالعلم الذي سلكه الله في قلوبهم، وتمسكوا نتيجة لذلك بما جاء في كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فحرصوا على تجديد الدين للأمة، كلما غلب على أفراد منها الجهل، واهتموا بالإرشاد، وإعادة الغافل إلى
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3047) ، سنن أبو داود الملاحم (4336) ، سنن ابن ماجه الفتن (4006) .
(2) سورة المائدة الآية 78 (1) {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
(3) سنن الترمذي تفسير القرآن (3047) ، سنن أبو داود الملاحم (4336) ، سنن ابن ماجه الفتن (4006) .
(4) سورة المائدة الآية 78 (3) {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}
(5) سورة المائدة الآية 81 (4) {فَاسِقُونَ}
(6) تفسير ابن كثير، دار التراث، ط 1400 هـ، ج2 ص82، 83.(44/261)
جادة الصواب؛ لأن الدعوة إلى الله كالغذاء للجسم لا بد من الاستمرار عليه، والداعي المتبصر هو الذي يتخول الناس بالنصيحة، مثلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بها.
وهؤلاء العارفون هم الذين أخبر صلى الله عليه وسلم عنهم بأنهم يجددون على رأس كل قرن للأمة دينها، فهم دعاة خير وفلاح، يطلبون ما عند الله من الأجر المدخر؛ لقاء ما يحرصون عليه من تبليغ وإرشاد وتعليم، لما منحهم الله من علم، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر؛ امتثالا لما أمروا به بالنص الشرعي، في مثل هذا القول الكريم: قالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم (1) » رواه الترمذي.
وروى الإمام أحمد بسنده إلى عدي بن عميرة، رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة (2) » .
ولذا فإن مثل هؤلاء العلماء، هم الذين يتحملون في سبيل المنافحة عن دين الله الشيء الكثير، كما حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام أحمد بن حنبل، وغيرهما من علماء المسلمين، في كل زمان ومكان.
ومن فضائل هذه الأمة كما أخبر صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك (3) » رواه الترمذي ومسلم وأبو داود.
وعلماء الإسلام الذين يعتبر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - نموذجا لهم، قد عرفوا فلزموا، وأدركوا نقاط الضعف التي دبت في الأمة نتيجة الجهل، فأوقفوا أنفسهم للذود عن حياض الدين، ولتجديد ما بدأ يندرس من تعاليم شرع الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصحا للأمة، وأداء للواجب في الأمانة، وقد لقوا
__________
(1) سنن ابن ماجه الفتن (4004) ، مسند أحمد بن حنبل (6/159) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/192) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه المقدمة (10) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .(44/262)
في هذا السبيل ما الله به عليم، فصبراو وصابروا؛ لأنهم قدوة، ولا يريدون وراء ذلك شهرة أو مكسبا دنيويا.
وقد نفع الله بعلمهم، وبصمودهم أمام كل محدثة في دين الإسلام، فذهب خصومهم، وبقيت أعمالهم شاهدة على صدقهم، وحسن مقاصدهم، ولإدراك من جاء بعدهم أنهم مصابيح يهدي الله بهم الساري على طريق الدعوة عندما تختلط المعالم، وتتباين الآراء، وقد نفع الله بعلمهم وآرائهم بعد مماتهم، أكثر مما تم في فترة نقاشهم وحوارهم مع غيرهم في حياتهم؛ لأنهم تركوا علما كثيرا ينتفع به، ويزيل الشبهات ويفند البدع المحدثة في الأزمنة المتعاقبة.
ونموذج ابن تيمية رحمه الله - قبله وبعده - بحمد الله كثير من سجلات أمة الإسلام، وهذا من نعم الله بعباده، ومن حفظه سبحانه للدين، الذي اختاره سبحانه ليكون خاتمة الرسالات، وبعث به أفضل خلقه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، أفضل الأنبياء والمرسلين وخاتمهم.
وهؤلاء الدعاة والعلماء، هم حماة دين الله، والمجددون له في كل عصر ومصر؛ لأن الله آتاهم فقها في الدين، وقوة في الإيمان والعلم، يقول صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه البخاري ومسلم -رحمهما الله- عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقه في الدين، ولا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة (1) » .
وحيث إن حياة شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، حافلة بالأعمال الجليلة، فقد أوقف نفسه للدفاع عن الإسلام، دعوة إلى الله، وتصحيحا لعقيدة المسلمين، وقمعا للبدعة، وما ذلك إلا أن العقيدة هي المدار في الأعمال، كالمحور الذي تدور عليه البكرة، فإن سلمت العقيدة سلم العمل، وإن أصابها الخلل تأثر العمل كله، والله - جل وعلا - يقول في الحديث القدسي: «من
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2645) ، مسند أحمد بن حنبل (1/306) ، سنن الدارمي المقدمة (225) .(44/263)
عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه (1) » . ومصداق ذلك من كتاب الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} (2) ، فهو سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك، وطيب لا يقبل من الأعمال، إلا ما كان طيبا.
وحديثنا المختصر هذا عن ابن تيمية، سيلم بشيء من هذا الجانب، لمكانته رحمه الله، ولأن أعماله الجليلة وضحت سلامتها للناس بعد وفاته، حيث وقف الخصوم ضده، وأوقعوا من المكائد والظلم والسجن والافتراء عليه، ما الله به عليم.
والمسلمون كلما عادوا إلى عقيدة الإسلام الصافية النقية، كما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وسار عليها أصحابه من بعده، ثم السلف الصالح من هذه الأمة، كلما أدركوا فضل العلماء المخلصين، الذين سار شيخ الإسلام ابن تيمية على منهجهم في الدعوة، وترسم خطاهم في الدفاع عن حمى الإسلام، وحرصه رحمه الله في التصدي للشبهات التي يضعها المغرضون، ويتلقاها عنهم الجهلة بحماسة، ودون روية أو تبصر.
وفي عصرنا الحاضر كثر اهتمام الجامعات في البلاد الإسلامية بدراسة حياة الشيخ ابن تيمية وآثاره وجهوده الدعوية، واهتمامه الراسخ بحماية جناب التوحيد.
كما سلط الضوء على مناقبه رحمه الله، وسعة معارفه العلمية والفنون التي ألف فيها، والدفاع عنه إذ يعتبر ما ألف وألف عنه مكتبة متكاملة.
وآخر ما سمعت عن مكانته أن مؤتمرا أقيم في جامعة (بنارس) بالهند حظي بدراسات عديدة، وندوة علمية دعوية في مدينة لوس أنجلوس بالولايات المتحدة الأمريكية، باسم ابن تيمية، بمناسبة إنشاء مركز إسلامي للبحث والدعوة في ولاية كاليفورنيا، التي عاصمتها هذه المدينة القصية في الدنيا.
__________
(1) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2985) ، سنن ابن ماجه الزهد (4202) ، مسند أحمد بن حنبل (2/301) .
(2) سورة النساء الآية 48(44/264)
بل إن فتحا جديدا اتسع نطاقه؛ إذ في كثير من الديار التي كان أبناؤها وبعض من ينتسب منهم للعلم يحاربون منهج ابن تيمية، وتلاميذه، ويخطئونهم في منهج الدعوة، وفي فكر ابن تيمية التصحيحي للعقائد، ومحاربة البدع، أصبح أبناء أولئك يتلقفون كتب ابن تيمية، ويحرصون على متابعة وجهات نظره في تطهير العقائد، وفي حرصه على الدفاع عن جوهر الإسلام، وتعاليمه الصافية، ألا وهو العقيدة التي تربط المسلم بربه وجدانيا، وعلميا مع حرصه على نقاوة العمل، بمحاربة البدع التي حرص أعداء الإسلام على بثها في المجتمع الإسلامي، مع الجهل وحب التقليد، والرغبة في متابعة الأمم الأخرى بدون علم أو تبصر، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن اتباع سننهم.(44/265)
من هو ابن تيمية؟
لم يقيض الله لداعية إسلامي، من الاهتمام والدراسة بمثل ما قيض سبحانه لشيخ الإسلام ابن تيمية تعريفا وتأليفا ومتابعة لما صدر عنه من كتب ورسائل، واهتماما من خصومه، حيث يجد المتابع لترجمة حياته التي صدرت في أكثر من أربعين مصدرا قديما، علاوة على الدراسات الحديثة التي تدافع عما تناوله الخصوم لهذا المجاهد بلسانه وقلمه، ونفسه وماله، هو وتلاميذه في كل زمان ومكان، وحتى يومنا هذا.
فما زاده الله بتجريح الخصوم إلا شرفا واتساع سمعة؛ إذ بقيت آراؤه المدعمة بالدليل العقلي والنقلي ترد على كل قدح يوجه إليه، كما هيأ الله لهذا الشيخ من يعرف قدره، ويدرك سعة علمه، ليذب عنه، بين وقت وآخر؛ عرفانا بمكانته، ومتابعة لآثاره، ونشرا لكتبه، بعد الاستيعاب التام لآرائه التي استمدها من معارفه المتعددة، كما وصفه المترجمون لحياته.
وكان من أوفى من ترجم له، الصفدي في كتابه: (الوافي بالوفيات) ، حيث نجتزئ من تلك الترجمة قوله: (هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم(44/265)
الحراني بن تيمية، الشيخ الإمام، العالم العلامة، المفسر الفقيه، المجتهد الحافظ، المحدث شيخ الإسلام، نادرة عصره، ذو التصانيف والذكاء، والحافظة المفرطة، تقي الدين أبو العباس ابن العالم المفتي شهاب الدين، ابن الإمام شيخ الإسلام، مجد الدين أبي البركات، مؤلف الأحكام، وتيمية لقب لجده الأعلى.
ولد بحران عاشر ربيع الأول، سنة إحدى وستين وستمائة، وتحول به أبوه إلى دمشق سنة سبع وستين وستمائة، وتوفي عام ثمان وعشرين وسبعمائة.
وسمع من ابن عبد الدايم، وابن أبي اليسر، والكمال بن عبد، وابن أبي الخير، وابن الصيرفي، والشيخ شمس الدين، والقاسم الإربلي، وابن علان، وخلق كثير.
وقرأ بنفسه على جماعة، وانتخب ونسخ عدة أجزاء، و (سنن أبي داود) ، ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر، مع التدين، والتأله، والذكر والصيانة، والنزاهة عن حطام هذه الدار، والكرم الزائد.
ثم إنه أقبل على الفقه ودقائقه، وغاص على مباحثه، ونظر في أدلته وقواعده وحججه، والإجماع والاختلاف.
وكان قوالا بالحق، نهاء عن المنكر، ذا سطوة وإقدام، وعدم مداراة، ومسائله المفردة يحتج لها بالقرآن والحديث، أو بالقياس ويبرهنها ويناظر عليها، وينقل فيها الخلاف، ويطيل البحث أسوة بمن تقدمه من الأئمة، فإن كان أخطأ فله أجر واحد، وإن كان أصاب فله أجران.
وكان أبيضا أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت، فصيح اللسان، سريع القراءة، تعتريه حدة، ثم يقهرها بحلم وصفح.
توفي محبوسا في قلعة دمشق على مسألة الزيارة، وكانت جنازته عظيمة(44/266)
إلى الغاية، دفن في دمشق، صلى عليه قاضي القضاة علاء الدين القونوي) (1) .
وقد توسع ابن كثير - رحمه الله - في تاريخه (البداية والنهاية) في وصف يوم وفاته، وما أبداه الناس من حزن ودعاء في دمشق، ومشاركة البلد بأكملها في تأبينه، رجالا ونساء وأطفالا، وذلك في حوادث سنة 728 هـ (2) .
أما محمد بن شاكر الليثي في كتابه: (فوات الوفيات) فإنه أورد بعضا من الحكايات عنه، التي تنبئ عن فضله، وسعة علمه، ومن ذلك قوله: (حكي أن ابن تيمية قد شكا إليه إنسان من قطلو بك الكبير، وكان المذكور فيه جبروت، وأخذ أموال الناس واغتصابها، وحكاياته في ذلك مشهورة، فلما دخل إليه الشيخ، وتكلم معه في ذلك قال: أنا الذي كنت أريد أجيء إليك؛ لأنك رجل عالم زاهد - يعني: يستهزئ به - فقال له الشيخ: لا تعمل علي دركوان - كلمة مأخوذة عن الفارسية: درجوال، بمعنى: الخداع والحيلة - ثم أردف الشيخ قائلا: موسى كان خيرا مني، وفرعون كان شرا منك، وكان موسى كل يوم يجيء إلى باب فرعون مرات، ويعرض عليه الإيمان. . . وكان قوالا بالحق، نهاء عن المنكر) (3) .
وقال الزركلي: (ولد في حران، وتحول به أبوه إلى دمشق، فنبغ واشتهر، وطلب إلى مصر من أجل فتوى أفتى بها، فقصدها، فتعصب عليه جماعة من أهلها، فسجن مدة، ونقل إلى الإسنكدرية، ثم أطلق فسافر إلى دمشق سنة 712 هـ، واعتقل بها سنة 720 هـ وأطلق، ثم أعيد، ومات معتقلا بقلعة دمشق، فخرجت دمشق كلها في جنازته، كان كثير البحث في فنون الحكمة، داعية إصلاح في الدين، آية في التفسير والأصول، فصيح اللسان.
وفي الدرر الكامنة: أنه ناظر العلماء، واستدل وبرع في العلم والتفسير،
__________
(1) الوافي بالوفيات 1 \ 57-74.
(2) ينظر (البداية والنهاية) ، ج 14 ص 135-141.
(3) فوات الوفيات، والذيل عليها لمحمد بن شاكر الكتبي، تحقيق د. إحسان عباس 1 \ 74، 75.(44/267)
وأفتى ودرس وهو دون العشرين) (1) .
__________
(1) الأعلام للزركلي 1 \ 144.(44/268)
مكانته العلمية:
نشأ ابن تيمية، ومخايل الذكاء، وسيماء النجابة بادية عليه منذ حداثة سنه، وأعانه الله على حب العلم؛ لأنه ترعرع في بيت علم، فختم القرآن صغيرا، ثم أقبل على الفقه والحديث، وقد أعجب به شيوخه في قوة الحافظة والنباهة، ولقد وصفه كل من ترجم لحياته بصفات تدل على مكانته العلمية، حيث جمع كثيرا من العلوم، وتبحر فيها، فهو مفسر وفقيه، وهو أصولي ومحدث، وهو ماهر في الحوار والجدل، وهو مفحم للفلاسفة في جداله معهم؛ لسعة مداركه في علم المنطق.
وكبرهان على ما منحه الله من حافظة نادرة، فقد روي أن أول كتاب حفظه في الحديث وهو لا يزال صغيرا، كتاب (الجمع بين الصحيحين) للحميدي، كما قال الشيخ الحافظ سراج الدين أبو حفص عمر.
وعلى مشاهير عصره - في جميع الفنون - تتلمذ ابن تيمية، حيث قال ابن قدامة حسبما قال الإمام مرعي بن يوسف الحنبلي المتوفى عام 1033 هـ، في كتابه: (الكواكب الدرية في مناقب الإمام المجتهد ابن تيمية) : وشيوخ ابن تيمية الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ، وسمع مسند الإمام أحمد بن حنبل مرات، وسمع الكتب الستة الكبار والأجزاء، ومن مسموعاته: معجم الطبراني الكبير، وعني بالحديث، وقرأ ونسخ وانتقى، وتعلم الخط والحساب في المكتب، وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ في العربية، وأخذ بكامل كتاب سيبويه حتى فهمه، وبرع في النحو، وأقبل على التفسير إقبالا كليا، حتى حاز قصب السبق، وأحكم أصول الفقه، وغير ذلك.
هذا كله وهو - بعد - ابن بضع عشرة سنة، فانبهر الفضلاء من فرط(44/268)
ذكائه وسيلان ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه (1) .
كما قال عنه ابن عبد الهادي: (لا أعلم أحدا من متقدمي الأئمة ولا متأخريها، جمع مثلما جمع ابن تيمية، ولا صنف نحو ما صنف، ولا قريبا من ذلك، مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه، وكثير منها صنفه في الحبس، وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب) (2) .
وقد أثنى على منزلته البزار - المتوفى عام 749 هـ- أي بعد وفاة ابن تيمية بواحد وعشرين سنة - الذي عاصره، وعرفه عن كثب، فنافح عنه في كتابه: (الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية) وأعطاه ما يستحق من العرفان بمكانته، والتقدير لعلمه وفضله، وكان مما قاله عنه: وقل كتاب من فنون العلم إلا وقف عليه، وكان الله قد خصه بسرعة الحفظ، وإبطاء النسيان، لم يكن يقف على شيء، أو يستمع لشيء غالبا، إلا ويبقى على خاطره، إما بلفظه أو معناه، وكان العلم كأنه قد اختلط بلحمه ودمه وسائره.
فإنه لم يكن له مستعارا، بل كان له شعارا ودثارا، لم يزل آباؤه أهل الدراية التامة، والنقد والقدم الراسخ في الفضل، لكن جمع الله له ما خرق بمثله العادة، ووفقه في جميع عمره لأعلام السعادة، وجعل مآثره لإمامته أكبر شهادة، حتى اتفق كل ذي عقل سليم، أنه ممن عنى نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة، من يجدد لهذه الأمة أمر دينها (3) » ، فلقد أحيا الله به ما كان قد درس من شرائع الدين، وجعله حجة على أهل عصره أجمعين.
أما غزارة علومه فمنها:
ذكر معرفته بعلوم القرآن المجيد، واستنباطه لدقائقه، ونقله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله، وما أودعه الله تعالى فيه من عجائبه، وفنون حكمه، وغرائب نوادره، وباهر فصاحته، وظاهر ملاحته، فإنه فيه الغاية التي
__________
(1) الكواكب الدرية، ص 54.
(2) الإمام ابن تيمية، لعبد السلام حافظ، ص 6.
(3) رواه أبو داود في السنن، باب: الملاحم، وفيه: من يجدد لها دينها(44/269)
ينتهى إليها، والنهاية التي يعول عليها.
ولقد كان إذا قرئ في مجلسه آيات من القرآن العظيم، يشرع في تفسيرها، فينقضي المجلس بجملته، والدرس برمته، وهو في تفسير بعض آية منها.
ولقد أملى في تفسير: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) ، مجلدا كبيرا وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) نحو خمس وثلاثين كراسة، ولقد بلغني أنه شرع في جمع تفسير لو أتمه لبلغ خمسين مجلدا.
أما معرفته وبصره بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقواله وأفعاله وقضاياه، ووقائعه وغزواته، وسراياه وبعوثه، وما خصه الله تعالى من كراماته ومعجزاته، ومعرفته بصحيح المنقول عنه وسقيمه، وبقية المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم، في أقوالهم وأفعالهم وقضاياهم، وفتاويهم وأحوالهم، وأحوال مجاهداتهم في دين الله، وما خصوا به من بين الأمة، فإنه كان رحمه الله، من أضبط الناس لذلك، وأعرفهم فيه، وأسرعهم استحضارا لما يريده منه، فإنه قل أن ذكر حديثا في مصنف أو فتوى، أو استشهد به، أو استدل به، إلا وعزاه في أي دواوين الإسلام هو، ومن أي قسم من الصحيح، أو الحسن أو غيرهما، وذكر اسم راويه من الصحابة، وقل أن يسأل عن أثر إلا وبين في الحال حاله، وحال أمره وذكره.
ومنها: ما منحه الله تعالى من معرفة اختلاف العلماء ونصوصهم، وكثرة أقوالهم واجتهادهم في المسائل، وما روي عن كل منهم، من راجح ومرجوح، ومقبول ومردود، في كل زمان ومكان، وبصره الصحيح الثاقب الصائب للحق مما قالوه ونقلوه، وعزوه ذلك إلى الأماكن التي بها أودعوه، حتى كان إذا سئل عن شيء من ذلك، كأن جميع المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والعلماء فيه، من الأولين والآخرين، متصور مسطور بإزائه، يقول منه ما شاء
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة طه الآية 5(44/270)
الله، ويذر ما يشاء، وهذا قد اتفق عليه كل من رآه، أو وقف على شيء من علمه، ممن لم يغطي عقله الجهل والهوى (1) .
أما الواسطي المعروف بابن شيخ الحزاميين المتوفى عام 711 هـ، فإنه كان من أسرة صوفية متوغلة في الضلالة، وأبوه شيخ طائفة كبيرة، ولكنه قد عرف العقيدة الصحيحة؛ لتأثره بابن تيمية تلمذة وقراءة لكتبه، ومتابعة لحالته، وقد ألف كتابا سماه: (التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار، في الثناء على شيخ الإسلام ابن تيمية، والوصاية به) ، فقال بعد أن أوضح حال زمانه، وما فيه من المنكرات: ومن العجب أن كلا منهم يدعي أنه على دين الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كشف الله لنا، ولكم بواسطة هذا الرجل - ابن تيمية - عن حقيقة دينه، الذي أنزله من السماء، وارتضاه لعباده.
واعلموا أن في آفاق الدنيا أقواما يعيشون أعمارهم بين هذه الفرق، يعتقدون أن تلك البدع حقيقة الإسلام، فلا يعرفون الإسلام إلا هكذا.
فاشكروا الله الذي أقام لكم في رأس السبعمائة من الهجرة من بين لكم أعلام دينكم، وهداكم الله به وإيانا إلى نهج شريعته، وبين لكم بهذا النور المحمدي ضلالات العباد وانحرافاتهم، فصرتم تعرفون الزائغ من المستقيم، والصحيح من السقيم، وأرجو أن تكونوا أنتم الطائفة المنصورة، الذين لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، وهم بالشام إن شاء الله تعالى.
ثم إذا علمتم ذلك، فاعرفوا حق هذا الرجل الذي هو بين أظهركم وقدره، ولا يعرف حقه وقدره إلا من عرف دين الرسول صلى الله عليه وسلم وحقه وقدره، فمن وقع دين الرسول صلى الله عليه وسلم من قلبه بموقع يستحقه، عرف حق ما قام به هذا
__________
(1) انظر الأعلام العلية، ص 22 - 25.(44/271)
الرجل بين أظهر عباد الله، يقوم معوجهم، ويصلح فسادهم، ويلم شعثهم جهد إمكانه، في هذا الزمان المظلم، الذي انحرف فيه الدين، وجهلت السنن، وعهدت البدع، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والقابض على دينه كالقابض على الجمر، فإن أجر من قام بإظهار هذا النور في هذه الظلمات لا يوصف، وخطره لا يعرف.
فشيخكم - أيدكم الله تعالى - عارف بأحكام أسمائه وصفاته الذاتية، فالله الله في حفظ الأدب معه، والانفعال لأوامره، وحفظ حرماته في الغيب والشهادة، وحب من أحبه، ومجانبة من أبغضه وتنقصه، ورد غيبته، والانتصار له في الحق.
واعلموا - رحمكم الله - أن هنا من سافر إلى الأقاليم - يعني نفسه - وعرف الناس وأذواقهم، وأشرف على غالب أحوالهم، فوالله، ثم والله، ثم والله، لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم - يعني ابن تيمية - علما، وعملا، وحالا وخلقا واتباعا وكرما، وحلما في حق نفسه، وقياما في حق الله عند انتهاك حرماته، أصدق الناس عقدا وأصحهم علما، وعزما وأنفذهم وأعلاهم في انتصار الحق وقيامه همة، وأسخاهم كفا، وأكملهم اتباعا لنبيه صلى الله عليه وسلم) (1) .
وما ذلك إلا أن مكانة شيخ الإسلام ابن تيمية العلمية، كانت مثار الانبهار لمن عرفه عن كثب، أو تابع مجهوداته العلمية، أو المناظرات التي دارت بينه وبين مناوئيه، وإن ألف غرف من بحر المعرفة، وإن اتجه إلى موضوع أشبعه، وإن جابه علية المجتمع، كان ذلك الشجاع الذي يجهر بكلمة الحق، ولا يخشى في
__________
(1) التذكرة والاعتبار ص 47 - 50.(44/272)
الله لومة لائم، وإن اعتدي على العقيدة صال ونافح، وقرع الحجة بالحجة، وإن انتهكت السنة المحمدية انتصر لها، وبدأ التطبيق بنفسه، وأظهر الدليل الواضح الذي لا يقبل المداخل، إلا عن تعمد الكذب أو لرغبة الأهواء، وإن أوذي في سبيل الله، وما يدعو إليه ويدافع عنه صبر واستسلم.
أما إذا تطاول أعداء الإسلام على ديار المسلمين فإن ابن تيمية شجاع في ميدان القتال، مؤثر في الدعوة إلى الجهاد، مقدام عندما يحمي الوطيس، إذ طالما ضرب النموذج بنفسه في كل ميدان، يحاول فيه الأعداء النيل من الإسلام، فهو مجاهد بنفسه، وعلمه، ومنافح بلسانه وقلمه، يترسم خطى الصحابة والسلف الصالح من هذه الأمة في كل أمر.(44/273)
آثاره العلمية:
إن عالما بمثل مكانة ابن تيمية، ومجاهدا بمثل حماسته، لجدير بالدراسة والاهتمام، حتى قيل: إنه لم يتزوج طوال عمره، حيث شغله الدفاع عن دين الإسلام، ودفاع الأعداء المتكالبين على ديار الإسلام، ففي الشرق بعدما زحف التتار على بغداد، وخربوا قاعدة المسلمين العلمية، وانتهت بذلك الدولة العباسية، اتجهوا صوب الشام؛ رغبة في الاستيلاء عليها، ثم الزحف على مصر، وفي الغرب قوى الصليبيين تبذل جهودها للتمكن مرة أخرى من الشام، بعد أن انتصر عليهم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وفي الشمال الدولة العثمانية لم ترسخ أقدامها في بلاد الشام، واتجهت قواها إلى التوسع شرقا وغربا، وفي الجنوب نرى الجزيرة العربية منبع الرسالة قد أغفلت، فدب الجهل في البداوة من جديد، اللهم إلا في الحرمين وبعض الحواضر، حيث يوجد بعض العلماء.
