إلى غير ذلك من الآيات الدالات على نصحه عليه الصلاة والسلام وأن الله بعثه ليعلم الناس ويرشد الناس ويزكي الناس ويخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ من ظلمات جهلهم وكفرهم وأخلاقهم الذميمة إلى نور الإيمان والتوحيد وإلى سعادة الأخلاق الكريمة، والعدل والصلاح والإصلاح. ولما كانت الأرض قبل بعثته عليه الصلاة والسلام مملوءة من الظلم والجهل والكفر، وكان الشرك قد عم الناس وعم البلاد، وانتشر فيها الفساد إلا ما شاء الله من بقايا يسيرة من أهل الكتاب ماتوا أو معظمهم قبل بعثته عليه الصلاة والسلام، لما كان الأمر هكذا رحم الله أهل الأرض ولطف بهم سبحانه وبعث فيهم هذا الرسول العظيم محمدا عليه الصلاة والسلام وهم في أشد الحاجة بل الضرورة إلى بعثته وإرساله فبعثه الله بأشرف كتاب وأشرف رسالة وأعمها فأنقذ الله به الأمة.
وأخرج الله به أهل الأرض من الظلمات إلى النور، أخرجهم الله به من الضلالة إلى الهدى، أخرجهم الله به من الجور والظلم والعسف إلى العدل والإنصاف والحرية الكاملة المقيدة بقيود الشريعة، وأمره سبحانه وتعالى حينما بعثه بالدعوة إلى الله عز وجل والإرشاد إليه، وإقامة الحجج على ما بعثه الله به من الدين الحق والصراط المستقيم، فلم يزل هكذا يدعو إلى الله ويرشد في مكة عليه الصلاة والسلام، وهكذا من أسلم معه من أهل مكة يقوم بدوره في الدعوة على حسب حاله تارة في السر وتارة في العلن كما هو معلوم، فمكث في مكة عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاما يدعو إلى الله عز وجل وينذر قومه ويوجههم إلى الخير ويتلو عليهم كتاب الله، ويدعوهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولم يأمره الله بقتالهم، وإنما هي دعوة(41/17)
فقط ليس فيها قتال، بل توجيه وإرشاد وإيضاح للحق والخلق الكريم وتحذير من خلافه بالكلام الطيب واللطف والجدال بالتي هي أحسن كما قال جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) وقال جل وعلا: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (2) ، وقال سبحانه: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} (3) ، وقال سبحانه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (4) ، إلى أمثال هذه الآيات التي فيها الأمر بالصفح والإعراض عنهم والجدال بالتي هي أحسن إلى غير ذلك، وليس فيها الأمر بقتالهم، لأن المقام لا يتحمل ذلك لأن المسلمين قليلون، وأعداؤهم كثيرون، وبأيديهم السلطان والقوة، فكان من حكمة الله أن منع رسوله والمسلمين من الجهاد باليد وأمرهم بالاكتفاء بالجهاد باللسان والدعوة وأمرهم أن يكفوا أيديهم عن القتال، فهدى الله بذلك من هدى من المسلمين كالصديق -رضي الله عنه- وعمر الفاروق - رضي الله عنه- وعثمان -رضي الله عنه- وعلي - رضي الله عنه- والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وجم غفير من الصحابة، رضي الله عن الجميع وأرضاهم.
ولما صدع النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة وبين بطلان آلهتهم التي يعبدونها من دون الله وأرشدهم إلى توحيد الله والإخلاص له، عظم على أهل مكة ذلك واشتد عليهم الأمر لأنهم يعظمون تلك الآلهة ولأن كثيرا منهم يرى في عبادتها والتعلق بها حفظا لرئاسته ومنزلته وسيطرته على الضعفاء وصاروا يحاولون
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة الحجر الآية 85
(3) سورة المزمل الآية 10
(4) سورة الحجر الآية 94(41/18)
الذود عنها ويكذبون على الرسول صلى الله عليه وسلم أكاذيب كثيرة وينفرون الناس عنه ويقولون عنه إنه شاعر وتارة مجنون وتارة ساحر وتارة كذاب إلى غير ذلك، وهي أقاويل كلها باطلة وهم يعلمون أنها باطلة، أعني أعيانهم ورؤساءهم وأهل الحل والعقد منهم كما قال سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (1) ولكن ليس لهم حيلة إلا أن يقولوا هكذا من الكذب والفرية والتزييف على الضعفاء من أهل مكة ومن غيرهم فأبى الله إلا أن يتم نوره، ويظهر الحق ويدفع الباطل ولو كره الكافرون، فلم يزل يدعوهم عليه الصلاة والسلام ولم يزل يناظر الناس ويتلو عليهم كتاب الله ويرشدهم إلى ما بعثه الله به ويصدع بأمر ربه عز وجل، حتى ظهرت الدعوة في مكة وانتشرت وسمع بها الناس، العرب وغيرهم في البوادي والمدن، فصارت الوفود تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتصلون به سرا ويسمعون منه عليه الصلاة والسلام حتى فشا الإسلام وظهر وبان لأهل مكة، فعند ذلك شمروا عن ساعد العداوة وآذوا الرسول وآذوا أصحابه إيذاء شديدا، وأمرهم معروف في السير والتاريخ، فمنهم من عذب بالرمضاء، ومنهم من عذب بغير ذلك.
فلما اشتد الأمر بأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم واشتد بهم الأذى أذن لهم صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر من هاجر إلى الحبشة، ومكثوا هناك ما شاء الله، ثم بلغهم أن هناك تساهلا من المشركين، وروي أنه بلغهم أنهم أسلموا لما سجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سورة النجم، فرجع من رجع منهم، فاشتد عليهم الأذى، فهاجروا الهجرة الثانية إلى الحبشة وبقوا هناك إلى أن قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم عام خيبر من الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وعنهم، ثم
__________
(1) سورة الأنعام الآية 33(41/19)
استمرت الحال والشدة على الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة.
وجرى ما جرى في حصاره في شعب أبي طالب وغير هذا من الأذى، ثم إن الله جل وعلا بعد ذلك أذن له بالهجرة إلى المدينة بعدما يسر الله له من الأنصار من يساعده ويحميه ويؤويه، فإن الأنصار -رضي الله عنهم وأرضاهم- من الأوس والخزرج لما بلغتهم الدعوة اتصلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واجتمعوا به عند العقبة في منى مرات، ثم في المرة الأخيرة بايعوه، بايعه منهم جماعة فوق السبعين، فبايعوه على الإسلام وعلى أن ينصروه ويحموه مما يحموا منه نساءهم وذرياتهم، وطلبوا منه أن يهاجر إليهم، فوافق على ذلك عليه الصلاة والسلام، وأذن لأصحابه بالهجرة، ثم انتظر أمر ربه، فأذن الله له بعد ذلك فهاجر إلى المدينة، فلله الحمد والمنة.
وكان صلى الله عليه وسلم في مكة -كما هو معلوم- لم يكن يجاهدهم باليد ولا بالسيف، ولكنه كان يجاهد بالدعوة والتوجيه والإرشاد والتبصير والعظة والتذكير وتلاوة القرآن كما قال الله تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (1) وهكذا كان أصحابه صلى الله عليه وسلم الذين بقوا في مكة كانوا هكذا إذا تمكنوا من الدعوة بذلوها لمن يتصل بهم في التوجيه والإرشاد والنصيحة، ولكن مع هذا كله فالمسلمون قليلون والكفار أكثر، ولهم السلطة ولهم اليد في مكة، ولهذا قال الشاعر، ويروى ذلك لحسان رضي الله عنه:
دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب ... وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف صلت بكفه ... له أسلموا واستسلموا وأنابوا
هكذا كانت الحال بمكة، إنما أجاب القليل وامتنع الأكثرون بسبب المآكل والرئاسة والكبر والحسد والبغي، لا عن جهل بالحق، ولا عن رغبة في الباطل؛ لأنهم يعرفون أنه رسول الله وأنه صادق، وكانوا يسمونه الأمين عليه
__________
(1) سورة الفرقان الآية 52(41/20)
الصلاة والسلام، ولكن الحسد والبغي وحب الرئاسة والتسلط على الأمة يمنع الكثير من الناس عن قبول الحق، وهكذا فعل الروم وفارس، ورؤساؤهم وأعيانهم ليس يخفى عليهم الحق وأدلته وبراهينه، ولكن السلطان والرئاسة واستعباد الناس وما يلتحق بهذا يمنعهم من الخضوع إلى الحق، ولما سأل هرقل أبا سفيان عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره أبو سفيان بذلك عرف أنه رسول الله واتضح له أنه نبي الله ودعا أمته لذلك، فلما رأى منهم النفرة وعدم الاستجابة نكس على عقبيه ورجع عما أظهر، وقال: إنما فعلت هذا وقلت ما قلت لأمتحنكم وأعرف صلابتكم في دينكم، ثم صار على دين قومه واستمر في طغيانه وكفره، نسأل الله العافية، فآثر الدنيا على الآخرة.
وهكذا أشباهه ونظراؤه، يحملهم البغي والحسد وحب الرئاسة على خلاف الحق، وعلى التنكر له ولأهله كما سبق في قوله جل وعلا: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (1) .
هكذا يقول ربنا عز وجل عن فرعون وقومه {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (2) وقال الله عز وجل عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه قال لفرعون {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} (3) فهؤلاء الكفرة من الكبراء والأعيان يعرفون الحق وأن ما جاءت به الرسل هو الحق ولكن تمنعهم الرئاسات والتسلط على العباد وظلم العباد والاستبداد بالخيرات، يمنعهم ذلك من قبول الحق؛ لأنهم يعرفون أنهم إذا قبلوا صاروا أتباعا، وهم لا يرضون بذلك، إنما يريدون أن يكونوا متبوعين ورؤساء ومتحكمين ومتسلطين.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 33
(2) سورة النمل الآية 14
(3) سورة الإسراء الآية 102(41/21)
فالإسلام جاء ليحارب هؤلاء ويقضي عليهم ليقيم دولة صالحة بقيادة صالحة يؤثرون حق الله وإنصاف الناس ويرضون بما يرضى به إخوانهم ولا يتجبرون ولا يتكبرون بل ينصفون إخوانهم ويسعون في صلاحهم وفلاحهم ويحكمون بينهم بالعدل، ويشتركون معهم في الخيرات ولا يستبدون بها عنهم هكذا بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بدين شامل ونظام عادل وشرائع مستقيمة، تكسح نظم الفساد وتزيل أحكام الطغاة وتقضي على طرق الفساد وأخلاق المفسدين وتوجب على المسلمين اتباع هذا النظام المنزل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما توجب عليهم هذه الشريعة أن يتخلقوا بالعدل والإنصاف وأن يستقيموا على ما شرعه الله لهم وأن يحافظوا على ذلك، وأن ينصف بعضهم بعضا وأن يؤدي الأمانة بعضهم لبعض، وأن يحكموا فيما بينهم بشرع الله وأن يحاربوا الفساد والضلال وطرق الغي والغواية.
فلما هاجر عليه الصلاة والسلام واستقر به القرار في المدينة المنورة أمره الله بالتقوى وتطهيرها من الفساد وأهل الفساد وعمارتها بالمصلحين والصالحين، فلما استقر به القرار في هذه البلاد المقدسة، وحوله الأنصار والمهاجرون، استمر في الدعوة عليه الصلاة والسلام ونشر ما بعثه الله به من الهدى، وأذن الله له ولأصحابه في القتال والجهاد، وأنزل في ذلك قوله سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (1) ففي هذه الآية أذن لهم في الجهاد لأنهم مظلومون.
والمقصود أن الله جل وعلا أذن لهم بالقتال والجهاد، ثم فرض الله ذلك سبحانه وتعالى وأوجبه بقوله جل وعلا {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} (2) الآية، وأوجب عليهم سبحانه
__________
(1) سورة الحج الآية 39
(2) سورة البقرة الآية 216(41/22)
وتعالى الجهاد والقتال، وأنزل فيه الآيات الكثيرات، وحرض عليه سبحانه وتعالى، وأمر به في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه (، فكان أولا مباحا مأذونا فيه، ثم فريضة على الكفاية كما قاله أهل العلم.
وقد يجب على الأعيان إذا اقتضت الأسباب ذلك كما لو حضر الصف، أو حصر بلده أو استنفره الإمام، ففي هذه المسائل الثلاث يتعين القتال.
إذا حضر الصفين ليس له أن ينصرف ولا أن يفر، وكذلك إذا حاصر بلده العدو وجب عليه وعلى أهل البلد أن يقاتلوا ويدافعوا بكل ما يستطيعون من قوة، وكذلك إذا استنفره الإمام وجب النفير كما هو معروف في محله.
فالمقصود أن الله فرض الجهاد وجعله فرضا على المسلمين، وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وصار في حقهم سنة مؤكدة، وقد يجب على الأعيان للأسباب التي تقتضي ذلك كما سبق، فكان عليه الصلاة والسلام أولا يقاتل إذا رأى المصلحة في ذلك، ويكف إذا رأى المصلحة في الترك، ثم أمره الله سبحانه بقتال من قاتله، وبالكف عمن كف عنه، كما قال الله جل وعلا {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1) ، قال بعض السلف في هذه الآية: إنه أمر في هذه الآية بقتال من قاتله والكف عمن كف عنه، وقال آخرون في هذه الآية: إن هذه الآية ليس فيها ما يدل على هذا المعنى، وإنما فيها أنه أمر بالقتال للذين يقاتلون، أي: من شأنهم أن يقاتلوا إلخ، ويصدوا عن سبيل الله، وهم الرجال المكلفون القادرون على القتال بخلاف الذين ليس من شأنهم القتال كالنساء والصبيان والرهبان والعميان والزمناء وأشباههم، فهؤلاء لا يقاتلون لأنهم ليسوا من أهل القتال، وهذا التفسير -كما سيأتي إن شاء الله تعالى- أظهر وأوضح في معنى
__________
(1) سورة البقرة الآية 190(41/23)
الآية، ولهذا قال بعدها بقليل {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (1) فعلم بذلك أنه أراد قتال الكفار، لا من قاتل فقط، بل أراد قتال الكفار جميعا حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، والفتنة الشرك، وأن يفتن الناس بعضهم بعضا عن دينهم، فتطلق الفتنة على الشرك كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (2) يعني الشرك، وتطلق أيضا على ما يقوم به بعض الكفار من قتل بعض الناس والتعدي عليهم وإلجائهم إلى أن يكفروا بالله عز وجل.
فالله أمر بقتالهم حتى لا تكون فتنة، يعني: حتى لا يقع شرك في الأمة وحتى لا يقع ظلم من الكفار للمسلمين بصدهم وقتالهم حتى يرجعوا عن الحق، وقال عز وجل في سورة النساء {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (3) {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (4) {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (5) قالوا: فهذه الآيات فيها الدلالة على أن الله جل وعلا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يقاتلوا من قاتلهم وأن يكفوا عمن اعتزل القتال
__________
(1) سورة البقرة الآية 193
(2) سورة البقرة الآية 191
(3) سورة النساء الآية 89
(4) سورة النساء الآية 90
(5) سورة النساء الآية 91(41/24)
وكف عنهم، ثم أنزل الله بعد ذلك آية السيف في سورة براءة وهي قوله جل وعلا: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) قال العلماء رحمة الله عليهم: إن هذه الآية ناسخة لجميع الآيات التي فيها الصفح والكف عن المشركين والتي فيها الكف عن قتال من لم يقاتل، قالوا: فهذه آية السيف هي آية القتال هي آية الجهاد آية التشمير عن ساعد الجد وعن المال والنفس لقتال أعداء الله حتى يدخلوا في دين الله وحتى يتوبوا من شركهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، هذا هو المعروف في كلام أهل العلم من المفسرين وغير المفسرين، كلهم قالوا فيما علمنا واطلعنا عليه من كلامهم: إن هذه الآية وما جاء في معناها ناسخة لما مضى قبلها من الآيات التي فيها الأمر بالعفو والصفح وقتال من قاتل والكف عمن كف.
ومثلها قوله جل وعلا في سورة الأنفال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (2) ومثلها قوله جل وعلا في سورة براءة بعد ذلك {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (3) ومثلها قوله جل وعلا {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (4) فأمر الله سبحانه وتعالى بقتال
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة الأنفال الآية 39
(3) سورة التوبة الآية 36
(4) سورة التوبة الآية 29(41/25)
أهل الكتاب ولم يأمر بالكف عنهم إلا إذا أدوا الجزية عن صغار، ولم يقل: حتى يعطوا الجزية أو يكفوا عنا، بل قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) واكتفى بذلك.
وقال في الآية السابقة آية السيف {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (2) وقال في آية أخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (3) فدل ذلك على أنه لا يكف عن الكفار إلا إذا تابوا من كفرهم ورجعوا إلى دين الله واستمسكوا بما شرع الله، فهؤلاء هم الذين يكف عنهم ويكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
لكن أهل الكتاب إذا بذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون كففنا عنهم وإن لم يسلموا، أما من سواهم فلا بد من الإسلام أو السيف ويلحق بأهل الكتاب المجوس لما رواه البخاري في صحيحه -رحمه الله- عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه- «أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، (4) » فصار المجوس ملحقين بأهل الكتاب في أخذ الجزية فقط، لا في حل طعامهم ونسائهم.
فهذه الطوائف الثلاث تؤخذ منهم الجزية، هذا محل وفاق بين أهل العلم، فإما أن يسلموا وإما أن يؤدوا الجزية، وإما القتال، وفي آخر الزمان إذا نزل عيسى- عليه الصلاة والسلام- زال هذا الأمر، فأخذ الجزية مؤجل ومؤقت إلى نزول عيسى، فإذا نزل عيسى- عليه الصلاة والسلام- انتهى هذا الشرع، ووجب بعد ذلك إما الإسلام وإما السيف، هكذا يحكم عيسى -عليه السلام- بهذه الشريعة المحمدية، والأحاديث الواردة في ذلك تدل على أن أخذ الجزية مؤقت إلى نزوله عليه الصلاة والسلام وقد أوضح عليه الصلاة والسلام أن أخذ الجزية مؤقت إلى نزول عيسى، فإذا نزل عيسى حكم فيهم بالسيف أو الإسلام وترك الجزية، وذلك
__________
(1) سورة التوبة الآية 29
(2) سورة التوبة الآية 5
(3) سورة التوبة الآية 11
(4) صحيح البخاري التوحيد (7405) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675) ، سنن الترمذي الدعوات (3603) ، سنن ابن ماجه الأدب (3822) ، مسند أحمد بن حنبل (2/251) .(41/26)
بتقرير النبي- صلى الله عليه وسلم- وشرعه؛ لأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخبر بذلك وأقره، فدل ذلك على أن هذا هو شرعه في آخر الزمان، واختلف أهل العلم فيما عدا هذه الطوائف الثلاث من العجم وعباد الأوثان، فقال بعض أهل العلم: تؤخذ الجزية من جميع المشركين عربهم وعجمهم، ولا يستثنى أحد، وهذا هو المنقول عن مالك، ونسبه إليه القرطبي - رحمه الله- في تفسيره والحافظ ابن كثير في تفسيره، وهو: أن الجزية تؤخذ من الجميع من العرب والعجم.
وقال أبو حنيفة، رحمه الله: تؤخذ من العجم جميعا كاليهود والنصارى والمجوس ولا تؤخذ من العرب.
وقال أحمد - رضي الله عنه- والشافعي - رضي الله عنه- وجماعة من العلماء: إنما تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس فقط، لأن الأصل قتال الكفار وعدم رفع السيف عنهم حتى يسلموا، ولم يأت رفع السيف بعد بذل الجزية إلا في هذه الطوائف الثلاث اليهود والنصارى والمجوس.
جاء الكتاب في اليهود والنصارى، وجاءت السنة الصريحة في المجوس، ومن سواهم لا يرفع عنهم السيف، بل لا بد من الإسلام أو السيف فقط، لأن الله جل وعلا قال: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (1) ولم يقل: أو كفوا عنكم، وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (2) فعمم بقتالهم جميعا، وتعليق الحكم بالوصف المشتق يدل على أنه هو العلة، فلما علق الحكم بالمشركين والكفار ولمن ترك الدين ولم يدن بالحق عرف أن هذا هو العلة وأنه هو المقتضي لقتالهم، فالعلة الكفر بالله مع شرط كونه من أهل القتال لا من غيرهم، فإذا كانوا من أهل القتال قاتلناهم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية إن كانوا من اليهود والنصارى والمجوس، أو حتى يسلموا فقط
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة التوبة الآية 5(41/27)
إذا كانوا من غير هؤلاء الطوائف الثلاث وإلا فالسيف، لكن من ليس من أهل القتال كالنساء والأولاد والعميان والمجانين والرهبان وأرباب الصوامع والزمناء ومن ليس من شأنهم القتال لكونهم لا يستطيعون كمن تقدم ذكرهم، وهكذا الشيوخ الفانون، فهؤلاء لا يقاتلون عند جمهور العلماء لأنهم ليسوا من أهل القتال، فمن محاسن الإسلام تركهم وعدم قتالهم، وفيه أيضا دعوة لهم ولأهاليهم وقومهم إلى الإسلام إذا عرفوا أن الإسلام يرحم هؤلاء ويعطف عليهم ولا يقتلهم، فهذا من أسباب دخولهم في الإسلام، أو عدم تفانيهم في العداء له.
وبعض أهل العلم حكى الإجماع على عدم قتل النساء والصبيان، وقد ثبت عن رسول الله- عليه الصلاة والسلام- النهي عن قتل النساء والصبيان في الأحاديث الصحيحة، وقد جاء في أحاديث السنن النهي عن قتل الرهبان والشيوخ الفانين وأشباههم، وذكر بعض أهل العلم أن آية السيف وهي قوله جل وعلا: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (1) الآية - ليست ناسخة، ولكن الأحوال تختلف، وهكذا قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (2) الآية، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (3) وهكذا قوله سبحانه: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (4) وهكذا قوله سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (5) فهذه الآيات وما في معناها قال بعض أهل العلم:
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة التوبة الآية 73
(3) سورة التوبة الآية 123
(4) سورة التوبة الآية 36
(5) سورة الأنفال الآية 39(41/28)
ليست ناسخة لآيات الكف عمن كف عنا وقتال من قاتلنا، وليست ناسخة لقوله {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (1) ولكن الأحوال تختلف، فإذا قوي المسلمون وصارت لهم السلطة والقوة والهيبة استعملوا آية السيف وما جاء في معناها وعملوا بها وقاتلوا جميع الكفار حتى يدخلوا في دين الله أو يؤدوا الجزية، إما مطلقا كما هو قول مالك -رحمه الله- وجماعة، وإما من اليهود والنصارى والمجوس على القول الآخر.
وإذا ضعف المسلمون ولم يقووا على قتال الجميع فلا بأس أن يقاتلوا بحسب قدرتهم ويكفوا عمن كف عنهم إذا لم يستطيعوا ذلك، فيكون الأمر إلى ولي الأمر، إن شاء قاتل وإن شاء كف، وإن شاء قاتل قوما دون قوم على حسب القوة والقدرة والمصلحة للمسلمين، لا على حسب هواه وشهوته، ولكن ينظر للمسلمين وينظر لحالهم وقوتهم.
فإن ضعف المسلمون استعمل الآيات المكية، لما في الآيات المكية من الدعوة والبيان والإرشاد والكف عن القتال عند الضعف، وإذا قوي المسلمون قاتلوا حسب القدرة فيقاتلون من بدأهم بالقتال وقصدهم في بلادهم، ويكفون عمن كف عنهم فينظرون في المصلحة التي تقتضيها قواعد الإسلام وتقتضيها الرحمة للمسلمين والنظر في العواقب كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وفي المدينة أول ما هاجر. وإذا صار عندهم من القوة والسلطان والقدرة والسلاح ما يستطيعون به قتال جميع الكفار أعلنوها حربا شعواء للجميع، وأعلنوا الجهاد للجميع كما أعلن الصحابة ذلك في زمن الصديق وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- وكما أعلن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته بعد نزول آية السيف وتوجه إلى تبوك لقتال الروم وأرسل قبل ذلك جيش مؤتة لقتال الروم عام 8 من الهجرة وجهز جيش أسامة في آخر حياته
__________
(1) سورة البقرة الآية 256(41/29)
(، وهذا القول ذكره أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- واختاره، وقال: إنه ليس هناك نسخ، ولكنه اختلاف في الأحوال؛ لأن أمر المسلمين في أول الأمر ليس بالقوي وليس عندهم قدرة كاملة، أذن لهم بالقتال فقط، ولما كان عندهم من القدرة بعد الهجرة ما يستطيعون به الدفاع أمروا بقتال من قاتلهم وبالكف عمن كف عنهم.
فلما قوي الإسلام وقوي أهله وانتشر المسلمون ودخل الناس في دين الله أفواجا أمروا بقتال جميع الكفار ونبذ العهود وألا يكفوا إلا عن أهل الجزية من اليهود والنصارى والمجوس إذا بذلوها عن يد وهم صاغرون.
وهذا القول اختاره جمع من أهل العلم، واختاره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عند قوله جل وعلا في كتابه العظيم {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) .
وهذا القول أظهر وأبين في الدليل لأن القاعدة الأصولية أنه لا يصار إلى النسخ إلا عند تعذر الجمع بين الأدلة، والجمع هنا غير متعذر، كما تقدم بيانه، والله ولي التوفيق.
أما ما يتعلق بالجزية فقول من قال إنها تؤخذ من الجميع - أظهر إلا من العرب خاصة.
ووجه ذلك ما ثبت في الصحيح عن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: «امض باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله (2) » .
فعلق الحكم بالكفر، فدل ذلك على أنهم يقاتلون لكفرهم، إذا كانوا من أهل القتال، كما تدل عليه آيات أخرى.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 61
(2) صحيح مسلم الجهاد والسير (1731) ، سنن الترمذي السير (1617) ، سنن أبو داود الجهاد (2613) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2858) ، مسند أحمد بن حنبل (5/358) ، سنن الدارمي السير (2439) .(41/30)
ثم قال صلى الله عليه وسلم «اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا (1) » ثم قال بعد هذا: «وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خلال- فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، ثم قال بعد ذلك: فإن أبوا فاسألهم الجزية، ثم قال بعد ذلك: فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم (2) » .
فأمر صلى الله عليه وسلم أميره على الجيش والسرية أن يدعوا الأعداء أولا للإسلام، فإن أجابوا كف عنهم، فإن أبوا دعاهم إلى الجزية، فإن أجابوا كف عنهم، وإلا فاستعان بالله وقاتلهم، ولم يفرق بين اليهود والنصارى وغيرهم، بل قال: «عدوك من المشركين (3) » .
وهذا يظهر من العموم، ولكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن عامة العلماء لم يروا أخذها من العرب، قالوا: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي تنزل عليه الآيات، وهو أعلم بمعناها لم يأخذها من العرب، بل قاتلهم حتى دخلوا في الإسلام.
وهكذا الصحابة بعده لم يقبلوها من عربي، بل قاتلوا العرب في الجزيرة حتى دخلوا كلهم في دين الله.
والله جل وعلا قال في حقهم وغيرهم: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (4) ، وقال في الآية الأخرى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (5) ، ولم يذكر الجزية في هذا المكان.
فالقول بأنها لا تؤخذ من العرب هو الأقوى والأظهر والأقرب، وأما من سواهم فقول من قال: بعموم النص، أعني حديث بريدة - أظهر؛ أخذا بالأدلة من القرآن والسنة جميعا، ولأن المقصود من الجهاد هو إخضاعهم للحق، ودعوتهم إليه، وأن يكفوا عنا أذاهم وظلمهم، فإذا فعلوا ذلك
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/404) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/404) .
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/146) .
(4) سورة التوبة الآية 5
(5) سورة التوبة الآية 11(41/31)
ودخلوا في دين الله، فالحمد لله، وإن أبوا طالبناهم بالجزية، فإن بذلوها والتزموا الصغار والشروط التي تملى عليهم قبلناها منهم وكففنا عنهم.
فإن أبوا أن يدخلوا في الإسلام، وأن يبذلوا الجزية قاتلناهم، لما في ذلك من المصلحة لهم وللمسلمين، ولأن ذلك هو الموافق لحديث بريدة رضي الله عنه مع الآيات في اليهود والنصارى، ومع حديث عبد الرحمن في المجوس.
أما العرب فإن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم يأخذوها منهم، وهكذا من بعدهم الأئمة، ويتضح من سيرتهم وعملهم أنه لا يجوز أن يبقى العرب على الشرك بالله أبدا، بل إما أن يحملوا هذه الرسالة، ويبلغوها الناس، وإما أن يقضى عليهم، فلا يبقوا في الأرض.
أما بقاؤهم بالجزية فغير لائق، ولهذا جرى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخلفاؤه على عدم قبولها من العرب، وإنما قبلوها من الأعاجم كالمجوس وأشباههم، كما قبلوها من اليهود والنصارى.
أما قول من قال: بأن القتال للدفاع فقط، فهذا القول ما علمته لأحد من العلماء القدامى: أن الجهاد شرع في الإسلام بعد آية السيف للدفاع فقط، وأن الكفار لا يبدءون بالقتال وإنما يشرع للدفاع فقط.
وقد كتب بعض إخواننا رسالة في الرد على هذا القول، وفي الرد على رسالة افتراها بعض الناس على شيخ الإسلام ابن تيمية، زعم فيها أنه يرى أن الجهاد للدفاع فقط.
وهذا الكاتب هو فضيلة العلامة الشيخ سليمان بن حمدان، رسالة ذكر فيها أن هذا القول منقول عن بعض أهل الكوفة، وإنما اشتهر بين الكتاب مؤخرا.
وأما العلماء فلم يشتهر بينهم، وإنما المعروف بين العلماء أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر أذن له في القتال مطلقا، ثم فرض عليه الجهاد وأمر بأن يقاتل من قاتل، ويكف عمن كف، ثم بعد ذلك أنزل(41/32)
الله عليه الآيات الآمرة بالجهاد مطلقا، وعدم الكف عن أحد حتى يدخل في دين الله، أو يؤدي الجزية إن كان من أهلها كما تقدم.
وهذا هو المعروف في كلام أهل العلم، وقد تقدم ذكر قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الجمع بين النصوص وأنه هو الأقرب ولا نسخ، وإنما تختلف الأحوال بقوة المسلمين وضعفهم، فإذا ضعف المسلمون جاهدوا بحسب حالهم، وإذا عجزوا عن ذلك اكتفوا بالدعوة، وإذا قووا بعض القوة قاتلوا من بدأهم ومن قرب منهم، وكفوا عمن كف عنهم، وإذا قووا وصار لهم السلطان والغلبة، قاتلوا الجميع وجاهدوا الجميع حتى يسلموا، أو يؤدوا الجزية، إلا من لا تؤخذ منهم كالعرب، عند جمع من أهل العلم.
وقد تعلق بعض الكتاب الذين قالوا: إن الجهاد للدفاع فقط، بآيات لا حجة لهم فيها، وقد سبق الجواب عنها، ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله.
ومعلوم أن الدفاع قد أوجبه الله على المسلمين ضد من اعتدى عليهم، كما قال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (1) وكما في الآيات السابقة.
والإسلام جاء بدعوة الكفار أولا إلى الدخول فيه، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا وجب قتالهم مع القدرة كما تقدم في حديث بريدة، وإن رأى ولي الأمر المصالحة وعدم القتال لأسباب تتعلق بمصلحة المسلمين، جاز ذلك؛ لقوله سبحانه {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (2) الآية، ولفعله صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة يوم الحديبية.
__________
(1) سورة البقرة الآية 194
(2) سورة الأنفال الآية 61(41/33)
وبذلك يعلم أنه لا حاجة للقتال إذا نجحت الدعوة، وأجاب الكفار إلى الدخول في الإسلام.
فإن احتيج للقتال قوتل الكفار حينئذ بعد الدعوة والبيان والإرشاد، فإن أبوا فالجزية إن كانوا من أهلها، فإن أبوا وجب القتال أو المصالحة حسبما يراه ولي الأمر للمسلمين، إذا لم يكن لدى المسلمين قدرة على القتال، كما تقدم.
وقد تعلق القائلون بأن الجهاد للدفاع فقط بآيات ثلاث: الأولى قوله جل وعلا: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (1) .
والجواب عن ذلك كما تقدم أن هذه الآية ليس معناها القتال للدفاع، وإنما معناها القتال لمن كان شأنه القتال: كالرجل المكلف القوي، وترك من ليس شأنه القتال: كالمرأة والصبي ونحو ذلك، ولهذا قال بعدها: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (2) .
فاتضح بطلان هذا القول، ثم لو صح ما قالوا فقد نسخت بآية السيف وانتهى الأمر بحمد الله.
والآية الثانية التي احتج بها من قال بأن الجهاد للدفاع هي قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (3) وهذه لا حجة فيها لأنها على الأصح مخصوصة بأهل الكتاب والمجوس وأشباههم، فإنهم لا يكرهون على الدخول في الإسلام إذا بذلوا الجزية، هذا هو أحد القولين في معناها.
والقول الثاني أنها منسوخة بآية السيف ولا حاجة للنسخ، بل هي مخصوصة بأهل الكتاب كما جاء في التفسير عن عدة من الصحابة والسلف
__________
(1) سورة البقرة الآية 190
(2) سورة البقرة الآية 193
(3) سورة البقرة الآية 256(41/34)
فهي مخصوصة بأهل الكتاب ونحوهم، فلا يكرهون إذا أدوا الجزية، وهكذا من ألحق بهم من المجوس وغيرهم إذا أدوا الجزية فلا إكراه، ولأن الراجح لدى أئمة الحديث والأصول أنه لا يصار إلى النسخ مع إمكان الجمع، وقد عرفت أن الجمع ممكن بما ذكرنا.
فإن أبوا الإسلام والجزية قوتلوا كما دلت عليه الآيات الكريمات الأخرى.
والآية الثالثة التي تعلق بها من قال: إن الجهاد للدفاع فقط - قوله تعالى في سورة النساء {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} (1) قالوا: من اعتزلنا وكف عنا لم نقاتله.
وقد عرفت أن هذا كان في حال ضعف المسلمين أول ما هاجروا إلى المدينة ثم نسخت بآية السيف وانتهى أمرها أو أنها محمولة على أن هذا كان في حالة ضعف المسلمين، فإذا قووا أمروا بالقتال كما هو القول الآخر كما عرفت وهو عدم النسخ.
وبهذا يعلم بطلان هذا القول وأنه لا أساس له ولا وجه له من الصحة، وقد ألف بعض الناس رسالة افتراها على شيخ الإسلام ابن تيمية وزعم أنه لا يرى القتال إلا لمن قاتل فقط، وهذه الرسالة لا شك أنها مفتراة وأنها كذب بلا ريب، وقد انتدب لها الشيخ العلامة سليمان بن سحمان -رحمة الله عليه- ورد عليها منذ أكثر من خمسين سنة، وقد أخبرني بذلك بعض مشايخنا، ورد عليه أيضا أخونا العلامة الشيخ سليمان بن حمدان رحمه الله القاضي سابقا في المدينة المنورة كما ذكرنا آنفا، ورده موجود بحمد الله، وهو رد حسن واف بالمقصود، فجزاه الله خيرا.
وممن كتب في هذا أيضا أخونا الشيخ صالح بن أحمد المصوعي - رحمه الله- فقد كتب فيها رسالة صغيرة، فند فيها هذه المزاعم وأبطل ما قاله هؤلاء الكتبة بأن الجهاد في الإسلام للدفاع فقط.
وصنف أيضا أخونا العلامة أبو الأعلى
__________
(1) سورة النساء الآية 90(41/35)
المودودي -رحمه الله- رسالة في الجهاد وبين فيها بطلان هذا القول وأنه قول لا أساس له من الصحة.
ومن تأمل أدلة الكتاب والسنة ونظر في ذلك بعين البصيرة وتجرد عن الهوى والتقليد عرف قطعا بطلان هذا القول وأنه لا أساس له.
ومما جاء في السنة في هذا الباب مؤيدا للكتاب العزيز ما رواه الشيخان عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (1) » .
وما رواه الشيخان أيضا من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وصلوا صلاتنا وأكلوا ذبيحتنا واستقبلوا قبلتنا فلهم ما لنا وعليهم ما علينا (2) » .
ومن ذلك ما رواه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (3) » .
ومن هذا ما رواه مسلم في الصحيح أيضا عن طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه أن النبي قال: «من قال لا إله إلا الله» ، وفي لفظ: «من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله (4) » .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وكلها تدل على أن القتال شرع لإزالة الكفر والضلال ودعوة الكفار للدخول في دين الله، لا لأنهم اعتدوا علينا فقط، ولهذا قال: «فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها (5) » ولم يقل: فإذا كفوا عنا أو اعتزلونا، بل قال: «حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .
(2) سنن ابن ماجه الفتن (3993) ، مسند أحمد بن حنبل (3/145) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2946) ، صحيح مسلم الإيمان (21) ، سنن الترمذي الإيمان (2606) ، سنن النسائي تحريم الدم (3971) ، سنن أبو داود الجهاد (2640) ، سنن ابن ماجه الفتن (3928) ، مسند أحمد بن حنبل (1/11) .
(4) صحيح مسلم الإيمان (23) ، مسند أحمد بن حنبل (6/394) .
(5) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .(41/36)
رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك (1) » . . . " الحديث، فدل ذلك على أن المطلوب دخولهم في الإسلام وإلا فالسيف، إلا أهل الجزية كما تقدم، وإنما اقتصر عليه الصلاة والسلام على الشهادتين والصلاة والزكاة لأنها الأسس العظيمة والأركان الكبرى، فمن أخذ بها ودان بها وتمسك بها فإنه يؤدي ما وراءها عن إيمان وعن اطمئنان وإذعان من باب أولى.
وهذا ما أردت التنبيه عليه باختصار وإيجاز، وأرجو أن يكون وافيا بالمطلوب من بيان الحق وإزهاق الباطل، وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والاستقامة عليه، وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يعلمنا ما ينفعنا، ويهدينا لما فيه السعادة والنجاة، وأن يوفق المسلمين جميعا للاستقامة على دينه والجهاد في سبيله، والحذر من مكائد الأعداء، إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3663) ، سنن ابن ماجه المقدمة (97) .(41/37)
صفحة فارغة(41/38)
حول استقدام العمالة الأجنبية وما يتعلق به من أحكام
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد.
فبناء على ما رآه مجلس هيئة كبار العلماء في الدورة الرابعة عشرة المنعقدة في شهر شوال عام 1399 هـ بمدينة الطائف من إعداد بحث في استقدام شخص عمالا على كفالته إلى المملكة على أن يأخذ من كل منهم أجرا معينا من دخله أو نسبة معلومة من دخل كل منهم، أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على ما يأتي:(41/39)
1 - تمهيد في موقف ولي الأمر من استقدام أشخاص عمالا لتشغيلهم في المملكة.
2 - تحريم أخذ أموال الناس إلا بمبرر شرعي، مع الأدلة من الكتاب والسنة.
3 - هل يجوز للكفيل أن يأخذ أجرا على الكفالة؟ مع التوجيه.
4 - بيان الأغراض التي يستقدم من أجلها العمال إلى المملكة، وما يتعلق بذلك من أنواع تشغيلهم والانتفاع بهم.
وفيما يلي الحديث عن ذلك إن شاء الله تعالى:(41/39)
1 - تمهيد في موقف ولي الأمر من استقدام أشخاص عمالا إلى المملكة لتشغيلهم بها.
من الواجب على ولي الأمر العام النصح لأمته، والمحافظة على رعيته، والسعي في تحقيق ما فيه صلاحهم، وما به دفع الضرر عنهم، معتصما في ذلك بكتاب الله تعالى وسنة نبيه محمد (، وهدي الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وعلى أمته النصح له، وإعانته على شئون الدولة وحفظ كيانها، وطاعته في المعروف.
وعلى هذا إذا رأى باجتهاده في أمور الناس ومعاملاتهم المباحة وشئون حياتهم التي ليس فيها نص شرعي بأمر أو نهي، إنما كلت إلى اختيارهم - أن يلزمهم بأحد طرفي المباح تحقيقا للمصلحة ودفعا لمضرة الفوضى عنهم، كان له ذلك ووجب عليهم أن يطيعوه، واعتبر من عصاه في ذلك من المعتدين.
من ذلك تنظيم العمل في الوزارات والدوائر والمؤسسات والمدارس، بتحديد زمان العمل، ومكانه، ووضع اللوائح، ومناهج العلوم، وجداول الدراسة، ونحو ذلك مما يضبط العمل، ويساعد على الاستفادة منه على أكمل الوجوه، فإذا فعل ذلك أو نائبه وجبت طاعته، وحق له تعزير من يعصيه ويخالفه بما يراه مكافئا لمخالفته.
ومنه تنظيم طريق استقدام عمال من خارج المملكة للعمل بها، ووضع شروط للتعاقد معهم، ولعملهم ومعاملاتهم مع من استقدمهم، وما يتبع ذلك من إقامة وبطاقة شخصية مدة عقدهم وتسفيرهم بعد انتهاء مدتهم واستيفاء حقوقهم إلى غير ذلك مما يكفل الجمع بين مصلحة العمل وأدائه على خير وجه، وتحقيق الأمن، ومنع الفوضى والمشاكل، التي تبلبل الأفكار، وتحدث قضايا تشغل بال ولاة الأمور، فإن هو فعل ذلك أو نائبه فعلى العمال ومن استقدمهم أن يلتزموا(41/40)
ما رسم لهم، وأن يؤدي كل منهم ما وجب عليه، عملا بمقتضى العقد، وتنفيذا للشروط، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون عند شروطهم» ومن خالف كان من المعتدين، وحق لولي الأمر أو نائبه أن يعزره بما يرد عنه ويتناسب مع مخالفته، حفظا للأمن والاطمئنان، ومنعا للفوضى والاضطراب، وإيتاء لكل ذي حق حقه، وحلا للمشاكل أو قضاء على منشئها.
__________
(1) سورة المائدة الآية 1(41/41)
2 - تحريم أخذ أموال الناس إلا بمبرر شرعي مع الأدلة من الكتاب والسنة.
الأصل أنه لا يحل لمسلم أن يأخذ مال أخيه المسلم إلا عن طريق معتبر شرعا، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا (2) » فأعادها مرارا، ثم رفع رأسه، فقال: «اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت (3) » رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن.
فإذا ثبت من طريق شرعي استحقاق أخذها كان له ذلك كعقود المعاوضات الشرعية من بيع وإجارة وجعالة، وكاستحقاقها بإرث وعطية وإجارة وصدقة، وكالأكل بالمعروف من بيوت الأقارب والأصدقاء وما ملك مفتاحه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (4) وقال: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (5) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 188
(2) صحيح البخاري العلم (67) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، مسند أحمد بن حنبل (5/37) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .
(3) صحيح البخاري الحج (1739) ، مسند أحمد بن حنبل (1/230) .
(4) سورة النساء الآية 29
(5) سورة النور الآية 61(41/41)
وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (1) » إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي بينت الوجوه والمبررات التي تبيح للإنسان أن يأخذ من مال أخيه المسلم، فهل من تلك الوجوه كفالته ببدنه أو ضمانه بمال.
هذا هو ما يراد بحثه في الفقرة التالية إن شاء الله.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .(41/42)
3 - هل يجوز للكفيل أن يأخذ أجرا على الكفالة؟
الضمان والكفالة والحمالة والقبالة والزعامة يراد بها في عرف الفقهاء: ضم ذمة إلى ذمة للتوثق في الحقوق، واشتق منها الضامن والكفيل والحميل والقبيل والزعيم، وهي من باب المعروف الذي يحتاج إليه الناس في معاملاتهم، وما يحدث لهم في تقلبهم وشئون حياتهم، ولذا شرعها الله تعالى تحقيقا للمصلحة ودفعا للحرج والحاجة عن الناس، قال الله تعالى في قصة(41/42)
يوسف وإخوته: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (1) وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الزعيم غارم (2) » رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن.
وعن سلمه بن الأكوع قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بجنازة، فقالوا: يا رسول الله، صل عليها، قال: هل ترك شيئا؟ قالوا: لا، فقال: هل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلي دينه، فصلى عليه (3) » رواه أحمد والبخاري والنسائي، ورواه غيرهم من طرق بألفاظ مختلفة.
ومنع بعض الفقهاء الكفالة بالبدن، وبعضهم الكفالة بالطلب، وليس المقصود هنا بحث حكمها نفسها، وإنما المقصود هنا الكلام عن الضمان بأجر هل يجوز أو لا، فإن كثيرا من الناس صاروا يستقدمون عمالا على كفالتهم ويأخذون منهم نسبة من دخلهم اليومي أو الشهري مثلا، أو يأخذون منهم أجرا معينا سواء كسب العامل أم لا.
فلمن يجيز ذلك أن يقول: الأصل في العقود الإباحة حتى يثبت لدينا دليل ينقل عن الأصل، واتفاق الكفيل مع أحد أطراف الكفالة على أجر مقابل كفالته نوع من العقود فكان جائزا حتى يثبت دليل المنع.
ويناقش بأن الكفالة من أنواع المعروف التي من شأنها أن تبذل تبرعا بلا مقابل، فكان أخذ الأجر عليها ممنوعا، لمنافاته للكرامة، ولمقصد الشرع في بذل المعروف.
وأجيب بأن كثيرا من أنواع المعروف والتعاون على الخير وتحصيل المنافع كالخياطة والنجارة والحدادة ونحوها من الحرف والصناعات يجوز أخذ الأجر عليها من غير نزاع، بل يجوز أن يأخذ المسلم مالا ليحج عن ميت أو حي عاجز عن مباشرة الحج بنفسه، فيجوز أن يأخذ الكفيل أجرا
__________
(1) سورة يوسف الآية 72
(2) سنن الترمذي البيوع (1265) ، سنن أبو داود البيوع (3565) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2405) .
(3) صحيح البخاري الحوالات (2291) ، سنن النسائي الجنائز (1961) ، مسند أحمد بن حنبل (4/50) .(41/43)
على كفالته إذ لا فرق، قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن مفلح رحمه الله (1) : ونص أحمد رضي الله عنه على أنه لو قال اقترض لي مائة ولك عشر أنه يصح، قال أصحابنا: لأنه جعالة على فعل مباح، وقالوا: يجوز للإمام أن يبذل جعلا لمن يدل على ما فيه مصلحة للمسلمين، وأن المجعول له يستحق الجعل مسلما أو كافرا، وقاسوه على أجرة الدليل.
ونوقش بوجود الفارق، إذ الضمان أو الكفالة معروف محض غير متمول، فلا يقابل بعوض بخلاف ما ذكر من الصناعات ونحوها، فإنها أعمال متمولة فجاز أن تقابل بعوض.
وأجيب بأن بعض الأعمال معروف محض: كالقضاء، والفتيا، والشهادة ونحو ذلك، وقد جوز بعض العلماء أخذ الأجرة عليها في بعض حالاتها.
قال ابن قدامة رحمه الله في كتابه المغني: (2) .
(فصل) ويجوز للقاضي أخذ الرزق، ورخص فيه شريح، وابن سيرين، والشافعي وأكثر أهل العلم، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل زيد بن ثابت على القضاء وفرض له رزقا، ورزق شريحا في كل شهر مائة درهم.
وبعث إلي الكوفة عمارا وعثمان بن حنيف وابن مسعود، ورزقهما كل يوم شاة، نصفها لعمار، ونصفها لابن مسعود وعثمان، وكان ابن مسعود قاضيهم ومعلمهم، وكتب إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام أن انظرا رجالا من صالحي من قبلكم فاستعملوهم على القضاء وأوسعوا عليهم وارزقوهم واكفوهم من مال الله.
وقال أبو الخطاب: يجوز له أخذ الرزق مع الحاجة، فأما مع عدمها فعلى
__________
(1) صـ 339 من جـ.
(2) صـ 376 - 377 - 378 جـ 11(41/44)
وجهين، وقال أحمد: ما يعجبني أن يأخذ على القضاء أجرا، وإن كان فبقدر شغله مثل والي اليتيم.
وكان ابن مسعود والحسن يكرهان الأجر على القضاء، وكان مسروق وعبد الرحمن بن القاسم بن عبد الرحمن لا يأخذان عليها أجرا، وقالا: لا نأخذ أجرا على أن نعدل بين اثنين، وقال أصحاب الشافعي: إن لم يكن متعينا جاز له أخذ الرزق عليه، وإن تعين لم يجز إلا مع الحاجة.
والصحيح جواز أخذ الرزق عليه بكل حال، لأن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي الخلافة فرضوا له الرزق كل يوم درهمين، ولما ذكرناه من أن عمر رزق زيدا وشريحا وابن مسعود، وأمر بفرض الرزق لمن تولى من القضاة، ولأن بالناس حاجة إليه، ولو لم يجز فرض الرزق لتعطل وضاعت الحقوق.
فأما الاستئجار عليه فلا يجوز، قال عمر رضي الله عنه: لا ينبغي لقاضي المسلمين أن يأخذ على القضاء أجرا، وهذا مذهب الشافعي ولا نعلم فيه خلافا، وذلك لأنه قربة، يختص فاعله أن يكون في أهل القربة فأشبه الصلاة، ولأنه لا يعلمه الإنسان عن غيره، وإنما يقع عن نفسه فأشبه الصلاة، ولأنه عمل غير معلوم، فإن لم يكن للقاضي رزق، فقال للخصمين: لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقا عليه جاز، ويحتمل أن لا يجوز، أهـ.
وفي الشرح الكبير على المقنع مثله.
وقال الشيخ أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي في كتابه الإنصاف: (1) .
وقوله: (ولا يجوز لمن تعينت عليه أخذ الأجرة عليها) .
وهو المذهب مطلقا، قال في الفروع: (ويحرم في الأصح أخذ أجرة وجعل، وجزم به في الوجيز، ومنتخب الآدمي، والهداية، والمذهب، والخلاصة.
وقدمه في المحرر، والنظم، والرعايتين، والحاوي.
__________
(1) صـ6- 7 من جـ 12 من الإنصاف.(41/45)
وقيل: لا يجوز أخذ الأجرة إن تعينت عليه إذا كان غير محتاج.
وذكر الشيخ تقي الدين - رحمه الله- وجها بجواز الأخذ لحاجة تعينت أولا، واختاره، وقيل: يجوز الأخذ مع التحمل، وقيل: أجرته من بيت المال.
وقوله: (ولا يجوز ذلك لمن تتعين عليه في أصح الوجهين) وكذا قال في الهداية، والمذهب، وصححه في الفروع كما تقدم، وجزم به في الوجيز، ومنتخب الأدمي، وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين والحاوي الصغير وغيرهم.
والوجه الثاني: يجوز، واختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله يجوز لحاجة، كما تقدم عنه، وقيل: لا يجوز الأخذ مع التحمل.
تنبيه: حيث قلنا بعدم الأخذ، فلو عجز عن المشي أو تأذى به، فأجرة الركوب على رب الشهادة، قال في الترغيب وغيره: واقتصر عليه في الفروع.
قال في الرعاية: وأجرة المركوب والنفقة على ربها.
ثم قال: قلت: هذا إن تعذر حضور المشهود عليه إلى محل الشاهد، لمرض أو كبر، أو حبس أو جاه، أو خفر.
وقال أيضا: وكذا حكم مزك، ومعرف، ومترجم، ومفت، ومقيم حد وقود، وحافظ مال بيت المال، ومحتسب، والخليفة.
وقد اقتصر عليه في الفروع، أهـ (1) .
قال الشافعي رحمه الله تحت عنوان " شهادة من يأخذ الجعل على الخير ": (2) ولو أن القاضي، والقاسم، والكاتب للقاضي، وصاحب الديون، وصاحب بيت المال، والمؤذنين لم يأخذوا جعلا وعملوا محتسبين كان أحب إلى أن يترك الجعل من المؤذنين.
قال: ولا بأس أن يأخذ الرجل الجعل عن
__________
(1) ومثله في كشاف القناع صـ 400 جـ6
(2) صـ 213 من جـ6 من الأم.(41/46)
الرجل في الحج إذا كان قد حج عن نفسه، ولا بأس أن يأخذ الجعل على أن يكيل للناس ويزن لهم ويعلمهم القرآن والنحو وما يتأدبون به من الشعر مما ليس فيه مكروه، قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: لا تأخذ في الأذان أجرة ولكن خذه على أنه من الفيء.
قال ابن قدامة رحمه الله في المغني: (فصل) ومن له كفاية فليس له أخذ الجعل على الشهادة، لأنه أداء فرض، فإن فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منهم فرضا، وإن لم تكن له كفاية ولا تعينت عليه، حل له أخذه، والنفقة على عياله فرض عين فلا يشتغل عنه بفرض كفاية، فإذا أخذ الرزق يجمع بين الأمرين، وإن تعينت عليه الشهادة احتمل ذلك أيضا واحتمل ألا يجوز؛ لئلا يأخذ العوض عن أداء فرض عين، وقال أصحاب الشافعي: لا يجوز أخذ الأجرة لمن تعينت عليه، وهل يجوز لغيره على وجهين، أهـ (1) .
ولن يمنع ذلك أن يقول: إن الكفالة أو الضمان معروف محض غير متمول، يعتمد على الملاءة أو مجرد المنزلة والجاه، فلا يقابل بعوض بخلاف ما ذكر من الحرف، والصناعات، والقضاء، والفتيا ونحو ذلك، فإنها وإن كانت معروفا يستعين به الناس في شئون حياتهم، لكنه ليس معروفا محضا، بل هو أعمال متمولة، فجاز أن تقابل بعوض.
وأقرب ما يكون إلى الضمان والكفالة: الشفاعة، وبذل الجاه لتحقيق مصلحة لأحد، أو دفع مضرة عنه، ولا يجوز أخذ أجرة على الشفاعة وبذل الجاه لنفع الناس.
__________
(1) صـ 19 من جـ 12 الشرح الكبير مثله(41/47)
قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن مفلح في كتابه، الآداب الشرعية: (1) .
جاء رجل إلى الحسن بن سهل يستشفع به في حاجة فقضاها، فأقبل الرجل يشكره، فقال له الحسن بن سهل: علام تشكرنا ونحن نرى أن للجاه زكاة كما أن للمال زكاة، أو في لفظ: ونحن نرى كتب الشفاعات زكاة مروءتنا، ثم أنشأ يقول:
فرضت علي زكاة ما ملكت يدي ... وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
فإذا ملكت فجد فإن لم تستطع ... فاجهد بوسعك كله أن تنفعا
قال القاضي المعافي بن زكريا: ولله در القائل:
وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه وابن ماجه من حديث موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، عن جهمان عن أبي هريرة مرفوعا: «لكل شيء زكاة وزكاة الجسد الصوم (2) »
وقال بعضهم:
وإذا السعادة أحرستك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان
واصطد بها العنقاء فهي حبائل ... واقتد بها الجوزاء فهي عنان
وعن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة، قال: «اشفعوا فلتؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء (3) » رواه البخاري ومسلم، وفي لفظة "تؤجروا " ورواه أحمد، ولأبي داود «اشفعوا إلي لتؤجروا وليقض الله على لسان رسوله ما شاء (4) » وعن معاوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليسألني عن الشيء فأمنعه كي تشفعوا له فتؤجروا (5) » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اشفعوا تؤجروا (6) » رواه
__________
(1) صـ 185 من جـ 2 من الآداب الشرعية.
(2) سنن ابن ماجه الصيام (1745) .
(3) صحيح البخاري التوحيد (7476) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2627) ، سنن أبو داود الأدب (5131) .
(4) صحيح البخاري الأدب (6027) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2627) ، سنن الترمذي العلم (2672) ، سنن النسائي الزكاة (2556) ، سنن أبو داود الأدب (5131) ، مسند أحمد بن حنبل (4/400) .
(5) سنن النسائي الزكاة (2557) ، سنن أبو داود الأدب (5132) .
(6) صحيح البخاري الزكاة (1432) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2627) ، سنن أبو داود الأدب (5131) ، مسند أحمد بن حنبل (4/400) .(41/48)
النسائي عن سعيد بن سعيد الأيلي (1) عن سفيان عن عمر عن وهب بن منبه عن أخيه همام عن معاوية - إسناد جيد، أهـ.
وقال أيضا: فصل في قبول الهدية إذا لم تكن على عمل البر:
قال أبو الحارث: إن أبا عبد الله سئل عن الرجل يسأله الرجل الحاجة فيسعى معه فيها فيكافيه على ذلك بلطفه، يهدي له، ترى له أن يقبلها؟ قال: إن كان شيئا من البر وطلب الثواب كرهت له ذلك، فهذا النص إنما فيه الكراهة لمن طلب البر والثواب، وظاهره يجوز لغيره، ونظيره قول أصحابنا في المعلم: إن أعطى شيئا بلا شرط جاز، وأنه ظاهر كلام أحمد، وكرهه بعض العلماء لحديث القوسي.
قال في المغني: يحتمل أنه قصد القربة فكره له أو غير ذلك، وقال صالح: ولد لي مولود فأهدى إلي صديق لي شيئا، فمكثت على ذلك أشهرا، وأراد الخروج إلى البصرة، فقال لي: كلم لي أبا عبد الله يكتب لي إلى المشايخ بالبصرة، فكلمته، فقال: لولا أنه أهدى إليك كتبت له لست أكتب له، وقال صالح: قلت لأبي: رجل أودع رجلا وديعة فسلمها إلى الذي أودعه فأهدى إليه شيئا يقبله أم لا، فقال أبي: إذا علم أنه إنما أهدى إليه لأداء أمانته فلا يقبل الهدية إلا أن يكافئ بمثلها، وهذا موافق لرواية أبي الحارث السابقة.
وقال يعقوب: قال أبو عبد الله: لا ينبغي للخاطب إذا خطب لقوم أن يقبل لهم هدية، وظاهر هذه الرواية التحريم مطلقا أو الكراهة، واختار التحريم الشيخ تقي الدين بن تيمية في كل شفاعة فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرم، وفي شفاعة عند ولي أمر ليوليه ولاية، أو يستخدمه في المقاتلة وهو مستحق لذلك، أو ليعطيه من الموقوف على الفقراء أو القراء والفقهاء
__________
(1) كذا- وفي تقريب التهذيب: التغلبي بدل الأيلي.(41/49)
أو غيرهم من أهل الاستحقاق ونحو ذلك، وقال: هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار، وقد رخص بعض الفقهاء المتأخرين في ذلك وجعل هذا من باب الحمالة يعني من الشافعية، وهذا مع مخالفته للسنة وأقوال الصحابة والأئمة فهو غلط؛ لأن مثل هذا من المصالح العامة التي القيام بها فرض عين أو كفاية، فيلزم من أخذ الجعل فيه ترك الأحق، والمنفعة ليست للباذل بل للناس، وطلب الولاية منهي عنه، فكيف بالعوض؟ فهذا من باب الفساد، انتهى كلامه.
وهذا المعنى الذي احتج به خاص، ويتوجه لأجله قول ثالث وهو معنى كلام ابن الجوزي الآتي، وأما الخبر الذي احتج به فقال أبو داود في سننه (باب الهدية للحاجة) ثم روى عن أبي أمامه مرفوعا: «من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا (1) »
من رواية القاسم بن عبد الرحمن، وقد وثقه ابن معين، والعجلي، ويعقوب بن شيبة، والنسوي، والترمذي، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وقال الجوزجاني: كان خيرا فاضلا، وتكلم فيه أحمد، وابن حبان، وقال ابن (2) خراش: ضعيف جدا، وقال ابن الجوزي: ضعيف بمرة واحدة، ورواه أحمد من رواية ابن لهيعة، وضعفه مشهور.
وفي صحته نظر، وكيف يكون هذا بابا عظيما من الربا ثم يحمل على شفاعة متعينة لا سيما في ولاية أو على قصد القربة، ولهذا رتب الهدية على الشفاعة، ورأيت تعليقا على خلاف القاضي على النسخة العتيقة لابن تيمية وعليها خط جماعة من أصحابنا، منهم الحسن بن أحمد بن البنا نسخة سنة سبع وعشرين وأربعمائة، رأيت على المجلدة الأخيرة: لا يجوز أخذ العوض في مقابلة الدفع عن المظلوم.
ثم ذكر رواية أبي الحارث السابقة، وقال: فإذا كره ذلك فيما لا يجب عليه فعله فأولى
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3541) ، مسند أحمد بن حنبل (5/261) .
(2) في المصرية: جراش بالجيم.(41/50)
أن يكره فيما يجب عليه من دفع المظالم، ثم ذكر أن ابن بطه وصاحبه أبا حفص رويا خبر أبي أمامه ونحو ذلك.
وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال -وبإسناده عن زاذان أنه سمع عمر يقول لمسروق بن الأجدع -: «إياك والهدية في سبب الشفاعة فإن ذلك من السحت» ثم ذكر رواية يعقوب السابقة، ثم قال: وذكر أبو حفص في كتاب الهبات (باب كراهة الهدية على تعليم القرآن) قال الأثرم لأبي عبد الله: الرجل يعطي عند المفصل؟ قال: لا يعجبني، انتهى كلامه.
وتكلم أبو مسعود لرجل في حاجة فأهدى له هدية فأمر بإخراجها، وقال: آخذ أجر شفاعتي في الدنيا.
رواه صالح عن أبيه عن إسماعيل عن ابن عوف عن محمد عنه.
وعن عبد الله بن جعفر في هذه المسألة أنه ردها، وقال: إنا أهل بيت لا نأخذ على معروفنا ثمنا.
رواه صالح عن أبيه عن علي بن عاصم، وقد ضعفه جماعة عن خالد الحذاء، وهشام بن حسان عن محمد عنه.
وقد كان إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج -صاحب التصانيف الحسان ومن أهل الفضل والعلم مع حسن الاعتقاد- أدب القاسم بن عبيد الله، فلما تولى القاسم الوزارة كان وظيفة أبي إسحاق عنده أنه يعرض عليه القصص، ويقضي عنده الأشغال، ويشارط على ذلك، ويأخذ ما أمكنه، وقصته مشهورة.
وقال أبو الفرج بن الجوزي في المنتظم بعد أن ترجم أبا إسحاق بهذه الترجمة، ذكر قصته، قال: رأيت كثيرا من أصحاب الحديث والعلم يقرءون هذه الحكاية ويتعجبون مستحسنين لهذا الفعل غافلين عما تحته من القبيح، وذلك لأنه يجب على الولاة إيصال قصص المظلومين وأهل الحوائج، فإقامة من يأخذ الأجعال على هذا القبيح حرام، وهذا مما يهي به(41/51)
الزجاج وهيا عظيما ولا يرتفع، لأنه إن كان لا يعلم ما في باطن ما قد حكاه عن نفسه فهذا جهل بمعرفة الشرع، وإن كان يعرف فحكايته في غاية القبح، فنعوذ بالله من قلة الفقه، انتهي كلامه.
ولنا خلاف مشهور في أخذ الأجرة والجعالة على تحمل الشهادة وأدائها والتفرقة، فغاية الشفاعة كذلك.
ونص أحمد رضي الله عنه " على أنه لو قال: اقترض لي مائة ولك عشرة أنه يصح، قال أصحابنا: لأنه جعالة على فعل مباح، وقال: يجوز للإمام أن يبذل جعلا لمن يدل على ما فيه مصلحة للمسلمين، وأن المجعول له يستحق الجعل مسلما كان أو كافرا، وقاسوه على أجرة الدليل ".
وأما ما يروى عن ابن مسعود وسئل عن السحت، فقال: أن تشفع لأخيك شفاعة فيهدي لك هدية فتقبلها، فقيل له: أرأيت إن كان هدية في باطل؟ فقال: ذلك كفر {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (1) .
ففي صحته نظر والمعروف عنه، وإنما السحت أن يستعينك على مظلمة فيهدي لك فلا تقبل، ثم يجاب عنه بما سبق، والله سبحانه أعلم، أهـ.
وأيضا قد يكون فيه ربا، وذلك فيما إذا غرم الكفيل مالا عن مكفوله، ثم استوفى عنه ما غرمه، فإن ما أخذه من الأجر يكون زيادة، وهذه الزيادة ربا.
وممن ذكر المنع من الحنفية أبو محمد البغدادي في مجمع الضمانات.
قال رحمه الله (2) : ولو كفل بمال على أن يجعل الطالب له جعلا، فإن لم يكن مشروطا في الكفالة؛ فالشرط باطل، وإن كان مشروطا في الكفالة، فالكفالة باطلة، أهـ.
وممن قال بالمنع أيضا المالكية:
قال الشيخ أحمد الدردير -رحمه الله- في شرحه الكبير لمختصر خليل (3) :
__________
(1) سورة المائدة الآية 44
(2) صـ 383 من مجمع الضمانات.
(3) صـ 306- 307 من جـ 3.(41/52)
ثم شرع يتكلم على ما يحرض للضمان من المبطلات، فقال: (وبطل) الضمان (إن فسد متحمل به) أصالة كدراهم بدنانير أو عكسه لأجل أو عروضا، كما لو باع ذمي سلعة لذمي بخمر أو خنزير وضمنه لذمي فأسلم الضامن فلا يلزم الضامن حينئذ شيء، وظاهره ولو فات المبيع الفاسد ولزم فيه القيمة (أو فسدت) الحمالة شرعا بأن حرمت بطل الضمان.
بمعنى أنه لا يعتد به، فأراد بفسادها الفساد الشرعي، وهو عدم موافقة الشرع لعدم استيفاء الشروط، أو لحصول المانع وبالبطلان الفساد الغوي، أي عدم الاعتداد به فاندفع ما قيل يلزمه اتحاد المعلق والمعلق عليه فتدبر، ومثله بقوله (كيجعل من غير ربه) أي رب الدين (لمدينه) بأن كان من رب الدين أو من المدين أو من غيرهما للضمان، لأنه إذا غرم رجع بمثل ما غرم مع زيادة ما أخذه، إما بجعل من رب الدين لمدينه على أن يأتيه بضامن، فجائز كما لو أسقط عنه بعض الحق على أن يأتيه بضامن، لكن شرط الجواز حلول الدين وإلا امتنع، بخلاف ما لو وقع من أجنبي للمدين على أن يأتي بضامن فجائز مطلقا وبالغ على بطلان الضمان بجعل بقوله (وأن ضمان مضمونه) أي وإن كان الجعل الواصل للضامن ضمان مضمون للضامن، وذلك كأن يتداين رجلان دينا من رجل أو رجلين ويضمن كل منهما صاحبه فيما عليه لرب الدين فيمنع إذا دخلا على ذلك بالشرط لا على سبيل الاتفاق إذ لا جعل، واستثنى من المنع قوله (إلا في اشتراء شيء) معين (بينهما) شركة ويضمن كل منهما الآخر في قدر ما ضمنه فيه فإنه جائز، (أو) في (بيعه) ، أي بيع شيء معين بينهما كما لو أسلمهما شخص في شيء وتضامنا فيه (كقرضهما) أي اقتراضهما نقدا أو عرضا بينهما على أن كل واحد منهما ضامن لصاحبه فيجوز (على الأصح) لعمل السلف بشرط أن يضمن كل صاحبه في قدر ما ضمنه الآخر فيه وإلا منع.(41/53)
4 - بيان الغرض الذي يستقدم من أجله العمال إلى المملكة، وصور تطبيقية.
إن القصد الذي من أجله يرخص للسعوديين في استقدام عمال، هو سد حاجة من استقدمهم بالعمل في مصنعه، أو مقاولاته، أو مؤسسته، أو خدمة أسرته، أو نحو ذلك، مما يحقق للمستقدم إنجاز عمله، وتسهيل مهمته، ويزيد في إنتاج الأمة، فيوفر لها وللوافدين عليها المساكن والسلع التي يحتاج إليها في حياته.
لكن الذين يستقدمون العمال منهم من أحسن التطبيق فاستخدم العامل فيما رخص له في استقدامه من أجله، ووفى كل بما يقتضيه عقد الاستقدام فاستفاد واستفادت الأمة، واستراح ولاة الأمور من مشاكلهم، ومنهم من أساء فاستغل من استقدمهم من العمال استغلالا غير مناسب حتى نشأ من ذلك مشاكل وكثر التساؤل عما هو حلال منه وما هو حرام.
وفيما يلي صور لذلك مأخوذة من واقع المستقدمين مع عمالهم، ومن الأسئلة التي قدمت إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد مع ردها إلى ما يناسبها من أصول التشريع الإسلامي ليتبين حكمها.
(أ) استقدم مقاول عمالا بعقد وصف لهم فيه العمل، وحدد فيه الأجر، ووفى كل من الطرفين للآخر بما تضمنه عقد الاستقدام أو استخدمه في مثل عمله المتفق عليه، ولو عند غيره وأعطاه راتبه، فهذا عقد جائز لاستيفائه شروط الإجارة.
(ب) إن كثيرا من إخواننا السعوديين أصحاب المؤسسات، أو(41/54)
الشركات، يستقدمون عمالا تحت كفالتهم من خارج المملكة، ثم يقومون بأخذ نسبة في المائة من دخلهم الشهري ويبثونهم في المملكة للعمل.
مثلا لو كان زيد على كفالة سعودي، وتركه هذا السعودي يشتغل على حسابه الخاص ودخل في الشهر ألف ريال (1000) مقابل حقه لدى شخص غير مستقدمه، أخذ الذي استقدم هذا العامل 250 ريال مائتين وخمسين ريالا 25%.
أو تفرض هذه المؤسسة على العامل مرتبا شهريا فانعكس الوضع وأصبحت تطلب من العامل إذا تركته يشتغل على حسابه الخاص مرتبا شهريا يدفعه للمؤسسة مثلا 600 ستمائة ريال شهريا ولا تدفع له المؤسسة شيئا من راتبه، فمثلا اشتغل وحصل على ألف ريال أخذت عليه المؤسسة ستمائة ريال، أو لم يحصل شيئا أخذت عليه المؤسسة ستمائة ريال، أفيدوني عن حكم ذلك وفقكم الله.
ع. س. ر.
وفي معاملة المؤسسة، العامل بما ذكر عدة مآخذ، نجملها فيما يأتي:
أولا: في ذلك مخالفة لعقد الاستقدام الذي رسمه ولي الأمر، حفظا للأمن، ومنعا للمشاكل أو تقليلا لها.
ثانيا: أخذ أجر على الكفالة سواء كان نسبة من الدخل أم مبلغا معينا.
ثالثا: أخذ المستقدم أجرا معينا من العامل شهريا سواء كسب أم لم يكسب، فيه ظلم للعامل، وشبه مقامرة بالنسبة له، وهو نظير زراعة الأرض بجزء معين للمالك مما يخرج منها كالذي على مجاري المياه.
رابعا: فيه دفع المستقدم قيمة تذاكر السفر ورسوم الإقامة نقودا ليستعيض من العامل بنقود أكثر.
(جـ) أفيدك أنني أحد المواطنين السعوديين، ومهنتي متسبب،(41/55)
ويوجد لدي سجل تجاري، وذهبت إلى باكستان وجدت 25 خمسة وعشرين عاملا بعد الإجراءات الحكومية، كتبت عليهم عقودا برواتب 800 ريال سعودي، وعندما وصلت إلى المملكة فرقتهم على أصحاب المؤسسات والأعمال برواتب 2800 ألفين وثمانمائة ريال، وأصبحت آخذ أنا الكفيل ألفين على كل واحد، هل ذلك حلال أم لا، أفيدوني أثابكم الله.
م. س. س.
في العمل بمقتضى العقد مآخذ نجملها فيما يأتي:
أولا: فيه مخالفة لعقد الاستقدام الذي رسمه ولي الأمر، حفظا للأمن، ومنعا للمشاكل، أو تقليلا لها.
ثانيا: فيه أخذ المستقدم أجرا من العامل على كفالته، هي الفرق ما بين المرتبين.
ثالثا: فيه غبن العامل.
رابعا: فيه دفع القليل من النقود في تذاكر السفر ورسوم الإقامة ونحوها ليأخذ نقودا أكثر.
(د) أنني استقدمت عمالا من بلد أجنبي، تكفلت لهم في جميع حقوقهم في المملكة من إقامة وما يلحقها من مصاريف وكذلك قيمة تأشيراتهم بالسفارة في بلدهم، وعملت عقدا مع كل واحد منهم على أن يدفع لي عشرين بالمائة 20% من أجور عمله، وله علي الشروط السابقة، وكذلك دفع حقه إذا رفض صاحب العمل أن يعطيه، أي حق والمطالبة تكون علي وأنا مسئول مسئولية تامة عنه أثناء إقامته بالبلد من علاج وغيره، وسؤالي هل النسبة التي آخذها منهم حلال أم حرام، أفيدوني جزاكم الله خير الجزاء.
السائل: ف. ح.(41/56)
وفي العمل بمقتضى هذا العقد مآخذ نجملها فيما يلي: أولا: فيه مخالفة العقد الذي رسمه ولي الأمر، حفظا للأمن، ومنعا للمشاكل أو تقليلا لها.
ثانيا: فيه أخذ المستقدم نسبة مئوية من دخل العامل مقابل الكفالة.
ثالثا: فيه جهالة الأجرة لجهالة الدخل الذي أخذت منه.
رابعا: فيه دفع المستقدم رسوم التأشيرة، ورسوم الإقامة، وثمن تذاكر السفر نقودا، ليأخذ عنها من العامل أكثر.
(هـ) يوجد لدي مؤسسة للمقاولات في مختلف الأعمال المهنية، وقد أحضرت لها مجموعة كبيرة من العمال لغرض القيام بمختلف المقاولات وعلى الأخص فيما يتعلق بمقاولات العقار والبناء، ونظرا لانشغالي بأعمال أخرى غير هذه المؤسسة وللركود البسيط الذي يعانيه العقاريون هذه الأيام، فقد وجدت نفسي في مشكلة ألا وهي وجود مجموعة كبيرة من العمال، وعدم وجود مقاولات يعملون فيها، حيث إن كل مقاولة يجب أن تتم عن طريقي، ولا يوجد وقت شاغر لدي ولا يوجد سوق تجاري هذه الأيام كما أسلفت، وأخيرا ورغبة منى في إيجاد حل وجدت أمامي ثلاث طرق هي كما يلي:
1 - يتفق صاحب المؤسسة مع العمال على أن يبحثوا عن عمل، وفي حالة وجود العمل تعمل عقود واتفاقيات مع صاحب المؤسسة وصاحب العمل وينفذ العمال العمل، وعند الانتهاء يدفع لصاحب المؤسسة نسبة مئوية معينة بعد حسم تكاليف العمل التي قام بها العمال أنفسهم على أن تكون هذه النسبة في حدود 20% والباقي وقدره 80% للعمال.
2 - يتفق صاحب المؤسسة مع العمال على أن يبحثوا عن عمل، وفي حالة وجود العمل تعمل عقود واتفاقيات بين صاحب العمل(41/57)
وصاحب المؤسسة، وعند الانتهاء من العمل يكون الدخل المالي من هذه الاتفاقيات للعمال بنسبة 100% ويدفع في آخر الشهر راتبا مقطوعا من العامل إلى صاحب المؤسسة يتراوح بين 250 ريال إلى 400 ريال.
3 - الحالة الأخيرة أن يبحث العمال عن العمل، وبعد حصولهم على ذلك تجرى اتفاقية بين صاحب العمل وصاحب المؤسسة، وبعد الحصول على الدخل المالي يحسم منه النفقات التي صرفها العمال، ثم يحسم منه رواتبهم الأصلية، ثم يقسم الباقي بعد ذلك بين العمال وصاحب المؤسسة بنسبة 50% لكل منهما.
أرجو إفادتنا عن جواز ذلك شرعا أم لا، وفقكم الله لخدمة الإسلام وأهله.
مقدمه ح. ع. ع.
في العمل بصور هذا العقد مآخذ نجملها فيما يأتي:
- ففي الصور كلها مخالفة لعقد الاستقدام الذي رسمه ولي الأمر.
- وفيها أخذ المستقدم أجرا عن الكفالة.
- وفيها جهالة الأجير لجهالة ما يؤخذ منه.
- وفيها أنه دفع مالا قليلا في رسوم إقامتهم وفي تذاكر سفرهم ليأخذ كثيرا من دخلهم.
(و) أستفتيكم -سلمكم الله- في أن كثيرا من الناس يستقدمون عمالا من الخارج لأعمالهم الخاصة يقومون بتشغيلهم في أعمال عند غيرهم ولكن تحت كفالتهم، فأحد يأخذ عليهم نسبا من أجورهم التي يحصلون عليها من(41/58)
أعمالهم عند غيره، وأحد يأخذ أعمالا ويشغلهم تحت الكفالة حسب المتر أو السعي، أفيدونا جزاكم الله خيرا وشكر الله لكم.
المقدم س. س. س.
في العمل بالصورة الأولى من العقد مآخذ نجملها فيما يلي:
أولا: فيه مخالفة للعقد الذي رسمه ولي الأمر للاستقدام، محافظة على الأمن، ومنعا للمشاكل أو تقليلا لها.
ثانيا: فيه أخذ المستقدم نسبة مئوية من دخل العامل مقابل الكفالة.
ثالثا: فيه جهالة الأجر، لجهالة الدخل الذي أخذت منه النسبة.
أما الصورة الثانية فجائزة إذا رضوا بعملهم فيها بالمتر وكان مالهم في مقابل المتر معلوما.
(ز) نفيد فضيلتكم بأنني صاحب مؤسسة للمقاولات المعمارية، وقد جرى التعاقد مع فنيين تحت كفالة مؤسستنا فيما يعود بعمل إقامتهم، وتقديم بعض الخدمات لهم، ومقابلة جهات الاختصاص فيما يلزمهم مقابل 10% عشرة في المائة كسعي وبدل كفالتهم، لذا أرجو من فضيلتكم الإيضاح، هل هناك محظور من مثل هذا العمل، والله يحفظكم ويرعاكم.
28 \ 5 \ 1400 هـ.
مقدمه المواطن ع. م. م.
في هذا التعامل مآخذ نجملها فيما يأتي:
أولا: فيه مخالفة عقد الاستقدام الذي رسمه ولي الأمر، حفظا للأمن، ومنعا للمشاكل أو تقليلا منها.(41/59)
ثانيا: فيه أخذ المستقدم نسبة مئوية من دخل العامل مقابل الكفالة، وذلك إن لم يكن محرما فهو على الأقل من المتشابهات، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع فيها.
ثالثا: فيه جهالة الأجر، لجهالة الدخل الذي تؤخذ منه النسبة المئوية.
رابعا: فيه دفع المستقدم رسوم التأشيرة والإقامة وثمن تذاكر السفر نقودا ليأخذ عنها نسبة مئوية من دخله مدة عمله في كفالته بالمملكة.
وأخيرا فالمسألة نظرية اجتهادية، تجاذبتها جوانب الحظر والإباحة، لما فيها من الشبه بنظائر في كل منهما، فترددت بينهما، غير أنها إلى جانب الحظر -فيما يظهر- أقرب منها إلى جانب الإباحة، والنقاش عند عرض الموضوع وقت الاجتماع وتبادل الرأي فيه يكشف عن وجه الحق إن شاء الله.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/60)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية.(41/61)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 6257
س: هل معراج النبي عليه الصلاة والسلام مجرد رؤية أم حلم أم حقيقة أسري به روحيا أم جسديا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة بروحه وجسده من المسجد الحرام إلى بيت المقدس ليلا وعرج به ليلا من بيت المقدس إلى السماء السابعة يقظة بروحه وبدنه كذلك، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) والأصل في كلمة " عبده " أنها اسم للروح والبدن فلا يعدل عن ذلك إلا لدليل وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} (2) والرؤيا المنامية لا تكون مصدر فتنة؛ لأن الإنسان العادي يرى في منامه أنه جاب الدنيا وطار في الهواء وصعد إلى السماء ولا ينكر ذلك عليه أحد إذا أخبر به فهي إذا رؤية بصرية، وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (3) {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} (4) {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (5) {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} (6) {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (7) {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (8) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الإسراء الآية 1
(2) سورة الإسراء الآية 60
(3) سورة النجم الآية 13
(4) سورة النجم الآية 14
(5) سورة النجم الآية 15
(6) سورة النجم الآية 16
(7) سورة النجم الآية 17
(8) سورة النجم الآية 18(41/62)
السؤال الأول من الفتوى رقم 5179
س: هل ثبت معراج المعصوم صلى الله عليه وسلم بنص القرآن الكريم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ورد نص في القرآن يدل على أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم عرج به إلى السماء السابعة ليلة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأنه رأى جبريل -عليهما الصلاة والسلام- عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، قال الله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} (1) {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (2) {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} (3) {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (4) {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} (5) {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (6) {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (7) وسدرة المنتهى وجنة المأوى في السماء السابعة.
وقد فسرت الأحاديث الصحيحة قصة الإسراء والمعراج الواردتين في القرآن وبينت تفاصيلهما تحقيقا لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (8) فارجع إليهما في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما من دواوين السنن إن أردت التفصيل وزيادة البيان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النجم الآية 12
(2) سورة النجم الآية 13
(3) سورة النجم الآية 14
(4) سورة النجم الآية 15
(5) سورة النجم الآية 16
(6) سورة النجم الآية 17
(7) سورة النجم الآية 18
(8) سورة النحل الآية 44(41/63)
السؤال الثالث من الفتوى رقم 9202
س: حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى ليلة أسري به بعض أهل النار، ممن ارتكبوا الآثام، كيف يتأتى له ذلك ولم تقم القيامة بعد ولم يأت يوم الحساب؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: هذا حق ويجب الإيمان به ولا يجوز الدخول فيما هو من خصائص الله تعالى.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/64)
السؤال الأول من الفتوى رقم 9651
س: رأينا اختلافات كثيرة في بعض الكتب، قرأنا في بعض الكتب كتب فيها الرسول هو علي بن أبي طالب، وبعض الكتب قيل: محمد صلى الله عليه وسلم وليس فيها علي هذا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
جـ: من قال: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه رسول الله فهو كافر يبين له الحق بدليله، ويرشد أن محمد بن عبد الله هو الرسول (لا علي،(41/64)
فإن تاب فالحمد لله، وإن أصر قتله ولي الأمر العام لردته بذلك عن الإسلام.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/65)
السؤال الثالث من الفتوى رقم 3089
س: بأي شيء فضل الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على سائر الرسل؟ الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: فضل الله عبده ورسوله محمد بن عبد الله -صلوات الله وسلامه عليه- على سائر الخلق والرسل جميعا بفضائل كثيرة، منها: أنه سبحانه اتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، وأرسله إلى الناس كافة وسائر من أرسل قبله من الرسل -صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين- يرسل إلى قومه خاصة، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) وقال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (2)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة آل عمران الآية 81(41/65)
ومنها تكريمه وتخصيصه بالشفاعة الكبرى دون غيره من الرسل، إلى غير ذلك من الخصائص الكثيرة المعروفة من الكتب المؤلفة في ذلك ككتاب الخصائص للسيوطي.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/66)
فتوى رقم 7343
س: كثيرا ما نسمع ونقرأ أن الصلوات الخمس فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم بدون واسطة وذلك بعد ما عرج به عليه الصلاة والسلام إلى السماوات، والذي أشكل علي وأريد من سماحتكم تبيينه وتوضيحه هو: هل أن الله عز وجل كلم محمدا صلى الله عليه وسلم مشافهة وبذلك تكون هذه تابعة لخصوصياته عليه السلام مشتركا فيها مع أخيه موسى عليه السلام وأن كلام الله عز وجل في الدنيا ليس خاصا لموسى عليه السلام، أفتونا جزاكم الله عنا خيرا، مرشدينا في ذلك إلى الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: نعم أحاديث المعراج صريحة بأن الله سبحانه كلم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وبذلك يعلم أنه عليه الصلاة والسلام كليم الله كما أن موسى كليم الله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(41/66)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/67)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 5848
س: هل أرسل رسول إلى الجن قبل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؟ وهل خلقوا قبل الإنس؟ وما هي شريعتهم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين الإنس والجن قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1) وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (2) وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (3) {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} (4) {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (5) {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (6) وقال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} (7) {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} (8) فهذه الآيات وما جاء في معناها دالة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للإنس والجن وأن شريعة الجن هي
__________
(1) سورة سبأ الآية 28
(2) سورة الأنعام الآية 19
(3) سورة الأحقاف الآية 29
(4) سورة الأحقاف الآية 30
(5) سورة الأحقاف الآية 31
(6) سورة الأحقاف الآية 32
(7) سورة الجن الآية 1
(8) سورة الجن الآية 2(41/67)
الشريعة الإسلامية.
وأما كونهم خلقوا قبل الإنس أو بعدهم فلا أثر له بالنسبة لتكليفهم بالشريعة الإسلامية، وأما كونهم قد أرسل إليهم رسول خاص بهم فلا نعلم ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/68)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 2231
س: هل ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع بالجن؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: نعم، ثبت ذلك بالسنة الصحيحة، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام الصحابة بذلك وأراهم آثارهم، وارجع لتفسير ابن كثير -رحمه الله- لقول الله تعالى في سورة الأحقاف: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} (1) الآيات، ولسورة الرحمن، وسورة الجن، وستجد الجواب عن ذلك مفصلا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 29(41/68)
السؤال الأول والثاني من الفتوى رقم 3089
س1 و 2: هل الإسراء والمعراج كان في حالة يقظة الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وهل رأى الرسول ربه بعينه؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: الإسراء والمعراج حصل كل منهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقظا كما جاءت بذلك الأدلة الشرعية، ولم ير عليه الصلاة والسلام ربه بعينيه، وهو قول جمهور أهل السنة والجماعة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/69)
السؤال الأول من الفتوى رقم 5828
س: هل النبي صلى الله عليه وسلم قال إنه يخرج بعده أديان غير دينه الإسلامي الذي جاء به من عند الله؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: لا، بل قال عليه الصلاة والسلام: " لا نبي بعدي " وقال تعالى فيه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (1) لكنه حذر أمته من جميع ما يحدثه الناس على
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40(41/69)
خلاف دينه كما قال صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق على صحته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/70)
السؤال الثالث من الفتوى رقم 6257
س: هل حقا أن سيدنا عيسى عليه السلام ما يزال حيا يرزق في السماء الثالثة؟ ألم يصلب؟ وهل سيعود إلى الأرض مرة أخرى؟ وهل إذا عاد عاد نبيا أو شخصا عاديا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: لم يصلب عيسى عليه السلام ولم يقتل، قال الله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (1) وإنما رفع حيا إلى السماء بروحه وبدنه لقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (2) وسينزل آخر الزمان حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويحكم بشريعة نبينا محمد عليهما الصلاة والسلام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة النساء الآية 157
(2) سورة النساء الآية 158(41/70)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/71)
الإجابة عن شبه حول بعض الأنبياء ومسائل في العقيدة
فتوى رقم 1883
س 1: زعم أن عيسى عليه السلام له أب، وقال بأن الاعتقاد بأن عيسى ولد من غير أب ليس من عقيدة المسلمين؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: إن زعم عيسى عليه السلام له أب مناقض لنصوص القرآن الدالة على أن أم عيسى عليه الصلاة والسلام قد أحصنت فرجها وأنها لم يمسها بشر وأنه كلمة الله جعله آية للناس، قال الله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (1) {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} (2) {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} (4) {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} (5) {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} (6) {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} (7) {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (8) {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} (9) {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} (10)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 45
(2) سورة آل عمران الآية 46
(3) سورة آل عمران الآية 47
(4) سورة مريم الآية 16
(5) سورة مريم الآية 17
(6) سورة مريم الآية 18
(7) سورة مريم الآية 19
(8) سورة مريم الآية 20
(9) سورة مريم الآية 21
(10) سورة مريم الآية 22(41/71)
الآيات، وقال تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} (1) فهذه الآيات قررت حصانتها وبراءتها من الزنا وصدقها في أنها لم يمسها بشر وصرحت بأن عيسى عليه السلام كلمة الله وآيته ألقاها إلى مريم ودلت على أن حمل مريم بعيسى إنما كان نفخ جبريل فيها بإذن الله وأمره فمن أنكر ذلك وزعم أن عيسى كان من أب وأم فهو كافر ملحد في آيات الله متهم لمريم بالزنا كاليهود، أو مدع أن عيسى عليه السلام ابن لله كالنصارى، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
س 2: أنكر كلام عيسى عليه السلام في المهد، واستشهد بفقرات من إنجيل لوقا تؤكد أن عيسى كان عمره اثني عشر عاما؟
جـ 2: صرح القرآن بأن عيسى عليه السلام يكلم الناس وهو في المهد ومن كان في المهد، لا يعقل أن يكون بلغ من العمر اثني عشر عاما فيما عهد في السنين الكونية وجرت به عادة البشر، قال الله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} (2) ثم لو كان كلامه في تبرئة أمه مما اتهمها به اليهود من الزنا بعد اثني عشر عاما لما كان ذلك آية ولا دليل على براءتها لأن من بلغ اثني عشر عاما يمكن أن يلقن الجواب ويفهمه ويجيب بما يراد منه، ولما أنكروا على مريم إشارتها إليه ليجيبهم عنها بما يبرئها من التهمة، قال الله تعالى:
__________
(1) سورة التحريم الآية 12
(2) سورة آل عمران الآية 46(41/72)
{فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (1) {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (2) {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} (3) الآيات.
فمن أنكر كلام عيسى عليه السلام في المهد وزعم أنه حصل منه بعدما بلغ عمرا يتكلم مثله فيه عادة فهو كافر ملحد في آيات الله مكذب بكتاب الله متهم لمريم في عرضها وقد برأها الله من ذلك في محكم كتابه بما لا مجال للشك فيه.
س 3: أول الآيات المتعلقة بقتل بنى إسرائيل لأنبيائهم بأنها مجرد محاولات للقتل ونفى وقوع القتل؟
جـ 3: أخبر الله في آيات القرآن أخبارا صريحة في أن اليهود قتلوا الأنبياء بغير حق ولم يذكر سبحانه ولو في آية واحدة قرينة أو إشارة تدل على صرف هذه الأخبار عما دلت عليه من قتل اليهود أنبياءهم حقيقة إلى إيذائهم أو إلى مجرد محاولات لذلك، قال الله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (4) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (5) سورة آل عمران، وقال: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (6) سورة آل عمران،
__________
(1) سورة مريم الآية 29
(2) سورة مريم الآية 30
(3) سورة مريم الآية 31
(4) سورة البقرة الآية 61
(5) سورة آل عمران الآية 21
(6) سورة آل عمران الآية 112(41/73)
وقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (1) الآيات سورة النساء، فمن تأول هذه الآيات ففسر القتل بالضرب أو محاولات القتل دون القتل فقد ألحد في آيات الله وتلاعب بكتاب الله دفاعا عن إخوانه اليهود وانتصارا لهم بالباطل ورضي لنفسه بالكفر دينا.
س4: ادعى بأن عيسى عليه السلام صلب ولكنه لم يمت على الصليب؟
جـ 4: أخبر الله تعالى عن اليهود بأنهم قالوا إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وكذبهم في ذلك ونفى نفيا صريحا أن يكونوا صلبوه أو قتلوه، قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (2) {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (3) فمن زعم بعد ذلك أن عيسى صلب أو قتل مصلوبا أو غير مصلوب فهو كافر لمناقضته لصريح القرآن.
س5: قال بأن القضاء والقدر لا دليل لهما في القرآن الكريم؟
جـ5: عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأنه كتب في اللوح المحفوظ كل ما سيكون، وأن كل ما علمه وكتبه فهو كائن لا محالة، قال الله تعالي: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) وقال: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} (5)
__________
(1) سورة النساء الآية 155
(2) سورة النساء الآية 157
(3) سورة النساء الآية 158
(4) سورة العنكبوت الآية 62
(5) سورة فصلت الآية 54(41/74)
وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1) {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (2) ومن عقيدتهم أيضا أن مشيئة الله تعالى عامة لكل شيء نافذة في كل شيء وأنه تعالى قدير على كل شيء فله سبحانه القدرة الشاملة قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (3) وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (4) وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (5) وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (6) {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (7) وقال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (8) وقال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (9) وقال {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (10) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كمال علم الله تعالى وإحاطته بكل شيء وكتابته في كتاب عنده فوق عرشه كل ما هو كائن وإرادته النافذة وقدرته الشاملة وقد شرحت الأحاديث الصحيحة الصريحة ذلك شرحا واضحا لا شك فيه ولا ارتياب، وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن
__________
(1) سورة الحديد الآية 22
(2) سورة الحديد الآية 23
(3) سورة الإنسان الآية 30
(4) سورة التكوير الآية 29
(5) سورة الأنعام الآية 125
(6) سورة الزمر الآية 62
(7) سورة الزمر الآية 63
(8) سورة القمر الآية 49
(9) سورة الصافات الآية 96
(10) سورة البقرة الآية 148(41/75)
بالقدر خيره وشره " إلى أن قال في آخر الحديث " هذا جبرائيل أتاكم ليعلمكم دينكم " فمن شك في ذلك أو أنكره فهو مخالف لما دلت عليه نصوص الشريعة الإسلامية خارج عن طريقة أهل السنة والجماعة سائر على طريقة أهل الزيغ والبدع والفجور الذين يحرفون كلام الله عن مواضعه ويتأولونه بأهوائهم على غير تأويله اتباعا لما تشابه من النصوص دون ردها إلى المحكم من الآيات والأحاديث فصدق فيهم قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} (1) .
س 6: أول نتق الجبل ورفع الطور على بني إسرائيل بأنهم كانوا في أسفل الجبل وليس المراد أن الجبل ارتفع فوقهم كأنه ظلة؟ جـ 6: أخبر الله تعالى في آيات من القرآن بأنه نتق جبل الطور وأنه رفعه فوق بني إسرائيل حتى صار كالظلة عليهم وحتى ظنوا أنه ساقط عليهم قال تعالى: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) الأعراف وقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) البقرة وقال: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ} (4) النساء. فهذه أخبار عدة متنوعة متتابعة يؤكد بعضها بعضا ويفيد كل منها وحده أن الله جعل الجبل فوق رؤوسهم حقيقة فكيف بها مجتمعة يصدق بعضها بعضا وليس هناك قرينة أو إشارة ظاهرة أو خفية ترشدنا إلى صرف هذه الأخبار عن حقيقتها أو تصرفها عما يتبادر إلى الذهن منها بل دلت قرينة التهديد بالعذاب إن لم يأخذوا ما أوتوا بقوة ودل شعورهم بأنه واقع بهم على أن الله
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) سورة الأعراف الآية 171
(3) سورة البقرة الآية 63
(4) سورة النساء الآية 154(41/76)
قد أحال الجبل عن موضعه ونزعه من مقره وجعله على ما ذكر في الآيات حقيقة لا تقبل التأويل فمن تأول نتقه ورفعه عليهم بأنهم كانوا في سفح الجبل فقد ألحد في آيات الله وحرفها عن مواضعها وكان ممن زاغ قلبه عن الحق وحاد عن جادة الصواب وارتكس في حياة الكفر والضلال نعوذ بالله من ذلك.
س 7: أنكر إلقاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام في النار وذكر أن أعداءه أعدوا مخططات لذلك ولكن كشفها الله؟ جـ 7: دلت النصوص على أن أعداء إبراهيم عليه الصلاة والسلام أرادوا به كيدا وأخبر سبحانه عنهم أنهم قالوا: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} (1) وأنهم قالوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} (2) ودل قوله تعالى: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (3) على أنهم نفذوا مخططهم الذي كادوا به لإبراهيم عليه السلام وألقوه في النار فجعلها سبحانه بردا وسلاما عليه كما دلت السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على تفصيل ذلك، فمن أنكر إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار وتأول النصوص الواردة في ذلك على مجرد الكيد والتخطيط لذلك فهو كافر مكذب للقرآن والسنة الصحيحة قائل على الله بغير علم ملحد في آيات الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومخالف لما علم من الدين بالضرورة وأجمعت عليه الأمة.
س8: قال عند ترجمته لآية (18) من سورة الكهف وهي قوله تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} (4)
__________
(1) سورة الصافات الآية 97
(2) سورة الأنبياء الآية 68
(3) سورة الأنبياء الآية 69
(4) سورة الكهف الآية 18(41/77)
الآية قال إن المراد بذلك أن شعوبا نصرانية ستنهض بعد تخلف، وسيبدأ عهد الاستعمار وأن هذه الشعوب ستألف تربية الكلاب؟
جـ 8: إن القرآن نزل بلغة العرب وبها تعرف مقاصده وتبين معانيه، وقد دل سياق الآيات التي تقص علينا أحوال أهل الكهف ودلت عبارتها وسبب نزولها على أنها تحكي واقعا تاريخيا ماضيا لجماعة من بني إسرائيل كانوا مؤمنين موحدين مخلصين لله لا يعبدون إلا الله وأنهم اضطهدوا لذلك من قومهم الكافرين وأنهم كانوا قلة ضعفاء إلى غير هذا من معاني آيات هذه القصة التي تدل قارئها على أنها نزلت في جماعة مؤمنة قد مضت فمن فسرها بشعوب نصرانية ستجيء. . إلى آخر ما ذكر من أحواله افقد ركب رأسه واتبع هواه وكذب ربه وتجنى على القرآن وواقع التاريخ بسلوكه طريق الخرص والتخمين والقول على الله بغير علم
. س9: قال في ترجمته لآية (32) من سورة الكهف وهي قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} (1) بأن المراد من هذه الآية التنبؤ بانتصار العرب على الفرس والروم وما تتمتع به بلاد هاتين الأمبراطوريتين من خصوبة وعمران؟
جـ9: هذه الآية بيان للجزاء الأخروي الذي أعده الله لمن ذكرهم سبحانه في الآية التي قبل هذه الآية ممن آمن إيمانا صادقا وعمل عملا صالحا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (2) {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} (3) الآية بعد بيانه لجزاء
__________
(1) سورة الكهف الآية 31
(2) سورة الكهف الآية 30
(3) سورة الكهف الآية 31(41/78)
الظالمين الذين كفروا وسعوا في الأرض فسادا بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} (1) فتفسيرها بما ذكر في السؤال من انتصار العرب على الفرس والروم وتمتعهم بما في أراضيهما من المتع والخيرات الدنيوية تحريف للكلم عن مواضعه ومناقضة لما يقتضيه سياق الكلام وهو أشبه ما يكون بتأويل الباطنية الذين ينكرون اليوم الآخر وما فيه من جزاء لمن أحسن ولمن أساء.
س10: أنكر حد الرجم وقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم رجم قبل نزول سورة النور عملا بحكم التوراة فلما نزلت آية النور لم يرجم بعدها؟
جـ10: ثبت في الشريعة الإسلامية رجم من زنا وهو محصن من الرجال والنساء قولا وعملا أما العمل فقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية واليهوديين لزنا هؤلاء وهم محصنون.
وأما القول فقد ثبت من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني. . خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم (2) » وثبت من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله فقام خصمه وكان أفقه منه فقال اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي قال: (قل) قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم ثم سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأته الرجم. فقال
__________
(1) سورة الكهف الآية 29
(2) صحيح مسلم الحدود (1690) ، سنن الترمذي الحدود (1434) ، سنن أبو داود الحدود (4415) ، سنن ابن ماجه الحدود (2550) ، مسند أحمد بن حنبل (5/317) ، سنن الدارمي الحدود (2327) .(41/79)
رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جل ذكره "المائة شاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها (1) » متفق على صحته وثبت العمل بذلك والقول به في عهد الخلفاء الراشدين دون نكير فدل على أنه لم ينسخ بل مجمع على ثبوته قبل أن يكون الخوارج والمعتزلة فكان خلاف من خالف بعد ذلك خروجا عن النص والإجماع فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ألا وإن الرجم حق في كتاب الله على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف " متفق على صحته.
«وثبت عن علي رضي الله عنه حين رجم المرأة يوم الجمعة أنه قال: رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: وجلدتها بكتاب الله (2) » قال ذلك ردا على من قال له جمعت لها بين حدين.
س11: أول الشياطين في قوله تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ} (3) سورة الأنبياء وكذلك الشياطين في قوله، تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} (4) سورة ص؛ بأن المراد بذلك الأجانب أو أشرار الناس؟
جـ11: أولا: الشياطين كلمة عامة تشمل كل متمرد من شياطين الإنس والجن قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (5)
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6828) ، صحيح مسلم الحدود (1698) ، سنن الترمذي الحدود (1433) ، سنن النسائي آداب القضاة (5411) ، سنن أبو داود الحدود (4445) ، سنن ابن ماجه الحدود (2549) ، مسند أحمد بن حنبل (4/115) ، موطأ مالك الحدود (1556) ، سنن الدارمي الحدود (2317) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6812) ، مسند أحمد بن حنبل (1/140) .
(3) سورة الأنبياء الآية 82
(4) سورة ص الآية 37
(5) سورة الأنعام الآية 112(41/80)
ولكن المراد بالشياطين التي سخرها الله لسليمان عليه السلام وأخبرنا الله عنها في آية (الأنبياء) و (ص) بأن منها من يغوص لسليمان، ومنها من يبني له ومنها من يعملون له أعمالا أخرى ومنها من هو مقرن في الأصفاد- شياطين من الجن بدليل قوله تعالى في سورة سبأ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} (1) {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (2) {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (3) وذكر الله تعالى في سورة النمل حديث سليمان عليه السلام مع ملائه في إحضار عرش بلقيس أن عفاريت الجن كانت مسخرة لسليمان فقال: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} (4) {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} (5) .
ثانيا: جعل الله تعالى تسخيره الشياطين لسليمان عليه السلام آية خارقة للعادة كإلانة الحديد لداود وإسالة عين القطر وتسخير الريح والطيور وتعليمه لغة الطير ونحو ذلك من خوارق العادات التي خص الله بها سليمان استجابة لدعائه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (6) {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} (7) {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} (8)
__________
(1) سورة سبأ الآية 12
(2) سورة سبأ الآية 13
(3) سورة سبأ الآية 14
(4) سورة النمل الآية 38
(5) سورة النمل الآية 39
(6) سورة ص الآية 35
(7) سورة ص الآية 36
(8) سورة ص الآية 37(41/81)
الآيات ولو كان المراد بهم في هذه الآيات الأجانب أو شرار الناس ما كان ذلك آية لسليمان عليه السلام ولا خاصا به لحصوله بغيره من البشر.
س12: قال في آية: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} (1) من سورة سبأ بأن المراد بدابة الأرض رحبعام بن سليمان لضعف مملكة سليمان في عهده والمراد بكلمة منسأته نفوذه؟
جـ12: القرآن نزل بلغة العرب وبها تعرف مقاصده وتفهم معانيه ولم يعهد في اللغة العربية التعبير بالدابة عن إنسان بعينه لضعفه ولا التعبير بالمنسأة عن النفوذ وإنما الذي عهد فيها التعبير بالدابة عن كل ما دب على وجه الأرض أو عن ذوات الأربع ولست هنا قرينة تصرفها إلى شخص معين كرحبعام بن سليمان كما ذكر في السؤال وكذا الحال في تفسير العصا بالنفوذ فتفسيرهما بما ذكر ضرب من العبث والتلاعب بآيات الله. ثم هذا التفسير لا يتناسب مع قوله تعالى في آخر الآية: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (2) وبهذا يعلم أن هذا الملحد متلاعب بكتاب الله يفسره بهواه من غير حجة ولا برهان.
س 13: وقال في ترجمة الآيات المتعلقة بالجن واستماعهم القرآن في
__________
(1) سورة سبأ الآية 14
(2) سورة سبأ الآية 14(41/82)
سورة الأحقاف وسورة الجن أن المراد بالجن شعوب يهودية ونصرانية وعلق بقوله (إن النبي بشر أرسل إلى البشر وما شأن الجن في ذلك) ؟ جـ: ثبت بالأدلة أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة للثقلين الإنس والجن قال الله تعالى: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} (1) سورة يس والجن من عقلاء الأحياء، وقال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} (2) سورة التكوير والجن من العالمين وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (3) سور الأنبياء والجن من العالمين وقال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (4) والجن ممن بلغتهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (5) والجن من العالمين وبعد أن بين سبحانه خلقه الإنس والجن وأصل كل منهما الذي منه خلق وذكر كثيرا من نعمه على عباده أنكر في القرآن الذي هو شريعة لمحمد عليه الصلاة والسلام ولأمته على الإنس والجن عدم شكرهما نعمه فقال: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (6) مرات عقب النعم الكونية الشاملة لهما وبعد أنواع الجزاء حملا لهما على شكر الله بتوحيده وطاعته وتحذيرا لهما من عواقب كفر نعمه تعالى عليهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة يس الآية 70
(2) سورة التكوير الآية 27
(3) سورة الأنبياء الآية 107
(4) سورة الأنعام الآية 19
(5) سورة الفرقان الآية 1
(6) سورة الرحمن الآية 13(41/83)
فتوى رقم 2741
س: 1- استفتي في الإمام بالمسجد الجامع ينسى الخطبة الثانية يوم الجمعة ولا يذكره أحد من المأمومين ولم يذكرها بنفسه حتى انتشروا من المسجد، وفي الجمعة الثانية ذكرها، فماذا يفعل هذا الإمام؟ وماذا عليه؟ 2 - في حديثين عن نزول سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليهبطن الله عيسى ابن مريم حكما عدلا (1) » ، وكذلك كعب الأحبار يقول: قال صلى الله عليه وسلم: «كيف تهلك أمة أنا في أولها وعيسى في آخرها؟» وعن عمارة بن غزية عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، أن فاطمة بنت حسين بن علي حدثته «أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وأنا عند عائشة وناجاني فبكيت ثم ناجاني فضحكت فسألتني عائشة عن ذلك، فقلت: لقد عجلت، أخبرك بسر رسول الله؟ فتركتني) فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عائشة، فقالت: (نعم، ناجاني فقال: " جبريل كان يعارض القرآن كل عام مرة وإنه قد عارض القرآن مرتين وإنه ليس من نبى إلا عمره نصف عمر الذي كان قبله، وإن عيسى أخي كان عمره عشرين ومائة سنة، وهذه لي ستون، وأحسبنى ميتا في عامي هذا ") » ، أفتنا يا سماحة الشيخ في هذا الحديث المشكلة بينه لنا، فهل كل هذه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهل نزل سيدنا عيسى؟ كما يزعم الأحمديون أم لا؟ .
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: جـ: أولا: جمهور العلماء على أن الخطبة شرط في صحة صلاة الجمعة، لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (2) قالوا والمراد بالذكر هنا
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3448) ، صحيح مسلم الإيمان (155) ، سنن الترمذي الفتن (2233) ، سنن أبو داود الملاحم (4324) ، سنن ابن ماجه الفتن (4078) ، مسند أحمد بن حنبل (2/494) .
(2) سورة الجمعة الآية 9(41/84)
الخطبة فكانت واجبة للأمر بالسعي لها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليها مقترنة بصلاة الجمعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي (1) » فوجب قرنها بالجمعة كما قرنها بها صلى الله عليه وسلم.
وقال جماعة: إن الخطبة ليست شرط صحة في الجمعة، منهم الحسن وابن الماجشون، لأنها ليست المرادة بالذكر في الآية وليست صلاة فلم تكن مأمورا بها في الآية ولا في الحديث، وإنما هي من فعله صلى الله عليه وسلم داوم عليه فكانت سنة لا تبطل الجمعة بتركها.
ومن قالوا بوجوب الخطبة منهم من لم يوجب الخطبة الثانية كمالك والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي، فيجزئ عندهم خطبة واحدة، وإذا كانت الخطبة مختلفا في أصلها وكان الخلاف في الثانية قويا فصلاتكم الجمعة مع نسيان الخطبة الثانية صحيحة إن شاء الله في رأي كثير من أئمة الفقهاء، ولكن يجب على المأموم تنبيه الخطيب إذا ترك الخطبة الثانية في الحال قبل إقامة الصلاة، لأن من علم السنة لا يتركها إلا نسيانا غالبا.
ثانيا: ثبت عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: «دعا النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها في شكواه التي قبض فيها فسارها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارها بشيء فضحكت فسألناها عن ذلك، فقالت: سارني النبي صلى الله عليه وسلم أنه. يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكت ثم سارني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت (2) » رواه البخاري ومسلم وثبت عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مرحبا بابنتي" ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثم أسر إليها حديثا فبكت، فقلت لها: لم تبكين؟ ثم أسر إليها حديثا فضحكت، فقلت:
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (631) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (674) ، سنن النسائي الأذان (635) ، سنن أبو داود الصلاة (842) ، مسند أحمد بن حنبل (5/53) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3716) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2450) ، سنن الترمذي المناقب (3872) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1621) ، مسند أحمد بن حنبل (6/77) .(41/85)
ما رأيت فرحا أقرب من حزن، فسألتها عما قال لها فقالت: ما كنت لأفشى سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألتها فقالت: أسر إلي " أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي وإنك أول أهل بيتي لحاقا بي " فبكيت، فقال: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين "، فضحكت لذلك (1) » رواه البخاري ومسلم
. وعن عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «ما رأيت أحدا أشبه دلا ولا هديا برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها فلما مرض النبي صلى الله عليه وسلم دخلت فاطمة فأكبت عليه فقبلته ثم رفعت رأسها فبكت، ثم أكبت عليه ثم رفعت رأسها فضحكت، فقلت إن كنت لأظن أن هذه من أعقل نسائنا فإذا هي من النساء فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت لها: أرأيت حين أكببت على النبي صلى الله عليه وسلم فرفعت رأسك فبكيت ثم أكببت عليه فرفعت رأسك فضحكت ما حملك على ذك؟ قالت: إني إذا لبذرة أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت، ثم أخبرني أني أسرع أهله لحوقا به فذاك حين ضحكت (2) » رواه الترمذي وغيره، وهناك أحاديث أخرى في مرض النبي صلى الله عليه وسلم رويت من طرق عن عائشة وغيرها من الصحابة رضي الله عنهم.
وأما الحديث الذي ذكرته عن عمارة بن غزية عن محمد بن عبد الله بن
__________
(1) أحمد 6 \ 77 و 282 وأيضا رواه في فضائل الصحابة برقم 1343 والبخاري برقم 3625 و 3623 و3710 و 4433 و 6285 ومسلم برقم 245 وابن ماجه برقم 1621.
(2) أبو داود برقم 5217 والترمذي برقم 3871.(41/86)
عمرو بن عثمان عن أمه فاطمة بنت حسين بن علي عن فاطمة الزهراء رضي الله عنها فغير صحيح، لأن رواية فاطمة بنت حسين عن جدتها فاطمة الزهراء مرسلة، ولأن محمد بن عبد الله بن عمرو مختلف في توثيقه وتضعيفه وقد ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد عن عائشة أنها كانت تقول: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه قال لفاطمة: "إن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يعارضه بالقرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني بالقرآن العام مرتين، وأخبرني أنه أخبره أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف عمر الذي قبله، وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني إلا ذاهبا على رأس الستين " فبكاني ذلك. . . .» الحديث، ثم قال الهيثمي: رواه الطبراني بإسناد ضعيف، وروى البزار بعضه أيضا وفي رجاله ضعف.
وبهذا يزول الإشكال، لأن الزيادة المتعلقة بعمر عيسى وعمر محمد عليهما الصلاة والسلام مردودة.
ثالثا: رفع عيسى ابن مريم إلى السماء حيا ببدنه وروحه وسينزل آخر الزمان ويكون حكما عدلا ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير. . الخ ما دلت عليه الأحاديث، ولكنه لم ينزل حتى الآن، وما زعمه القاديانيون الأحمديون في عيسى عليه السلام كذب وبهتان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/87)
فتوى رقم 2982
س: هناك أحاديث صحيحة في عودة النبي عيسى عليه السلام فهل هي أحاديث مفردة، وهل ورد في القرآن نص صريح برجوع النبي عيسى ابن مريم عليه السلام، وإن عاد فهل يعود كنبي أو رسول؟ نرجو إرشادنا إلى الكتب التي فيها الجواب الكافي الشافي.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: جـ: أولا: وردت أحاديث صحيحة بنزول نبي الله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بعد رفعه حيا إلى السماء، ويصح الاحتجاج بها سواء كانت متواترة أم آحادا.
ثانيا: ورد في القرآن نصوص في رفع عيسى ابن مريم حيا إلى السماء ونزوله نبيا رسولا وذلك امتدادا لنبوته ورسالته قبل رفعه، لكن لا يدعو إلى شريعته بل يدعو إلى أصول الإسلام التي دعا إليها الأنبياء والمرسلون جميعا وإلى الفروع التي جاء بها خاتم الرسل محمد عليه الصلاة والسلام فليست نبوة ورسالة جديدة حتى تتنافى مع ختم النبوات برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/88)
فتوى رقم 4745
س: هل نبي الله عيسى عليه السلام مازال حيا إلى الآن أو قد مات كسائر الأنبياء والذي دفعني إلى هذا السؤال: أنه أصدر أحد علماء كينيا فتوى يقول فيها بأن عيسى عليه السلام قد مات كسائر الأنبياء وذكر في ذلك أدلة كثيرة هي: استدل بالآية رقم 114 من سورة آل عمران، واستدل بالآية رقم 34 من سورة الأنبياء، وكذلك أشار إلى ص 79 من الجزء الثالث من صحيح البخاري في تفسير لفظ القرآن {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} (1) وقال- المفتى: وهذا هو قول الإمام مالك رحمه الله تعالى في مجمع البحار الأنور وكذلك أشار إلى ص 37- 44 من كتاب (نظريات في القرآن) لمحمد الغزالي ثم قال- المفتي- إن الذي نفاه القرآن: هو القول بأن عيسى قد قتل أو صلب، هذا والجدير بالذكر أن هذه الفتوى قد تمسك بها القاديانية منذ صدورها كما هو الحال في كينيا وما جاورها من البلاد بالإضافة إلى أنني في قلق بالغ إزاء هذا، لأنني الآن أعتقد بحياة عيسى عليه السلام وأنه سينزل في آخر الزمان. أفيدوني أثابكم الله؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: جـ: دلت الأدلة من الكتاب والسنة على أن عيسى عليه الصلاة والسلام لم يقتل ولم يصلب ولم يمت بل هو حي حتى الآن، وقد رفعه الله تعالى إلى السماء وسينزل آخر الزمان فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويدعو إلى الحق ويؤمن الناس به حين نزوله حتى اليهود والنصارى. . لقوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (2) إلى قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (3) {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (4) الآية.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 55
(2) سورة النساء الآية 157
(3) سورة النساء الآية 158
(4) سورة النساء الآية 159(41/89)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/90)
فتوى رقم 6263
س: أنا يا شيخنا الكريم فتاة مسلمة نشأت على عقيدة مؤداها أن المسيح عليه السلام قد أنجاه الله من محاولة الصلب ورفعه إليه بعد أن ألبس أحد أتباعه صورته وصلب بدلا عنه، وأنه عليه السلام سيعود إلى الأرض قبل يوم القيامة ليقتل المسيح الدجال لعنة الله عليه، ولكنى منذ أيام قرأت في أحد الكتب وهو (مقارنة الأديان والاستشراق) للأستاذ أحمد شلبي أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة القاهرة، ما معناه: أن المسيح لم يرفع وأنه اختفى عن أنظار أعدائه وأنه مات في مكان ما موتة عادية وقبر كأي إنسان وأن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ورد فيها أن عيسى عليه السلام سينزل في آخر الزمان ليقتل المسيح الدجال هي أحاديث آحاد لا يؤخذ بها في المسائل الاعتقادية والمسألة هنا اعتقادية. وهالني أنني قرأت له أن هذا الرأي هو رأي بعض علمائنا الأفاضل أمثال الشيخ المراغي والشيخ شلتوت والشهيد سيد قطب وغيرهم، والحقيقة أنني قد انتابتني حالة من القلق وعدم معرفة(41/90)
الحقيقة وسؤالي الآن ما هي أحاديث الآحاد وهل لا يعمل بها كما قال الأستاذ في المسائل الاعتقادية. وإن ثبت في صحيح البخاري ومسلم؟
ما عقيدة المسلم الواجبة في المسيح عليه السلام، ولا يسعني إلا أن أتقدم إليكم بالشكر ويدفعني علمي بكرمكم وتفانيكم في خدمة الدعوة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: جـ: أولا: الحديث ينقسم إلى متواتر وآحاد، فالمتواتر: ما رواه جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عن مثلهم وأن يكون مستندهم في انتهاء السند الحس مع سماع أو نحوه، والآحاد: ما فقد شرطا من هذه الشروط. والمتواتر: يحتج به في العقائد والفروع كالقرآن، والآحاد: يحتج بها في الفروع بإجماع ويحتج به في العقائد على الصحيح من قولي العلماء، ومن رأى أن لا يحتج به في العقائد فقد خالف فعله رأيه فاحتج به في العقائد والأصول بل احتج بالضعيف منه في ذلك.
ثانيا: العقيدة الصحيحة في عيسى عليه الصلاة والسلام هي عقيدة السلف خير القرون التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخير من أن عيسى عليه السلام لم يقتل ولم يصلب ولم يمت وإنما رفعه الله إليه حيا ببدنه وروحه، وأنه سينزل آخر الزمان فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويدعو الناس جميعا إلى الإيمان بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم فيؤمنون به جميعا حتى اليهود والنصارى لدلالة القرآن والسنة الصحيحة الثابتة على ذلك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/91)
فتوى رقم 6426
س: مضمونه عما إذا كان من الضروري الإيمان بالأمور الآتية في دين الإسلام:
1 - أن عيسى ابن مريم عليه السلام رفع بجسده إلى السماء.
2 - أن عيسى ابن مريم عليه السلام حملته أمه بدون أب من البشر.
3 - أن الجهاد في دار الحرب يعني حرب الهجوم للاستيلاء على القوة وإدخال غير المسلمين في الإسلام
. الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. .
وبعد:
جـ: يجب الإيمان بما يأتي:
أولا: أن عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام رفع إلى السماء بجسده وروحه حيا لم يمت حتى الآن ولم يقتله اليهود ولم يصلبوه ولكن شبه لهم فزعموا أنهم قتلوه وصلبوه ووافقهم النصارى على زعمهم الكاذب لجهلهم قال الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} (2) {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (3) {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (4)
ثانيا: أن عيسى ابن مريم ليس ابنا لله وليس له أب من البشر ولا غيرهم
__________
(1) سورة النساء الآية 155
(2) سورة النساء الآية 156
(3) سورة النساء الآية 157
(4) سورة النساء الآية 158(41/92)
بل أمر الله رسوله جبريل عليه السلام أن ينفخ فيها من روحه فنفخ فيها فحملت بعيسى عليه السلام قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} (1) الآيات.
ثالثا: شرع الله تعالى الجهاد لنشر الإسلام وتذليل العقبات التي تعترض الدعاة في سبيل الدعوة إلى الحق والأخذ على يد من تحدثه نفسه بأذى الدعاة إليه والاعتداء عليهم حتى لا تكون فتنة ويسود الأمن ويعم السلام وتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الكفر هي السفلى ويدخل الناس في دين الله أفواجا. قال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (2) وقال: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (3) وقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (4) .
وبهذا يعلم أن الجهاد شرع لإخراج الناس من الظلمات إلى النور وإدخالهم في دين الله أفواجا حتى لا تكون فتنة، وللدفاع أيضا عن حوزة الإسلام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة مريم الآية 16
(2) سورة الأنفال الآية 39
(3) سورة التوبة الآية 36
(4) سورة الفتح الآية 28(41/93)
فتوى رقم 11419
س: قد أرسل صاحبي إلي نشرة أرسل إليكم نسخة منها، أرجو الإجابة على ما يلي: يقول المبشر المذكور: القرآن يشير بكل صراحة إلى الإنجيل والنصارى، القرآن يذكر أن الإنجيل فيه الهداية والنور (5 \ 46) (المائدة) ، القرآن يقول أن الإنجيل هداية للبشرية جمعاء (3 \ 34) (آل عمران) ، القرآن يقول أن اليهود والنصارى يقرؤون الكتب السماوية (2 \ 113) (البقرة) ، ويقول القرآن إن النصارى يقضى لهم بموجب الإنجيل (5 \ 307) (المائدة) ، إذا كان محمد لديه شك حول القرآن، فالقرآن يقول إنه ينبغي له أن يرجع إلى أهل الكتاب (اليهود والنصارى) (10 \ 95) (يونس) ، لم يذكر القرآن قط أن الإنجيل حرف أو أنه غير جدير بالثقة فيه، لو كان الإنجيل محرفا كما يزعم كثير من المسلمين لما قال القرآن إن النصارى أهل الكتاب وإنهم يقرؤون الكتاب السماوي ولو كان الإنجيل محرفا أو مرفوعا إلى السماء كما يقول كثير من المسلمين لما نصح القرآن وأشار على النصارى بأن يحكموا الإنجيل لأنه لا يعقل أن يشير القرآن على النصارى بتحكيم إنجيل حرف أو إنجيل رفع إلى السماء، لو كان كتاب أهل الكتاب محرفا لما أشار القرآن على محمد أن يرجع إلى أهل الكتاب، وهل كان محمد في شك من القرآن.
س1: هل القرآن يشير بكل صراحة إلى الإنجيل والنصارى، ويذكر أن الإنجيل فيه الهداية والنور (5 \ 46) وأنه هداية للبشرية جمعاء (3 \ 34) ؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:(41/94)
جـ: ذكر الله تعالى الإنجيل في القرآن وأمر أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه ومما أنزل الله فيه البشارة ببعثه محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب الإيمان به، بل أخذ الله الميثاق على كل نبي أن يؤمن بكل رسول أرسله الله تعالى بعده فوجب على عيسى عليه السلام وأمته أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم حين مبعثه وبما جاء به لعموم رسالته قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} (1) فأخبر سبحانه أنه أنزل القرآن مصدقا لما قبله من الكتب السماوية مهيمنا عليها يثبت منها ما شاء الله إثباته وينسخ منها ما شاء سبحانه، وأثنى سبحانه على من آمن به من أهل الكتاب- اليهود والنصارى - وذم منهم من لم يؤمن به ونقض ما أخذ عليه من العهد والميثاق وفسق عن أمر ربه قال الله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} (3) إلى أن قال سبحانه: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} (4) {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} (5) {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} (6) وقال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (7) {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (8) {وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} (9) {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} (10)
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) سورة آل عمران الآية 111
(4) سورة آل عمران الآية 113
(5) سورة آل عمران الآية 114
(6) سورة آل عمران الآية 115
(7) سورة المائدة الآية 82
(8) سورة المائدة الآية 83
(9) سورة المائدة الآية 84
(10) سورة المائدة الآية 85(41/95)
وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) إلى أن قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) إلى غير ذلك من الآيات التي نزلت في الثناء على من آمن منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وذم من كفر به.
ثم الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على عيسى عليه الصلاة والسلام هو الذي بشر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يؤمنوا برسالته ومع ذلك احتججتم بالقرآن الذي أنزله الله عليه وآمنتم بصلب اليهود عيسى ابن مريم وقتله إياه وزعمتم أن ذلك في الإنجيل فكذبكم الله كما كذب اليهود في ذلك بقوله سبحانه في. محكم كتابه: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (3) وزعمتم أن المسيح عيسى
__________
(1) سورة التوبة الآية 29
(2) سورة التوبة الآية 31
(3) سورة النساء الآية 157(41/96)
ابن مريم ابن الله، تعافى الله أن يكون له ولد، فكذبكم في ذلك بل كفركم بقوله سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (1) الآية وزعمتم أنه إله مع الله فكفركم سبحانه في ذلك بقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) الآيات وزعمتم أن الخنزير حلال أكله وتعبدتم بالرهبانية وكل ذلك ليس في الإنجيل بل هو دين لم يأذن به الله ولا شرعه، فبعد هذا وأمثاله من افترائكم تدعون أن الإنجيل لم يحرف ولم تخفوا منه شيئا ولم تزيدوا فيه شيئا، ثم بعد تحاولون أن تحتجوا بالقرآن لإثبات مزاعمكم وبدعكم فتتبعون ما تشابه من القرآن وتتركون محكمه ابتغاء الفتنة وليا بألسنتكم وطعنا في الدين قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (3) الآيات إلى آخر آية {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} (4) وقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (5) إلى قوله سبحانه: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} (6) الآية فإن لم تفعلوا كنتم ممن قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (7) {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (8) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 17
(2) سورة المائدة الآية 73
(3) سورة المائدة الآية 15
(4) سورة المائدة الآية 19
(5) سورة النساء الآية 171
(6) سورة النساء الآية 172
(7) سورة النساء الآية 150
(8) سورة النساء الآية 151(41/97)
س2: القرآن يقول إن اليهود والنصارى يقرؤون الكتب السماوية (2 \ 113) ؟ جـ: يشير بذلك إلى قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (1) .