وأما في الوسط حيث يوجد ابن تيمية في الشام، والعز بن عبد السلام في مصر، فإن الحال لم تكن بأحسن من غيرها، حيث دب الوهن في النفوس، وانتشرت البدع، وكثر القائلون بغير علم،. . . في هذه الأجواء المضطربة، والفتن والبدع التي ظهرت، كان لا بد أن يشمر هذا العالم عن ساعديه، ويبذل هذا(44/273)
المجاهد ما يستطيع من حماسته، كي يؤثر فيمن حوله، تعليما وتدريسا، وتأليفا ومناظرة.
ولذا يعتبر مجموع الفتاوى الذي حرص على تجميعه وإخراجه الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله - وخرج في سبع وثلاثين مجلدا - نموذجا لآثار ابن تيمية العلمية، بما فيه من علم واسع، ومعارف متعددة، وإجابات سديدة وموفقة، وقد طبع لأول مرة بالرياض، منذ أكثر من ثلث قرن.
ولقد بلغ من متابعة العلماء لجهوده العلمية، وثنائهم على ما ترك من علوم ومعارف، تتمثل في مصنفاته، أن عجزوا عن إحصاء كتبه. .
فهذا ابن الزملكاني يقول: (ولقد أعطي ابن تيمية اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة، والترتيب والتقسيم والتبيين، وقد ألان الله له العلوم، كما ألان لداود الحديد) (1) .
وهذا الحافظ الذهبي يقول عن مؤلفاته: (وما أبعد أن تكون تصانيف ابن تيمية إلى الآن تبلغ خمسمائة مجلد) (2) .
وهذا الشيخ ابن عبد الهادي بن قدامة يقول: (وللشيخ - رحمه الله - من المصنفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل، وغير ذلك من الفوائد ما لا ينضبط. .) .
ثم قال: (ولا أعلم أحدا من متقدمي الأئمة ولا متأخريها، جمع مثل ما جمع. . . فمن ذلك ما جمعه في تفسير القرآن العظيم، وما جمعه من أقوال مفسري السلف الذين يذكرون الأسانيد في كتبهم، وذلك في أكثر من ثلاثين مجلدا، ولو كتب كله لبلغ خمسين مجلدا، وقد بيض أصحابه بعض ذلك، وكثيرا منه لم يكتبوه) ، وكان - رحمه الله - يقول: (ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله الفهم، وأقول: يا معلم إبراهيم، علمني، وكنت أذهب إلى
__________
(1) تاريخ ابن الوردي، 2 \ 406.
(2) تاريخ ابن الوردي، 2 \ 409، والكواكب الدرية، ص65.(44/274)
المساجد المهجورة ونحوها، وأمرغ وجهي بالتراب، وأسأل الله تعالى وأقول: يا معلم إبراهيم، فهمني) (1) .
كما ذكر العلماء والباحثون في الثناء على مكانة ابن تيمية العلمية الشيء الكثير، فهذا ابن دقيق العيد -المتوفى عام 702هـ- يقول بعد ما اجتمع بابن تيمية سنة 700هـ في مصر: (لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد، ويدع ما يريد) (2) .
وأما ابن سيد الناس اليعمري، المتوفى عام 734هـ فقد قال بعد أن ذكر ترجمة المزي: (وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظا، وكاد يستوعب السنن والآثار حفظا. إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو صاحب علمه، وذو روايته (3) .
وأما الذهبي الإمام الحجة في حكمه وأقواله على الرجال وتراجمهم، المتوفى عام 748هـ فقد أثنى كثيرا على شيخه ابن تيمية، واعتبره في مواقع كثيرة من تآليفه نابغة عصره، وفريد زمانه في سائر علوم المعرفة، ونجتزئ من كلامه الطويل عنه، وإعجابه به ما يلي: (كان ابن تيمية آية في الذكاء، وفي سرعة الإدراك، رأسا في معرفة الكتاب والسنة والاختلاف، بحرا في النقليات، هو في زمانه فريد عصره؛ علما وزهدا، وشجاعة وسخاء، وأمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، وكثرة تصانيف، وقرأ وحصل، وبرع في الحديث والفقه، وتأهل للتدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة سنة، وتقدم في علم التفسير والأصول، وجميع علوم الإسلام أصولها وفروعها، ودقها وجلها، فإن ذكر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا، وسرد وأبلسوا، واستغنى وأفلسوا، وإن سمي المتكلمون: فهو فردهم
__________
(1) الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية، ص77، 78.
(2) الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية، ص56، وتاريخ ابن الوردي، 4 \ 411.
(3) ذيل طبقات الحنابلة 2 \ 390، 391، والكواكب الدرية، ص57، 58.(44/275)
وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سيناء يقدم الفلاسفة فلهم وبخسهم، وهتك أستارهم، وكشف عوارهم، وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة، وهو أعظم من أن يصفه كلمي، أو ينبه على شأوه قلمي، فإن سيرته وعلومه ومعارفه، ومحنه وتنقلاته، يحتمل أن ترصع في مجلدتين، فالله تعالى يغفر له ويسكنه فسيح جناته، فإنه كان رباني الأمة، وفريد الزمان، وحامل لواء الشريعة، وصاحب معضلات المسلمين، رأسا في العلم يبالغ في أمر قيامه بالحق والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مبالغة ما رأيتها ولا شاهدتها من أحد، ولا لحظتها من فقيه.
وبرع في العلم والتفسير، وأفتى ودرس وله نحو العشرين سنة، وصنف التصانيف، وصار من كبار العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار، التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاء، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله، وصحته وسقمه، فما يلحق فيه، وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين -فضلا عن المذاهب الأربعة- فليس له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل، والأصول والكلام، فلا أعلم له فيه نظيرا، ويدري جملة صالحة في اللغة، وعربيته قوية جدا، ومعرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب، وأما شجاعته وجهاده وإقدامه فأمر يتجاوز الوصف ويفوق النعت، وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يضرب بهم المثل، وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل والملبس) (1) .
ويقول مرعي بن يوسف الحنبلي المتوفى عام 1033هـ: (ولقد سئل يوما عن الحديث: «لعن الله المحلل والمحلل له (2) » ، فلم يزل يورد فيه وعليه، حتى
__________
(1) انظر (العقود الدرية) ص22-24.
(2) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب النكاح، 2 \ 227.(44/276)
بلغ كلامه فيه مجلدا كبيرا.
وأما ما خصه الله تعالى به من معارضة أهل البدع في بدعهم، وأهل الأهواء في أهوائهم، وما ألفه في ذلك من نقض أقوالهم، وتزييف أمثالهم وأشكالهم، وإظهار عوارهم، وانتحالهم، وتبديد شملهم، وقطع أوصالهم، وأجوبته عن شبههم الشيطانية، ومعارضتهم النفسانية، بما منحه الله تعالى به من البصائر الرحمانية، والدلائل النقلية، والتوضيحات العقلية فمن العجب العجيب) (1) .
ويقول تلميذه الحافظ عمر بن علي البزار المتوفى عام 749هـ: (وأما مؤلفاته ومصنفاته، فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها، أو يحضرني جملة أسمائها، بل هذا لا يقدر عليه غالبا أحدا؛ لأنها كثيرة جدا، كبارا وصغارا، وهي منشورة في البلدان، فقل بلد نزلته إلا ورأيت فيه من تصانيفه:
فمنها: ما يبلغ اثني عشر مجلدا كـ (تلخيص التلبيس على أساس التقديس) وغيره.
ومنها: ما يبلغ سبع مجلدات كـ (الجمع بين العقل والنقل) .
ومنها: ما يبلغ خمس مجلدات ومنها: (منهاج الاستقامة والاعتدال) ونحوه.
ومنها: ما يبلغ ثلاث مجلدات كـ (الرد على النصارى) وشبهه.
ومنها: مجلدان كـ (نكاح المحلل) ، (وإبطال الحيل) ، و (شرح العقيدة الأصبهانية) .
ومنها: مجلد ودون ذلك. . وهذان القسمان من مؤلفاته، فهي كثيرة جدا لا يمكنني استقصاؤها، لكن أذكر بعضها استئناسا:
- كتاب: (تفسير سورة الإخلاص) مجلد.
__________
(1) الكواكب الدرية، ص82.(44/277)
كتاب: (الكلام على قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) مجلد.
- كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول) مجلد.
- كتاب: (الفرق المبين بين الطلاق واليمين) .
- كتاب: (الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) .
- كتاب: (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) .
- كتاب: (الكلم الطيب) .
- كتاب: (إثبات الكمال) .
- كتاب: (الرد على تأسيس التقديس) .
- كتاب: (نقض أقوال المبتدعين) .
- كتاب: (الرد على النصارى) .
- كتاب: (إبطال الحيل ونكاح المحلل) (2) .
- كتاب: (شرح العقيدة الأصبهانية) (3) .
- كتاب: (الفتاوى) .
- كتاب: (الدر الملتقط) .
- كتاب: (أحكام الطلاق) .
- كتاب: (الرسالة) .
- كتاب: (اعتقاد الفرق الناجية) .
- كتاب: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) .
- كتاب: (تقرير مسائل التوحيد) .
- كتاب: (الاستغاثة والتوسل) .
- كتاب: (المسائل الحموية) .
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) لعل هذان داخلان في السابق الذي من مجلدين، وأنه قد ضم هذين الكتابين لبعضهما فكانا في مجلدين.
(3) لعل هذان داخلان في السابق الذي من مجلدين، وأنه قد ضم هذين الكتابين لبعضهما فكانا في مجلدين.(44/278)
_ كتاب: (المسائل الجزرية) .
_ كتاب: (المسائل المفردة) .
ثم قال: ولا يليق هذا المختصر بأكثر من هذا القدر من مؤلفاته، وإلا فيمكن تعداد ما ينيف على المائتين، لكن لم نر الإطالة بذكره) (1) .
وكان من أوفى من ذكر مؤلفاته رحمه الله، تلميذه: ابن قيم الجوزية في رسالته عنه، والصفدي في: (الوافي بالوفيات) ، وابن رجب في: (طبقات الحنابلة) .
ومن المتأخرين فند عبد السلام هاشم حافظ في كتابه عن ابن تيمية الذي طبع للمرة الأولى عام 1389هـ -1969م حينما قال: (ومع بداية هذا القرن - الرابع عشر الهجري- بدأت تظهر مؤلفات الإمام ابن تيمية في طبعات مختلفة في الهند والشام ومصر، ولقد طبع معظم كتبة التي احتفظ لنا بها التاريخ في مجلدات تضم عديدا من الرسائل، والكتب الصغيرة.
فهناك مجلد ضخم باسم: (مجموعة الرسائل الكبرى) في جزأين طبعا بمصر سنة 1323هـ.
الجزء الأول في 475 صفحة، ويحتوي على هذه التصانيف:
1 - رسالة الفرقان بين الحق والباطل.
2 - معارج الوصول إلى معرفة الأصول.
3 - التبيان في نزول القرآن.
4 - الوصية في الدين والدنيا.
5 - رسالة النية في العبادات.
6 - العرش هل هو كري أم لا؟
7 - الوصية بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيان فضل أمته على سائر الأمم.
__________
(1) انظر كتاب: (الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية) ص 25-27.(44/279)
8 - اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، وهذه الرسالة عرفت باسم (العقيدة الواسطية) وطبعت كثيرا.
9 - الإرادة والأمر.
10 - المناظرة في العقيدة الواسطية.
11 - العقيدة الحموية الكبرى.
12 - السؤال عن الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم هل جائزة أم محرمة؟ والجواب عن ذلك.
- أما المجلد الثاني ففي 405 صفحات، ويضم الكتب التالية:
1 - رسالة الإكليل في المتشابه والتأويل.
2 - في الجواب عن القائل: كل الحلال متعذر لا يمكن وجوده في هذا الزمان.
3 - مراتب الإرادة.
4 - في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (1) » .
5 - القضاء والقدر.
6 - الاحتجاج بالقدر.
7 - درجات اليقين.
8 - بيان الهدى والضلال.
9 - في سنة الجمعة.
10 - تفسير المعوذتين.
11 - بيان العقود المحرمة.
12 - في معنى القياس.
13 - حكم السماع والرقص.
14 - الكلام على الفطرة.
15 - الكلام على القصاص.
16 - في مناسك الحج.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(44/280)
17 - الكلام على رفع الحنفي يديه في الصلاة.
- وفي عام 1368هـ صدر أيضا كتاب مفرد باسم: (مجموعة رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية) في 154 صفحة، بآخره رسالة لأحد تلاميذه، والكتاب يحتوي على أربعة مصنفات، أحدها مكرر من مجموعة الرسائل السابقة، وهذه الثلاث هي:
1 - رأس الحسين رضي الله عنه، بحث حول ما أشيع كذبا عن نقل رأس الإمام الحسين إلى مصر.
2 - الرد على ابن عربي والصوفية، وهو الكتاب المسمى: (الرد الأقوم على ما في كتاب فصوص الحكم) .
3 - قتال الكفار ووجوبه.
4 - أما المكرر فهو: بيان العقود المحرمة، الوارد في رقم (11) أعلاه.
- وأما الرسالة التي جاءت في ختام الكتاب فهي لتلميذه الإمام الشيخ: شهاب الذين أحمد بن مري، واسمها: (الحث على جمع كتب الشيخ ونشرها) ، وقد أرسل بها إلى علماء الحنابلة بدمشق يعزيهم في فقد الإمام، ويستحثهم على العناية بمصنفاته ونشرها.
- كذلك صدر مجلد يضم كتابين من مؤلفات الإمام أحمد، هما:
كتاب: (الجواب الباهر في زوار المقابر) في 90 صفحة، وهو إجابة عن استفسار من الملك الناصر، وسائر الأكابر لمعرفة الحال، وما أفتى به في هذا الموضوع.
والكتاب الثاني: الرد على الأخنائي في 232 صفحة، وهو: (استحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية) ، وقد كتب الإمام هذا الرد على ما جاء حول هذه الزيارة لقاضي القضاة الأخنائي بعد أن ألح عليه الكثيرون، في ضرورة إيضاح الحقيقة، ورد الافتراءات التي تقوى بها القاضي المذكور.
- ومن كتب الإمام الكبيرة: (مجموعة الفتاوى) ، التي ظهرت في طبعتها(44/281)
الأولى سنة 1326 هـ في خمسة أجزاء ضخمة تزيد على ألفين وخمسمائة صفحة، وقد تضمنت كل مناظراته، وآرائه، وأجوبته عن كثير من المسائل والفتاوى، ولقد طبع كتابه: (الاختيارات العلمية) ، ملحقا بالجزء الرابع، ومن هذه المجموعة الهائلة.
- كذلك كتابه النقدي الضخم: (منهاج السنة النبوية) ، وأول ما طبع سنة 1321هـ، وعلى هامشه كتابة المرسوم: (بيان موافقة المعقول لصحيح المنقول) .
أما كتبه المعروفة الأخرى، فنذكر منها ما قد طبع أغلبه:
1 - السياسة الشرعية في أمور الدولة، طبع سنة 1370هـ.
2 - كتاب: مجموعة تفسير لست من سور القرآن الكريم هي: الأعلى، الشمس، الليل، العلق، الكافرون، البينة، طبع في بومباي بالهند سنة 1373هـ الموافق لعام 1954م، بعد أن صححه وعلق عليه، ثم قدمه بالإنجليزية السيد عبد الصمد شرف الدين.
3 - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، طبع في أربعة أجزاء عام 1322هـ.
4 - المعجزات والكرامات، طبع سنة 1349هـ.
5 - نقض المنطق، طبع بمصر عام 1370هـ في 210 صفحات.
6 - الرد على المنطقيين، طبع في بومباي بالهند سنة 1368هـ في 550 صفحة.
7 - نظرية العقد - وهو كتاب: العقود، طبع عام 1349هـ.
8 - مذهب السلف القويم في تحقيق مسألة كلام الله الكريم، طبع سنة 1349هـ في65 صفحة.
9 - رفع الملام عن الأئمة الأعلام.
10 - الواسطة بين الحق والخلق.(44/282)
11 - الرسالة البعلبكية.
12 - الصراط المستقيم ومجانية أصحاب الجحيم.
13 - رسالة في حقيقة الصيام.
14 - العقيدة التدمرية.
15 - العقيدة المراكشية.
16 - المسألة النصيرية.
17 - سؤال عن صحة مذهب أهل المدينة.
18 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة.
19 - مسألة الكنائس.
20 - النبوات.
21 - الجامع في السياسة الإلهية.
22 - كتاب الرد على النصارى.
23 - أربعون حديثا برواية ابن تيمية.
24 - جمع كلمة المسلمين.
25 - الكلام على حقيقة الإسلام والإيمان.
26 - نقد تأسيس الجهمية.
27 - تخجيل أهل الإنجيل.
28 - الصارم المسلول على شاتم الرسول.
29 - نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان.
30 - الرسالة المدنية في المجاز والحقيقة.
31 - إيضاح الدلالة في عموم الرسالة.
32 - رسالة في سجود القرآن.
33 - رسالة في سجود السهو.
34 - رسالة في أوقات النهي والنزاع.(44/283)
35 - رسالة في تنوع العبادات.
36 - رسالة العبودية.
37 - رسالة الحسبة في الإسلام.
38 - رسالة المظالم المشتركة.
39 - رسالة في زيارة بيت المقدس.
40 - جوامع الكلم الطيب في الأدعية والأذكار.
41 - كتاب الفرق المبين بين الطلاق واليمين.
42 - مسألة الحلف بالطلاق.
43 - مسألة العلو.
44 - الرسالة القبرصية.
45 - تفسير سورة النور.
46 - بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية.
47 - حقيقة مذهب الاتحاديين، أو وحدة الوجود وبطلانه بالبراهين النقلية والعقلية.
48 - تفصيل الإجمال فيما يجب لله من صفات الكمال.
49 - قصيدة في مسألة القضاء والقدر (1) .
هذا وإن غالبية هذه الكتب يشملها مجموع فتاوى ابن تيمية الذي أشرنا إليه، وقام عليه جمعا ومتابعة وطباعة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم العاصمي النجدي بمعاونة ابنه محمد.
- كما خرج بطبعة كاملة ومحققة عن طريق جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كتابه القيم في أحد عشر مجلدا: (درء تعارض العقل والنقل) .
- وخرج عن طريق الجامعة أيضا في سبعة مجلدات بعد التحقيق كتابه:
__________
(1) انظر كتاب: (ابن تيمية) لعبد السلام هاشم حافظ، ص 152-157.(44/284)
(منهاج السنة) .
ومن هذا ندرك أنه رحمه الله مكتبة كاملة في فنون المعرفة، التي سخرها للدفاع عن دين الإسلام، والدعوة إليه، ومحاربة الشوائب التي يراد إدخالها عليه؛ عقيدة وعملا.(44/285)
شجاعته في الحق:
اتصف شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بقوة القلب، ورباطة الجأش في كل موقف يمر به مع قوة إيمان، وحجة دامغة، مما نتج عنه شجاعة متناهية في سبيل عقيدة الإسلام، ومحاربة أعداء دين الله، وأهل البدع؛ بالبدن واللسان، وقوة الحجة.
وقد تحدث تلميذه البزار المتوفى عام 749هـ عن مظاهر عديدة من شجاعته في كتابه الذي خصه به، وسماه: (الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية) ، ومما قاله: (كان رضي الله عنه، من أشجع الناس وأقواهم قلبا، ما رأيت أحدا أثبت جأشا منه، ولا أعظم عناء في جهاد العدو منه، كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم.
وأخبر غير واحد: أن الشيخ - رحمه الله - كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتهم، وقطب ثباتهم، إن رأى من بعضهم هلعا أو رقة أو جبانة، شجعه وثبته وبشره، ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبين له فضل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السكينة، وكان إذا ركب الخيل يتحنك (1) ، ويجول في العدو كأعظم الشجعان، ويقوم كأثبت الفرسان، ويكبر تكبيرا أنكى في العدو من كثير من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت.
وأخبرني من لا أتهمه: أن الشيخ - رحمه الله - حين وشي به إلى السلطان المعظم الملك الناصر محمد، أحضره بين يديه، قال: فكان من جملة كلامه: إنني
__________
(1) التحنك هو: وضع العمامة تحت الذقن ولف طرفيها على الرأس.(44/285)
أخبرت أنك قد أطاعك الناس، وأن في نفسك أخذ الملك، فلم يكترث به، بل قال له بنفس مطمئنة، وقلب ثابت، وصوت عال سمعه كثير ممن حضر: أنا أفعل ذلك؟ والله إن ملكك وملك المغول لا يساوي عندي فلسين، فتبسم السلطان لذلك، وأجابه في مقابلته بما أوقع الله له في قلبه من الهيبة العظيمة: إنك والله لصادق، وإن الذي وشى بك إلي كاذب. واستقر له في قلبه من المحبة الدينية ما لولاه لكان قد فتك به منذ دهر طويل؛ من كثرة ما يلقى إليه في حقه من الأقاويل الزور والبهتان، ممن ظاهر حاله للطغام: العدالة، وباطنه: مشحون بالفسق والجهالة) (1) ومن قوته في الحق، وصدعه بالدعوة هدى الله قادة المغول للإسلام؛ لأن صدقه مع الله منحه الشجاعة والجهر بالحق، وجعل الله له بذلك القبول في القلوب.
وفي الدفاع عن دمشق، وفتح عكا، ومعركة شقحب وغيرها من المعارك، كان المثل النادر بالشجاعة والقوة، وإذا تفقد من معه فوجدهم ملتزمين بشرع الله، وحريصين على دينهم، كان يقول لهم:
سننتصر على الأعداء، فيقول له بعضهم: قل: إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا؛ لأن الله أمرنا بطاعته والاستعداد، فطعناه فيما أمر، واستعدينا لملاقاة العدو.
وفي حواره مع السلطان غازان - أحد ملوك التتار - لما ظهر على دمشق، ما يدل على قوة بأسه، وعدم خوفه من سطوته، وكان مما قاله حسبما ذكر الشيخ مرعي بن يوسف الحنبلي المتوفى عام 1033هـ في كتابة: (الكواكب الدرية في مناقب المجتهد ابن تيمية) ، قال الشيخ ابن تيمية للترجمان: (قل للسلطان أنت تزعم أنك مسلم، ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون - على ما بلغنا - فغزوتنا، وأبوك وجدك هولاكو كانا كافرين، وما
__________
(1) انظر (الأعلام العلية) الفصل الحادي عشر، ص 63-66، والفصل الثاني عشر ص 67، 68.(44/286)
عملا الذي عملت، عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت وجرت. والسلطان من شدة ما أوقع الله له في قلبه من المحبة والهيبة سأل: من هذا الشيخ؟ فإني لم أر مثله، ولا أثبت قلبا منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقيادا لأحد منه. . . ثم خرج من بين يدي السلطان مكرما معززا بحسن نيته الصالحة من بذله نفسه في طلب حقن دماء المسلمين، فبلغه الله ما أراده، وكان أيضا سببا لتخليص غالب أسارى المسلمين من أيديهم وردهم على أهليهم) (1) .
وقد ذكر عبد السلام حافظ عنه مواقف كثيرة في شجاعة القتال الميداني، والتصدي للتتار، وفي قوة العزم، ومحاربة كل دخيل على منهج الإسلام السليم: من عقائد ومفاسد، وضلال وغواية، إلى درء للمحرمات، ومقاومة مصادرها، ومن ذلك:
في يوم 17 رجب عام 699هـ نفذ الإمام عزمه على القضاء على آلات الشرب المحرم، فخرج بنفسه مع بعض رفاقه، يدورون على الحانات ومحال الخمور، يريقونها، ويكسرون آنيتها، بل ويعزرون أصحابها (2) .
وفي شهر رجب سنة 704هـ قصد الإمام مسجد التاريخ، يرافقه نفر من أصحابه ومن الحجارين، حيث أمرهم بإزالة صخرة كانت تزار، وتنذر لها النذور بنهر (فلوط) ، وعنها قال ابن كثير: (فقطعها - يعني ابن تيمية - وأراح الله المسلمين منها ومن الشرك) .
وفي أوائل شهر محرم سنة 705هـ نراه يشارك أيضا في الحملة ضد فئات منحرفة تنكرت لبعض تعاليم الإسلام، ببلاد الجرد، والرفض، والتيامنة، وقد لحق به نائب السلطنة جمال الدين الأقرم في جنده المسلمين، فحاربوهم
__________
(1) الكوكب الدرية، ص93، 94.
(2) انظر كتابه: ابن تيمية ص 27.(44/287)
حتى أعلنوا الطاعة وأنابوا إلى الهدى (1) .
وهكذا لو تتبعنا مواقفه الجريئة، وحماسته للذود عن حياض الإسلام، لوجدناها بكثرتها تنبئ عن مواقف مشرفة في الدفاع عن حمى الإسلام من أن يتطاول عليه أحد، ويبرز منها ردود وافية على أصحاب المعتقدات المتطرفة، وأتباع المذاهب المخالفة لحقيقة الإسلام، وما تنطوي عليه شريعة هذا الدين، مما جعل له خصوما كثيرين، سواء من العامة أو من العلماء والفقهاء على اختلافهم، حيث كان ينقض ادعاءاتهم المريبة، ويعري مخالفاتهم لأصول الدين، ويرد بآراء قوية، لم يجرؤ مثله بالتصريح بها. وقد صدق الإمام مالك - رحمه الله - في قوله: (ما منا إلا راد ومردود عليه) .