وبخ الله تعالى في هذه الآية كلا من الفريقين اليهود والنصارى على إنكاره على الآخر ما بيده تصديقه عنادا منهم وبغيا وعدوانا فوبخ اليهود على كفرهم برسالة عيسى عليه السلام وما جاء به من التشريع وهم يتلون الكتاب أي التوراة وفيها ما أخذ الله عليهم من الميثاق أن يؤمنوا به وبما جاء به من تشريع الله. ووبخ النصارى على كفرهم بموسى عليه السلام وهم يتلون الكتاب أي الإنجيل وفيه تصديق ما بين يديه من التوراة التي جاء بها موسى إلا قليلا مما أمره الله أن يحله لهم، وليس معنى ذلك تقرير ما طرأ على التوراة والإنجيل من التحريف ولا ما أخفاه كل من اليهود والنصارى من كتاب نبيه بدليل ذكره سبحانه ما جناه كل منهما على كتاب نبيه في آيات أخرى من القرآن الذي يحتجون بما تشابه منه على مزاعمهم تمويها وتلبيسا على الناس، بل يجب ضم سائر المآخذ التي أخذت عليهم بعضها إلى بعض من تحريف بعض النصوص وإخفاء بعضها والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض آخر منه، فإن أصل الكتابين من عند الله كما أن القرآن نزل من عند الله وكل منها
__________
(1) سورة البقرة الآية 113(41/98)
يصدق بعضه بعضا وكل الأنبياء يبشر سابقهم بلاحقهم ويصدق لاحقهم السابق منهم فيجب الإيمان بهما جميعا وبجميع ما جاءوا به من عند الله تعالى، فمن آمن ببعض ذلك وكفر ببعض فهو كافر بالجميع وإليك ما يؤيد ما تقدم من آيات القرآن، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (1) {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (2) {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) وهذه الآيات عامة يدخل فيها اليهود والنصارى وغيرهم، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (4) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5) الآيات إلى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} (6) وهذه الآيات عامة في اليهود والنصارى، وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (7) الآيات إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} (8)
__________
(1) سورة النساء الآية 150
(2) سورة النساء الآية 151
(3) سورة النساء الآية 152
(4) سورة المائدة الآية 15
(5) سورة المائدة الآية 16
(6) سورة المائدة الآية 20
(7) سورة التوبة الآية 29
(8) سورة التوبة الآية 34(41/99)
وهذه الآيات عامة في اليهود والنصارى أيضا، وقال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) وهذه الآيات كثير مما بعدها وما قبلها نزلت في بيان فضائح اليهود كما نزل فيهم قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} (2) ولها نظائر في النصارى كإخفائهم البشارة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى في إنكاره على النصارى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (3) الآيات إلى قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (4) وقال تعالى في اليهود والنصارى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (5) الآيتين إلى قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (6) أفبعد هذا يصح أن يقال إن القرآن أثنى على اليهود أو النصارى الذين لم يؤمنوا به بعد نزوله أو أنه أثنى على ما لعب به اليهود من التوراة أو على ما حرف من الإنجيل أو زيد فيه كبنوة عيسى لله أو إلهيته مع الله، أو صلب اليهود إياه أو قتلهم له أو كتمان وإخفاء صفة محمد ورسالته، إن لم يكن ما ذكر تحريفا وكتمانا وزيادة ونقصا. فماذا يسمى فعل كل من الفريقين بكتاب نبيه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 75
(2) سورة الأنعام الآية 91
(3) سورة المائدة الآية 17
(4) سورة المائدة الآية 78
(5) سورة البينة الآية 4
(6) سورة البينة الآية 6(41/100)
س3: يقول القرآن إن النصارى يقضى لهم بموجب الإنجيل (5 \ 47) من سورة المائدة؟ .
جـ 3: يشير بذلك إلى آية: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) وهذه الآية لا حجة فيها للنصارى على ما زعموا، لأن المراد هنا الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى ابن مريم عليه السلام، لا الإنجيل المحرف الذي ذكر فيه بنوة عيسى أو إلهيته مع الله أو ذكر في صلب عيسى أو قتله أو موته قبل أن يرفع إلى السماء أو حذف منه البشارة بمجيء محمد رسولا من عند الله، ثم إذا ضم إلى هذه الآية ما بعدها من قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (2) دل ذلك على أن لا يقضى بموجب الكتب المتقدمة من صحف إبراهيم وموسى وزبور داود والتوراة والإنجيل إلا بما صدقه القرآن منها ولم ينسخه من أحكامها لقوله في هذه الآية: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (3) وقد ثبت في فقرة (1 و 4) أن كلا من اليهود والنصارى حرف كتاب نبيه فالواجب في فهم الآيات النظر إليها مجموعة ليستقيم المعنى ويتبين الصواب لا الوقوف عند المجمل منها ابتغاء الفتنة والتلبيس شأن من في قلوبهم زيغ ولا هم لهم إلا الجدال بالباطل {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (4) .
س 4: إذا كان محمد لديه شك في القرآن فالقرآن يقول إنه ينبغي أن يرجع إلى أهل الكتاب اليهود والنصارى (10 \ 95) من سورة يونس؟
__________
(1) سورة المائدة الآية 47
(2) سورة المائدة الآية 48
(3) سورة المائدة الآية 48
(4) سورة التوبة الآية 32(41/101)
جـ: يشير بذلك إلى قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} (1) وهذه الآية لا حجة لهم فيها؛ لأن تعليق الحكم بالشرط لا يستلزم تحقق الشرط ووجوده، إذ قد يتعلق الحكم بشرط ممتنع كما في قوله، تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (2) الآيات إلى قوله سبحانه: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) فأخبر سبحانه بأن هؤلاء الأنبياء لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون مع انتفاء الشرك عنهم بل مع امتناعه منهم لأنهم قد ماتوا على التوحيد، ولأنهم معصومون من الشرك، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (5) فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يشك ولم يسأل أحدا من أهل الكتاب لأنه لم يفهم من ذلك الخطاب طلب السؤال لإزالة شك بل فهم أن المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبه فيه الكافرون كما في قوله تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} (6) (43) من سورة الرعد وقوله سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (7) (10) من سورة الأحقاف، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (8) (197) من سورة الشعراء إلى أمثال ذلك من الآيات التي تدل على أن المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدق محمدا صلى الله عليه وسلم فيما
__________
(1) سورة يونس الآية 94
(2) سورة الأنعام الآية 83
(3) سورة الأنعام الآية 88
(4) سورة الزمر الآية 65
(5) سورة الزمر الآية 66
(6) سورة الرعد الآية 43
(7) سورة الأحقاف الآية 10
(8) سورة الشعراء الآية 197(41/102)
كذبه فيه المشركون من الدعوة إلى التوحيد وفي أن الرسل إلى البشر من البشر كما هي سنة الله تعالى الحكيمة وقد أشار الله إلى ذلك في أول هذه السورة سورة يونس قال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (1)
مما تقدم من تفسير الآيات القرآنية وبيان المقصود منها على ضوء ما جاء من نظائرها في القرآن مفصلا لها ومحكما يعين المراد من متشابهها ويعرف الجواب عما ذكره صاحبك الأمريكي المبشر بالنصرانية إلى آخر كلامه فإنه إجمال لما فصله من الشبهات في صدر كلامه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة يونس الآية 2(41/103)
عيسى عليه السلام
فتوى رقم 2190
س: ورد خبر إلينا أن ستطبع ترجمة القرآن الكريم بيد محمد أسد في إيرلندا (دبلين) قريبا، وسوف تنشر هنا، وقد شكلت لجنة لنشر هذه الترجمة ومن بينهم أساتذة مسلمون من الهند، ويدعي محمد أسد في ترجمته أن نبي الله عيسى عليه السلام قد مات وأن اعتقاد المسلمين في عودته خطأ وفي ضوء هذا الزعم أقدم إليكم الأسئلة الآتية:(41/103)
1 - ما هو حال النبي عيسى عليه السلام وفق الكتاب والسنة الشريفة الثابتة؟ .
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: خلق الله تعالى نبيه عيسى عليه السلام من أم وبلا أب، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} (1) {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} (2) {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} (3) {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} (4) {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (5) {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} (6) {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} (7) {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسيًّا} (8) {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} (9) {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} (10) {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} (11) {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} (12) .
ذلك على أنه ولد من فدل أمه مريم فقط بإذن الله وكلمته لا من أب ليكون آية للناس، ومع ذلك اتهمها اليهود بأنها جاءت به من الزنا، فأنطق الله تعالى ابنها عيسى وهو في المهد ببراءتها، قال تعالى: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} (13) {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} (14) {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (15) {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} (16) {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (17) {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} (18) {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (19) {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} (20) {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (21) .
__________
(1) سورة مريم الآية 16
(2) سورة مريم الآية 17
(3) سورة مريم الآية 18
(4) سورة مريم الآية 19
(5) سورة مريم الآية 20
(6) سورة مريم الآية 21
(7) سورة مريم الآية 22
(8) سورة مريم الآية 23
(9) سورة مريم الآية 24
(10) سورة مريم الآية 25
(11) سورة مريم الآية 26
(12) سورة مريم الآية 27
(13) سورة مريم الآية 27
(14) سورة مريم الآية 28
(15) سورة مريم الآية 29
(16) سورة مريم الآية 30
(17) سورة مريم الآية 31
(18) سورة مريم الآية 32
(19) سورة مريم الآية 33
(20) سورة مريم الآية 34
(21) سورة مريم الآية 35(41/104)
فبرأه الله بهذه المعجزة أن يكون له أب من الزنا، ونزه سبحانه نفسه أن يكون له ولد، وإذن فليس عيسى ولد الله، وأخبرت مريم عن نفسها أنها لم يمسسها بشر، وصدقها الله في ذلك، ونسبه سبحانه إلى أمه في أكثر من موضع في القرآن، ولو كان من أب لنسبه إلى أبيه كما هو سنته تعالى في كلامه، فدل ذلك على أنه من أم فقط، وهو نبي الله ورسوله كما دلت عليه الآيات السابقة وغيرها.
2 - ما حكم من قال: إن عيسى قد مات؟ .
جـ: ثبت بالأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة أن عيسى ابن مريم عليهما السلام لم يقتل ولم يمت بل رفعه الله إليه حيا وأنه سينزل آخر الزمان حكما عدلا في هذه الأمة، فمن قال إن عيسى ابن مريم قد مات وأنه لا ينزل آخر الزمان فقد خالف كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأخطأ خطأ فاحشا، ويحكم بكفره بعد البلاغ وإقامة الحجة عليه لتكذيبه لله ورسوله.
3 - هل توجد أدلة تدل على أن عيسى قد نشر دعوته لأناس في الهند وأفغانستان والسند وإيران؟ .(41/105)
جـ: الأصل الذي يعتمد عليه في مثل ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الصحيحة لا العقل، لأن المسألة خبرية محضة، ولا التاريخ؛ لأنه غير مأمون لعدم نقله بالأسانيد المتصلة الموثوق برواتها، ولذا كثر فيه الكذب، ولم يوجد في القرآن ما يدل على أن عيسى عليه السلام نشر دينه في البلاد المذكورة ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نعلم حديث يدل على ذلك، وإنما الذي ثبت أن الله بعثه إلى بنى إسرائيل وأنه بلغهم رسالة ربه، والذي اشتهر أن الديانة المسيحية كانت مهددة بخطر من اليهود بعد أن رفع الله المسيح ابن مريم إليه، وأنه ما كتب لها الانتشار إلا عن طريق حكومة الرومان، وهذه مسألة تاريخية لا يترتب على العالم بها فائدة ذات أهمية.
4 - لماذا طبعت الترجمة المذكورة في دولة إسلامية علما أن محمد أسد مستوطن في المملكة المغربية على علمنا، ولم أجد شيئا في الكتاب أو السنة المعروفة لدي مثبتا للأسئلة أعلاه، وسوف تقوي فتواكم يدي والرد على هذه الأمور وسد نشر الترجمة هنا؟ .
جـ: في ترجمته أخطاء فاحشة كفريات فاضحة من أجلها قرر المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة أنه يحرم طبعها ونشرها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/106)
السؤال الأول من الفتوى رقم 9087.
س: استشهاد الكنيسة بآيات من القرآن الكريم بأن عيسى عليه السلام ابن الله ودليلهم على ذلك قالوا: لما كان الله وحده قال تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} (1) بصفة المفرد، ولما خلق عيسى عليه السلام تغير أسلوب بعض الآيات إلى صيغة الجمع وضربوا مثلا بالآية الشريفة {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (2) و {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} (3) .
وقالوا: الله تعالى تكلم بصفة الجمع، أي بمعنى (الله وعيسى عليه السلام والروح القدس) ؟ .
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: ليس في تنوع الأسلوب القرآني وإخبار الله تعالى عن نفسه مرة بصيغة الإفراد وأخرى بصيغة قد تستعمل في الجمع أحيانا وفي المفرد أحيانا على وجه التعظيم ليس في ذلك دليل على بنوة عيسى عليه السلام لله، ولا على إلهيته، وذلك لوجوه:
الوجه الأول: أن تنوع الأسلوب في القرآن بالجمع والإفراد كان قبل أن يخلق الله تعالى عبده عيسى عليه السلام وأمه مريم بآلاف السنين وحين خلقهما وبعد أن خلقهما، فلا أثر لوجودهما في تنوع الأسلوب، بل ذلك لأمر آخر يتبين مما يأتي:
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (4) {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} (5)
__________
(1) سورة طه الآية 14
(2) سورة الحجر الآية 9
(3) سورة الحجر الآية 23
(4) سورة الحجر الآية 26
(5) سورة الحجر الآية 27(41/107)
وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} (1) فجاء الأسلوب متنوعا قبل أن يكون عيسى وأمه عليهما السلام، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} (2) إلى أن قال: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (3) {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (4) إلى أن قال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (5) وقال {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} (6) وقال في خليله إبراهيم عليه السلام: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} (7) {وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (8) وقال في كليمه موسى عليه السلام: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (9) {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} (10) وقال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (11) الآية، وقال: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (12)
__________
(1) سورة الكهف الآية 50
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) سورة المائدة الآية 44
(4) سورة المائدة الآية 45
(5) سورة المائدة الآية 48
(6) سورة نوح الآية 1
(7) سورة مريم الآية 49
(8) سورة مريم الآية 50
(9) سورة مريم الآية 52
(10) سورة مريم الآية 53
(11) سورة النساء الآية 163
(12) سورة الأنبياء الآية 91(41/108)
وقال: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ} (1) الآيات، وأمثالها من الآيات تنوع في الأسلوب إفرادا وجمعا في خلق عيسى ومخاطبته وقبل خلقه، ومن هذا يتبين أن الأسلوب ما تغير بعد خلق عيسى عليه السلام ليكون دليلا على بنوته لله أو إلهيته بل لأمر آخر يعرف من الوجه الثاني.
الوجه الثاني: أن كل من عرف لغة العرب وأسلوبهم في التعبير يعلم أن ضمير التكلم مثل كلمة (أنا) ، وتاء المتكلم يستعملها الفرد في الحديث عن نفسه، أما ضمير التكلم لفظ، (نحن) ، و (نا) ، فيستعملها الاثنان فأكثر، وقد يستعملها الفرد العظيم أو المتعاظم إشعارا لعظمته وسياق الكلام ومقتضى الحال وما احتف بالحديث من القرائن هو الذي يرشد القارئ والسامع إلى المراد ويعين المقصود، ومن خالف في ذلك فهو إما جاهل عميت عليه الأنباء، وإما معاند يريد التلبيس وتحريف الكلم عن مواضعه، اتباعا للهوى، ويأبى الله إلا أن يحق الحق بكلماته ولو كره المجرمون، يكشف ذلك الوجه الثالث.
الوجه الثالث: أن القرآن كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خبير، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، يفسر بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، وقد قال تعالى فيه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} (2) {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} (3) {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} (4) {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} (5) {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} (6) {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (7)
__________
(1) سورة المائدة الآية 110
(2) سورة مريم الآية 88
(3) سورة مريم الآية 89
(4) سورة مريم الآية 90
(5) سورة مريم الآية 91
(6) سورة مريم الآية 92
(7) سورة مريم الآية 93(41/109)
وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) وقال: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (5) فوجب على من آمن به أن يجمع بين آياته، ولزم من استدل بنصوصه أن ينصفه من نفسه، فلا يستدل ببعضه ويعرض عن بعض، وإلا يلبس الحق بالباطل ليضرب بعضه ببعض بغيا وعدوانا ترويجا للباطل كما فعل أسلافهم السود بالتوراة، فأنكر الله عليهم ذلك بقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (6) الآيات.
وعلى هذا لزم من نحا القرآن ليستدل به أن ينفي بنوة عيسى عليه السلام لله وإلهيته مع الله، ويثبت وحدانية الله تعالى، لما ذكر من الآيات ولقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (7) {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (8) الآيات وأمثال ذلك في القرآن كثير، وإلا فليكفوا عن هذا التلاعب حتى لا يلزمهم العار، ويضحكوا العقلاء من أنفسهم، ويحق فيهم المثل القائل: (ليس هذا بعشك فادرجي) .
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة آل عمران الآية 59
(6) سورة البقرة الآية 85
(7) سورة المائدة الآية 72
(8) سورة المائدة الآية 73(41/110)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(41/111)
فتوى رقم 262
س: هل عيسى حي أو ميت في نظر القرآن الكريم والسنة المطهرة؟ . الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن المسيح عيسى عليه الصلاة والسلام لم يزل حيا، وأن الله رفعه إلى السماء، وأنه سينزل آخر الزمان حكما عدلا يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويدعوا إلى ما جاء به من الحق وعلى ذلك دلت نصوص القرآن والأحاديث الصحيحة، قال الله تعالى في فرية اليهود والرد عليها: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (1) {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (2) فأنكر سبحانه على اليهود زعمهم أنهم قتلوه أو صلبوه وأخبر أنه رفعه إليه رحمة به وتكريما له وجعل ذلك آية من آياته التي يؤتيها من شاء من رسله، وما أكثر آيات الله في عيسى ابن مريم أولا وآخرا، ومقتضى الإضراب في قوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (3) أن يكون الله قد رفع عيسى بدنا وروحا حتى يتحقق به الرد على زعم اليهود أنهم قتلوه أو
__________
(1) سورة النساء الآية 157
(2) سورة النساء الآية 158
(3) سورة النساء الآية 158(41/111)
صلبوه، لأن القتل والصلب إنما يكون للبدن أصالة ولأن رفع الروح وحدها لا ينافي دعواهم الصلب والقتل فلا يكون رفعها وحدها ردا عليهم؛ ولأن ذلك مقتضى كمال عزته وقوته وتكريمه ونصره من شاء من رسله حسبما قضى به قوله تعالى في ختام الآية: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (1) وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} (2) فأخبر سبحانه بأن جميع أهل الكتاب سوف يؤمنون بعيسى قبل موته، أي موت عيسى، وذلك عند نزوله آخر الزمان حكما عدلا داعيا إلى الإسلام كما سيجيء بيانه في حديث نزوله، وهذا المعنى هو المتعين فإن الكلام سبق لبيان موقف اليهود من عيسى وصنيعهم معه ولبيان سنة الله في إنجائه ورد كيد أعدائه، فيتعين رجوع الضميرين المجرورين إلى عيسى رعاية لسياق الكلام، وتوحيدا لمرجع الضميرين، وثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد" قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: (4) » الآية. وفي رواية عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم (5) » وثبت في الصحيح أيضا أن جابر بن عبد الله سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «" لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة (6) » قال: «" فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعال صل لنا. فيقول: لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة (7) » فدلت الأحاديث على نزوله آخر الزمان، وعلى أنه
__________
(1) سورة النساء الآية 158
(2) سورة النساء الآية 159
(3) صحيح البخاري البيوع (2222) ، صحيح مسلم الإيمان (155) ، سنن الترمذي الفتن (2233) ، سنن أبو داود الملاحم (4324) ، سنن ابن ماجه الفتن (4078) ، مسند أحمد بن حنبل (2/272) .
(4) سورة النساء الآية 159 (3) {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}
(5) صحيح مسلم الإيمان (155، 8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) ، باقي مسند المكثرين (2/336) .
(6) صحيح مسلم الإيمان (156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/384) .
(7) صحيح مسلم الإيمان (156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/384) .(41/112)
يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أن إمام هذه الأمة في الصلاة وغيرها أيام نزول عيسى من هذه الأمة، وعلى ذلك لا تكون هناك منافاة بين نزوله وبين ختم النبوة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حيث لم يأت عيسى برسالة جديدة، ولله الحكم أولا وآخرآ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا معقب لحكمه، وهو العزيز الحكيم.
فمن زعم أن عيسى عليه الصلاة والسلام صلب أو قتل فهو كافر لمخالفته لصريح القرآن ولما ثبت من الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قال من المسلمين أن الله تعالى أمات عيسى عليه الصلاة والسلام موتا حقيقيا ثم رفعه إليه حينما كاد له اليهود وعزموا على صلبه وقتله فقد شذ عن جماعة المسلمين وضل عن سواء السبيل، لمخالفته ظواهر نصوص القرآن والسنة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي حداهم إلى هذا فهمهم الخاطئ لقوله تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (1) حيث فسر التوفي بالإماتة فخالف بذلك ما صح عن السلف من تفسيره بقبض الله إياه من الأرض ورفعه إليه حيا وتخليصه بذلك من الذين كفروا جمعا بين نصوص الكتاب والسنة الصحيحة على رفعه حيا وعلى نزوله آخر الزمان وإيمان أهل الكتاب جميعا وغيرهم به. وما روي عن ابن عباس من تفسير التوفي هنا بالإماتة فغير صحيح لانقطاع سنده إذ هو من رواية علي بن أبي طلحة عنه، وعلي لم يسمع منه ولم يره، وإنما روى عنه بواسطة، ولم يصح أيضا ما روي عن وهب بن منبه اليماني من تفسير التوفي بالإماتة لأنه من رواية ابن إسحاق عن يهم عن وهب، ففيه عنعنة ابن إسحاق وهو مدلس، وفيه مجهول، ثم هذا التفسير لا يزيد عن كونه احتمالا
__________
(1) سورة آل عمران الآية 55(41/113)
في معنى التوفي، فإنه قد فسر بأن الله قد قبضه من الأرض بدنا وروحا ورفعه إليه حيا، وفسر بأنه أنامه ثم رفعه، وبأنه يميته بعد رفعه ونزوله آخر الزمان، إذ الواو لا تقتضي الترتيب، وإنما تقتضي جمع الأمرين له فقط، وإذا اختلفت الأقوال في معنى الآية وجب المصير إلى القول الذي يوافق ظواهر الأدلة الأخرى جمعا بين الأدلة، وردا للمتشابه منها إلى المحكم، كما هو شأن الراسخين في العلم دون أهل الزيغ الذين يتبعون ما تشابه من التنزيل ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وكذلك القول في اختلافهم في تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (1) فيجب المصير فيه إلى معنى يتفق مع سياق الكلام وما ثبت من أحاديث نزول عيسى آخر الزمان وإيمان أهل الكتاب جميعا وغيرهم به، جمعا بين الأدلة، ومحافظة على مقصد المتكلم من كلامه فمن نظر إلى هذه الآية مجردة عما قبلها وعن القصد الذي سيقت له وعن الأدلة الأخرى التي وردت في موضوعها وتأولها على معنى: لا أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن بالله أو بعيسى قبل موته أي الكتابي فقد خالف ظاهر الآية وسياق الكلام وما ثبت من الأدلة الأخرى في شأن عيسى، وكان بذلك ممن اتبع ما تشابه من المنزل ولم يرده إلى المحكم منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فحق عليه وعيد من في قلوبهم زيغ، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً} (3) ثم إن من يقول بإماتة الله لعيسى حين كاد له اليهود إما أن
__________
(1) سورة النساء الآية 159
(2) سورة آل عمران الآية 7
(3) سورة آل عمران الآية 8(41/114)
يعترف بنزول عيسى عليه السلام آخر الزمان عملا بما ورد من الأحاديث الصحيحة في ذلك وإما أن ينكر نزوله، فإن اعترف به لزمه أن يثبت لعيسى موتا آخر بعد النزول ثم حياة عند البعث وهذا مخالف بلا دليل لقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) ولقوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} (2) وإن أنكر نزوله بعد رفعه كان ردا للأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول عند علماء المسلمين الشاهدة شهادة صريحة بنزوله ودعوته إلى الحق وحكمه به وقتله الخنزير وكسره الصليب. . الخ ما ثبت من أحواله بعد نزوله، وكلا الأمرين لا مخلص منه إلا بالقول بما قال به أهل السنة والجماعة من إنجاء الله عيسى من كيد اليهود ورفعه إليه بدنا وروحا، وإنزاله آخر الزمان حكما عدلا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) سورة البقرة الآية 28
(2) سورة غافر الآية 11(41/115)
صفحة فارغة(41/116)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
ما يشرع في التوسل بالنبي ومالا يشرع
س:. ما حكم التوسل بسيد الأنبياء، وهل هناك أدلة على تحريمه؟ .
جـ: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه تفصيل، فإن كان ذلك باتباعه ومحبته وطاعة أوامره وترك نواهيه والإخلاص لله في العبادة فهذا هو الإسلام وهو دين الله الذي بعث به أنبياءه، وهو الواجب على كل من. . وهو الوسيلة للسعادة في الدنيا والآخرة، أما التوسل بدعائه والاستغاثة به وطلبه النصر على الأعداء والشفاء للمرضى- فهذا هو الشرك الأكبر، وهو دين أبي جهل وأشباهه من عبدة الأوثان، وهكذا فعل ذلك مع غيره من الأنبياء والأولياء أو الجن أو الملائكة أو الأشجار أو الأحجار أو الأصنام. وهناك نوع ثالث يسمى التوسل وهو التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم أو بحقه أو بذاته مثل أن يقول الإنسان: أسألك يا الله بنبيك أو جاه نبيك أو حق نبيك أو جاه الأنبياء أو حق الأنبياء أو جاه الأولياء والصالحين وأمثال ذلك فهذا بدعة ومن وسائل الشرك ولا يجوز فعله معه صلى الله عليه وسلم ولا مع غيره؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرع ذلك والعبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما دل عليه الشرع المطهر، وأما توسل الأعمى به في حياته صلى الله عليه وسلم فهو توسل به صلى الله عليه وسلم ليدعو له(41/117)
ويشفع له إلى الله في إعادة بصره إليه، وليس توسلا بالذات أو الجاه أو الحق كما يعلم ذلك من سياق الحديث وكما أوضح ذلك علماء السنة في شرح الحديث.
وقد بسط الكلام في ذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتبه الكثيرة المفيدة، ومنها كتابه المسمى: القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة، وهو كتاب مفيد جدير بالاطلاع عليه والاستفادة منه.
وهذا الحكم جائز مع غيره صلى الله عليه وسلم من الأحياء كأن تقول لأخيك أو أبيك أو من تظن فيه الخير: ادع الله لي أن يشفيني من مرضى أو يرد علي بصري أو يرزقني الذرية الصالحة أو نحو ذلك بإجماع أهل العلم. والله ولي التوفيق.(41/118)
حكم الذبح عند الأضرحة ودعاء أهلها
س: ما حكم التقرب بذبح الذبائح في أضرحة الأولياء الصالحين وقول: (بحق وليك الصالح فلان اشفنا أو أبعد عنا الكرب الفلاني) ؟ .
جـ من المعلوم بالأدلة من الكتاب والسنة أن التقرب بالذبح لغير الله من الأولياء أو الجن أو الأصنام أو غير ذلك من المخلوقات- شرك بالله ومن أعمال الجاهلية والمشركين، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) ، والنسك هو "الذبح "، بين سبحانه في هذه الآية أن الذبح لغير الله شرك بالله كالصلاة لغير الله. . . قال تعالى:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163(41/118)
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (1) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) ، أمر الله سبحانه نبيه في هذه السورة الكريمة أن يصلي لربه وينحر له خلافا لأهل الشرك الذين يسجدون لغير الله ويذبحون لغيره. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (3) ، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (4) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة. والذبح من العبادة فيجب إخلاصه لله وحده. وفي صحيح مسلم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (5) » .
وأما قول القائل: أسأل الله بحق أوليائه أو بجاه أوليائه أو بحق النبي أو بجاه النبي- فهذا ليس من الشرك ولكنه بدعة عند جمهور أهل العلم ومن وسائل الشرك؛ لأن الدعاء عبادة وكيفيته من الأمور التوقيفية ولم يثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم ما يدل على شرعية أو إباحة التوسل بحق أو جاه أحد من الخلق فلا يجوز للمسلم أن يحدث توسلا لم يشرعه الله سبحانه، لقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (6) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (7) » ، متفق على صحته، وفي رواية لمسلم وعلقها البخاري في صحيحه جازما بها «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (8) » ، ومعنى قوله: " فهو رد " أي مردود على صاحبه لا يقبل، فالواجب على أهل الإسلام التقيد بما شرعه الله والحذر مما أحدثه الناس من البدع.
__________
(1) سورة الكوثر الآية 1
(2) سورة الكوثر الآية 2
(3) سورة الإسراء الآية 23
(4) سورة البينة الآية 5
(5) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(6) سورة الشورى الآية 21
(7) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(8) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(41/119)
أما التوسل المشروع فهو التوسل بأسماء الله وصفاته وبتوحيده وبالأعمال الصالحات ومنها الإيمان بالله ورسوله ومحبة الله ورسوله ونحو ذلك من أعمال البر والخير والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله سبحانه: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) ، «ومنها أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) فقال صلى الله عليه وسلم: " لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب " (2) » أخرجه أهل السنن الأربع وصححه ابن حبان. ومنها حديث أصحاب الغار الذين توسلوا إلى الله سبحانه وتعالى بأعمالهم الصالحة فإن الأول منهم توسل إلى الله سبحانه ببره بوالديه، والثاني توسل إلى الله بعفته عن الزنا بعد قدرته عليه، والثالث توسل إلى الله سبحانه بكونه نمى أجرة الأجير ثم سلمها له، ففرج الله كربتهم وقبل دعاءهم وأزال عنهم الصخرة التي سدت عليهم باب الغار، والحديث متفق على صحته. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) سنن الترمذي الدعوات (3475) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3857) .(41/120)
حكم الذبح لله وللخضر بالحلم
س: هذا سؤال وردنا من سوريا من بلدة الرقة من المرسل ح. س يقول في رسالته: كثيرا ما تحلم بعض النساء أنه جاءها رجل وقال لها: اذبحوا لله وللخضر ذبائح وإلا فيقبل عليكم مرض. ويقولون أيضا: إن الذي لا يذبح تنقص عائلته بالموت. أفيدونا أفادكم الله.(41/120)
جـ: هذا الحلم وما أشبهه من الشيطان، يدعو به الناس إلى الشرك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان فإذا رأى أحدكم ما يكره فلينفث عن يساره ثلاث مرات وليستعذ بالله من الشيطان ومن شر ما رآه ثلاث مرات ثم ينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره ولا يخبر بها أحدا (1) » متفق على صحته، فإذا رأى الرجل أو المرأة هذا الحلم أو رأى أنه يضرب أو يهدد بقتل أو نحو ذلك فإن ذلك من الشيطان فعليه حين يستيقظ أن ينفث عن يساره ثلاث مرات بريق خفيف ويقول: (أعوذ بالله من الشيطان ومن شر ما رأيت) ثلاث مرات ثم ينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره ولا يخبر بها أحدا.
ومعلوم أن الذبح لله عبادة في أي وقت كالضحايا والهدايا، أما الذبح للخضر وغيره من الأنبياء والأولياء فمنكر وشرك بالله عز وجل؛ لأن الذبح لله عبادة له عز وجل وصرفه لغيره شرك به سبحانه لقول الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (3) ، وقوله سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (4) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (5) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (6) » خرجه مسلم في صحيحه من حديث علي رضي الله عنه، فلا يجوز الذبح للخضر ولا للبدوي ولا للحسين ولا لغيرهم من الناس ولا للأصنام ولا للجن، بل الذبح لله وحده والتقرب بالذبائح يكون لله وحده سبحانه وتعالى كالضحايا
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5747) ، صحيح مسلم الرؤيا (2261) ، سنن الترمذي الرؤيا (2277) ، سنن أبو داود الأدب (5021) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3909) ، مسند أحمد بن حنبل (5/303) ، موطأ مالك الجامع (1784) ، سنن الدارمي الرؤيا (2141) .
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 163
(4) سورة الكوثر الآية 1
(5) سورة الكوثر الآية 2
(6) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .(41/121)
والهدايا كما تقدم. أما الخضر عليه السلام وغره من الناس فلا يجوز الذبح لهم ولا صرف شيء من العبادة لهم فالتقرب إليهم بالذبائح ليشفعوا لك أو ليشفوا ولدك كل هذا من الشرك الأكبر والعياذ بالله، وهكذا الذبح للأصنام والجن والكواكب كله شرك أكبر فيجب الحذر من ذلك كله والتواصي بتركه والتناصح بذلك حتى يكون الذبح لله وحده كما تجب الصلاة له وحده وسائر العبادات لقوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1) ، وقوله سبحا نه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) وقوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3)
والآيات في هذا المعنى كثيرة. وهكذا الدعاء والاستغاثة فلا يستغاث بالخضر ولا بغيره من الخلق بل يجب أن تكون الاستغاثة بالله وحده فلا يستغاث بالأنبياء ولا بالملائكة ولا بالأصنام ولا بالكواكب ولا بالأموال وإنما يستغاث بالله وحده ولا يطلب المدد إلا منه سبحانه لأنه سبحانه هو الذي يملك كل شيء وهو القادر على كل شيء سبحانه وتعالى. أما الحي القادر الحاضر فلا بأس أن يستعان به فيما يقدر عليه تقول يا أخي ساعدني على كذا وهو يسمعك أو بالمكاتبة أو من طريق الهاتف تقول أعنى على كذا أو أقرضني كذا فهذا لا بأس به لأنه من الأمور العادية ومن الأسباب الحسية فلا حرج فيها لقوله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (4) ، وقوله سبحانه
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) سورة المائدة الآية 2(41/122)
وتعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (2) » رواه مسلم في صحيحه.
لكن إذا أتيت إلى الميت وقلت له: يا سيدي البدوي أشف مريضي أو رد غائبي أو المدد المدد أو يا سيدي الحسين أو يا سيدي يا رسول الله أو يا سيدي ابن عربي أو ابن علوان أو العيدروس أو يا شيخ عبد القادر أو غيره من الأموات والغائبين، فكل هذا شرك أكبر لا يجوز، فيجب على كل مسلم أن يحذره وأن ينكر ذلك على من فعله، ويجب على العلماء أن ينصحوا الناس ويعلموهم لقول الله سبحانه: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) ، ولقوله عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (4) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (5)
فسمى دعاءهم لغير الله شركا، وهكذا قوله سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (6) ، فوصف الداعين لغير الله بأنهم كفار وأنهم لا يفلحون فيجب التنبه لهذا الأمر العظيم الذي وقع فيه الكثير من الناس في بلدان كثيرة ويجب على أهل العلم أن ينصحوا لله ولعباده وأن
__________
(1) سورة القصص الآية 15
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة فاطر الآية 13
(5) سورة فاطر الآية 14
(6) سورة المؤمنون الآية 117(41/123)
يعلموا هؤلاء الجهال حتى يتوبوا إلى الله سبحانه من دعوة أصحاب القبور والاستغاثة بهم ويعلموهم أن يدعوا الله وحده سبحانه وتعالى وأن يستغيثوا به في حاجاتهم. أما الحي الحاضر القادر فلا بأس بالاستعانة به فيما يقدر عليه كما تقدم، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم الشفاعة والعون وهو حي فيشفع لهم ويعينهم على ما ينفعهم، لكن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يسألونه شيئا لعلمهم بأن ذلك لا يجوز.
وهكذا يوم القيامة حين يبعثه الله يسأله الناس أن يشفع لهم فيجيبهم إلى ذلك بعد إذن الله له سبحانه، لأنه حي حاضر بين أيديهم، أما بعدما توفاه الله وقبل يوم القيامة فإنه لا يدعي ولا يستغاث به بإجماع أهل العلم من أهل السنة والجماعة للأدلة السابقة. وهكذا غيره كالخضر أو نوح أو عيسى لا يدعون مع الله ولا يستغاث بهم ولا ينذر لهم ولا يذبح لهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار (1) » رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. والمعنى أن من دعا ميتا أو صالحا أو شجرا أو ملكا أو غيرهم فقد جعله ندا لله واتخذه إلها معه، وذلك من الشرك الأكبر الذي يوجب لمن مات عليه الخلود في النار كما قال الله سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2) ، وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة كلها تدل على ما دل عليه حديث ابن مسعود المذكور
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4497) ، صحيح مسلم الإيمان (92) ، مسند أحمد بن حنبل (1/443) .
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة النساء الآية 48(41/124)
فيجب على أهل العلم وعلى كل من عنده بصيرة أن يعلموا الناس العقيدة الصحيحة ويحذروهم من هذا الشرك في كل مكان وفي كل زمان لقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ، وقوله عز رجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) ، وقول النبي عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة" قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (3) » " خرجه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه، ولقول النبي عليه الصلاة والسلام: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (4) » ، «ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى خيبر ليدعو اليهود إلى الإسلام قال له عليه الصلاة والسلام: " ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (5) » متفق على صحته. أقسم عليه الصلاة والسلام- وهو الصادق وإن لم يحلف- أن هداية واحد على يد الداعية إلى الله خير له من حمر النعم يعني خير من جميع النوق الحمر، والمعنى خير من الدنيا وما عليها، فدل ذلك على وجوب التناصح والدعوة إلى الله وبيان حق الله على عباده وتحذيرهم من الشرك حتى يكون الناس على بينة وعلى بصيرة كما يدل على أن المقصود من الجهاد هو هداية الكفار وإخراجهم من الظلمات إلى النور لا قتالهم ولا سبي نسائهم وأموالهم، وإنما يلجأ المسلمون إلى القتال عند امتناع الكفار من الدخول في الإسلام ومن بذل الجزية إذا كانوا من أهلها.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(4) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(5) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(41/125)
والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(41/126)
حكم زيارة النساء للقبور
س: هل تشرع زيارة القبور للنساء؟
جـ: ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه «لعن زائرات القبور (1) » من حديث ابن عباس ومن حديث أبي هريرة ومن حديث حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنهم جميعا. وأخذ العلماء من ذلك أن الزيارة للنساء محرمة؛ لأن اللعن لا يكون إلا على محرم، بل يدل على أنه من الكبائر، لأن العلماء ذكروا أن المعصية التي يكون فيها اللعن أو فيها وعيد تعتبر من الكبائر. فالصواب أن الزيارة من النساء للقبور محرمة لا مكروهة فقط. والسبب في ذلك والله أعلم أنهن في الغالب قليلات الصبر، فقد يحصل منهن من النياحة ونحوها ما ينافي الصبر الواجب، وهن فتنة، فزيارتهن للقبور واتباعهن للجنائز قد يفتتن بهن الرجال وقد يفتتن بالرجال، والشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بسد الذرائع المفضية إلى الفساد والفتن، وذلك من رحمة الله بعباده، وقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (2) » متفق على صحته. فوجب بذلك سد الذرائع المفضية إلى الفتنة المذكورة. . ومن ذلك ما جاءت به الشريعة المطهرة صت تحريم تبرج النساء وخضوعهن بالقول للرجال وخلوة المرأة بالرجل غير المحرم وسفرها بلا محرم وكل ذلك من باب
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5096) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2741) ، سنن الترمذي الأدب (2780) ، سنن ابن ماجه الفتن (3998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/210) .(41/126)
سد الذرائع المفضية إلى الفتنة بهن، وقول بعض الفقهاء: إنه استثنى من ذلك قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما- قول بلا دليل، والصواب أن المنع يعم الجميع، يعم جميع القبور حتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وحتى قبر صاحبيه رضي الله عنهما. وهذا هو المعتمد من حيث الدليل. وأما الرجال فيستحب لهم زيارة القبور وزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام وقبر صاحبيه، لكن بدون شد الرحل؛ أما شد الرحال لزيارة القبور فلا يجوز، وإنما يشرع لزيارة المساجد الثلاثة خاصة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى (1) » متفق على صحته، وإذا زار المسلم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم دخل في ذلك على سبيل التبعية زيارة قبره صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه وقبور الشهداء وأهل البقيع وزيارة مسجد قباء من دون شد الرحل، فلا يسافر لأجل الزيارة ولكن إذا كان في المدينة شرع له زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، وزيارة البقيع والشهداء ومسجد قباء، أما شد الرحال من بعيد لأجل الزيارة فقط فهذا لا يجوز على الصحيح من قولي العلماء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى (2) » ، أما إذا شد الرحل إلى المسجد النبوي فإن الزيارة للقبر الشريف والقبور الأخرى تكون تبعا لذلك، فإذا وصل المسجد صلى فيه ما تيسر ثم زار قبر النبي صلى الله عليه وسلم وزار قبر صاحبيه وصلى وسلم عليه، عليه الصلاة والسلام ودعا له ثم سلم على الصديق رضي الله عنه ودعا له ثم على الفاروق ودعا له، هكذا السنة، وهكذا القبور الأخرى لو زار مثلا دمشق أو القاهرة أو الرياض أو أي بلد يستحب له زيارة القبور لما فيها من العظة والذكرى والإحسان إلى الموتى
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(41/127)
بالدعاء لهم والترحم عليهم إذا كانوا مسلمين، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » ، وكان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين (2) » ، هذه هي السنة من دون شد الرحل، ولست لا يزورهم لدعائهم من دون الله؛ لأن هذا شرك بالله عز وجل وعبادة لغيره وقد حرم الله ذلك على عباده في قوله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) ، وقال سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (4) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (5) ، فبين سبحانه أن دعاء العباد للموتى ونحوهم شرك به سبحانه وعبادة لغيره وهكذا قوله سبحانه:
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (6) ، فسمي الدعاء لغير الله كفرا، فوجب على المسلم أن يحذر هذا، ووجب على العلماء أن يبينوا للناس هذه الأمور حتى يحذروا الشرك بالله، فكثير من العامة إذا مر بقبور من يعظمهم استغاث بهم وقال: المدد المدد يا فلان أغثني انصرني اشف مريضي، وهذا هو الشرك الأكبر والعياذ بالله، وهذه الأمور تطلب من الله عز وجل لا من الموتى
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (975) ، سنن النسائي الجنائز (2040) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1547) ، مسند أحمد بن حنبل (5/353) .
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة فاطر الآية 13
(5) سورة فاطر الآية 14
(6) سورة المؤمنون الآية 117(41/128)
ولا من غيرهم من المخلوقين. أما الحي فيطلب منه ما يقدر عليه إذا كان حاضرا يسمع كلامك أو من طريق الكتابة أو من طريق الهاتف وما أشبه ذلك من الأمور الحسية تطلب منه ما يقدر عليه، تبرق له أو تكتب له أو تكلمه في الهاتف تقول ساعدني على عمارة بيتي أو على إصلاح مزرعتي، لأن بينك وبينه شيئا من المعرفة أو التعاون، وهذا لا بأس به، كما قال الله عز وجل في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) الآية.
أما أن تطلب من الميت أو الغائب أو الجماد كالأصنام شفاء مريض أو النصر على الأعداء أو نحو ذلك فهذا من الشرك الأكبر وهكذا طلبك من الحي الحاضر مالا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى يعتبر شركا به سبحانه وتعالى؛ لأن دعاء الغائب بدون الآلات الحسية معناه اعتقاد أنه يعلم الغيب أو أنه يسمع دعاءك وإن بعد، وهذا اعتقاد باطل يوجب كفر من اعتقده، يقول الله جلا وعلا: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (2) ، أو تعتقد أن له سرا يتصرف به في الكون فيعطى من يشاء ويمنع من يشاء كما يعتقده بعض الجهلة في بعض من يسمونهم بالأولياء، وهذا شرك في الربوبية أعظم من شرك عباد الأوثان، فالزيارة الشرعية للموتى زيارة إحسان وترحم عليهم وذكر للآخرة والاستعداد لها، فتذكر أنك ميت مثل ما ماتوا فتستعد للآخرة وتدعو لإخوانك المسلمين الميتين وتترحم عليهم وتستغفر لهم، وهذه هي الحكمة في شرعية الزيارة للقبور والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة القصص الآية 15
(2) سورة النمل الآية 65(41/129)
هل الذنوب تسبب محق البركة
س: الأخت التي رمزت لاسمها بـ: أ- ع من الرياض تقول في سؤالها: قرأت أن من نتائج الذنوب العقوبة من الله ومحق البركة فأبكي خوفا من ذلك، أرشدوني جزاكم الله خيرا؟ .
جـ لا شك أن اقتراف الذنوب من أسباب غضب الله عز وجل ومن أسباب محق البركة وحبس الغيث وتسليط الأعداء كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (1) ، وقال سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (2) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ".
فالواجب على كل مسلم ومسلمة الحذر من الذنوب والتوبة مما سلف منهما مع حسن الظن بالله ورجائه سبحانه المغفرة والخوف من غضبه وعقابه كما قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن عباده الصالحين: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (3) ، وقال سبحانه:
__________
(1) سورة الأعراف الآية 130
(2) سورة العنكبوت الآية 40
(3) سورة الأنبياء الآية 90(41/130)
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (1) ، وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) .
ويشرع للمؤمن والمؤمنة مع ذلك الأخذ بالأسباب التي أباح الله عز وجل، وبذلك يجمع بين الخوف والرجاء والعمل بالأسباب متوكلا على الله سبحانه معتمدا عليه في حصول المطلوب والسلامة من المرهوب والله سبحانه هو الجواد الكريم القائل عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) ، والقائل سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (5) ، وهو القائل سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (6) .
فالواجب عليك أيتها الأخت في الله التوبة إلى الله سبحانه مما سلف من الذنوب والاستقامة على طاعته مع حسن الظن به عز وجل والحذر من أسباب غضبه وأبشري بالخير الكثير والعاقبة الحميدة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 57
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة الطلاق الآية 4
(6) سورة النور الآية 31(41/131)
الكبائر تؤثر في إسلام العبد
س: ما حكم ارتكاب بعض المعاصي لا سيما الكبائر وهل يؤثر ذلك في تمسك العبد بالإسلام؟
جـ: نعم يؤثر ذلك فإن ارتكاب الكبائر كالزنا وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق وأكل الربا والغيبة والنميمة وغير ذلك من المعاصي يؤثر في توحيد الله والإيمان به ويضعفه، ولكن لا بكفر المسلم بشيء من ذلك ما لم يستحله خلافا للخوارج، فإنهم يكفرون المسلم بفعل المعصية كالزنا والسرقة وعقوق الوالدين وغير ذلك من كبائر الذنوب ولو لم يستحلها، وهذا غلط عظيم من الخوارج، فأهل السنة والجماعة لا يكفرونه بذلك ولا يخلدونه في النار ولكنهم يقولون هو ناقص الإيمان والتوحيد لكن لا يكفر كفرا أكبر بل يكون في إيمانه نقص وضعف. ولهذا شرع الله في حق الزاني الحد بالجلد إذا كان بكرا يجلد مائة جلدة ويغرب عاما، وهكذا شارب المسكر يجلد ولا يقتل، وهكذا السارق تقطع يده ولا يقتل. فلو كان الزنا وشرب السكر والسرقة توجب الكفر الأكبر لقتلوا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه.
فدل ذلك على أن هذه المعاصي ليست ردة ولكنها تضعفه الإيمان وتنقصه فلهذا شرع الله تأديبهم بهذه الحدود ليتوبوا ويرجعوا إلى ربهم ويرتدعوا عما حرم عليهم ربهم سبحانه. وقالت المعتزلة إن العاصي في منزلة بين منزلتين ولكنه يخلد في النار إذا مات عليها، فخالفوا أهل السنة ووافقوا الخوارج في ذلك، وكلتا الطائفتين قد ضلت عن السبيل. والصواب هو القول الأول، وهو قول أهل السنة
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017) ، سنن الترمذي الحدود (1458) ، سنن النسائي تحريم الدم (4060) ، سنن أبو داود الحدود (4351) ، سنن ابن ماجه الحدود (2535) ، مسند أحمد بن حنبل (1/282) .(41/132)
والجماعة، وهو أنه يكون عاصيا ضعيف الإيمان وعلى خطر عظيم من غضب الله وعقابه ولكنه ليس بكافر الكفر الأكبر الذي هو الردة عن الإسلام، ولا يخلد في النار أيضا خلود الكفار إذا مات على شيء منها بل يكون تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه على قدر المعاصي التي مات عليها ثم يخرجه من النار ولا يخلد فيها أبد الآباد إلا الكفار، ثم بعد مضى ما حكم الله عليه من العذاب يخرجه الله من النار إلى الجنة وهذا قول أهل الحق وهذا هو الذي تواترت به الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم خلافا للخوارج والمعتزلة والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ، فعلق سبحانه ما دون الشرك على مشيئته عز وجل.
أما من مات على الشرك الأكبر فإنه يخلد في النار والجنة عليه حرام، لقول الله سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2) ، وقال سبحانه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (3) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
أما العاصي إذا دخل النار فيبقى فيها إلى ما يشاء الله ولا يخلد خلود الكفار ولكن قد تطول مدته ويكون هذا خلودا خاصا مؤقتا ليس مثل خلود الكفار، كما قال سبحانه في آية الفرقان لما ذكر المشرك
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة التوبة الآية 17(41/133)
والقاتل والزاني قال سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (1) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (2) ، فهو خلود مؤقت له نهاية. أما المشرك فخلوده دائم أبد الآباد، ولهذا قال عز وجل في حق المشركين في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (3) ، وقال سبحانه في سورة المائدة في حق الكفرة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (4) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) سورة الفرقان الآية 69
(3) سورة البقرة الآية 167
(4) سورة المائدة الآية 37(41/134)
وجوب التصديق مع الشهادتين
س: النطق بالشهادة لا شك أنه لا بد معه من التصديق، فما هو؟ جـ: أولا لا بد من النطق بالشهادتين، فلو أمكنه النطق ولكنه امتنع من النطق لم يدخل في الإسلام حتى ينطق بالشهادتين، وهذا محل إجماع من أهل العلم، ثم مع النطق لا بد من اعتقاد معنى الشهادتين والصدق في ذلك، وذلك بأن يعتقد بأنه لا معبود حق إلا الله ولو قالها كاذبا كالمنافقين يقولونها وهم يعتقدون أن مع الله آلهة أخرى لم تنفعهم هذه الكلمة ولم يدخلوا في الإسلام باطنا، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) ، وقال عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (2) . فلا بد من
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة البقرة الآية 8(41/134)
التصديق بالقلب واليقين بأنه لا معبود حق إلا الله، فإن استكبر عن الانقياد لشرع الله كفر ولم ينفعه النطق بالشهادتين. قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) ، وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (2) ، وهكذا لو استكبر عن الشهادة بأن محمدا رسول الله أو قالها كاذبا فإنه يكون كافرا حتى يؤمن بأن محمدا رسول الله وينقاد لشرعه وهذا أمر مجمع عليه بين أهل العلم. والله المستعان.
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة غافر الآية 60(41/135)
لا يجوز بدء الكفار بالسلام
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ش. ع. ج سلمه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . . . وبعد:
فأشير إلى استفتائك المقيد بإدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 1841 وتاريخ 1 \ 5 \ 1408 الذي تسأل فيه عن عدد من الأسئلة، وأفيدك أن الكفار لا يجوز بدؤهم بالسلام، أما المسلمون فالسنة أن يسلم عليهم وان كانوا مرتكبين لبعض المعاصي، مع بذل النصح لهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، فإذا أصروا على معاصيهم الظاهرة ولم يقبلوا النصح استحقوا الهجر بترك بداءتهم بالسلام وعدم الرد عليهم إلا إذا اقتضت المصلحة(41/135)
الشرعية بداءتهم بالسلام أو الرد عليهم. وسبق أن صدر من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتاوى فيما سألت عنه وفيها الكفاية إن شاء الله.
وفق الله الجميع لما فيه رضاه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. .(41/136)
طريقة النصيحة لمن يجاهر بالمعاصي
س: رسالة وصلت من الكويت باعثها يشكو من أخ له ويقول إنه يقترف بعض المعاصي وقد نصحه كثيرا إلا أن الأمر آل به إلى المجاهرة ويرجو التوجيه في هذا الموضوع؟
جـ: الواجب على المسلمين فيما بينهم التناصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) ، وقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) ، وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة " قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (5) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه. هاتان الآيتان مع الحديث الشريف كلها تدل على وجوب التناصح والتعاون على الخير واالتواصي بالحق. فإذا رأى المسلم من أخيه تكاسلا عما أوجب الله عليه، أو ارتكابا لما حرم الله عليه وجب نصحه وأمره بالمعروف
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(41/136)
ونهيه عن المنكر حتى يصلح المجتمع ويظهر الخير ويختفي الشر كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) ، وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه. فأنت أيها السائل مادمت نصحته ووجهته إلى الخير ولكنه ما زاده ذلك إلا إظهارا للمعصية فينبغي لك هجره وعدم اتخاذه صاحبا. وينبغي لك أن تشجع غيرك من الذين قد يؤثرون عليه وقد يحترمهم أكثر على نصيحته ودعوته إلى الله لعل الله ينفع بذلك، وإن رأيت أن الهجر يزيده شرا وأن اتصالك به أنفع له في دينه وأقل لشره فلا تهجره، لأن الهجر يقصد منه العلاج فهو دواء، فإذا كان لا ينفع بل يزيد الداء داءا فأنت تعمل ما هو الأصلح من الاتصال به وتكرار النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير اتخاذه صاحبا ولا خليلا لعل الله ينفع بذلك وهذا هو أحسن ما قيل في هذا من كلام أهل العلم رحمهم الله.
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(41/137)
صفحة فارغة(41/138)
التصوف في ميزان النقل والعقل
د. إبراهيم بن محمد البريكان
أستاذ مادة التيارات والمذاهب المعاصرة
بكلية المعلمين بالدمام
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الحق المبين، وأشهد أن محمدا رسول رب العالمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد،،
فإن الناس انقسموا في الصوفية على ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: تركت الصوفية وعلومها وذمتها بعجرها وبجرها ولم تستفد من كلامهم الموافق للكتاب والسنة مما يتعلق بآداب الإسلام الظاهرة والباطنة. قال ابن القيم رحمه الله عن هذه الطائفة (حجبت عن محاسن هذه الطائفة ولطف نفوسهم وصدق معاملتهم فأهدروها لأجل هذه الشطحات وأنكروها غاية الإنكار وأساءوا الظن بهم مطلقا وهذا عدوان وإسراف فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها (1) أ. هـ كلامه رحمه الله وغالب من
__________
(1) مدارج السالكين (2 \ 39) .(41/139)
ألف في التصوف في عصرنا هو من هذا النوع من الناس حتى أخذ منهم الأجحاف مأخذه فسبوا من نسب لهؤلاء من رجالات السلف الصالح.
والطائفة الثانية: أقبلت على علوم الصوفية بلا تمييز فأفاضوا بالمدائح على الصوفية واستماتوا في الدفاع عنها وقبلوا منهم كل قول حقا كان أو باطلا.
قال ابن القيم رحمه الله في وصف هذه الطائفة: (حجبوا بما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم وحسن معاملتهم عن رؤية شطحاتهم ونقصانها فسحبوا عليها ذيل المحاسن وأجروا عليها حكم القبول والانتصار لها واستظهروا بها في لوكهم وهؤلاء أيضا معتدون مفرطون) (1) أ. هـ كلامه رحمه الله.
وهم أيضا كثيرون في زماننا قد دعاهم هذا للتزيي بزي التصوف والدفاع عنه بلا حكمة ولا بصيرة وعذرهم هو اقتران التصوف الحديث بالبدعة.
والطائفة الثالثة: سلكت طريق العدالة فقبلوا منهم ما عندهم من الحق وردوا ما عندهم من الباطل مهتدين في ذلك بهدى الكتاب والسنة وهؤلاء يقول عنهم ابن القيم رحمه الله: (وهم أهل العدل والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح بل قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد) (2) أ. هـ كلامه رحمه الله. وهم قليلون في زماننا.
لذا أردت أن أكتب بحثا متوسط الحجم بين الطويل الممل والمختصر
__________
(1) مدارج السالكين (2 \ 40) .
(2) مدارج السالكين (2 \ 40) ،(41/140)
المخل مما تغمط بسببه العبارة وتدق الإشارة. أتوخى فيه العدل في الحكم على أقوالهم ورجالهم متخذا من كتاب الله وسنة رسوله ميزانا للحق إذ هو الإمام الذي يجب الاقتداء والاهتداء به دون سواه كما قال سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) وقال سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} (2) وقال سبحانه: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (3) وأرجو أن أكون فيما كتبت موفقا للصواب إن شاء الله وهذا أوان البدء في المقصود بإذن الله الإله المعبود فأقول وبالله التوفيق وأسأله السداد لأقوم الطريق.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة المائدة الآية 8
(3) سورة المائدة الآية 48(41/141)
التصوف في لغة العرب:
لم تعرف العرب التصوف بمعناه الاصطلاحي عند الصوفية بل ولم تستعمل مادة تصوف على وزن تفعل وإنما تكلمت العرب عن الصوف من مادة صوف بفتح الصاد والواو وهو للضأن من الغنم كالشعر للماعز وجمع الصوف أصواف على وزن أفعال وقد يطلق الصوف على الجمع تسمية للجمع باسم المفرد والأسماء منه أصواف وصوف بفتح الصاد وكسر الواو اسم للكبش كثير الصوف ويقال بمعناه صائف وصاف وصاف وصوفاني والأنثى منه صافة وصوفانه.
(الصوفة كل من ولي شيئا من عمل البيت) أي الكعبة.
(وصاف عني شره يصوف صوفا: عدل) .(41/141)
(وصاف السهم عن الهدف يصوف ويصيف عدل عنه) .
(وهو مذكور في الياء أيضا لأنها كلمة واوية يائية) .
(ومنه صاف عني شر فلان وأصافه الله عن شره) (1) .
وبذا يعلم أن لفظ تصوف ليس لفظا عربيا لا من جهة وزنه اللفظي ولا من جهة معناه الاصطلاحي.
__________
(1) انظر لسان العرب (28 \ 2527 \ 2528) دار المعارف. انظر كتاب الأفعال. عالم الكتب (2 \ 258، 259) .) .(41/142)
التصوف في الكتاب والسنة:
لم ترد كلمة التصوف لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل الوارد فيهما هي كلمة الصوف كما قال سبحانه: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (1) ولم أظفر بما يدل على وجود لفظ الصوف في السنة والله أعلم.
__________
(1) سورة النحل الآية 80(41/142)
التصوف عند السلف:
لا يوجد فيما راجعناه من كلام السلف الصالح ما يدل على استعمال كلمة تصوف لا في حال المدح ولا في حال الذم مما يدل على أن هذا اللفظ لم يكن معروف الاستعمال بينهم ولم ينص أحد من العلماء فيما وصل إليه علمنا أن هذا اللفظ عرف ممدوحا أو مذموما بينهم وبما يعلم أنه لا سند للتصوف لا من جهة اللغة العربية ولا من جهة الكتاب والسنة ولا من جهة استعمال السلف ما يدل دلالة قاطعة على أن هذا اللفظ حادث فلا يحكم على مطلقه بمدح أو ذم وإن كنا نقول إن استعماله في جهتي المدح أو الذم بدعة شرعية لكن بعد الاصطلاح عليه يجب الاستفصال عن مفهوم من(41/142)
أطلقه حتى يحكم على المراد به بحسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية ومن ثم يلفت نظره إلى استعمال اللفظ المتعين الدلالة على ما أراد سواء كان حقا أو باطلا أسوة بسائر الألفاظ التي اصطلح المتأخرون على إطلاقها (1) .
__________
(1) انظر درء تعارض العقل والنقل (1 \ 229 \ 240) انظر مجموع الفتاوى (11 \ 28) .(41/143)
تعريف التصوف اصطلاحا:
في المعجم الوسيط: (طريقة سلوكية قوامها التقشف والتخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل لتزكو النفس وتسمو الروح وأعلى مراتبه الفناء) (1) .
وفي التعريفات: (الوقوف على الآداب الشرعية ظاهرا فيرى حكمها من الظاهر في الباطن وباطنا فيرى حكمها من الباطن في الظاهر فيحصل للمتأدب بالحكمين كمال) .
ثم قال: (التصوف: مذهب كله جد فلا تخلطوه بشيء من الهزل وقيل تصفية القلب عن موافقه البرية ومقارفة الطبعية وإخماد وصفات البشرية ومجانبة الدعاوى النفسانية، ومنازل الصفات الروحانية والتعلق بعلوم الحقيقة واستعمال ما هو أولى على السرمدية، والنصح لجميع الأمة والوفاء لله على الحقيقة واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في الشريعة) .
وقيل: ترك الاختيار، وقيل بذل المجهود والأنس بالمعبود، وقيل حفظ حواسك مع مراعاة أنفاسك. وقيل: (الإعراض عن الاعتراض، وقيل: هو صفاء المعاملة مع الله تعالى وأصله التفرغ عن الدنيا وقيل: الصبر تحت الأمر والنهي وقيل: خدمة
__________
(1) المعجم الوسيط (1 \ 531) .(41/143)
التشرف وترك التكلف واستعمال التطرف، وقيل: الأخذ بالحقائق والكلام بالدقائق والإياس مما في أيد الخلائق) (1) .
وعلى هذا فكل من انتسب إلى التصوف سمي صوفيا (2) على غير قياس قال في المعجم الوسيط (تصوف) فلان صار من الصوفية.
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص (59، 60) دار الكتب العلمية.
(2) المعجم الفلسفي ص (108) مجمع اللغة العربية.(41/144)
تعريف علم التصوف:
قال في المعجم الوسيط: (علم التصوف مجموعة المبادئ التي يعتقدها المتصوفة والآداب التي يتأدبون بها في مجتمعاتهم وخلواتهم) (1) .
والصوفي عندهم كما قال بعضهم من صفا من الكدر وامتلأ من الفكر واستوى عنده الذهب والحجر.
وهم يجعلون معنى الصوفي هو معنى الصديق (2) وفيه من تزكية النفس ما هو ظاهر قال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (3) . وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} (4) ، (5)
__________
(1) المعجم الوسيط (1 \ 531) مجمع اللغة العربية قارن الصوفية والفقراء لابن تيمية ص (22) .
(2) انظر الصوفية والفقراء لابن تيمية (22) .
(3) سورة النجم الآية 32
(4) سورة النساء الآية 49
(5) انظر مقدمة الصوفية والفقراء (6) .(41/144)
مصدر التسمية بالتصوف والصوفية:
ولما لم يكن هذا اللفظ معروفا بين السلف الصالح ولا سيما في القرون(41/144)
الثلاثة المفضلة وهي عصر الصحابة رضي الله عنهم والتابعين رحمهم الله وتابعيهم بإحسان اختلف الناس في منشأ هذه التسمية ومصدرها الذي ترجع إليه ومم اشتقت وذلك على أقوال: (1) .
القول الأول: أنها نسبة لأهل الصفة، واعترض عليه بأنه لو كان كذلك لكانت النسبة اللغوية له صفي بضم الصاد وتشديد الفاء مكسورة بعدها ياء النسبة.
القول الثاني: أنها نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله. ورد أن النسبة له لغة لو كان كذلك صفي بفتح الصاد بعدها فاء مشددة مكسورة بعدها ياء النسب.
القول الثالث: أنها نسبة للصفوة من الخلق. وهو فاسد لأنه لو كان الأمر كذلك لكانت النسبة إليه لغة صفوي بصاد وبعدها فاء مفتوحين بعدها واو مكسورة ثم ياء مشددة للنسبة.
القول الرابع: نسبة إلى صوفة بن بشر بن أد بن طابخة قبيلة من العرب كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم ينسب إليهم النساك) قال ابن تيمية: (وهذا وإن كان موافقا للنسب من جهة اللفظ فإنه ضعيف أيضا، لأن هؤلاء غير مشهورين ولا معروفين عند أكثر النساك ولأنه لو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى ولأن غالب من تكلم باسم الصوفي لا يعرف هذه القبيلة ولا يرضى أن يكون مضافا إلى قبيلة في الجاهلية ولا وجود لها في الإسلام) فتحصل من هذا أن هذا القول مردود من خمسة وجوه:
الوجه الأول: كونهم غير معروفين ولا مشهورين بين النساك.
__________
(1) الصوفية والفقراء لابن تيمية ص (11، 12) مختصر الفتاوى المصرية (567، 568) .(41/145)
الوجه الثاني: أنه لو كانت هذه النسبة مشهورة لكانت شهرتها في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان أولى من شهرتها فيمن بعدهم.
الوجه الثالث: أن من تسمى بهذا الاسم وهو الصوفية لا يعرف هذه القبيلة.
الوجه الرابع: أنه لو قدر وأن الصوفية سمعوا بها فإنهم لا يرتضون أن ينسبوا لاسم جاهلي لا وجود له في دين الإسلام.
الوجه الخامس: أنهم لو رضوا التسمي بهذا الاسم الجاهلي لما سلم لهم ولا قبل منهم لأنه نسبة إلى غير الإسلام والله جل وعلا يقول: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) وبذا يعلم حرمة التسمي باسم لم يقره الإسلام أو يكون منه.
والقول الخامس: أنها نسبة إلى الصفة بتشديد الصاد مع كسرها وفتح الفاء بعدها. ومصدرها معنى هو الاتصاف بالصفات الجميلة الحسنة (2) وهو فاسد لأن النسبة اللغوية والحالة هذه وصفي بواو مفتوحة وسكون الصاد كسر الفاء بعدها ياء النسب.
القول السادس: (3) يرى الكاتب النصراني جرجي زيدان أن كلمة صوفي هي: الكلمة اليونانية (سوفيا) بمعنى الحكمة وقد رد ذلك المستشرق (نولدكه) (إن سيجما اليوناني حرف يمثل في العصور المتأخرة بحرف السين العربي في جميع ما عرب من كلمات يونانية لا بحرف الصاد) كما فعل جرجي زيدان مما يدل على عدم علمه بهذا الأمر ورد هذا بأنا نقول: في
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19
(2) انظر الصوفية معتقدا ومسلكا. صابر طعيمة.
(3) أنواع الكشف عن حقيقة الصوفية (740) .(41/146)
فيلسوفيا فلسفة لا فلصفة ولو كان هذا صحيحا لعرف ولانتشر لكن الأمر ليس كذلك فلا يعلمه من لا يعرف العربية فضلا عن كفره.
القول السابع: (أنه مشتق من لبس الصوف وهو الذي رجحه ابن تيمية كما أنه موافق للفظ من جهة الاشتقاق اللغوي وصحيح النسبة إليه، ومما يدل على ذلك ما رواه أبو الشيخ الأصفهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قوما يفضلون لباس الصوف فقال: إن قوما يتخيرون الصوف يقولون أنهم متشبهون بالمسيح ابن مريم وهدى نبينا أحب إلينا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره أو كلاما نحو هذا) وهذا يدل على أن صحة النسب لهذا المعنى لم يخرجه عن مخالفة الشريعة لمخالفته لهديه صلى الله عليه وسلم في لباسه لعدم التزامه لبس الصوف، ونحن متعبدون باتباع هديه صلى الله عليه وسلم لا باتباع هدي عيسى عليه السلام لأن هديه أكمل الهدى كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (1)
__________
(1) سورة الفتح الآية 28(41/147)
نشأة التصوف وتاريخه:
1 - أول ما نقل التكلم بلفظ التصوف في أواخر القرن الثالث الهجري وأوائل القرن الرابع الهجري تكلم به غير واحد من الأئمة والشيوخ كالإمام أحمد وأبي سليمان الداراني وغيرهما كسفيان الثوري والحسن البصري (1) .
2 - (وأول ما ظهرت الصوفية كسلوك عملي في البصرة) .
3 - (وأول من بنى ديرا للصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسن البصري) وقد كان من أهل البصرة
__________
(1) انظر الصوفية والفقراء لابن تيمية ص (12، 13) مختصر الفتاوى المصرية (568) .(41/147)
نوع مبالغة في الزهد والعبادة والخوف من الله لم يكن موجودا نظيره في غالب البلاد الإسلامية ولهذا كانوا يقولون فقه كوفي وعبادة مصرية (1) .
4 - وقد ظهر على هؤلاء من المبالغة أعني البصريين ما لم يحك عن سواهم من الموت والإغماء عند سماع القرآن فقد روي أن زرار بن أد قاضى البصرة قرأ في صلاة الفجر {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} (2) فخر ميتا.
وروي أن أبا جهير الأعمى منهم قرأ عليه صالح المري فمات مما لم يكن نظيره موجودا عند الصحابة رضي الله عنهم.
ومن هنا أنكر من حضر هذه الأحوال من الصحابة والتابعين أحوالهم هذه كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين وغيرهم وكانت وجهة نظر المنكر عليهم من وجهين:
الأولى: أنه ظن أن ذلك تكلفا منهم وتصنعا فقد روي أن محمد بن سيرين قال ما بيننا وبينهم هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن إلا أن يقرأ على أحدهم وهو على حائط فإن خر ميتا فهو صادق.
الثانية: لأنه رأى أن ذلك بدعة في الدين لم تكن معروفة بين أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا كان من هديه وهدي أصحابه بل كان هديهم البكاء عند سماع القرآن والخشوع وحضور الأسماع والقلوب (3) .
والذي عليه جمهور أهل العلم أنه إذا كان ما ورد على نفسه من السماع غالبا عليه بحيث. لا يستطيع أن يرفضه فإنه والحالة هذه معذور ويدل عليه قول الإمام أحمد لما سئل عن هذا قال قرئ القرآن على يحيى بن سعيد فغشي
__________
(1) انظر الصوفية والفقراء لابن تيمية ص (12، 13) مختصر الفتاوى المصرية (568) .
(2) سورة المدثر الآية 8
(3) انظر الصوفية والفقراء لابن تيمية ص (13، 14) مختصر الفتاوى المصرية (568، 569) .(41/148)
عليه وأحب أن يدفع عن نفسه ولو قدر عليه لدفعه فما رأيت أعقل منه ونقل مثل هذه الحال عن الشافعي والفضيل بن عياض.
إلا أن حال من يبكي ويخضع مع حضور القلب والوعي الذي هو حال الصحابة أفضل ولأن مثل هذه الأحوال ليست حالا إيمانيا مطلقا بل قد تحصل لبعض الناس ولو كانوا كفارا أو فساقا وذلك لقوة الوارد على القلب مع ضعفه كما يموت بعض الناس فرحا أو حزنا أو عشقا أو خوفا ونحو ذلك، وفصل القول في ذلك أن ذلك أمر مباح مادام سببه مباحا لا تفريط فيه ولا عدوان فإنه والحالة هذه لا ذنب فيما أصابه وإنما حصل من ضعفه وقوة الوارد عليه فلا لوم عليه ولكنها ليست دلالة على الولاية ولا الصلاح لاستواء الناس في ورودها عليهم كما تقدم (1) .
5 - والظاهر والله أعلم أن ظهور التصوف كان نتيجة ردة فعل على إفراط المجتمع في ملذات الدنيا وشهواتها ولا يمنع هذا أنه استغل من طوائف الباطنية والقرامطة والمجوس من أعداء الإسلام حتى وصل إلى حالته الراهنة القائمة على الطرق والإشارات والرموز نتيجة لهذه المؤثرات الخارجية التي يراد بها القضاء على الإسلام وأهله والتي برزت أخيرا عندما شجع المستعمر الطرق الصوفية في سائر البلاد الإسلامية حتى تطفأ جذوة الجهاد في نفوس المسلمين ويعزل الإسلام عن الحياة العامة حتى يكون دينا لاهوتيا علمانيا لا يحكم الحياة ولا يوجه المجتمع وعندئذ تكون الطامة الكبرى ولكن ذلك لن يحصل لأن في ديننا من القوة الذاتية الحركية، ما يجعله يتجاوب وقوانين الحياة العامة والخاصة كما قال تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (2)
__________
(1) انظر الصوفية والفقراء لابن تيمية ص (13، 14) مختصر الفتاوى المصرية (568، 569) .
(2) سورة الصف الآية 9(41/149)
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله (1) » .
6 - هذا ولم يكن التصوف في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع إلا نوعا من الزهد والتقشف ولم نجد صفة الرسوم الصوفية التي جاءت فيما بعد ولم يكن فيهم من المعتقدات الفاسدة شيء البتة ولكن في القرن الرابع دخل في التصوف من أهل الزندقة والإلحاد من تلبس بلباس الصوفية كالحلاج وأمثاله مما أنكره أوائل علماء الصوفية كالجنيد بن محمد وغيره (2) . 7- وفي أواخر القرن الرابع بدأت الصوفية تأخذ شكلها الحالي الطرقي فامتلأت الساحة الإسلامية بالمدارس الصوفية المتنوعة التي تتفق في كثير من مضامينها وتختلف في بعض طقوسها وأدعيتها (3) .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم
(2) . انظر الصوفية معتقدا ومسلكا ص (50، 52) الصوفية والفقراء لابن تيمية ص (24) .
(3) انظر الصوفية معتقدا ومسلكا ص (50، 52) الصوفية والفقراء لابن تيمية ص (24) .(41/150)
أسباب نشأة التصوف وانتشاره:
مما تقدم من حكاية التسلسل التاريخي الذي مر به التصوف تبين لنا أن نشأة التصوف وانتشاره يرجع لعاملين مهمين هما:
أولا: البذخ الدنيوي والإسراف في الملذات والشهوات الجسدية والذي خرج عن حد الاعتدال الأمر الذي حدى ببعض من أنكرت نفوسهم هذا النوع من السلوك ولم يستطيعوا أن يقاوموا ذلك التيار الجارف أن يعتزلوا تلك المجتمعات ويفروا بأنفسهم متخذين لمسلك الزهد والتقليل من المباحات والحرص على أصناف التعبدات طريقا سلوكيا لهم وقد(41/150)
استشفوا من بعض النصوص الشرعية دليلا لهم على مسلكهم هذا كحديث «البذاذة من الإيمان (1) » وحديث «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم في الصعدات تجأرون (2) » .
ثانيا: المؤثرات الخارجية عن طريق التأثر بأفكار الأمم الأخرى من يونان وهنود ويهود ونصارى وسواهم عن طريق من دخل في التصوف من فلاسفة وغيرهم.
وإن كان التصوف في أول أمره لم يكن كذلك ومن هذا المنطلق اختلف الباحثون في التصوف هل نشأته أمر طبيعي فيكون بسبب مؤثرات في داخل جسم الأمة كالمؤثر الأول أو بمؤثر خارجي أجنبي عن دين الأمة وثقافتها، ومال كل قوم إلى أحد المؤثرين إلا أن الدراسة الجادة تدل على اجتماع المؤثر الداخلي والخارجي في تكوين الفكر الصوفي على شكله الذي انتهى إليه وهو ما نميل إليه ونرجحه ومما يؤيد ذلك أن لعموم الفرق التي انشقت في جسم الأمة أو عنها يرى أنها تبدأ بمؤثرات سهلة غالبا مؤثرات داخلية نتيجة ردود فعل في المجتمع ثم بعد ذلك يزيد انحرافها عن طريق المؤثرات الخارجية والتي تجد في هذا الانحراف طريقا لتثبيت أفكارها في نفوس هؤلاء المنحرفين (3) .
هذا ويمكن التماس عدة أسباب أخرى أثرت في انتشار الصوفية هي:: أولا: استعمال الخارق للعادة كطريق من طرق إثبات الولاية
__________
(1) سنن أبو داود الترجل (4161) ، سنن ابن ماجه الزهد (4118) .
(2) سنن الترمذي الزهد (2312) ، سنن ابن ماجه الزهد (4190) ، مسند أحمد بن حنبل (5/173) .
(3) انظر الصوفية معتقدا ومسلكا ص (125) الكشف عن حقيقة الصوفية ص (757- 771) انظر هذه الصوفية ص (168) .(41/151)
والصلاح مما يجذب العامة وكذا فقد كثر في رجال التصوف السحرة والدجالون والمشعوذون ومن يستعين بالجن والشياطين مما يجعل التصوف من أعظم الطرق لنشر الخرافة والوثنية بين المسلمين.
ثانيا: استعمالهم الرقص والغناء وغيرهما من المنكرات مما يغري كثيرا من الفساق بصحبتهم والانخراط في ما هم عليه من سلوكيات كصحبة المردان.
ثالثا: استعمالهم الأساليب الباطنية من إخفاء الأسرار وعدم كشفها إلا لمن سلك طريقهم بدعوى أن غيرهم لا يمكنه استيعابها ولا فهمها بل ربما حملها مالا تحمل بحسب دعواهم.
رابعا: التساهل في التمسك بالشرائع الإسلامية مما يغري المتساهلين والمحبين للهروب من سلطان الشريعة أن ينتسب إليهم حتى يهرب من عهدة التكليف بدعوى اهتمامهم بالباطن دون الظاهر والمعمول في الشريعة كما يدعون على الباطن فقط.
خامسا: خداعهم للعامة بلبس المرقعات وإظهار الزهادة في الدنيا وملذاتها وادعاء الدعاوى العريضة في محبة الله والرضا بالقضاء والقدر والصبر على البلاء.
سادسا: الجانب الإعلامي الذي يقوم به الصوفية عن طريق الألقاب والألعاب المتنوعة على أنفسهم وسلوكيات مذهبهم.(41/152)
أنواع الصوفية وأصنافهم:
ويمكن تقسيم الصوفية من حيث الاختلاف في موضوعات البحث إلى قسمين:
القسم الأول: أقسامهم من جهة العمل.(41/152)
القسم الثاني: أقسامهم من جهة الاعتقاد.(41/153)
أما من جهة العمل:
فقد قسمهم شيخ الإسلام ابن تيمية إلى ثلاثة أقسام هي: (1) .
__________
(1) انظر الصوفية والفقراء لابن تيمية ص (24، 25) .(41/153)
أولا: صوفية الحقائق: وهم الذين مقصود التصوف عندهم عبارة عن حقائق وأحوال وحدود وسيرة مستلزمة لصفاء الباطن من كدر الأمراض الباطنة وصفاء الظاهر بكثرة العبادات والزهد في الملذات والشهوات وهؤلاء إنما أطلق عليهم صوفية نسبة إلى لباس الصوف وإن كانت طريقتهم ليس لبسه قيدا فيها ولا هم جعلوا لبسه من أصول الطريقة التي سلكوها ولا أوصوا بلبسه ولا علقوا الصلاح الظاهر والباطن على ذلك كله.
ويرى الصوفية أن هؤلاء هم أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين وهو يساوي عندهم الصديق (وهو الذي اختص بالزهد والعبادة ولكن على الوجه الذي اجتهدوا فيه فهو أخص من الصديق المطلق ودون الصديق الكامل الصديقية من الصحابة والتابعين وتابعيهم) فهم صديقوا زمانهم فصديقيتهم نسبية وهم في ذلك على درجات ومقامات.
وقد انقسم الناس في هؤلاء على ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: ذمتهم واعتبرت ما هم عليه بدعة وأخرجوهم عن مسمى السنة المتضمنة لنبذ البدعة والتمسك بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
الطائفة الثانية: غلت فيهم وادعوا أنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء.
الطائفة الثالثة: أنهم مجتهدون في طاعة الله كحال سائر المؤمنين فمنهم السابق في الخيرات المتقرب من الله بحسب اجتهاده في طاعة ربه ومنهم(41/153)
المقتصد المحافظ على الواجبات وترك المحظورات وإن قصر في المحافظة على المسنونات وترك المكروهات.
ومنهم العاصي المجترئ على بعض المعاصي فهو ظالم لنفسه.
وهذا لا ينفي حصول الخطأ من السابق والمقتصد إذ كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون فمنهم من يخطئ ويتوب ومنهم من ليس كذلك.(41/154)
ثانيا: من أقسام الصوفية صوفية الأرزاق وهم الذين تركوا البحث عن الرزق والعمل لكسب المعاش واكتفوا بما يجود به الناس عليهم من الصدقات والأوقاف الخيرية وهؤلاء لا يشترط فيهم أن يكونوا من أصحاب الحقائق لعزة ذلك وقلته لأن أرباب الحقائق لا يتكففون الناس ولا يعيشون على صدقاتهم ويشترط فيمن كان من صوفية الأرزاق ثلاثة شروط:
الشرط الأول: العدالة الشرعية وذلك بفعل الفرائض واجتناب المحرمات والمحافظة على خلق المروءة فلا يفعل ما يستنكر عادة.
الشرط الثاني: التأدب بآداب الطريق الشرعية فيبتعد عن البدع في الدين.
الشرط الثالث: البعد عن فضول الدنيا من جمع الأموال وتكديسها في طلب التكاثر من متاعها.
فإن خالف شرطا لم يستحق شيئا من الوقف.(41/154)
القسم الثالث: صوفية الرسم وهم من اقتصر على نسبته إلى الصوفية وتزيا بزيهم من لبس الصوف والمرقعات لكنه لم يلتزم شيئا من طريقتهم ولم يتقيد بشيوخهم في الأعمال الظاهرة والباطنة فهو يتمتم بأقوالهم ولا يلتزم أعمالهم فمن شاهد حالهم ظنهم من الصوفية وهم في الحقيقة ليسوا منهم(41/154)
فليس عندهم من التصوف إلا النسبة إليه ولبسته الظاهرة وإلا فإن حقيقتهم أنهم ليسوا منهم.
والظاهر مما تقدم من بيان أنواع الصوفية وأحكامهم عند ابن تيمية إنما جرى عليه رحمه الله بعد اشتهار هذا الاسم عليهم بحيث صار حقيقة عرفية فكان لا بد من التفصيل في أحكامهم وبيان ما صح منها مما لا يصح لأن اسم التصوف لم يرد الشرع بمدحه ولا ذمه ولا التسمية به وعلى هذا فهو لفظ تسمى به بمدح أو ذم بل لا بد من تمييز ما دخله من حق أو باطل هذا ويرى الفخر الرازي للصوفية تقسيما آخر فقد قسمهم على ستة أقسام وهي (1) :
__________
(1) انظر الصوفية معتقدا ومسلكا ص (39) .(41/155)
1 - أصحاب العادات وهم مساوون لأهل الرسم عند ابن تيمية.
2 - أصحاب العبادات وهم الزهاد في الدنيا والمنقطعون للعبادة فهم معتنون بالظواهر دون البواطن.
3 - أصحاب الحقيقة وهم الذين جمعوا بين الاهتمام بالعبادات والباطن وهو تخلية النفس عن أدرانها الباطنة وتحريرها عن كل ما يشغلها عن ذكر الله والتفكر في الكون.
4 - النورية وهم القائلون بأن ما يحجب عن الله حجابان:
الأول: منها نوري وهو الاشتغال بإصلاح النفس واكتسابها للأخلاق الفاضلة.
والثاني: ناري وهو الاشتغال بما يذم من صوارف النفس كالشهوة والغضب والحرص والأمل.
5 - الحلولية: وهم مدعو الحلول والاتحاد بينهم وبين الباري جل وعلا تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.(41/155)
6 - المباحية: وهم مدعو رفع التكاليف عنهم لبلوغهم المرتبة العظمى في المحبة.
ويرجع هذه التقسيم إلى أمرين:
أحدهما: عملي كأصحاب العبادات والحقيقية والنورية.
الثاني: عقدي وهم الحلولية والمباحية.
قال ابن القيم: (وقد قسم الصوفية بعضهم أربعة أقسام أصحاب السوابق وأصحاب العواقب وأصحاب الوقت وأصحاب الحق.
فأما أصحاب السوابق: فقلوبهم أبدا فيما سبق لهم من الله لعلمهم أن الحكم الأزلي لا يتغير باكتساب العبد. . فهم يجدون في القيام بالأوامر واجتناب النواهي والتقرب إلى الله بأنواع القرب غير واثقين بها ولا ملتفتين إليها. . .
وأما أصحاب العواقب: فهم متفكرون فيما يختم به أمرهم فإن الأمور بأواخرها والأعمال بخواتيمها والعاقبة مستورة. . .
وأما أصحاب الوقت: فلم يشتغلوا بالسوابق ولا بالعواقب بل اشتغلوا بمراعاة الوقت وما يلزمهم من أحكامه. .
وأما أصحاب الحق: (فهم مع صاحب الوقت والزمان ومالكهما ومدبرهما مأخوذون بشهوده عن مشاهدة الأوقات لا يتفرغون لمراعاة وقت ولا زمان) (1) وهذا التقسم باعتبار أحوال السالكين في العبادة.
__________
(1) انظر مدارج السالكين (30 \ 130، 131) .(41/156)
وأما من جهة الاعتقاد: فيرى ابن تيمية أن الصوفية على ثلاثة أقسام هي:(41/156)
أولا: السلفية: وهم كبار شيوخ الصوفية كالجنيد بن محمد والفضيل بن عياض ونحوهما.
قال ابن تيمية: (والثابت الصحيح عن أكابر المشايخ يوافق ما كان عليه السلف) (1) .
وقال في موضع آخر: (قلت هذا كلام صحيح فإن كلام أئمة المشايخ الذين لهم في الأمة قدم صدق كانوا على ما عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل) (2) .
تعليقا على قول القشيري: (اعلموا أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد وصانوا بها عقائدهم من البدع ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة في التوحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل) (3) .
وقد نقل عنهم بالأسانيد المتصلة ما يدل على حقيقة ما قرره من ذلك.
قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: (العمل بلا اقتداء عيش النفس والعلم بالاقتداء عذاب على النفس) (4) وقال: (كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل) (5) .
وقال الجنيد بن محمد: (من لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الشأن لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة) (6) وقال أحمد بن أبي الحواري: (من عمل عملا بلا اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فباطل عمله) (7) .
__________
(1) الاستقامة لابن تيمية (1 \ 82) .
(2) الاستقامة لابن تيمية (1 \ 90، 91)
(3) الاستقامة لابن تيمية (2 \ 141) .
(4) الاستقامة لابن تيمية (2 \ 141) .
(5) الاستقامة لابن تيمية (1 \ 90، 97) .
(6) الاستقامة لابن تيمية (2 \ 141) .
(7) الاستقامة لابن تيمية (2 \ 141) .(41/157)
قال أبو سليمان الداراني: (ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة) (1) .
وقال أبو حفص النيسابوري: (من لم يزن أفعاله وأقواله كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا يعتد في ديوان الرجال) (2) .
وقال أبو عثمان: (من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة (3) قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (4) .
وقال أبو بكر صاحب الفضيل: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (5) فلا صفة أبلغ مما وصف نفسه وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطلاع: كما يشاء أن ينزل وكما يشاء أن يباهي وكما يشاء أن يضحك وكما يشاء أن يطلع فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف فإذا قال الجهمي: أنا أكفر برب يزول من مكانه فقل بل أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء) .
وقال عمرو بن عثمان المكي: (من أعظم ما يوسوس به الشيطان في التوحيد بالتشكيك أو في صفات الرب بالتمثيل أو التشبيه أو بالجحد لها والتعطيل) ثم قال: (واعلم رحمك الله أن كل ما توهمه قلبك أو سنح في مجاري فكرك أو خطر في معارضات قلبك من حسن أو بهاء أو ضياء أو إشراق أو جمال أو شبح ماثل أو شخص متمثل فالله بغير ذلك بل هو الله
__________
(1) الاستقامة لابن تيمية (1 \ 90، 97) .
(2) الاستقامة (1 \ 95- 97) .
(3) الاستقامة (1 \ 95- 97) .
(4) سورة النور الآية 54
(5) سورة الإخلاص الآية 1(41/158)
تعالى أعظم وأجل وأكبر ألا تسمع قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (1) وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (2) فإن اعتصمت بها وامتنعت منه أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب تعالى وتقدس في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال لك إذا كان موصوفا بكذا وصفته بكذا أوجب له التشبيه فأكذبه لأن اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك ويدخلك في صفوف الملحدين الزائغين الجاحدين لصفة رب العالمين) (3) .
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه الذي سماه اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات: (فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله عز وجل ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه قولا واحدا وشرعا ظاهرا وهم الذين نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حتى قال: (فكانت كلمة الصحابة على الاتفاق من غير اختلاف وهم الذين أمرنا بالأخذ عنهم ولم يختلفوا بحمد الله تعالى في أحكام التوحيد وأصول الدين من الأسماء والصفات كما اختلفوا في الفروع ولو كان منهم في ذلك اختلاف لنقل إلينا كما نقل سائر الاختلاف فاستقر صحة ذلك عند خاصتهم وعامتهم حتى أدوا ذلك إلى التابعين لهم بإحسان فاستقر صحة ذلك عند العلماء المعروفين حتى نقلوا ذلك قرنا بعد قرن لأن الاختلاف كان عندهم في الأصل كفر ولله المنة) (4) .
وقد سأل أبا محمد عبد القادر بن عبد الله الجيلي، الشيخ علي بن إدريس فقال يا سيدي: هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل فقال: ما كان ولا يكون) .
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الإخلاص الآية 4
(3) الرسالة الحموية لابن تيمية من النفائس ص (137 \ 138) .
(4) الرسالة الحموية لابن تيمية - ص (133، 134) .(41/159)
ثانيا: الأشعرية وهم من سلكوا في الاعتقاد طريقة الأشاعرة المتضمنة التأويل والتحريف وعدم الإيمان بصفات الأفعال وجحد بعض الصفات الخبرية الذاتية كالوجه واليدين والعينين ونحوها من صفات كماله جل وعلا والقائلين بأن الله يتكلم بلا حروف ولا صوت وأن الحروف والأصوات ليست قديمة وأن المصحف الذي بين أيدي المسلمين ما هو إلا عبارة عن كلام الله وأن كلامه جل شأنه هو الكلام النفسي فقط وهم طبقة أبي القاسم القشيري وأصحابه وقد أخذ هذه العقيدة عن شيخه أبي بكر ابن فورك وشيخه أبي إسحاق الأشقرييني يقول ابن تيمية: (وهذا الاعتقاد غالبه موافق لأصول السلف وأهل السنة والجماعة لكنه مقصر عن ذلك ومتضمن ترك بعض ما كانوا عليه وزيادة تخالف ما كانوا عليه) (1) .
وقد أنكر هذا الاعتقاد أكابر مشايخ التصوف.
قال القشيري: (فأما المشايخ الذين عاصرناهم والذين أدركناهم وإن لم يتفق لنا لقياهم) ثم عدد جملة منهم. . . ثم قال: (فإن هؤلاء المشايخ مثل أبي العباس القصاب له من التصانيف المشهورة في السنة ومخالفة طريقة الكلابية والأشعرية ما ليس هذا موضعه وكذلك سائر شيوخ المسلمين من المتقدمين والمتأخرين الذين لهم لسان صدق في الأمة) (2) .
وقال أبو بكر بن قوام لحفيده محمد: (إذا بلغك عن أهل المكان الفلاني أن فيهم رجلا مؤمنا أو رجلا صالحا فصدق وإذا بلغك أن فيهم ولي الله فلا تصدق فقلت أي محمد ولم يا سيدي قال لأنهم أشعرية) (3) وقال عبد الله الأرميني لابنه إبراهيم وكان له معلم يقرؤه العقيدة الأشعرية كما أخبر قال له
__________
(1) الاستقامة (1 \ 85، 86) .
(2) الاستقامة (1 \ 82) .
(3) الاستقامة (1 \ 82. 84. 85. 88) .(41/160)
والده فقد طفت الأرض واجتمعت بكذا وكذا ولي لله فلم أجد أحدا منهم على هذا الاعتقاد) (1) أي الأشعرية وهو إخبار بأن أكثر مشايخ الصوفية على عقيدة السلف.
__________
(1) الاستقامة (1 \ 82- 84- 85- 88) .(41/161)
ثالثا: الحلولية والاتحادية: وهما نسبة للحلول والاتحاد فالحلول أن تكون أحد الذاتين ظرفا ووعاء للأخرى فإن حقيقة مذهبهم (أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى وليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة) وهم لا يرتضون اسم الحلول لأنه يتضمن ذاتين كل منهما غير الأخرى وهذا تشبيه عندهم وإثبات موجودين (أحدهما) وجود الحق الحال و (الثاني) وجود المخلوق المحل وهم لا يقرون إثبات وجودين البتة) (1) .
وهذا هو عين قول الجهمية الذين يقولون أن الله بذاته في كل مكان (2) وسموا اتحادية لأمرين:
أحدهما: وهو غير مرضي لهم لأن قولهم بالاتحاد على وزن الاقتران والاقتران يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر وهم لا يقرون بوجودين أبدا) (3) . الثاني: يصححونه وهو أن الكثرة صارت وحدة.
وبذا يظهر أن مبنى قولهم (هو أن وجود المخلوقات والمصنوعات حتى وجود الجن والشياطين والفاسقين والكلاب والخنازير والنجاسات والكفر والفسوق والعصيان عين وجود الرب لا أنه متميز عنه منفصل عن ذاته وإن كان مخلوقا له مربوبا مصنوعا له قائما به وهم يشهدون أن في كل الكائنات
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (4 \ 94) .
(2) مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (4 \ 94) .
(3) مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (4 \ 94) .(41/161)
تفرقا وكثرة ظاهرة بالحس والعقل فاحتاجوا إلى جمع يزيل الكثرة ووحدة ترفع التفرق مع ثبوتها) (1) وهم في التعبير عن هذا ثلاثة أنواع:
النوع الأول: مقالة ابن عربي ومن نحا نحوه وتقوم على دعامتين:
الأولى: (أن المعدوم شيء ثابت في العدم) (2) (فهي متميزة بذواتها الثابتة في العدم متحدة بوجود الحق العالم بها) (3) .
الثانية: (أن وجود الأعيان نفس وجود الحق وعينه) (4) .
(وهذا يفرق بين المظاهر والظاهر والمجلي والمتجلى لأن المظاهر عنده هي الأعيان الثابتة في العدم وأما الظاهر فهو وجود الخلق) (5) .
ويرى ابن تيمية أن ابن عربي في ذلك متأثر بالمعتزلة والرافضة فإن أول من قال بأن المعدوم شيء ثابت في العدم هو أبو عثمان الشحام شيخ أبي علي الجبائي وإن كان يقول بأن الله خلق وجود الأعيان وأنها ليست عين وجوده (6) ومبنى قول ابن عربي أن الماهية عين الوجود وأن الماهية الموجودة في الذهن هي عين الموجود المشاهد وبناء على ذلك فإن الماهية التي بها الاشتراك في الذهن هي عين الموجود المشخص في الخارج فالوجود هو بصفة عامة للقديم والمحدث واسم جنس لهما هي عين الموجود المشاهد إذ لا فرق بين ما في الذهن وما في الوجود المشاهد.
ويرى الدكتور عبد العظيم شرف الدين أن مذهب ابن عربي مستمد من مذهب الأشاعرة حيث يقولون إن العالم مكون من الجواهر والأعراض وأن العرض لا يبقى مستمرا في الجوهر زمانين، ومذهبهم هذا ليس هو وحده الوجود لأنهم يفرقون بين العالم ورب العالمين فوجود الأول مخلوق ووجود
__________
(1) مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (4 \ 94) .
(2) مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (4 \ 94) .
(3) انظر مجموعة المسائل والرسائل (4 \ 6، 17) .
(4) انظر مجموعة المسائل والرسائل (4 \ 6، 17) .
(5) انظر مجموعة المسائل والرسائل (4 \ 6، 17) .
(6) انظر مجموعة المسائل والرسائل (4 \ 6، 17) .(41/162)
الثاني وجود خالق فأحل ابن عربي الذات في اصطلاحه محل الجواهر وجعل الأعراض صورا لوجود تلك الذات (1) ورأيي أن قول ابن تيمية أوضح لاتفاق قول ابن الشحام مع ابن عربي في أصل الفكرة وهي: (أن المعدوم شيء ثابت في العدم) وتقول المعتزلة بأن الوجود الذهني هو عين الوجود الخارجي وأن الصفات المشتركة في الذهن هي عين الصفة المشخصة في الخارج وما أصله ابن عربي باطل من وجوه:
أولا: أن المعدوم ليس بشيء في خارج الذهن فإن المستحيل يسمى شيئا في الذهن لكنه ليس بشيء في خارج ويدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم.
أما الكتاب: 1- قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} (2) فأخبر أنه قبل وجوده لم يكن شيئا ومثله قوله تعالى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} (3) وقال سبحانه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} (4) فأنكر عليهم أن يكون خلقوا من غير شيء وهم العدم ولو كان العدم شيئا في خارج الذهن لما أنكر عليهم ولو صح أن يخلقوا من شيء معدوم لكان الخالق لهم شيئا معدوما.
2 - قال تعالى: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (5) ولو كان المعدوم شيئا في الخارج لكان التقدير لا يظلمون موجودا ولا معدوما، والمعدوم لا يتصور أن يظلموه فإنه ليس لهم.
__________
(1) انظر ابن القيم للدكتور عبد العظيم شرف الدين ص (406، 407) .
(2) سورة مريم الآية 9
(3) سورة مريم الآية 67
(4) سورة الطور الآية 35
(5) سورة مريم الآية 60(41/163)
وأما قوله سبحانه: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (1) فهو إخبار عنها حال وقوعها بدليل قوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} (2) لا شك أن ذلك لا يكون إلا يوم القيامة ولو قدر وجودها في حال العدم لكان المعنى شيء مقدر في علم الله وقوعه.
وأما قوله جل شأنه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) فإنما سمي شيئا حال إرادته موجودا ولم يرد أن المعدوم شيء حال عدمه والله قد أخبر أن المعدوم نفسه يراد ويكون وأما القول بأن ماهية الشيء في الذهن هي عين وجوده فليس بصحيح لأن الموجود الذهني مشترك بين أفراده وأما الوجود العيني في الخارج فهو معين مشخص وإذا ظهر الفرق بينهما بطل القول بكون كل واحد منهما هو الآخر فإن ثبوت الأشياء في العلم والكتاب والكلام ليس هو عين الثبوت في خارج الذهن وإن كان هو شيئا في الذهن فإذا علمت حقيقة شيء في ذهنك فإنه لا يلزم أن يكون موجودا وجوده خارج الذهن مطابق له فإن الذهن يتصور الممتنعات التي لا وجود لها في خارجه فليست بشيء باتفاق العقلاء (4) .
وفي حديث الترمذي عن أبي حارثة عن أبيه «أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به هل ترد من قضاء الله شيئا قال هي من قدر الله (5) » .
وإنما يثبت في القدر المعدوم الذي سيكون وأما المعدوم الممكن الذي
__________
(1) سورة الحج الآية 1
(2) سورة الحج الآية 2
(3) سورة النحل الآية 40
(4) انظر مجموعة المسائل والرسائل (4 \ 14 \ 15) .
(5) سنن الترمذي القدر (2148) ، سنن ابن ماجه الطب (3437) .(41/164)
لن يكون فهو شيء ثابت في العدم عند من يقول به لكنه ليس بمقدر الكون والله يعلمه على ما هو عليه فيعلم أنه ممكن وأنه لا يكون والله يعلم أيضا الممتنعات وأنها لا تكون مثل فرض الشريك للباري جل جلاله مع أن كل ذلك ثابت في العلم فيثبت بذلك أن المعدوم وأن سمي شيئا في الذهن فإنه لا يكون في الخارج كذلك إلا إذا وجد (1) .
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين قال: «قيل يا رسول الله أعلم أهل الجنة والنار؟ قال: " نعم قال: ففيم يعمل العاملون؟ فقال كل ميسر لما خلق له (2) » وفي رواية «أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون به ما أتاهم به نبيهم وتثبت الحجة عليهم. فقال لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله (5) » .
وبذا يظهر فساد مقالة ابن عربي.
المقالة الثانية: من مقالات الحلولية قول الفخر الرومي وأصحابه: (أن الله هو الوجود المطلق الذي لا يتعين ولا يتميز وأنه إن تعين وتميز فهو الحق سواء تعين في مرتبة الإلهية أو غيرها) (6) .
وهي أفظع وأدخل في الكفر من مقالة ابن عربي وإنما انتحلها هربا مما في التفريق بين وجود الأشياء وماهيتها من الباطل الذي لا يستقيم أمام الأدلة الشرعية والعقلية الصحيحة وبيان ذلك أنه على القول الأول يمكن ألا يجعل
__________
(1) انظر مجموعة المسائل والرسائل (4 \ 13) .
(2) صحيح البخاري التوحيد (7551) ، صحيح مسلم القدر (2649) ، سنن أبو داود السنة (4709) ، مسند أحمد بن حنبل (4/431) .
(3) صحيح مسلم القدر (2650) ، مسند أحمد بن حنبل (4/438) .
(4) سورة الشمس الآية 7 (3) {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}
(5) سورة الشمس الآية 8 (4) {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}
(6) انظر مجموعة المسائل والرسائل (4 \ 18 وما بعدها) .(41/165)
لله وجودا خارجا عن المخلوقات وأنه قاض عليها فيكون فيه اعتراف بوجود رب قائم بنفسه غني عن خلقه وإن كان فيه كفر من جهة جعله للخالق عين المخلوق.
وأما على ما ذهب إليه الفخر الرومي فوجود الخالق هو الوجود المطلق الساري في الموجودات المعنية، ومما علم بضرورة العقل أن الوجود المطلق لا يكون في خارج الذهن أبدا باتفاق العقلاء فآل مذهبه إلى إنكار وجود الذات الإلهية لأن المطلق ليس له وجود مطلق في الخارج بل ليس له إلا وجود معين (1) قال ابن تيمية: (وأما في الخارج عن ذلك -أي العلم واللسان- فما ثم شيء موجود في الخارج شيئين) (2) بل الموجودات معينة بصفاتها الخاصة بها فما ثم إلا هو مخصوص معين بما يميزه عما سواه.
كما أن ابن عربي يقول بوجود زائد على الماهية وأما الفخر الرومي فليس في الوجود زيادة على الماهية.
المقالة الثالثة للحلولية مقالة التلمساني: (أنه لا فرق بين ماهية ووجود ولا بين مطلق ومعين بل عنده ما ثم سواه ولا غيره بوجه من الوجوه وإنما الكائنات أجزاء منه وأبعاض له بمنزلة أمواج البحر في البحر وآخر البيت من البيت ومن شعرهم:
البحر لاشك عندي في توحده ... وإن تعدد بالأمواج والزبد
فلا يغرنك ما شاهدت من صور ... فالواحد الرب ساري العين في العدد (3)
وهذا القول أشدا كفرا وزندقة من القولين السابقين فإن صاحب هذا القول لا يفرق بين المظاهر والظاهر ولا الكثرة والتفرقة إلا في الذهن لأنه محجوب عن الحقيقة فلما انكشفت له تبين له أنه لم يكن غير الله والرائي عين
__________
(1) انظر مجموعة المسائل والرسائل (4 \ 23، 26) .
(2) انظر مجموعة المسائل والرسائل (4 \ 23، 26) .
(3) انظر مجموعة المسائل والرسائل (4 \ 23، 26) .(41/166)
المرئي والشاهد عين المشهود فليس في الوجود شيء غير الله وجميع الاعتبارات لا وجود لها لأنها خيال ولا وجود له أصلا إلا في ذهن من تصوره وأما الحقيقة فالموجودات هي الله ليس شيء غيره أبدا (1) .
هذا ويذكر ابن تيمية أن قول هؤلاء الحلولية من الصوفية مركب من ثلاث عقائد هي:
أولا: سلب الجهمية وتعطيلهم.
ثانيا: مجملات الصوفية وهو ما يوجد في كلامهم من الألفاظ المجملة المتشابهة وكلمات المغلوبين على عقولهم الذي يتكلمون به حال سكرهم وإغمائهم.
ثالثا: الزندقة التي هي أصل التجهم وهي غالبة على ابن سبعين والقونوي والتي قبلها غالبة على ابن عربي وزمرته (2) .
ويمكن رد مذهب الحلولية بأن يقال:
أولا: هذه الأعيان الموجودة عندكم هل أوجدها الله بعد هذا العدم أو بقيت فيه فإن قال ما فيه فيه فقد كابر الحس والعقل والشرع ومثل ذلك لا يقوله عاقل يدري ما يقول.
وإن قال بل أوجدها بعد عدمها لم تكن هي عينه لأن الله لم يكن معدوما حال عدمها فيوجد لأنه ينافي قدمه تعالى فبطل بذلك الاتحاد (وجب أن يكون العالم غير الله بل هو خلقه) (3) .
ثانيا: أن الوجود والماهية شيء واحد في خارج الذهن فلا يتصور
__________
(1) انظر مجموعة المسائل والرسائل (4 \ 27) .
(2) انظر مجموعة المسائل والرسائل (4 \ 27) .
(3) انظر مدارج السالكين (1 \ 147، 148) .(41/167)
الفرق بينهما وأما في الذهن فذلك يمكن لأن الذهن يفرض الممتنعات والمستحيلات.
ثالثا: أن القول بأنه الموجود المطلق بشرط الإطلاق يلزمه أن لا يكون له سبحانه ذات موجودة خارج الذهن لأن المطلق بشرط إطلاقه لا يوجد إلا في الذهن وما لزم منه الباطل فهو باطل.
رابعا: إن لازم ذلك سقوط التكاليف عن العبد وأنه ليس بمأمور ولا منهي وأنه ما ثم طاعة ولا معصية ولا معروف ولا منكر إذ ما يكون في حق الرب عينه يكون في حق العبد كما يقولون وذلك إبطال للشريعة من أصلها وهو باطل فما لزم منه فهو باطل.
خامسا: أن لازم ذلك أنه لا ثم موجود قديم ولا محدث وإنما هو موجود قديم ومحدث في آن واحد هو جمع بين النقيضين وهو مستحيل لذاته فما بني عليه فهو مستحيل لذاته.
هذا وأصل عقيدة الحلول والاتحاد أو وحدة الوجود هو الفناء في توحيد الربوبية وذلك بفناء السالك بشهوده عن مشهوده، وبذكره عن مذكوره الأمر الذي أدى بهم إلى القول بأن تصور الإنسان لوجوده في مقابل وجود الله هو إثبات لإثنينية في الوجود وهذا على حد قولهم شرك بالله حتى قال قائلهم:
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
لذا فإنهم عند الذكر إما يقولون يا هو أو يا أنا لأنه ما ثم إلا وجود واحد وهو وجود الحق جل جلاله.
وهذا أوصلهم في آخر المطاف للقول بمذهب ابن عربي والتلمساني والقونوي وغيرهم من القائلين بوحدة الوجود الذي كان نتيجة لعدم الفرق(41/168)
بين القديم والمحدث في مسمى الوجود حيث جعلوا الوجود الذي في الذهن هو عين الوجود الذي في الخارج فكما أن الوجود في الذهن مطلق عن القيود فكذلك هو في الخارج ومسمى الوجود في الذهن يجتمع فيه الخالق والمخلوق فكذلك يكون الأمر في مسمى الوجود في الواقع والحقيقة الخارجية عن الذهن (1) .
قال ابن القيم رحمه الله: (والفناء الذي يشير إليه القوم ويعملون عليه أن تذهب المحدثات في شهود العبد وتغيب في أفق العدم كما كانت قبل أن توجد ويبقى الحق تعالى كما لم يزل ثم تغيب صورة المشاهد ورسمه أيضا فلا يبقى له صورة ولا رسم ثم يغيب شهوده أيضا فلا يبقى له شهود ويصير الحق هو الذي يشاهد نفسه بنفسه كما كان الأمر قبل إيجاد المكونات وحقيقته أن يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل) (2) وبمقارنة هذا الكلام بما حكاه نفسه عن الاتحادية يظهر صحة ما ذكرناه آنفا فيقول ابن القيم رحمه الله (والاتحادي يقول ما ثم غير يوحده بل هو الموحد لنفسه بنفسه إذ ليس ثم سوي في الحقيقة) (3) .
__________
(1) انظر مدارج السالكين (1 \ 147، 148) .
(2) انظر المرجع السابق (1 \ 149) .
(3) انظر مدارج السالكين (1 \ 147، 148) .(41/169)
مصادر التلقي عند الصوفية:
لا تختلف مصادر التلقي عند شيوخ التصوف عما كان عليه السلف الصالح وهي كتاب الله والسنة فقد قال أحمد بن الحواري منهم: (من عمل بلا اتباع سنة فباطل عمله) وقال أبو حفص النيسابوري: (من لم يزن أفعاله وأقواله كل وقت بالكتاب والسنة ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال) وقال الجنيد بن محمد: (الطرق كلها مسدودة عن الخلق إلا من(41/169)
اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم) وقال أيضا: (من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة) وقال أبو عثمان النيسابوري: (من أمر السنة من نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة قال تعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (1) وقال أبو حمزة البغدادي: (من علم الطريق إلى الله سهل عليه سلوكه ولا دليل على الطريق إلى الله إلا بمتابعة الرسول في أحواله وأقواله وأفعاله) .
وقال أبو الحسن النوري: (من رأيته يدعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقتربن منه) وقال: (أعز الأشياء في زماننا شيئان: عالم يعمل بعلمه وعارف ينطق عن الحقيقة) وقال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت جدي أبا عمرو بن نجيد يقول: (كل حال لا يكون عنه نتيجة علم فإن ضرره أكثر على صاحبه من نفعه وسئل عن التصوف فقال: (الصبر تحت الأمر والنهي) .
وقد فسر معنى العلم عندهم بأنه الشرع المتمثل في نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف (2) هذا وقد حاول بعض الباحثين أن يشكك فيما تقدمت حكايته عن أئمة أهل التصوف بدعوى أن ذلك يقولونه أمام الناس وأما حقيقة ما يعتقدونه فخلاف ذلك (3) .
__________
(1) سورة النور الآية 54
(2) انظر الاستقامة (1 \ 96، 99) .
(3) انظر الاستقامة (1 \ 96، 99) .(41/170)
وقد رد ابن تيمية رحمه الله هذه المقالة بأمور:.
أولا أن ما تقدم نقله عنهم بالأسانيد الصحيحة مما لا يدع شكا في أنه هو اعتقادهم ومسارهم الذي سلكوه والتزموه.
ثانيا: أن ما نقل عنهم خلاف ذلك لم ينقل عنهم بالأسانيد الصحيحة وبالتالي فلا يعتمد عليه من جهة النقل.
ثالثا: أن القلوب علمها عند الله ولنا ظواهر الخلق وأحكام الدنيا مبنية على ذلك.
رابعا: أن بعض النصوص المنقولة عنهم ليست ظاهرة في الباطل بل الظاهر فيها الحق لا سيما إذا قورنت بما ثبت عنهم من نقول صحيحة.
خامسا: أن خطأ المتأخرين منهم لا يلزم منه كون المتقدمين منهم مشاركين لهم في هذا الخطأ.
ونحن عندما نذكر ذلك لا ندافع عن الصوفية ولا عن التصوف لكنه إقرار لما يقتضيه البحث العلمي من الأمانة في النقل والعدالة في الحكم.
هذا وأما متأخرو الصوفية الذين خالفوا سبيل سلفهم المتبع للكتاب والسنة فأرجعوا طرق التلقي والمعرفة إلى ستة أمور:(41/171)
الأول منها: هو الكشف ومعناه عندهم (هو الاطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا) .
وعرفه صاحب المنازل فقال: (المكاشفة مهاداة الشر بين متباطنين) (1)
__________
(1) مدارج السالكين (3 \ 221) صاحب المنازل هو أبو إسماعيل الهروي.(41/171)
وشرحه ابن القيم بقوله: (إطلاع أحد المتحابين المتصافيين صاحبه على باطن أمره وسره) (1) .
وقال ابن تيمية (هو ما يلقي في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالقلوب على المطلوب) (2) .
وعلى هذا فهو حالة تعتري القلب حال خلوة من حظوظ النفس ومشتهيات الطبع الإنساني من أحوال تقوي بصيرة القلب بحيث يبصر من الأمور والأحوال الغائبة عن الحس والعقل ما لا يبصره غيره ولا يعرفه من العلوم والأحوال.
ومن الأمر المعلوم بضرورة العقل والشرع أن ما يحصل في القلب من أمور لغير النبي والرسول الموحى إليه لا تخلو من حالين:
الحال الأول: أن يدل الدليل الشرعي على صحة الأمور التي تعلم عن طريق الفراسة الإيمانية كما قال صلى الله عليه وسلم «اتقوا فراسة المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور الله (3) » رواه الترمذي عن أنس بن مالك وهو حديث حسن.
أو عن طريق الكرامة الربانية كاطلاع عمر رضي الله عنه على حال سارية في المعركة مع الروم وكعلم أبي بكر ما في بطن امرأته لكن هذه الأشياء لا تستمر بل يحدث خلافها إذا ما خالطت الغفلة قلب العبد كما قال سبحانه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (4) .
الحالة الثانية: أن لا يدل الدليل الشرعي على صحتها وفي هذه الحالة يجب عرضها على الشرع لأن الخواطر التي تحصل للإنسان قد تكون
__________
(1) مدارج السالكين (3 \ 221) صاحب المنازل هو أبو إسماعيل الهروي.
(2) انظر بيان تلبس الجهمية (1 \ 263) .
(3) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3127) .
(4) سورة المطففين الآية 14(41/172)
وساوس شيطانية كما قال سبحانه: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} (1) {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (2) {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (3) عندما أمرنا أن نتعوذ به من وسوسة الشيطان (4) .
هذا والمتصوفة ترى أن الكشف حالة مستمرة بشيوخهم وأن أولئك الشيوخ دون سائر المؤمنين قد اختصوا بها وظنوا أن الكشف لا يكون إلا من الله خاصة وأنه لا يكون بعضه من الشيطان ولم يفرقوا بين الكشف الرحماني والكشف الشيطاني مما فتح الباب أمام الشيطان ليتلاعب بهم وبعقولهم مع أن هذا النوع من الكشف المدعى كما يكون للمؤمن يكون لسواه من الفساق والكفار والمشركين من الكهان والمنجمين والرمالين الذي كان سببا في انتشار أنواع من الخرافات والشعوذات في محيط الصوفية والتصوف.
وقد ذكر ابن تيمية عدة وجوه تدل على بطلان هذا النوع من الكشف وعدم إمكان الاعتماد عليه في تحصيل المطالب الشرعية وهي: (5) أولا: أن الرسل لم تأت به وإنما جاءت بالرد للكتاب والسنة وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (6) .
ثانيا: أن مجرد ترك الشهوات لا يكفي في تحصيل الحال الإيماني بل لا بد أن تنضم إليه أنواع من العبادات الظاهرة والباطنة حتى تكتمل بصيرته.
__________
(1) سورة الناس الآية 4
(2) سورة الناس الآية 5
(3) سورة الناس الآية 6
(4) انظر مدارج السالكين (3 \ 222، 223، 226، 228) شرح العقيدة الأصفهانية (12) .
(5) انظر الفتاوى (2 \ 65، 69، 74) .
(6) سورة النساء الآية 59(41/173)
ثالثا: اتفاق شيوخ الصوفية وأئمتهم على وجوب تعلم العلم الشرعي وأن طريقتهم لا تستقيم إلا باتباع الكتاب والسنة مما تقدم بيان شيء منه.
رابعا: أن الاعتماد في تحصيل المطالب الإلهية عليه غير مأمون لما تقدم من إمكان أن يكون الحاصل في القلب من وساوس الشيطان.
خامسا: أن الكشف لا يمكن أن يكون طريقا للمطالب الإلهية لأن إيصاله للمطلوب غير متيقن والدليل لا بد أن يستلزم المدلول وهو لا يستلزم المطلوب فقد يوصل إليه وقد يوصل إلى ضده.
سادسا: عدم معرفة إيصاله إلى الحق إلا إذا وصل إليه فهو ليس بمأمون ولا متعين للوصول إلى الحق.
سابعا: أن الكشف لا يوصل إلا إلى معرفة إجمالية أما التفصيلية فهذا ما لا يمكنه أن يوصل إليه وإذا ظهر لنا عدم إمكان الاعتماد على الكشف كطريق للمعرفة الصحيحة المدلول عليها بالكتاب والسنة وأن خطأ الكشف يعرف بمخالفة الكتاب والسنة أو مخالفة العقل الصحيح المهتدي بهما أو مخالفته للحس الظاهر والباطن (1) .
علمنا بأن أكثر ما يدعيه هؤلاء الصوفية من المكاشفات ما هي إلا أحوال شيطانية أو تخيلات وهمية تحصل لبعض الناس إذا غاب عن وعيه وحسه بسبب قوة الواردات وضعف النفس مما يفقد صوابه فيرى ويشاهد بخياله ما لو كان في حال اعتداله وحسه لم يره ولم يشاهده الأمر الذي أدى ببعضهم إلى الحلول والاتحاد لاعتقاده أن ما شاهده هو ربه أو من حدثه هو كذلك (2) .
__________
(1) انظر الجواب الكافي (2 \ 134، 135، 136) .
(2) انظر الجواب الكافي (2 \ 134، 135، 136) .(41/174)
ثانيا: الذوق: وهو كما في التعريفات (عبارة عن نور عرفاني يقذفه الحق بتجليه في قلوب أوليائه يفرقون به بين الحق والباطل من غير أن ينقلوا ذلك من كتاب أو غيره) (1) .
وقال ابن القيم: (الذوق مباشرة الحاسة الظاهرة والباطنة للملائم والمنافر ولا يختص بحاسة الفم في لغة القرآن بل ولا في لغة العرب قال تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (2) وقال: {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (3) وقال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} (4) وقال: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (5) .
فتأمل كيف جمع بين الذوق واللباس ليدل على مباشرة الذوق وإحاطته وشموله فأفاد الأخبار عن إذاقته أنه واقع مباشر غير منتظر فإن الخوف قد يتوقع ولا يباشر وأفاد الإخبار عن لباسه أنه محيط شامل كاللباس للبدن (6) .
وقد جاء الذوق في السنة النبوية مقصودا به ما يحصل في القلب من لذة إيمانية وحلاوة يقينية في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا (7) » .
قال ابن القيم تعليقا على هذا الحديث: (فأخبر أن للإيمان طعما وأن القلب يذوقه كما يذوق الفم الطعام والشراب) وقد عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بالطعام والشراب كما في حديث «إني أظل يطعمني ربي ويسقيني (8) » قال ابن
__________
(1) التعريفات للجرجاني (107) دار الكتب العلمية.
(2) سورة الحج الآية 22
(3) سورة آل عمران الآية 106
(4) سورة ص الآية 57
(5) سورة النحل الآية 112
(6) مدارج السالكين (3 \ 87) مجموع الفتاوى (10 \ 335) (3 \ 87، 88) (3 \ 90، 99) .
(7) صحيح مسلم الإيمان (34) ، سنن الترمذي الإيمان (2623) ، مسند أحمد بن حنبل (1/208) .
(8) صحيح البخاري التمني (7241) ، صحيح مسلم الصيام (1104) ، سنن الترمذي الصوم (778) ، مسند أحمد بن حنبل (3/253) ، سنن الدارمي الصوم (1704) .(41/175)
القيم: (وقد غلظ حجاب من ظن أن هذا الطعام والشراب حس من الفم) وذكره بلفظ الحلاوة فقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان (1) » قال ابن القيم: (وهذا الذوق هو الذي استدل به هرقل على صحة النبوة حيث «قال لأبي سفيان: (هل يرتد أحد منهم سخطة لدينه فقال: لا قال كذلك الإيمان إذا خالطت حلاوته بشاشة القلب (2) » فاستدل بما يحصل لاتباعه من ذوق الإيمان الذي خالطته بشاشة القلب لم يسخطه ذلك القلب أبدا على أنه دعوة نبوة ورسالة ملك ورياسة (3) وبذا يثبت أن للقلب ذوقا يجده كذوق الفم للطعام والشراب وهذا اللفظ والمعنى ثابت بدلالة الكتاب والسنة (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (16) ، صحيح مسلم الإيمان (43) ، سنن الترمذي الإيمان (2624) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4988) ، سنن ابن ماجه الفتن (4033) .
(2) صحيح البخاري بدء الوحي (7) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/263) .
(3) مدارج السالكين (3 \ 87، 88) .
(4) مدارج السالكين (3 \ 87، 88) .(41/176)
أنواع الذوق: (1) .
والذوق ثلاثة أنواع هي:
أولا: ذوق طعم الإيمان بوعد الله وهو يقين يدفع على الجد في العبادة والطاعة ويمنع ضد ذلك من أن يحبسه عن ذلك كله فلا معارض له في القلب يمنع طلبه لما وعد الله به عباده الصالحين ويدل عليه قوله جل شأنه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (2) فقد نفى الله الإيمان عمن لم يذق طعم الإيمان لأن المخاطبين مسلمون وليسوا بمؤمنين الإيمان الكامل الذي يباشر القلب.
ثانيا: ذوق الإنسان بالله تعالى والفرق بين هذا النوع والذي قبله أن متعلق الأول وعد الله وأما الثاني فمتعلقه الأنس بالله فهو أشرف من الأول
__________
(1) مدارج السالكين (3 \ 90، 99) .
(2) سورة الحجرات الآية 14(41/176)
كما أن الأول حال للعابد وهذا حال للمريد فلا يشغله عن ربه ذكرا له وعبادة له أي شيء كائن من كان والمريدون يتفاوتون في قوة الأنس بربهم بحسب قربهم منه وبعدهم عنه ومن كان منهم أقرب كانت خشيته أشد.
النوع الثالث: ذوق المنقطع المحجوب عن ربه طعم الاتصال وهو أنس القلب بالرب والأولى في التعبير عن ذلك أن يستعمل لفظ القرب بدل الاتصال ولفظ أنس القلب بغير الله بدلا من الانقطاع أو البعد عنه تعالى لأن التعبير بالاتصال قد يوهم مذهب أهل الحلول والاتحاد لأن بعضهم يقول: (المنقطع ليس في الحقيقة منقطعا، بل لم يزل متصلا لكنه غائب عن المشاهدة فلما شاهد وجد نفسه لم يكن منقطعا بل لم يزل متصلا) .(41/177)
موقف الشرع من الذوق:.
الذوق شرعا ينقسم إلى قسمين:
الأول: ذوق شرعي فهو ما دل عليه الدليل من الكتاب والسنة فإن الذوق لا يستقل بالدلالة على شيء.
الثاني: ذوق غير شرعي: وهو ما دل الدليل الشرعي من الكتاب والسنة على بطلانه أو لم يدل الدليل على بطلانه أو صحته لأنه والحالة هذه لا يعرف هل هو وسواس شيطاني أو ذوق إيماني ولأن لكل إنسان ذوقا فالوجودي يدعي أن ذوقه يدل على اعتقاده وهكذا الأمر بالنسبة لليهودي والنصراني.
ثم بما عرف مدعي الذوق أن ذوقه ذلك صحيح حتى يعتمد عليه ويترك دلالة الكتاب والسنة ووجود الذوق ليس دليل صحته بل لا يدل على أنه نافع فقد يكون ذوقا ضارا بصاحبه.(41/177)
هذا ونصوص القرآن والسنة تدل على وجوب اتباع الكتاب والسنة معقولهما لا غير مما يدل على رد ما سواهما. كقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (1) وقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (2) وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي (4) » . وقوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ (5) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه (6) » . وقوله صلى الله عليه وسلم: «أوتيت القرآن ومثله معه (7) » أي السنة النبوية والأدلة في هذا كثيرة ولا حصر لها فتحصل بها أن الذوق لا بد وأن يعرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن وافقهما أقر وإن خالفهما رد لأن الله ورسوله لم يجعلا الأذواق هي الحكم بل الحكم هو ما أنزله جل شأنه على رسوله كما قال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (8) وقال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (9) وقال لمن حكم بغير ما أنزل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (10) وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (11) وقال: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (12) ولأن تحكيم الذوق يفضي لأن يحكم كل مبطل على إثبات باطله بذوقه وهو كثير في أهل الباطل والإلحاد (13)
__________
(1) سورة المائدة الآية 92
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة الأحزاب الآية 36
(4) موطأ مالك الجامع (1661) .
(5) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(6) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(7) سنن الترمذي العلم (2664) ، سنن أبو داود السنة (4604) ، سنن ابن ماجه المقدمة (12) ، مسند أحمد بن حنبل (4/131) ، سنن الدارمي المقدمة (586) .
(8) سورة المائدة الآية 49
(9) سورة الأنعام الآية 57
(10) سورة الشورى الآية 21
(11) سورة المائدة الآية 44
(12) سورة المائدة الآية 50
(13) مدارج السالكين (3 \ 442) وكتاب هذه هي الصوفية ص (40) .(41/178)
ثالثا: الوجد قال في التعريفات هو (ما يصادف القلب ويرد عليه بلا تكلف وتصنع وقيل هو بروق تلمع ثم تخمد سريعا) (1) .