__________
(1) الإمام ابن تيمية، لعبد السلام حافظ، ص 27.(44/288)
ما تعرض له من بلاء:
لا شك أن هذه الشجاعة والجرأة في الحق، مع الحرص على التصدي لأمور كثيرة تفشت في البيئة الإسلامية، نتيجة الجهل والبعد عن المنهج السليم، الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه، وتلقفه عنه أصحابه لينشروه في الآفاق، وعنهم أخذ السلف الصالح جيلا بعد جيل، هذا في بعض الجوانب المتعلقة بما أدخل على الدين نتيجة التقليد، والاستسلام لرغبات النفس، والانقياد للعلماء الذين يفتون بغير ما أنزل الله، حيث كان يخشاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته، هذه الشجاعة والجرأة في الحق ما هي إلا هبة من الله لابن تيمية تبوأها بالصدق مع الله والنية المخلصة.
ولهذا فهو ينتصر على خصومه، ويظهره الله على كيد أعدائه، ثم يقابل أعمالهم بالصبر وقوة الاحتمال، فإذا قدر عفا وصفح، وقد حاول أعداؤه مرارا النيل منه، بل القضاء على حياته، ولكن حينما تمكن منهم عفا عنهم وقال: أما أنا فهم في حل من حقي، ومن جهتي، وكان القاضي زين الدين ابن مخلوف -(44/288)
قاضي المالكية - يقول بعد ذلك: (ما رأينا أتقى من ابن تيمية، إذ لم نبق ممكنا في السعي فيه، ولما قدر علينا عفا عنا) (1) .
ولقد حبس عدة مرات بسبب مكائد الخصوم، ووشي به إلى السلاطين لعله يقتل، لكن الله سبحانه ينجيه؛ لأن من حفظ الله حفظه، ومن كان مؤمنا حقا استحق دفاع الله عنه.
ودعي للمناظرات والخصومات عن ردوده على أصحاب الفرق والبدع، يقول تلميذه البزاز: (ولقد سجن أزمانا وأعصارا وسنين وشهورا، ولم يولهم -أي: المسيئين إليه والمخاصمين له- دبره فرارا، ولقد قصد أعداؤه الفتك به مرارا، وأوسعوا حيلهم عليه إعلانا وإسرارا، فجعل الله يحفظه منهم شعارا ودثارا، ولقد ظنوا أن في حبسه مشينة، فجعله الله له فضيلة وزينة، وظهر له يوم موته ما لو رآه واده في حياته أقر به عينيه، فإن الله تعالى؛ لعلمه بقرب أجله، ألبسه في الفراغ عن الخلق للقدوم على الحق أجمل حلله، كونه حبس على غير جريرة ولا جريمة، بل على قوة في الحق وعزيمة، هذا مع ما نشر الله له من علومه في الآفاق، وبهر بفنونه البصائر والأحداق، وملأ بمحاسن مؤلفاته الصحف والأوراق، كبتا ورغما للأعداء، أهل البدع المضلة والأهواء) (2) .
وهذا الكلام المجمل من تلميذ عاصر أستاذه، وعرف ما حصل له، وكأنه يريد بذلك ما حصل له من منع عن الفتوى، ومن سجن في القاهرة، ثم سجن في الإسكندرية، ثم سجن في دمشق حتى توفي وهو في هذا السجن الأخير. إذ أن من يختلف معه رحمه الله في أي أمر يطرحه، يلجأ إلى حيلة
__________
(1) السيرة العلمية لشيخ الإسلام ابن تيمية، للدكتور عبد الرحمن الفريوائي، ص 17.
(2) الأعلام العلية، ص68.(44/289)
العاجز بالإيقاع به، والخوض في عرضه، والافتراء عليه، حتى توغر الصدور عليه، وتأمر السلطة بسجنه.
1 - ففي عام 718هـ كان من ضمن ما تحدث فيه فتواه في الحلف بالطلاق، واعتبره معاصروه أمرا خطيرا؛ إذ أن هذه المسألة الفقهية لم تثر إلا في زمنه، إذ أنه أفتى بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة رجعية، وبعدم وقوع الطلاق بالحلف به إذا حنث، وأن على الحالف أداء كفارة اليمين فقط، إذا كان لا يقصد إيقاع الطلاق، وإنما هدفه اليمين، فثار عليه القوم آنذاك، وأقيمت عليه الدعاوى حتى اضطر الحاكم إلى إصدار أمر بمنع الشيخ ابن تيمية من الفتوى بعدم وقوع الطلاق، وإلى المناداة بهذا في الأسواق العامة؛ ليعرفه الناس، ويحذروا من الوقوع في شره - كما اعتقدوا - ولكنه رحمه الله؛ لقوة إرادته وإيمانه كان يقول: (لا يسعني كتمان العلم) ، فصار يجاهر برأيه، ويجيب على من يستفتيه، مما سبب له السجن في دمشق قرابة نصف عام (1) فهو يخشى أن يلجم بلجام من نار، كما جاء الوعيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن سئل عن علم فكتمه.
2 - وبعد خروجه من السجن أثار عليه خصومه مسألة أخرى في موضوع: (شد الرحال) ، مع أن الرأي الذي يقول به هو قول الإمام مالك، أن السفر إلى أضرحة الأولياء غير مشروع، بل وفيه معصية، أخذا من الحديث الشريف المتفق على صحته: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا (2) » ، يعني: المسجد النبوي، وقد ضمن آراءه في هذا كتابه: (الجواب الباهر في زوار المقابر) ، وفي كتابه الآخر: الرد على الأخنائي، وهو: (استحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية) ، مستدلا بما جاء عن الله وعن رسوله، وبما أفتى به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم من
__________
(1) كتاب ابن تيمية، لعبد السلام حافظ ص 108.
(2) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(44/290)
سلف الأمة، فما زال خصومه بالسلطان حتى سجنه في عام 726 هـ في قلعة دمشق، ومعه شقيقه زين العابدين عبد الرحمن، وسجن معه فريق من أصحابه العلماء، وعزروا بعض الوقت، وفيهم تلميذه النابغة ابن قيم الجوزية، الذي بقي في السجن مدة طويلة بينما جرى إطلاق الآخرين (1) .
3 - وقد امتحن رحمه الله بمحن أخرى وخاض فيه أقوام، ونسبوه للبدع والتجسيم، وهو من ذلك بريء، بل كان يحارب البدع ويشدد النكير على أهلها، وكان أول محنة في ذلك له في شهر ربيع الأول سنة 698هـ بسبب عقيدته الحموية الكبرى، وهي جواب سؤال ورده من حماة، فوضعها ما بين الظهر والعصر في ست كراريس، فجرى له بسبب تأليفها أمور ومحن، حيث رجح مذهب السلف على مذهب المتكلمين، وشنع عليهم، وقد توسع في بيان ما حصل له: الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي (2) .
4 - ولما سكنت فتنة الحموية، وبعدها بمدة طويلة ظهر الشيخ نصر المنبجي بمصر، واستولى على أرباب الدولة القاهرة، وشاع أمره وانتشر، فقيل لابن تيمية: إنه اتحادي، وأنه ينصر مذهب ابن العربي، وابن سبعين، فكتب إليه نحو ثلاثمائة سطر ينكر عليه، فتكلم نصر المنبجي مع قضاة مصر في أمره، وقال: (هذا مبتدع وأخاف على الناس من شره) ، فعقد للشيخ ابن تيمية في رجب عام 705هـ مجلس وسئل عن عقيدته، فقدم لهم: (الواسطية) ، وقال: (هذه كتبتها من نحو سبع سنين قبل مجيء التتار إلى الشام) ، ثم دعي لمصر وعقد له مجلس مناظرة، وعقد له مجلس ثالث بالقصر، وبعد أن أوذي، أبرئت ساحته (3) .
__________
(1) الإمام ابن تيمية، لعبد السلام حافظ ص 111، 112.
(2) راجع (الكواكب الدرية في مناقب ابن تيمية) ص 102-114.
(3) انظر: (الكواكب الدرية) للشيخ مرعي بن يوسف الذي توسع في تفاصيل هذه المحنة ص 112-116.(44/291)
5 - وتآلب عليه خصومه في مصر، بعدما وصلها في رمضان عام 705هـ حيث جمع له القضاة وأكابر الدولة بالقلعة، وادعى عليه عند القاضي ابن مخلوف المالكي خصم بأنه يقول: إن الله فوق العرش حقيقة، وأن الله يتكلم بحرف وصوت، وزاد الحافظ الذهبي: وأن الله يشار إليه الإشارة الحسية، وطلب عقوبته على ذلك. . . وقد حبس على ذلك في الجب ثمانية عشر شهرا، وقد ذكر الشيخ مرعي تفاصيل ذلك (1) ، وكان مما قاله: (سبب محنته وابتلائه: قيامه في الله، والرد على أهل البدع والعقائد الفاسدة، ومبالغته في الرد على الفقراء الصوفية - الأحمدية والرفاعية - بسبب خروجهم عن الشريعة) (2) .
ومن يقرأ ما كتبه ابن تيمية يرى أن قوله في الاستواء بمثل ما قال إمام دار الهجرة مالك رحمه الله: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) .
6 - وفي شوال عام 707هـ شكا شيخ الصوفية بالقاهرة - كريم الدين الآملي وابن عطاء وجماعة نحو الخمسمائة - من الشيخ تقي الدين ورأيه في ابن عربي وغيره إلى الدولة، فخيروه بين الإقامة بدمشق أو الإسكندرية بشروط، أو الحبس، فاختار الحبس، وقال: أنا أمضي إلى الحبس، وأتبع ما تقتضيه المصلحة.
ولما دخل الحبس، وجد المحابيس مشتغلين بأنواع من اللعب، يلتهون بها عما هم فيه كالشطرنج والنرد، مع تضييع الصلوات، فأنكر الشيخ ذلك عليهم، وأمرهم بملازمة الصلاة، والتوجه إلى الله بالأعمال الصالحة، والتسبيح والاستغفار والدعاء، وعلمهم من السنة ما يحتاجون إليه، ورغبهم في أعمال
__________
(1) الكواكب الدرية ص 126-133.
(2) الكواكب الدرية ص 126.(44/292)
الخير، وحضهم على ذلك، حتى صار الحبس بالاشتغال بالعلم والدين خيرا من كثير من الزوايا والربط والخوانق والمدارس.
وصار خلق من المحابيس إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده، وكثر المترددون إليه، حتى كان السجن يمتلئ منهم.
واستقر الشيخ في الحبس يستفتى، ويقصده الناس ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المشكلة من الأمراء والأعيان. فلما كثر اجتماع الناس به، وترددهم إليه ساء ذلك أعداءه وحصرت صدورهم، فسألوا نقله إلى الإسكندرية، فنقل (1) .
إلى غير ذلك من المواقف التي كانت له من أعدائه، وهو صابر محتسب، حيث روي له قوله: (ماذا يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة) (2) ، لأنما يغيضهم يسره، ولأنه رحمه الله كالغيث أينما حل نفع.
__________
(1) الكواكب الدرية، ص133-135.
(2) الإمام ابن تيمية، ص 113.(44/293)
ثناء العلماء عليه:
تبين منزلة العالم بمكانته عند الخاصة والعامة، فالخاصة وهم العلماء لا يحكمون عليه إلا بعد تمحيص علمه، وإدراك فضله في المأخذ العلمي، وطريقة الطرح والاستدلال؛ إذا لا شك أن كل طالب علم له قادح ومادح.
فالقادحون تمحص آراؤهم بطريقة النقد، فإن لم تستند على المقياس الأساسي، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي آراء مجروحة، ورغبات صادرة عن هوى، وما بني على باطل فهو باطل.
أما المادحون فينظر في مكانتهم وثقلهم العلمي؛ لأن من رفعة مكانة(44/293)
الممدوح ثناء ذوي الفضل والمكانة عليه، وهو العلماء والمعتد بعلمهم، المعروفون بالفضل والعدالة وحصافة الرأي.
وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - اتفق أهل العلم المرموقون من معاصريه، ومن جاء بعدهم، على فضله وإمامته، وأنه يستحق التسمية بشيخ الإسلام، لما منحه الله من تفوق علمي، وفضل وزهد وورع، إلى جانب حسن الخلق والحلم والمقدرة على التحمل، فقد أسبغ الله عليه نعما كثيرة، هي من الله فضل، وهي للشيخ لباس يتجمل به، وحلية تزين ما بين جنبيه من علم، وسعة اطلاع في معارف عديدة.
والمتتبع لكتب التراجم والسير، لا يحصي كثرة من أثنى على هذا الإمام عرفانا بمكانته في العلم الذي جمله الله به.
وقد اتفق علماء الإسلام على تسميته شيخ الإسلام، حيث تصدى ابن ناصر الدين الدمشقي - في كتابه: (الرد الوافر على من زعم: بأن من سمى ابن تيمية "شيخ الإسلام" كافر) - لمن قال بهذا القول، أثبت أن ما يقرب من (88) عالما من أئمة الإسلام لقبوا ابن تيمية بشيخ الإسلام. وهذا شبه إجماع، والأمة لا تجتمع على ضلالة، ومن أولئك العلماء العلامة أبو عبد الله محمد بن الصفي عثمان الحريري الأنصاري الحنفي، قاضي القضاة في مصر والشام، الذي قال: (إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن؟) (1) .
كما أثنى عليه خلق كثير من العلماء عاصره بعضهم، وأطنبوا في هذا الثناء تقديرا لمكانته، وعرفانا بما منحه الله من علم وفضل، وممن عاصره، وأعطاه ما يستحقه من المنزلة العلمية والتبحر في العلوم والعقائد:
1 - ابن دقيق العيد المتوفى عام 702هـ.
2 - إبراهيم بن أحمد الرقي المتوفى عام 703 هـ.
__________
(1) الرد الوافر، ص 102.(44/294)
3 - أحمد بن إبراهيم الواسطي المتوفى 711هـ.
4 - إسحاق بن أبي بكر بن ألمى التركي المتوفى في حدود عام 730هـ.
5 - قاضي القضاة ابن الزملكاني الشافعي المتوفى عام 727هـ.
6 - قاضي قضاة مصر والشام محمد بن عثمان الحريري الأنصاري الحنفي المتوفى عام 728هـ.
وهؤلاء الستة ماتوا قبل وفاة شيخ الإسلام ابن تيمية، أما من عاصره وتوفي بعده فمنهم:
7 - ابن سيد الناس اليعمري المصري المتوفى عام 734هـ.
8 - الإمام الحافظ أبو محمد البرزالي الشافعي المتوفى عام 738هـ.
9 - جمال الدين المزي المتوفى عام 742هـ.
10 - الإمام الحافظ شمس الدين ابن عبد الهادي بن قدامة المقدسي المتوفى عام 744هـ.
11 - شيخ النحاة محمد بن يوسف بن حيان الأندلسي الشافعي المتوفى عام 745هـ.
12 - الحافظ الناقد شمس الدين الذهبي المتوفى عام 748هـ.
13 - الإمام عمر بن مظفر الوردي الشافعي المتوفى عام 749هـ.
14 - الإمام أحمد بن يحيى بن فضل الله العمري الشافعي المتوفى عام 749هـ.
15 - الإمام الحافظ أبو حفص عمر بن علي البزار المتوفى عام 749هـ.
16 - الإمام المحدث المؤرخ ابن كثير المتوفى عام 774 هـ.
وغير هؤلاء من أفاضل العلماء إلى جانب القصائد التي قيلت في رثائه بعد وفاته، وأجوبة من علماء بغداد والبصرة، وعلماء الشافعية والمالكية والأحناف في الانتصار له رحمه الله فيما حصل له من امتحان في المسائل التي نوقش فيها، والتي أثيرت ضده وبشأنها شبه، حيث استعيدت من أجلها(44/295)
السلطة.
وقد أجمل أسماء أصحاب الشيخ وأعوانه ومحبيه الحافظ أبو حفص عمر بن علي البزار في كتابه: (الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية) بـ 34 عالما، وفندهم واحدا واحدا، بأسمائهم وتراجمهم، أما أعداؤه والمعترضون عليه فهم اثنا عشر فردا فقط (1) .
ومن هذه المقارنة يتضح أن أنصاره والعارفين بجلال قدره أضعاف المعترضين عليه. وهذا وحده كاف في إبراز مكانة هذا الشيخ الجليل، والانتصار له على خصومه، الذين تضاءلت دعاواهم عليه رحمه الله، مع سعة علمه، وقوة حجته، ونصرته لدين الله، ومن كان مع الله كان الله معه، وصدق في تسليته لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (2) {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (3) .
ومع الأيام والاهتمام بمنهج شيخ الإسلام ابن تيمية: دراسة وتتبعا تبرز دراسات ومتابعات لحياة هذا العالم الفذ، وآخر ما وقع في يدي عن شيخ الإسلام - وإن كان في كل يوم يظهر عنه شيء جديد - كتاب للدكتور عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي الذي نشرته الجامعة الإسلامية في بنارس الهند، بعد الاهتمام بهذا الشيخ في ندوة علمية كبيرة بهذه الجامعة عن ابن تيمية.
هذا الكتاب عن السيرة العلمية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ويقع في 223 صفحة من القطع المتوسط، جاء من اهتمام المؤلف بابن تيمية، حيث كان
__________
(1) الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، ص 79-87.
(2) سورة النحل الآية 127
(3) سورة النحل الآية 128(44/296)
الجانب الحديثي في سيرته واهتمامه بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو موضوع رسالة الدكتور عبد الرحمن العلمية، مما جعله يهتم به، ويتابع ما نشر عنه في عدة لغات عالمية.
وقد حرص على تتبع الدراسات حول ابن تيمية وآثاره، في المؤلفات، وفي سيرته باللغة الأوردية والإنجليزية، والعربية، وما كتبه علماء التراجم والتاريخ في الهند وغيرها.
ونجمل ذلك في الأرقام التالية:
أ- المؤلفات المتعلقة بسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية وعلومه عددها 96 (1) .
ب- كتب السير والتاريخ والتراجم التي تناولت شخصية ابن تيمية، أورد منها 102 ثم قال: (وهي كثيرة لا يأتي عليها الإحصاء) (2) .
ج- بحوث الندوة العالمية عن حياة شيخ الإسلام ابن تيمية المقامة في الجامعة السلفية بنارس بالهند 29 ربيع الأول - 1، 2 ربيع الثاني سنة 1408هـ الموافق 22-24 نوفمبر عام 1987م، وعددها 40 (3) .
د- شيخ الإسلام في الدراسات الاستشراقية في جامعات الغرب، ويبلغ عددها 20 (4) .
هـ- مختصرات من مؤلفات ابن تيمية، ويبلغ عددها 13 (5) .
وتراجم مؤلفات ابن تيمية إلى اللغة الأوردية، ويبلغ عددها 37 (6) .
وهذا الاهتمام الذي لازال مستمرا ينبئ عن المكانة التي وهبها الله
__________
(1) انظر (السيرة العلمية) للفريوائي، ص 180-199.
(2) انظر (السيرة العلمية) للفريوائي، ص 199-207.
(3) انظر (السيرة العلمية) للفريوائي، ص207-211.
(4) انظر (السيرة العلمية) للفريوائي، ص 211-214.
(5) انظر (السيرة العلمية) للفريوائي، ص 214-216.
(6) انظر (السيرة العلمية) للفريوائي، ص216-218.(44/297)
للشيخ، بسطة في العلم، وتوفيقا في بذله، ومكانة في المجتمع، وقبولا لدى الخاصة والعامة، فكانت كلما زادت الدراسة عنه، وكلما اهتم الباحثون بالكتابة - سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين - بأن أمامهم شيء جديد في حياة الشيخ وعلومه، وطريقته في استخلاص الدليل، وإبراز الحجة، وآخر ما حدثني عنه أستاذ بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، أنه وجد في إحدى مكتبات تركيا: المكتبة السليمانية باستامبول مخطوطة لم يسبق معرفتها من قبل لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو في صدد إنهاء تحقيقها، ودراستها لتنشر ضمن مجهودات وأعمال ابن تيمية التي يتشوق إليها كل طالب علم، اسم هذه المخطوطة: (تزكية النفس) ، والقائم عليها هو الدكتور محمد بن سعيد القحطاني.(44/298)
وقائع في حياته:
رغم أن حياة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - كلها عمل وجهاد، وطلب للعلم، وتأليف فيه وتعليم للناس، وفتيا ودفاع عن حوزة الإسلام. . إلا أن المهتمين بسيرة الشيخ قد رصدوا بعض الحوادث الكبرى في حياته رحمه الله، مقرونة بالتاريخ، وكان من المهتمين بذلك تلميذه: الحافظ البزار المتوفى عام 749هـ في كتابه: (الأعلام العلية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية) ، كما اهتم بها غيره من محبيه وتلامذته، ورصد أغلبها ابن كثير في تاريخه: (البداية والنهاية) حسب حوادث السنين، حيث ظهر من أغلبها ما امتحن به الشيخ وما تحمله في هذا السبيل، حرصا على تصحيح العقائد، وإبانة لما أوجب الله في تبليغ العلم، والدفاع عن دين الله، والحماية لجناب التوحيد الذي هو الأصل الأصيل، وخشية من الإطالة في(44/298)
سرد الحوادث نجتزئ بعضا من الحوادث الكبرى في حياة ابن تيمية - رحمه الله -:
1 - في عام 683هـ وفي الثاني من محرم: أول درس يلقيه ابن تيمية بدار الحديث السكرية بالقصاعين، خلفا لأبيه الذي توفي عام 682هـ في انسلاخ ذي الحجة، وقد حضر درسه قاضي القضاة بهاء الدين ابن الزكي الشافعي والشيخ تاج الدين الفزاري، وزين الدين ابن المرحل، والشيخ زين الدين ابن المنجا، وكان درسا هائلا، وقد كتبه: تاج الدين الفزاري بخطه لكثرة فوائده، وكان عمر الشيخ إذ ذاك عشرين سنة وسنتين، ثم جلس في عاشر صفر بالجامع الأموي بعد صلاة الجمعة على منبر قد هيئ له لتفسير القرآن العزيز، وكان يجتمع عنده الخلق الكثير، والجم الغفير (1) .
2 - في عام 692هـ يحج الشيخ، وفي عام 693هـ يطلب نائب السلطان عز الدين أيبك الشيخ ابن تيمية، وزين الدين الفارقي شيخ دار الحديث، ويضربهما ويرسم عليهما بالعذراوية بسبب حادثة عساف النصراني، ثم يطلقهما (2) .
3 - وفي عام 694 هـ يأذن الإمام شرف الدين أحمد المقدسي لابن تيمية بالإفتاء، وكان يفتخر بذلك ويقول: (أنا أذنت لابن تيمية بالإفتاء) (3) .
وفي عام 695هـ في 17 شعبان يدرس ابن تيمية في المدرسة الحنبلية
__________
(1) البداية والنهاية 13 \ 303.
(2) البداية والنهاية 13 \ 333-336.
(3) البداية والنهاية 13 \ 341.(44/299)
عوضا عن الشيخ زين الدين ابن المنجا المتوفى، وقد بقي يدرس فيها إلى عام 726هـ.
5 - وفي عام 698هـ محنة ابن تيمية بسبب العقيدة الحموية (1) .
6 - عام 699هـ يتوجه الشيخ للقاء قازان عند النبك مع أعيان دمشق؛ لأن قازان جاء للشام، وتمت بينه وبين الجيش المصري وقفة في وادي الخزندار عند سلمية حيث انكسر الجيش المصري أمامه، ثم يتوجه الشيخ مصاحبا الحملة التي هيئت لقتال بعض المنحرفين عن الدين في جبال الكسروان فينتصرون عليهم (2) .
7 - عام 700هـ ذهاب الشيخ إلى مصر لحث السلطان على الجهاد ومعونته أهل دمشق. وفي عام 701 هـ يثور جماعة من الحسدة على الشيخ بدمشق، ويشكون أنه يقيم الحدود، ويعزر ويحلق رءوس الصبيان، فبين لهم خطأهم (3) .
8 - وفي عام 702هـ يزور الحساد كتابا على الشيخ، وعلى القاضي شمس الدين الحريري، وجماعة من الأمراء والخواص، أنهم يناصحون التتر ويكاتبونهم، ولكن الله يحق الحق، فيعرف نائب السلطنة أن الكتاب مكذوب، فيأمر بقطع يد كاتبه (4) .
9 - في عام 702هـ وقعة شقحب مع التتار، وخروج الشيخ إلى العسكر يحلف لهم: أنكم في هذه المعركة منصورون، ولما قيل له: قل: إن شاء الله، قال: أقولها تحقيقا لا تعليقا، فحقق الله لهم النصر، وعاد الشيخ وأصحابه إلى دمشق (5) .
__________
(1) البداية والنهاية، 14 \ 4.
(2) البداية والنهاية، 14 \ 7-12.
(3) البداية والنهاية، 14 \ 16-19.
(4) البداية والنهاية، 14 \ 22.
(5) البداية والنهاية، 14 \ 23-25.(44/300)
10 - وفي عام 704هـ يذهب الشيخ إلى مسجد النارنج بدمشق، ويأمر أصحابه ومعهم المختصون بقطع صخرة هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها، فقطعها، للقضاء على الشرك بالله.
- وفي نفس العام يحضر شيخا - كان يلبس دلقا كبيرا متسعا جدا - يسمى المجاهد إبراهيم القطان، فيأمر بتقطيع الدلق، وحلق رأسه، وتقليم أظفاره، وحف شاربه المسبل على فمه، المخالف للسنة، ثم يستتيبه من كلام الفحش، وأكل ما يغير العقل (1) .