وقال ابن القيم: (وهو ثمرة أعمال القلوب من الحب في الله والبغض فيه) وقد ورد لفظ الفعل منه في القرآن الكريم فقال سبحانه: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} (2) وهو هنا بمعناه اللغوي وقد استشهد صاحب منازل السائرين على الوجد بقوله سبحانه في أصحاب الكهف: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} (3) (الكهف 14) قال ابن القيم: (هذا من أحسن الاستدلال والاستشهاد فإن هؤلاء كانوا بين قومهم الكفار في خدمة ملكهم الكافر فما هو إلا أن وجدوا حقيقة الإيمان والتوفيق وذاقوا حلاوته وباشر قلوبهم فقاموا من بين قومهم وقالوا ربنا رب السماوات والأرض) (4) وقال ابن القيم في موضع آخر في تعريف الوجد عند القوم: (هو ما يصادف القلب وما يرد عليه من واردات المحبة والشوق والإجلال والتعظيم وتوابع ذلك) (5) .
وقد ورد الوجد في السنة فقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار (6) » .
__________
(1) التعريفات للجرجاني ص (250) .
(2) سورة النور الآية 39
(3) سورة الكهف الآية 14
(4) انظر مدارج السالكين (3 \ 69، 70) .
(5) انظر مدارج السالكين (3 \ 69، 70) .
(6) انظر مدارج السالكين (3 \ 69، 70) .(41/179)
والفرق بين الوجد والذوق:
يرى صاحب منازل السائرين أن الذوق أثبت من الوجد فيبقى أثره في القلب ويطول بقاؤه وأما الوجد فهو عارض يلهب القلب ويقلقه ثم يذهب. ويرى ابن القيم أن الوجد أعلى من الذوق ويدل على ذلك (بأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الوجد فوق الذوق وأعلى منزلة منه فإنه قال: «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان (1) » وقال في الذوق: " ذاق طعم الإيمان " فوجد حلاوة الشيء المذوق أخص من مجرد ذوقه ولما كانت الحلاوة أخص من الطعم قرن بها الوجد الذي هو أخص من مجرد الذوق فقرن الأخص بالأخص والأعم بالأعم) (2) .
ثم توج ذلك ببيان أن ما يدعى من أن الوجد هو مجرد لهيب القلب فيه نظر لأن مادة الوجد في اللغة تدل على الثبوت يقال وجد الشيء وجدا من الوجود الذي هو الثبوت فوجد الشيء يجده وجدانا إذا حصل له وتثبت ويدل على أن مادة الوجد تدل على الثبوت والدوام. . قوله سبحانه: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} (3) وقوله: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) وقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} (5) {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (6) {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} (7) وقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} (8)
كما قال أن الذوق يعتمد في حصوله على الوجدان (9) وبذا يثبت ابن القيم أن الوجد أخص من الذوق وحال الوجد تحصل من حال الذوق لاستلزام الوجد الدوام والثبوت وهذا ما لا يوجد في الذائق.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (16) ، صحيح مسلم الإيمان (43) ، سنن الترمذي الإيمان (2624) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4988) ، سنن ابن ماجه الفتن (4033) ، مسند أحمد بن حنبل (3/114) .
(2) انظر مدارج السالكين (3 \ 89) .
(3) سورة النور الآية 39
(4) سورة النساء الآية 110
(5) سورة الضحى الآية 6
(6) سورة الضحى الآية 7
(7) سورة الضحى الآية 8
(8) سورة ص الآية 44
(9) انظر مدارج السالكين (3 \ 89) .(41/180)
أنواع الوجد:
للوجد ثلاثة أنواع:
أولا: وجد يستفيق بسببه البصر فيرى من آيات الله المشهودة الدالة على خالقها وموجدها ويستفيق السمع ويثبت عليه من الآيات ما تدل على آيات الله الكونية مما تتفتح بسببه آفاق الفكر والإدراك وعظمة الخالق وما يجب له من الألوهية والربوبية والأسماء والصفات. ويدل عليه قوله سبحانه: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (1) وقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} (2) .
ويسميه ابن القيم ب وجد السمع والبصر والفكر.
__________
(1) سورة الحج الآية 46
(2) سورة الروم الآية 8(41/181)
ثانيا: وجد الروح وهو وجد تستنير به الروح فيعقب لها كمالا وحلاوة وسرورا فتجده يحب ما يحب الله ويكره ما يكره الله فهو يسمع بالله ويبصر به.(41/181)
ثالثا: وجد العبودية فيشهد فيه العبد معبوده ويستغني بشهوده هذا عن كوني الدنيا والآخرة فتموت في نفسه حظوظ النفس ولا يبقى له غرض في شيء إلا عبادة الله فيفني عمره في ذلك والناس في هذا الوجد على ثلاثة مقامات:
أولا: عبد محض وهو من استعبدته نفسه وشهواته فملكته وقهرته فانقاد لها.(41/181)
ثانيا: عبد مكاتب من انعقدت له أسباب الحرية وهو يسعى إلى كماله فهو عبد من جهة وحر من جهة فما دام قد يبقى عليه من الكتابة درهم واحد فهو عبد مادام ينظر إلى حظوظ نفسه.
ثالثا: عبد حر وهو من خلصت عبوديته لربه وخرج من قيود النفس وحظوظها.
موقف الشرع من الوجد:
لا يختلف الأمر في الوجد عن الذوق فهو منقسم إلى قسمين:
1 - وجد إيماني وهو ما دل عليه الشرع وهو وجد صحيح.
2 - وجد شيطاني: وهو ما لم يدل عليه دليل من الشرع هو وجد باطل.
فالمرجع في صحته وفساده إلى دلالة الشرع لأنه كالذوق لا يدري ما يوجد في القلب هل هو حق أو باطل لأن فرضهما في الوجود متساويا فلا بد من مرجح وهو الشرع.
كما أن الوجد قد يبلغ ببعض الناس إلى درجة يغيب فيها عن شعوره وفي هذه الحالة هو لا يدري من يخاطبه فيظن أن ذلك ملك أو أنه ربه والأمر ليس كذلك لأن من فقد التمييز والعقل لم يكن له حكم صحيح على الأشياء فكيف يمكن الاعتماد عليه كما قال صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة وذكر منها. . والنائم حتى يستيقظ (1) » وهذا الواجد في حالة غيبوبته بوجده هو كالنائم من جهة أنه لا عبرة بما يقوله أو يتكلم به حال نومه أو يراه حال نومه أضف إلى ذلك ضعف العلم والمعرفة فإنه عندئذ لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فتملي عليه الشياطين ما تشاء وهو لا يعلم أن ذلك المخاطب له ما هو إلا شيطان أو فاسق من الجن فيقع عندئذ السهو والخطأ (2) .
__________
(1) سنن الترمذي الحدود (1423) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (1/140) .
(2) انظر مدارج السالكين (3 \ 72) .(41/182)
ولا يخرج الوجد الإيماني عن أحد أمرين:
الأول: واعظ القلب وهو في قلب كل مؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم: «والداعي على الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن (1) » فهو من لمة الملك وعليه من الله دليل.
الثاني: خطاب القرآن الكريم والسنة النبوية ببيان صحة ما يوجد في القلب حال حضور العقل والفكر. قال صلى الله عليه وسلم: «والداعي على رأس الصراط كتاب الله (2) » .
يقول ابن القيم رحمه الله: (فما ثم خطاب قط إلا من جهة من هاتين: إما خطاب القرآن وإما خطاب هذا الواعظ) (3) .
وبذا يعلم أنه لا يمكن الاعتماد على كل ما يوجد في القلب من أحوال لعدم الثقة بها ووجودها ليس دليل كونها حقا.
__________
(1) سنن الترمذي الأمثال (2859) ، مسند أحمد بن حنبل (4/183) .
(2) سنن الترمذي الأمثال (2859) ، مسند أحمد بن حنبل (4/183) .
(3) انظر مدارج السالكين (3 \ 72) .(41/183)
رابعا: الإلهام ويراد به عند الصوفية مرتبة التحديث (1) .
وهو ما ورد بلفظه في الكتاب والسنة قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} (2) {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (3) .
«وقال صلى الله عليه وسلم لحصين بن منذر الخزاعي لما أسلم قل: "اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي (4) » .
هذا ولم يرتض ابن القيم تسمية الإلهام بالتحديث وذلك لأن التحديث أخص من الإلهام وذلك لأمرين:
أحدهما: أن الإلهام يكون لعموم المؤمنين ولا يختص به أحد دون أحد كما في الآية المتقدمة.
__________
(1) انظر مدارج السالكين (1 \ 44، 50) انظر الصفدية (1 \ 253- 260) .
(2) سورة الشمس الآية 7
(3) سورة الشمس الآية 8
(4) سنن الترمذي الدعوات (3483) .(41/183)
الثاني: أن التحديث لا يكون لعموم المؤمنين بدليل تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم عمر به دون الأمة حيث قال صلى الله عليه وسلم: «إن يكن في هذه الأمة أحد فعمر (1) » وعرف ابن القيم الإلهام بأنه وحي لغير الأنبياء ولكن للمكلفين كما في قوله سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (2) ويكون لغير المكلفين كما في قوله سبحانه: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (3) .
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3689) ، مسند أحمد بن حنبل (2/339) .
(2) سورة القصص الآية 7
(3) سورة النحل الآية 68(41/184)
وهو عند صاحب المنازل على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: نبأ يقع وحيا قاطعا بسماع والنبأ أخص من الخبر لأن النبأ هو الخبر الذي له شأن وهو نبأ لأنه خبر عن غيب معظم.
وقد عرف ابن القيم هذا النوع بأنه (الإعلام الذي قطع من وصل إليه بموجبه إما بواسطة سمع أو هو الإعلام بلا واسطة وقد انتقد ابن القيم جعل طريق الإلهام السمع وذلك لأنه والحالة هذه خطاب وليس إلهاما وهذا يستحيل أن يحصل إلا للأنبياء وهذا من خصوصيات موسى عليه السلام حيث خاطبه ربه في الطور.
وأما ما يقع لأرباب الرياضيات من السماع فأعلاها ما يكون منه أن يخاطبه الملك خطابا جزئيا فإن هذا يمكن أن يقع لغير الأنبياء وذلك لخطاب الملائكة عمران بن حصين بالسلام عليه فلما اكتوى تركت خطابه فلما ترك الكي عادت بالسلام وهو على نوعين:
أحدهما: خطاب يسمعه بأذنه وهو وارد بالنسبة لعموم المؤمنين.
الثاني: (خطاب يخاطب به الملك الروح فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم «إن(41/184)
للملك لمه بقلب ابن آدم وللشيطان لمه فلمة الملك إيعاد بالخير والتصديق بالوعد ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد) ثم قرأ (2) » وهذا هو واعظ القلب في قلب المؤمن.
وأما وقوع الإلهام بغير واسطة لم يقم عليه دليل فلا يجزم بنفيه ولا إثباته إلا بدليل من سماع أهل الرياضيات الخطاب المسموع كخطاب الجن وقد يكون المخاطب مؤمنا وقد يكون شيطانا وهو على نوعين:
أحدهما: أن يخاطبه بحيث يسمعه بأذنه.
الثاني: أن يلقيه على قلبه عندما يلم به.
وعلى هذا فإن المخاطب لا يعلم هل خطابه في هذه الحال خطاب ملك أو خطاب شيطان يطلق ابن القيم على هذين الخطاب الرحماني والخطاب الشيطاني.
وعلى ذلك فلا يمكن التمييز بينهما إلا بعرضهما على الشرع فما وافقه علم أنه رحماني وما خالفه علم أنه شيطاني.
ومن سماع أرباب الرياضيات خطاب حالي ويكون من النفس فتوهمه أنه من خارجها وهذا كثيرا ما يعرض لكثير من السالكين فيظن أن الله قد خاطبه وسببه أن النفس حين صفائها وتخلصها من كدراتها حال الرياضة يقوى سلطان الروح والقلب على سلطان البدن والجسد وعندئذ يكون الخطاب للقلب والروح والسالك في حال غيبته وفنائه قد يتصور من يخاطبه وهو ليس كذلك.
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (2988) .
(2) سورة البقرة الآية 268 (1) {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا}(41/185)
الدرجة الثانية إلهاما يقع عيانا هو عام ضروري لا يستطيع القلب دفعه وشرطه:
أولا: ألا يتجاوز حدود الله فيرتكب المعاصي كالكهان وأصحاب الكشف الشيطاني.
ثانيا: أن لا يقع على خلاف الحدود الشرعية كالتجسس على العورات التي نهى الله عن التجسس عليها.
ثالثا: أن لا يخطئ أبدا بل يستمر صدقه لأن الكشف الشيطاني لا يستمر صدقه بل يكذب وتمثله الأمور الفطرية والمعلومات الضرورية التي لا تحتمل الخطأ.(41/186)
الدرجة الثالثة إلهام يجلو عين التحقيق صرفا: وهو الفناء في شهود الحقيقة الكونية وهذا النوع من الإلهام هو أصل أهل الحلول والاتحاد مع أن صاحب المنازل يخالف هؤلاء في أن الفناء في الشهود لا في الوجود وأهل الحلول والاتحاد هو عندهم فناء في الوجود وأيا كان الأمر فإنه لا بد من الرجوع إلى الشرع في كل نوع من هذه الأنواع فإن دل الدليل عليه قبل وإن رده لم يقبل وقد تقدم أن التحديث أخص من هذا الإلهام ومع ذلك فإن عمر رضي الله عنه كان لا يعتمد على تحديثه ولكن على ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا ويقرر ابن تيمية أن الإلهام الذي في القلب تارة يكون في الشرعيات وتارة يكون في الكونيات فإذا كان في الشرعيات فهو على نوعين:
النوع الأول: ما كان من جنس العلم والقول والظن والاعتقاد.
النوع الثاني: ما كان من جنس العمل والحب والإرادة والطلب وفي(41/186)
هذين الأمرين يكون الإلهام بترجيح أحد الفرضين على الآخر وبيان أنه هو الحق والصواب وقد يكون مجرد ميل لأحدهما دون الآخر.
وأما إذا كان في الأمور الكونية فقد ينكشف للعبد المؤمن يقينا أو ظنا وإذا تقرر هذا فإن الكشف في الأمور الدينية أولى وأحرى لكن لا بد أن يكون بالدليل الكاشف وقد يكون بدليل ينقدح في قلب العبد لكن لا يستطيع التعبير عنه.
وقد خطأ ابن تيمية الغزالي في إنكاره هذا النوع الأخير من الترجيح بالدليل المنقدح في نفس العبد ولا يستطيع التعبير عنه وذلك أن كثيرا من الناس ينقصهم البيان فقد يلقي في القلب أن هذا الطعام حرام وأن هذا الرجل فاسق أو كافر وإن كان من جهة العمل للجزم لا بد من دليل شرعي في ذلك كله وأنه لا يعمل بمجرد الظن والتخمين وبنى قوله هذا على أن الأدلة لا يجوز أن تتكافأ في واقع الأمر وحقيقته وإن كانت تتكافأ عند الناظر فيجتهد في معرفة أرجحها فإذا بذل جهده في معرفة الحق لم يطلب منه أكثر من ذلك (1) .
هذا وابن تيمية عندما يقرر ما تقدم فإنه لا يرى الاعتماد على مجرد ما يحصل في القلب من إرادة بل لا بد من عرض ذلك على الكتاب والسنة ويدل عليه قوله: (فهذا الأمر والنهي الذي يقع في قلب المؤمن مطابق لأمر القرآن ونهيه وبهذا يقوي أحدهما الآخر كما قال سبحانه: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} (2) .
قال بعض السلف في هذه الآية: (هو المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها أثرا فإذا سمع الأثر كان نورا على نور، (3) .
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى (10 \ 476، 478) .
(2) سورة النور الآية 35
(3) مجموع الفتاوى (10 \ 475) .(41/187)
خامسا: الفراسة: الفراسة في اللغة بالكسر مصدر فرست بالعين أفرس من باب ضرب ومنه تفرست فيه الخبر تعرفته بالظن الصائب ومنه حديث: «اتقوا فراسة المؤمن (1) » .
وقد ورد في القرآن الكريم ما يدل على معناها كقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} (2) قال مجاهد رحمه الله المتفرسين وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (للناظرين) وقال قتادة رحمه الله للمعتبرين وقال مقاتل: للمتفكرين ولم يرد لفظها فيه.
وأما في السنة فقد وردت بلفظها حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله (3) » رواه الترمذي عن أنس وهو حسن ولا تعارض بين أقوال المفسرين في الآية المتقدمة لأن الناظر متى نظر وتفكر في حالهم وانتقل إلى الصور المشابهة لهم في الحال وصل إلى الحكم عليهم بنفس الحكم فهي أقوال متلازمة غير متنافرة (4) .
__________
(1) المصباح المنير (2 \ 121) .
(2) سورة الحجر الآية 75
(3) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3127) .
(4) انظر مدارج السالكين (2 \ 482، 483) .(41/188)
أنواع الفراسة: (1) .
يرى ابن القيم أن الفراسة على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: (الفراسة الإيمانية وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب ينفي ما يضاده يثبت على القلب) وسمي بهذا الاسم تشبيها له بوثوب الأسد على فريسته وسبب هذا النوع: نور يقذفه الله في قلب العبد يكون من
__________
(1) انظر مدارج السالكين (2 \ 483- 495) شرح الطحاوية (445- 447) .(41/188)
نتائجه أن يفرق بين الحق والباطل والصادق والكاذب وغيرها وهي بحسب الإيمان قوة وضعفا فكلما قوي الإيمان قويت وكلما ضعف ضعفت فمن كان أقوى إيمانا كان أقوى فراسة.(41/189)
النوع الثاني: الفراسة الرياضية:
وهي تكون بالمران والتكرار وتحمل المشاق من الجوع والسهر والتخلي وسببها أن النفس إذا تجردت مما يثقلها صار لها كشف بحسب ذلك التجرد وهذا النوع لا يختص بأهل الإيمان بل هو حاصل للمؤمن والكافر فهي مشتركة بين الناس وقوتها تبعا لسببها.
ولا دلالة فيها على إيمان ولا ولاية ولا يستفاد منها الكشف عن الحق ولا عن طريق مستقيم فهي تحصل للولاة والأطباء وأرباب الحرف بحسب معرفتهم بوظائفهم وتمكنهم منها.(41/189)
النوع الثالث: الفراسة الخلقية وهي الاستدلال بالخلق الظاهر على الخلق الباطن لما بينهما من ارتباط اقتضته حكمة الله كأن يستدل بزرقة العينين على الدهاء والخبث وبسعة الصدر على سعة الخلق والحلم ونحو ذلك وهي أيضا كسابقتها لا يستدل بها على إيمان ولا كفر ولا ولاية ولا عداوة.
ويرى صاحب المنازل أن الفراسة: استئناس الغيب ويقصد بها قياس الشاهد على الغائب وهو أمر مشترك بين المؤمن والكافر وغيرهما ومثالها الاستدلال على نزول المطر بشدة البرق والرعد واستدلال الطبيب على المرض بظواهر على المريض ونحو ذلك وهي عنده على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: فراسة طارئة نادرة وهي التي تقع على لسان شخص مرة واحدة في العمر مثلا وهي عنده فراسة الغافلين الذين لم يأنسوا بذكر الله وقربه فهي كرمية من غير رام.(41/189)
الدرجة الثانية: فراسة تجنى من غرس إيماني وهي تبعا لصدق الحال فكلما كان الحال أصدق كانت هذه الفراسة أقوى وهي عنده تختص بأهل الإيمان وهم فيها متفاوتون.
النوع الثالث: فراسة سرية وهي التي يخبر فيها المختار المصطفى صاحب الولاية عن الأمور المغيبة تارة تصريحا وتارة تلويحا إما سترا لحاله أو صيانة لما أخبر به من الابتذال ووصوله إلى غير أهله وإما لغير ذلك من الأسباب وهي أعلى الأنواع عند صاحب منازل السائرين مع أن هذه الدعوى غير مقبولة لأن الخبر عن الغيب قد يكون ساحرا أو كاهنا أو عرافا أو منجما وكل هؤلاء أحوالهم من الشرع مذمومة. قال صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (1) » .
هذا وقد غلا الصوفية في الفراسة حتى جعلوها مصدرا من المصادر الأساسية للمعرفة حتى حكموها في أمور الديانة مع أن صاحب الفراسة إن كانت إيمانية لا يعرف صدقها إلا بوقوعها وجزمه بمجرد الواردات يحتاج إلى عرضه على الشرع ليحكم عليه بالنفي أو الإثبات والحق أو الباطل وغاية الأمر إن لم يدل الدليل على أنه باطل أو حق أن تكون الفراسة من المرجحات، ولذا لم يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بفراسة في مال أو عرض أو نفس أو نسب أو عقل بل بالبينات والشهود وغاية الفراسة أن تكون أمارة ظنية لا تصل إلى مقام الدليل من حيث دلالته على إثبات الحكم فلا تصلح للاستقلال بالحكم في أمر شرعي أو قدري بل لا بد من عرض ما دلت عليه على نصوص الكتاب والسنة وما دل عليه معقولهما.
مما يدل على أن الفراسة ترجع أسبابها إلى أمرين: (2) .
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(2) انظر مدارج السالكين (2 \ 489) .(41/190)
الأول: جودة ذهن المتفرس.
الثاني: ظهور العلامات والأدلة على المتفرس فيه وهما أمران ظنيان فما بني عليه يكون ظنيا فلا يستقبل بالإثبات أو النفي ولا تعارض به الأدلة اليقينية من الكتاب والسنة ومعقولهما.
وبذا يتبين لنا أنه لا يجوز الاعتماد في إثبات الحكم الشرعي أو القدري على مجرد الفراسة وحدها بل لا بد من اجتماع أمارات كثيرة تقرب إلى اليقين أو أدلة شرعية تدل على المنفي أو المثبت.
وأما في الأمور الدنيوية التي لا تعارض كتابا ولا سنة ولا تستلزم نقل الأموال وإثبات الحدود والتعزيرات فلا بأس من الاستفادة من الفراسة في مجال الترجيح بين المتعارضات.(41/191)
سادسا: الرؤى والأحلام:
تعريفها: (1) الرؤى جمع رؤيا: وهي ما يراه الشخص في منامه وهي بوزن فعلى وقد تسهل الهمزة، وقال الواحدي: هي في الأصل مصدر كاليسرى فلما جعلت اسما لما يتخيله النائم أجريت مجرى الأسماء.
قال الراغب: والرؤية بالهاء إدراك المرء بحاسة البصر وتطلق على ما يدرك بالتخيل نحو: أرى أن زيدا مسافر وعلى التفكر الفطري نحو {إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ} (2) وعلى الرأي وهو اعتقاد أحد النقيضين على غلبة الظن.
وقد وردت الرؤيا في القرآن الكريم كما في قوله سبحانه:
__________
(1) عقيدة التوحيد في فتح الباري ص (317) بتصرف يسير جدا.
(2) سورة الأنفال الآية 48(41/191)
{وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ} (1) وقال جل جلاله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} (2) وقال سبحانه في سورة يوسف: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} (3) .
وكما ورد في القرآن فقد ورد ذكرها في السنة فقال صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة (4) » رواه البخاري عن أنس. .
وأخرج البخاري أيضا عن عبادة بن الصامت وأبي هريرة قال: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة (5) » . وأخرج أيضا «عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة (6) » .
تعريف الرؤيا اصطلاحا: (7) .
قال القاضي أبو بكر بن العربي: (الرؤيا إدراكات علقها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان إما بأسمائها أي حقيقتها وإما بكناها أي بعباراتها وإما تخليط ونظيرها في اليقظة الخواطر فإنها قد تأتي على نسق في قصة وقد تأتي مسترسلة غير محصلة وهذا حاصل قول الأستاذ أبي إسحاق) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 60
(2) سورة الفتح الآية 27
(3) سورة يوسف الآية 43
(4) صحيح البخاري التعبير (6983) ، صحيح مسلم الرؤيا (2264) ، سنن الترمذي كتاب الرؤيا (2272) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3893) ، مسند أحمد بن حنبل (3/126) ، موطأ مالك الجامع (1781) .
(5) صحيح البخاري التعبير (6987) ، صحيح مسلم الرؤيا (2264) ، سنن الترمذي كتاب الرؤيا (2271) ، سنن أبو داود الأدب (5018) ، مسند أحمد بن حنبل (5/316) ، سنن الدارمي الرؤيا (2137) .
(6) صحيح البخاري التعبير (6989) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3895) .
(7) عقيدة التوحيد في فتح الباري ص (320) .(41/192)
أنواع الرؤيا:
ولها نوعان:
الأول: رؤيا صادقة وهي رؤيا الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين وقد تقع لغيرهم بندور وهي التي تقع في اليقظة على وفق ما وقعت في النوم.(41/192)
الثاني: الأضغاث: وهي لا تنذر بشيء وهي على أنواع:
الأول: تلاعب الشيطان ليحزن الرائي كأن يري أنه قطع رأسه وهو يتبعه أو أنه وقع في هول ولا يجد من ينجده ونحو ذلك.
الثاني: أن يرى أن بعض الملائكة تأمره أن يفعل المحرمات مثلا ونحوه من المحال عقلا.
الثالث: (أن يرى ما تتحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه فيراه كما هو في المنام وكذا رؤية ما جرت به عادته في اليقظة أو ما يغلب على مزاجه ويقع عن المستقبل غالبا وعن الحال كثيرا وعن الماضي قليلا) (1) .
وجعلها ابن القيم على ثلاثة أنواع هي: (2) .
1 - رؤيا رحمانية وهي الرؤيا التي من الله وهي من أسباب هداية العبد إلى الحق ومنها رؤيا الأنبياء وهي وحي معصوم من الشيطان.
2 - رؤيا نفسانية وهي أضغاث الأحلام.
3 - رؤيا شيطانية وهي التي تكون من الشيطان.
أما الرؤيا الصادقة فهي لا تكون إلا موافقة للوحي لا سيما إذا تواطأت وتكون إما منبهة على ما يوافق الوحي أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمة لم يعرف الرائي اندراجها فيه فينبه على ذلك بالرؤيا ومما يعين على صدق الرؤيا تحري الصدق، وأكل الحلال، والمحافظة على الأمر والنهي، والنوم على طهارة، ومستقبل القبلة، وذكر الله حتى تغلبه عيناه فإن الرؤيا والحالة هذه لا تكاد أن تكذب.
(وللرؤيا ملك موكل بها يريها العبد في أمثال تناسبه وتشاكله فيضربها
__________
(1) عقيدة التوحيد في فتح الباري ص (320) .
(2) انظر مدارج السالكين (2 \ 51، 52) .(41/193)
لكل أحد بحسبه) (1) ويدل على ما ذكره ابن القيم من أنواع الرؤيا بقوله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما حدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام (2) » .
والرؤيا هي مبدأ الوحي وقد كان «أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، (3) » وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا وصدقها عند اقتراب الزمان لا يكاد يخطئ وذلك لبعد الناس عن عصر النبوة وآثار النبوة فيعوض الله المؤمن بالرؤيا الصالحة. وأما في زمان النبوة فلم تكن الحاجة إليها ملحة لاستغناء الناس بنور النبوة عن أي شيء آخر ولذا فهي من نظير الكرامات التي تخرج على أيدي الصالحين من عباد الله فهي في عصر الصحابة أقل من سواه لاستغنائهم بقوة الإيمان واحتياج غيرهم لضعفه عندهم قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام) وقال صلى الله عليه وسلم: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات قيل وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له (4) » رواه البخاري. لذا فإنها إذا تواطأ رؤى المسلمين فإنها لا تكذب «قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما رأوا ليلة القدر في العشر الأواخر قال: (أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في العشر الأواخر من رمضان (5) » .
والذي يظهر أن الحجة في الحديث في إقراره صلى الله عليه وسلم لأن ذلك يدل على صحة ما رأوه وأما مجرد الرؤيا وإن تكاثرت فلا يدل على صحتها مجرد التواطؤ بل لا بد من دليل شرعي يدل على مدلولها وما تقتضيه فكم ضلل
__________
(1) انظر مدارج السالكين (1 \ 51، 52)
(2) صحيح البخاري التعبير (7017) ، صحيح مسلم الرؤيا (2263) ، سنن الترمذي الرؤيا (2270) ، سنن أبو داود الأدب (5019) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3906) ، مسند أحمد بن حنبل (2/507) ، سنن الدارمي الرؤيا (2143) .
(3) صحيح البخاري بدء الوحي (4) ، صحيح مسلم الإيمان (160) ، مسند أحمد بن حنبل (6/233) .
(4) سنن الترمذي كتاب الرؤيا (2275) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3898) ، مسند أحمد بن حنبل (5/325) ، سنن الدارمي الرؤيا (2136) .
(5) انظر مدارج السالكين (1 \ 51، 52) .(41/194)
الشيطان الناس بمجرد رؤى تتكاثر بين الناس وتتكرر أو أن يكون المراد في الحديث الإجماع بحيث لا يبقى أحد إلا رآها وهي الحالة هذه لا تكاد تكذب.
قال القرطبي: (والمسلم الصادق الصالح هو الذي ناسب حاله حال الأنبياء فأكرم بنوع مما أكرم به الأنبياء وهو الاطلاع على الغيب أما الكافر والفاسق والمخلط فلا ولو صدقت رؤياهم أحيانا فذاك كما قد يصدق الكذوب وليس كل من حدث عن غيب يكون خبره من أجزاء النبوة كالكاهن أو المنجم) (1) .
وقد أرشد الرسول صلى الله عليه وسلم للطريق الصحيح الذي يسلكه العبد مع رؤياه فأخرج البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره (2) » وأخرج من طريق آخر عن أبي قتادة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان فإذا حلم أحدكم الحلم يكرهه فليبصق عن يساره وليستعذ بالله منه فلن يضره (3) » .
وأخرج البخاري «عن أبي سلمة قال لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول وأنا كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثا ولا يحدث به أحدا فإنها لا تضره (4) » .
__________
(1) عقيدة التوحيد في فتح الباري ص (321، 322) .
(2) عقيد التوحيد في فتح الباري ص (333) .
(3) عقيد التوحيد في فتح الباري ص (333) .
(4) عقيد التوحيد في فتح الباري ص (333) .(41/195)
وأخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل (1) » .
قال الحافظ ابن الحجر: (محاصيل ما ذكره في أدب الرؤيا الصالحة ثلاثة أشياء، أن يحمد الله عليها وأن يستبشر بها وأن يحدث بها لكن لمن يحب دون من يكره وحاصل ما ذكر من أدب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء: أن يتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان وأن يتفل حين يهب من نومه عن يساره ثلاثا ولا يذكر لأحد أصلا.
ووقع عند المصنف (يعني البخاري) عن أبي هريرة خامسة وهي الصلاة) (2) .
وزاد مسلم سادسة (وهي التحول عن جنبه الذي كان عليه) قال صلى الله عليه وسلم: «وليتحول عن جنبه الذي كان عليه (3) » . قال الحافظ: (ورأيت في بعض الشروح ذكر سابعة وهي قراءة آية الكرسي ولم يذكر لذلك سندا) (4) .
__________
(1) صحيح مسلم الرؤيا (2263) ، سنن الترمذي الرؤيا (2270) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3917) ، مسند أحمد بن حنبل (2/507) ، موطأ مالك الجامع (1781) .
(2) عقيدة التوحيد في فتح الباري ص (334) .
(3) صحيح البخاري التعبير (7044) ، صحيح مسلم الرؤيا (2261) ، سنن الترمذي الرؤيا (2277) ، سنن أبو داود الأدب (5021) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3909) ، مسند أحمد بن حنبل (5/303) ، موطأ مالك الجامع (1784) ، سنن الدارمي الرؤيا (2142) .
(4) انظر مشتهى الخارف الجائي ص (91) .(41/196)
موقف الصوفية من الرؤيا:
لقد غلا الصوفية كثيرا في الرؤيا فجعلوها مصدرا للتلقي حتى أنك لترى أكثر الطرق الصوفية تنشأ نتيجة لرؤيا رآها شيخ الطريقة يدعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم خصه بشيء من الدعوات والصلوات أو نحو ذلك وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يخص أحدا بشيء هو من دين الله قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) وقد أشهد
__________
(1) سورة المائدة الآية 3(41/196)
الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في يوم عرفة في السنة العاشرة من الهجرة على البلاغ فقال: "اللهم فاشهد" فلم يبق من الدين شيء يحتاجه الناس إلا بينه. قال صلى الله عليه وسلم: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك (1) » وفي ذلك من رمي الرسول بالكتمان ما لا يتناسب ومقام النبوة والرسالة وما تتصف به الأنبياء من الأمانة والصدق والتبليغ وقد أجمعت الأمة على عدم اعتماد أي فتوى شرعية من الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أفتى بها من رآه مناما وبه يعلم مدى ما وصل إليه التصوف من الضلالة وشرعية ما به تقويض أركان الملة المحمدية بل إن من الصوفية من يدعي رؤيته يقظة وهو ممتنع عند جماهير أهل العلم من الصوفية وغيرهم.
__________
(1) سنن ابن ماجه المقدمة (44) .(41/197)
حكم الرؤيا الصالحة شرعا:
إن رؤيا غير الأنيياء لا يعتمد عليها إلا إذا وافقت ما دل عليه الشرع بنصوصه المعصومة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. يقول ابن القيم رحمه الله: (وأما رؤيا غيرهم (أي الأنبياء) فتعرض على الوحي الصريح فإن وافقته عمل بها وإلا لم يعمل بها) (1) هذا إذا كان الأمر متعلقا بأمر شرعي ديني أو أمر كوني قدري وأما إذا كان الأمر لا يخالف شرعا ولا سنة قدرية فإن الرؤيا الصادقة الصالحة تكون من المرجحات فيستأنس بها وقد تقدم الكلام على هذا الأمر في الإلهام فأغنى عن إعادته.
وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الرؤيا جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة لا يدل على أنها حجة قائمة بذاتها لأن لفظ الحديث مشعر بضعفها وإن كانت صالحة فنسبتها جزء واحد إلى ستة وأربعين جزء وتسميتها في الحديث صادقة مشعر بأن الصدق غير ملازم لها لبنائها على وزن الفاعل المفيد لما يدل
__________
(1) انظر مدارج السالكين (1 \ 51) .(41/197)
عليه الفعل المضارع من التجدد المفيد للانقطاع وعدم الاستمرار ولا يقال أنه صفة مشبه على وزن اسم فاعل فتدل على الدوام والثبوت لعدة أمور:
أولها: كونها معروفة في سياق الحديث بما يدل على ضعفها كما تقدم.
الثاني: أنه زيدت في بعض الروايات أنها جزء من ستة وسبعين جزءا مما يدل على أن صدقها مختلف في الرتبة كما حرر (1) .
الثالث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أضافها إلى المؤمن الصالح وهذه أمور خفية لا تعلم حقيقة أمرها إلا بمعرفة ما في باطن العبد ولو ادعاه مدع لكذب لأنه تزكية لنفسه فكيف يعتمد على خبره.
الرابع: أن الرؤيا الصادقة قد تحصل للكافر وإن كان نادرا كما حصلت لعزيز مصر وحصلت للسجينين مع يوسف عليه السلام.
الخامس: أن تأويل الرؤيا منا ليس بقاطع إذ لا يكون قاطعا إلا عن وحي ولاوحي لغير الأنبياء ونحن لا نعلم صدقها من كذبها إلا بعد وقوعها فلا يصح الاعتماد عليها والحالة هذه.
السادس: أن اعتبارها صفة مشبه خلاف الأصل.
__________
(1) انظر عقيدة التوحيد في فتح الباري (322، 226) .(41/198)
الصوفية والطرق:
وهكذا مضى القرن الثاني الهجري والتصوف لا يزيد عن أن يكون سلوكا فرديا يعبر عن الزهادة في الدنيا والتقلل منها والجد في طلب الآخرة وإصلاح الظاهر بأنواع العبادات الظاهرة وتزكية الباطن بأنواع الأخلاق الباطنة (1) .
__________
(1) انظر الصوفية بين الحق والخلق ص (225) .(41/198)
وما أن دخل القرن الثالث الهجري حتى نحى التصوف طريق التجمع حول بعض الأشخاص آخذا شكلا جديدا غير شكله المعتاد، بدعوى أن هؤلاء الأشخاص مكاشفون.
يقول السيد محمود أبو الغيض المنوفي الحسيني: (وهذه الطرق تنسب كل واحدة لولي من الأولياء رضي الله عنهم وقد يرثها حفيد وسيط لولي من أولئك الأولياء فيكرمه الله سبحانه وتعالى بكرامة آبائه وأجداده الصالحين فإن من سار على دربهم أكرمه الله مثل إكرامهم ومن فرط أو قصر أكرمه الله لأجلهم) (1) .
وقول أبي الغيض: (أو قصر أكرمه الله لأجلهم) في كلامه نظر ظاهر لأن الله رهن الناس بأعمالهم كما قال سبحانه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (2) وقال: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (3) وقال: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (4) وقال: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (5) {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (6) {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} (7) فمن قصر استحق العقاب لا الإكرام ومن أحسن فله الثواب قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (8) وأطلق على هذا التجمع حول هذا الشخص وما يدعيه من أوراد وأذكار اختص بها اسم طريقة وكانت أول الطرق نشأة.
__________
(1) انظر الصوفية معتقدا ومسلكا ص (43) .
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) سورة المدثر الآية 38
(4) سورة مريم الآية 95
(5) سورة النجم الآية 39
(6) سورة النجم الآية 40
(7) سورة النجم الآية 41
(8) سورة الرحمن الآية 60(41/199)
الطريقة السقطية نسبة إلى السري السقطي والجنيدية نسبة إلى الجنيد وذلك في القرن الثالث الهجري ثم مازالت الطرق تتسع وتكثر حتى بلغت أوجها في القرنين السادس والسابع ومن ذلك الحين انتشرت الطرق الصوفية انتشارا لم يسبق له نظير حتى أن الطريقة الواحدة لتنشق منها عدة طرق.
وقد قامت هذه الطريقة على ثلاثة عناصر رئيسية (1) :
الأول: سلب المنتسب إلى الطريقة لإرادته وتسليمها إلى الشيخ الذي ينتسب إليه بحيث لا يتصور أن يخالفه البتة وهو المعبر عنه بقولهم (أن يكون المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغسال) .
ثانيا: انقطاع المريد عن الدنيا انقطاعا تاما فلا يشارك في الحياة العامة ولا يتجاوب شعوريا مع مشاكل المسلمين وآمالهم.
ثالثا: يعيش المريد في جو من الحياة الرمزية المليئة بالألغاز والتي يدعي أنه لا يعلم فك معانيها إلا الشيخ المتبوع فهو أعمى أصم لا عقل له يتقبل كل شيء بلا مناقشة ولا اعتراض.
__________
(1) انظر الصوفية بين الحق والخلق ص (143، 232) .(41/200)
هذا ومن أشهر الطرق الصوفية انتشارا في العالم الإسلامي: أولا: القادرية نسبة لعبد القادر الجيلاني الملقب بسلطان الأولياء ولد مؤسسها في بغداد سنة 561 وهو أعجمي ونسبته الجيلاني ترجع إلى جيلان لكنهم يرجعون نسبه إلى فاطمة الزهراء (1) .
__________
(1) انظر الصوفية بين الحق والخلق ص (143، 232) .(41/200)
ثانيا: الرفاعية وتسمى أيضا البطائحية مؤسسها أحمد بن حسين الرفاعي نسبه يرجع إلى بني رفاعة قبيلة من العرب ولد وعاش في أم عبيدة(41/200)
من قرى البصرة في العراق توفي سنة (578) والبطائح اسم المنطقة ويرجعون نسبه أيضا إلى فاطمة الزهراء ورفاعة أحد أجداده (1) .
__________
(1) الكشف عن حقيقة الصوفية ص (357) .(41/201)
ثالثا: الشاذلية مؤسسها أبو الحسن بن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الشاذلي نسبة إلى شاذلة قرية في تونس وهو مغربي الأصل انتقل إلى مصر ومات فيها سنة (656) في صحراء عيذاب وهو في طريقه إلى الحج وكان مكفوف البصر ويرجعون نسبته إلى فاطمة الزهراء (1) .
__________
(1) انظر المرجع السابق (356) .(41/201)
رابعا: الأحمدية ويقال لها السطوحية وهي منسوبة إلى أحمد البدوي رجل من المغرب هاجر هو وأبوه إلى مكة المكرمة ثم هاجر أحمد إلى مصر بعد أن مر بالعراق وزار مشاهدها وأضرحتها وهو شيعي المذهب باطني الاعتقاد أقام في مدينة طنطا وفيها مات سنة (675) وإنما سميت السطوحية لأنه كان يقيم على سطح بصورة دائمة ويذكر أنه كان لا يصلي وهو فاطمي النسب كما يذكرون (1) .
__________
(1) انظر المرجع السابق ص (359) وكتاب السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة ص (50) .(41/201)
خامسا: النقشبندية: أسسها بهاء الدين محمد بن محمد البخاري وهي ثورة قامت لتجديد التصوف ومحاولة لإظهارها في ثوب جديد لذا كان من نتائج هذا التجديد إلغاء كثير من الطقوس الصوفية فألغت الذكر والخلوة والكرامات وأهم ما ألغته ما يدعيه الصوفية من أن سلسلة التصوف تنتهي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكنها بعد وفاته رجعت إلى ما عليه الصوفية من الطقوس والأعمال وقد توفي مؤسسها في سنة (791) وأرجعوا سلسلتهم إلى الجنيد بن محمد مارة بأبي زيد البسطامي حتى اتصل بأبي بكر الصديق (1) .
__________
(1) انظر الكشف عن حقيقة الصوفية ص (360) .(41/201)
سادسا: التيجانية مؤسسها أحمد التيجاني يدعي أنه أخذ طريقته عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة في المنام مات في المغرب سنة (1230) وقد شجع الاستعمار الفرنسي انتشار هذه الطريقة في البلاد التي احتلها (1) .
__________
(1) نفس المرجع (365، 366، 367) .(41/202)
سابعا: السنوسية نسبة لمحمد بن علي السنوسي ولد في الجزائر ومات في ليبيا سنة 1267 هـ \ 1859م بدأت السنوسية كحزب سياسي لمقاومة الاستعمار (1) .
__________
(1) نفس المرجع (365، 366، 367) .(41/202)
ثامنا: البريلوية تنسب إلى أحمد رضا البريلوي من مدينة بريلي في الهند في ولاية أتريراديش لقب نفسه (عبد المصطفى) ولقبه أتباعه حضرة الأعلى) تقوم طريقته على التشيع والغلو مات سنة 1340 (1) .
هذا ويبدو أن نسب الطرق لبعض متقدمي الصوفية وشيوخهم كالجنيد بن محمد إنما هي نسبة متأخرة وأما هم فلم يكن لهم طرق تنسب إليهم ولا ادعوها كما تقدمت الإشارة إليه.
والناظر في كتاب الله وسنة رسوله يجد النصوص تأمر المسلمين بالتجمع تحت لواء شهادة "لا إله إلا الله محمد رسول الله " حيث يقول سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (2) ويقول جل شأنه: {وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (3) وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار (4) » وفسر صلى الله عليه وسلم الجماعة بأنه ما كان عليه هو وأصحابه وقال في حديث افتراق الأمة «كلها في النار إلا واحدة (5) » . مما يدل على أن الصوفية بعددها وتفرقها وفسادها وعقائدها
__________
(1) نفس المرجع (365، 366، 367) .
(2) سورة آل عمران الآية 103
(3) سورة الأنعام الآية 153
(4) سنن الترمذي الفتن (2165) .
(5) سنن ابن ماجه الفتن (3993) ، مسند أحمد بن حنبل (3/120) .(41/202)
لا تدخل في مسمى هذه الفرقة الناجية الواحدة لا سيما وأن فيهم من مخالفة الشريعة والاقتداء بغير رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو واضح جلي والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) وقال سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} (3) فالإمام المتبع المقتدى به هو الرسول صلى الله عليه وسلم دون من سواه وهو لم يجعل لنا بينه وبين الله واسطة في التبليغ غيره فقال صلى الله عليه وسلم: «أنا أفضل بني آدم ولا نبي بعدي (4) » وهو صلى الله عليه وسلم قد بين لنا كل ما نحتاجه من أمر ديننا ودنيانا قال صلى الله عليه وسلم: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك (5) » وقال صلى الله عليه وسلم: في معرض الأمر بالاقتداء به «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي (6) » وقال: «من رغب عن سنتي فليس مني (7) » وقال: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي (8) » وبذا يظهر لنا وجوب الاجتماع على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه هو الإمام المقتدى به دون سواه وأنه لا طريق للعمل بالشريعة سوى ما جاء به مما يدل على أن الاجتماع على أي اسم غير الإسلام والإيمان والإحسان فهو بدعة في الدين لقوله صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار (9) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (10) » وأنه لا يجوز الاقتداء بأي شخص كائن من كان بحيث تأخذ أقواله وأفعاله مسلمات شرعية إلا إذا ثبت أنها موافقة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال الإمام مالك: (كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر) يريد الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام الشافعي: (إذا وافق قولي قول الرسول صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة الحجرات الآية 1
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سنن الترمذي المناقب (3615) ، سنن ابن ماجه الزهد (4308) .
(5) سنن ابن ماجه المقدمة (44) .
(6) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(7) صحيح البخاري النكاح (5063) ، صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .
(8) موطأ مالك الجامع (1661) .
(9) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(10) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(41/203)
وإلا فاضربوا بقولي عرض الحائط) وبناء على ذلك فليس لأحد من الخلق طاعة مطلقة على عباد الله إلا أن يوافق قوله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبدو أن الصوفية تأثروا كثيرا بالشيعة في قضية الإمامة بحيث جعلوا شيوخهم كالأئمة عند الشيعة في تلقي أقوالهم بالقبول وعدم المناقشة أو الاعتراض على شيء منها لا سيما إذا قرن ذلك بإصرارهم على إرجاع نسب شيوخ طرقهم إلى فاطمة الزهراء وسلسلة تصوفهم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه مما يدل دلالة قاطعة على ما قدمناه من تأثرهم بعقيدة الإمامة عند الشيعة، هذا ونحن عندما نقول هذا فإنا ننزه شيوخ السلف من المنسوبين إلى التصوف أن يكونوا كذلك لما تواتر عنهم وعلم بطريق النقل الصحيح من معتقد سلفي وعمل سني لا أثر للبدعة فيه مع عدم تنزيهنا لأحد من البشر من الخطأ؛ إذ كل بني آدم خطاء.
ومما تقدم علم أن الانتساب إلى هذه الطرق بدعة في الدين فيحرم الانتساب إليها، ويجب الانتساب إلى الأمة المحمدية وأخص من هذا الانتساب إلى السلف الصالح الذين هم على ما عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الموسومين بلقب الفرقة الناجية التي تمثل الأمة المحمدية في صفاء عقيدتها ونقائها وصلاح أعمالها المتضمن المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم في كل قول أو فعل أو اعتقاد.(41/204)
المجمل لاعتقاد الصوفية الطرقية:
وقد أوجز ابن تيمية رحمه الله اعتقاد هذا النوع من الصوفية فيما يلي:
أولا: التوحيد عندهم:
الفناء في توحيد الربوبية بحيث لا يشهدون إلا الخالق وهم في ذلك على طريقتين: (1) .
__________
(1) انظر مدارح السالكين (20 \ 447) .(41/204)
الأولى: أن وجود الحق هو عين وجود المخلوق وهو مذهب الحلولية والاتحادية منهم.
الثاني: وهو أخف وهو أنه لا أثنينية في الوجود بل لا بد أن يتصور العارف عدم وجود ذاته وهؤلاء يفرقون بين الخالق والمخلوق لكنهم يجعلون تصور الوجود للمخلوق حال وجود الخالق أثنينية في الوجود تنافي التوحيد للخالق جل وعلا وهذا مذهب صاحب منازل السائرين أبي إسماعيل الهروي ومما أورده من الشعر:
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
فالتوحيد عنده نوعان:
النوع الأول: غير موجود وغير ممكن وهو توحيد العبد لربه.
النوع الثاني: توحيد صحيح وهو توحيد الله لنفسه (1) .
ويرى بعض الصوفية أن التوحيد ثلاثة أنواع:
النوع الأول: توحيد العامة وهو توحيد الألوهية.
قال ابن تيمية عن هذا النوع من التوحيد (فهو التوحيد الذي جاء به الرسل من أولهم إلى آخرهم ونزلت به الكتب كلها وبه أمر الله الأولين والآخرين) فهو في الحقيقة توحيد خاصة الخاصة (2) .
النوع الثاني: توحيد الخاصة وهو ما يحصل بالمشاهدة والمكاشفة
ويعرفونه بأنه (إسقاط الأسباب الظاهرة والصعود عن منازعات العقول والتعلق بالشواهد وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا ولا في التوكل سببا ولا في النجاة وسيلة) (3) وهو الفناء.
__________
(1) انظر مدارج السالكين (3 \ 449) .
(2) انظر مدارج السالكين (3 \ 482، 484) .
(3) انظر مدارج السالكين (3 \ 397- 501) .(41/205)
وقد رد ابن تيمية هذا النوع بعدة أدلة من الكتاب والسنة وإجماع السلف والعقل والحس أما الكتاب فقوله سبحانه: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (1) وقوله: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (2) وقال: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} (3) وقال: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (4) فرتب أحكامه الكونية والشرعية والثواب والعقاب على الأسباب المتنوعة.
وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له (5) » وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قيل له: «أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقاة نتقي بها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي من قدر الله (6) » ومن الأثر قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي عبيدة عندما قال له: (أتفر من قدر الله) يعني الطاعون- قال عمر (أفر من قدر الله إلى قدر الله) والعقل قاض بأنه لا ولد إلا بنكاح ولا مال إلا بطلب والحس يدل على ذلك فمن ترك شيئا من هذه الأسباب لا يحصل له المسبب عنها؛ لكن الواجب عدم الاعتماد على السبب والتوكل عليه لكن يكون الاعتماد والتوكل على الله مع تعاطي ما جعله الله سببا
فإن الأسباب مؤثرات ناقصة والمؤثر التام هو إرادة الله الكونية القدرية ومشيئته النافذة فإن المراد لا يتأخر عنهما أبدا (7) .
النوع الثالث: توحيد خاصة الخاصة وهو توحيد الله لنفسه بنفسه كما في قوله {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (8) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
__________
(1) سورة الأعراف الآية 57
(2) سورة النحل الآية 65
(3) سورة المائدة الآية 16
(4) سورة المائدة الآية 105
(5) صحيح البخاري تفسير القرآن (4949) ، صحيح مسلم القدر (2647) ، سنن الترمذي القدر (2136) ، سنن أبو داود السنة (4694) ، سنن ابن ماجه المقدمة (78) ، مسند أحمد بن حنبل (1/157) .
(6) سنن الترمذي الطب (2065) ، سنن ابن ماجه الطب (3437) .
(7) انظر مدارج السالكين (3 \ 397- 501) .
(8) سورة آل عمران الآية 18(41/206)
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) وقوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (2) وهو كلامه وخبره عن نفسه بنفسه فهو صفته القائمة به.
وهذا وإن كان حقا إلا أن دعوى أن التوحيد لا يكون إلا توحيده بنفسه غير صحيح؛ إذ لو كان ذلك صحيحا لما جاز للأنبياء والرسل وأخصهم محمد صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وأمرهم الناس به، بل كيف يتصور أن أعلم الناس بربه هو أجهلهم به وأعجزهم عن توحيده كما أنه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم إثبات توحيد لا يمكن النطق به ولا كان للأمر بالنطق بالشهادة والدعوة إلى مدلولها معنى (3) .
وبذا يعلم ما في هذا التقسيم من مخالفة الكتاب والسنة وما عليه سلف الأئمة مما يدل على فساده وعدم استقامته لا سيما وأنه لا يشتمل إلا على شهود الربوبية والتي يستوي الخلق بالنسبة إليها نظرا لأن المخلوقات بالنسبة للخلق والرزق والملك متساوون فلا فرق فيه بين طاعة ولا معصية ولا معروف ولا منكر ولا كافر ولا مؤمن ولا موحد ولا مشرك ولا مطيع ولا عاص ولا فاسق ولا كافر، وإنما يكون الفرق بالإيمان بمدلول توحيد الألوهية قال ابن تيمية: (فمن زعم أن المشاهدة لتوحيد الربوبية يدخل في مقام الجمع والفناء فلا يشهد فرقا فإنه غالط بل لا بد من الفرق فإنه ضروري) (4) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 25
(2) سورة الحشر الآية 22
(3) انظر مدارج السالكين (3 \ 511 وما بعدها) .
(4) مجموع الفتاوى (10 \ 242) .(41/207)
ولأنه (إذا خرج عن الفرق الشرعي بقي الفرق الطبيعي فبقي متبعا لهواه لا مطيعا لمولاه) (1) ولا يعرف الفرق الشرع إلا عن طريق توحيد الألوهية المتضمن اتباع المأمور واجتناب المحظور وعندئذ تتضح معالم أسماء الدين والإسلام وتلازم أحكامها الشرعية من الشرك والكفر والنفاق أو المعصية أو الطاعة وما يترتب عليها من وعيد في الآخرة.
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى (10 \ 234) .(41/208)
ثانيا: (إن مشاهدة العارف الحكم لا تبقي له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة) .
والمراد بالحكم هو المشيئة فلا يصل العارف إلى مقام الفناء حتى يفنى عن جميع مراداته بمراد ربه وجميع الكائنات مرادة له تعالى إرادة كونية قدرية، وبناء عليه فلا فرق بين الحسنة والسيئة ولا الطاعة والمعصية؛ إذ سمى الكل موافقة الإرادة الكونية القدرية، وعليه فلا يوجد ما هو مبغوض لله؛ إذ الكل محبوب له لأنه إذا وقع وخلق علم أن الله يحبه ويرضاه حتى قال قائلهم:
فصرت منفعلا لما يختاره ... فكل ما أفعله طاعات
وسبب هذا عدم الفرق بين ما تتعلق به الإرادة الكونية من الخلق والإيجاد والرزق ونحوها وبين ما تتعلق به الإرادة الشرعية مما يحبه الله من امتثال أوامره تعالى واجتناب نواهيه وبذا يحصل الفرق بين الطاعة والمعصية والحسنة والسيئة؛ إذ هو يريد كونا وقدرا ما لا يريده دينا وشرعا، فهو لا يرضى الكفر لكنه يخلقه ولا يرضى المعصية لكن يوجدها من العبد (1)
__________
(1) انظر شذرات البلاتين ورسالة الحسنة والسيئة لابن تيمية ص (1 \ 246) .(41/208)
ثالثا: إنكار الحكم والغايات المحمودة في الخلق والأمر فهو عندهم يفعل لا لحكمة ولا لشيء فهو مبني على قولهم أنه يفعل لمحض المشيئة فقط(41/208)
والأشياء بالنسبة لها متساوية من جهة اقتضائها لوجود المخلوقات وتشريع المأمورات والمنهيات وهو خلاف ما عليه السلف الصالح من أنه يخلق ويشرع لحكمة عظيمة وغاياته محمودة سامية وعلى ذلك دل كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام قال تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (1) وقال سبحانه: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (2) وقال جل شأنه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (3) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (5) وقال سبحانه: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (6) فقد علل الله خلقه كما علل أمره مما يدل أنه يخلق لحكمة كما أنه يشرع لحكمة، كما أنه يلزم من ذلك أن يكون خلق الجماد مثل خلق الإنس والجن وخلق الأنبياء مثل خلق فساق الخلق وخلق آدم كخلق إبليس، وأن يكون التوحيد في الفضل كالصلاة والصيام، وهكذا دواليك، ومنتهى ذلك أنه لا فرق بين العلم والجهل ولا الطاعة والمعصية؛ لأنها بالنسبة للمشيئة سيان، وأن العالم والجاهل سيان، وهكذا لازم ذلك أن القبح والحسن متساويان والمأمور والمحظور متساويان، وليس في واقع الأمر لا حسن ولا قبح ولا مأمور ولا محظور (7)
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 3
(2) سورة النساء الآية 165
(3) سورة الذاريات الآية 56
(4) سورة البقرة الآية 183
(5) سورة التوبة الآية 103
(6) سورة العنكبوت الآية 45
(7) انظر شذرات البلاتين ص (1 \ 247) .(41/209)
رابعا: عدم تعظيم الأمر والنهي لتساويهما بالنسبة للمشيئة ولذا فلا فرق عندهم بين الأنبياء والفساق ومن هنا جوز الشاذلي أن يكرم الفجار كما يكرم أكابر أوليائه؛ لأن ذلك عطيته وموهبته يعطيها الله ويهبها من يشاء من عباده، ولازم ذلك أنه لا مانع أن يدخل أكبر أوليائه النار وأفجر خلقه الجنة؛ لأن الأمرين بالنسبة للمشيئة متساويان تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (1) كما قال سبحانه في الحديث القدسي: «إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (2) » وهم يجوزون أن يظلم المطيع لمحض المشيئة.
وقال سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (3) {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} (4) وقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (5) وقال: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (6)
__________
(1) انظر شذرات البلاتين (1 \ 248) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2495) ، سنن ابن ماجه الزهد (4257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/154) .
(3) سورة القلم الآية 35
(4) سورة القلم الآية 36
(5) سورة الزمر الآية 9
(6) سورة الحشر الآية 20(41/210)
خامسا: جعلوا الخارق للعادة علامة الصلاح ولم يشترطوا الصلاح بالعلم والإيمان الصادق والتقوى (1) .
مع أن الخوارق قد تكون على يد الكافر كالمسيح الدجال الذي هو أعظم الدجالين فتنة وتكون على أيدي السحرة كما قال تعالى عن سحرة فرعون: {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (2) مع أنه القائل سبحانه: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (3) وقد يكون بسبب الجن والشياطين كما قال تعالى: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي} (4) علما بأن الحارق للعادة لو جرى على يد صالح في واقع الأمر ما دل على أنه
__________
(1) انظر نفس المرجع (1 \ 252) .
(2) سورة الأعراف الآية 116
(3) سورة طه الآية 69
(4) سورة النمل الآية 39(41/210)
أفضل من غيره بل قد يكون غيره خيرا منه كما أن سليمان أفضل من عفريت الجن، وهذا التوسع في أمر الخوارق للعادات هو الذي جعل الزوايا عند الصوفية مأوى للسحرة والدجالين وذوي الأغراض الفاسدة، والذين انخدع العامة بهم مما كان سببا لنشر الكثير من الخرافات والأنماط السلوكية المخالفة للشريعة.(41/211)
سادسا: غلوهم فيمن يدعون ولايته من ذلك قول بعضهم:
إن الولي يعطى (كن) وقال بعضهم: إنه لا يمتنع على الولي فعل الممكنات كما أنه لا يمتنع على الله فعل المستحيلات. بل إن الولي قادر على الممتنع لذاته ولا يمتنع عليه شيء حتى الجمع بين النقيضين، بل قال ابن عربي منهم: إنه لا يعزب عن قدرة الولي شيء من الممكنات. قال ابن تيمية تعليقا على هذه العبارة: (والذي لا يعزب عن قدرته شيء من الممكنات هو الله وحده) ومقتضى هذا أن الولي يعلم كل ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر عليه
قالوا: إن ذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم ثم انتقل إلى الحسن بن علي ثم من الحسن إلى ذريته واحدا بعد واحد حتى ينتهي ذلك إلى أبي الحسن الشاذلي كما تدعيه الشاذلية منهم (1) .
وأنت ترى ما في هذه الأقوال من مناقضة للشريعة ففيها:
أولا: التمثيل والله يقول عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (2) .
ثانيا: دعوى أن الولي يعلم الغيب والله يقول: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (3) وقال سبحانه: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (4) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (5) .
__________
(1) انظر شذرات البلاتين ص (1 \ 252) .
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة هود الآية 123
(4) سورة الجن الآية 26
(5) سورة الجن الآية 27(41/211)
ثالثا: قدرة الولي على ما يقدر عليه الرب جل وعلا والله يقول: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) ، وقال سبحانه: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} (2) وقال سبحانه: {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (3) فكيف يقدرون على ما لم يقدرهم الله عليه.
والجمع بين النقيضين مستحيل عقلا وشرعا وإيجاده يجعله ممكنا ليس مستحيلا ضرورة أن الاستحالة الذاتية تعني عدم إمكان وجوده فخالفوا بذلك صريح العقل وصحيح الشرع.
__________
(1) سورة المائدة الآية 17
(2) سورة البقرة الآية 258
(3) سورة الصافات الآية 96(41/212)
سابعا: أن محمدا هو الله وذلك من الكفر الواضح الصريح، وفيه دعوى الحلول والاتحاد وهو مخالف لصريح العقل حيث جعل المحدث قديما والقديم محدثا، وهو جمع بين النقيضين وهو مستحيل عقلا وشرعا كما أنه يشتمل على إنكار النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم وإنكار ألوهية الله على خلقه، ويشتمل على الغلو فيه صلى الله عليه وسلم وهو القائل: «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم غلوهم في أنبيائهم (1) » الحديث، وقال صلى الله عليه وسلم لمن قال له ما شاء الله وشئت: «أجعلتني لله ندا قل ما شاء الله وحده (2) » فإذا كان صلى الله عليه وسلم لم يرتض أن يشرك هو بربه في لفظ يقتضي التساوي في المشيئة، فكيف يتصور أن يرتضي أن يجعل هو الله حاشاه صلى الله عليه وسلم، وتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وقولهم هذا نظير قول النصارى المسيح هو الله وقول بعضهم ابن الله أو ثالث ثلاثة.
قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (3) .
وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (4)
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3057) ، سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد بن حنبل (1/347) .
(2) سنن ابن ماجه الكفارات (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (1/214) .
(3) سورة المائدة الآية 17
(4) سورة المائدة الآية 73(41/212)
ثامنا: اشتمال كثير من أدعيتهم وأقوالهم على ما مؤداه تعطيل الأمر والنهي كقول أبي الحسن الشاذلي: (يكون الجمع في قلبك والفرق على لسانك موجودا) ومفهوم هذا أنه لا فرق بين الأشياء إلا نطقا باللسان وأما حقيقتها فكل شيء هو كل شيء، وعليه فلا يبقى أمر إلا هو الآخر، الذكر هو الأنثى والعكس، والأمر هو النهي والعكس، والعدم هو الوجود والإله هو المألوه وعكس ذلك صحيح.