- وفي نفس العام في شهر ذي الحجة يركب الشيخ ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين، فاستتابوا خلقا منهم، وألزموهم بشرائع الإسلام، ورجع مؤيدا منصورا (2) .
11 - وفي عام 705هـ يخرج الشيخ للغزاة، مع الجيش الشامي في بلاد الجرد والرفض والتيامنة، فنصروا عليهم.
- وفي نفس العام يشكو الفقراء الأحمدية - الصوفية - الشيخ إلى نائب السلطنة، طالبين رفع إمارته عنهم، وأن يسلم لهم حالهم، فأصر الشيخ على أن يدخلوا تحت الكتاب والسنة، وانتصر الشيخ عليهم بعد ثلاثة مجالس عقدت.
- وفي هذا العام يذهب الشيخ إلى السجن، ويخرج الحافظ المزي دون إذن القاضي.
وفي نفس السنة يذهب إلى القاهرة لمقابلة السلطان، حيث عقد مجلس له
__________
(1) البداية والنهاية 14 \ 33، 34.
(2) البداية والنهاية 14 \ 35.(44/301)
في القلعة، وسئل فيه عما ينسب إليه: (إن الله فوق العرش حقيقة، وأن الله يتكلم بحرف وصوت) ، ثم حبس ابن تيمية على أثر ذلك في الحبس المعروف بالجب.
- وفي نفس العام يقرأ في الجامع الأموي كتاب من السلطان، بالحط على الشيخ تقي الدين، ومخالفته في العقيدة، وأن ينادى بذلك في البلاد الشامية، وإلزام أهل مذهبه بمخالفته، وكذلك وقع بمصر (1) .
12 - خروج الشيخ عام 707هـ، من السجن بعد أن مكث فيه 18 شهرا، وبقي في القاهرة فترة، ثم توجه منها إلى الإسكندرية سنة 709هـ، ونزل في دار السلطان في بر فسيح منها، متسع الأكناف، فينوي المرابطة، ويبقى ثمانية أشهر.
- وفي نفس العام يطلبه السلطان الناصر، ويأتيه في القاهرة ليجتمع به، ويصلح ما بينه وبين القضاة المصريين والشاميين، ثم ينزل القاهرة، ويسكن بالقرب من مشهد الحسين (2) .
13 - وفي عام 712هـ يخرج الشيخ من القاهرة بصحبة السلطان الناصر بنية الغزو، فلما تبين له عدم الغزو، توجه من غزة إلى القدس، وعاد إلى دمشق عن طريق عجلون وبلاد السواد وزرع، واستقر بها (3) .
14 - وفي عام 718هـ يجتمع قاضي القضاء شمس الدين ابن مسلم بالشيخ، ويشير عليه بترك الإفتاء في مسألة الحلف بالطلاق، فيجيبه إلى ما طلب، وفي نفس الوقت ورد كتاب من السلطان بمنع الشيخ من الإفتاء في مسألة
__________
(1) البداية والنهاية، 14 \ 35-38.
(2) البداية والنهاية، 14 \ 45-53.
(3) البداية والنهاية، 14 \ 67.(44/302)
الحلف بالطلاق، وقد نودي به في دمشق (1) .
15 - لكن الشيخ في عام 720هـ عاد للإفتاء بمسألة الطلاق فاعتقل بقلعة دمشق، إلا أنه بعد أشهر قليلة، وفي عام 721هـ أفرج عنه يوم عاشوراء فخرج من القلعة، وكانت مدة اعتقاله خمسة أشهر، وثمانية عشر يوما (2) .
16 - وفي عام 726هـ وفي النصف الأخير من شعبان أعيد اعتقال ابن تيمية بقلعة دمشق ومنع من الفتيا، وكان ذلك بسبب فتواه في السفر وإعمال المطي إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين.
- وقد بقي في السجن حتى عام 728هـ حيث أخرج في جمادى الآخرة ما كان عند الشيخ من الكتب، والأوراق، والدواة، والقلم، ومنع من الكتب والمطالعة، وحملت كتبه في مستهل رجب إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة، وكانت نحو ستين مجلدا، وأربع عشرة ربطة كراريس، فنظر القضاة والفقهاء فيها، وتفرقوها بينهم.
- وقد توفي في معتقله هذا في ليلة الاثنين، العشرين من ذي القعدة من نفس العام 728هـ رحمه الله رحمة واسعة، ودفن بمقبرة الصوفية بدمشق (3) ، وقد خرج في جنازته خلق كثير حتى أن المناوئين له خافوا على أنفسهم فلم يخرجوا من بيوتهم ذلك اليوم.
هذه بعض الوقائع في حياة الشيخ ابن تيمية، ومنها تبرز قوته في الحق، وإنكاره المنكر بكل ما يستطيع، وثباته في الدفاع عن العقيدة
__________
(1) البداية والنهاية، 14 \ 87.
(2) البداية والنهاية، 14 \ 97، 98.
(3) البداية والنهاية، 14 \ 134-136، وانظر أيضا عن ذلك كله (الأعلام العلية) للبزار ص 11-15.(44/303)
الصحيحة، التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار عليها أصحابه من بعده، ثم التابعون لهم بإحسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ (1) » ، كما كان ابن تيمية - رحمه الله - في حرصه على التمسك بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما انتهجه الخلفاء الراشدون، ومن سار على دربهم واقتفى أثرهم، يحرص على تحذير الناس مما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار (2) » .
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(44/304)
الخاتمة:
إن شيخ الإسلام ابن تيمية مدرسة متكاملة لطالب العلم، ولمن يريد أن يتزود من مناهله العذبة، ولئن امتحن وتصدى له خصومه، فإن الطريق الذي سار فيه طريق يتطلب صفات خلقية في المتنكب له، وصفاته خلقية في كل من يذب عن دين الله.
فالصفات الخلقية:
تكمن في الاستعداد التكويني الذي طبع الله النفس عليه، ويصعب على كثير من البشر مهما حاولوا القدرة عليها: تطبعا وعملا؛ لأنها هبة من الله - جل وعلا - لمن يشاء من عباده ليتحمل بها أشرف الأعمال، وأحبها إلى الله - جل وعلا - وهي الدعوة إلى دينه، والدفاع عن العقيدة السليمة، والجهاد في سبيل ذلك.
وهذا الطريق محفوف بأمور كثيرة بعضها يجعل غير المهيأ لهذا العمل استعدادا فطريا، وتحملا من أجل رضا ربه، لا يستطيع الصمود أمام(44/304)
ما يعترضه، كما قال سبحانه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (1) .
ومن الصفات التي يحبها الله للدعاة الصادقين: الذكاء، وقوة الحفظ، والصبر والتحمل، والشجاعة في الحق، وعدم الخوف إلا من الله جل وعلا، وصفاء الذهن، وسرعة البديهة.
وكل صفة من هذه الصفات، تعني شيئا في حياة العالم المؤمن بربه، وراء كونها طبعا جبلت عليها نفسه، فإنها تترك أثرا في الآخرين، الذين يتعلمون منه في كل موقف يمر، ويستفيدون من المواقف التي جابهها، وكيف أعانه الله على التصدي لها، وأظهره الله على خصومه، كما هي سنة الله مع الداعين إليه على بصيرة، وفي المقدمة أنبياء الله الذين تحملوا من أعدائهم ما الله به عليم، بدء بنوح الذي آذاه قومه، وإبراهيم الذي حاولوا إحراقه وموسى وما ناله من بني إسرائيل، وقبل ذلك من فرعون وأعوانه، ويوسف الذي كاد له أقرب الناس إليه وهم إخوته، حسدا وغيضا حتى بيع كالرقيق، ثم أودع السجن، ومكث فيه بضع سنين، وعيسى الذي حاولوا قتله، ورموا أمه مريم العذراء بالفحش، ومحمد صلى الله عليه وسلم، الذي أوذي في نفسه وفي أهل بيته بقصة الإفك، وتصدى له عداوة وبغضا عمه أبو لهب. . .
وهكذا من سار في هذا الطريق - في القديم والحديث - لا بد أن يلقى العنت من شياطين الإنس والجن، ولكن الصبر عاقبة المتقين، وللصبر نتائج دنيوية عاجلة بإظهار ما صبر الإنسان من أجله، وتهيئة أنصار له، وظهور دلائله حتى يدافعوا عنه، وينتصروا لمن قام عليه، وهذا من نصر الله لعباده الصادقين: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (2)
__________
(1) سورة فصلت الآية 35
(2) سورة غافر الآية 51(44/305)
وهذا ما ظهرت آثاره لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- ومن سار على منهجه في الدعوة إلى الله، والدفاع عن سلامة العقيدة، وحماية جناب التوحيد.
- والصفات الخلقية:
تبرز في طبائع يكتسبها الإنسان تأدبا وامتثالا لمصدري التشريع في دين الإسلام: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذين هما وصية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لأمته بأن يتمسكوا بهما، وأنهم لن يضلوا ماداموا حريصين عليهما تعلما وتطبيقا.
وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها «لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم: بأن خلقه القرآن، (1) » إذ في كتاب الله الأدب الرفيع، الذي اقتبس منه ابن تيمية - رحمه الله - ومن القدوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته: القولية والفعلية والتقريرية. . . القدوة الصالحة، والمنهج القويم في الدعوة إلى الله.
ومن ذلك ما رصده عنه المهتمون في تعبده، وزهده، وإيثاره، وكرمه وشجاعته، وتواضعه وآدابه مع مخالفيه، وقوته في جهاده باللسان والسنان.
ولا شك أن العالم المؤثر: هو الصادق في مأخذه، والمحتسب فيما يؤديه؛ لأن الله - جلت قدرته - يقول وقوله الحق: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) .
- وإن الدارس لحياة شيخ الإسلام ابن تيمية ليجد في صفاته وأعماله نقاطا تحتاج إلى دراسة وافية، ومواقف تحتاج إلى إبانة؛ لأثرها في
__________
(1) سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1601) ، سنن أبو داود الصلاة (1342) ، مسند أحمد بن حنبل (6/216) .
(2) سورة الصف الآية 3(44/306)
الدفاع عن الإسلام، حيث وقف رحمه الله كالعقبة الكأداء أمام السهام المشرعة، وكافح ضد الأقوال المغرضة، حتى حصحص الحق، وأظهر الله الحجة، فقد كان ابن تيمية واحدا من المدافعين عن دين الله، وجعل الله في علمه نفعا، وفي وقته بركة. . . وكانت كتبه دليلا على ذلك، تشهد بمواقفه على مر العصور، وكر الأيام والليالي.
ولئن عاش سبعة وستين عاما من عمره، فإنه قد أوقف نفسه وعلمه، ولسانه وجهده للدفاع عن دين الإسلام ضد البدع والأهواء والجهل، ومحاربة الملل والنحل، منذ جلس مكان والده للتدريس في عام 683هـ حتى لقي ربه. حيث أمضى خمسة وأربعين عاما في جهاد مستمر، ونضال ومكابدة: بالمناظرة والردود تارة، والمجاهدة والفتيا تارة أخرى، صابرا محتسبا. .
ويندر من الرجال من يقوم بمثل ما قام به. . إذ مهما قيل عنه فإنه لن يوفى حقه، ورغم أن تلامذته وأنصاره على تتابع الأيام ومضي العصور يدافعون أقوال المغرضين التي تحاول أن تنال من الإسلام بالنيل من الرجال المدافعين عنه، وابن تيمية واحد منهم، فإن كل ما يظهر من كتبه وآثاره العلمية، ما هو إلا قذى في عيون أصحاب البدع والأهواء، وسهام موجهة لأصحاب الملل المنتمية للإسلام، وهي تخالف جوهره، وتدعوا إلى طعن الإسلام في الصميم، في التجرؤ على العقيدة، والمساس بالأساس الذي حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو قومه في مكة ثلاثة عشر عاما على تأصيله في القلوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، واهتم أبو بكر الصديق رضي الله عنه عند الردة بمحاربة من لم يؤد حق هذه الشهادة.
وما أسهمت به في هذه العجالة ما هو إلا جهد المقل، في إبانة مكانة هذا الرجل، ودفاعه عن الإسلام طوال حياته، واستمرار هذا الدفاع في مؤلفاته التي بقيت مرجعا لمن يريد الدفاع عن حمى الإسلام،(44/307)
حيث يجد فيها البرهان القاطع، والمناقشة الموضوعية، والرأي الصائب، مقرونا بدليله النقلي والعقلي، إذ مدرسته يتسع نطاقها، وكتبه يزداد الراغبون فيها، رغم ما يحاوله الخصوم بجهودهم في إطفاء نورها، والنيل من هذا الشيخ الجليل، إلا أن الحق هو الباقي، والعلم النافع هو الذي يتابعه الناس، بما يجعل الله لصاحبه من قبول في نفوسهم، وراحة واطمئنان لما يصدر منه.
وعن مؤلفاته رحمه الله: فإنها من الكثرة بحيث لم تحصر حتى الآن، حيث عرفت عن طالبين بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، يحضران (للماجستير) في تحقيق الصارم المسلول على شاتم الرسول، واتضحت الدراسة والترجمة لشيخ الإسلام، بأن كما غفيرا من مؤلفاته لم يعرف بعد، وأن ما وقعا عليه من مؤلفاته رحمه الله يفوق ما عرفه المهتمون بابن تيمية كثيرا. هذان الطالبان: أحدهما سعودي والآخر بنجلاديشي. فرحم الله ابن تيمية، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(44/308)
الوصايا العشر كما جاءت في سورة الأنعام
د \ محمد بن أحمد الصالح
الحمد لله حمدا يليق بعظيم وجهه وجلال سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته.
وبعد. . فحديثنا اليوم عن الوصايا العشر، التي تضمنتها سورة الأنعام، قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (1) {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (2) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) .
وهذه السورة التي أنزلت على المصطفى صلى الله عليه وسلم بمكة - فهي سورة مكية - كرس الحديث فيها عن قضية واحدة لا تتغير، لكن الأسلوب في
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2) سورة الأنعام الآية 152
(3) سورة الأنعام الآية 153(44/309)
عرضها لا يتكرر، وهي قضية التوحيد، قضية العقيدة، وهي القضية الكبرى، وهي القاعدة الأساسية لهذا الدين، فالعقيدة هي المدخل للإسلام، وهي محوره والروح التي تسري فيه، وقد جاءت هذه العقيدة في سورة موجزة: بسم الله الرحمن الرحيم: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) .
فالعقيدة هي القاعدة الأساسية لإقامة هذا البناء العظيم، وهي الأصل والأساس، وعبادة الله هي البناء القائم على أساس العقيدة؛ لأن الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ يترتب عليه الانقياد له فيما اختاره ورضيه، وفيما أمر به وما نهى عنه.
ولقد مضى على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عاما كاملة، في تقرير هذه القضية الكبرى، ولم يتجاوز القرآن المكي هذه القضية الأساسية إلى شيء مما يقوم عليها من التفريعات المتعلقة بنظام الحياة، إلا بعد أن علم الله أنها قد استقرت في الأذهان، واستوفت ما تستحقه من البيان.
لقد شاءت حكمة الله أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى الدعوة لها، منذ اليوم الأول للرسالة، وأن يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى خطواته في الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن يمضي في دعوته يعرف الناس بربهم الحق ويعبدهم له دون سواه، وأن يرد السلطان كله إلى الله، فهو السلطان على الضمائر، والسلطان على الشعائر، والسلطان على واقعيات الحياة،
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4(44/310)
والسلطان في المال، والسلطان في القضاء، والسلطان في الأرواح والأبدان.
ولنأت على ذكر نماذج من سورة الأنعام، التي عنيت بشأن العقيدة وتركيزها، والتي تدل على عظمة الله وقدرته وبديع صنعه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (1) {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} (2) {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (3) .
وقال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (4) {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (5) .
وقال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (6) {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (7) .
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (8) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 1
(2) سورة الأنعام الآية 2
(3) سورة الأنعام الآية 3
(4) سورة الأنعام الآية 13
(5) سورة الأنعام الآية 14
(6) سورة الأنعام الآية 17
(7) سورة الأنعام الآية 18
(8) سورة الأنعام الآية 65(44/311)
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1) {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (2) {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3) {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} (4) .
وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (5) {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (6) .
والآيات الثلاث التي تضمنت الوصايا العشر، حيث ختمت الآية الأولى بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (7) وختمت الآية الثانية بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (8) وختمت الآية الثالثة بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (9)
ولقد جاء التنويه بهذه الآيات، وبيان فضلها، وسمو منزلتها، وعلو قدرها، لما روى الحاكم، وقال: صحيح الإسناد عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم يبايعني على ثلاث؟ ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:، حتى فرغ من
__________
(1) سورة الأنعام الآية 95
(2) سورة الأنعام الآية 96
(3) سورة الأنعام الآية 97
(4) سورة الأنعام الآية 98
(5) سورة الأنعام الآية 102
(6) سورة الأنعام الآية 103
(7) سورة الأنعام الآية 151
(8) سورة الأنعام الآية 152
(9) سورة الأنعام الآية 153
(10) تفسير ابن كثير جـ 2 ص187.(44/312)
الآيات، فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا، كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله: إن شاء الله عذبه وإن شاء عفا عنه (1) » .
وبما أخرجه الترمذي في جامعه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه؛ فليقرأ هذه الآيات الثلاث (2) .
وأخرج الحاكم وابن أبي حاتم عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال: «لما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج إلى منى، وأنا وأبو بكر معه، فوقف صلى الله عليه وسلم على منازل القوم ومضاربهم، فسلم عليهم وردوا السلام، وكان في القوم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، وكان مفروق بن عمرو أغلب القوم لسانا، وأفصحهم بيانا، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: إلام تدعو يا أخا قريش؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأن تؤوني وتنصروني وتمنعوني حتى أؤدي حق الله الذي أمرني به، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد، فقال له مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مسامعهم هذه الآيات الكريمة: إلخ الآيات، فقال له مفروق:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151 (10) {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}
(2) جامع الترمذي جـ 5 رقم 3070، وقال: (حديث حسن غريب)
(3) رواه الحاكم.(44/313)
وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش، فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه. . فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مسامعهم قوله تعالى:، فقال له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، وقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك (2) » .
هذا جانب من فضائل هذه الآيات الثلاث، وذلك هو تأثيرها في النفوس، وهذه الآيات أيضا تمثل نموذجا فريدا في التربية الحكيمة، التي يسعد به المجتمع، ويحيى في ظلها الأفراد في أمان واطمئنان، ومن يتأمل في هذه الآيات الكريمات؛ يراها قد رسمت للإنسان علاقته بربه، علاقة ينال بها السعادة في الدنيا والآخرة، ورسمت له علاقته بأسرته بحيث تقوم على المودة والرحمة، وسدت في وجهه أبواب الشر التي تؤدي إلى انتهاك حرمات الأنفس والأموال والأعراض؛ لأن الإسلام يهدف إلى إيجاد جيل يدرك رسالته في هذه الحياة، إدراكا واعيا صحيحا مستنيرا، ويؤدي هذه الرسالة بقوة وأمانة، يدرك أن لله تعالى عليه حقوقا فيؤديها بإتقان وإخلاص، ويدرك أن لنفسه عليه حقوقا فيتعهدها بالتهذيب والمحاسبة والتقويم، ويدرك أن لمجتمعه عليه حقوقا، فيؤدي هذه الحقوق عن رضا وطواعية واختيار، بأمانة وكفاية ونشاط واستقامة، وبذلك تصل الأمم إلى
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151 (3) {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}
(2) سورة النحل الآية 90 (1) {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(44/314)
ما تسعى إليه: من عزة ومنعة، ومن غنى وسعادة وأمن واطمئنان.
ومن مفاخر التربية في الإسلام، اتساع دائرتها، وتنوع مجالاتها، وسمو توجيهاتها، وشمولها لكل جانب من جوانب الحياة الإنسانية. إنها تتعهد الإنسان، سواء كان ذكرا أم أنثى، بالتقويم والتوجيه، والتسديد والرعاية، والترغيب والترهيب، منذ خروجه إلى الدنيا إلى أن ينتهي منها، وتعمل على تسليحه بالفضائل، وتنفيره من الرذائل.
فهذه الوصايا العشر، التي يتصدرها أمر الله بالمنع من الشرك، وتحريمه بصفته الذنب العظيم، الذي لا يغفر: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} (1) ، وقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2) .
والشرك لا يصح معه عمل، ولا يستحق المشرك عن عمله الحسن الثواب، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة لقمان الآية 13
(3) سورة الفرقان الآية 23(44/315)
الوصية الأولى: تحريم الشرك:
وإذا جاءت الوصية الأولى بتحريم الشرك؛ فهي ملزمة بالتوحيد وإفراد الله بالعبادة، ويكون التوحيد شاملا: لتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، توحيدا خالصا لا تشوبه شائبة.
ومن ينظر في هذه الآيات؛ يجدها قوام هذا الدين كله، وهي خلاصة الإسلام، أنها قوام حياة الضمير بالتوحيد، وقوام حياة الأسرة بأجيالها(44/315)
المتتابعة بالتكاتف والتآلف، وقوام حياة المجتمع بالتكافل والتراحم والتعفف والعفاف والطهارة، فيما يجري فيه من معاملات، وفيها قوام حياة الإنسانية، وما يحيط الحقوق فيها من ضمانات مرتبطة بعهد الله، كما أنها بدأت بتوحيد الله.
إن الأمور التي جمعتها هذه الآيات الثلاث لهي أمور هائلة، تصدرتها قضية الدين الأساسية، قضية العقيدة والتوحيد، وإفراد الله بالعبادة والاستسلام لله، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (1) - لا ما تدعونه أنتم أنه حرمه بزعمكم - لقد حرم عليكم ربكم الذي له حق الربوبية، وهي القوامة والتربية والتوجيه والحاكمية، فهذا حقه المطلق وموضع سلطانه.
فالباري جل وعلا قد حرم على الناس الشرك، والقاعدة التي يقوم عليها بناء العقيدة، وترجع إليها التكاليف والفرائض، هي الأصل الذي يتعين أن يستقر ويثبت قبل الدخول في الأوامر والنواهي، وقبل تفصيل التكاليف والفرائض، فيتعين على الناس أن يعترفوا بالله ربا وإلها، وحاكما ومتصرفا، في كل أحوالهم: يؤمنون بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا رسولا.
إنها دعوة لتنقية الضمير من شوائب الشرك، وتنقية العقل من شوائب الخرافة، وتنقية المجتمع من عادات وتقاليد الجاهلية، وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. إن الشرك في كل صوره وأشكاله، هو
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151(44/316)
المحرم الأول؛ لأنه يجر إلى كل محرم، وهو المنكر الأول الذي يتعين حشد كل الطاقات لإزالته؛ حتى يعترف الناس أنه لا إله إلا الله، ولا حاكم ولا مشرع إلا هو سبحانه وتعالى، وأن التوحيد على إطلاقه هو القاعدة الأولى، التي لا يغني عنها شيء آخر من عبادة أو عمل.(44/317)
الوصية الثانية: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1)
هذا أمر صريح ظاهر في إلزام الأولاد ببر الوالدين، وإكرامهما والإحسان إليهما إحسانا مطلقا، لا يشوبه قصور أو تقصير، ولا يحوم حوله ضيق أو تضجر، أو شعور بالتثاقل في أداء هذا الحق، ولا شك أن هذا من أسمى أنواع التربية، ومما يدل على سمو حق الوالدين ورفعة منزلتهما؛ أن جعل الله سبحانه وتعالى الإحسان إليهما مقترنا بحقه في الطاعة والعبادة، وقد اقترن حق الوالدين بحق الله في جملة من الآيات، ففي سورة البقرة: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (2) ، وفي سورة النساء: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (3) ، وفي سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (4) ، وفي سورة الإسراء: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (5) {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (6)
__________
(1) سورة البقرة الآية 83
(2) سورة البقرة الآية 83
(3) سورة النساء الآية 36
(4) سورة الأنعام الآية 151
(5) سورة الإسراء الآية 23
(6) سورة الإسراء الآية 24(44/317)
وفي سورة لقمان: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (1) .
ولهذه الآيات مغزاها ودلالتها على عظم حق الوالدين، وكيف أنه بلغ من علو المنزلة أن جاء مقترنا بحق الله تبارك وتعالى، وهذا للإشعار بسمو منزلة الوالدين ورفعة قدرهما، وللتنبيه إلى معنى واحد يجمع بين الوصيتين، وهو أن المنعم يجب أن يشكر، فالله تعالى هو الخالق المنعم، فيجب أن يشكر، ويفرد بالعبادة والطاعة، والوالدان هما السبب المباشر لوجود الإنسان في هذه الحياة؛ فيجب عليه أن يشكرهما، وأن يحسن إليهما إحسانا لا يتقيد بما هو حق أو عدل، بل يتجاوز ذلك ليكون تعاملا كريما، {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} (2) ، لم يقل تعالى: (قولا حقا) ، ولا (قولا عدلا) ، وإنما وصفه بالكريم، والكرم فيض فوق الحق وفوق العدل.