وقد كان أبو الحسن الشاذلي يدعو فيطلب: (أن يعطيه الله إذا عصاه أعظم ما يعطيه إذا أطاعه) ومدلول هذا أنه لا فرق بين الطاعة والمعصية فالكل مثاب عليه، وأن المعصية عليها ثواب أكثر من ثواب الطاعة، وفيه نسبة الظلم إلى الله وإنكار حكمته في شرعه مما يدل على أنه يجوز على الله ما نفاه عن نفسه بأن يجعل الذين اجترحوا السيئات كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، بل هم أفضل منهم (1)
__________
(1) انظر شذرات البلاتين (1 \ 248) .(41/213)
تاسعا: القول بالفناء في الذات الإلهية:
ومعناه عندهم (اسم الاضمحلال ما دون الحق علما وجحدا وحقا) وهو عندهم على ثلاث درجات: والأولى على ثلاث مراتب:
أولا: فناء المعرفة في المعروف وهو (غيبة العارف بمعروفه عن شعوره وبمعرفته ومعانيها في ربه سبحانه عن وصفه هنا وقام به فإن المعرفة فعله ووصفه فإذا استغرق في شهود المعروف فني عن صفة نفسه وفعلها) .
ثانيا: فناء العيان في المعاين وهو الفناء جحدا فهو يعني عن كل ما يراه ويشاهده من وجوده ونفسه.(41/213)
ثالثا: فناء الطلب في الوجود فيصير واجدا بعد أن كان طالبا وعندئذ لا يبقى لصاحب هذا الفناء طلب؛ لأنه ظفر بالمطلوب المشاهد، وقد مثل ابن القيم لهذه الأنواع في جانب الحب ما خلاصته:
أنه يفنى أولا بمحبوبه وصفات محبوبه عن نفسه فإذا رأى محبوبه كان الأمر في حقه أشد وعندئذ يغيب عن صفات المحبوب بمشاهدته إياه فإذا ظفر به غاب عن هذه المشاهدة إلى حال المقام معه وأصدق مثل على ذلك ما كان من حال النسوة عندما شاهدوا يوسف ولم يكونوا رأوه من قبل قطعن أيديهن عندما سلبتهن النظرة إليه شعورهن وهو مقام الفناء وأما امرأة العزيز فلم يؤثر ذلك فيها لألفها لمشاهدته ورؤيته فمقامها البقاء لا الفناء ويظهر فناء النسوة من جهتين:
الأولى: ذهولهن عن تقطيع الأيدي.
الثاني: ذهولهن عن إحساسهن بألم القطع.
ومن هنا يظهر لنا سر احتجاب الله عن عباده في الدنيا حيث إنهم لا يحتملون ذلك.
الدرجة الثانية: فناء شهود الطلب لإسقاطه فاشتغلوا بربهم عما يعملونه وعما يجري لهم من الأحوال.
الدرجة الثالثة: الفناء عن شهود الفناء والفرق بين هذه والتي قبلها أنه في الدرجتين الأولى والثانية شاعر بفنائه وفي هذه الدرجة فهو يفنى عن فنائه فلا يشعر به، وإذا وصل إلى هذه الدرجة فإن السالك يرجي له بقاء الحال واستمرارها. وقد انتقد ابن القيم وابن تيمية هذا المسلك من مسالك الصوفية بعدة وجوه: (1) .
__________
(1) انظر مدارج السالكين (3 \ 368، 383) شذرات البلاتين (1 \ 246 وما بعدها) .(41/214)
أولا: أنه لم يرد في الكتاب والسنة مدح الفناء وذمه، ولا ثبت ذلك عن السلف الصالح، ولا استعملوا لفظه ولا أشاروا إليه مما يدل على أنه بدعة في الدين، وكل بدعة ضلالة.
ثانيا: لو كان هذا المقام محمودا لكان السلف رحمهم الله أولى الناس بالعناية به؛ فلما لم يثبت ذلك دل على أنه ليس من سبيلهم- في الدين.
ثالثا: أن مجرد كونه اصطلاحا فلا مشاحة فيه لا يصح؛ لأنه ترتب عليه فساد ففيه مشاحة فهو الأساس الذي بنى عليه أهل وحدة الوجود مذهبهم فما لزم منه الباطل ليكون باطلا.
رابعا: أن هذا المسلك لا يخرج عن معنى الربوبية وهو لا يكفي في دخول الإسلام فضلا عن أن يكون أفضل الأحوال.
خامسا: وقد أشار ابن تيمية إلى المفاسد المترتبة على القول بالفناء وهي:
أولا: تساوي الحوادث عند القائل به فلا فرق بين طاعة ومعصية، ولا بين مؤمن ولا كافر، وهو باطل؛ إذ لا بد لكل حي أن يفرق بين ما ينفعه ويضره وبين ما يؤلمه وما لا يؤلمه وبين الخبز والتراب وبين الماء والشراب ونحو ذلك.
ثانيا: أنهم لم يفرقوا بين الشرع والقدر؛ إذ الشرع يقتضي الفرق بين ما يأمر الله به وبين ما ينهى عنه وبين أعداء الله وأحبائه، وأما القدر فكل الموجودات نسبتهم إليه سواء.(41/215)
ثالثا: وقوع كثير منهم في المعاصي والفسوق والكفر لعدم تفريقهم بين هذه المعاني بل جوز بعضهم عبادة الأصنام بناء على ذلك.
رابعا: إن عدم التفريق ممتنع عقلا وشرعا فإن لم يفرق بين الأمر المحبوب والمبغوض شرعا فإنه لا بد أن يفرق بينهما بالفرق الطبيعي فيحب ما يهوى ويكره ما لا يهوى.
والحق في الفناء أن يقال: إن الفناء بثلاثة أنواع:.
أولا: الفناء بالشاهد عن المشهود وبالذكر عن المذكور، وهو الفناء في توحيد الربوبية هو بعض التوحيد المطلوب بشرط الفرق بين ما يشاهد والمشاهد والذكر والمذكور وهو ليس من لزوم الطريق إلى الله.
ثانيا: الفناء بعبادته عن عبادة غيره وطاعته عن طاعة غيره وامتثال أمره واجتناب نهيه وهو توحيد الألوهية وهو أعظم الفناء وأجله وأوجبه.
ثالثا: الفناء عن وجود السوي وهو فناء أهل وحدة الوجود وأهل الحلول والاتحاد وهو باطل عقلا وشرعا.(41/216)
عاشرا: القول بسقوط التكاليف يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (وقد قال بعض الناس أنه تجوهر، وهذا قول قوم داموا على الرياضة مدة فقالوا لا نبالي بما عملنا بعد ذلك، وإنما الأمر والنهي رسم للعوام ولو تجوهروا مثلنا لسقط عنهم، وحاصل القيود ترجع إلى الحكمة والمصلحة والمراد فيها ضبط العوام، ولسنا من العوام فندخل في التكاليف؛ لأنا قد تجوهرنا وعرفنا الحكمة، فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، بل هم أكفر أهل الأرض فإن اليهود(41/216)
والنصارى آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، وهؤلاء كفروا بالجميع فهم خارجون عن التزام شيء من الحق) (1) .
وقد قال ابن عربي:
العبد رب والرب عبد ... يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك رب ... أو قلت رب أنى يكلف (2)
فلما صار عنده عين وجود الرب هو عين وجود العبد صار كل واحد عنده هو عين الآخر، وإذا كان الرب لا تكليف عليه، والرب هو العبد فالعبد أيضا لا تكليف عليه.
ومن الصوفية من يسقط عن نفسه بعض التكاليف دون البعض الآخر فيزعم مثلا أن الصلاة سقطت عنه لأنه وصل إلى المقصود الذي من أجله شرعت الصلاة، وبالتالي فهي لا تجب عليه بعد الوصول، وبعضهم يزعم أن الصلاة سقطت عنه وقت المشاهدة وبعضهم يزعم سقوط الحج عنه، ومنهم من يزعم أنه استغنى بالتوبة والحضور عن سائر العبادات والطاعات ومنهم من يستحل المحرمات كالفطر في رمضان من غير عذر ويستحل شرب الخمر ويزعم أنها لا تحرم إلا على العوام دون الخواص وذلك لزكاة نفوسهم وصلاح أعمالهم.
هذا وقد أجمعت الأمة على كفر من جحد واجبا من الواجبات الظاهرة المتواترة أو جحد تحريم المحرمات الظاهرة المتواترة أو جحد حل بعض المباحات الظاهرة المتواترة كالخبز واللحم والنكاح (3) .
__________
(1) انظر مختصر الفتاوى المصرية (245) .
(2) انظر مختصر الفتاوى المصرية (245) .
(3) انظر مختصر الفتاوى المصرية (246) .(41/217)
(وقد قيل لبعض الصوفية قم إلى الصلاة فقال:
يطالب بالأوراد من كان غافلا ... كيف بقلب كل أوقاته ورد (1)
قال ابن القيم رحمه الله (وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا حيث عطلوا العبودية وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة والتي هي أماني النفس وخداع الشيطان؛ وكأن قائلهم إنما عنى نفسه وذوي مذهبه بقوله:
رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم ... وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا
فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم ... وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا (2)
وبعد فأين هؤلاء من قوله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (3) أي الموت. ومن قوله عن صفوة عباده {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (4) وقوله سبحانه: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} (5) {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} (6) .
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعبد ربه حتى تفطرت قدماه فيقال له: ارفق بنفسك فيقول: «أفلا أكون عبدا شكورا (7) » . بل أين هؤلاء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحوالهم في التعبد كما قال سبحانه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} (8) وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (9) وقال آمرا عباده بعبادته: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (10) .
__________
(1) انظر ابن القيم عصره ومنهجه ص (419) .
(2) انظر مدارج السالكين (3 \ 118، 119) .
(3) سورة الحجر الآية 99
(4) سورة الأنعام الآية 52
(5) سورة الليل الآية 19
(6) سورة الليل الآية 20
(7) صحيح البخاري الجمعة (1130) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2819) ، سنن الترمذي الصلاة (412) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1644) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1419) ، مسند أحمد بن حنبل (4/251) .
(8) سورة الفتح الآية 29
(9) سورة العنكبوت الآية 69
(10) سورة النساء الآية 36(41/218)
بل إن شيوخ الصوفية أنفسهم صرحوا بوجوب اتباع الكتاب والسنة والعمل بهما.
يقول ابن القيم رحمه الله: (وقد صرح أهل الاستقامة وأئمة الطريق بكفر هؤلاء فأخرجوهم من الإسلام وقالوا لو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال ذرة أي ما دام قادرا عليه) (1) ومن ذلك قول الجنيد بن محمد: (علمنا هذا مشتبك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال إبراهيم بن محمد النصرابادي: (أصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع والتمسك بالأئمة والاقتداء بالسلف وترك ما أحدثه المتأخرون والمقام على سلك الأولين) .
وسئل إسماعيل بن نجيد ما الذي لا بد للعبد منه فقال: (ملازمة العبودية والسنة ودوام المراقبة، وسئل عن التصوف فقال: هو الصبر تحت الأمر والنهى) . وقال أحمد بن أبي الحواري: من عمل بلا اتباع سنة فباطل عمله، وقال عبد الله الخياط: (الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا على ما يقع في قلوبهم فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فردهم من القلب إلى الدين والشريعة) (2)
__________
(1) مدارج السالكين (3 \ 118، 119) - انظر العبودية لابن تيمية ص (65) وما بعدها.
(2) مدارج السالكين (3 \ 118، 119) انظر العبودية لابن تيمية ص (65) وما بعدها.(41/219)
الحادي عشر: التفرقة بين الحقيقة والشريعة.
فالشريعة عندهم هي مراعاة الأمر والنهي فيما يظهر من أحوال العباد وأما الحقيقة فهي شهود الحقيقة الكونية في القلب، ومما يدل على ذلك قولهم (الشريعة فيها طاعة ومعصية، والحقيقة فيها طاعة ومعصية، والتحقيق ليس فيه طاعة ولا معصية) (1) .
__________
(1) العبودية (143)(41/219)
ومنهم من يدعي أن الحاجة للنبي صلى الله عليه وسلم هو في علم الظاهر دون الباطن أو في علم الشريعة دون الحقيقة (1) وهم يصفون أنفسهم بأنهم ذووا الحقائق ويصفون العلماء بذوي الشرائع أو بأنهم أصحاب الباطن والعلماء أصحاب الظاهر. وبناء على ذلك فطريقهم هو الأفضل والأكمل من طريق الفقهاء والعلماء، وإن مما علم من الدين بالضرورة أن حقيقة ما في قلوب العباد لا يعلمه إلا الله وادعاء الكمال فيه تزكية قد نهى الله عنها بقوله: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (2) .
كما أن الأعمال الظاهرة مطلوبة شرعا كالأعمال الباطنة سواء بسواء
فإن الإيمان عند أهل السنة والجماعة (السلف الصالح) قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الارتباط بقوله: «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب (3) » وقال صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق (4) » . ولا يدخل العبد في الإسلام إلا بالنطق بالشهادتين مع الإيمان بالقلب ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله (5) » . ولما قتل أسامة بن زيد رجلا بعدما نطق بالشهادة قال له صلى الله عليه وسلم: «أشققت عن قلبه (6) » وقال صلى الله عليه وسلم عن الصلاة: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (7) » وقال عن تصديق الكاهن: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (8) » كلها أعمال ظاهرة مما يدل على أن العلم بما جاء به الرسول أمر قد علم وجوبه بالضرورة من دين الإسلام كما قال سبحانه:
__________
(1) الفرقان لابن تيمية ص (73، 74) - انظر مدارج السالكين (2 \ 372) .
(2) سورة النجم الآية 32
(3) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(4) صحيح البخاري الإيمان (9) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، سنن أبو داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) ، مسند أحمد بن حنبل (2/379) .
(5) صحيح البخاري الزكاة (1458) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(6) سنن ابن ماجه المقدمة (199) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) .
(7) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(8) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/476) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .(41/220)
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) وقال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (2) وقال جل شأنه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) .
قال ابن تيمية: (فلفظ الشرع والشريعة إذا أريد به الكتاب والسنة لم يكن لأحد من أولياء الله ولا غيرهم أن يخرج عنه ومن ظن أن لأحد من أولياء الله طريقا إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم باطنا وظاهرا فلم يتبعه باطنا وظاهرا فهو كافر) (4) .
وليس في قصة موسى مع الخضر ما يدل على جواز الخروج عن شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لوجوه: (5) .
أولا: أن موسى لم يكن مبعوثا للخضر ولا كان على الخضر اتباعه.
ثانيا: أن ما فعله الخضر لم يكن مخالفا لشريعة موسى وإنما أنكره موسى لعدم علمه بالأسباب فلما علمها وافق الخضر على ذلك (6) .
ثالثا: أنه لو صح كون الخضر تابعا لموسى وأن الخضر خالفه لكان ذلك خاصا بشريعة موسى دون شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.
رابعا: أنه لو قيل بناء على ذلك أن شرع من قبلنا شرع لنا قلنا هذا إذا وافق شرعنا وهو لم يوافق فلا يكون شرعا لنا.
خامسا: أنه لو جاز ذلك في شريعة موسى مع أن بعدها رسالات لم يجز ذلك في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خاتم النبيين؛ ولذا إذا أنزل الله عيسى فإنه يحكم بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لا على شريعته السابقة.
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة المائدة الآية 92
(3) سورة النور الآية 63
(4) انظر الفرقان لابن تيمية ص (110، 111) .
(5) انظر الفرقان لابن تيمية ص (110، 111) .
(6) انظر الفرقان لابن تيمية ص (110، 111) .(41/221)
هذا والواجب على المؤمن أن يجمع بين سلامة الظاهر وجمال الباطن، بين الحكم بأحكام الشرع والتقيد بها ظاهرا وبين أحوال القلب الإيمانية والتقييد بأحكام الشرع. يقول ابن القيم رحمه الله شارحا لعبارة صاحب المنازل (فالسالكون ضربان: سالكون على الحال ملتفتون إلى العلم، وهم إلى التمكن أقرب، وسالكون على العلم ملتفتون إلى الحال وهم إلى التلون أقرب) (1) .
وقال: (وهذه الثلاثة هي المفرقة بين أهل العلم وأهل الحال حتى كأنهما غيران وحزبان، وكل فرقة منهما لا تأنس بالأخرى ولا تعاشرها إلا على إغماض ونوع استكراه) وهذا تقصير من الفريقين حيث ضعفت إحداهما عن السير في العلم وضعف الأخرى عن الحال في العلم، فلم يتمكن كل منهما من الجمع بين الحال والعلم فأخذ هؤلاء العلم وسعته ونوره ورجحوه وأخذ هؤلاء الحال وسلطانه وتمكينه ورجحوه وصار الصادق الضعيف من الفريقين يسير بأحدهما ملتفتا إلى الآخر، فهذا مطيع الحال، وهذا مطيع العلم لكن المطيع للحال ما عساه أن يكون والمطيع للعلم متى أعرض به عن الحال كان مضيعا منقوصا مشتغلا بالوسيلة عن الغاية وصاحب التمكين يتصرف علمه في حاله فلا يدعه أن يقف معه بل يدعوه إلى غاية العلم ويلبي دعوته، فهذا حال الكمل من هذه الأمة، ومن استقرأ أحوال الصحابة رضي الله عنهم وجدها كذلك) (2)
__________
(1) انظر مدارج السالكين (3 \ 134، 135) ، انظر الفرقان لابن تيمية ص (51) .
(2) انظر مدارج السالكين (3 \ 134، 135) ، انظر الفرقان لابن تيمية ص (51) .(41/222)
الثاني عشر: الاحتجاج بالقدر على فعل المحظورات يقول ابن تيمية: (وقوم آمنوا بالقضاء والقدر ووافقوا أهل السنة والجماعة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه لكن عارضوا بهذا الأمر والنهي وسموا هذا حقيقة وجعلوا ذلك معارضا للشريعة.(41/222)
وفيهم من يقول إن مشاهدة القدر تنفى الملام والعقاب وأن العارف يستوي عنده هذا وهذا، وهم في ذلك متناقضون مخالفون للشرع والعقل والذوق والوجد فإنهم لا يسوون بين من أحسن إليهم وبين من ظلمهم، ولا يسوون بين العالم والجاهل والقادر والعاجز، ولا بين الطيب والخبيث ولا بين العادل والظالم بل يفرقون بينهم ويفرقون أيضا بين موجب أهوائهم وأغراضهم لا بموجب الأمر والنهي فلا يقفون لا مع القدر ولا مع الأمر بل كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري أي مذهب وافق مذهبك تمذهبت به (1) .
وهذا المذهب مردود بما يلي:
أولا: أنه يلزمه إذا احتج بالقدر على المحظور أن يجوز احتجاج غيره به إذا آذاه أو أساء إليه فلا يطالبه بعقوبة وهو ما لا يفعله.
ثانيا: أن هذا القول مستلزم لفساد العالم وتضارب المجتمع وانتشار الشر لأنه يتضمن رفع العقوبات عن المجرمين والظالمين وإباحة الأعراض والأموال والأنفس، وهذا لازم باطل فما بني عليه فهو باطل.
ثالثا: أن مما علم بالضرورة من دين الإسلام انقسام أفعال العباد إلى طاعة ومعصية، وإلى ما ينفع وما يضر، ومعروف ومنكر، وإلى طيبات وخبائث وإلى متابع للشرع ومخالف له، ولو صح قوله لصح أن يجعل كل ما جرى به القدر عذرا وهو باطل فما لزم منه ذلك فهو باطل.
رابعا: فإن ادعى أن يعذر بالقدر من شهده دون غيره قيل له إن الشهود والجحود من القدر هو متناول لهما فإن أوجبت فرقا بينهما فقد أبطلت قولك من أصله.
__________
(1) انظر مجموعة الرسائل والمسائل (1 \ 72- 75) .(41/223)
خامسا: أن من احتج على الذنوب بالقدر فهو من جنس عمل الشرك حيث قال الله عنهم: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (1) .
سادسا: لو كان القدر حجة لما عذب الله المشركين المكذبين للرسل لكنه عذبهم فلا يكون القدر حجة على الذنوب (2) .
سابعا: أن في الاحتجاج بالقدر تسوية بين أهل الإيمان وأهل الكفر والشرك بل بين الطاعة والمعصية ونحو ذلك قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (3) وقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (4) وقال: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (5) .
ثامنا: أن في ذلك نسبة الظلم وعدم الحكمة لرب العالمين كما قال سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (6) وقال: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (7) .
تاسعا: أن ذلك تعطيل للأمر والنهي وإضعاف لتعظيمهما في النفوس والله يقول: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (8) .
عاشرا: إن لازمه التسوية بين جميع الأديان يهودية ونصرانية ووثنية
__________
(1) سورة الأنعام الآية 148
(2) انظر الفرقان ص (104، 105) انظر العبودية لابن تيمية ص (52، 56) .
(3) سورة القلم الآية 35
(4) سورة ص الآية 28
(5) سورة الجاثية الآية 21
(6) سورة المؤمنون الآية 115
(7) سورة القيامة الآية 36
(8) سورة الحج الآية 32(41/224)
وإسلام وهو باطل فما لزم منه فهو باطل، ولذا وجد في هؤلاء من يجوز التعبد بأي دين (1)
__________
(1) انظر الصفدية لابن تيمية (1 \ 628) .(41/225)
الثالث عشر: أن أولياء الله وأعداء الله في الولاء سواء وهو باطل فما بني عليه فهو باطل (1) .
دعوى ابن عربي أن أصحاب النار يتنعمون في النار كما يتنعم أصحاب الجنة في الجنة وإنما سمي العذاب عذابا من العذوبة وهي حلاوة الطعم وأنشد في الفصول:
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده ... وما لوجود الحق عين تعاين
فإن دخلوا دار الشقاء فإنهم ... على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد ... وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذابا من عذوبة طعمه ... وذاك له كالقشر والقشر صاين
وتصور هذا القول يغني عن الرد عليه لظهور فساده (2)
__________
(1) انظر الفرقان ص (104، 105) انظر العبودية لابن تيمية ص (52، 56) .
(2) انظر الصفدية (1 \ 245، 246) الفرقان ص (83) .(41/225)
الرابع عشر: أن خاتم الأولياء أعظم وأعلم بالله من خاتم الأنبياء وأن خاتم الأنبياء وسائر الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء وتصوره يكفي في معرفة فساده.(41/225)
الخامس عشر: أنه يمكن أن يأتي في المتأخرين أفضل من أبي بكر وعمر كما ذكره الترمذي الحكيم في كتابه خاتم الأولياء (1)
__________
(1) انظر الصفدية (1 \ 247) .(41/225)
السادس عشر أن الملائكة عبارة عن الصور الخيالية التي تحصل في نفس النبي نتيجة لما أفاضه العقل الفعال على نفسه وأن حقيقة الوحي إلى(41/225)
النبي هو ما يتخيله النبي حال الإفاضة من أصوات يسمعها فما يسمعه لا يكون خارج نفسه، وأما خاتم الأولياء فهو يأخذها من المعدن الذي يأخذ منه الملك المبلغ للنبي (1)
__________
(1) انظر الصفدية (1 \ 249) .(41/226)
السابع عشر: أن النبوة أفضل من الرسالة وأن الولي أفضل من الرسول يقول ابن عربي:
مقام النبوة في برزخ ... فويق الرسول ودون الولي
يقول ابن القيم: (وهذا قلب للحقيقية التي اتفق عليها المسلمون وهو أن الرسول أفضل من النبي الذي ليس برسول، والنبي أفضل من الولي الذي ليس بنبي.
والرسالة تنتظم النبوة والولاية كما أن النبوة تنتظم الولاية وأن أفضل الأولياء أكملهم تلقيا عن الأنبياء وهو أبو بكر الصديق فإنه أفضل من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر كان كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر (1) » فعمر كان محدثا ملهما وهو أفضل المحدثين من هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، وليس في أولياء هذه الأمة من يأخذ عن الله سبحانه وتعالى شيئا بلا واسطة نبي أفضل من عمر ومع ذلك فكل ما يرد عليه بدون وساطة النبي عليه أن يعتبره بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وافقه قبله وإن خالفه رده كما كان يفعل عمر بن الخطاب؛ فإنه كان إذا وقع له شيء جاءت السنة بخلافه ترك ما عنده لما جاءت به السنة) (2) .
ومما تقدم لنا من العقائد يظهر مدى ما وصل إليه التصوف عند
__________
(1) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2398) ، سنن الترمذي المناقب (3693) ، مسند أحمد بن حنبل (6/55) .
(2) انظر الصفدية (1 \ 252، 253) .(41/226)
المتأخرين من انحراف فكري جعل التصوف يجمع عددا من العقائد والأفكار الهدامة التي تعتبر معول هدم لأصول الإسلام وقواعده مما يوجب علينا أن نتابع الصوفية في جميع منعطفاتها محذرين منها ومظهرين ما في عقائدها من مخالفة صريحة لأصول العقائد الإسلامية، الأمر الذي يتطلب جهدا كبيرا من البحث والمتابعة يقول ابن تيمية رحمه الله: (واعلم أن هذه المقالات لا أعرفها لأحد من الأمة قبل هؤلاء على هذا الوجه، ولكن رأيت في بعض كتب الفلسفة المنقولة عن أرسطو أنه حكى عن بعض الفلاسفة قوله: إن الوجود واحد ورد ذلك وحسبك بمذهب لا يرضاه متكلمة الصابئة) (1)
__________
(1) مجموع الرسائل والمسائل (4 \ 24) .(41/227)
الصوفية والبدع
البدع هي شرع ما لم يشرعه الله قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) وأصل الدين الحلال ما أحله الله ورسوله والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وليس لأحد أن يخرج عن الصراط المستقيم الذي بعث الله به رسوله قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) .
هذا والمشروع التقرب إلى الله بما شرعه من الصلاة والصدقة والقراءة فهذه أصول العبادات المشروعة فمن تقرب إلى الله بما يخرج عن هذه الأصول فهو مبتدع شارع ما لم يأذن به الله (3) والواجب أن يكون المتقرب
__________
(1) سورة الشورى الآية 21
(2) سورة الأنعام الآية 153
(3) انظر الاعتصام للشاطبي (1 \ 286) .(41/227)
به جامعا للموافقة للشرع في أصله بأن يرجع إلى أصول العبادة المتقدمة، وفي وصفه بأن يثبت بالنقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله أو أمره أو إقراره لهيئة العبادة وشكلها كيفا وعددا وهيئة وإلا كانت من البدع المنهي عنها شرعا. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار (1) » فليس لأحد أن يشرع ما استحسنه هواه أو وافق طبعه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به (2) » وبناء على ذلك فإن الصوفية قد ظهرت عليهم أفعال وأقوال واعتقادات لم يأذن الله بها ولا رسوله ولا كان سلف الأمة عليها مما جعل التصوف بريدا للبدعة وإليك جملا مما ابتدعوه: (3) .
أولا: صلاة ركعتين بعد لبس المرقعة والتوبة.
ثانيا: تركهم للجمع والجماعات والمساجد وسكناهم للأربطة.
ثالثا: الهيمان في البراري والقفار مما يعرضهم للهلكة وترك الصلوات مع المسلمين.
رابعا: تركهم للمطاعم والمشارب الطيبة بدعوى الزهادة.
خامسا: الاعتماد على الصدقات وترك العمل والسعي في سبيل الرزق الحلال بدعوى الثقة بالله والتوكل عليه وإنما هو التواكل.
سادسا: لبسهم المرقعات من الملابس مع إمكانهم لبس الطيب منها ظنا منهم أن ذلك هو الزهد المشروع.
سابعا: تعبدهم بلبس الصوف والتزامه دون غيره من اللباس.
ثامنا: إظهار الملامية منهم ما يلامون عليه عند الناس طلبا للإخلاص.
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) أخرجه الخطيب في تاريخه (4\491) ، والبغوي في شرح السنة (ح\104) ، والحسن بن سفيان كما في فتح الباري، وقال ابن حجر: رجاله ثقات، وقد صححه النووي في آخر الأربعين. انظر: فتح الباري (13\289) .
(3) انظر تلبيس إبليس (174- 330) .(41/228)
تاسعا: تعبدهم باستماع الغناء والرقص والخلوة بالمردان من الصبية وتقبيلهم.
عاشرا: إباحتهم النظر إلى الأمرد والخلوة به، بل والنوم معه على فراش واحد بدعوى أنه من التفكر في خلق الله.
الحادي عشر: تركهم للنكاح بدعوى أنه يشغل عن العبادة وابتلوا بصحبة المردان.
الثاني عشر: ترك التداوي بدعوى أنه ينافي التوكل على الله.
الثالث عشر: الدعاوى العريضة في محبة الله الذي يدخل في مسمى تزكية النفس فضلا عن الرياء والسمعة وطلب الشهرة.
الرابع عشر: تركهم للعلم والتعلم بدعوى أن العبرة بالباطن والعلم علاقته بالظاهر، وقد تقدم ما يدل على ما فيه من الخطأ والخلط.
الخامس عشر: الغلو في الصالحين إلى درجة الاستغاثة بهم والاستجارة بهم والذبح لهم وهو من الشرك الأكبر.
السادس عشر: إقامة الأعياد والموالد لشيوخهم وأكابر من يدعون ولايته.
السابع عشر: دعواهم أن الذكر المفرد أفضل من الذكر المركب وأنه ذكر الخواص.
ويحتج بعضهم بقوله سبحانه: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} (1) ظنا منه أنه أمر نبيه بالذكر المفرد وهو مردود؛ لأن معنى الآية قل الله هو الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى ويدل عليه أول الآية وهي قوله سبحانه: {قُلْ مَنْ
__________
(1) سورة الأنعام الآية 91(41/229)
أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ} (1) أي الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى.
ولو كان الذكر المفرد أفضل لكان الرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس به، وهو الذي عبد ربه حتى تفطرت قدماه، ولأمر أمته به وكما قال لهم «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة (2) » وكما قال: «من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر (3) » فهو صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالذكر المفرد ولا في حديث واحد.
وأما قوله: «لا تقوم الساعة حتى لا يوجد من يقول الله الله (4) » المراد به يقول لا إله إلا الله أو حتى لا يبقى لله ذكر بينهم؛ لانتشار الشرك في شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة، ثم الذكر المفرد لا يدل على إيمان أو كفر فما معنى أن يقول: الله أو حي، ونحو ذلك ما الذي أثبته لله أو نفاه عنه حتى يكون ذكرا فضلا عن أن يكون من ذكر الخواص وقد غلا بعضهم فقال: إن ذكر خواص الخواص هو لفظ هو، أنا، وألف كتابا سماه كتاب (الهو) وهو شرع ما لم يأذن به الله وهو قول ابن عربي وأهل الاتحاد (5) .
قال ابن تيمية: (والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الله سبحانه هو ذكره بجملة تامة وهو المسمى بالكلام والواحد منه بالكلمة هو الذي ينفع القلوب ويحصل به الثواب والأجر ويجذب القلوب إلى الله ومعرفته ومحبته وخشيته وغير ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية، وأما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرا أو مضمرا فلا أصل له فضلا عن أن يكون من ذكر
__________
(1) سورة الأنعام الآية 91
(2) سنن أبو داود الجنائز (3116) ، مسند أحمد بن حنبل (5/233) .
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2691) ، سنن الترمذي الدعوات (3466) ، سنن ابن ماجه الأدب (3812) ، مسند أحمد بن حنبل (2/375) .
(4) صحيح مسلم الإيمان (148) ، سنن الترمذي الفتن (2207) ، مسند أحمد بن حنبل (3/162) .
(5) انظر العبودية لابن تيمية ص (157) ، مجموع الفتاوى (10 \ 396) .(41/230)
الخاصة والعارفين بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات وذريعة إلى تصورات وأحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد وأهل الاتحاد (1) .
الثامن عثر: التعبد بالجوع والسهر والصمت.
ومن هذا السرد العددي لعدد من البدع الصوفية يظهر مدى التلازم بين دين الصوفية والبدع سواء كانت مخرجة عن دين الله أو مخالفة لما ثبت عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وإن لم تخرج صاحبها من الإسلام.
هذا وما زالت البلاد الإسلامية التي ينتشر فيها التصوف ترزح تحت وطأة البدع والمبتدعين من الصوفية الذين هيئوا للبدع والمبتدعين طريقهم بين عامة المسلمين مما يظهر لنا مدى خطر التصوف وطرقه على تغيير دين المسلمين؛ لأن البدع إذا انتشرت غيرت وجه الدين حتى يعود مجموعة من الطقوس التي لا تمت إلى دين الله بصلة وصدق الله حيث قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) ولو لم يكن للصوفية من أثر بدعي إلا توهين أمر الجهاد في سبيل الله وصرف الناس عن تعلم الدين وفهمه لكفاه خطرا وشرا.
__________
(1) انظر العبودية لابن تيمية ص (157) ، مجموع الفتاوى (10 \ 399) .
(2) سورة المائدة الآية 50(41/231)
صلة التصوف بالأفكار الهدامة:
إن المستقرئ لما عليه المتصوفة من العقائد والأفكار ليدرك من خلال ذلك مدى الصلة الوثيقة بين التصوف وبين تلك الأفكار الهدامة، ويتبين لنا من سرد بعض نقاط اللقاء بين التصوف وتلك الأفكار:
أولا: للتصوف صلة وثيقة بالتشيع فإن المتبع لأفكار الصوفية يجد التشابه الشديد بين شيوخ الصوفية وأئمة الشيعة من جهة تلك الامتيازات(41/231)
التي يضفيها كل من الشيعة والصوفية على أولئك الشيوخ والأئمة لا سيما وأن الطرق الصوفية تجدها في غالب طرقها تسوق أسانيدها إلى علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء أو ذريتهما بل لقد رأيت بالبحث أن جملا من رجالات الصوفية كأحمد البدوي وأبي الحسن الشاذلي قد نشأ في مهد التشيع وبين الشيعة مما لا يدع مجالا للشك في أن للتصوف صلة وثيقة قوية بالتشيع (1)
ثانيا: أن للتصوف صلة قوية بمذهب الباطنية (2) ويدل على ذلك أمران:
الأول: اعتماد الصوفية على الأحوال الباطنة دون الأمور الظاهرة بل إن بعضهم ليسقط حساب الظاهر وذلك بإسقاط التكاليف الشرعية.
الأمر الثاني: تلك التفسيرات الصوفية الباطنية الفكر كقول بعضهم في قوله تعالى: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} (3) أي تهلكون، ومعناها الحق بما كنتم تتلونه وتقرءونه، وقال بعضهم في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (4) أي لمن كان الله قلبه.
وقال بعضهم في قوله: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} (5) {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} (6) قال الروح النظر إلى وجه الله عز وجل والريحان الاستماع لكلامه وجنة نعيم هو أن لا يحتجب فيها عن الله عز وجل (7)
ثالثا: التأثر بأقوال النصارى فالقول بالحلول الخاص هو قول
__________
(1) السيد البدوي بين الحقيقة والخرافة ص (24 وما بعدها) ص (37، 49، 87، 91، 94، 181) .
(2) انظر الكشف عن حقيقة الصوفية كل (828 وما بعدها) .
(3) سورة آل عمران الآية 79
(4) سورة ق الآية 37
(5) سورة الواقعة الآية 88
(6) سورة الواقعة الآية 89
(7) انظر تلبيس إبليس (331) .(41/232)
النسطورية منهم والقول بالاتحاد الخاص قول اليعقوبية منهم وبكل قول من هذه الأقوال قالت طائفة من طوائف الصوفية من أهل الوحدة والاتحاد (1)
رابعا: التأثر بأقوال فلاسفة اليونان كتأثر بعض الصوفية بقول من قال من فلاسفة اليونان بأن الوجود واحد (2)
خامسا: تأثرهم بالجهمية في قولهم بالحلول العام وهو عين قول الجهمية حيث يقولون: إنه بذاته في كل مكان (3)
سادسا: أن التصوف منتشر بين اليهود وتسمى (التنبؤ) ويسمى الواصل من السالكين عندهم نبيا ويسمى شيخها صوفيا وتسمى مراكزها (المسفايات) واحدة (مسفا مما يؤكد على وجود صلة بين هذه التسمية ورسومها وطقوسها وما عليه الصوفية اليهودية (4) .
سابعا: أن الهندوسية تقوم على أسس إشراقية كالخلوة والجوع والسهر والصمت مما يدل على وجود صلة وثيقة بين الهندوسية والتصوف من جهة التشابه بينه وبينها (5)
__________
(1) انظر مجموعة الرسائل والمسائل (4 \ 24) .
(2) انظر مجموعة الرسائل والمسائل (4 \ 24) .
(3) انظر مجموعة الرسائل والمسائل (4 \ 24) .
(4) انظر الكشف عن حقيقة الصوفية (749، 750) .
(5) انظر الكشف عن حقيقة الصوفية (749، 750) .(41/233)
خاتمة البحث
وبهذا العرض السريع للتصوف وعقائد المتصوفة وأحوالهم التعبدية يظهر لنا أن كلمة تصوف أطلقت على عدد من العقائد والأفكار بعضها صحيح وهو منحصر في كبار شيوخهم السلفيين في اعتقادهم، وبعضها الآخر بدعي كالصوفية المنتسبين للأشعرية، وبعضها كفر وزندقة وهم صوفية وحدة الوجود، مما يجعلنا بحاجة عندما نحكم على مسمى هذا الاسم بعد الاصطلاح للاستفسار عما يدخل تحته من مذهب عقدي أو تعبدي، وهو مقتضى العدل في نظري؛ لأني رأيت أكثر من يكتب عن التصوف إما يميل إلى أن يجفوا فيحكم بالبدعية وربما بالزندقة على أوائلهم وأواخرهم، ومنهم من يغلو فيزكي الأول والآخر، والعدل هو الوسط الذي هو سمة هذه الأمة المحمدية قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (1) وهذا والصوفيون المعاصرون لا يخرجون عن ما عليه الصوفية المتأخرون من العقائد والأفكار فهم صوفية طرقية جارية على الطرق قبلهم، وإن كانت الطرق الصوفية أخذت جانبا جديدا وهو الجانب الحزبي؛ وذلك بإنشاء مشيخة للطرق الصوفية في الأزهر ومجلس أعلى عالمي في لندن وصاروا يستفيدون من معطيات عصرهم في نشر تصوفهم، بل إن الاستعمار واليهودية العالمية بجميع منظماتها لتسعى لنشر التصوف والعناية به؛ لأن ذلك يخمد نار الغيرة الإسلامية في نفوس المسلمين ويقضي على الدافع الجهادي في نفوسهم، ومن ثم استسلامهم للواقع المر والتبعية للشرق والغرب الكافرين، نسأل الله أن ينصر الحق وأهله ويخذل الباطل وأهله إنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) سورة البقرة الآية 143(41/234)
أحكام الاختلاف في رؤية هلال ذي الحجة
تأليف
الحافظ عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
736 هـ- 795 هـ
تحقيق ودراسة
د. عبد الله بن عبد العزيز الجبرين (1)
الأستاذ المشارك بكلية المعلمين بالرياض
مقدمة التحقيق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم أما بعد:
فهذه رسالة كتبها الإمام الحافظ الفقيه أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي رحمه الله، وهي تتعلق بمسألة هامة، هي: الاختلاف في رؤية هلال ذي الحجة.
وقد وجدت لهذه الرسالة ثلاث نسخ خطية هي:
الأولى: نسخة بالمكتبة السعودية بالرياض، تحت رقم (527 \ 86)
__________
(1) وردت للكاتب ترجمة في العدد السادس والثلاثين ص (267) .(41/235)
ضمن مجموعة، عليه تمليك للشيخ محمد بن عبد اللطيف رحمه الله، وعدد صفحاتها عشر صفحات ونصف صفحة، في كل صفحة تسعة عشر سطرا، وقد كتبت بخط واضح، ولم يذكر اسم ناسخها، وقد رمزت لهذه النسخة بالحرف "م ".
الثانية: نسخة بمكتبة جامعة الملك سعود بالرياض، تحت رقم (1817 \ 3 م) ، ضمن مجموعة كتب الشيخ عبد المحسن بن عبيد رحمه الله، وقد ذكر رحمه الله في آخر هذه الرسالة أنه نقلها عام 1361 هـ من(41/236)
قلم من حمى نفسه: فراج بن منصور بن سابق النجدي (1) الذي كتبها سنة 1228 هـ (2) . وعدد صفحاتها ثمان صفحات وثمانية أسطر، في كل صفحة سبعة وعشرون سطرا، وهي مقابلة على نسخة أخرى، وقد رمزت لها بالحرف "ع ".
الثالثة: نسخة بمكتبة الشيخ سعد بن عبد الرحمن بن قاسم، والذي يعمل مدرسا بمعهد الرياض العلمي، وهي بخط والده الشيخ: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، وعدد صفحاتها أربع صفحات، في كل صفحة ثلاثون سطرا، وقد رمزت لها بالحرف " ق".
وتتضح أهمية تحقيق هذه الرسالة في النقاط التالية:
1 - أن الموضوع الذي ألفت من أجله موضوع هام يحتاج الناس في كل وقت إلى معرفة الأحكام المتعلقة به، لتعلقه بركن من أركان الإسلام وهو الحج، بل يتعلق بأهم أركانه وهو الوقوف بعرفة.
__________
(1) الحنبلي، المتوفى سنة 1246 هـ تقريبا. انظر السحب الوابلة ص 331.
(2) انظر ص (44) تعليق، (1) من هذه الرسالة.(41/237)
2 - أن موضوع الرسالة ومواضيع أخرى هامة تعرضت لها كالاختلاف في هلال رمضان، والاختلاف في هلال شوال وغيرها تمس الحاجة إلى معرفة القول الصحيح فيها، لكثرة وقوع الاختلاف في كل مسألة من هذه المسائل.
3 - أن هذه الرسالة تبرز وتتعرض لحكم شرعي يدل على يسر هذا الدين وسماحته، وهو الحكم بصحة عبادات المسلمين عند خطئهم في وقت دخول شهر ذي الحجة، أو وقت دخوله شهر رمضان أو خروجه.
4 - أن القول الذي مال إليه المؤلف في هده المسألة الهامة فيه جمع لكلمة المسلمين، ومنع للاختلاف والفرقة وتشتيت الكلمة، وفيه قطع لكثرة القيل والقال.
وقد انحصر عملي في هذه الرسالة في الأمور الآتية:
1 - تصحيح النص، وقد اعتمدت النص الصحيح وأشير إلى غيره في الحاشية.
2 - دراسة جميع الموضوعات التي تعرض لها المؤلف بذكر أدلتها باختصار، إن لم يكن المؤلف تعرض لها، وإن كان في المسألة خلاف لم يتعرض له المؤلف ذكرته مع دليله بشيء من الاختصار، ثم ذكرت القول الراجح وسبب الترجيح.
3 - تخريج جميع الأحاديث والآثار التي ساقها المؤلف وذكر طرقها وشواهدها والحكم على إسناد كل رواية من حيث القوة والضعف.(41/238)
ولم يذكر المؤلف لهذه الرسالة عنوانا، وقد ذكرها ابن عبد الهادي ضمن مؤلفات ابن رجب، وأسماها: " قاعدة: غم هلال ذي الحجة " (1) ولعله أخذ هذا العنوان من قول المؤلف في مقدمة هذه الرسالة: " فقد وقع في هذا العام وهو عام أربعة وثمانين وسبعمائة حادثة وهو أنه غم هلال ذي الحجة فأكمل الناس هلال ذي القعدة. . . " وقد اخترت لها عنوانا يعبر عن مضمونها ومحتواها، وهو: " أحكام الاختلاف في رؤية هلال ذي الحجة ".
__________
(1) الجوهر المنضد ص 51.(41/239)
ترجمة المؤلف:
هو الإمام الحافظ الفقيه الواعظ الزاهد أبو الفرج زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحسن بن محمد بن أبي البركات السلامي، البغدادي ثم الدمشقي.
ولد في بغداد سنة 736 هـ، وكان والده وجده من أهل العلم والصلاح (1) ، وقد عني والده بتعليمه عناية كبيرة، فكان يحضره إلى مجالس العلم وهو صغير قبل التمييز في السنة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة من عمره (2) ، ثم رحل به والده إلى دمشق ونابلس والقدس فسمع من علماء
__________
(1) الدارس 2 \ 76، المقصد الأرشد 2 \ 81، شذرات الذهب 6 \ 339.
(2) ذيل طبقات الحنابلة للمؤلف 1 \ 67، و 2 \ 176، 213، 214، 436.(41/239)
هذه البلاد وهو صغير (1) ، ثم رجع إلى بغداد فسمع الحديث بها من بعض علمائها (2) ، ثم حج مع والده سنة 749 هـ فسمع الحديث بمكة (3) ، ثم رجع معه إلى دمشق، وبها لازم الإمام ابن القيم أكثر من سنة حتى توفي سنة 751 هـ، وسمع عليه قصيدته النونية في العقيدة وأشياء من تصانيفه وغيرها (4) ، ثم رحل مع والده إلى مصر، فسمع من بعض علمائها (5) .
وقد أكثر الحافظ ابن رجب من سماع الحديث، وقرأ القران بالروايات (6) ، ودرس الفقه على كثير من شيوخه، وحفظ بعض المتون الفقهية في الفقه الحنبلي (7) .
وقد استقر رحمه الله بعد تلك الرحلات الكثيرة في دمشق، وتفرغ للتعليم والتأليف والوعظ، فأقبل الطلاب على دروسه، وتتلمذوا على يديه، وأخذوا عنه الفقه، واستفادوا من علمه.
وقد برز الحافظ ابن رجب في فنون كثيرة من علوم الشريعة، فقد برز في علوم الحديث، وكان ذا معرفة واسعة بالرجال وبطرق الأحاديث وعللها ومعانيها، وبرز أيضا في الفقه، وكانت له مجالس تذكير ووعظ نافعة.
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة 2 \ 109، 365، شذرات الذهب 6 \ 339، الدرر الكامنة 2 \ 429.
(2) ذيل طبقات الحنابلة 1 \ 289.
(3) المرجع السابق 2 \ 444.
(4) ذيل طبقات الحنابلة 2 \ 444، السحب الوابلة ص 197.
(5) أنباء الغمر 3 \ 175، الدارس 2 \ 77، المقصد الأرشد 8232، وينظر الذيل على طبقات الحنابلة 2 \ 41، 82.
(6) الدرر الكامنة 2 \ 429.
(7) ذيل طبقات الحنابلة 2 \ 432.(41/240)
وكان صاحب عقيدة صافية نقية، وقد ألف رسالة في تفضيل علم السلف على علم الخلف (1) .
وقد أثنى عليه غير واحد من أهل العلم:
قال ابن ناصر الدين: " الشيخ الإمام العلامة الزاهد القدوة، البركة الحافظ العمدة الثقة الحجة، واعظ المسلمين، مفيد المحدثين،. . أحد الأئمة الزهاد والعلماء العباد " (2) .
وقال ابن فهد: " الإمام الحافظ الحجة، والفقيه العمدة، أحد العلماء الزهاد الأئمة العباد، مفيد المحدثين، واعظ المسلمين،. . كان رحمه الله إماما ورعا زاهدا مالت القلوب بالمحبة إليه، وأجمعت الفرق عليه، كانت مجالس تذكيره للقلوب وللناس عامة نافعة وللقلوب صادعة " (3) .
وقال ابن العماد الحنبلي: " الشيخ الإمام العالم العلامة، الزاهد القدوة البركة، الحافظ العمدة الثقة الحجة وكانت مجالس تذكيره للقلوب وللناس عامة مباركة نافعة، اجتمعت الفرق عليه، ومالت القلوب بالمحبة إليه، وله مصنفات مفيدة ومؤلفات عديدة. . وكان لا يعرف شيئا من أمور الناس ولا يتردد إلى أحد من ذوي الولايات " (4) .
وقال ابن المبرد: " الشيخ الإمام، أوحد الأنام، قدوة الحفاظ، جامع الشتات والفضائل،. . الفقيه الزاهد البارع الأصولي المفيد المحدث " (5) .
__________
(1) ينظر مؤلفاته في هده المقدمة ص (7) .
(2) الرد الوافر ص 106.
(3) لحظ الألحاظ 5 \ 180، 181.
(4) شذرات الذهب 6 \ 339.
(5) الجوهر المنضد ص46، 47.(41/241)
وقال السيوطي: " الإمام الحافظ المحدث الفقيه الواعظ " (1) .
وقال أبو اليمن العليمي: " هو الشيخ الإمام والحبر البحر الهمام العلم العامل البدر الكامل القدوة الورع الزاهد الحافظ الحجة الثقة، شيخ الإسلام والمسلمين، وزين الملة والدين، واعظ المسلمين مفيد المحدثين، جمال المصنفين. . وكان أحد الأئمة الكبار والحفاظ والعلماء والزهاد والأخيار، وكانت مجالس تذكيره للقلوب صادعة وللناس عامة مباركة نافعة، اجتمعت الفرق عليه، ومالت القلوب بالمحبة إليه، وزهده وورعه فائق الحد، وكان رحمه الله لا يعرف شيئا من أمور الناس، ولا يتردد إلى ذوي الولايات " (2) .
وقال تلميذه ابن اللحام: " سيدنا وشيخنا الإمام العالم العلامة الأوحد الحافظ، شيخ الإسلام مجلي المشكلات وموضح المبهمات " (3) ، وقال أيضا: " الإمام العالم الحافظ، بقية السلف الكرام، وحيد عصره، وفريد دهره، شيخ الإسلام " (4) .
وقال ابن قاضي شهبة: " الشيخ الإمام العلامة الحافظ الزاهد الورع، شيخ الحنابلة وفاضلهم، أوحد المحدثين " (5) . وقال أيضا: " كتب وقرأ وأتقن الفن، واشتغل في المذهب حتى أتقنه، وأكب على الاشتغال بمعرفة متون الحديث وعلله ومعانيه. . وكان منجمعا عن الناس لا يخالط ولا يتردد إلى أحد من ذوي الولايات " (6) .
__________
(1) طبقات الحفاظ ص 540، ذيل تذكرة الحافظ 5 \ 367.
(2) السحب الوابلة ص 197، 198، مختصر طبقات الحنابلة ص 72.
(3) الجوهر المنضد ص 47.
(4) المرجع السابق.
(5) المرجع السابق ص 48.
(6) ينظر مقدمة تحقيق شرح علل الترمذي للدكتور همام عبد الرحيم ص 249، والجوهر المنضد ص 48.(41/242)
وقال ابن حجي: " أتقن الفن- أي فن الحديث- وصار أعرف أهل عصره بالعلل وتتبع الطرق، وكان لا يخالط الناس ولا يتردد إلى أحد. . . تخرج له غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق " (1) .
وقال الحافظ ابن حجر: " مهر في فنون الحديث أسماء ورجالا وعللا وطرقا، واطلاعا على معانيه، وكان صاحب عبادة وتهجد " (2) .
وقال النعمي: " الشيخ العلامة، الحافظ الزاهد، شيخ الحنابلة، وكان لا يعرف شيئا من أمور الناس، ولا يتردد إلى أحد من ذوي الولايات " (3) .
وللحافظ ابن رجب مؤلفات كثيرة نافعة في فنون عديدة، ومن هذه المؤلفات:
1 - فضل علم السلف على الخلف (4) .
2 - شرح سنن الترمذي (5) ، عشرون مجلدا، وقد فقد أكثره (6) .
3 - شرح صحيح البخاري. ولم يتمه، وصل فيه إلى كتاب الجنائز (7) ، وقد أسماه: فتح الباري في شرح البخاري (8) .
4 - القواعد الفقهية (9) .
__________
(1) شذرات الذهب 6 \ 339، 340، أنباء الغمر 3 \ 176.
(2) أنباء الغمر 3 \ 176.
(3) الدارس 2 \ 76، 77.
(4) الجوهر المنضد ص 50.
(5) الدرر الكامنة 2 \ 429، لحظ الألحاظ 5 \ 181، طبقات الحافظ ص 540، البدر الطالع 1 \ 328.
(6) الجوهر. المنضد ص 49، أنباء الغمر 5 \ 176.
(7) ذيل تذكرة الحافظ للسيوطي 5 \ 367، لحظ الألحاظ 5 \ 181، الرد الوافر ص 106.
(8) المقصد الأرشد 2 \ 83 شذرات الذهب 6 \ 339، الدارس 2 \ 77.
(9) الدر الكامنة 2 \ 429، شذرات الذهب 6 \ 339، الدارس 2 \ 77، الدر المنضد ص 48.(41/243)
قال ابن المبرد: " وهو كتاب نافع من عجائب الدهر" (1) .
5 - جامع العلوم والحكم (2) .
6 - ذيل طبقات الحنابلة (3) .
7 - الاستغناء بالقرآن (4) .
8 - الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة (5) .
9 - لطائف المعارف (6) .
وغيرها كثير، وقد ذكر ابن المبرد منها ستة وأربعين مؤلفا بين كتاب ورسالة، ثم قال: "وغير ذلك من الكتاب النافعة المفيدة، التي لم نر مثلها" (7) ، وقد طبعت أكثر مؤلفاته، وكانت وفاته رحمه الله، في دمشق سنة 795 هـ (8)
__________
(1) الجوهر المنضد ص 49.
(2) المقصد الأرشد 2 \ 82، كشف الظنون 1 \ 59، ذيل كشف الظنون 3 \ 335.
(3) الدرر الكامنة 2 \ 429، الرد الوافر ص 106، لحظ الألحاظ 5 \ 181، البدر الطالع 1 \ 328.
(4) الجوهر المنضد ص 51، هدية العارفين 1 \ 527.
(5) الجوهر المنضد ص 50، 51.
(6) الدرر الكامنة 2 \ 429، شذرات الذهب 6 \ 339، الدارس 2 \ 77، أنباء الغمر 3 \ 176.
(7) الجوهر المنضد ص49- 51، وانظر السحب الوابلة ص 197، 198، هدية العارفين 1 \ 527.
(8) الرد الوافر ص107، الدرر الكامنة 2 \ 429، المقصد الأرشد 2 \ 82 وغيرها.(41/244)
النص المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن ووفق للخير يا كريم (1)
قال الشيخ الإمام العالم العلامة الأوحد الفهامة (2) وحيد عصره، وفريد دهره: أبو الفرج (3) عبد الرحمن بن الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى (4) .
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره من يهده الله فلا مضل له، ومن
يضلل (5) فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:
فقد وقع في هذا العام وهو عام أربعة وثمانين وسبعمائة حادثة، وهو أنه غم هلال ذي الحجة فأكمل الناس هلال ذي القعدة، ثم تحدث الناس برؤية هلال ذي الحجة، وشهد به أناس (6) لم يسمع الحاكم شهادتهم، واستمر الحال على إكمال عدة (7) شهر ذي القعدة، فتوقف بعض الناس
__________
(1) جملة '' رب يسر وأعن ووفق للخير يا كريم '' غير موجودة في '' ع '' و '' ق ''.
(2) في '' ع '': '' الإمام الأوحد العلامة والحبر الهمام الفهامة ''.
(3) في '' ع '': '' الحافظ أبو الفرج زين الدين ''.
(4) في ''ع '': ''رحمة الله علينا وعليه آمين ''.
(5) لفظة: ''ومن يضلل '' مكررة في ''ق ''.
(6) في ''م'' و''ق'': ''ناس''.
(7) في '' ع '': '' عدد ''، ووضع عليها علامة نسخة، وفي هامشها: '' عدة '' ووضع علما علامة نسخة أخرى.(41/245)
عن (1) صيام التاسع (2) الذي هو يوم عرفة في هذا العام. وقالوا هو يوم النحر على ما أخبر به أولئك الشهود الذين لم تقبل شهادتهم، وقيل: إن بعضهم ضحى في ذلك اليوم، وحصل للناس بسبب ذلك اضطراب.
فأحببت أن أكتب في ذلك ما يسره الله تعالى. وبه (3) المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فنقول: هذه المسألة لها صورتان:
إحداهما:
أن يكون الشك مستندا إلى قرائن مجردة، أو إلى شهادة من لا تقبل شهادته (4) إما لانفراده بالرؤية أو لكونه ممن لا يجوز قبول قوله ونحو ذلك.
فهذه المسألة قد اختلف الناس فيها على قولين. أحدهما: أنه لا يصام في هذه الحالة (5) . قال النخعي في صوم يوم عرفة في الحضر: إذا كان فيه اختلاف فلا تصومن وعنه قال: كانوا لا يرون بصوم يوم عرفة بأسا
__________
(1) في '' ع '': '' في '' ووضع عليه علامة نسخة، وفي هامشها: '' عن '' ووضع عليه علامة نسخة أخرى.
(2) في '' ع '': '' اليوم التاسع ''.
(3) في '' ع '': '' وبالله ''.
(4) في '' ع '': '' شهادتهم ''.
(5) في هامش ''ع '': ''الحال '' ووضع عليها علامة نسخة أخرى.(41/246)
إلا أن يتخوفوا أن يكون يوم الذبح. خرجهما ابن أبي شيبة في كتابه، وسنذكر عن مسروق وغيره من التابعين مثل ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وكلام هؤلاء قد يقال- والله أعلم- إنه محمول (1) على الكراهة دون التحريم. وقد ذكر شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في صوم هذا اليوم في هذه الحالة (2) أنه جائز بلا نزاع بين العلماء. قال: لأن الأصل
__________
(1) في '' ع '': '' قد يقال إنه محمول والله أعلم ''.
(2) في '' ع '': ''في هذا الحال ''.(41/247)
عدم العاشر كما أنهم لو شكوا ليلة الثلاثين من رمضان هل طلع الهلال أم (1) لم يطلع؟ فإنهم يصومون ذلك اليوم باتفاق الأئمة وإنما (2) يوم الشك الذي رويت فيه الكراهة الشك (3) في أول رمضان (4) ، لأن الأصل بقاء شعبان. انتهى.
__________
(1) في '' ع '': ''أو''.
(2) في '' ع '': '' فإنما ''. وفي هامشها: '' وإنما '' وعليها علامة نسخة أخرى وعلامة تصحيح.
(3) لفظة: ''الشك '': ليست في ''م '' والصحيح إثباتها، كما في مجموع فتاوى ابن تيمية 25 \ 204.
(4) سيأتي ذكر أقوال أهل العلم في حكم صوم هذا اليوم ص (36- 37) .(41/248)
فإما أن يكون اطلع على كلام النخعي وحمله على الكراهة. فلذلك (1) نفى النزاع في جوازه، وإما أن يكون لم يطلع عليه، ومراده: أن يستصحب الأصل في كلا الموضعين، لأن الأصل بقاء الشهر المتيقن وجوده وعدم دخول الشهر المشكوك في دخوله (2) ، فكذلك هنا إذا شك في دخول ذي الحجة (3) بنى (4) الأمر على إكمال ذي القعدة، لأنه الأصل، ويصام يوم عرفة على هذا الحساب، وهو تكميل شهر ذي القعدة.
ولكن من السلف من كان يصوم يوم الشك في أول رمضان احتياطيا
__________
(1) في ''م '': ''فذلك ''.
(2) انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي سبق نقله في التعليق السابق.
(3) في ''ع '': '' شهر ذي الحجة''.
(4) في ''م '': و''ق '': ''مبنى''.(41/249)
صفحة فارغة(41/250)
صفحة فارغة(41/251)
وفرق طائفة منهم بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة.(41/252)
كما هو المشهور عن الإمام أحمد.(41/253)
والاحتياط هنا: إنما يؤثر (1) في استحباب صيام الثامن والتاسع من ذي الحجة مع الشك احتياطا. كما قال ابن سيرين وغيره أنه مع اشتباه الأشهر في (2) شهر المحرم يصام منه ثلاثة أيام احتياطا ليحصل بذلك صيام يوم التاسع والعاشر، ووافقه (3) الإمام أحمد رحمه الله على ذلك.
__________
(1) في ''ع '' و ''م '': ''يعتبر''.
(2) في ''ع '': ''وفي ''.
(3) في '' ع '': '' ووافق '' وعليها علامة نسخة، وفي هامشها: '' ووافقه '' وعليها علامة نسخة أخرى.(41/254)
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يعلل (1) صيام التاسع مع العاشر بالاحتياط (2) أيضا خشية فوات صوم يوم عاشوراء.
وأما أن الاحتياط ينهض إلى تحريم صيام يوم التاسع من ذي الحجة لمجرد (3) الشك فكلا، لأن الأصل بقاء ذي القعدة وعدم استهلاك ذي الحجة، فلا (4) يحرم صوم يوم (5) التاسع منه بمجرد الشك، كما يجب صوم الثلاثين (6) من رمضان مع الشك في استهلاك شوال، لأن الأصل عدمه وبقاء رمضان.
القول الثاني: أنه يصام ولا يلتفت إلى الشك، وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها من وجوه. قال عبد الرزاق في كتابه: أخبرنا (7) معمر عن
__________
(1) في ''ع '': '' يصل '' ووضع عليها علامة نسخة، وفي هامشها: '' يعلل '' ووضع عليها علامة نسخة أخرى.
(2) في '' م '': '' الاحتياط ''.
(3) في '' ع '': '' بمجرد '' ووضع عيها علامة نسخة، وفي هامشها: '' لمجرد '' ووضع عليها علامة نسخة أخرى.
(4) في ''ع'': ''ولا''.
(5) لفظة '' يوم '' غير موجودة في '' ع ''.
(6) في '' ع '': '' صوم يوم الثلاثين ''.
(7) في هامش '' ع '': ''أنبأنا '' ووضع عليها علامة نسخة، وفي ''م'' و'' ق '': ''أنبأ''.(41/255)
جعفر بن برقان عن الحكم أو غيره عن مسروق أنه دخل هو ورجل معه (1) على عائشة يوم عرفة فقالت عائشة: يا جارية خوضي لهما سويقا وحليه، فلولا أني صائمة لذقته، قالا: أتصومين يا أم المؤمنين ولا تدرين لعله يوم النحر؟ فقالت: إنما يوم النحر إذا نحر الإمام وعظم الناس، والفطر إذا أفطر الإمام وعظم الناس. وروي من وجه آخر. رواه أبو إسحاق السبيعي عن مسروق قال: دخلت على عائشة أنا وصديق لي (2) يوم عرفة فدعت لنا بشراب، فقالت: لولا أني صائمة لذقته. فقلنا لها: أتصومين والناس يزعمون أن اليوم يوم النحر؟ قالت: " الأضحى
__________
(1) لفظة: '' معه '' غير موجودة في ''م ''.