ويلاحظ كذلك أن المأمور بالإحسان هم الأبناء، بينما لا نجد آية واحدة تأمر الآباء بالإحسان إلى أبنائهم، ولعل السر في ذلك هو: لفت الأنظار إلى أن إحسان الآباء إلى الأبناء أمر محقق، وواقع منهم بمقتضى فطرة فطرهم الله عليها، وأن الشأن أنه لا يحتاج إلى حث على ذلك، أو دعوة إليه، وهذا أسمى وأعلى وأصدق ألوان التربية السليمة التي يؤيدها الواقع، وبهذا المنهج
__________
(1) سورة لقمان الآية 14
(2) سورة الإسراء الآية 23(44/318)
القويم والتربية الحكيمة تسعد المجتمعات؛ لأنه متى استقامت العلاقات، وصلحت الأحوال، وقويت الصلات بين الآباء والأولاد؛ ظهر أثر ذلك في الأفراد والأمم، وأصبح مجتمع الإسلام صورة مشرقة، وقدوة للمجتمعات الأخرى.(44/319)
الوصية الثالثة: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ (1) }
والإملاق: شدة الفقر والفاقة، يقال: أملق الرجل إملاقا، إذا احتاج وافتقر، أي: ولا تقتلوا أولادكم الصغار من أجل الفقر، فنحن قد تكفلنا برزقكم ورزقهم. ومن الجرم الواضح والظلم الفادح الاعتداء على حق هؤلاء الصغار في الحياة، وقد ورد النهي عن قتل الأولاد هنا بقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (2) ، وجاء في سورة الإسراء: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (3) ؛ لأن الحديث هنا في سورة الأنعام عن فقر واقع فعلا، فكأنه سبحانه يقول لهم: لا تقتلوهم لفقر واقع فيكم أيها الآباء، ولذا قال سبحانه: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (4) فجعل الرزق للآباء ابتداء؛ لأن الفقر الذي يدفعهم لقتل أولادهم حاصل لهم فعلا، أما في سورة الإسراء فالفقر ليس واقعا، وإنما هو أمر متوقع لذا قال: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (5) أي: خوفا من فقر متوقع وليس موجودا فعلا، ولكنه متوهم لوجود الأولاد، ولهذا جاء التعبير الإلهي
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2) سورة الأنعام الآية 151
(3) سورة الإسراء الآية 31
(4) سورة الإسراء الآية 31
(5) سورة الإسراء الآية 31(44/319)
مطمئنا للآباء، وأنه سبحانه قد تكفل برزق الأولاد، كما تكفل برزق الآباء وبيده خزائن السماوات والأرض، وقد تعهد برزق الجميع: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (1) .
وبمثل هذه التربية الحكيمة تغرس الثقة بالله تعالى، وتنبت الفضائل في النفوس. ولا ريب أن قتل الأولاد من أعظم الذنوب، بل قد يأتي بعد الإشراك بالله.
صح عن المصطفى عليه السلام من رواية «ابن مسعود رضي الله عنه حين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الذنب أعظم؟ فقال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (3) » . .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي عليه رحمة الله: - قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} (4) الآية - نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن قتل الأولاد من أجل الفقر الواقع بالفعل، ونهى في سورة الإسراء من قتلهم خشية الفقر المترقب المخوف منه، مع أنه غير واقع في الحال بقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (5) وأخذ بعض أهل العلم
__________
(1) سورة هود الآية 6
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4761) ، صحيح مسلم الإيمان (86) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3183) ، سنن النسائي تحريم الدم (4014) ، سنن أبو داود الطلاق (2310) ، مسند أحمد بن حنبل (1/380) .
(3) سورة الفرقان الآية 68 (2) {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ}
(4) سورة الأنعام الآية 151
(5) سورة الإسراء الآية 31(44/320)
من هذه الآية الكريمة: منع العزل؛ لأنه وأد خفي، وحديث جابر: «كنا نعزل والوحي ينزل (1) » يدل على جوازه.
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5209) ، صحيح مسلم النكاح (1440) ، سنن الترمذي النكاح (1136) ، سنن ابن ماجه النكاح (1927) ، مسند أحمد بن حنبل (3/309) .(44/321)
الوصية الرابعة: النهي عن قربان الفواحش ما ظهر منها وما بطن
وهذا امتداد للوصية بالأسرة التي يتعين تماسكها وترابطها، وتثبيت الود بين أفرادها، ولما وصاهم الله بالأسرة وصاهم بالقاعدة التي تقوم عليها، كما يقوم عليها المجتمع كله، وهي قاعدة الطهارة والنظافة والعفة، فإنه لا يمكن قيام أسرة، ولا استقامة مجتمع في وحل الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، إنه يتعين تحقق الطهارة والنظافة والعفة.
والفواحش: جمع فاحشة، وهي ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال، وأكثر إطلاقاتها على فاحشة الزنا، فتخصيص الفواحش هنا بفاحشة الزنا أولى بطبيعة السياق وصيغة الجمع؛ لأن هذه الجريمة ذات مقدمات وملابسات، كلها فاحشة مثلها، فالتبرج والتهتك والاختلاط المثير والكلمات والإشارات والحركات والإغراء والتزين والاستثارة، كلها فواحش، تسبق وتمهد وتحيط بالفاحشة الكبرى، {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (1)
والفواحش كلها مما يحطم قوام الأسرة وينخر في جسم الجماعة فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد ويدنس الأعراض، ولما كانت الفواحش ذات إغراء وجاذبية وقد يميل لها الطبع، جاء النهي عن مجرد قربانها، فضلا عن مواقعتها سدا للذرائع واتقاء للجاذبية التي قد تضعف معها الإرادة، ولأن قربان
__________
(1) سورة الإسراء الآية 32(44/321)
الفواحش قد يؤدي إلى مباشرتها، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. وهذا لون حكيم من ألوان التربية الرشيدة والإصلاح القويم؛ لأنه إذا ورد النهي عن قربان الشيء، فلا بد أن ينهى عن مباشرته من باب أولى وأحرى.
وقد تكرر النهي في القرآن الكريم عن قربان ما تميل له النفس ويميل إليه الطبع في مثل قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} (1) ، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (2) ، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} (3) ، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (4) ، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (5) ، فيلاحظ أن كل منهي عنه من شأنه أن تميل النفوس إليه، وتدفع إليه الأهواء والشهوات، يأتي النهي عنه بصيغة النهي عن مجرد القربان؛ للمبالغة في التحذير من الاقتراب، فضلا عن مباشرته أو الوقوع فيه.
أما المحرمات التي لا تألفها النفوس ولا تميل إليها ولا تدفع إليها الغرائز والشهوات فيأتي النهي عنها مباشرة، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (6) ، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (7) ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 35
(2) سورة البقرة الآية 222
(3) سورة الإسراء الآية 32
(4) سورة الأنعام الآية 151
(5) سورة الأنعام الآية 152
(6) سورة الأنعام الآية 151
(7) سورة النساء الآية 29(44/322)
وقوله تعالى: {وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (1) ، وبمثل هذا الأسلوب الرباني البليغ يربي الله تعالى عباده، ويرشدهم إلى ما فيه سعادتهم وخيرهم.
ولعل من المفيد أن نتذكر في هذا المجال الإجراءات الوقائية التي اتخذها القرآن في مواجهة هذا الانحلال الأخلاقي:
1 - الدعوة إلى الزواج: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2) .
2 - إباحة الزواج شرعا بزوجة أخرى بشروط معينة: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (3) .
3 - تحريم ارتداء المرأة لأي زي فاضح يشف عن جسمها أو يصف بدنها إلا أن يكون أمام زوجها، وعليها أن ترتدي من اللباس ما جرى به العرف الشريف عند محارمها: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4)
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سورة النور الآية 32
(3) سورة النساء الآية 3
(4) سورة النور الآية 31(44/323)
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (1) .
4 - الأمر بغض البصر أمام مفاتن النساء: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (2) .
5 - النهي عن دخول بيوت الآخرين دون استئذان أهلها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (3) {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (4) .
ومما يدل على بشاعة جريمة الزنا وفظاعته أن تحدث القرآن عن هذا الفساد الخلقي وكأنه نوع من القتل المعجل، ومن ثم فقد ورد في القرآن الحديث عن الزنا بين نوعين من أنواع القتل، أو مقترنا بالنهي عن الشرك
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2) سورة النور الآية 30
(3) سورة النور الآية 27
(4) سورة النور الآية 28(44/324)
والقتل، ففي سورة الأنعام يرد ذكر الفواحش بعد النهي عن قتل الأولاد، وقبل النهي عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وفي سورة الإسراء جاء النهي عن قتل الأولاد في الآية (31) ، والنهي عن قربان الزنا في الآية التي تليها (32) ، وفي الآية (33) النهي عن قتل النفس، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} (1) .
وأسلوب القرآن الكريم في تقبيح الزنا والتنفير منه يدل على أن هذه الجريمة تؤدي إلى شر مستطير، فهي تلوث العرض، وتدنس الفراش، وتفسد النسل، وتلحق العار والخسارة في الدنيا والآخرة.
فما ظهر الزنا في قوم إلا ظهر فيهم الطاعون، وفشت فيهم الأمراض التي لم تعرف فيمن قبلهم، على أن المرأة إذا حملت من السفاح فإما أن تقتل الولد؛ فتزهق نفسا بغير حق، وإما أن تلحقه بزوجها، وتثبت له نسبا باطلا، وتثبت له محرمية مزيفة، وتجعله يرث مالا حراما إلى غير ذلك من الشرور والمفاسد التي قد تصيب المجتمع بالكثير من الكوارث؛ ولذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة ألحقت بقوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يدخلها جنته (2) » .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) رواه ابن ماجه في سننه في باب: (من أنكر ولده) ج2 ص916 حديث (2743) .(44/325)
الوصية الخامسة: النهي عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق:
لقد جاء النهي عن هذه المنكرات الواردة في الآية متواليا ومتتابعا؛(44/325)
لأن كلا منها جريمة قتل من نوع ما، بل إنها جرائم قتل في الحقيقة.
فالجريمة الأولى: الشرك بالله فهي قتل للفطرة.
والثانية: قتل الأولاد وهي تحطيم للأسرة.
والثالثة: الزنا جريمة قتل للجماعة.
والرابعة: جريمة قتل للنفس المفردة.
فلا يجوز إذا قتل النفس التي حرم الله قتلها في حال من الأحوال، إلا في حال فعلها لشيء يوجب قتلها، فقد أخرج الإمامان البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة (1) » ؛ وذلك لأن الإسلام ينظر إلى وجود الإنسان على أنه بنيان بناه الله تعالى، فلا يحق لأحد أن يهدمه إلا بالحق، وبذلك يقرر الإسلام عصمة الدم الإنساني، ويعتبر من اعتدى على نفس واحدة فكأنما اعتدى على الناس جميعا، قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (2) .
وبهذه الأوامر والنواهي: تصان الدماء، وتحترم الأعراض، ويسود الأمان والاطمئنان بين الناس فـ «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله
__________
(1) متفق عليه.
(2) سورة المائدة الآية 32(44/326)
وعرضه (1) » ، «والمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا (2) » .
ومن محاسن هذه الشريعة أن اعتبرت المحافظة على الضروريات الخمس: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ النسل والعرض، حفظ العقل، حفظ المال، فهذه الأمور قد تعين صيانتها ويحرم المساس بها.
ويأتي في ختام هذه الوصايا الخمس قول الله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) وهذا التعقيب يجيء وفق المنهج القرآني في ربط كل أمر وكل نهي بالله ربطا للأوامر والنواهي بهذه السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس وعقولهم: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى} (4) .
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .
(3) سورة الأنعام الآية 151
(4) سورة طه الآية 54(44/327)
الوصية السادسة: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (1)
تصدرت الآية الثانية والخمسين بعد المائة من السورة نفسها، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (2) .
لقد شاء الله - تبارك وتعالى - واقتضت حكمته أن يأتي هذا الدين الخاتم على يد يتيم يكون هو النبي الخاتم، هذا اليتيم الكريم قد عهد الله إليه بأشرف مهمة في الوجود عندما شرفه بإبلاغ الرسالة إلى الناس كافة، وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي منه هذا التوجيه الوارد في الآية.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 152
(2) سورة الأنعام الآية 152(44/327)
واليتيم ضعيف في الجماعة بفقده الوالد الحاني والمربي، ومن ثم تقع مسئولية حمايته وكفالته على المجتمع المسلم، على أساس التكافل الاجتماعي الذي جعلته الشريعة قاعدة نظامه الاجتماعي.
ولقد كان اليتيم يعاني من الضياع والتشرد والاستغلال في المجتمع الجاهلي، حتى جاء دين الإسلام فأنقذه من هذا الضياع ورتب له حقوقا يتعين صيانتها، ومن حقوقه حفظ أمواله وتنميتها، وعدم قربانها إلا بما يصلحها، فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم؛ حتى يسلمه له كاملا ناميا، وقوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (1) . ليس غاية للنهي، إذ ليس المعنى إذا بلغ اليتيم سن الرشد فاقربوا ماله، إنما المعنى أنهاكم - أيها الأولياء والأوصياء - عن الاقتراب من مال اليتيم إلا بالطريقة التي هي أنفع له، وعليكم أن تستمروا على ذلك حتى يبلغ اليتيم رشده، فإذ بلغ رشده فسلموا إليه ماله ليتصرف فيه التصرف السليم.
فالنهي في الآية ليس عن أكل مال اليتيم، بل عن مجرد القرب منه، وفي ظل قاعدة التكافل الوارفة الظلال، عني الإسلام باليتيم وأمواله؛ فدعانا إلى حسن استثمار أموال اليتيم للإنفاق من عائدها عليه، قال تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (2) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من ولي يتيما له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة (3) » .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 152
(2) سورة النساء الآية 5
(3) أخرجه الترمذي رقم 164، والبيهقي 4 \ 107.(44/328)
ويتعين حسن تربية اليتيم وتعليمه وتدريبه على إدارة أمواله قبل دفعها إليه، قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (1) .
فعلى الولي أن يسلم المال لليتيم ناميا كاملا عند بلوغه أشده، واكتمال قوته البدنية والعقلية؛ ليكون قادرا على حفظ ماله، ويحسن القيام عليه، وبذلك يكون اليتيم قد استوفى حقه، وحصل على ماله كاملا، مع ما تحقق له من الكسب والربح نتيجة حسن تصرف الولي وقيامه على المال بما يصلحه، وبهذا التصرف الحكيم، لا يكون اليتيم هو من فقد أبويه أو أحدهما في المجتمع المسلم الرشيد؛ لأن المجتمع الإيماني، اليتيم فيه مكفول الحق، فقد أباه فكان له من المؤمنين آباء، وفقد أمه فكان له من المؤمنات أمهات.
إنما اليتيم من لم يحفظ بكفالة أبيه، وينعم برعايته، ويستفيد من مصاحبته والحوار معه، ولم ينعم بحنان أمه وشفقتها وعطفها:
ليس اليتيم من انتهى أبواه ... من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له ... أما تخلت أو أبا مشغولا
(أمير الشعراء أحمد شوقي)
وقد أولت شريعة الإسلام عنايتها بالأيتام، من تدبير شئونهم، ورعاية
__________
(1) سورة النساء الآية 6(44/329)
مصالحهم، وليس أدل على ذلك مما ذكره الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، حيث تحدث عن اليتيم في ثلاثة وعشرين موضعا في القرآن الكريم، كلها تدعوا إلى رعايتهم، والحفاظ على أموالهم، والسهر على مصالحهم، بل وتشدد النكير على من تسول له نفسه أن يعتدي على أموالهم، أو يأكل شيئا من حقوقهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 10(44/330)
الوصية السابعة: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1)
وهذه المبادلات التجارية بين الناس، في حدود الطاقة، وحسن التصرف والإنصاف، وسياق الوصايا في الآيات يربطها بالعقيدة، والموصي والآمر هو الله - جل وعلا - والمعنى: وأتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم، وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون، أو لغيركم فيما تبيعون، فهو أمر من الله تعالى لعباده بإقامة العدل حال التعامل: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} (2) .
فيتعين أن يعطى صاحب الحق حقه من غير نقص، ويأخذ صاحب
__________
(1) سورة الأنعام الآية 152
(2) سورة الإسراء الآية 35(44/330)
الحق حقه من غير زيادة. وهذه الوصية تمثل مبدأ العدل في التعامل، والتعادل بين صاحب الحق ومن له الحق، وحال الناس لا تستقيم إلا بالتعامل وتبادل المنافع.
والكيل والوزن هما من أظهر الوسائل في ذلك، فلا بد أن يكونا منضبطين وقائمين على القسط والعدل، وقوله تعالى: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) جاءت عقب الأمر بإيفاء الكيل والوزن بالعدل، ولكن بقدر الطاقة للدلالة على الترخيص فيما خرج عن الوسع والقدرة؛ لبيان قاعدة من قواعد الإسلام الرافعة للحرج؛ وذلك لأن التبادل التجاري لا يمكن أن يتحقق على وجه كامل من المساواة والتبادل، بل الشأن فيه أن يقبل اليسير من الغبن في جانب البائع، أو في جانب المشتري، وهذه الوصية تجمع في ثناياها بين الدقة والسماحة، وبين الضبط ورفع الحرج.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 152(44/331)
الوصية الثامنة: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (1)
هنا نجد الإسلام يرقى بالضمير البشري إلى درجة عالية ومنزلة رفيعة؛ لأن هاهنا مزلة من مزلات الضعف البشري، الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكامل والامتداد بما أنه ضعيف ناقص، ويجد في قوة القرابة سندا لضعفه، ومن ثم يجعله ذلك ضعيفا تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم، أو القضاء بينهم وبين الناس، فعليه أن يحكم بالعدل، فالعدل هو الأساس للحكم السليم.
والعدل مطلوب في القول من الشهادة ونحوها في كل الأحوال، كما
__________
(1) سورة الأنعام الآية 152(44/331)
أن العدل مطلوب في الفعل وفي الحكم، وجاء التخصيص في الآية بالقول؛ لأن أكثر ما يكون فيه العدل أقوال، كالشهادة والحكم.
وقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (1) فهو أخذ بالإنسان عما جرت به عادته، من التأثر لغيرهم؛ ولهذا تعين على المسلم أن ينطق بالحق، ويقول الصدق، دون أن يميل للقرابة، أو تحمله العداوة على الظلم والإجحاف، للآخرين، قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (2) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 152
(2) سورة المائدة الآية 8(44/332)
الوصية التاسعة: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (1)
الوفاء بالعهد أصل من أصول الشريعة التي يتحقق من خلالها الخير والعدل والصلاح، واستقامة أحوال المجتمع، فعلى المسلم أن يكون وفيا مع الله، فيما عاهد عليه الله من الاستقامة على العقيدة، والبعد عن قتل الولد أو إهماله، وعدم ممارسة الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، وصيانة النفوس، والمحافظة على مال اليتيم، وحسن التعامل في الكيل والوزن، وكل المبادلات التجارية، وتطبيق العدل على كل الناس.
وبالجملة فيتعين على كل مسلم الوفاء بما عاهد عليه الله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (2) ، وقول الله تعالى: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (3) ، وقوله تعالى:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 152
(2) سورة الإسراء الآية 34
(3) سورة الفتح الآية 10(44/332)
من {الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (1) {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (3) .
فالمسلم عليه الوفاء بكل التزام من عقد أو عهد؛ لأن تنفيذ العهد دليل بر ووفاء، والإخلال به من مظاهر الكفر والنفاق، قال عليه الصلاة والسلام، فيما يرويه عن ربه عز وجل: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته - وذكر منهم- رجلا أعطى بي ثم غدر (4) » الحديث، وقال عليه الصلاة والسلام: «ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان (5) » .
وهذا طرف يبين عظم العهد وضرورة التنفيذ، ولا أدل على ذلك من ختام الآية بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (6) فهذا التعقيب الإلهي البديع في موضعه، حيث جاء بعد التكاليف الواردة في الآيتين: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (7) والذكر ضد الغفلة، والقلب الذاكر غير الغافل، وهو يذكر عهد الله كله، ويذكر وصاياه المرتبطة بهذا العهد ولا ينساها.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 23
(2) سورة الأحزاب الآية 24
(3) سورة المائدة الآية 1
(4) رواه ابن ماجه رقم 2442 كتاب الرهون جـ2.
(5) رواه ابن ماجه رقم 2872 كتاب الجهاد ج 2.
(6) سورة الأنعام الآية 152
(7) سورة الأنعام الآية 152(44/333)
وهذه القواعد الأساسية الواضحة التي تلخص العقيدة وشريعتها الاجتماعية مبدوءة بتوحيد الله ومختومة بالالتزام بصراط الله.(44/334)
الوصية العاشرة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1)
وهذه الوصية تمثل خلاصة الدين كله؛ لأن من التزم بصراط الله فقد اهتدى إلى سواء السبيل، وسلك طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.
والالتزام بسبيل الله يعصم من الزلل، ويحمي من السوء، ولأن الصراط هو دين الله وطريقه الذي لا عوج فيه ولا أمتا.
فمن الواجب على كل مسلم أن يسلك هذا السبيل، ويهتدي بهذا الصراط، ويترك السبل الباطلة، والطرق المعوجة، والمبادئ الفاسدة، والأديان المنسوخة.
أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا، ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه (2) » ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية الكريمة.
وبعد: فهذه هي الوصايا العشر التي اشتملت على أسمى وأصدق وأفضل ألوان التربية للأفراد والجماعات، إذ المتأمل فيها يراها قد وضعت
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) مسند الإمام أحمد جـ3 رقم297.(44/334)
أساس العقيدة السليمة، القائمة على إخلاص العبادة لله الواحد القهار، كما يجدها قد أقامت الأسرة الفاضلة على أساس الإحسان بالوالدين، والرحمة بالأولاد، كما أنها قد حفظت المجتمع من التصدع والاضطراب عن طريق تحريمها لانتهاك الأنفس والأموال والأعراض، ثم ربطت كل ذلك بتقوى الله تعالى التي هي منبع كل خير وسبيل كل فلاح، وهي جماع الأمر كله، وهي الغاية التي يتحقق معها الفوز والظفر بالمطلوب. فالتقوى كما فسرها العلماء هي: ألا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك، وبها صلاح الأمر كله.
فالتقوى في القلب هي التي تؤهل الإنسان للانتفاع بهذا الكتاب، هي التي تفتح مغاليق القلب له، فيدخل ويؤدي دوره، هي التي تهيء لهذا القلب أن يلتقط، وأن يتلقى وأن يستجيب. . .
ورد أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، سأل أبي بن كعب رضي الله عنه عن التقوى، فقال له: (أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال: بلى! قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت. قال: فذلك التقوى) .
فتلك التقوى حساسية في الضمير، وشفافية في الشعور، وخشية مستمرة، وحذر دائم، وخوف لأشواك الطريق. . طريق الحياة الذي تتجاذبه الرغائب والشهوات، وأشواك المطامع والمطامح، وأشواك المخاوف والهواجس، وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء، والخوف(44/335)
الكاذب ممن لا يملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. (1) .
وإذا فالتقوى جماع الخير كله، وبها صلاح الأمر كله، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} (2) {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (3) .
نسأل الله تعالى أن يسلك بنا طريق المتقين، وأن يجعلنا من الفائزين، وأن يهدينا صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) في ظلال القرآن لسيد قطب جـ 1 \ 38، 39 بتصرف، تفسير ابن كثير جـ1 \ 40.
(2) سورة القمر الآية 54
(3) سورة القمر الآية 55(44/336)
التسعير في الفقه الإسلامي
محمد عوده سلمان
مقدمة:
جاء الإسلام يحمل رسالة هدى ورحمة للناس كافة، فأقام نظامه الاجتماعي على أسس من العدالة الشاملة، تمتنع فيها أسباب الحيف والظلم، قانونيا كان أو اجتماعيا أو اقتصاديا.
وقد ألف الإسلام في بناء المجتمع بين أصول أخلاقية واقتصادية وسياسية، ولم يجعلها وحدات منعزلة إحداها عن الأخرى، بل أدمج بعضها في بعض، بحيث تتكون منها مجموعة متعاونة متماسكة، صنعت من هذا البناء كتلة حية، تتفاعل فيها هذه الأصول تفاعلا وثيقا، سعيا إلى الوفاء بحاجات البشر الخالدة.
ولا عجب إذا أن أولى الإسلام عنايته الكبرى باقتصاد الأمة، وعمل على حفظ التوازن بين مصلحتي الفرد والجماعة بمظاهر مختلفة، منها ما نلحظه في الأحكام التي شرعها في التسعير، فحال دون أن يتحكم التاجر ويتعسف في استعمال حقه فيضر بمصلحة الناس، وأثبت له شخصيته التي ينفي بها أسلوب: (السوق السوداء) المقيت.
وقد رأيت من الضروري أن أبحث موضوع التسعير بحثا فقهيا موازنا في المذاهب الإسلامية كافة، بيانا لموقف التشريع الإسلامي منه، وإظهارا(44/337)
لنظر فقهائنا الأصيل في الاقتصاد، كما هو شأنهم في مجالات الحياة الأخرى.
وسوف يتضح لنا من خلال البحث أن مبدأ تدخل الدولة الإسلامية في النشاط الاقتصادي للأفراد إنما هو رعاية للمصلحة العامة، ووقاية للمجتمع من الاستغلال، وردا لتصرفات الأفراد في نشاطهم الاقتصادي إلى أن تكون في نطاق المصلحة العامة، حتى يتحقق التكافل الاجتماعي إلزاما، إذا لم يقم الناس به اختيارا بوازع الدين، مما ينبئ عن واقعية هذا التشريع الرباني، فضلا عن مثاليته، ورعايته للحق الفردي وحق المجتمع على سواء.(44/338)
التسعير لغة واصطلاحا:
التسعير لغة: تقدير السعر، والسعر هو الذي يقوم عليه الثمن، وجمعه أسعار، وأسعروا وسعروا تسعيرا: اتفقوا على سعر.
والسعر مأخوذ من سعر النار، إذا أوقدها ورفعها؛ لأن السعر يوصف عادة بالارتفاع (1) .