(2) في '' ع'': ''دخلت أنا وصاحب لي على عائشة''.(41/256)
يوم يضحي الناس، والفطر يوم يفطر الناس ": رواه الإمام أحمد عن ابن نمير وابن فضيل كلاهما عن الأعمش عن أبي إسحاق به. خرجه عنه ابنه عبد الله في كتاب المسائل (1) .
وخرجه (2) أيضا عبد الله عن أبيه عن ابن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي عطية ومسروق قالا (3) : دخلنا على عائشة في اليوم الذي يشك فيه الأضحى (4) ، فقالت: خوضي لابني سويقا وحليه، فلولا أني صائمة لذقته. فقيل لها: يا أم المؤمنين: إن الناس يرون أن اليوم يوم الأضحى، فقالت: " إنما يوم (5) الأضحى يوم يضحي الإمام وجماعة الناس ".
__________
(1) لم أقف على هذه الرواية في مسائل عبد الله المطبوع.
(2) في '' ع '': '' وخرج ''، ووضع عليها علامة نسخة، وفي هامشها: '' وخرجه '' ووضع عليها علامة نسخة أخرى.
(3) في '' ق '': '' وقال ''.
(4) في ''ق '': ''للأضحى''
(5) لفظة: '' يوم '' غير موجودة في '' ع ''.(41/257)
وكذا رواه شعبة عن أبي إسحاق عن أبي عطية ومسروق عن عائشة بنحوه.
ورواه دلهم (1) بن صالح عن أبي إسحاق عن أبي عطية (2) ومسروق عن عائشة. واختلف عليه في رفع آخر الحديث، وهو: "إنما (3) الأضحى يوم يضحي الإمام "، فمن أصحابه من رفعه عنه وجعله من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من وقفه على عائشة، وهو الصحيح (4) .
ورواه أيضا مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عائشة بنحوه موقوفا أيضا (5) .
فهذا الأثر (6) صحيح عن عائشة رضي الله عنها، إسناده في غاية
__________
(1) في '' م '' و'' ق '': '' ورواه لهم ''. وفي '' ع '': '' وروى دلهم ''.
(2) لفظة: ''أبي عطية'' غير موجودة في ''ع ''.
(3) في ''ق '': ''إن ''.
(4) قال الحافظ في التلخيص 2 \ 256: ''وصوب الدارقطني وقفه في العلل ''.
(5) إسناده ضعيف، مجالد- وهو ابن سعيد الهمداني- ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره كما في التقريب ص 520.
(6) في '' ع '': '' فهذا أثر ''.(41/258)
الصحة، ولا يعرف لعائشة (1) مخالف من الصحابة. ووجه قولها: إن الأصل في هذا اليوم أن يكون يوم عرفة، لأن اليوم المشكوك فيه، هل هو من ذي الحجة أو من ذي القعدة؟ الأصل فيه: أنه من ذي القعدة فيعمل بذلك استصحابا للأصل.
ومأخذ آخر: وهو (2) الذي أشارت إليه عائشة رضي الله عنها: أن يوم عرفة هو يوم مجتمع الناس مع الإمام على التعريف فيه، ويوم النحر هو الذي يجتمع الناس مع الإمام على التضحية فيه، وما ليس كذلك فليس بيوم عرفة، ولا يوم أضحى، وإن كان بالنسبة إلى عدد أيام الشهر هو التاسع، أو العاشر.
__________
(1) في '' ع '': زيادة: '' في ذلك ''.
(2) في '' ع '': '' هو''، ووضع عليه علامة نسخة، وفي هامشها: ''وهو '' ووضع عليه علامة نسخة أخرى.(41/259)
وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) من وجوه متعددة. خرجه الترمذي من طريق المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطرون، والأضحى يوم يضحون (2) » وقال (3) حسن غريب.
__________
(1) في '' ع '': زيادة: '' مرفوعا ''.
(2) رواه الترمذي-؟ قال المؤلف- في كتاب الصوم باب ما جاء في: الصوم يوم تصومون.. 3 \ 71، رقم (297) ، ومن طريقه البغوي في شرح السنة كتاب الصيام باب إذا أخطأ القوم الهلال 6 \ 347، 348، رقم (726) من طريق إسحاق بن جعفر بن محمد: حدثني عبد الله بن جعفر- وهو المخرمي-، فقد قال في التقريب ص 298: '' ليس به بأس '' وهو من رجال مسلم، وعدا عثمان بن محمد- وهو الأخنسي- فهو صدوق له أوهام كما في التقريب ص 386، وقد صحح هذا الإسناد الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في رسالة: أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعا إثباتها بالحساب الفلكي ص 22، وحسنه الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء رقم (905) . وقد تابع إسحاق بن جعفر أبو سعيد مولى بني هاشم، فقد رواه البيهقي في سننه الكبرى في كتاب الصيام باب القوم يخطئون الهلال 4 \ 252 من طريق أبي سعيد مولى بنى هاشم: ثنا عبد الله بن جعفر المخرمي به. وأبو سعيد- وهو عبد الرحمن بن عبد الله البصري- صدوق ربما أخطأ، وهو من رجال البخاري كما في التقريب ص 344، وليس في هذه الرواية جملة '' والفطر يوم تفطرون ''. ورواه الدارقطني 2 \ 164، ومن طريقه ابن العربي في شرح الترمذي 4 \ 222 بإسنادين فيهما الواقدي، وهو متروك كما في التقريب ص498. وقال الدراقطني '' الواقدي ضعيف '' وخالفه ابن العربي فوثق الواقدي، وصحح روايته، وتبعه في ذلك أحمد شاكر في رسالته: أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعا إثباتها بالحساب الفلكي ص22- 24.
(3) في ''م '' و ''ق '': ''قال ''.(41/260)
وخرجه أبو داود وابن ماجه من طريق ابن المنكدر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه بدون ذكر " الصوم ".(41/261)
وخرجه الترمذي من حديث ابن المنكدر عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال صحيح (1) .
وقد روي عن عائشة من وجوه أخر مرفوعا. وروي عن أبي هريرة
__________
(1) الذي في سنن الترمذي المطبوع 3 \ 156: ''قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح من هذا الوجه ''.(41/262)
من قوله موقوفا.
وروى السفاح بن مطر عن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يوم عرفة اليوم الذي يعرف الناس فيه (1) » مرسل حسن، احتج به الإمام أحمد على أن الناس إذا وقفوا في يوم عرفة خطأ
__________
(1) رواه الدارقطني في الحج 2 \ 223، 224، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى في الحج باب خطأ الناس يوم عرفة 5 \ 174 من طريق هشيم عن العوام بن حوشب عن السفاح بن مطر به. وإسناده ضعيف. فيه ثلاث علل: إحداها: الإرسال- كما ذكر المؤلف- فإن عبد العزيز بن عبد الله بن خالد تابعي لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم. انظر المراسيل لأبي داود ص 139، والتقريب ص 357، والثانية: السفاح بن مطر لم يوثقه غير ابن حبان في كتاب الثقات 6 \ 435، وقال في التقريب ص 243: '' مقبول ''، والثالثة: هشيم- وهو ابن بشير- مدلس، وقد عنعن. انظر تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس لابن حجر ص 115، وقال البيهقي: ''هذا مرسل جيد''. وله شاهد لا يفرح به رواة الدارقطني في الموضوع السابق من طريق الواقدي عن ابن أبي سبرة عن يعقوب بن زيد بن طلحة التيمي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ''عرفة يوم يعرف الناس''. الواقدي متروك كما في التقريب ص-498، وزيد بن طلحة تابعي، انظر التاريخ الكبير 3 \ 398، والثقات 4 \ 249، فهو مرسل. وفي الجملة فإن هذا الحديث صحيح من حديث أبي هريرة بلفظ: '' الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطرون والأضحى يوم يضحون ''، وقد صححه أو حسنه جمع من أهل العلم منهم النووي في المجموع 5 \ 27، والسبكي في رسالة العلم المنشور في إثبات الشهور ص 18، والسيوطي في الجامع الصغير (فيض القدير 4 \ 441) ، والعظيم آبادي في التعليق المغني 2 \ 224، وأحمد شاكر في رسالته: أوائل الشهور العربية هل يجوز شرعا إثباتها بالحساب الفلكي ص 24، ومحمد ناصر الدين في الإرواء 4 \ 11، وشعيب الأرنؤوط في تعليقه على شرح السنة 6 \ 248، وعبد القادر الأرنؤوط في تعليقه على جامع الأصول 6 \ 278. وقد اختلف في تفسير هذا الحديث: '' وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال: إنما معنى هذا: أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس ''. وقال الإمام الخطابي في معالم السنن 3 \ 213: '' معنى الحديث أن الخطأ موضوع عن الناس فيما كان سبيله الاجتهاد، فلو أن قوما اجتهدوا فلم يروا الهلال إلا بعد الثلاثين، فلم يفطروا حتى استوفوا العدد، ثم ثبت عندهم أن الشهر كان تسعا وعشرين فإن صومهم وفطرهم ماض، فلا شيء عليهم من وزر أو عنت، وكذلك في الحج إذا أخطئوا يوم عرفة فإنه ليس عليهم إعادة، ويجزيهم أضحاهم كذلك، وإنما هذا تخفيف من الله سبحانه ورفق بعباده. ولو كلفوا إذا أخطئوا العدد أن يعيدوا لم يأمنوا أن يخطئوا ثانيا، وأن لا يسلموا من الخطأ ثالثا ورابعا، فإن ما كان سبيله الاجتهاد كان الخطأ غير مأمون فيه ''. وقد وافق الإمام الخطابي على هذا التفسير جمهور أهل العلم. انظر نيل الأوطار 3 \ 383. وخالفهم في تفسير هدا الحديث القاضي السبكي في كتاب العلم المنشور ص 18 فقال بعد ذكره لهذا الحديث: '' وهذا معناه والله أعلم إذا اجتمع الناس على ذلك فلا يكلفون بما عسى أن يكون في نفس الأمر ولم يعلموا به ''. وقال ص 51 من هذا الكتاب بعد ذكره لقول الحنفية: إنهم إذا عدوا شعبان ثلاثين عن رؤية ثم صاموا ثمانية وعشرين فرأوا الهلال قضوا يوما، لأنهم غلطوا. قال: '' فذلك من الحنفية يدل على أن الصوم ليس يوم تصومون غلطا والفطر ليس يوم تفطرون غلطا، وإنما معنى الحديث: يوم تصومون الصوم الصحيح وتفطرون الفطر الصحيح ''. والأقرب في تفسير هذا الحديث هو ما نقله الإمام الترمذي عن بعض أهل العلم، فهو الموافق لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولا يعرف لها مخالف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. انظر ما مضى ص (22) تعليق (4) ، وانظر التعليق الآتي.(41/263)
أجزأهم حجهم. وقال مجاهد: الأضحى يوم يضحون والفطر يوم(41/264)
يفطرون، والجمعة يوم يجمعون. خرجه عبد الله بن الإمام أحمد (1) .
__________
(1) لم أقف عليه.(41/265)
الصورة الثانية:
أن يشهد برؤية هلال ذي الحجة من يثبت الشهر به، لكن لم يقبله الحاكم إما لعذر ظاهر، أو لتقصير في أمره. ففي هذه الصورة. هل يقال: يجب على الشهود العمل بمقتضى رؤيتهم، وعلى من يخبرونه ممن يثق بقولهم، أم لا؟ فقد يقال: إن هذه المسألة تخرج على الخلاف المشهور في مسألة المنفرد برؤية هلال شوال، هل يفطر عملا برؤيته أم لا يفطر إلا مع الناس؟ وفي ذلك (1) قولان مشهوران للعلماء:
__________
(1) أي في فطر من رأى هلال شوال وحده.(41/265)
أحدهما: لا يفطر. وهو قول عطاء، والثوري (1) ، والليث (2) ، وأبي حنيفة (3) ، وأحمد، وإسحاق (4) . وروي مثله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
__________
(1) التمهيد 14 \ 335.
(2) التمهيد 14 \ 355، تفسير القرطبي 2 \ 294، المغني 4 \ 420، الشرح الكبير لابن قدامة 2 \ 8.
(3) تبيين الحقائق 1 \ 318، فتح القدير 2 \ 325، البحر الرائق 2 \ 286.
(4) تفسير القرطبي 2 \ 294.(41/266)
والثاني: يفطر. وهو قول الحسن بن صالح (1) والشافعي، وأبي ثور، وطائفة من أصحابنا. وروي عن مالك كلا القولين.
__________
(1) التمهيد 14 \ 355.(41/267)
قالت طائفة من أصحابنا (1) : هذه المسألة تبنى على هذا الأصل. وهو الصحيح من المذهب.
فعلى قول من يقول: لا يفطر المنفرد برؤية هلال شوال، بل يصوم ولا يفطر إلا مع الناس. فإنه يقول: يستحب صيام يوم عرفة للشاهد الذي لم تقبل شهادته بهلال ذي الحجة، لأن هذا هو (2) يوم عرفة في حق الناس، وهو منهم. ومن قال في الشاهد (3) بهلال شوال يفطر سرا. قال ههنا: إنه يفطر ولا يصوم، لأنه يوم عيد في حقه. قال: وليس له التضحية قبل الناس في هذا اليوم، كما أنه لا ينفرد بالوقوف بعرفة دون الناس بهذه الرؤية، لأن الذين أمروا بالفطر في آخر رمضان إنما أمروا به سرا ولم يجيزوا له إظهاره. والانفراد بالذبح والوقوف فيه من مخالفة الجماعة ما في إظهار الفطر. وهذا ما ذكره الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى، مع أنه قد
__________
(1) ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وسنذكر كلامه في ذلك قريبا إن شاء الله.
(2) الضمير '' هو'' غير موجود في ''ع ''.
(3) في '' ع '' '' بالشاهد ''، وعليه علامة نسخة. وفي هامشها: '' في الشاهد '' ووضع عليه علامة نسخة أخرى.(41/268)
روى عن سالم بن عبد الله بن عمر وخرجه عبد الرزاق عن سفيان الثوري، عن عمر بن محمد قال: شهد نفر أنهم رأوا هلال ذي الحجة فذهب بهم سالم إلى والي الحاج (1) هو ابن هشام، فأبى أن يجيز شهادتهم، فوقف سالم بعرفة لوقت شهادتهم، فلما كان اليوم الثاني وقف مع (2) الناس.
__________
(1) في '' ع '': '' الحج '' ووضع عليه علامة نسخة، وفي هامشها: '' الحجاج '' ووضع عليه علامة نسخة أخرى.
(2) سقطت: ''مع ''من ''م ''.(41/269)
لكن الذبح ليس هو مثل الوقوف، لأنه لا ضرورة في تقديمه لامتداد وقته بخلاف الوقوف.
وقد يقال: إن صيام هذا اليوم في حق الشاهد، أو من أخبره به ينبني على اختلاف المآخذ في الأمر (1) لمن انفرد برؤية هلال الفطر بالصيام مع الناس.
وفي ذلك مآخذ:
أحدهما: الخوف من التهمة بالفطر.
والثاني: خوف الاختلاف وتشتت الكلمة، وأن يجعل لكل إنسان مرتبة الحاكم، وقواعد الشرع تأبى ذلك. وهو الذي ذكره الشيخ مجد الدين ابن تيمية وغيره.
__________
(1) قوله: '' في الأمر'' غير موجود في ''م '' و''ق ''.(41/270)
والثالث (1) : أنه لم يكمل نصاب الشهادة برؤيته وحده. وهذا مأخذ الشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي من أصحابنا (2) .
الرابع: ما ذكره الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله: أن الشهر: ما اشتهر وظهر، والهلال: ما استهل به وأعلن دون ما (3) كان في السماء من غير رؤية ولا اشتهار، فإن اسم الشهر والهلال لا يصدق بدون اشتهار رؤيته، وترتيب الفطر والنسك عليه، فما (4) لم يكن كذلك فليس بهلال ولا شهر.
فأما على المأخذ الأول فلا يظهر الأمر للشاهد هنا بالصوم، لأن الفطر يوم عرفة لا يخشى منه تهمة كما في رمضان.
__________
(1) في '' ع '': '' الثالث ''.
(2) قوله: '' من أصحابنا '' غير موجود في '' م '' و'' ق ''.
(3) '' ما '' غير موجودة في: ''م ''.
(4) في ''م ''و''ع '': ''فلما''.(41/271)
وأما على المأخذ الثاني، وهو الاختلاف على الإمام، وتشتيت (1) الكلمة، فيتوجه الأمر بصيام هذا اليوم مع الناس، لأن فطره يؤدي إلى أن يفطر أكثر الناس يوم عرفة مع اعتيادهم لصيامه في سائر الأعوام. وهذا فيه تفريق للكلمة (2) ، وافتيات على الإمام.
وأما على المأخذ الثالث. فيقال: إن كان هناك شاهدان فصاعدا. فقد كمل نصاب الشهادة فيعملان هما ومن يثق بقولهما بشهادتهما. وكذا قال الشيخ موفق الدين - رحمه الله تعالى- في الشاهدين بهلال الفطر إذا ردت شهادتهما أنهما يفطران هما ومن يثق بقولهما (3) . وخالفه في ذلك الشيخ مجد الدين، وقال: وقياس المذاهب خلاف ذلك، بناء على المأخذ الأول والثاني.
وأما على المأخذ الرابع: فيتوجه ما ذكره الشيخ تقي الدين وهو ظاهر المروي عن عائشة (4) وغيرها من السلف. وعليه تدل الأحاديث
__________
(1) في ''ق '': ''وتشتت ''.
(2) في ''ع ''و''م '': ''الكلمة''.
(3) انظر المعني 4 \ 421.
(4) سبق تخريج ما روي عن عائشة رضي الله عنها في ذلك ص (19- 22) .(41/272)
السابقة: أن الأضحى يوم يضحي الناس، والفطر يوم يفطرون، وعرفة يوم يعرفون.
والمنقول عن الصحابة كابن عمر وعن كثير من التابعين، كالشعبي(41/273)
والنخعي، والحسن، وابن سيرين وغيرهم: يقتضي أن لا ينفرد عن الجماعة بصيام ولا فطر.
وأحمد يرى أنه لا ينفرد عن الجماعة بالفطر كمن رأى هلال شوال وحده.
وأما الانفراد عن الجماعة بالصيام فعنه فيه (1) روايتان، مثل (2) صيام
__________
(1) في '' ع '' '' ففيه روايتان ''، وفي '' م '': '' ففيه عنه روايتان ''.
(2) في ''ق '': ''ومثل ''.(41/274)
يوم الغيم إذا لم يصمه الإمام والجماعة معه، ومثل (1) من رأى هلال (2) رمضان وحده وردت شهادته، فإن في وجوب صيامه على الرائي عن أحمد روايتين، والمنصوص عنه في رواية حنبل أنه لا يصوم (3) ، وهو قول طائفة من السلف، كعطاء (4) ، والحسن (5) ، وابن سيرين (6) ، ومذهب إسحاق.
__________
(1) في ''ق '': ''ومثله ''.
(2) في ''ع '': '' ومثل صيام من رأى هلال ''، وفي هامشها: '' من رأى صيام هلال ''، وعليها علامة نسخة.
(3) انظر التعليق السابق رقم (4) .
(4) سبق تخريج قوله ص (28) تعليق (3) .
(5) سبق تخريج قوله ص (36) تعليق (2) .
(6) سبق تخريج قوله ص (36) تعليق (3) .(41/275)
وعلى هذا فقياس مذهبه أنه لا ينفرد عن الجماعة بالفطر في يوم عرفة إذا صامه الإمام والناس ورآه من لم يؤخذ بقوله، فإن في الأمر بفطره وتحريم صيامه (1) مفسدة المخالفة للإمام (2) وجماعة المسلمين، ومثل هذا لا يكاد يخفى بل ويظهر وينتشر، كما وقع في هذا العام، وربما يؤدي إلى أن يجعله كثير من الناس يوم النحر، فتنحر فيه الأضاحي، كما وقع في هذا العام (3) وهذا من أبلغ الافتيات على الإمام وجماعة المسلمين، وفيه تشتيت الكلمة، وتفريق الجماعة، ومشابهة أهل البدع (4) ، كالرافضة ونحوهم، فإنهم ينفردون عن المسلمين بالصيام والفطر، وبالأعياد، فلا ينبغي التشبه بهم في ذلك.
__________
(1) في '' م '': '' وتحريمه '' وقد عدلت بخط مغاير للخط الذي كتبت به المخطوطة إلى: '' وتحريم صيامه ''
(2) في '' ع '': '' لمخالفة الإمام '' وفي '' م '': '' للمخالفة للإمام ''.
(3) في '' ع '' زيادة: '' أيضا''.
(4) في '' ع '': '' البدعة ''(41/276)
ويحقق (1) هذا: أن التقدم على الإمام بذبح النسك منهي عنه، كالتقدم عليه بالصيام، والتقدم عليه بالدفع من عرفة، والتقدم عليه بصلاة الجمعة، ولذلك منع طائفة من أصحابنا كأبي بكر عبد العزيز أهل الأعذار أن يصلوا الظهر يوم الجمعة حتى يصلي الإمام الجمعة. ولذلك (2) تنازع العلماء: هل يجوز التقدم على الإمام بالذبح يوم النحر، أم لا يجوز (3)
__________
(1) في هامش ''ع '': ''وتحقيق '' ووضع عليه علامة نسخة أخرى.
(2) في '' ع '': '' وكذلك ''، وفي هامشها: '' ولذلك '' ووضع عليه علامة نسخة أخرى.
(3) في '' ع '' زيادة: '' الذبح ''.(41/277)
حتى يذبح الإمام نسكه؟ فيه (1) قولان مشهوران للعلماء، ولا خلاف بينهم أن الأفضل أن يذبح الناس حتى يذبح الإمام (2) .
__________
(1) في ''ع ''و''م '': ''وفيه ''.
(2) حكى الإجماع على هذه المسألة أيضا الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته على الروض المربع 4 \ 230.(41/278)
وقال الحسن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) قال: لا تذبحوا قبل الإمام. خرجه ابن أبي حاتم.
فإن قيل: أليس قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عند وجود الأئمة الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها أن يصلوا الصلاة لوقتها وأن يجعلوا صلاتهم معهم نافلة، مع أن في ذلك افتياتا على الأئمة واختلافا عليهم؛ ولهذا كان بنو أمية يشددون في ذلك ويستحلفون الناس عند مجيئهم للصلاة، أنهم ما صلوا قبل ذلك (2) . ومع هذا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة في الوقت سرا وبالصلاة معهم نافلة لدفع شرهم وكف أذاهم، وهذا يدل على أنه لا يجوز لأحد ترك ما يعرفه من الحق، لموافقة الأئمة وعموم الناس، بل يجب عليه العمل بما يعرفه من الحق في نفسه، وإن كان فيه مخالفة للأئمة وعموم الناس المتبعين
__________
(1) سورة الحجرات الآية 1
(2) لم أقف عليه(41/279)
لهم، وحينئذ فلا يجوز أن يؤمر من رأى الهلال، أو من أخبره (1) برؤيته من يثق به أن يتبع الإمام والجماعة معه، ويترك ما (2) عرفه من الحق.
فالجواب: أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، وذلك أن الصلاة لها وقت محدود في الشرع معلوم أوله وآخره علما ظاهرا، فمن غيره من الأئمة لم تجز (3) متابعته في ذلك، لأن فيه موافقة على تغيير الشريعة، وذلك لا يجوز.
فنظير هذا من مسألتنا أن يشهد (4) شهود عدول عند حاكم برؤية هلال ذي الحجة أو رمضان، فيقول: هم عندي عدول ولا أقبل شهادتهم. أو نحو ذلك مما يظهر فيه أنه (5) تعمد ترك الواجب بغير عذر. فهنا (6) لا يلتفت إليه ويعمل بمقتضى الحق، وإن كان يظهر له التقية إذا خيف من شره. كما أمر
__________
(1) في '' ع '': '' ومن أمره '' وعليها علامة نسخة، وفي هامشها: ''أو من أخبره '' وعليها علامة نسخة أخرى.
(2) في ''ع '': ''ما قد''.
(3) في ''ع '': ''لم تجب''.
(4) في '' ع '': ''إن شهد '' وعليها علامة نسخة، وفي هامشها: ''أن شهد '' وعليها علامة نسخة أخرى.
(5) ''أنه '' غير موجودة في ''ع ''.
(6) ''فهنا'' غير موجودة في ''ع ''.(41/280)
النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة مع أولئك الأمراء نافلة. وهذا بخلاف الأمور الاجتهادية التي تخفى ويسوغ في مثلها الاجتهاد، كقبول الشهود وردهم، فإن هذا مما تخفى أسبابه، وقد يكون الحاكم معذورا في نفس الأمر، ففي مثل هذا لا يجوز الافتيات على الأئمة ونوابهم ولا إظهار مخالفتهم، ولو كانوا مفرطين في نفس الأمر، فإن تفريطهم عليهم لا على من لم يفرط، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأئمة: «يصلون لكم (2) » خرجه البخاري. انتهى والله أعلم.
__________
(1) انظر صحيح البخاري مع الفتح: كتاب الأذان باب إذا لم يتم الإمام وأتم من خلفه 2 \ 187، حديث (694) .
(2) (1) فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم(41/281)
آخر ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى.(41/282)
الشهادة في سبيل الله (في الكتاب والسنة)
د. مسفر بن سعيد دماس الغامدي
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(41/283)
أما بعد. . فإن الله قد أمرنا بالجهاد، قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) .
وشهد الله تعالى للمجاهدين بالإيمان حيث قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (2) .
إن الجهاد في سبيل الله ثمرة من ثمرات الإيمان الكامل، والمجاهدون في سبيل الله قد أصبحوا في منزلة عالية من الإيمان، فهم يقدمون أرواحهم رخيصة في سبيل الله، رجاء ما عند الله من الأجر والفضل العظيم بل يطلبون الشهادة في سبيل الله؛ ليخلدوا أنفسهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ فهم يعتقدون أنهم إذا قتلوا في سبيل الله لا يموتون بل يحيون حياة أبدية، حقيقية، فهم يفرحون، وهم يستبشرون، وهم يرزقون، وهذه مقومات الحياة، لكننا لا نعرف كيفية هذه الحياة، إلا بما وردت به النصوص الصحيحة الصريحة.
إن الشهادة ثمرة من ثمرات الجهاد في سبيل الله. نسأل الله أن يرزقنا الشهادة في سبيله.
__________
(1) سورة التوبة الآية 41
(2) سورة الحجرات الآية 15(41/284)
دلالة الشهادة
معنى الشهادة لغة:
الشهادة من شهد، والشهيد: الحاضر. والشاهد: العالم الذي يبين ما علمه، ورجل شاهد، والجمع أشهاد، وشهود.
وشهد فلان على فلان بحق، فهو شاهد، وشهيد. واستشهد فلان: فهو شهيد، والمشاهدة: المعاينة (1) .
- وقال القرطبي: فأما الشهادة، فصفة سمي حاملها بالشاهد ويبالغ بشهيد (2) .
- وقال ابن العماد (3) : تفسير شهيد على سبعة أوجه:
إحداها: يكون لمعنى بلاغ، قال الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (4) .
ثانيها: يكون لمعنى الحافظ، قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} (5) يعني معه مليكه الحافظ.
ثالثها: يكون لمعنى أمة محمد صلى الله عليه وسلم يشهدون للأنبياء عليهم السلام بالبلاغ، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (6) .
__________
(1) النهاية لابن الأثير 2 \ 513 ط 1383 هـ، لسان العرب 3 \ 238- 243 ط صادر.
(2) التذكرة للقرطبي ص 183 ط 1407 هـ.
(3) كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر ط الأولى.
(4) سورة النساء الآية 41
(5) سورة ق الآية 21
(6) سورة البقرة الآية 143(41/285)
رابعها: يكون بمعنى المستشهد في سبيل الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} (1) .
خامسها: يكون لمعنى الشهيد الذي يشهد على حق من حقوق المسلمين، قال الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (2) يعني على الحقوق.
سادسها: يكون بمعنى الحاضر قال الله تعالى: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا} (3) يعني حاضرا.
سابعها: يكون بمعنى شركاء، قال الله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (4) يعني شركاءكم.
__________
(1) سورة النساء الآية 69
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) سورة النساء الآية 72
(4) سورة البقرة الآية 23(41/286)
المعنى الاصطلاحي:
- وقال أبو عبد الله محمد بن محمد المنبجي الحنبلي: (اختلف العلماء في ذلك على أقوال:
- (أحدها) : لأنه حي كما قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (1) .
- (الثاني) : لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنة.
- (الثالث) : لأن الملائكة تشهده.
- (الرابع) : لقيامه بشهادة الحق حتى قتل.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 169(41/286)
- (الخامس) : لأنه يشهد ما أعده الله له من الكرامة بالقتل.
- (السادس) : لأنه شهد لله بالوجود والإلهية بالفعل لما شهد غيره بالقول.
- (السابع) : لسقوطه بالأرض وهي الشاهد له.
- (الثامن) : لأنه شهد له بوجوب الجنة.
- (التاسع) : من أجل شاهده وهو دمه.
- (العاشر) : لأنه شهد له بالإيمان وحسن الخاتمة.
- فهذه عشرة أقوال من أماكن متفرقة جمعت لك رخيصة الأثمان، فهذه
الأقوال في المخلص الذي قصد بجهاده وجه الله تعالى، والدار الآخرة، فإنه سبحانه وتعالى إذا علم قصد العبد وإخلاصه أغاثه (1) .
قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (2) والشهيد: المقتول في سبيل الله، والجمع شهداء.
والاسم: الشهادة، واستشهد: قتل شهيدا، وتشهد: طلب الشهادة، والشهيد: الحي (3) .
وقال أحمد الدمياطي المشهور بابن النحاس (4) : " اعلم أن الشهادة رتبة عظيمة ومنزلة جسيمة لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم ولا ينالها إلا من سبق له القدر بالفوز المقيم، وهي الرتبة الثالثة من مقام النبوة، كما قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (5)
__________
(1) تسلية أهل المصائب صـ 229 ط الأولى، فتح الباري 6 \ 42 - 43 ط السلفية
(2) سورة الكهف الآية 30
(3) النهاية لابن الأثير 2 \ 513، لسان العرب 3 \ 238 - 243.
(4) مشارع الأشواق 2 \ 693 - 694 ط الأولى 1410 هـ.
(5) سورة النساء الآية 69(41/287)
وقد صح من حديث عبتة بن عبد: أن الشهيد لا يفضله النبيون إلا بفضل درجة النبوة.
وسمي الشهيد شهيدا، قيل: لأنه مشهود له بالجنة، قال الجوهري وغيره، وقيل: لأن أرواحهم شهدت، وأحضرت دار السلام، لأنهم أحياء عند ربهم، وأرواح غيرهم أنما تشهد الجنة يوم القيامة، قال النضر بن شميل: فالشهيد بمعنى الشاهد، أي: هو الحاضر في الجنة، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح.
وقال ابن فارس، والشهيد: القتيل في سبيل الله قالوا: لأن (ملائكة الله) تشهده، وقيل سمي بذلك لشهادته على نفسه لله عز وجه حين لزمه الوفاء بالبيعة التي بايعه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} (1) ، فاتصلت شهادة الشهيد الحق بشهادة العبد فسماه شهيدا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «والله أعلم بمن يكلم في سبيله (2) » .
وقال ابن الأنباري: لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة، وقيل: لأنه يشهد عن خروج روحه ما أعد له من الثواب والكرامة، وقيل لأن ملائكة الرحمة يشهدونه فيأخذون روحه، وقيل: " لأن عليه شاهدا يشهد كونه شهيدا وهو الدم فإنه يبعث يوم القيامة وأوداجه تشخب دما وقيل غير ذلك " أ. هـ.
__________
(1) سورة التوبة الآية 111
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2803) ، صحيح مسلم الإمارة (1876) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1656) ، سنن النسائي الجهاد (3147) ، مسند أحمد بن حنبل (2/242) ، موطأ مالك الجهاد (1001) ، سنن الدارمي الجهاد (2406) .(41/288)
أنواع الشهداء
إن الشهداء أنواع لكن ليسوا في الرتبة سواء أعلاهم: الشهيد في سبيل الله، وهو من أهريق دمه وعقر جواده.
الثاني: المطعون.(41/288)
الثالث: المبطون.
الرابع: الغريق.
الخامس: صاحب الهدم.
السادس: صاحب ذات الجنب.
السابع: الحريق.
الثامن: المرأة تموت بجمع (أي حامله) .
التاسع: من قتل دون دمه.
العاشر: من قتل دون ماله.
الحادي عشر: من قتل دون أهله،
الثاني عشر: النفساء.
الثالث عشر: السل.
الرابع عشر: من صرع عن دابته.
الخامس عشر: من قتل دون مظلمته.
وتخلص إلى أن الشهيد هو القتيل في سبيل الله، ولم يرد نص ينص على سبب تسميته شهيدا، لكن ما ذكره العلماء أو أكثره لعله يكون سببا لتسميته شهيدا والله أعلم.
وقد وردت الأنواع المذكورة في النصوص التالية:
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء خمسة، المطعون، المبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله (1) »
__________
(1) فتح الباري ج 6، ص42، رقم 2829، صحيح مسلم ج 3، ص 1521 رقم 1914 جامع الترمذي ج 3، ص 368 رقم 1063 ثم قال حديث حسن صحيح، وأخرجه مالك في الموطأ، كنز العمال 4 \ 417 رقم 11184.(41/289)
قال ابن حجر: " والذي يظهر أن المذكورين ليسوا في المرتبة سواء ويدل عليه ما روى أحمد وابن حبان في صحيحه من حديث جابر، والدارمي وأحمد والطحاوي من حديث عبد الله بن جحش وابن ماجه من حديث عمرو بن عتبة «أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل أي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده وأهريق دمه (1) » .
وروى الحسن بن علي الجلواني في (كتاب المعرفة) له بإسناد حسن من حديث ابن أبي طالب قال: «كل موتة يموت بها المسلم فهو شهيد غير أن الشهادة تتفاضل (2) » .
وروى البخاري من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون شهادة لكل مسلم (3) »
وأخرج أبو داود والترمذي من حديث سعيد بن زيد مرفوعا «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد (4) » وهو صحيح.
قال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأخرج مالك من حديث جابر بن عتيك في موت أبي الربيع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء سبعة، سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد،
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/302) ، سنن الدارمي الجهاد (2392) .
(2) فتح الباري ج 6، صح44.
(3) فتح الباري ج6، ص - 42 رقم 2830.
(4) انظر إراوء الغليل للألباني ج 3، ص 164 رقم 708 ط الأولى عام 1399 هـ صحيح الجامع رقم 6321 ثم عزاه إلى أحمد والثلاثة وابن حبان وقال عنه صحيح (كنز العمال 4 \ 425 رقم 11235، 11236) عن ابن - عباس.(41/290)
والحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع شهيدة (1) » وجمع أي حامله.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تعدون الشهداء فيكم، قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد، قال: إن شهداء أمتي إذا لقليل: قالوا: فمن يا رسول الله؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد، والغريق شهيد (2) »
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد (3) »
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: " يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك قال أرأيت إن قاتلني؟ قال: (قاتله) قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: (فأنت شهيد) قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: (هو في النار) (4) »
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فناء أمتي بالطعن والطاعون وخز أعدائكم من الجن وفي كل شهادة (5) »
__________
(1) موطأ مالك ج1، ص 234 رقم 36، وأخرجه الحاكم في المستدرك ج1، ص 352، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعقب الذهبي بقوله: صحيح، وأخرجه أحمد في المسند ج (5 ص 446) ورواه أبو داود، والنسائي، وابن حبان. كنز العمال 4 \ 417 رقم 11183.
(2) رواه مسلم، انظر صحيح الجامع رقم 6325.
(3) رواه أحمد وابن ماجه، والترمذي والنسائي (صحيح الجامع رقم 6320) .
(4) رواه مسلم.
(5) ذكره البرهان فوري في (كنز العمال 4 \ 415 رقم 11173) وذكره الألباني في (صحيح الجامع رقم 4107) ثم عزاه إلى أحمد والطبراني عن أبي موسى الأشعري، والطبراني في الأوسط عن ابن عمر، ثم قال عنه صحيح.(41/291)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قاتل دون مالك حتى تحوز مالك أو تقتل فتكون من شهداء الآخرة (1) »
وأخرج أحمد والضياء من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القتل في سبيل الله شهادة، والطاعون شهادة، والبطن شهادة والغرق شهادة والنفساء شهادة (2) »
وأخرج أحمد من حديث راشد بن حبيش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القتل في سبيل الله شهادة، والطاعون شهادة، والبطن شهادة، والغرق شهادة، والحرق والسل شهادة والنفساء يجرها ولدها بسررها إلى الجنة (3) »
أخرجه أبو الشيخ من حديث عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السل شهادة (4) »
روى الطبراني من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صرع من دابته فهو شهيد (5) »
روى النسائي من حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «خمس
__________
(1) ذكره البرهان فوري في (كنز العمال 4 \ 415 رقم 11174) وذكره الألباني في (صحيح الجامع رقم 4169) ثم عزاه إلى أحمد والطبراني عن مخارق، ثم قال عنه: صحيح.
(2) ذكره الألباني في (صحيح الجامع رقم 4314) ثم قال: صحيح (كنز العمال 4 \ 419 رقم 11199) .
(3) ذكره البرهان فوري في (كنز العمال 4 \ 416 رقم 11175) وذكره الألباني في (صحيح الجامع رقم 4315) ثم قال عنه حسن.
(4) ذكره البرهان فوري في (كنز العمال 4 \ 416 رقم 11177) وذكره الألباني في (صحيح الجامع رقم 3585) ثم قال عنه: صحيح.
(5) ذكره البرهان فوري في (كنز العمال 4 \ 416 رقم 11178) وذكره الألباني في (صحيح الجامع رقم (6212) . ثم قال عنه: صحيح.(41/292)
من قبض في شيء منهم فهو شهيد: المقتول في سبيل الله شهيد، والغريق في سبيل الله شهيد، والمبطون في سبيل الله شهيد، والمطعون في سبيل الله شهيد، والنفساء في سبيل الله شهيدة (1) »
أخرج الطبراني وأحمد والضياء عن صفوان بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطاعون والغرق والبطن والحرق، والنفساء شهادة لأمتي (2) »
وأخرج البخاري في التاريخ عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الغريق في سبيل الله شهيد (3) »
روى الطبراني عن عبد الله بن بسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القتيل في سبيل الله شهيد، والمبطون شهيد، والمطعون شهيد، والغريق شهيد، والنفساء شهيدة (4) »
أخرج ابن ماجه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتى عند ماله فقوتل فقتل فهو شهيد (5) »
روى النسائي عن عبد الله بن جبر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما تعدون الشهادة إلا من قتل في سبيل الله؟ إن شهداءكم إذن لقليل القتل في
__________
(1) (كنز العمال 4 \ 417 رقم 11178) صحيح الجامع رقم 3239، ثم قال عنه الألباني: صحيح.
(2) ذكره البرهان فوري في (كنز العمال 4 \ 418 رقم 11188) وذكره الألباني في (صحيح الجامع رقم 3845) ثم قال عنه: صحيح.
(3) ذكره البرهان فوري (كنز العمال 4 \ 418 رقم 11189) وذكره الألباني في (صحيح الجامع رقم 4049) ثم قال: صحيح.
(4) ذكره البرهان فوري في (كنز العمال 4 \ 418 رقم 11191، 11225) وذكره الألباني في (صحيح الجامع رقم 4317) ثم قال: صحيح، ورقم 4049.
(5) ذكره البرهان فوري في (كنز العمال 4 \ 418 رقم 11192) وذكره الألباني في (صحيح الجامع رقم 5824) ثم قال صحيح.(41/293)
سبيل الله شهادة، والبطن شهادة، والحرق شهادة، والغرق شهادة، والمغموم يعني الهدم شهادة، والجنوب شهادة، والمرأة تموت بجمع (1) »
روى الإمام أحمد من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يظلم مظلمة فيقاتل إلا قتل شهيدا (2) »
روى النسائي والضياء من حديث سويد بن مقرن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل دون مظلمته فهو شهيد (3) »
وروى الإمام أحمد والطبراني من حديث عقبة بن عامر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الميت من ذات الجنب شهيد (4) »
وأخرج ابن سعد عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتدرون من شهداء أمتي؟ قالوا: قتل المسلم شهادة، قال: إن شهداء أمتي إذا قليل؟ قتل المسلم شهادة، والبطن شهادة، والغرق شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعا شهادة (5) »
__________
(1) ذكره البرهان فوري في (كنز العمال 4 \ 419 رقم 11195) وذكره الألباني في (صحيح الجامع رقم 7001) ثم قال: صحيح.
(2) انظر (كنز العمال 4 \ 420 رقم 11201) و (صحيح الجامع رقم 5641) ثم قال الألباني: صحيح.
(3) انظر (كنز العمال 4 \ 420 رقم 1205 / 1) و (صحيح الجامع رقم 6323) ثم قال الألباني: صحيح.
(4) انظر (كنز العمال 4 \ 420 رقم 11208) و (صحيح الجامع رقم 6614) ثم قال الألباني: صحيح.
(5) انظر (كنز العمال 4 \ 421 رقم 11213) ، الطبقات لابن سعد 3 \ 529.(41/294)
طلب الشهادة:
لما علم المؤمنون أجر الشهيد، وما له عند الله من المنزلة العظيمة طلبوا(41/294)
الشهادة، بل بذلوا أنفسهم رخيصة في سبيل الله ومن لم يستطع الذهاب إلى ساحات الوغى، ومقارعة الأعداء تمنى الشهادة، لكنه تمناها بصدق، حتى تحصل له ولو مات على فراشه.
وكان القدوة في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تمنى أن يستشهد ثم يحيا، ثم يستشهد، ثم يحيا ثم يستشهد.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يتمنى أحد الرجوع إلى الدنيا إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة.
ثم تمنى من بعده الخلفاء الراشدون وأئمة الدين حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تمنى الشهادة في سبيل الله، ووفاة في المدينة فأعطى ما تمنى نسأل الله الشهادة قي سبيله.
وقد ورد في هذا الباب نصوص كثيرة وروايات متعددة منها:
روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده، لولا أن رجالا من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يختلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغدو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل (1) »
وروى مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه (2) »
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري ج 6 ص 16 رقم 2797.
(2) صحيح مسلم ج 3، ص 1517 رقم 1908، كتاب الإمارة، كنز العمال 4 \ 421، رقم 11210.(41/295)
وروى مسلم من حديث سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه (1) »
وأخرج البخاري من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وأن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى (2) »
وأخرج مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن عمير بن الحمام أخرج ثمرات فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل ثمرات هذه إنها لحياة طويلة ثم قاتل حتى قتل (3) .
وأخرج مسلم والإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من طلب الشهادة أعطيها ولو لم تصبه (4) »
وروى البخاري في (الصحيح) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ثم أخذها خالد بن الوليد عن غير إمرة ففتح له، وقال: ما يسرنا أنهم عندنا (5) » وفي رواية «ما يسرهم أنهم عندنا، وعيناه تذرفان (6) »
وأخرج البخاري في (الصحيح) من حديث أنس بن مالك رضي الله
__________
(1) صحيح مسلم جـ 3، ص 1517 رقم 1909، جامع الترمذي جـ 4 ص 183، رقم 1653، ورواه الأربعة، انظر الجامع الصحيح رقم 11117، كنز العمال 4 \ 421 رقم 11211.
(2) فتح الباري جـ 6 ص 14، 15، رقم 2795، الترمذي جـ 4، ص 177 رقم 1643.
(3) صحيح مسلم جـ 3، ص 1511 رقم 1901.
(4) صحيح الجامع رقم 11118.
(5) فتح الباري جـ 6، ص 16 رقم 2798.
(6) فتح الباري جـ 6، ص 16 رقم 2798.(41/296)
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة (1) »
وقال الهيثمي في (مجمع الزوائد) ، وأخرج أحمد من طريق ابن أبي عميرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من الناس نفس يقبضها ربها عز وجل تحب أن تعود إليكم وأن لها الدنيا وما فيها غير الشهيد (2) » وقال ابن أبي عميرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقتل في سبيل الله أحب إلى من أن يكون لي أهل المدر والوبر (3) » ثم قال الهيثمي: " رجاله ثقات ".
وأخرج الترمذي في جامعة من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من سأل الله القتل في سبيل الله صادقا من قلبه أعطاه الله أجر الشهادة (4) » قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح ".
وأخرج مالك من حديث زيد بن أسلم، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: " اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك ووفاة في بلد رسولك " (5)
__________
(1) فتح الباري جـ 6، ص 32 رقم 2817، مسلم جـ 3، ص 1498 رقم 1877، الترمذي جـ 4 ص 187 رقم 1661، 1662، الدارمي في السنن جـ 2 ص 125 رقم 2414، والبيهقي في السنن الكبرى جـ 9 ص 163، وعند أحمد في المسند جـ3 \ 251.
(2) سنن النسائي الجهاد (3153) ، مسند أحمد بن حنبل (4/216) .
(3) مجمع الزوائد جـ5 ص 297.
(4) جامع الترمذي جـ 4 ص183 رقم 1654، صحيح الجامع رقم 11121، كنز العمال 4 \ 421 رقم 11212.
(5) الموطأ جـ 2 ص 462 رقم 34، المصنف لعبد الرزاق 5 \ 261 رقم 9550 من حديث عروة بن عمر.(41/297)
ثمرات الشهادة:
إن الموت من أجل رفع راية الإسلام والتضحية بأغلى ما يملك المسلم وهو روحه أمر عظيم، لذلك: الجزاء من جنس العمل إن أجر الشهيد أعظم(41/297)
الأجور، بل من قتل في سبيل الله لا يموت كما يموت غيره، ويكون في الجنة الأنبياء والصديقات والصالحين وحسن أولئك رفيقا وما أعظمها من صحبة جزاء على التضحية من أجل هذا الدين العظيم.
إن ثمرات الشهادة ومآثرها كثيرة في الدنيا والآخرة منها:(41/298)
أولا: الحياة بعد الاستشهاد مباشرة:
قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (1) .
وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (2) الآيات.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا (3) »
يقول سيد قطب - رحمه الله - (4) (ليس هناك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى مجردة من كل ملابسة أخرى، وهؤلاء الشهداء أحياء. . لهم كل خصائص الأحياء، فهم يرزقون عند الله، وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله، وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين فهذه خصائص الأحياء من متاع، واستبشار، واهتمام، وتأثير،
__________
(1) سورة البقرة الآية 154
(2) سورة آل عمران الآية 169
(3) ذكره ابن النحاس في (مشارع الأشواق جـ2 / 694 - 695، وذكر المحقق أن أحمد رواه في المسند 1 \ 266 عن ابن عباس، وابن أبي شيبة في الجهاد 5 \ 290، والطبراني في تفسيره 7 \ 388، وموارد الظمآن ص388 والمستدرك 2 \ 74 وجمع الزوائد 5 \ 294 وقال رجاله ثقات.
(4) طريق الدعوة جـ1 ص343 ط السادسة.(41/298)
فما الحسرة على فراقهم وهم أحياء، فوق ما نالهم من فضل الله وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة) .
ويقول سيد قطب في ظلاله على هذه الآية (1) وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من أجله، فاعليتهم مؤثرة، والفكرة التي من أجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد، فهم ما يزالون عنصرا فعالا دافعا مؤثرا في تكييف الحياة وتوجيهها.
وهذه هي صفة الحياة الأولى فهم أحياء أولا بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس، ثم هم أحياء عند ربهم باعتبار آخر لا ندري عن كنهه، وحسبنا إخبار الله تعالى به (أحياء ولكن لا تشعرون) لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشرى القاصر المحدود لكنهم أحياء، ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى، ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة، وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء.
__________
(1) طريق الدعوة جـ1 ص344.(41/299)
ثانيا: الفرح بما آتاهم الله من فضله، والاستبشار بما من الله عليهم من نعمة وفضل:
قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (1) {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 169
(2) سورة آل عمران الآية 170(41/299)
ثالثا: مغفرة الذنوب، وتكفير السيئات والنجاة من النار:
قال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (1) .
وروى مسلم في (الصحيح) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يغفر الله للشهيد كل شيء إلا الدين (2) »
وروى ابن ماجه في السنن من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن للشهيد عند الله ست خصال يغفر له عند أول دفعة من دمه. . . (3) » الحديث. وإسناده حسن.
وروى مسلم في (الصحيح) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه عن
__________
(1) سورة آل عمران الآية 195
(2) صحيح مسلم جـ 3 ص1502 رقم 1886 انظر (إرواء الغليل 5 \ 17 - 8 / 1 رقم 1196) . قال الدمياطي في (مشارع الأشواق 2 \ 721: وقال القرطبي في تفسيره: الدين الذي يحبس صاحبه من الجنة - والله أعلم - هو الذي قد ترك الوفاء ولم يوصي به، أو قدر على الأداء فلم يؤده، أو أدانه في سفه أو سرق، ومات ولم يوفه، وأما من أدان في حق واجب كفاقه وعسر ومات ولم يترك وفاء، فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله شهيدا كان أو غيره، لأن على السلطان فرضا أن يؤدي عنه دينه، إما من جملة الصدقات أو من أسهم الغارمين أو من الفيء الراجع على المسلمين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: '' من ترك دينا أو ضياعا فعلى الله ورسوله، ومن ترك مالا فلورثته '' رواه البخاري في التفسير، سورة الأحزاب: 33، ومسلم في الفرائض 3 \ 1237 رقم 1611. وقال صلى الله عليه وسلم: '' من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، من أخذها يريد إتلافها أتلفه الله '' رواه البخاري 3 \ 83، وذكره القرطبي في التذكرة ص 194، 195.
(3) سنن ابن ماجه جـ 2 ص 935 رقم 2799، وعبد الرزاق في المصنف جـ5 ص 215 وسعيد بن منصور جـ2 ص234 رقم 2562، وأحمد جـ4 ص131، والترمذي جـ 4 ص - 187 رقم 1663.(41/300)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قام فيأثم فذكر لهم (أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال) فقام رجل فقال: «يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم، إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم، وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك (1) »
وروى عبد الرازق الصنعاني في " المصنف " من قول أبي الدرداء قال: القتل يغسل الدرن، والقتل قتلان، كفارة، ودرجه " (2) .
وعن سهل بن أبي أمامه بن سهل عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول ما يراق من دم الشهيد تغفر له ذنوبه (3) » .
__________
(1) صحيح مسلم جـ 3 ص 1501 رقم 1885.
(2) المصنف لعبد الرزاق الصنعاني جـ5 ص 255 رقم 9533، ط الثالثة عام 1403 هـ.
(3) أخرجه البيهقي في فضل الشهادة في سبيل الله 9 \ 163 وقال عنه الألباني في صحيح الجامع 1 \ 354 رقم 2575: حس.(41/301)
رابعا: دخول الجنة وحصول الأجر والنعمة والفضل العظيم:
قال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} (1) .
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 195
(2) سورة التوبة الآية 111(41/301)
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (1) {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} (2) {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} (3) .
وقال تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (4) .
وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} (5) وأخرج البخاري في باب الجهاد والسير عن أنس رضي الله عنه «أن أم الربيع بنت البراء - وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر، أصابه سهم غرب فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه بالبكاء، فقال: يا أم حارثه، إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى (6) » وفي لفظ آخر «أهبلت؟ أجنة واحدة هي؟ إنها جنان كثيرة وإنه الفردوس الأعلى (7) »
وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن
__________
(1) سورة محمد الآية 4
(2) سورة محمد الآية 5
(3) سورة محمد الآية 6
(4) سورة النساء الآية 74
(5) سورة النساء الآية 69
(6) صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير - باب من أتاه سهم غرب فقتله 3 \ 206، 7 \ 201، الترمذي في تفسير القرآن باب ومن سورة المؤمنين 5 \ 327 رقم 3174.
(7) صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير - باب من أتاه سهم غرب فقتله 3 \ 206، 7 \ 201، الترمذي في تفسير القرآن باب ومن سورة المؤمنين 5 \ 327 رقم 3174.(41/302)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة، شهيد، وعفيف متعفف، وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه (1) » وقال حديث حسن.
وأخرج البخاري في (الصحيح) من حديث سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي الشجرة وأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل، لم أر قط أحسن منها، قال: أما هذه الدار فدار الشهداء (2) »
وأخرج البخاري في (الصحيح) ومسلم في (الصحيح) واللفظ للبخاري من حديث البراء رضي الله عنه قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد فقال: يا رسول الله: أقاتل أو أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل، فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمل قليل وأجر كثير (3) »
وأخرج البخاري في (الصحيح) واللفظ له، ومسلم في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله: «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال في الجنة، فألقى ثمرات في يده، ثم قاتل حتى قتل (4) »
وروى البخاري في (الصحيح) ومسلم في الصحيح، واللفظ له من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يضحك الله إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة. فقالوا كيف يا رسول الله؟ قال: يقاتل
__________
(1) مشارع الأشواق 2 \ 723، (الترمذي في فضائل الجهاد باب في فضل الشهادة عند الله 4 \ 176) وأحمد 2 \ 425، فيض القدير 4 \ 312 رقم 5419 من حديث يحيى بن أبي كثير.
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري جـ6 ص 11 رقم 2791.
(3) فتح الباري جـ 6 ص24 رقم 2808، صحيح مسلم جـ 3 ص1509، رقم 1900.
(4) فتح الباري ج 7 ص 354 رقم 4046، صحيح مسلم جـ 3 ص 1509 رقم 1899.(41/303)
هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد ثم يتوب الله على القاتل فيسلم، فيقاتل في سبيل الله عز وجل فيستشهد (1) »
وأخرج النسائي من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه حدثهم أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من قاتل في سبيل الله عز وجل من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة. . . (2) » الحديث.
وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد ما أخرجه أحمد من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء على بارق نهر باب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا (3) » ثم عقب الهيثمي فقال: رواه أحمد وإسناده رجاله ثقات، ورواه الطبراني في الكبير والأوسط.
وذكر الهيثمي في (مجمع الزوائد) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن للشهيد عند الله عز وجل ست خصال، أن يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه (4) »
__________
(1) فتح الباري جـ 6 ص 39 رقم 2826، صحيح مسلم جـ 3 ص 1504 رقم 1890 النسائي 6 \ 38 في الجهاد باب اجتماع القاتل والمقتول قي سبيل الله في الجنة.
(2) سنن النسائي جـ 6 ص 25 ط دار الكتاب العربي، المصنف لعبد الرزاق جـ 5 ص 255 رقم 9534، الترمذي في موضعين جـ4 ص183 رقم 1654، جـ4 ص 185 رقم 1657، وأحمد جـ 5 ص 230، 244، والبيهقي جـ 9 ص 170 ابن ماجه جـ 2 ص 933 رقم 2792 والحديث بالمتابعات وهي كثيرة صحيح لغيره انظر فضل الجهاد والمجاهدين لأحمد المقدسي تحقيق مبارك الهاجري ط الدار السلفية.
(3) مجمع الزوائد جـ5 ص294 ومسند أحمد جـ1 ص 266، والمستدرك للحاكم جـ2 ص 74، وانظر (كنز العمال 4 \ 397 رقم 11099) .
(4) مجمع الزوائد جـ5 ص 293، انظر (مشارع الأشواق جـ 2 \ 740، 741) ، وقال ابن النحاس: رواه أحمد بإسناد حسن.(41/304)
ثم قال: (رواه أحمد هكذا قال مثل ذلك، والبزار والطبراني إلا أنه قال سبع خصال وهي كذلك ورجال أحمد والطبراني ثقات) وقال الحاكم صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وأخرج ابن ماجه في السنن، من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «للشهيد عند الله ست خصال، يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه (1) » ورجاله رجال الصحيح إلا هشام بن عمار، وإسماعيل بن عياش حديثهما حسن وفي رواية سبع بزيادة «ويوضع على رأسه تاج الوقار (2) » .
__________
(1) سنن ابن ماجه جـ 2 ص 935 رقم 2799، وعبد الرزاق جـ5 ص 265 من المصنف (40) وأخرجه الترمذي في باب (ثواب الشهيد 4 \ 187 رقم 1663) ، وقال حديث صحيح وانظر صحيح الجامع رقم 5058.
(2) ذكره البرهان فوري في (كنز العمال 4 \ 405 رقم 11132) ثم عزاه إلى أحمد والترمذي وغيره من حديث المقدام بن معدي كرب(41/305)
خامسا: تمنى الرجوع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى بل عشر مرات:
روى البخاري في صحيحه واللفظ له، ومسلم في الصحيح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا، وأن له الدنيا وما فيها، إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى (1) »
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري جـ 6 ص 15 رقم 2795، صحيح مسلم جـ 3 ص1498 رقم 1877.(41/305)
وأخرج البخاري في (الصحيح) من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة (1) »
وأخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «لما قتل عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه يوم أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا جابر ألا أخبرك ما قال الله لأبيك؟ " قلت بلى، قال: " ما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب كلم أباك كفاحا فقال: يا عبد الله تمن علي أعطك، قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون قال: يا رب فأبلغ من ورائي فأنزل الله تعالى هذه الآية: الآية كلها (3) » ، وقال الترمذي حسن وابن ماجه بإسناد حسن أيضا والحاكم قال: صحيح الإسناد.
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل (4) »
وروى أحمد والنسائي من حديث ابن أبي عميرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نفس مسلمة يقبضها ربها تحب أن ترجع إليكم وأن لها الدنيا وما فيها غير الشهيد (5) » قال ابن أبي عميرة: قال رسول الله
__________
(1) فتح الباري جـ 1 ص32 رقم 2817 صحيح مسلم جـ3 ص 1498 رقم 109، كنز العمال 4 \ 405 رقم 11133، 11135.
(2) مشارع الأشواق جـ 2 ص 719.
(3) سورة آل عمران الآية 169 (2) {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا}
(4) مشارع الأشواق جـ 2 صح 717.
(5) سنن النسائي الجهاد (3153) ، مسند أحمد بن حنبل (4/216) .(41/306)
صلى الله عليه وسلم: «لأن أقتل في سبيل الله أحب إلي من أن يكون لي أهل الوبر والمدر (1) » رواه أحمد بإسناد حسن والنسائي واللفظ له (2) .
وأخرج أحمد والنسائي من حديث عبادة بن الصامت. رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما على الأرض من نفس تموت ولها عند الله خير تحب أن ترجع إليكم ولها الدنيا إلا القتيل في سبيل الله فإنه يحب أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من ثواب الله له (3) » .
__________
(1) سنن النسائي الجهاد (3153) ، مسند أحمد بن حنبل (4/216) .
(2) كنز العمال 4 \ 406 رقم 11137.
(3) كنز العمال 4 \ 405 رقم 11134، صحيح الجامع رقم 5514 ثم قال الألباني: صحيح.(41/307)
سادسا: من يكلم في سبيل الله يأتي يوم القيامة اللون لون الدم والرج ريح المسك:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم، والريح ريح المسك (1) » .
رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________
(1) فتح الباري جـ 6، ص 20 رقم 2803، الترمذي جـ 4، ص: 184، رقم 1656.(41/307)
سابعا: الشهيد في الفردوس الأعلى:
أخرج البخاري في (الصحيح) حديث أم حارثة قال: «أتت أم حارثه بن سراقة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة - وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب - فإن كان في الجنة صبرت - وإن كان غير ذلك(41/307)
اجتهدت عليه في البكاء، قال: يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى (1) » .
__________
(1) فتح الباري جـ 6 ص 26 رقم 2809.(41/308)
ثامنا: الملائكة تظل الشهيد بأجنحتها.
«قال جابر (جيء بأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد مثل به ووضع بين يديه، فذهبت أكشف عن وجهه، فنهاني قومي، فسمع صوت نائحة فقيل: ابنة عمرو - أو أخت عمرو - فقال: لم تبكي أو لا تبكي، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها (1) » .
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح انظر فتح الباري جـ6 ص 32 رقم 2816، ورواه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر 4 \ 1917.(41/308)
تاسعا: حياة أجساد الشهداء:
روى مالك عن عبد الرحمن بن أبي صعصعة (أنه بلغه أن عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو الأنصاريين ثم السلميين كانا قد حفر السيل قبرهما، وكان قبرهما مما يلي السيل وكانا في قبر واحد، وهما ممن استشهد يوم أحد فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة) (1) .
روى الذهبي أن (أبا طلحة رضي الله عنه غزا في البحر فمات، فطلبوا جزيرة يدفنونه فيها فلم يقدروا عليها إلا بعد سبعة أيام وما تغير) .
__________
(1) موطأ مالك جـ 2 ص 470 رقم 49.(41/308)
وروى ابن المبارك، وعبد الرزاق في " مصنفه " كلاهما عن ابن عيينة عن أبي الزير قال: (سمعت جابر بن عبد الله يقول: لما أراد معاوية أن يجري الكظامة قال: من كان له قتيل فليأت قتيله - يعني قتلى أحد - فأخرجهم رطابا يتثنون قال: فأصابت المسحاة رجل رجل منهم فانفطرت دما) (1) .
وقال القرطبي في التذكرة: (وقد روى كافة أهل المدينة أن جدار قبر النبي صلى الله عليه وسلم لما انهدم - أيام خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان وولاية عمر بن عبد العزيز على المدينة - بدت لهم قدم، فخافوا أن تكون قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزع الناس فجاء سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فعرف أنها قدم جده عمر رضي الله عنه، وكان قتل شهيدا) (2) .
وروى الترمذي قصة أصحاب الأخدود وفيه: أن الغلام الذي قتله الملك دفن قال: (فيذكر أنه أخرج في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل) قال الترمذي: حديث حسن غريب (3) .
__________
(1) مشارع الأشواق جـ 2 ص701.
(2) التذكرة ص202، 203.
(3) مشارع الأشواق جـ 2 ص703 رقم 1118.(41/309)
عاشرا: الشهداء لا يفتنون في القبور:
روى الترمذي في جامعه من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للشهيد عند الله ست خصال، يغفر له في أول دفعة ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر. . (1) » الحديث.