أما التسعير في الاصطلاح الفقهي: فيقصد به: أن يقدر السلطان أو نائبه سعرا للناس، ويجبرهم على التبايع بما قدره - أي بما سعره وقدر ثمنه - فيمنعوا من الزيادة عليه أو النقصان، لمصلحة (2) .
ومن هذا التعريف الفقهي للتسعير يتبين لنا عدم جواز البيع بالزيادة ولا بالنقصان، أما الزيادة فالأمر فيها ظاهر، وهو دفع الضرر العام ومنع
__________
(1) انظر مادة: (سعر) في القاموس المحيط ج2 ص48، وأساس البلاغة للزمخشري ص211.
(2) نيل الأوطار للشوكاني ج5 ص233، الطبعة الثانية.(44/338)
الاستغلال، وأما النقصان فإن بعض الفقهاء يرى عدم جواز إنقاص أسعار السوق السائدة فيها من قبل فرد أو طائفة، إذا تبين أن مقصدهم مضاربة إخوانهم التجار والإضرار بهم، وهو في نظرهم نوع من المنافسة غير المشروعة أو الشريفة، سواء أكان في الظروف العادية، أو في الظروف الاستثنائية (1) .
__________
(1) ترتيب المدارك للقاضي عياض ج1 ص102.(44/339)
حكم التسعير:
اتفق الشافعية والحنابلة والمالكية والزيدية والإمامية والحنفية على أن حكم التسعير عند عدم الحاجة هو: الحرمة.
واستدلوا بالمنقول من الكتاب والسنة وبالمعقول.
فمن الكتاب: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) .
ومن السنة: ما يأتي:
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه (2) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سنن الدارقطني ج3 ص26، وللحديث ألفاظ أخرى، انظر بدائع الصنائع ج5 ص129.(44/339)
وعموم الآية والحديث يتناول تحريم التسعير؛ لأنه حرام وباطل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رجلا جاء فقال: يا رسول الله، سعر. فقال: بل أدعو. ثم جاءه رجل فقال: يا رسول الله، سعر، فقال: بل الله يخفض ويرفع، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس لأحد عندي مظلمة (1) » .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لو قومت يا رسول الله، قال: إني لأرجو أن أفارقكم ولا يطلبني أحد منكم بمظلمة ظلمته (2) » . وعن أنس رضي الله عنه قال: «غلا السعر في المدينة على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال الناس: يا رسول الله، غلا السعر، لو سعرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله هو المسعر، القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال (3) » .
فهذه الأحاديث تفيد صراحة أن ارتفاع الأسعار وانخفاضها بيد الله تعالى، تبعا لحالات الجدب والقحط، أو الخصب في الأراضي الزراعية، مما يؤثر على حجم إنتاجها، أو نتيجة الجلب والاستيراد وعدمه، أو كثرة
__________
(1) رواه أبو داود ج2 ص244، والبيهقي في السنن الكبرى ج6ص29 بلفظ مقارب.
(2) رواه ابن ماجه ج2 ص741، والبزار والطبراني في الأوسط.
(3) هذا اللفظ لأبي داود ج2 ص244، وروي بألفاظ مختلفة في الترمذي ج3 ص606، وابن ماجه ج2 ص741، وأحمد في مسنده الفتح الرباني ج15 ص64.(44/340)
العرض وقلة الطلب أو عكسه، وليس شيء من ذلك بسبب من أحد، استغلالا أو احتكارا، فأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتوجهوا بالدعاء إلى الله عز وجل؛ ليكشف ما بهم من ضيق، ولم يسعر، على الرغم من سؤالهم إياه ووجود ما يبرره، وعلل ذلك بكونه مظلمة والظلم حرام.
وبنحو هذه الأحاديث روى البيهقي أثرا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه مر بحاطب بن أبي بلتعة بسوق المصلى، وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرها فسعر له مدين بدرهم، فقال: (لقد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيبا، وهم يعتبرون سعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت) ، فلما رجع عمر حاسب نفسه، ثم أتى حاطبا في داره فقال له: (إن الذي قلت لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء، إنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت بع وكيف شئت بع) (1) .
فهذا الأثر يدل على وجوب ترك التجار يبيعون بحسب ما يرونه مناسبا، ودون تدخل من ولاة الأمور للحد من حرية هؤلاء التجار في نشاطهم الاقتصادي، بدليل تراجع عمر عن رأيه حين أمر حاطبا أن يرفع سعر الزبيب الذي يبيعه حتى يوازي السعر العام السائد في السوق؛ لأن تدخله إنما كان بدافع حرصه على المصلحة العامة، ولم يكن فرضا منه ولا إلزاما.
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي ج6 ص29.(44/341)
واستدل الفقهاء كذلك بالمعقول من وجوه:
أ - لأن المال للبائع، فلم يجز منعه من بيعه بما تراضى عليه المتبايعان، كما لو اتفق الجماعة عليه (1) .
ب - ولأن الثمن حق العاقد - البائع - وإليه تقديره (2) .
ج - ولأن التسعير تقدير الثمن، وأنه نوع من الحجر (3) .
د - والتسعير سبب التضييق على الناس في أموالهم وسبب الغلاء؛ لأن الجالب لن يقدم أبدا لبيع سلعته التي يكره على بيعها فيه بغير ما يريد، ومن عنده البضاعة يكتمها ويمتنع من بيعها، ويطلبها المحتاج فلا يجدها إلا قليلا، فيرفع في ثمنها ليحصلها فتغلوا الأسعار، ويحصل الإضرار بالجانبين، جانب المشتري (المستهلك) في منعه من الوصول إلى سلعته، وجانب الملاك في منعهم من بيع أملاكهم (4) .
إن التجار في السوق، وكذلك المنتجون والمستوردون (الجالبون) ، يكتمون السلع ويخفونها عادة، فرارا من أسباب التضييق عليهم بالتسعير الإلزامي، فيطلبها المحتاجون فلا يجدونها، فيضطرون إلى رفع أثمانها ليحصلوا عليها ويسدوا بها حاجتهم، وهذه هي: (السوق السوداء) التي تنتشر عادة في أعقاب التسعير الرسمي، ومن المعلوم أن أسلوب (السوق
__________
(1) المغني لابن قدامة ج4 ص 481.
(2) الهداية للمرغيناني ج8 ص127.
(3) نيل الأوطار للشوكاني ج5 ص233.
(4) الشرح الكبير على متن المقنع لابن قدامه ج4 ص44، 45.(44/342)
السوداء) المقيت هو من أكبر العوامل التي تهدم اقتصاد الدولة، وبذلك يصبح التسعير الإلزامي صوريا لا ينفذ ولا يتم التعامل على أساسه، وإنما يكون ضرره عاما وبالغا؛ لأن الناس يتعاملون لسد حاجاتهم من السلع والمنافع الضرورية على أساس السعر الواقعي الخفي، لا الرسمي المعلن، إذ أن المشتري يقبل هذا السعر مهما كان مغالا فيه، بل هو يرفعه ويزيد فيه مضطرا، ونتيجة لهذا الوضع الاقتصادي الذي أنشأه التسعير الإلزامي نفسه، يضار كل من البائع والمشتري كلاهما على حد السواء.
أما التجار والمنتجون ومن إليهم، فإنهم لا يملكون الحرية أو الجرأة لعرض سلعهم وبيعها أو تصريفها على ما يختارون؛ خشية إدانتهم بالغرامة المالية الباهظة على أدنى مخالفة، فتتعثر بذلك حركة التجارة ويفتر النشاط الاقتصادي، وينقطع المنتجون عن الاستمرار في إنتاجهم وصناعتهم، توقيا من تحمل خسائر فادحة.
وكذلك فإن المستوردين (الجالبين) يحجمون عن الاستيراد إذا حدد لهم سعر معين يكرهون على التبايع به، إذ يرون فيه غبنا لحقهم، فتزداد الأزمة بذلك تفاقما ويضار الجالبون، كما يضار العامة على السواء، ولا سيما إذا كانت السلع أو البضائع المستوردة مما لا تنهض البلاد بإنتاجها أو صناعتها محليا.
وعلى هذا فإن التسعير - إذا لم يكن له موجب - سبب مباشر لضرر عام وجسيم، يحل بكل من البائعين والمنتجين والمستوردين من جهة،(44/343)
والمشترين والمستهلكين من جهة أخرى، وباقتصاد الدولة بشكل عام، ولا ريب أن وسيلة هذا مآلها، وهذه نتائجها الاقتصادية والاجتماعية غير جائزة شرعا، ويمنع التسبب في اتخاذها.(44/344)
مشروعية التسعير:
على الرغم من إجماع الفقهاء على أن التسعير حرام كما تقدم آنفا، إلا أنهم اختلفوا في إعطاء الحاكم حق التدخل بالتسعير الإلزامي عند الحاجة، على الأقوال الآتية:
الأول: أنه محرم بإطلاق، ولو في عام الغلاء، أي في جميع الظروف والأحوال. لا فرق بين حالة السعة أو الغلاء، وإلى هذا ذهب الشافعية، والظاهرية (1) ، ومتقدموا الحنابلة في قول لهم (2) ، والشوكاني (3) ، فقد جاء في نهاية المحتاج في الفقه الشافعي ما نصه: (ويحرم على الإمام أو نائبه ولو قاضيا، التسعير في قوت أو غيره. . إذ الحجر على شخص في ملك نفسه غير معهود) (4) .
ويقول الإمام الشوكاني: (5) (إن الناس مسلطون على أموالهم،
__________
(1) المحلى لابن حزم ج9 ص627.
(2) المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة المقدسي ج4 ص44.
(3) نيل الأوطار ج5 ص233.
(4) نهاية المحتاج للرملي ج3 ص256.
(5) نيل الأوطار ج5 ص220.(44/344)
والتسعير حجر عليهم، والإمام مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن، أولى من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الأمران وجب تمكين الفريقين من الاجتهاد لأنفسهم، وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى، مناف لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) .
وفي الفقه الحنبلي: (ويحرم التسعير على الناس، بل يبيعون أموالهم على ما يختارون؛ لحديث أنس. . .) (2) .
الثاني: لا يجوز مع إجحاف البائع، بل يؤمر بالنزول عن المجحف، وإن كان في معنى التسعير، إلا أنه لا يحصر في قدر خاص، وهو القول الأقوى عن الإمامية (3) .
الثالث: يجوز إذا كان الحاكم عدلا ورآه مصلحة، على أن يكون التسعير لغير الجالب (المستورد) ، أما التسعير للجالب فلا يجوز، وبه قال المالكية.
وقد وضع المالكية طريقة لتحديد الأسعار تكفل تحقيق العدالة والنزاهة، وتدرأ كل شبهة أو ريبة في محاباة جانب على آخر، وتفصيل
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) كشاف القناع للبهوتي ج3 ص187.
(3) المختصر النافع لأبي القاسم الحلي ص148.(44/345)
ذلك فيما أورده الإمام الباجي عن ابن حبيب الفقيه المالكي، وعالم الأندلس في عصره: (ينبغي للإمام أن يجمع وجوه أهل سوق ذلك الشيء، ويحضر غيرهم استظهارا على صدقهم، فيسألهم: كيف يشترون؟ وكيف يبيعون؟ فينازلهم (يجادلهم) إلى ما فيه لهم وللعامة سداد، حتى يرضوا ولا يجبرون على التسعير ولكن عن رضا. . .) ، ووجه ذلك، أنه بهذا يتوصل إلى معرفة مصالح الباعة والمشترين، ويجعل الباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف للناس، وإذا سعر عليهم من غير رضى بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار وإخفاء الأقوات وإتلاف أموال الناس) (1) .
الرابع: لا بأس به إن تعدى أرباب الطعام عن القيمة تعديا فاحشا، وهو ضعف القيمة، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا به، بعد مشورة أهل الرأي والبصيرة، وهو قول الحنفية (2) .
فقد أكد هذا الرأي صاحب كتاب الاختيار بقوله: (ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس، لما بينا. . . إلا أن يتعدى أرباب الطعام تعديا فاحشا في القيمة، فلا بأس بمشورة أهل الخبرة؛ لأن فيه صيانة حقوق المسلمين عن الضياع) (3) .
الخامس: وجوب التسعير إن اضطر الناس إليه، وهو قول متأخري
__________
(1) المنتقى شرح موطأ الإمام مالك للباجي ج5 ص19.
(2) الهداية للميرغناني ج8 ص127، وكشف الحقائق للأفغاني ج2 ص237.
(3) الاختيار للموصلي ج3 ص227.(44/346)
الحنابلة (1) وقد فصل ابن تيمية (2) ، وتلميذه ابن قيم الجوزية (3) ذلك، ورأوا: أن من التسعير ما هو ظلم ومحرم، ومنه ما هو عدل وحق:
أ - فمن السعر ما هو ظلم وجور، لا يجوز إذا تضمن ظلم الناس وإكراههم على البيع بغير حق بثمن لا يرتضونه، أو منعهم مما أباحه الله لهم، فإذا باع الناس سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع السعر؛ إما لقلة المعروض أو لكثرة الناس، أو لزيادة تكاليف النقل، أو لغير ذلك من الأسباب التي لا يد للتجار أو المالكين في نشوئها، فهذا أمره إلى الله تعالى.
ومن ثم كان التسعير على التجار بما يمنع عنهم الربح المعقول، أو بثمن لا يجزئ أو دون عوض المثل، يعد ظلما وإجحافا بحقهم، وهذا لا يرضى به أحد، فضلا عن أنه لا يجوز شرعا، ولهذا امتنع الرسول صلى الله عليه وسلم عن التسعير؛ إذ لا مسوغ له، وليس ثمة ما يقتضيه، فيكون ظلما وجورا، وهذا ظاهر حديث أنس المتقدم: (غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. . .) الحديث.
ب - ومن السعر ما هو عدل جائز، بل واجب إذا تضمن العدل بين الناس، مثل إكرامهم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل، كأن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع حاجة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة
__________
(1) الحسبة لابن تيمية ص18، والطرق الحكمية لابن القيم ص264.
(2) الحسبة ص 18 - 28.
(3) الطرق الحكمية ص263 - 273.(44/347)
المعروفة، فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل، ولا معنى للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل، فيجب أن يلتزموا بما ألزمهم الله به.
وكذا إذا وجد أناس معروفون لا تباع السلع إلا لهم، ثم يبيعونه هم بما يريدون، فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب، فهاهنا يجب التسعير عليهم بحيث لا يبيعون إلا بقيمة المثل، ولا يشترون أموال الناس إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من العلماء، فلو سوغ لهم البيع والشراء بما اختاروا كان ذلك ظلما للبائعين الذين يريدون بيع تلك الأموال وظلما للمشترين منهم.
ومثله تواطؤ جمع من التجار لشراء نوع من السلع بأقل من ثمن المثل المعروف، ثم تباع بأكثر من الثمن المعروف، فهؤلاء اتفقوا على ظلم الناس حتى يضطروا إلى بيع سلعهم وشرائها بأكثر من ثمن المثل، وما احتاجه عامة الناس فيجب أن لا يباع إلا بثمن المثل.
وكذا إذا احتاج الناس إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم، صار هذا العمل واجبا يجبرهم ولي الأمر عليه بعوض المثل إذا امتنعوا عنه، ولا يمكنهم من مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل، ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوا دون حقهم.
وكذا إذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد، فعلى أهل السلاح بيعه بعوض المثل ولا يمكنون من أن يحبسوا السلاح حتى يتسلط العدو، أو يبذل لهم من الأموال ما يختارون، ولا سيما وأن العاجز عن الجهاد بنفسه وجب(44/348)
عليه بماله.
ورد ابن تيمية وابن القيم على من منع التسعير مطلقا محتجا بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله هو المسعر القابض الباسط (1) » بما يلي (2) :
أن هذه قضية معينة وليست لفظا عاما، وليس فيها أن أحدا امتنع من بيع يجب عليه، أو عمل يجب عليه لحاجة الناس إليه أو طلب في ذلك أكثر من عوض المثل.
ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب الناس في المزايدة فيه، فإذا بذله صاحبه كما جرت به العادة، ولكن تزايد الناس فيه، فهنا لا يسعر عليهم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم حين امتنع عن التسعير لما طلبوا منه ذلك؛ لأنه رأى أن تلك الحالة لا تستوجب التسعير؛ لكون إرتفاع السعر وانخفاضه أمر حتم تفرضه طبيعة الأسواق وفق العرض والطلب، وإلا فإن الحاكم من حقه التسعير؛ لأن له حق التدخل لصالح المجتمع العام مثل جبر المحتكر على البيع وتعزيره والسيطرة على أمواله، ما دام هذا سبيلا من سبل حماية الناس من الجشع والاستغلال.
وقد ذكر ابن تيمية وابن القيم: أن التسعير لم يقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة؛ لأنه لم يكن فيها حائك، بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن ومصر فيشترونها ويلبسونها، ولم يكن عندهم من يطحن ويخبز بأجر، بل كانوا يشترون الحب، ويطحنونه، ويخبزونه في بيوتهم، وكان من
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1314) ، سنن أبو داود البيوع (3451) ، سنن ابن ماجه التجارات (2200) ، مسند أحمد بن حنبل (3/286) ، سنن الدارمي البيوع (2545) .
(2) الحسبة لابن تيمية ص35، 36، والطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم ص278.(44/349)
يقدم بالحب لا يتلقاه أحد، بل يشتريه الناس من الجالبين، ولم يكن هناك أحد يحتاج الناس إلى عينه أو ماله ليجبر على عمل أو على بيع، فكل المسلمين جنس واحد مجاهد في سبيل الله بنفسه أو بماله أو بمال الصدقات أو الفيء (1) .
والرأي الراجح مما تقدم هو ما يلي:
أولا: يحرم على الحاكم التسعير إذا كانت حاجة الناس تندفع بدونه، كأن تباع السلع بالثمن المتعارف عليه، ومن هذا النوع تسعير الحاجات والطعام على الباعة، زعما من المسعر أنه خدمة لعامة الناس، دون النظر إلى المنتج الذي سيقلل إنتاجه إن لم يدر عليه ربحا معقولا، الأمر الذي يؤدي إلى نشاط السوق السوداء التي تنخر بالاقتصاد العام فيكون للسلعة ثمنان: ثمن رسمي وهمي، وثمن مجاملة حقيقي، وما يسببه ذلك من اختفاء السلع الجيدة من السوق، إلا لمن يدفع الثمن الذي يريده البائع.
ثانيا: يجب التسعير إذا رأى الحاكم أن صيانة حقوق الناس ومصلحتهم لا تتم إلا به، فيسعر بعد أن يستأنس برأي ذوي الخبرة، كي يكون التسعير عادلا يحفظ توازن السوق، ولا يضر بمصلحة الباعة.
__________
(1) الحسبة لابن تيمية ص 36.(44/350)
هل التسعير ملزم؟
لو باع أحدهم بأكثر مما سعرت الدولة جاز البيع، ومن باع بما قدرته الدولة من الثمن جاز البيع كذلك، وهو قول الشافعية (1) ؛ لأنه لم يعهد
__________
(1) مغني المحتاج ج2 ص38، ونهاية المحتاج ج3 ص456.(44/350)
الحجر على شخص في ملك نفسه.
وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه لا يرى الحجر على الحر، وكذا عند أبي يوسف ومحمد إلا أن يكون الحجر على قوم بأعيانهم؛ لأنه إذا لم يكن على قوم بعينهم - أي مجهولين - لا يكون حجرا، بل يكون فتوى في ذلك (1) .
وقد نص الحنفية على أنه: (إذا كان البائع يخاف إن نقص عن التسعير ضربه الإمام، لا يحل للمشتري الشراء بما سعره الإمام؛ لأنه في معنى المكره. وطريق الخلاص أن يقول له: بعني بأي شيء، فحينئذ بأي شيء باعه يحل) (2) .
وبهذا يتضح أن التسعير - في اجتهادهم - غير ملزم للبائع؛ لأن بيعه صحيح، وإنما جعل لتبصير الناس بالثمن المعقول.
وفي رأينا أن مخالفة التسعير - إذا توافرت شروطه - محرمة قطعا، إذ المفروض أن التسعير قد تعين وسيلة لصيانة حق المسلمين عن الضياع، ومنعا للظلم عنهم، وهذا واجب شرعا، فوسيلته التي تفضي إليه ينبغي أن تكون واجبة بالضرورة، لا جائزة فحسب، أو ودية لمجرد التبصير والتوعية؛ لأن في إجازة الحنفية للتجار أن يخالفوا عن أمر التسعير، تعني: أنهم بذلك قد أخلوا بالمنطق التشريعي المتسق الذي يوجب الربط والتلازم بين المقدمة ونتيجتها حتى لا تضيع الثمرة من تطبيق القاعدة الفقهية المعروفة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ، ولا سيما إذا كان الأمر متعلقا بالصالح
__________
(1) تبيين الحقائق، للزيلعي ج6 ص28، والهداية ج8 ص127.
(2) الاختيار للموصلي ج3 ص116.(44/351)
العام وصيانته؛ لأن الحفاظ على المصلحة العامة واتخاذ الوسائل الاجتهادية الملائمة والناجعة في سبيل ذلك من أقوى صور العدل في التشريع الإسلامي، بل هو مسوغ الولاية العامة على المسلمين، ولكن الحنفية لم يلتزموا بمقتضى هذه القاعدة العامة الجوهرية في التشريع، إذ بعد أن أقروا مبدأ تدخل الدولة بالتسعير؛ رعاية لحق العامة الذي تعلق بما عند التجار والمالكين في وقت الأزمات، عادوا فاعتبروا هذا التسعير أمرا جائزا حيث قالوا: (لا بأس به) وليس ملزما؛ بدليل أنهم أجازوا للتجار أن يخالفوا عنه، فانتفى بذلك كل أثر عملي للتسعير.(44/352)
الأشياء التي يجري بها التسعير:
اختلف الفقهاء الذين أجازوا التسعير - إن توفرت شروطه - على الأشياء التي يجري بها التسعير على أقوال:
الأول: يكون التسعير بالمكيل والموزون فقط طعاما كان أو غيره، أما غير المكيل والموزون فلا يمكن تسعيره؛ لعدم التماثل فيه، وهو قول ابن حبيب من فقهاء المالكية.
الثاني: يكون التسعير في المأكول فقط، وهو قول ابن عرفة من المالكية.
الثالث: يكون التسعير بالقوتين فقط، قوت البشر وقوت البهائم، وهو(44/352)
صريح كلام العتابي، والحسامي (1) ، وغيرهما من الحنفية (2) ، وهو مذهب العترة الزيدية، وبه قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن (3) .
الرابع: يكون التسعير بالقوتين وغيرهما، حيث يشمل أعمال الحرف والمهن والخبرات، مثل البناء والنساجة والفلاحة، وهو قول بعض الزيدية إذا رأى الإمام المصلحة فيه (4) . وبه قال القهستاني من الحنفية (5) . إذا تعدى أرباب الحرف وظلموا على العامة، وأقره ابن عابدين، وحمله على قول أبي حنيفة بقوله: (إن الإمام أبا حنيفة يرى الحجر إذا عم الضرر كما في المفتي الماجن والمكاري المفلس والطبيب الجاهل، وهذه قضية عامة، فتدخل مسألتنا بها؛ لأن التسعير حجر معنى؛ لأنه منع عن البيع بزيادة فاحشة، وعليه فلا يكون مبنيا
__________
(1) هو: محمد بن عمر أبو عبد الله الحسام الأخسيكتي صاحب المنتخب في أصول الفقه، توفي سنة 644هـ.
(2) الدر المختار للحصفكي ج3 ص318.
(3) تحفة الناظر للتلمساني ص133.
(4) البحر الزخار للمرتضى ج3 ص319.
(5) الدر المختار ج5 ص353، والدر المنتقى ج2 ص548.(44/353)
على قول أبي يوسف فقط) (1) .
وفي هذا المعنى يقول ابن القيم: (ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة - كالفلاحة والنساجة والبناء وغير ذلك - فلولي الأمر أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم، فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بذلك) (2) ، وهذا يطابق تعميم حكم الإحتكار على كل ما أضر بالناس حبسه، لتتم سياسة التشريع فيهما، وإلزام ولي الأمر لهم بأجر المثل تدخل ظاهر في نشاطهم الاقتصادي.
وهذا القول الرابع مبني على رعاية المصلحة العامة لدفع الضرر عن الناس في كل شيء يضر بهم، وهو ما نرجحه ونختاره.
__________
(1) رد المحتار ج5 ص 353، ويرى أبو يوسف: أن الاحتكار يكون في كل شيء يضر بالناس.
(2) الطرق الحكمية ص 289.(44/354)
خاتمة:
مما سبق بيانه: يتضح لنا أن التسعير الإلزامي لا يعدو أن يكون نظاما مشتقا من سياسة التشريع الإسلامي ومؤيدا عمليا لها، هذا التشريع الذي لا يكتفي بمجرد التوجيه والإرشاد إلى أسمى الفضائل والترغيب فيها، والترهيب من اقتراف نقائضها، ثم يرجئ الجزاء كله إلى يوم الحساب، إذ لا يستقيم بذلك أمر الحياة الدنيا، بل إن من مميزاته أن يرتب على المخالفات والإنحراف والتجاوز الجزاء الدنيوي الرادع، بسلطان الدولة إذا وهن وازع الدين، مما ينبئ عن واقعية هذا التشريع فضلا عن مثاليته المطلقة، فتراه لا يفترض توفر عنصر التقوى في النفوس بإطلاق، وذلك(44/354)
لغلبة الهوى أو هيمنة الغرائز على العقل والضمير، وهو واقع فطري لا سبيل إلى نكرانه.
كما أن العقيدة الإسلامية - بما تؤصله في النفوس من تنمية وتقوية الوازع الديني - تخفف عن الدولة جهدها في تنظيم المجتمع ورعاية الصالح العام، ومنع أسباب الاستغلال تحت ستار التصرف في الحقوق والحريات، ولا سيما في التنظيم الاقتصادي والتمويني؛ تحقيقا للتكافل الاجتماعي بين الأفراد بعضهم قبل بعض، وبين الفرد والدولة.
ومن هنا يتضح لنا إيجابية العقيدة في التشريع الإسلامي، واتصالها بجميع نواحي الحياة، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، فعنصر الإلزام في التشريع، وتنفيذ التعاليم منشؤه العقيدة أولا؛ ليكون الامتثال طوعا، حتى إذا كان الإنحراف عن ذلك لضعف الوازع الديني والخلقي، كان لا بد من تنفيذها كرها وإجبارا؛ تحقيقا للعدل الشامل بين الناس، ورعاية لمصالحهم وكف الأذى والضرر عنهم، إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.
ومن هنا يمكن القول بأن المستوى الخلقي والديني والسلوكي في الأمة، أمر بالغ الأثر في تحديد مدى تدخل الدولة في شئون الأفراد وفي نشاطهم الاقتصادي بوجه خاص، فكلما تدنى هذا المستوى اتسع مدى التدخل والعكس صحيح.
على أن الاتفاق على جواز تدخل الدولة لنزع ملكية بعض الأفراد إذا اقتضت الضرورة يدل على جواز تدخلها من باب أولى لتحديد مقدار(44/355)
الربح وقت الغلاء عن طريق تحديد الأسعار.
هذا وحقيقة التسعير في الفقه الإسلامي هي: إلزام بالعدل الذي ألزم الله به عباده، وإنما ينهض به المسئولون في الدولة ممن تتصل صلاحياتهم به، وأن نطاقه عام يشمل كل ما أضر الناس المغالاة فيه، ومست الحاجة العامة إليه، لتتفق سياسة التسعير مع سياسة مقاومة الاستغلال في كافة صوره ومواقعه، إذ العدل كل لا يتجزأ.
والحمد لله رب العالمين.(44/356)
ذم خميس النصارى
لشيخ الإسلام ابن تيمية
تحقيق: الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان (1)
تقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث بالدين القويم، محمد بن عبد الله الأمين، وعلى آله وصحبه وأصفيائه وأوليائه إلى يوم الدين وبعد:
فقد حارب الإسلام بكل قوة وحزم كافة وسائل التقارب وألوان التطبيع التي تسلم إلى التشبه بالكفار، وتفضي إلى الاحتذاء والمحاكات في عباداتهم وعاداتهم وطرائق عيشهم، وسائر شئونهم مما قل أو كثر. فأغلق أبوابه وسد منافذه، وكف الأسباب الداعية إلى إذكائه أو الوقوع في حمئته والولوغ في مستنقعه.
وليس ذلك ضربا من التسلط والتشدد والرغبة في زعزعة السلام؛ فإن الإسلام هو داعية السلام وحامل لواء الاعتدال والوسطية بين الأمم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (2) ، غير أنه لن يؤتي ثماره ولن يجود
__________
(1) الأستاذ المساعد في قسم الفقه في كلية الشريعة في الرياض - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
(2) سورة البقرة الآية 143(44/357)
أبدا، إلا في ظل حكم الإسلام الخالد وبين يدي سلطانه الباذخ.
ومنذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالدين الحق وشعاره الذائع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) ، لكنه سيبقى في طي الأمنيات ما لم يسانده تطبيق حثيث لكل معطياته. وفي تعطيل ذلك: من فساد الأخلاق، وتحطيم القيم، ودحر الخير والصد عنه، وفتح مجال الانهيار والسقوط ما لا يعلم مداه إلا الله تعالى (2) .
فجاء النهي صارما قاطعا جهيرا لا لبس فيه ولا مواربة ولا استجداء، ومن جهة أخرى: فقد أفسح للمسلم آفاق العمل والإنتاج والابتغاء في فجاج الأرض الواسعة، ووهب له أسباب المتعة والترويح المشروع والتلذذ بما أفاء الله عليه من نعم. ولم يوصد أمامه بابا عن المحاكاة والتشبه والفساد إلا وجعل له أبوابا من الطيبات مشرعة: «يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا (3) » ، «لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة (4) » ، لا سيما في حال ضعف القلب ورقة الهوى، والعجز عن إغناء النفس بما يفيد، والصبر على ما ينفع. فله أن يتوسع بالباطل الذي لا مفسدة فيه، وإن كان نقصا، لكن ليس كل الخلق مأمورين بالكمال
__________
(1) سورة المائدة الآية 51
(2) ينظر ابن تيمية ''اقتضاء الصراط المستقيم'' (1 \ 174، 310، 315، 484) .
(3) أخرجه البخاري في ''الصحيح'' رقم (952) ومسلم في ''الصحيح'' رقم (892) وأحمد في ''المسند'' (6 \ 134) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4) أخرجه أحمد في ''المسند'' (6 \ 116، 223) من حديث عائشة رضي الله عنها.(44/358)
ولا يمكن ذلك فيهم (1) .
وتلحينني في اللهو أن لا أحبه ... وللهو داع دائب غير غافل (2)
__________
(1) ينظر ابن تيمية ''الاستقامة'' (1 \ 277، 288، 2 \ 155) .
(2) ينظر ابن حجر ''فتح الباري'' (6 \ 364) .(44/359)
موضوع الرسالة:
واجه المؤلف - رحمه الله تعالى - في عصره صنوفا من الجهل، سواء فيما يتعلق بالمسائل العقدية أو المسائل العملية.
ولما شعر المؤلف بمدى خطر التشبه الداهم، وما أدى إليه من نتائج وخيمة، وتهديد للوجود الإسلامي بأسره. اجتهد وسعه في لفت الأنظار إلى ذلك، فكانت تلك المنظومات الرائعة من المؤلفات، ومن بينها هذه الرسالة التي خصصها للحديث عن حالة فاشية من حالات التشبه بأهل الكتاب: في أعيادهم ومواسمهم الدينية، وما يتصل بها من التقاليد.
وقد نبه على ما يترتب على هذا الفعل من المخاطر، وما ينجم عنه من الشرك، وما لا يحصى من المفاسد، ثم بين سبيل العلاج من جهة العامة والسلطة، وقرنه بالأدلة من الكتاب والسنة والآثار وقواعد الشريعة.(44/359)
أهمية الرسالة:
لا تزال جهود المضللين تتوالى لاختراع المزيد من أنواع المتع والملهيات وصنوف الترفيه وقضاء الوقت؛ وذلك لما يعتمل في نفوسهم من الآلام والأحزان، ولما يعانونه من فراغ روحي وخواء قاتل وملل لا(44/359)
ينقطع (1) ، وإذا كان هذا مقبولا من كافر لا يعتصم بدين ولا يركن إلى حق، فإن من شأن المؤمن أن يفزع إلى ذكر الله ويلجأ إلى حماه الظليل، كلما نابه شظف من الدنيا، أو كيد من الشياطين، أو أصابه كبد أو متاعب.
ومع وضوح ذلك في القرآن والسنة إلا أنك تجد من يميل إلى غيرها، ويصد عن هذه الهداية إلى سعادة باهتة موهومة، ومن أسف أن ترى من يقبل هذا الانحراف الصارخ، ويباركه في صفاقة وقلة ورع، ويفتي غيره بما لا يحل؛ كالذي ذكر عن بعضهم في جواز تهنئة الكفار بالأعياد ومبادلتهم للتهاني، دون أن يعبأ بإجماع أهل العلم على تحريم ذلك. قال ابن القيم رحمه الله: (وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم. فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك ولا يدري قبح ما فعل) (2) .
__________
(1) ينظر ابن تيمية '' اقتضاء الصراط المستقيم '' (1 \ 95) .
(2) ابن القيم ''أحكام أهل الذمة'' 1 \ 205.(44/360)
المؤلف:
هو الإمام العلامة شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية النميري الحراني ثم الدمشقي.
ولد بحران عام 660هـ، وعاش في أحضان أسرة علمية عريقة. ثم(44/360)
أقبل على العلم من صغره، وأخذ عن صفوة عصره حتى أدرك علما غزيرا واستوعب أكثر علوم الشريعة والعربية. ثم تفرغ للتدريس والتأليف ونشر الخير والجهاد.
وكان على جانب عظيم من الورع والتدين، والرغبة في الإصلاح ورد البدع والخرافات، عطوفا، كريما، معرضا عن الدنيا، مع الذكاء الوافر والفطنة وسرعة البديهة وقوة العارضة، وثاقب النظر. إلى أن تسلط عليه الوشاة والحاسدون وطلاب المناصب، فحاربوه بكل وسيلة، ولم يتورعوا - بعد أن أعيتهم الحيل - من السعي به عند الدولة حتى ألقوه في السجن ظلما وعدوانا، فكان له فيه العزاء من مطاردتهم وإيذائهم. وانشغل في العبادة والتأليف، إلى أن أدركه الأجل في شهر ذي القعدة سنة 728هـ، فمات وقد خلف من ورائه أحسن الذكر، وأجمل الأخبار، وأعطر الشمائل، وأغنى المؤلفات وأزكاها، وألمع التلاميذ والطلاب. فرحمه الله رحمة واسعة، وجمعنا به في رضوانه.(44/361)
وصف النسخ:
اعتمدت في إخراج الرسالة على ثلاث نسخ خطية، هي:
الأولى: وتقع في ست ورقات صغار، وسطورها 15 سطرا، وهي نسخة واضحة مصححة، مكتوبة بقلم نسخي جيد من خطوط القرن العاشر تقديرا، مشكول أحيانا. وقد خلت من اسم الناسخ وتاريخ النسخ،(44/361)
وعليها وقفية للإمام عبد الله بن فيصل (ت 1306هـ) ، وتملك بقلم عثمان بن منصور (1) ، وجعلتها أصلا.
والثانية: وتوجد ضمن مجموعة للمؤلف في ثلاث ورقات سقط منها النصف تقريبا، وسطورها 17 سطرا. كتبت في القرن العاشر تقديرا.
ورمزت لها بحرف (أ) .
والثالثة: وهي ضمن مجموع كتب بقلم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله العنقري سنة 1341هـ، في ثلاث ورقات كبار وسطورها 25 سطرا. وتتفق مع نسخة (أ) فلعلها منقولة عنها، ورمزت لها بحرف (ب) .
__________
(1) ينظر ترجمته: ابن بسام ''علماء نجد'' (3 \ 693) .(44/362)
العنوان:
كتب على نسخة الأصل: مسألة في ذم خميس النصارى. وجاء في نسخة (أ) و (ب) قاعدة في خمس النصارى. وقد اخترت العنوان المثبت على الرسالة؛ لوضوحه ودقته واختصاره.(44/362)
التوثيق:
لم أجد لها ذكرا في ثبت مؤلفات الشيخ، غير أن جميع النسخ قد نصت عليها، وفرقها المؤلف في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم في مواضع أشرت إليها مما يؤكد نسبتها إليه، والله أعلم.(44/362)
منهج التحقيق:
حرصت على صحة النص، فقابلته على نسخه، وأثبت ما حسبته(44/362)
صوابا وأشرت إلى الاختلاف في الهامش.
كما عزوت الآيات الكريمة وخرجت الأحاديث والآثار، وعلقت على بعض المسائل بالاختصار، مع الترجمة للأعلام، وتفسير بعض الكلمات الغامضة، إلى غير ذلك.
أسأل الله تعالى أن ينفع بها، وأن يحفظنا من الزيغ في القول والعمل، ومن مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن. إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(44/363)
النص المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم (1) :
أما بعد: حمدا لله تعالى، والصلاة والسلام (2) على نبينا (3) محمد وآله وصحبه (4) .
فإن الشيطان قد سول لكثير ممن يدعي الإسلام فيما يفعلونه في أواخر صوم النصارى، وهو الخميس الحقير: من الهدايا، والأفراح،
__________
(1) (أ) بزيادة: رب يسر.
(2) السلام: إضافة من (أ) و (ب) .
(3) نبينا ليست في (أ) و (ب) .
(4) الأصل: محمد صلى الله عليه وسلم.(44/363)
والنفقات وكسوة الأولاد، وغير ذلك مما يصير به مثل عيد المسلمين (1) .
وهذا الخميس الذي يكون في آخر صوم النصارى، فجميع ما يحدثه الإنسان فيه من (2) المنكرات. فمن ذلك: خروج النساء، وتبخير القبور، ووضع الثياب على السطح، وكتابة الورق وإلصاقها بالأبواب. واتخاذه موسما لبيع البخور وشرائه ورقي البخور، مطلقا في ذلك الوقت أو غيره. أو قصد شراء البخور المرقي، فإن رقي البخور واتخاذه قربانا، هو دين النصارى والصابئين. وإنما البخور طيب يتطيب بدخانه، كما يتطيب بسائر الطيب.
وكذلك تخصيصه بطبخ الأطعمة، وغير ذلك من صبغ البيض. وأما القمار بالبيض وبيعه لمن يقامر به، أو شراؤه (3) من المقامرين فحكمه ظاهر، [وتحريمه والإنكار على فاعله لا يحتاج إلى بيان] (4) . ومن ذلك: ما يفعله النساء من أخذ ورق الزيتون (5) والاغتسال بمائه، [ا \ ب]
__________
(1) ابن تيمية ''اقتضاء الصراط المستقيم'' (1 \ 474) .
(2) (أ) (ب) : فمن.
(3) (أ) (ب) : شرائه. تحريف.
(4) ما بينهما ساقط من الأصل.
(5) (أ) (ب) أو.(44/364)
ويسمى (1) ذلك ماء المعمودية.
ومن ذلك أيضا: ترك الوظائف الراتبة من الصنائع والتجارات أو حلق العلم في أيام عيدهم، واتخاذه يوم راحة وفرجة (2) وغير ذلك.
فإن «النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن اليومين الذين كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية (3) » .
«ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بالمكان إذا كان المشركون يتعبدون فيه (4) » . ويفعلون أمورا يقشعر منها قلب المؤمن [الذي لم يمت قلبه، بل يعرف المعروف وينكر المنكر] (5) ، وكما لا يتشبه بهم فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك، بل ينهى عن ذلك.
__________
(1) (أ) (ب) : فإن أصل.
(2) (ب) : وفرح.
(3) أخرجه أبو داود في ''السنن'' رقم (1134) ، والنسائي في ''المجتبى'' (3 \ 179) ، وأحمد في ''المسند'' (3 \ 103) ، 178، 235، 250، وأبو يعلى في ''المسند'' رقم (3820، 3841) والحاكم في ''المستدرك'' (1 \ 294) وصححه ووافقه الذهبي، وعنه البيهقي في ''السنن'' (3 \ 277) من حديث أنس.
(4) أخرجه أبو داود في السنن رقم (1313) بإسناد صحيح، وانظر بقية التخريج في ''فتح المجيد'' الباب العاشر.
(5) ما بينهما ساقط من (ب) .(44/365)
فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته. ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد المذكورة (1) مخالفة للعادة في سائر الأوقات لم تقبل هديته، خصوصا إن كانت الهدية مما يستعان به على التشبه بهم. مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد (2) وإهداء البيض واللبن والغنم في الخميس الصغير الذي في آخر يوم صومهم، وهو الخميس الحقير. ولا يبايع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد، من الطعام واللباس والبخور؛ لأن في ذلك إعانة [2 \ أ] على المنكر (3) .
ونذكر (4) أشياء من منكرات دين النصارى، لما رأيت طوائف من المسلمين قد ابتلي ببعضها وجهل كثير منهم أنها من دين النصارى الملعون هو وأهله. وقد بلغني أنهم يخرجون في الخميس الحقير الذي قبل ذلك، أو السبت أو غير ذلك إلى القبور.
وكذلك يبخرون في هذه الأوقات، (5) ويعتقدون أن البخور بركة ودفع مضرة، ويعدونه من القرابين مثل الذبائح، ويزفونه بنحاس يضربونه
__________
(1) المذكورة. إضافة من (أ) و (ب) .
(2) (أ) (ب) : البلاد. تحريف.
(3) ابن تيمية ''اقتضاء الصراط المستقيم'' (2 \ 515-518) .
(4) في الأصل زيادة ما نصه: قال الشيخ رضي الله عنه: ونذكر.
(5) (أ) (ب) : وهم.(44/366)
كأنه ناقوس صغير، و (1) بكلام مصنف. ويصلبون على أبواب بيوتهم (2) إلى غير ذلك من الأمور المنكرة. حتى أن الأسواق تبقى مملؤة من أصوات النواقيس الصغار، وكلام القرايين من المنجمين (3) وغيرهم بكلام أكثره باطل، وفيه ما هو محرم أو كفر. وقد ألقي إلى جماهير العامة أو جميعهم، إلا من شاء الله. وأعني بالعامة هنا: كل من لم يعلم حقيقة الإسلام. فإن كثيرا من منتسب (4) إلى فقه ودين (5) قد شاركهم في ذلك.
وألقي إليهم: أن هذا البخور المرقي ينفع (6) ببركته من العين والسحر والأدواء والهوام، ويصورون صور الحيات والعقارب [2 \ ب] ، ويضعونها (7) في بيوتهم زعما أن تلك الصور (8) الملعون فاعلها التي
__________
(1) (أ) (ب) : وساقطة.
(2) (أ) (ب) : أبوابهم.
(3) (أ) (ب) : الرقايين من المبخرين.
(4) (ب) : ممن ينتسب.
(5) الأصل: فقد. ولعل المثبت هو الصواب.
(6) (أ) تنفع (ب) ينتفع.
(7) (أ) (ب) : ويلصقونها.
(8) (أ) (ب) : الصورة.(44/367)
لا تدخل الملائكة بيتا هي فيه تمنع الهوام، وهو ضرب من طلاسم الصابئة. ثم كثير منهم على ما بلغني يصلب باب البيت، ويخرج خلق عظيم في الخميس الحقير المتقدم ذكره (1) على هذا: يبخرون القبور ويسمون هذا المتأخر الخميس الكبير، وهو عند الله الخميس المهين الحقير هو وأهله ومن يعظمه. فإن كل ما عظم بالباطل من مكان أو زمان أو حجر أو شجرة أو بنية يجب قصد إهانته كما تهان الأوثان المعبودة، وإن كانت - لولا عبادتها - لكانت (2) كسائر الأحجار.
ومما يفعله الناس من المنكرات: أنهم يوظفون على الفلاحين وظائف أكثرها كرها، من الغنم والدجاج واللبن والبيض.
يجتمع فيها تحريمان (3) : أكل مال المسلم أو المعاهد بغير حق، وإقامة شعار النصارى. ويجعلونه ميقاتا لإخراج الوكلاء على المزارع، ويطحنون منه ويصطبغون فيه البيض، وينفقون فيه النفقات الواسعة ويزينون
__________
(1) ذكره إضافة من (أ) و (ب) .
(2) الأصل: لكانت. ساقطة.
(3) (أ) (ب) : محرمان.(44/368)
أولادهم (1) ، إلى غير ذلك من الأمور التي يقشعر منها قلب المؤمن الذي لم يمت قلبه، بل يعرف المعروف وينكر المنكر.
وخلق كثير منهم يضعون \ ثيابهم تحت [3 \ أ] السماء رجاء لبركة مرور مريم عليها!! فهل يستريب (2) من في قلبه أدنى حياة من الإيمان أن شريعة جاءت بما قدمنا بعضه من مخالفة اليهود والنصارى (3) لا يرضى من شرعها ببعض هذه القبائح.
وأصل ذلك كله: إنما هو (4) اختصاص أعياد الكفار بأمر جديد (5) أو مشابهتهم في بعض أمورهم. فيوم الخميس: هو عيدهم، يوم عيد المائدة. ويوم الأحد: يسمونه عيد الفصح (6) وعيد النور، والعيد الكبير.
ولما كان عيدا صاروا يصنعون لأولادهم فيه البيض المصبوغ ونحوه؛ لأنهم فيه يأكلون ما يخرج من الحيوان: من (7) لحم، ولبن، وبيض. إذ صومهم هو عن الحيوان، أو ما يخرج منه.
__________
(1) (أ) (ب) : الأولاد.
(2) (أ) (ب) : يستريب ذلك.
(3) (ب) : والنصارى. ساقطة.
(4) إلى هنا ينتهي الموجود من نسخة (أ) .
(5) (ب) : جائر.
(6) (ب) : الفضيخ.
(7) (ب) : من. ساقطة.(44/369)
وعامة هذه الأعمال المحكية عن النصارى وغيرها مما لم يحك قد زينها الشيطان لكثير ممن يدعي الإسلام، وجعل لها في قلوبهم مكانة وحسن ظن.
وزادوا في بعض ذلك ونقصوا وقدموا وأخروا. وكلما خصت به هذه الأيام من أفعالهم وغيرها فليس للمسلم أن يشابههم، لا في أصله ولا في وصفه.
ومن ذلك أيضا: أنهم ينكتون (1) بالحمرة دوابهم ويصطنعون الأطعمة التي لا تكاد [3 \ ب] تفعل في عيد الله ورسوله (2) ويتهادون الهدايا التي تكون في (3) مواسم الحج، وعامتهم قد نسوا أصل ذلك، وبقي عادة مطردة، وهذا كله تصديق قول (4) النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم (5) » .
وإذا كانت (6) المشابهة في القليل ذريعة ووسيلة إلى بعض هذه القبائح كانت محرمة. فكيف إذا أفضت إلى ما هو كفر بالله: من التبرك بالصليب، والتعمد في ماء المعمودية، أو قول القائل: المعبود (7) واحد وإن كانت
__________
(1) يلونون ويزينون.
(2) وهما: عيد الفطر وعيد الأضحى، كما في حديث أنس المتقدم.
(3) (ب) في مثل.
(4) (ب) لقول.
(5) أخرجه البخاري في ''الصحيح'' رقم (3456) ومسلم في ''الصحيح'' رقم (2669) وأحمد في ''المسند'' (3 \ 84-89-94) ، من حديث أبي سعيد الخدري.
(6) (ب) : كان.
(7) الأصل: العمود. تحريف.(44/370)
الطرق مختلفة. ونحو ذلك من الأقوال، والأفعال التي تتضمن: إما كون الشريعة النصرانية أو اليهودية المبدلتين المنسوختين موصلة إلى الله عز وجل. وإما استحسان بعض ما فيهما مما يخالف دين الله أو التدين بذلك، أو غير ذلك مما هو كفر بالله ورسوله وبالقرآن وبالإسلام بلا (1) خلاف بين الأمة.
وأصل ذلك كله (2) : المشابهة والمشاركة.
وبهذا يتبين لك كمال موقع الشريعة الحنيفية وبعض حكم ما شرع الله لرسوله: من مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة أمورهم، لتكون المخالفة أحسم لمادة الشر وأبعد عن الوقوع فيما وقع الناس فيه \ (3) (4) [4 \ أ] .
فينبغي للمسلم إذا طلب منه أهله وأولاده شيئا من ذلك: أن يحيلهم على ما (5) عند الله ورسوله، ويقضي لهم في عيد الله من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره. فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن أغضب أهله لله، أرضاه الله وأرضاهم. فليحذر العاقل من
__________
(1) (ب) فلا، تحريف.
(2) كله. إضافة من (ب) .
(3) (ب) : فيه الناس.
(4) ابن تيمية ''اقتضاء الصراط المستقيم'' (1 \ 476-482) .
(5) (ب) : ما هو.(44/371)
طاعة النساء في ذلك؛ ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (1) » ، وأكثر ما يفسد الملل (2) والدول طاعة النساء؛ ففي صحيح البخاري عن أبي بكرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة (3) » وروي أيضا «ما هلكت الرجال حتى أطاعت النساء (4) » ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمهات المؤمنين لما راجعنه في تقديم أبي بكر «إنكن صواحب يوسف (5) » ، يريد أن النساء من شأنهن مراجعة ذي اللب؛ كما قال في الحديث الآخر: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب ذي اللب من إحداكن (6) » .
ولما أنشده الأعشى - أعشى باهلة (7) - أبياته التي يقول فيها:
وهن شر غالب لمن غلب
\ [4 \ ب] .
__________
(1) البخاري في ''الصحيح'' رقم (5096) ومسلم في ''الصحيح'' رقم (2740، 2741) أخرجه أحمد في ''المسند'' (5 \ 200، 210) .
(2) (ب) : الملك.
(3) البخاري في ''الصحيح'' رقم (7099) ، وأخرجه أحمد في ''المسند'' (5 \ 38-47-51) .
(4) أخرجه أحمد في ''المسند'' (5 \ 45) من حديث أبي بكرة.
(5) أخرجه البخاري في ''الصحيح'' رقم (3384، 3385) ومسلم في ''الصحيح'' رقم (418) ، وأحمد في ''المسند'' (6 \ 159-210-224-304) من حديث عائشة.
(6) أخرجه البخاري في ''الصحيح'' رقم (304) ومسلم في الصحيح رقم (79) وأحمد في ''المسند'' (2 \ 373) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة.
(7) بني باهلة.(44/372)
أخذ (1) النبي صلى الله عليه وسلم يرددها، ويقول: «وهن شر غالب لمن غلب (2) » ، ولذلك (3) امتن الله سبحانه على زكريا حيث قال: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} (4) قال بعض العلماء: ينبغي للرجل أن يجتهد إلى الله في صلاح زوجه (5) له (6) .
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم (7) » ، وقد روى البيهقي بإسناد صحيح، في باب كراهية الدخول على المشركين يوم عيدهم في كنائسهم، والتشبه بهم يوم نيروزهم ومهرجانهم (8) : عن سفيان الثوري، عن ثور بن يزيد، عن عطاء بن دينار، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخط ينزل عليهم) .
فهذا عمر قد نهى عن تعلم لسانهم، وعن مجرد دخول الكنيسة عليهم يوم عيدهم. فكيف من يفعل بعض أفعالهم، أو قصد ما هو من مقتضيات
__________
(1) (ب) : جعل.
(2) أخرجه أحمد في ''المسند'' (2 \ 202) ، وابن سعد في ''الطبقات'' (7 \ 53) .
(3) (ب) : وكذلك.
(4) سورة الأنبياء الآية 90
(5) (ب) : إصلاح زوجته.
(6) ابن تيمية ''اقتضاء الصراط المستقيم'' (2 \ 513-514) .
(7) أخرجه أبو داود في ''السنن'' رقم (4013) ، وإسناده حسن، ينظر في بقية تخريجه ''سبيل النجاة والفكاك'' (52) .
(8) من أعياد الأقباط والفرس.(44/373)
دينهم. أليس موافقتهم في العمل أعظم من [موافقتهم في اللغة. أو ليس عمل بعض أعمال عيدهم أعظم من] (1) مجرد الدخول عليهم في عيدهم. وإذا كان السخط ينزل عليهم يوم عيدهم بسبب عملهم فمن يشركهم في العمل أو بعضه \ أليس قد تعرض لعقوبة ذلك [5 \ أ] .
ثم قوله: اجتنبوا أعداء الله في عيدهم. أليس هذا (2) نهيا عن لقائهم والاجتماع بهم فيه، فكيف بمن عمل عيدهم؟ وقال ابن عمر [في كلام له: من صنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه به حتى يموت حشر معهم (3) ، وقال:] (4) : اجتنبوا أعداء الله في عيدهم (5) .
ونص الإمام أحمد: على أنه لا يجوز شهود أعياد اليهود والنصارى، واحتج بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (6) ، قال: الشعانين وأعيادهم وقد (7) قال عبد الملك بن حبيب من أصحاب مالك في
__________
(1) ما بينهما معلق في هامش (ب) وعليه كله صح.
(2) هذا. إضافة من (ب) .
(3) أخرجه البيهقي في ''السنن الكبرى'' (9 \ 234) عن عبد الله بن عمرو.
(4) ما بينهما معلق في هامش (ب) وعليه كله صح.
(5) في (ب) إضافة: وقد تقدم. والأثر أخرجه البيهقي في ''السنن'' (9 \ 234) .
(6) سورة الفرقان الآية 72
(7) (ب) : قد ساقطة.(44/374)
(1) كلام له، قال: ولا يعاونون على شيء من عيدهم؛ لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم. وينبغي للسلاطين أن ينهوا المسلمين عن ذلك، وهو قول مالك وغيره لم أعلم أنه (1) اختلف فيه. وأكل ذبائح أعيادهم داخل في هذا الذي أجمع (2) على كراهيته، بل هو عندي أشد (3) وقد سئل ابن القاسم عن الركوب في السفن، التي يركب فيها النصارى إلى أعيادهم: فكره ذلك، مخافة نزول السخطة عليهم لشركهم (4) الذي اجتمعوا عليه.
وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (5) [5 \ ب] ، وحكمها عام لجميع المسلمين. قال البغوي رحمه الله: ومن يتولهم منكم: يوافقهم (6) ويعينهم، فإنه منهم (7) .
__________
(1) (ب) : أحد.
(2) (ب) اجتمع العلماء.
(3) نقله ابن تيمية في ''اقتضاء الصراط المستقيم'' (2 \ 524) .
(4) (ب) بشركهم.
(5) سورة المائدة الآية 51
(6) (ب) فيوافقهم.
(7) البغوي ''التفسير''.(44/375)
(1) وروى الإمام أحمد - رحمه الله - بإسناد صحيح، عن أبي موسى، قال: قلت لعمر: إن لي كاتبا نصرانيا. قال: ما لك قاتلك الله! أما سمعت الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (1) ألا اتخذت حنيفا. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، لي كتابته وله دينه. قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (2) قال مجاهد: أعياد المشركين (3) ، وكذلك قال الربيع بن أنس، وقال القاضي أبو يعلى: مسألة: في النهي عن حضور أعياد المشركين. وروى أبو الشيخ (4) الأصبهاني بإسناده في شروط أهل الذمة، عن الضحاك في
__________
(1) سورة المائدة الآية 51
(2) سورة الفرقان الآية 72
(3) أخرجه الخطيب، عن ابن عباس كما في ''الدر المنثور'' (6 \ 282) .
(4) (ب) : روى أبو الفتح. تحريف.(44/376)
(1) قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (1) قال: عيد المشركين (2) .
وروى (3) بإسناده، عن أبي سنان (4) ، عن الضحاك {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (5) قال: كلام الشرك.
وروي بإسناده، عن عمرو بن مره {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} (6) قال: لا يمالئون (7) أهل [6 \ أ] الشرك على شركهم، ولا يخالطونهم.
وقد دل الكتاب، وجاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين التي أجمع أهل العلم عليها (8) : لمخالفتهم، وترك التشبه بهم.
(2) وإيقاد النار والفرح بها، من شعار المجوس عباد النيران، والمسلم يجتهد في إحياء السنن وإماتة البدع؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم (9) » ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون (10) » ،
__________
(1) سورة الفرقان الآية 72
(2) أخرجه ابن أبي حاتم في '' التفسير'' كما في ''أحكام أهل الذمة'' (2 \ 722) .
(3) (ب) : روى ساقطة.
(4) الأصل: ابن سنان. تحريف. وانظر ترجمته، المزي ''تهذيب الكمال'' (13 \ 306) .
(5) سورة الفرقان الآية 72
(6) سورة الفرقان الآية 72
(7) (ب) لا يماثلون.
(8) (ب) : على موافقتهم واتباعهم: بمخالفة أهل الشرك.
(9) البخاري في ''الصحيح'' رقم (3462، 5899) ، ومسلم في ''الصحيح'' رقم (2103) ، وأخرجه أبو داود في ''السنن'' رقم (4203) ، وأحمد في ''المسند'' (2 \ 240-260-309) .
(10) قطعة من حديث عدي بن حاتم الطويل: أخرجه الترمذي في ''الجامع'' رقم (2956-2957) وقال: هذا حديث حسن غريب، وأحمد في ''المسند'' (4 \ 378) وابن حبان في ''الصحيح'' رقم (2279) وابن جرير في ''التفسير'' رقم (193-195) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في ''الدر المنثور'' (1 \ 42) بإسناد صحيح.(44/377)
وقد أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (1) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (2) آمين [والله سبحانه أعلم، والحمد لله وحده وصلى الله على محمد] (3) (4) [6 \ ب] .
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 6
(2) سورة الفاتحة الآية 7
(3) إضافة من (ب) .
(4) كتب في هامش (ب) ما نصه: بلغ مقابلة.(44/378)
القضاء والقدر
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فقد دل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة، وإجماع سلف الأمة على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه من أصول الإيمان الستة التي لا يتم إسلام العبد ولا إيمانه إلا بها، كما دل على ذلك آيات من القرآن الكريم وأحاديث صحيحة مستفيضة، بل متواترة عن الرسول الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
ومن ذلك قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1) ، وقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) ، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3) .
__________
(1) سورة الحج الآية 70
(2) سورة الحديد الآية 22
(3) سورة القمر الآية 49(44/379)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال عليه الصلاة والسلام: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله. قال: صدقت (1) » . . . الحديث. وهذا لفظ مسلم.
وخرج مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه «أن جبرائيل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فأجابه بقوله: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. فقال له جبرائيل: صدقت (2) » .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد ذكر العلماء - رحمهم الله - أن الإيمان بالقدر يجمع أربعة أمور:
الأمر الأول: الإيمان بأن الله سبحانه، علم الأشياء كلها قبل وجودها بعلمه الأزلي، وعلم مقاديرها وأزمانها، وآجال العباد وأرزاقهم وغير ذلك كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) ، وقال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (4) ، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (5)
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (50) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/53) .
(3) سورة العنكبوت الآية 62
(4) سورة الطلاق الآية 12
(5) سورة الأنعام الآية 59(44/380)
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
الثاني: من مراتب الإيمان بالقدر: كتابته سبحانه لجميع الأشياء من خير وشر، وطاعة ومعصية، وآجال وأرزاق، وغير ذلك، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1) ، في آيات كثيرة سبق بعضها آنفا.
وفي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار. فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة (2) » ثم قرأ رسول الله عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} (3) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (4) الآيتين.
وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، ومنها حديث عبد الله بن مسعود المخرج في الصحيحين في ذكر خلق الجنين، وأنه يكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد.
__________
(1) سورة الحج الآية 70
(2) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي تحريم الدم (4034) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/107) .
(3) سورة الليل الآية 5
(4) سورة الليل الآية 6(44/381)
الأمر الثالث من مراتب الإيمان بالقدر: أنه سبحانه وتعالى لا يوجد في ملكه ما لا يريد، ولا يقع شيء في السماء والأرض إلا بمشيئته.
كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (1) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) ، وقال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} (3) {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (4) ، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (5) ، وقال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (6) ، وقال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (7) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا، معلومة من كتاب الله، والإرادة في هذه الآية بمعنى المشيئة، وهي إرادة كونية قدرية، بخلاف الإرادة في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (8) {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} (9) {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (10) .
__________
(1) سورة التكوير الآية 28
(2) سورة التكوير الآية 29
(3) سورة المدثر الآية 55
(4) سورة المدثر الآية 56
(5) سورة الأنعام الآية 112
(6) سورة الأنعام الآية 39
(7) سورة الأنعام الآية 125
(8) سورة النساء الآية 26
(9) سورة النساء الآية 27
(10) سورة النساء الآية 28(44/382)
فالإرادة في هذه الآيات الثلاث إرادة شرعية أو دينية بمعنى المحبة، والفرق بين الإرادتين: أن الأولى لا يتخلف مرادها أبدا، بل ما أراده الله كونا فلا بد من وقوعه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) .
أما الإرادة الشرعية فقد يوجد مرادها من بعض الناس وقد يتخلف، وإيضاح ذلك أن الله سبحانه أخبر أنه يريد البيان للناس والهداية والتوبة، ومع ذلك أكثر الخلق لم يهتد، ولم يوفق للتوبة، ولم يتبصر في الحق؛ لأنه سبحانه وتعالى قد أوضح الحجة والدليل، وبين السبيل وشرع أسباب التوبة وبينها، ولكنه لم يشأ لبعض الناس أن يهتدي أو يتوب أو يتبصر، فذلك لم يقع منه ما أراده الله شرعا لما قد سبق في علم الله وإرادته الكونية من أن هذا الشخص المعين لا يكون من المهتدين، ولا ممن يوفق للتوبة.
وهذا بحث عظيم ينبغي تفهمه وتعقله والتبصر في أدلته؛ ليسلم المؤمن من إشكالات كثيرة وشبهات مضلة حار فيها الكثير من الناس؛ لعدم تحقيقهم للفرق بين الإرادتين.
ومما يزيد المقام بيانا أن الإرادتين تجتمعان في حق المؤمن، فهو إنما آمن بمشيئة الله وإرادته الكونية، وهو في نفس الوقت قد وافق بإيمانه وعمله الإرادة الشرعية، وفعل ما أراده الله منه شرعا وأحبه منه، وتنفرد الإرادة الكونية في حق الكافر والعاصي، فهو إنما كفر وعصى بمشيئة الله وإرادته
__________
(1) سورة يس الآية 82(44/383)
الكونية وقد تخلفت عنه الإرادة الشرعية؛ لكونه لم يأت بمرادها؛ وهو الإسلام والطاعة، فتنبه وتأمل والله الموفق.
الأمر الرابع من مراتب الإيمان بالقدر: أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الموجد لجميع الأشياء؛ من ذوات وصفات وأفعال، فالجميع خلق الله سبحانه، وكل ذلك واقع بمشيئته وقدرته، فالعباد وأرزاقهم وطاعاتهم ومعاصيهم كلها خلق الله، وأفعالهم تنسب إليهم، فيستحقون الثواب على طيبها، والعقاب على خبيثها، والعبد فاعل حقيقة، وله مشيئة، وله قدرة قد أعطاه الله إياها، والله سبحانه هو خالقه، وخالق أفعاله وقدرته ومشيئته، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) ، وقال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (2) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (3) .
فلا يخرج شيء من أفعال العباد ولا غيرهم عن قدرة الله، ولا عن مشيئته، فعلم الله شامل، ومشيئته نافذة، وقدرته كاملة، لا يعجزه سبحانه شيء، ولا يفوته أحد، كما قال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (4) ، والعرش وما دونه من سماوات وأرضين، وملائكة وبحار وأنهار وحيوان. . . وغير ذلك من الموجودات، كلها وجدت بمشيئة الله وقدرته، لا خالق غيره، ولا رب سواه، ولا شريك له في ذلك كله، كما أنه لا شريك
__________
(1) سورة البقرة الآية 20
(2) سورة التكوير الآية 28
(3) سورة التكوير الآية 29
(4) سورة الطلاق الآية 12(44/384)
له في عبادته، ولا في أسمائه وصفاته، كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (1) ، وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (2) ، وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (4) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (5) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (6) ، وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (7) .
فالله سبحانه هو الخالق وما سواه مخلوق، وصفاته كذاته ليست مخلوقة، وكلامه من صفاته، والقرآن الكريم من كلامه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو كلام الله - عز وجل - منزل غير مخلوق بإجماع أهل السنة، وهم أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومن سلك سبيلهم إلى يوم القيامة.
وبما ذكرنا يتضح لطالب الحق أن مراتب القدر أربع، من آمن بها وأحصاها فقد آمن بالقدر خيره وشره، وقد ذكر العلماء هذه المراتب في كتب العقائد، وأوضحوها بأدلتها.
وممن ذكر ذلك باختصار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه: (العقيدة الواسطية) ، وذكرها وأوسع فيها الكلام تلميذه المحقق العلامة
__________
(1) سورة الزمر الآية 62
(2) سورة البقرة الآية 163
(3) سورة الإخلاص الآية 1
(4) سورة الإخلاص الآية 2
(5) سورة الإخلاص الآية 3
(6) سورة الإخلاص الآية 4
(7) سورة الشورى الآية 11(44/385)
الكبير أبو عبد الله ابن القيم، في كتابه: (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) ، وهو كتاب نفيس عظيم الفائدة نادر المثل أو معدومه، ننصح بقراءته والاستفادة منه.
والله أسأل سبحانه أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه، والاستقامة عليه، وأن يهدينا وسائر المسلمين صراطه المستقيم إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(44/386)
حديث شريف
حدثنا أبو الأحوص عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت (1) »
. (رواه البخاري)
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6018) ، صحيح مسلم الإيمان (47) ، مسند أحمد بن حنبل (2/267) .(44/387)
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (1) {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (2)
(سورة الأحزاب، الآيتان 32، 33)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 32
(2) سورة الأحزاب الآية 33(45/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(45/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(45/3)
المحتويات
الافتتاحية
الشريعة الإسلامية ومحاسنها وضرورة البشر إليها لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة
نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 41
الفتاوى
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 67
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 105(45/4)
البحوث
الأمية في المنظور الإسلامي لمصطفى بن عيد الصياصنة 121
رحمة الله أسبابها وآثارها للدكتور / مسفر بن سعيد بن دماس الغامدي 179
الفتنة والابتلاء لعبيد بن عبد العزيز السلمي 261
بيان هيئة كبار العلماء بالمملكة حول المؤتمر العالمي الرابع المعني بالمرأة هيئة كبار العلماء 331
تحذير وبيان عن مؤتمر بكين للمرأة لسماحة الشيخ / عبد العزيز 335
حكم الإسلام في شعر الرأس الصناعي لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 337
الكشاف عبد الله بن محمد بن قعود 341(45/5)
صفحة فارغة(45/6)
الافتتاحية
الشريعة الإسلامية ومحاسنها وضرورة البشر إليها
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلما كانت المحاضرات العلمية من خير الوسائل لإيضاح الحقائق وإبراز محاسن الشيء المحاضر عنه، وبسط الكلام فيه بعض البسط، رأيت أن يكون موضوع كلمتي: (الشريعة الإسلامية ومحاسنها وضرورة البشر إليها) . وإنما اخترت هذا الموضوع لأهميته العظيمة، كما لا يخفى، فإن البحث في الشريعة الإسلامية وما يتعلق بمحاسنها ومصالحها وعنايتها بالعباد، وما يتعلق بالضرورة إليها أمر عظيم، والحاجة إليه شديدة، والتفقه فيه والعناية به من أهم الأشياء. فلأهمية هذا الموضوع وعظم شأنه، ومسيس الحاجة إلى المزيد من الفقه فيه والبصيرة رأيت أن يكون موضوع الكلمة. وبهذا يتضح لإخواني أن هذه الكلمة ذات شقين: أحدهما: الشريعة الإسلامية ومحاسنها. والثاني: ضرورة البشر إليها. وسأتكلم إن شاء الله على الشقين جميعا.
أما الشق الأول: وهو ما يتعلق بالشريعة الإسلامية ومحاسنها: فمن المعلوم لدى المسلمين ولدى كل من له أدنى علم بالواقع في الأزمان الماضية أن الله - جل وعلا - بعث الرسل جميعا - عليهم الصلاة والسلام - بدين الإسلام من أولهم نوح إلى آخرهم محمد - عليهم الصلاة والسلام -(45/7)
بل أبونا آدم - عليه السلام - كان على الإسلام، والقرون التي كانت بعده إلى أن حدث الشرك في قوم نوح، كلهم كانوا على الإسلام، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما -، ثم حدث الشرك في قوم نوح بعبادة الصالحين، ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، فأرسل الله نوحا - عليه الصلاة والسلام - إلى قومه لما وقع فيهم الشرك، وكان أول رسول إلى أهل الأرض كما جاءت به الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام -.
فالرسل - عليهم الصلاة والسلام - جميعا بعثهم الله من أولهم إلى آخرهم بدين الإسلام، كما قال الله - عز وجل -: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) ، فأوضح سبحانه أن الدين عنده هو الإسلام لا دين سواه عنده سبحانه وتعالى. ثم أكد ذلك سبحانه بآية أخرى، فقال - جل وعلا -: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) ، فبين - عز وجل - أن جميع الطرق مسدودة إلا هذا الطريق وهو الإسلام، وأوضح سبحانه وتعالى أن الإسلام هو الدين الذي يقبل من جاء من طريقه، ومن جاء من غير طريقه لا يقبل، وقال - عز وجل -: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) ، فخاطب هذه الأمة على يد رسوله محمد - عليه الصلاة والسلام - بأنه أكمل لها الدين، وأتم عليها النعمة، ورضي لها الإسلام دينا، فدل ذلك على أن دين الإسلام: هو دين محمد - عليه الصلاة والسلام -، وهو دين هذه الأمة، كما أنه هو دين الأنبياء الماضين والرسل أجمعين - عليهم الصلاة والسلام -. ثم أيد ذلك
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) سورة آل عمران الآية 85
(3) سورة المائدة الآية 3(45/8)
بقوله سبحانه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} (1) فخاطب هذه الأمة بأنه شرع لهم من الدين ما وصى به نوحا، {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (2) يعني: يا محمد عليه الصلاة والسلام.
فالله - جل وعلا - شرع لهذه الأمة ما وصى به نوحا من إقامة أمر الإسلام والاستقامة عليه والاجتماع عليه، وما أوحى به إلى محمد - عليه الصلاة والسلام - من الاستقامة في الدين والاجتماع عليه، كما في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3) ، وبقوله جل وعلا: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (4) ، فعلم بهذا أنه شرع لنا سبحانه ما شرع للأنبياء الماضين والرسل الأقدمين {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (5) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (6) {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (7) {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (8) ، فبين سبحانه أن إبراهيم وصى ذريته بالإسلام، وهكذا يعقوب أوصى بنيه بذلك، وذكر عن نوح - عليه الصلاة والسلام - أيضا ما يدل على ذلك، فقال جل وعلا في سورة يونس في قصة نوح أنه قال
__________
(1) سورة الشورى الآية 13
(2) سورة الشورى الآية 13
(3) سورة آل عمران الآية 103
(4) سورة آل عمران الآية 105
(5) سورة الشورى الآية 13
(6) سورة البقرة الآية 130
(7) سورة البقرة الآية 131
(8) سورة البقرة الآية 132(45/9)
لقومه: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) ، وقال عن موسى أنه قال: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (2) ، وقال عن بلقيس: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) ، فعلهم بهذه الآيات وما في معناها أن الإسلام هو دين الأنبياء جميعا، وهو دين الرسل جميعا - عليهم الصلاة والسلام -، وأنه دين الله حقا لا دين له سواه، ولا يقبل من أحد دينا سواه، وهو الدين الذي أمر الرسل بإقامته، وحقيقته توحيد الله - عز وجل - في ملكه وتدبيره وأفعاله، وفي عبادته سبحانه، وفي أسمائه وصفاته، والانقياد لأمره وقبول شريعته، والدعوة إلى سبيله والاستقامة على ذلك، والاجتماع عليه وعدم التفرق فيه، وهذا هو الدين الذي أمرنا بإقامته وأمر الله الرسل ومن بعدهم بإقامته، كما قال تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (4) ، فإقامة الدين معناها: قبوله والتزامه، وإظهاره، والدعوة إليه، والسير عليه، والثبات عليه، واجتماع على ذلك قولا وعملا وعقيدة، وعدم التفرقة في ذلك، وبهذا تجتمع كلمة المسلمين ويتحد صفهم ويقوى جانبهم ويهابهم عدوهم.
هكذا كان الرسل - عليهم الصلاة والسلام - كلهم أمروا بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه، ولا يخفى على ذي اللب ما في إقامة الدين والاجتماع عليه وعدم التفرق من قوة المسلمين وتمكنهم من أخذ حقوقهم من أعدائهم، وانتصافهم منهم وهيبة الأعداء لهم في نفس
__________
(1) سورة يونس الآية 72
(2) سورة يونس الآية 84
(3) سورة النمل الآية 44
(4) سورة الشورى الآية 13(45/10)
الوقت، لما يشاهدونه من اتحادهم واجتماعهم وإقامتهم دينهم وتعاونهم في ذلك وتواصيهم به. فالاجتماع والاتحاد والتعاون الصادق على الحق في كل أمة لا شك أنه سر النجاح وطريق الفوز والكرامة في الدنيا والآخرة، فعلمنا بهذا أن جميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - كلهم أرسلوا بالإسلام، وكلهم دعوا إلى الإسلام، وكلهم دينهم الإسلام، وكلهم أمروا بإقامة الإسلام، وإقامته كما تقدم إظهاره للناس، ودعوتهم إليه، والاستقامة عليه، علما وعملا وعقيدة، والاجتماع على ذلك، وذلك بالإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وتلقي ما جاء به الرسول الأمين بالقبول والعمل، والاجتماع على ذلك، والحذر من الخلاف والتفرق، وبهذا يزداد الداخلون في الدين، ويعظمون أمر الدين، ويعظمون الدعاة إليه، ويعرفون صلاحه لكل عصر، وأنه دين حق، من تمسك به أفلح ونجح، وفاز بالعزة والكرامة والاتحاد والقوة والاجتماع مع إخوانه. فدين نوح وهود وصالح ومن بعدهم من الأنبياء: هو الإسلام عقيدة وشريعة. فالعقيدة التي هي الإيمان بالله ورسوله المبعوث في كل وقت بالنسبة إلى القوم المبعوث إليهم هي الإسلام بالنسبة إليهم، وهو إيمانهم بما جاء به رسولهم، وتوحيدهم لربهم وانقيادهم للشرع، واجتماعهم عليه بالأقوال والأعمال والعقيدة، لكن لكل نبي شريعة ولكل رسول شريعة، كما قال الله - جل وعلا -: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (1) ، وما ذاك إلا لأن ظروف الناس وأحوالهم وتحملهم للتكاليف وإدراكهم للمقصود يتفاوت كثيرا فليست عقول الناس في
__________
(1) سورة المائدة الآية 48(45/11)
جميع الأزمنة على حد سواء، وليست ظروفهم وأحوالهم وقدرهم على حد سواء، فالله - جل وعلا - هو العليم بأحوال العباد، وهو الخبير بمدى استطاعتهم، وهو العليم بمدى تقبلهم الحق وبحقيقة العقول التي يحملونها، وهو سبحانه يرسل الرسل في كل وقت، وفي كل أمة بما يليق بذلك الوقت وبتلك الأمة؛ لأن ذلك هو اللائق بحكمته وعلمه ورحمته وإحسانه سبحانه وتعالى. فليس قوم نوح في العقول والتحمل والتقبل لما يجيء به الرسول كأمة موسى مثلا، فبين الناس فروق كبيرة في أوقاتهم وعقولهم ولغاتهم وعوائدهم وغير ذلك. فكان من حكمة الله - عز وجل - أن كانت الشرائع: وهي الأحكام متنوعة ومتفاوتة، أما الأصل فمتحد الذي هو عبادة الله، وتوحيده، والإيمان به، والإيمان برسله، والإيمان بملائكته، واليوم الآخر، والكتب، والإيمان بالقدر، والإيمان بإقامة الدين والاجتماع عليه، وإقامة الشريعة، وطاعة الرسول فيما جاء به، هذا أمر متفق عليه بين الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، وهذه أصول اجتمعوا عليها ودعوا إليها، كما قال الله - جل وعلا -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) ، هذه دعوتهم جميعا يدعون الناس إلى عبادة الله والتوجه إليه وتوحيده في العبادة دون كل ما سواه في كل شيء من صلاة وصوم وغير ذلك، وقال - عز وجل -: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) ، وقال - عز وجل -
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25(45/12)