وتقدم حديث عبادة بن الصامت وحديث المقدام بن معدي كرب في " رابعا ".
__________
(1) جامع الترمذي جـ 4 ص 187 رقم 1663 ثم قال حديث حسن صحيح غريب، وأخرجه ابن ماجه في السنن جـ 2 ص936 رقم 2793.(41/309)
وقال ابن النحاس: (. . . ولا شك بأن من وقف للقتال ورأى السيوف تلمع وتقطع والأسنة تبرق وتخرق، والسهام ترشق وتمرق، والرؤوس تندر، والدماء تثعب، والأعضاء تتطاير، وجاد بنفسه لله تعالى إيمانا به وتصديقا بوعده ووعيده كما وصف الله المؤمنين في قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (1) . فيكفيه هذا امتحانا لإيمانه واختبارا له وفتنة إذ لو كان عنده شك أو ارتياب لولى الدبر، وذهل عما هو واجب عليه من الثبات، وداخله الشك والارتياب كما قال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (2) فيكفي الشهيد هذا امتحانا من سؤال الفتان والله أعلم (3) .
وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية:، من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم؟ قال: هم شهداء الله (5) » ، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب (صفة الجنة) أطول منه (6) .
وروى عمارة بن أبي حفصة عن حجر رجل من هجر، عن سعيد بن جبير
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 22
(2) سورة الأحزاب الآية 12
(3) مشارع الأشواق جـ2 ص 735، 736.
(4) المستدرك 2 \ 253 ووافقه الذهبي.
(5) سورة الزمر الآية 68 (4) {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}
(6) انظر (مشارع الأشواك) لابن النحاس 2 \ 736 رقم 1145.(41/310)
في قوله عز وجل: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (1) قال: (هم الشهداء، ثنية الله عز وجل حول العرش متقلدين السيوف) .
وروى ابن المبارك، عن راشد أبي محمد، أنه سمع شهر بن حوشب يحدث قال: سمعت ابن عباس يقول: (يجيء الله تبارك وتعالى في ظل من الغمام والملائكة ثم ينادي مناد: سيعلم أول الجمع لمن الكرم اليوم، فيقول: عليكم بأوليائي الذين أهرقوا ابتغاء مرضاتي فينطلقون حتى يدنون) (2) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 68
(2) كتاب الجهاد ص 49 رقم 42 وقال المحقق (مشارع الأشواق 2 \ 738) إسناده حسن.(41/311)
حادي عشر: الشهيد لا يشعر بألم القتل ومرتاح من سكرات الموت:
روى الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة (1) » وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
__________
(1) جامع الترمذي جـ 4 ص 190 رقم 1668، وذكره الألباني في الصحيحة جـ 2 \ 686 رقم 960 ثم عزاه إلى النسائي (2 \ 62) والترمذي (3 \ 190) وابن ماجه (1 \ 185) والدارمي (2 \ 205) ، وابن بشران في الأمالي (18 \ 7 \ 2) وأبو نعيم في الحلية (8 \ 264 - 265) والبيهقي (9 \ 164) والبغوي في شرح السنة (3 \ 141 \ 1) كلهم من طريق محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم - عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا. . . وقال أبو نعيم: ثابت مشهور من حديث القعقاع عن أبي صالح، ثم قال الألباني: ورجاله كلهم ثقات إلا أن محمد بن عجلان في حفظه شيء من الضعف، وقد قال فيه الذهبي: إنه متوسط في الحفظ فهو حسن الحديث إن شاء الله تعالى وقد صحح له جماعة، منهم ابن حبان. . .) . انظر (مشارع الأشواق 2 \ 751 رقم 1165، كنز العمال 4 \ 403 رقم 11165.(41/311)
وكان علي يحض على القتال ويقول: (إن لم تقتلوا تموتوا، والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش) (1) .
وأخرج ابن ماجه في السنن من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم القرصة (2) » .
__________
(1) مشارع الأشواق جـ 1 ص 588 رقم 986 ط الأولى 1410 هـ.
(2) سنن ابن ماجه جـ 2 ص 937 رقم 2802، صحيح الجامع رقم 3639، 3640.(41/312)
ثاني عشر: أرواح الشهداء في جوف طير خضر:
روى مسلم في صحيحه من حديث مسروق قال: «سألنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية:. قال: أما أنا قد سألنا عن ذلك فقال: (أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل. . . (2) » . الحديث.
وأخرج أبو داود واللفظ له والحاكم ومسلم بمعناه من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما أصيب إخوانكم جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا أطيب مأكلهم ومضربهم ومقيلهم قالوا: مع يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق، لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب؟ فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله عز وجل إلى آخر الآية (4) » .
__________
(1) صحيح مسلم جـ 3 ص 1502 رقم 1887، عبد الرزاق في مصنفه 5 \ 263 رقم 9554، كنز العمال 4 \ 399 رقم 11107، 11127.
(2) سورة آل عمران الآية 169 (1) {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}
(3) سنن أبي داود جـ 3 ص 32 رقم 2520، المستدرك جـ 2 ص 88، صحيح مسلم جـ 3 ص 1502 رقم 1887.
(4) سورة آل عمران الآية 169 (3) {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا}(41/312)
وقال الحاكم، صحح على شرط مسلم.
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه واللفظ له والترمذي من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أرواح الشهداء في صور طير خضر معلقة في قناديل الجنة حتى يرجعها الله يوم القيامة (1) » وإسناده صحيح لكن الترمذي قال: «أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة أو شجر الجنة (2) » وقال: حسن صحيح.
وقال ابن النحاس: (جعل الله أرواح الشهداء في ألطف الأجساد وهو الطير، الملون بألطف الألوان وهو الخضرة، يأوي إلى ألطف الجمادات وهي القناديل المنورة والمفرحة في ظل عرش اللطيف الرحيم لتكمل لها لذة النعيم في جوار الرب الكريم، فكيف يظن أنها محصورة، كلا والله إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليشمر المشمرون وعليه فليجتهد المجاهدون) (3) .
وذكر ابن النحاس: أن أحمد بن حنبل روى في مسنده عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، عن الإمام مالك بن أنس عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نسمة المؤمن طائر يعلق من شجرة الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه (4) » ثم قال: وهذا حديث عظيم صحيح عزيز الوجود لأنه اجتمع في سنده ثلاثة من الأئمة الأربعة، وهو الحديث الذي أشار إليه القرطبي بقوله، وفي حديث كعب بن مالك، والله أعلم.
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1887) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3011) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2801) ، سنن الدارمي الجهاد (2410) .
(2) مشارع الأشواق جـ 2 ص 729، 730.
(3) مشارع الأشواق جـ 2 ص 732.
(4) رواه أحمد في المسند 6 \ 455، والنسائي 4 \ 108، والموطأ 1 \ 240 رقم 49، وابن ماجه 1 \ 466، 2 \ 428، رقم 4271، والهيثمي في مجمع الزوائد 2 \ 329، انظر (مشارع الأشواق جـ 2 ص732 - 733) .(41/313)
وقال ابن النحاس: (. . الذي يظهر لي - والله أعلم - من الحكمة في جعل أرواحهم في هذه الأجساد: أنهم لما جاءوا بأجسادهم الكثيفة لله تعالى وبذلوها في حبه وعرضوها للآلام والمشاق الشديدة، وسمحوا بها للفناء امتثالا لأمر الله وطلبا لمرضاته، عوضهم عنها أجسادا لطيفة في دار النعيم الباقي يأكلون بها ويشربون ويسرحون في الجنة حيث يشاءون ولما كان ألطف الحيوانات أجساما الطير وألطف الألوان الأخضر، وألطف الجمادات الشفافة الزجاج، كما قال تعالى: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} (1) .
وإن كانت من ذهب كما في حديث ابن عباس فهو المفرح طبعا وخاصية. وناهيك بذهب الجنة، مفرحا، فلذلك - والله أعلم - جعل الله أرواح الشهداء في ألطف الأجساد وهو الطير الملون بألطف الألوان وهو الخضرة، يأوي إلى ألطف الجمادات وهي القناديل المنورة والمفرحة في ظل عرش اللطيف الرحيم، لتكمل لها لذة النعيم في جوار الرب الكريم، فكيف يظن إنها محصورة؟ كلا والله أن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليشمر المشمرون وعليه فليجتهد المجاهدون (2) كما تقدم.
__________
(1) سورة النور الآية 35
(2) مشارع الأشواق جـ2 ص 731 - 732.(41/314)
ثالث عشر: دم الشهيد أحب شيء إلى الله:
أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين، قطرة من(41/314)
دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران، فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله (1) » ثم قال: هذا حديث حسن غريب.
__________
(1) جامع الترمذي جـ 4 ص 190 رقم 1669.(41/315)
رابع عشر: الشهيد له دار ما أحسن منها:
روى البخاري في الصحيح من حديث سمرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي الشجرة وأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل، لم أر قط أحسن منها، قال: أما هذه الدار فدار الشهداء (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري (فتح الباري جـ 6 ص 11 رقم 2791) .(41/315)
خامس عشر: الشهداء أول من يدخل الجنة:
روى الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة، وأول ثلاثة يدخلون النار، فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد وعبد مملوك أحسن عبادة ربه، ونصح لسيده، وعفيف متعفف ذو عيال (1) » . . . الحديث ثم قال: حديث حسن وهو كما قال.
__________
(1) جامع الترمذي جـ4 ص 176 حديث رقم 1642.(41/315)
سادس عشر: الشهيد يشفع في أهل بيته:
روى البيهقي من حديث أم الدرداء قالت: سمعت أبا الدرداء يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته (1) » وتقدم
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي جـ 9 ص 164 ط الأولى سنة 1356، أبو داود جـ3 ص 15 رقم الحديث 2522، ورواه ابن حبان في الصحيح، وقال عنه الألباني في صحيح الجامع: صحيح 6 \ 342، انظر موارد الظمآن ص 388 رقم 1612 (مشارع الأشواق 2 \ 738) (كنز العمال 4 \ 410 رقم 11151) ، (صحيح الجامع رقم 7949) .(41/315)
حديث المقدام بن معدي كرب في " رابعا " وفيه أن الشهيد يشفع في سبعين من أهله.(41/316)
سابع عشر: الشهداء لا يصعقون في نفخة الصور: (الفزع)
روى الحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام عن هذه الآية:. من الذين لم يشأ الله أن يصعقهم؟ قال: هم شهداء الله (2) »
وتقدم حديث عبادة وحديث معدي كرب في رابعا «ويأمن من الفزع الأكبر (3) » .
__________
(1) المستدرك للحاكم جـ2 ص 253 ثم قال هذا حديث صحيح بإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي: صحيح (خ م) .
(2) سورة الزمر الآية 68 (1) {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}
(3) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1663) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2799) ، مسند أحمد بن حنبل (4/131) .(41/316)
ثامن عشر: لا يجف دم الشهيد حتى يرى الحور العين:
روى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: إذا التقى الصفان أهبط الله الحور العين إلى السماء الدنيا فإذا رأين الرجل يرضين قدمه قلن: اللهم ثبته، وإن فر احتجبن منه، فإن هو قتل نزلتا إليه فمسحتا التراب عن وجه وقالت: (اللهم عفر من عفره، وترب من تربه) .(41/316)
تاسع عشر: أفضل الشهداء من أهريق دمه وعقر جواده:
روى أحمد، وابن أبي شيبة، وأبو يعلى بإسناد رجاله الصحيح وابن حبان في صحيحه عن جابر رضي الله عنه، قال: «قال رجل: يا رسول الله، أي الجهاد أفضل؟ قال: أن يعقر جوادك، ويهراق دمك (1) »
وروى ابن أبي شيبة عن عبد الله بن عمرو مثله.
وعن عبد الله بن حبشي الخثعمي رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: (إيمان لا شك فيه وجهاد لا غلول فيه وحجة مبرورة) قيل فأي الصلاة أفضل؟ ، قال: (طول القنوت) قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: (جهد المقل) قيل: فأي الهجرة أفضل قال: (من هجر ما حرم الله) قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من جاهد المشركين بماله ونفسه) قيل: أي القتل أشرف؟ قال: (من أهريق دمه وعقر جواده) (2) » رواه أبو داود والنسائي واللفظ له.
__________
(1) أحمد 3 \ 300 عن جابر بلفظه، '' مصنفة ابن أبي شيبة '' في الجهاد 5 \ 290، من طريق المصنف، عن وسيع به، '' مجمع الزوائد ''، في الجهاد، باب أي الجهاد أفضل 5 \ 291 عن جابر به جزء حديث قال الهيثمي: روى مسلم بعض هذا ورجال أبي يعلى والصغير رجال صحيح ورواه أحمد بنحوه - '' موارد الظمآن '' في الجهاد، باب ما جاء في الشهادة ص 387 رقم 1608، من طريق سفيان عن الأعمش به، (مشارع الأشواق 2 \ 747 - 748) مع تحقيقه.
(2) '' سنن أبي داود '' باب طول القيام 2 \ 146 رقم 1449، من طريق أحمد بن حنبل عن حجاج بنحوه مختصرا، النسائي في الزكاة، باب جهد المقل 5 \ 58 بلفظه، رواه أحمد 3 \ 414 من طريق المصنف عن حجاج به والدارمي في الصلاة باب أي الصلاة أفضل 1 \ 331 ثم قال البنا محقق الدارمي: سكته عنه، أبو داود والمنذري فهو صالح للاحتجاج 19 \ 25 يعنى حجاج (مشارع الأشواق 2 \ 748) .(41/317)
وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه قال: «قال رجل: يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: " أن يسلم قلبك، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك "، قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: (الإيمان) قال: وما الإيمان؟ قال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت "، قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: (الهجرة) ، قال: وما الهجرة؟ قال: (أن تهجر السوء) قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: (الجهاد) ، قال: وما الجهاد؟ قال: " أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم " قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: (من عقر جواده، وأهريق دمه) (1) » .
__________
(1) رواه أحمد في المسند 4 \ 114 بلفظه وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1 \ 59، 2 \ 207 ثم قال: رواه أحمد والطبراني، ورجاله رجال الصحيح، انظر (مشارع الأشواق 2 \ 749 رقم 1160) .(41/318)
عشرون: الشهيد في سبيل الله أفضل ممن انتصر ورجع سالما:
وروى ابن المبارك عن جرير بن حازم قال سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير يقول: مر عمرو بن العاص، فطاف بالبيت فرأى حلقة من قريش جلوسا، فلما رأوه قالوا: أهشام كان أفضل في أنفسكم أو عمرو بن العاص فلما فرغ من طوافه جاء فقام عليهم قال: إني قد علمت أنكم قد قلتم شيئا حين رأيتموني فما قلتم؟ قالوا: ذكرناك وهشاما فقلنا: أيهما أفضل؟ فقال: سأخبركم عن ذلك، إنا شهدنا اليرموك، فبات وبت يسأل الله الشهادة وأسأله إياها، فلما أصبحنا رزقها وحرمتها، ففي ذلك يتبين لكم فضله علي) (1) .
وقال ابن النحاس في " المشارع ": وهذا تصريح من عمرو رضي الله عنه بما تقدم من فضل الشهيد على من رجع سالما (2) .
__________
(1) الجهاد لابن المبارك ص 95 رقم 114.
(2) مشارع الأشواق لابن النحاس 2 \ 750 رقم 1163 ثم قال المحقق: وهذا الحديث إسناده رجاله ثقات.(41/318)
واحد وعشرون: الملائكة يدخلون على الشهداء من كل باب يسلمون عليهم:
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أول ثلة تدخل الجنة، الفقراء المهاجرون الذين تتقى بهم المكاره إذا أمروا سمعوا وأطاعوا، وإن كانت للرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض له حتى يموت وهي في صدره، وإن الله عز وجل ليدعوا يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها، فيقول: (أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا أو أوذوا وجاهدوا في سبيلي، أدخلوا الجنة، فيدخلونها بغير حساب وتأتي الملائكة فيسجدون فيقولون: ربنا نحن نسبح بحمدك الليل والنهار، ونقدس لك، من هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول الرب عز وجل: هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي، فتدخل عليهم الملائكة من كل باب: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) (1) » .
__________
(1) رواه أحمد 2 \ 168 بلفظه، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10 \ 259 ثم قال عن الرواية الأولى، رواه أحمد والبزار والطبراني. . . رجالهم ثقات. .، وقال عن الرواية الثانية رجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي عشانة وهو ثقة. وذكره الهيثمي أيضا في '' موارد الظمآن '' ص 636، وأخرجه الحاكم في '' المستدرك 2 \ 72 وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره ابن النحاس (مشارع الأشواق 2 \ 756 رقم 1169) ثم قال: رواه أحمد والبزار، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وقال صحيح الإسناد.(41/319)
اثنان وعشرون: الشهيد في سبيل الله رضي الله عنه رضا لا سخط بعده:
روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه، قال: «جاء أناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجالا يعلموننا القرآن والسنة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار، يقال لهم: القراء - فيهم خالي حرام - يقرأون(41/319)
القرآن ويتدارسونه بالليل يتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان، فقالوا: اللهم أبلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك ورضينا عنك ورضيت عنا، قال: وأتى رجل حراما خال أنس، فطعنه برمح حتى أنفذها فقال حرام: فزت ورب الكعبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن إخوانكم قد قتلوا، وأنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك ورضينا عنك ورضيت عنا (1) » .
__________
(1) رواه البخاري في الصحيح 5 \ 42 عن أنس بنحوه، ومسلم في الصحيح 3 \ 1511 رقم 677 عن أنس بلفظه (وذكره ابن النحاس في مشارع الأشواق 2 \ 757 رقم 1169) .(41/320)
ثلاثة وعشرون: لا يشترط للشهيد أعمال صالحة قبل الشهادة:
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عمل قليل وأجر كثير (1) » رواه البخاري.
وعن جابر رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر، خرجت سرية، فأخذوا إنسانا معه غنم يرعاها فجاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ما شاء الله أن يكلمه، فقال له الرجل: أني قد آمنت بك وبما جئت به، فكيف بالغنم فإنها أمانة، وهي للناس الشاة والشاتان؟ قال: أحصب وجوهها ترجع إلى أهلها، فأخذ قبضة من حصباء أو تراب فرمى
__________
(1) رواه البخاري 3 \ 206 بلفظه، ومسلم 3 \ 1509 رقم 1900، وأحمد 2 \ 291، وسعيد منصور في الجهاد 2 \ 3 \ 231 رقم 2555، وذكره ابن النحاس في (مشارع الأشواق 2 \ 759 رقم 1175، 1176) .(41/320)
به وجوهها، فخرجت، تشتد حتى دخلت كل شاه إلى أهلها، ثم تقدم إلى الصف فأصابه سهم فقتله ولم يصل لله سجدة قط.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدخلوه الخباء، فأدخل خباء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج فقال: " لقد حسن إسلام صاحبكم لقد دخلت عليه وإن عنده لزوجتين من الحور العين (1) » ثم قال ابن النحاس: رواه الحاكم، والبيهقي، عن شرحبيل بن سعد عن جابر، قال الحاكم: صحيح الإسناد.
قال ابن النحاس: اسم هذا الشهيد (يسار) وكان عبدا لعامر اليهودي، وقال ابن عبد البر: (حماه الواقدي " يسارا "، وسماه ابن إسحاق أسلم) والله أعلم.
__________
(1) أخرجه الحاكم. في المستدرك 2 \ 136 ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وذكره ابن النحاس في (مشارع الأشواق 2 \ 761 رقم 1179) .(41/321)
أربع وعشرون: الشهداء يضحك الله تعالى إليهم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء الذين يقاتلون في سبيل الله في الصف الأول، لا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا، فأولئك يلقون في الغرف العلا من الجنة يضحك إليهم ربك، إن الله تعالى إذا ضحك إلى عبده المؤمن فلا حساب عليه (1) »
وفي رواية: «أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا أولئك يتلبطون في الغرف العلى من الجنة،
__________
(1) صحيح الجامع رقم 3634 وذكر أنه عند الطبراني في الأوسط عن نعيم بن هيار ويقال: عمار، تخرج الترغيب 2 \ 193، والإمام أحمد، وذكره البرهان فوري في (كنز العمال 4 \ 393 رقم 11104) .(41/321)
يضحك إليهم ربك، فإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه (1) »
روى البخاري ومسلم واللفظ له من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يضحك الله إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة فقالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: يقاتل هذا في سبيل الله عز وجل فيستشهد ثم يتوب الله على القاتل فيسلم، فيقاتل في سبيل الله عز وجل فيستشهد (2) »
والحمد لله رب العالمين. . .
__________
(1) صحيح الجامع 1 \ 363 رقم 1118 ثم عزاه المصنف إلى الإمام أحمد والطبراني وأبي يعلى.
(2) فتح الباري 6 \ 39 رقم 2826، صحيح مسلم 3 \ 1504 رقم 1890 النسائي 6 \ 38 وقد تقدم في رابعا. انظر صحيح الجامع رقم 3780، 11124، ذكره البرهان فوري في (كنز الأعمال رقم 4 \ 402 رقم 11123، 11124) .(41/322)
" ملخص "
عنوان البحث: الشهادة في سبيل الله " في الكتاب والسنة ".
المقدمة: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد فإن الله أمر بالجهاد فقال: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) التوبة: 41، والجهاد له ثمرات منها:
الشهادة في سبيل الله وهي أعظم الثمرات.
دلالة الشهادة: الشهيد: اسم من أسماء الله، وهو المقتول في سبيل الله، وقيل: سمي شهيدا لأنه حي، أو لأن الملائكة تشهده، وهي رتبة عظيمة، وهي الرتبة الثالثة من مقام النبوة قال تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (2) النساء - 69.
أنواع الشهداء: 1 - الشهيد في سبيل الله.
2 - المطعون.
3 - المبطون.
4 - الغريق.
5 - صاحب الهدم.
6 - من قتل دون ماله.
7 - من قتل دون دمه.
8 - من قتل دون دينه.
9 - من قتل دون أهله.
10 - صاحب ذات الجنب.
11 - الحريق.
12 - المرأة تموت بجمع.
13 - السل.
14 - من صرع عن دابته.
15 - من قتل دون مظلمته.
16 - النفساء.
وهذه الأنواع ليست على درجة واحدة بل متفاوتة لكن أعلاها الشهادة في سبيل الله.
طلب الشهادة: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل (3) »
__________
(1) سورة التوبة الآية 41
(2) سورة النساء الآية 69
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2797) ، صحيح مسلم كتاب الإمارة (1876) ، سنن النسائي الجهاد (3152) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2753) ، مسند أحمد بن حنبل (2/231) ، موطأ مالك الجهاد (999) .(41/323)
" رواه البخاري 6 \ 16 رقم 2797، وثبت أنه قال: «من طلب الشهادة صادقا أعطيها ولو لم تصبه (1) » مسلم 3 \ 1517 رقم 1908.
مآثر وثمرات الشهادة: منها:
1 - أن الحياة بعد الاستشهاد مباشرة: قال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ} (2) البقرة -154
2 - الفرح بما آتاه الله من فضله، والاستبشار بما من الله عليه من نعمة وفضل: قال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (3) {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (4) آل عمران -169.
3 - مغفرة الذنوب، وتكفير السيئات والنجاة من النار: قال تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (5) آل عمران -195.
4 - دخول الجنة وحصول الأجر والنعمة والفضل العظيم: قال تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (6) النساء -74.
5 - تمني الرجوع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى بل عشرات المرات: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة (7) » صحيح البخاري 1 \ 32 رقم 2817، صحيح مسلم 3 \ 1498 رقم 109.
6 - من يكلم في سبيل الله يأتي يوم القيامة اللون لون الدم، والريح ريح المسك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في (8) »
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1908) .
(2) سورة البقرة الآية 154
(3) سورة آل عمران الآية 169
(4) سورة آل عمران الآية 170
(5) سورة آل عمران الآية 195
(6) سورة النساء الآية 74
(7) صحيح البخاري الجهاد والسير (2817) ، صحيح مسلم الإمارة (1877) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1661) ، سنن النسائي الجهاد (3160) ، مسند أحمد بن حنبل (3/276) ، سنن الدارمي الجهاد (2409) .
(8) صحيح البخاري الجهاد والسير (2803) ، صحيح مسلم كتاب الإمارة (1876) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1656) ، سنن النسائي الجهاد (3147) ، مسند أحمد بن حنبل (2/231) ، موطأ مالك الجهاد (1001) ، سنن الدارمي الجهاد (2406) .(41/324)
سبيل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيله - إلا جاء يوم القيامة واللون لون الدم، والريح ريح المسك " صحيح البخاري 6 \ 20 رقم 2803 وغيره.
7 - الشهيد في الفردوس الأعلى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم حارثة: «يا أم حارثة إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى (1) » صحيح البخاري.
8 - الملائكة تظل الشهيد بأجنحتها: قال النبي صلى الله عليه وسلم في استشهاد عبد الله بن حرام والد جابر قال: «لا تبك مازالت الملائكة تظله بأجنحتها (2) » صحيح البخاري 6 \ 32، 2816، صحيح مسلم 4 \ 1917.
9 - حياة أجساد الشهداء: حفر السيل عن قبر عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو، وهما ممن استشهد يوم أحد، فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس. . . وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما 46 سنة " الموطأ 2 \ 470.
10 - الشهداء لا يفتنون في القبور: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «للشهيد عند الله ست خصال، يغفر له في أول دفعه ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر (3) » جامع الترمذي 4 \ 187 رقم 1663 ثم قال: حسن صحيح غريب.
11 - الشهيد لا يشعر بألم القتل ومرتاح من سكرات الموت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يجد الشهيد من مس القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة (4) » الترمذي 4 \ 190 رقم 1668 ثم قال: حسن صحيح غريب.
12 - أرواح الشهداء في جوف طير خضر: روى الترمذي قال رسول الله
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2809) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3174) ، مسند أحمد بن حنبل (3/260) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1244) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2471) ، سنن النسائي الجنائز (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (3/307) .
(3) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1663) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2799) ، مسند أحمد بن حنبل (4/131) .
(4) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1668) ، سنن النسائي الجهاد (3161) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2802) ، مسند أحمد بن حنبل (2/297) ، سنن الدارمي الجهاد (2408) .(41/325)
صلى الله عليه وسلم: «أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة أو شجر الجنة (1) » ثم قال حسن صحيح (مشارع الأشواق 2 \ 729 \ 730) .
13 - دم الشهيد أحب شيء إلى الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله (2) » . . جامع الترمذي 4 \ 190 رقم 1669 ثم قال حسن غريب.
14 - الشهيد له دار ما أحسن منها: قال رسول الله: «رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي شجرة وأدخلاني دارا هي أحسن وأفضل، لم أر قط أحسن منها، قال: أما هذه الدار فدار الشهداء (3) » صحيح البخاري 6 \ 11 رقم 279.
15 - الشهداء أول من يدخل الجنة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة، فالشهيد (4) » ،. . " جامع الترمذي 4 \ 176 رقم 1642.
16 - الشهيد يشفع في أهل بيته: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته (5) » صححه الألباني في صحيح الجامع رقم 7949.
17 - الشهداء لا يصعقون في نفخة الصور: «سأل رسول الله جبريل عن هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (6) الذين لا يصعقون هم شهداء الله» الحاكم 2 \ 253 ثم صححه.
18 - لا يجف دم الشهيد حتى يرى الحور العين: «إذا التقى الصفان أهبط الله الحور العين إلى السماء الدنيا فإذا رأين الرجل يرضين قدمه،»
__________
(1) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1641) ، سنن النسائي كتاب الجنائز (2073) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1449) ، مسند أحمد بن حنبل (6/386) ، موطأ مالك الجنائز (566) .
(2) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1669) .
(3) صحيح البخاري كتاب الجنائز (1386) .
(4) سنن الترمذي فضائل الجهاد (1642) ، مسند أحمد بن حنبل (2/425) .
(5) سنن أبو داود الجهاد (2522) .
(6) سورة الزمر الآية 68(41/326)
قلن: اللهم ثبته وإن فر احتجبن، فإن هو قتل نزلتا إليه فمسحنا التراب عن وجهه. . " الحديث إسناده صحيح عن عبد الله بن عجير بن عمير وهو موقوف عند عبد الرزاق 5 \ 258 ومشارع الأشواق 2 \ 747 رقم 1157.
19 - أفضل الشهداء من أهريق دمه وعقر جواده: «قال رجل يا رسول الله: أي الجهاد أفضل؟ قال: " أن يعقر جوادك ويهراق دمك (1) »
رواه أحمد وابن أبي شيبة وذكره الهيثمي ثم قال رجاله رجال الصحيح، أحمد 3 \ 300، مشارع الأشواق 2 \ 747 - 748.
20 - الشهيد في سبيل الله أفضل ممن انتصر ورجع سالما: قال عمرو بن العاص: " إنا شهدنا اليرموك، فبات - يعنى هشام - وبت يسأل الله الشهادة وأسأله إياها، فلما أصبحنا رزقها وحرمتها، ففي ذلك يتبين لكم فضله علي ". الجهاد لابن المبارك.
21 - الملائكة يدخلون على الشهداء من كل باب يسلمون عليهم: قال عبد الله بن عمرو " وإن الله عز وجل ليدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفها وزينتها فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وقتلوا أو أوذوا وجاهدوا في سبيلي: ادخلوا الجنة، فيدخلونها بغير حساب، وتأتي الملائكة فيسجدون. . . فتدخل عليهم الملائكة من كل باب: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " رواه أحمد 2 \ 168،
وذكره الهيثمي في المجمع ثم قال: رجاله رجال الصحيح إلا أبا عشانة، وهو ثقة.
22 - الشهيد في سبيل الله يرضى الله عنه رضا لا سخط بعده؟ روى البخاري وغيره قصة مقتل القراء وفيهم عبد الله حرام عندما طعن، قال: «فزت ورب الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن إخوانكم قد
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1449) ، مسند أحمد بن حنبل (3/412) ، سنن الدارمي كتاب الصلاة (1424) .(41/327)
قتلوا، وإنهم قالوا: اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك، ورضينا عنك ورضيت عنا (1) » صحيح البخاري 5 \ 43، ومسلم 3 \ 1511 رقم 677.
23 - لا يشترط للشهيد أعمال صالحة قبل الشهادة: روى الشيخان عن البراء قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل. فأسلم ثم قاتل فقتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عمل قليل وأجر كثير (2) » صحيح البخاري 3 \ 206، مسلم 3 \ 1509.
24 - الشهداء يضحك الله تعالى إليهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهداء الذين يقاتلون في سبيل الله في الصف الأول، لا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا، فأولئك يلقون في الغرف العلا من الجنة يضحك إليهم ربك، إن الله تعالى إذا ضحك إلى عبده المؤمن فلا حساب عليه (3) » .
صحيح الجامع رقم 1118 وقال صحيح.
والحمد لله رب العالمين،،
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4091) ، صحيح مسلم الإمارة (677) ، مسند أحمد بن حنبل (3/137) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2808) ، صحيح مسلم الإمارة (1900) ، مسند أحمد بن حنبل (4/291) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/287) .(41/328)
أصول التصحيح والتضعيف
د. عبد الغني بن أحمد جبر مزهر (1)
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك اسه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فهذا بحث في موضوع من أهم موضوعات علم الحديث، وهو ما يتعلق بتصحيح الحديث أو تحسينه أو تضعيفه، متى يكون ذلك حقا، ومتى يكون باطلا، ومتى يسلك فيه المصحح أو المضعف الجادة وفق القواعد والضوابط العلمية ومتى ينحرف عن ذلك فيطيش قلمه، وتزل قدمه، ويرد عليه قوله.
ولم أجد للعلماء في هذا الموضوع مصنفا مستقلا مرتبا، ومفصلا للمسالك في هذا الشأن، لذا فقد بذلت الجهد في تتبع أقوال أئمة هذا الشأن، من كتب علوم الحديث، وكتب الرجال وشروح الحديث وغيرها.
واستخلصت من ذلك كثيرا من القواعد الهامة التي تلزم معرفتها لمن توخى الحق، وعدم الوقوع في الخطأ والزلل، لتكون معيارا لتصحيح وتحسين
__________
(1) يعمل في كلية التربية للبنات- الأقسام الأدبية- الرياض.(41/329)
وتضعيف الأخبار، ورددت بعض الأمور التي يعدها بعض من لا علم عنده قواعد للتصحيح أو التضعيف كالكشف والذوق وموافقة الحديث لعقله أو عدم موافقته إلى غير ذلك، وأسأل الله تعالى أن يجنبني الزلل، وأن يجعل هذا من صالح العمل، وأن ينفع به المسلمين والله حسبي عليه توكلت، وعليه فليتوكل المتوكلون.(41/330)
أصول التصحيح والتضعيف
التصحيح والتضعيف نوع من الاجتهاد قائم على البحث والنظر، واستقصاء أقوال الأئمة، والتوفيق بين المتعارض منها وترجيح الراجح، ومعرفة المتابعات والشواهد، والنظر في العلل وغير ذلك.
ومثل هذا يجب أن يكون من يتصدى له على جانب من العلم والمعرفة والإطلاع على أنواع من العلوم، كقواعد الجرح والتعديل وما يتعلق بذلك، ومعرفة أحوال الرواة، واصطلاحات المحدثين، وألفاظهم، ومسالكهم في الحكم على الرواة والأحاديث، والعلم بطرق التخرج، ودراسة الأسانيد، وكيفية النظر في العلل مع الإلمام بأصول الفقه وخاصة ما يتعلق بالتعارض والترجيح ونحوه.
ومن الأمور التي توجب الإمعان والتحري في أحوال الرواة، وعدم المسارعة إلى تصحيح حديثهم أو تحسينه أو تضعيفه، ما يلي: 1- قد يوصف الثقة بأنه يغرب أو يهم، أو يخطئ في أحاديث أو لا يتابع على بعض حديثه (1) 2 - قد يحتج بالرواي في جانب من جوانب العلم دون الآخر كالاحتجاج به في المغازي أو القراءات ونحوها دون الحديث.
__________
(1) انظر مثلا: الكاشف الذهبي (1 \ 327) ، التقريب (1 \ 87، 88، 90) .(41/330)
قال ابن معين في زياد بن عبد الله البكائي: (لا بأس به في المغازي، وأما في غيره فلا) .
وقال صالح جزرة: (هو على ضعفه أثبتهم في المغازي) 3 - ربما وصفوا الرواي بأنه ثقة لكنه يرسل أو أرسل عن فلان وفلان، فحديثه عنهما ليس متصلا.
4 - قد يطلقون المنكر على الحديث الفرد، ولو كان راويه مقبولا، وهذا اصطلاح لبعض المتقدمين من المحدثين كأحمد والنسائي، وعليه بعض المتأخرين عنهم كالبرديجي (م 301 هـ) (1) فليس كل حديث يقال فيه: منكر، يعد مردودا حتى يعلم اصطلاح من وصفه بذلك.
قال ابن حجر في سياق شرحه «لحديث أنس رضي الله عنه: "كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فجاءه رجل فقال: يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي (2) » (الحديث) .
عمرو بن عاصم هو الكلابي وهو من شيوخ البخاري أخرج عنه بغير واسطة في الأدب وغيره، وقد طعن الحافظ أبو بكر البرديجي - في الأصل البرزنجي وهو خطأ- في صحة هذا الخبر مع كون الشيخين اتفقا عليه فقال: هو منكر وهم فيه عمرو بن عاصم، مع أن هماما- أي ابن يحيى- كان يحيى بن سعيد لا يرضاه ويقول: أبان العطار أمثل منه.
قلت- القائل ابن حجر - لم يبين وجه الوهم، وأما إطلاق كونه منكرا فعلى طريقته في تسمية ما ينفرد به الرواي منكرا إذا لم يكن له متابع (3) .
أهـ.
هذا وغيره من الأمور الواردة على حديث الثقة، وعلى
__________
(1) فتح الباري (12 \ 134) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6823) ، صحيح مسلم التوبة (2764) .
(3) المصدر نفسه.(41/331)
حديث الضعيف المتكلم فيه تجعلنا نستغرب أشد الاستغراب تسرع بعض طلبة العلم في الحكم على الحديث لمجرد نظره لترجمة الراوي في كتاب التقريب أو الكاشف دون الرجوع إلى المطولات التي بسطت الكلام في ترجمته ودون تتبع لأقوال الأئمة فيه جرحا وتعديلا.
وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن المعلمي أمورا هامة إضافة إلى ما تقدم لا بد من مراعاتها قبل الحكم على الراوي، ليكون الحكم على حديثه صوابا وتتلخص هذه القواعد فيما يلي:
1 - إذا وجدت في ترجمة الراوي " وثقه فلان " أو "ضعفه فلان " أو " كذبه فلان " فلتبحث عن عبارته فقد تكون نقلت عنه بالمعنى، ولم يذكر ذلك في الراوي نصا.
2 - تراجع لذلك عدة كتب فإن وجدت اختلافا بينها بحثت عن العبارة الأصلية.
3 - ينبغي تأمل عبارة المزكي ومخارجها، ومناسبة ذكرها، فربما سئل المحدث عن رجل فيحكم عليه بحسب ما عرف من مجموع حاله، ثم يسمع له حديثا فيحكم عليه حكما مناسبا لحاله في ذلك الحديث، ثم يسمع له حديثا فيعطيه حكما آخر.
4 - ربما يجرح أحدهم الراوي لحديث واحد يستنكر له.
5 - لا بد من التوثق والبحث عن رأي كل إمام من أئمة الجرح والتعديل واصطلاحه مستعينا على ذلك بتتبع كلامه في الرواة، واختلاف الرواية عنه في بعضهم مع مقارنة كلامه بكلام غيره.
وقد اختلف كلام ابن معين مثلا في جماعة يوثق أحدهم تارة، ويضعفه أخرى، وهذا يشعر بأنه ربما كان يطلق كلمة "ثقة" لا يريد بها أكثر من أن الراوي لا يتعمد الكذب، وقد يطلق كلمة "ليس بثقة" على(41/332)
معنى أن الراوي ليس بحيث يقال فيه ثقة على المعنى المشهور لكلمة ثقة (1) وقد يجرح الراوي بما لا يعد جارحا على التحقيق.
__________
(1) وانظر التنكيل (67- 75) .(41/333)
الفرق بين الحسن والضعيف:
من الأمور التي تحتاج إلى تحرير في مجال التصحيح والتضعيف: موضع الفرق بين الحديث الحسن والحديث الضعيف، ولا يخفى أن تحرير هذا الموضع يحتاج إلى تدقيق وإمعان نظر، إذ ليس هناك ضابط لأوصاف الحسن التي لا يمكن تداخل بعضها في بعض أوصاف الضعيف.
ومن الضعيف كذلك ما هو متردد بين الحسن والضعف، ولذا نرى أن بعض المحدثين كثيرا ما يتردد في الحكم على الحديث بأحد الوصفين فنجد في كلامهم: "حديث حسن إن شاء الله"، "حديث محتمل للتحسين"، " إسناده مقارب "، وغير ذلك من العبارات التي تدل على عدم الجزم في الحكم على الحديث، وذلك بناء على التردد في بعض أوصاف الرواة أو غير ذلك.
قال الذهبي: لا تطمع بأن للحسن قاعدة تندرج كل الأحاديث الحسان فيها فإنا على إياس من ذلك، فكم من حديث تردد فيه الحفاظ هل هو حسن أو ضعيف أو صحيح- بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد، فيوما يصفه بالصحة ويوما يصفه بالحسن ولربما استضعفه.
وقال: الحسن لا ينفك عن ضعف ما، ولو انفك عن ذلك لصح باتفاق.
وقال أيضا: الضعيف الذي يعد من آخر مراتب الحسن، وهو(41/333)
الضعيف الذي في السنن وفي كتب الفقهاء، ورواته ليسوا بالمتروكين كابن لهيعة (1) وقال ابن الجوزي في تعريف الحديث الحسن: ما به ضعف قريب محتمل (2) وإنما سقت هذا لا ليظن أن الحديث الحسن غير صالح للاحتجاج به، بل لبيان أن التمييز بينه وبين الضعيف يتطلب مزيدا من التحقيق والممارسة، ومراعاة أقوال الأئمة، وتحرير عباراتهم في الجرح والتعديل، إضافة إلى التيقظ والفهم.
قال الشيخ ناصر الدين الألباني: إنه مما ينبغي ذكره بهذه المناسبة أن الحديث الحسن لغيره وكذا الحسن لذاته، من أدق علوم الحديث، وأصعبها، فلا يتمكن من التوفيق بينها أو ترجيح قول على الأقوال الأخرى، إلا من كان على علم بأصول الحديث وقواعده، ومعرفة قوية بعلم الجرح والتعديل، ومارس ذلك عمليا مدة طويلة من الزمن، مستفيدا من كتب التخريجات، ونقد الأئمة النقاد وعارفا بالمتشددين منهم والمتساهلين، ومن هم وسط بينهم حتى لا يقع في الإفراط والتفريط، وهذا أمر صعب قل من يصبر له، وينال ثمرته (3)
__________
(1) انظر الموقظة (9) .
(2) الموضوعات (1 \ 35) .
(3) إرواء الغليل (3 \ 363) .(41/334)
التضعيف بالنسبة للمتأخرين:
إذا وثق الراوي بعض الأئمة المتقدمين ممن عاصره أو كان قريب العهد بعصره فهل يلتفت إلى تضعيف من ضعفه من المتأخرين؟!(41/334)
لا يخفى أن الراوي أعرف بمشايخه ومعاصريه، وأدرى بأحوالهم وحديثهم وكذلك كلما قرب زمن الراوي من شيخه كلما كان حكمه في ذلك أقرب إلى الحق، فإن طول العهد، وتباعد الزمان أدعى لاحتمال ضعف النقل، وكثرة الوسائط، وعليه فإن توثيقه المتقدم إذا كان من أهل الخبرة، والدراية، والاعتدال، مقدم على تضعيف المتأخر.
قال ابن حجر: القسم الثاني فيمن ضعف بأمر مردود كالتحامل أو التعنت أو عدم الاعتماد على المضعف لكونه من غير أهل النقد. أو لتأخر عصره (1) وقال في ترجمة إسرائيل بن يونس: وبعد ثبوت واحتجاج الشيخين به لا يجمل من متأخر لا خبرة له بحقيقة حال من تقدمه أن يطلق على إسرائيل الضعف، ويرد الأحاديث الصحيحة التي يرويها دائما لإسناده إلى كون القطان كان يحمل عليه من غير أن يعرف وجه ذلك الحمل (2)
__________
(1) هدي الساري (460) .
(2) هدي الساري (390) وانظر (312) تهذيب التهذيب (1 \ 82) ترجمة أبان بن صالح.(41/335)
صحة السند أو ضعفه لا تستلزم صحة الحديث أو ضعفه:
مما تقرر في علوم الحديث أن صحة سند الحديث لا تستلزم صحة الحديث وذلك لاحتمال وجود علة أو شذوذ في متنه، وكذلك فإن ضعف السند لا يلزم منه ضعف الحديث لاحتمال أن يكون المتن قد صح من طريق أخرى.
وإذا فمن التسرع وعدم التثبت أن ينظر طالب العلم إلى إسناد الحديث فإذا وجده متصلا ووجد رجاله موثقين حكم بصحة الحديث قبل أن يمعن النظر جيدا في متنه، أو شواهده ومتابعاته.(41/335)
ولكن يسوغ الحكم على الحديث بناء على صحة إسناده بشروط ثلاثة وهي:
1 - أن يكون هذا الحكم صادرا من حافظ متأهل لذلك.
2 - أن يبذل الجهد والوسع في التفتيش وتتبع الطرق والشواهد.
3 - أن الحكم مع ذلك يكون ظنيا.
قال السخاوي: إذا بلغ الحافظ المتأهل الجهد، وبذل الوسع في التفتيش على ذلك المتن من مظانه فلم يجده إلا من تلك الطرق الضعيفة ساغ له الحكم بالضعف بناء على غلبة الظن (1)
__________
(1) فتح المغيث (1 \ 287) وانظر توجيه النظر (ص 74) .(41/336)
التصحيح والتضعيف أمر اجتهادي:
التصحيح أو التضعيف حكم، وهذا الحكم يصل إليه المصحح أو المضعف بعد استكمال البحث والنظر، وبعد الاطلاع والاستقراء والتتبع، ثم جمع أقوال الأئمة في الراوي، وجمع طرق الحديث، فإن غلب على ظنه بعد ذلك صحة الحديث حكم بصحته، وإن غلب على ظنه ضعفه حكم بذلك، والمقصود هنا أن هذا المجال يدخله الاجتهاد، وتتباين فيه أنظار المجتهدين، وتختلف أحكامهم، وتتعارض أقوالهم، وليس بمرضي أن يجر ذلك إلى التعصب الذميم للرأي، والتنازع والشقاق والتنابز بالألقاب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والمقصود هنا التمثيل بالحديث الذي يروى في الصحيح، وينازع فيه بعض العلماء، وأنه قد يكون الراجح تارة وتارة المرجوح، ومثل هذا من موارد الاجتهاد في تصحيح الحديث كموارد الاجتهاد في الأحكام (1)
__________
(1) الفتاوى (18 \ 22) .(41/336)
وقال الصنعاني: التصحيح والتضعيف من المسائل الاجتهادية النظرية (1) وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن تتوافر فيمن يتصدى له شروط الاجتهاد في بابه، وهذا قول وسط بين القول بغلق باب الحكم على الأحاديث وبين فتح الباب مطلقا.
__________
(1) إرشاد النقاد (ص 2) .(41/337)
تصحيح المعنى:
من الأمور الشائعة تصحيح معنى الحديث مع كونه واهيا أو لا أصل له، ولا يعرف له سند، فيقولون أحيانا: حديث ضعيف لكن معناه صحيح، أو حديث موضوع لكن معناه صحيح، أو يشهد لمعناه كذا ونحو هذا (1) وهذا التصحيح للمعنى غلط من وجوه:
الأول: أننا لسنا في حاجة إلى هذا الحديث الموضوع أو الضعيف جدا أو الضعيف إذا كان ثم ما يغنينا عنه من الأحاديث الصحيحة. فإذا كان المتن ثابتا من وجه آخر فلا بد من البيان فنقول متن مشهور وإسناد ضعيف أو ضعيف جدا، فنفصل الكلام في ذلك ونوضحه (2) .
الثاني: أن قولهم: حديث ضعيف، أو حديث موضوع لكن معناه صحيح غلط ظاهر، لأن الحكم على الحديث هنا حكم على إسناده ومتنه، فكيف يحكم عليه بمجموع الأمرين بالوضيع، ثم يحكم على المتن بالصحة، فهل يكون موضوعا صحيحا، أو ضعيفا صحيحا في آن معا؟
__________
(1) انظر مثلا: جامع بيان العلم (1 \ 9) الفتاوى للنووي (179) .
(2) انظر مثلا شعب الإيمان للبيهقي (1 \ 298 \ 1) .(41/337)
الثالث: أن هذا القول فتح باب التساهل في رواية الأحاديث الواهية والموضوعة، وتناقلها وتداولها بين العامة، وبين طلبة العلم مع نوع من التأييد لها بحجة صحة معناها، وإذا كان المعنى صحيحا فهذا يعني التساهل والتسامح في ذكر الألفاظ المشتملة على المعنى الصحيح، ولقد جر هذا بلاء وفتنة (1) .
الرابع: أنه غالبا ما يكون هناك فرق دقيق في المعنى بين ما اشتمل عليه الحديث الموضوع، أو الحديث الواهي وبين ما اشتمل عليه الحديث الصحيح، ولكن للاغترار بهذا القول، أغفل هذا الفرق أو ظن أنه غير مؤثر في المعنى تأثيرا ذا أهمية، ولعمري أي فرق أجل مما بين ما نطق به الوحي، وبين ما قاله المتقولون والواهمون.
الخامس: هذا القول لا يعلم له مستند من دليل، والقول البديل عنه أن يقال: هذا حديث موضوع، أو باطل، أو واه، ويغني عنه الحديث الصحيح وهو كذا وكذا.
السادس: لسنا ملزمين بأن نقيم نسبا بين كل قول جميل، أو حكمة، أو مثل، وبين الوحي، وكلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لنثبت أنه أفصح الناس وأحكمهم، فإن هذه الحقيقة أنصع من أن تحتاج إلى مثل هذا الإثبات، وكأننا حين نفعل ذلك نكافئ الكذاب، أو المبتدع أو المخطئ بالعناء الذي نبذله لتمرير عمله.
__________
(1) انظر الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم (1 \ 120) .(41/338)
بعض القرائن التي تراعى في المصححين والمضعفين:
ليس كل إمام من أئمة الجرح والتعديل يعتمد قوله في كل راو، فقد قلنا(41/338)
إن الصحيح والتضعيف أمر اجتهادي، ولذلك فإن الاختلاف في جرح الراوي وتعديله، يوجب التثبت في ترجيح أحد الأمرين على الآخر، وإلى اتباع القواعد العلمية الدقيقة في تقديم أحد الأمرين على الآخر، فإنه قد وقع الطعن من بعض المجرحين في بعض الرواة، وعند التأمل تبين أن هذا الطعن لا يلتفت إليه، ولا يعول عليه.
وهذه أهم أسباب الطعن التي لا يعول عليها، وإن صدرت من أئمة من أهل الرسوخ في هذا الشأن:
1 - الطعن بسبب الدخول في أمر الدنيا، كولاية الحسبة أو القضاء ونحوه.
2 - الطعن بسبب التحامل الواقع بين الأقران والتعاصر كطعن مالك في ابن إسحاق مثلا.
3 - الطعن بسبب اختلاف العقائد والرأي كطعن نعيم بن حماد والجورقاني في بعض أهل الرأي والبدعة.
4 - الطعن في راو توهما أن الحمل عليه لتفرد أو نكارة في حين أن الحمل يكون فيه على غيره.
5 - الطعن ممن هو ليس أهلا لذلك لضعف فيه، كالكديمي، والأزدي.
6 - الطعن في راو متوهما أنه راو آخر.
7 - الطعن فيه من قبيل التشدد والتعنت.
8 - الطعن لعداوة دنيوية كطعن ربيعة في عبد الله بن ذكوان (أبي الزناد) .
9 - الطعن للجهل بحال الراوي أو عينه كما يقع لابن حزم وابن القطان.
10 - الطعن بغير طاعن.
قال ابن حجر رحمه الله: وأعلم أنه قد وقع من جماعة الطعن في جماعة(41/339)
بسبب اختلافهم في العقائد، فينبغي التنبه لذلك وعدم الاعتداد به إلا بحق، وكذا عاب جماعة من الورعين جماعة دخلوا في أمر الدنيا فضعفوهم لذلك ولا أثر لذلك التضعيف مع الصدق والضبط، وأبعد ذلك كله من الاعتبار تضعيف من ضعف من الرواة بأمر يكون الحمل فيه على غيره، أو للتحامل بين الأقران، وأشد من ذلك تضعيف من ضعف من هو أوثق منه، أو أعلى قدرا، أو أعرف بالحديث فكل هذا لا يعتبر به (1)
__________
(1) هدي الساري (385) .(41/340)
مراعاة السند والمتن في التصحيح والتضعيف:
لا يخفى أن الحكم على الحديث يجب أن يكون عن دراسة لسنده ومتنه وأنه لا يحكم عليه بالصحة أو الضعف حكما نهائيا حتى يجمع شروط ذلك سندا ومتنا.
ولكن قد يحكم عليه حكما جزئيا باعتبار:
1 - طريق أو إسناد له بخصوصه.
2 - لفظ أو سياق له معين. ومن هنا فقد انبرى المحدثون لنقد السند والمتن على حد سواء ووضعوا القواعد والمعايير العلمية الثابتة للحكم على ذلك ولم يتركوا الأمر هملا.(41/340)
الراوي المختلف فيه:
إذا اختلفت أقوال المحدثين في الراوي، منهم من يوثقه، ومنهم من يجرحه ويطعن فيه، فما حكم حديثه؟ هل نغلب جانب الجرح احتياطا فنعد حديثه مردودا، أو نغلب جانب(41/340)
التعديل فنعده صحيحا؟ أو نتوسط في ذلك فنجعل حديثه من نوع الحسن؟ اعلم أن هذه المسألة من أهم مسائل التصحيح والتضعيف إذ أن الرواة من حيث القبول والرد ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
الأول: متفق على جلالتهم وإتقانهم، أو على توثيقهم جمهور الأئمة جهابذة هذا الشأن وفرسانه، فلا يلتفت إلى ما فيهم من جرح عام، وإنما ينظر إلى ما جرحوا فيه من جرح خاص يتعلق بالطعن في بعض حديثهم أو في روايتهم عن بعض شيوخهم، أو ما ثبت أنهم وهموا فيه من وهم يسير لا يضر في جانب إتقانهم وضبطهم.
الثاني: قسم متفق على ضعفهم، أو على تضعيفهم جمهور أئمة هذا الشأن فلا يلتفت إلى توثيق من وثقهم توثيقا عاما، وينظر في ذلك إذا كان التوثيق خاصا كتوثيقه في الرواية عن شيخ معين أو روايته لصحيفة معينة، أو ضبطه لحديث بعينه.
القسم الثالث: وهم الرواة المختلف فيهم، وهنا مربط فرس المحققين، ومناخ رواحلهم، وهنا يجب تحرير عبارات الأئمة، ومعرفة مناهجهم في الحكم على الرواة تساهلا وتشددا واعتدالا، ومعرفة سياق كلامهم في الرواي، وقرائن التجريح والتعديل.
ومن ذلك أيضا اختلاف قول الإمام الواحد في الراوي الواحد يوثقه مرة ويطعن فيه أخرى، ويحسن حاله مرة ثالثة، فيتعين معرفة عادة ذلك الإمام أو معرفة آخر أقواله في الراوي أو أضبط الروايات عنه، أو سياق كلامه وغير ذلك من القرائن.
ومما ينبغي أن يعلم في هذا الشأن أنه لا يصح أن يطرح حديث الراوي(41/341)
أو يتوقف فيه، للاختلاف فيه، أو لإطلاق الكلام فيه، وإلا للزم تضعيف آلاف الأحاديث وردها.
ولذا فقد ذهب عدد من المحدثين كأحمد في مسنده، والنسائي في سننه وغيرهما إلى أنه لا يترك حديث الرجل حتى يجمع الجميع على تركه (1) وصرح جمع من العلماء سيأتي ذكرهم إن شاء الله قريبا أن حديث المختلف فيه يعد من الحسن وبتأمل أقوالهم في هذه المسألة نجد أنه لا يصار لهذا الحكم إلا بشروط وهي:
1 - أن لا يكون هناك قرينة قوية ترجح أحد الجانبين أي الجرح والتعديل على الآخر، كأن يكون المعدلون أشهر أو أكثر عددا، أو أن يكون الجرح صادرا من غير عدل متيقظ، أو أن يجرح بما لا يعد جارحا، أو غير ذلك من أسباب الطعن غير المعتبرة المتقدمة.
2 - أن لا يكون للراوي أحاديث تستنكر عليه، وهي التي طعن فيه بسببها فإن هذا يرجح القول بتضعيفه.
قال الذهبي في جزء " من تكلم فيه وهو ثقة " هذا فصل نافع في معرفة ثقات الرواة الذين تكلم فيهم بعض الأئمة بما لا يرد أخبارهم، وفيهم بعض اللين، وغيرهم أتقن منهم وأحفظ، فهؤلاء إن لم يكن حديثهم في أعلى مراتب الصحيح فلا ينزل عن رتبة الحسن، اللهم إلا أن يكون للرجل منهم أحاديث تستنكر عليه، وهي التي تكلم فيه من أجلها (2) .
3 - أن يكون هذا الراوي مشهورا بالصدق أو الستر، وهذا يعني
__________
(1) انظر نخبة الفكر (73) .
(2) من تكلم فيه وهو ثقة (ص 27) .(41/342)
المتهم بالكذب أو فاحش الخطأ لا يكون حديثه حسنا، وإن وثق، إلا أن يكون اتهامه من قبيل التحامل أو من غير متقن أو متعنت.
قال ابن الصلاح: إذا كان الراوي متأخرا عن درجة أهل الحفظ والإتقان غير أنه من المشهورين بالصدق والستر، وروي مع ذلك حديثه من غير وجه فقد اجتمعت له القوة من الجهتين وذلك يرقي حديثه من درجة الحسن إلى درجة الصحيح.
ومثل ابن الصلاح لذلك بمحمد بن عمرو بن علقمة فهو من المشهورين بالصدق والصيانة ولكنه لم يكن من أهل الإتقان حتى ضعفه بعضهم من جهة سوء حفظه، ووثقه بعضهم لصدقه وجلالته قال: فحديثه من هذه الجهة حسن (1) وقال المنذري في مقدمة الترغيب: وقد لا أذكر الراوي المختلف فيه فأقول إذا كان رواة إسناد الحديث ثقات وفيهم من اختلف فيه: إسناده حسن أو مستقيم أو لا بأس به ونحو ذلك حسبما يقتضيه حال الإسناد والمتن وكثرة الشواهد (2) وقال الحافظ ابن حجر: لا يحكم على رواية مختلف في توثيقه بالصحة بل غايته أن يكون حسنا (3) وقد فصل القول في هذه المسألة العلامة المعلمي فقال: إذا اختلفوا في راو فوثقه بعضهم ولينه بعضهم، ولم يأت في حقه تفصيل فالظاهر أنه وسط فيه لين مطلقا، وإذا فصلوا أو أكثروا الكلام في
__________
(1) علوم الحديث (ص11) .
(2) مقدمة الترغيب (ص37) .
(3) الفتح (13 \ 187) .(41/343)
راو فثبتوه في حال، وضعفوه في أخرى فالواجب أن لا يؤخذ حكم ذاك الراوي إجمالا إلا في حديث لم يتبين من أي الضربين هو، فأما إذا تبين فالواجب معاملته بحسب حاله (1) وعلى ذلك فإن من يريد الحكم على الحديث بالتضعيف أو التحسين أو التصحيح لا بد له من جمع ما قيل في الراوي من جرح وتعديل، ثم الموازنة بين الأقوال، والنظر إلى قرائن الترجيح بينها، فإن كان الرواي ممن يوصف بأنه مختلف فيه فإن حديثه يعد من الحسن بالشروط المتقدمة، وإلا فيعطي الحكم الذي ترجح لديه.
ومما يجدر ذكره هنا أنه لا يعد من التوثيق للراوي وصفه بكثرة العبادة من صلاة وصيام وغيره، وكذلك في عدله في ولاية المظالم، أو زهده وتخشنه في العيش، واشتهاره بالصلاح والورع كما ذهب إليه بعض العلماء (2) لأن توثيق الراوي يشمل عدالته، وصدقه، وضبطه وحفظه لما يروي، فذكره بالصلاح والعبادة ونحو ذلك يثبت الأمر الأول، ولا يثبت الثاني، فإن الضبط يعرف بأمور أخرى، بل قد يكون الراوي مبتدعا، أو سيئ الرأي في بعض أمور الدين، لكن يقبل حديثه إذا كان ضابطا لما يروي، غير متهم بكذب، فقد كان ابن خزيمة رحمه الله إذا حدث عن شيخه عباد بن يعقوب الكوفي يقول: حدثنا الثقة في روايته المتهم في رأيه.
__________
(1) التنكيل (2 \ 35) .
(2) انظر تحقيق سنن الترمذي للشيخ أحمد شاكر (2 \ 389) .(41/344)
الراوي المجهول:
جهالة الراوي لا تعني رد حديثه مطلقا فإن الرواة يتفاوتون في ذلك، تبعا لعصورهم، فجهالة الراوي المعدود من كبار التابعين ليست كجهالة(41/344)
الراوي المتأخر عن ذلك كأن يكون من صغارهم أو ممن بعد عصرهم، كما أن الحال يختلف باختلاف من روى عن هذا المجهول هل هو من أهل الإتقان والتحري أولا ويختلف الأمر أيضا بالنسبة لمن روى عنه البخاري ومسلم فإنه لا يوصف بالجهالة إذا كان ممن تلقي حديثه بالقبول.
قال الذهبي: وأما المجهولون من الرواة فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احتمل حديثه، ويتلقى بحسن الظن إذا سلم من مخالفته الأصول، وركاكة الألفاظ.
وإن كان الرجل منهم من صغار التابعين فيتأنى في رواية خبره، ويختلف ذلك باختلاف جلالة الراوي عنه، وتحريه، وعدم ذلك.
وإن كان المجهول من أتباع التابعين فمن بعدهم فهو أضعف لخبره سيما إذا انفرد به (1) قلت: وهذا هو مذهب الكثير من المحدثين.
قال المعلمي: وكذلك ابن سعد وابن معين والنسائي وآخرون غيرهم يوثقون من كان من التابعين أو أتباعهم إذا وجدوا رواية أحدهم مستقيمة بأن يكون له فيما يروى متابع أو شاهد (2) وقال ابن حجر: لا يضعف بالجهالة من روى عنه البخاري (3) وقال السخاوي: بل صرح بعضهم باستلزام القول بالقطع بصحة ما لم ينتقد من أحاديثهما القطع بعدالة رواتهما يعني فيما لم ينتقد (4) وعليه فليس كل إسناد يقال في أحد رواته مجهول فهو إسناد ضعيف
__________
(1) ديوان الضعفاء (374) .
(2) التنكيل (1 \ 69) .
(3) الفتح (11 \ 341) .
(4) فتح المغيث، (1 \ 300) وقد تقدم عند الكلام على تضعيف المتأخرين.(41/345)
ولا كل راو يوصف بالجهالة يعد ضعيف الحديث، فضلا عن عدم قبول حديثه بحال.(41/346)
تصحيح الحديث إذا جمع سنده شروط الصحة:
ذهب جماعة من المحدثين والفقهاء إلى أن الحديث يحكم عليه بالصحة إذا اتصل سنده بنقل العدل الضابط، ثم إن ظهر بعد ذلك شذوذ أو علة تغير الحكم عليه تبعا لذلك.
وهذا مذهب غريب ضعيف فمن المعلوم أن الحكم على الحديث لا يتأتى إلا بدراسة سنده ومتنه وتوفر شروط الصحة فيهما- فكيف يحكم له بالصحة لصحة سنده دون التأكد من خلو متنه من علة أو شذوذه.
ويحسن التنبيه إلى أن بعض المتأخرين قد يغتر بتصحيح بعض المحدثين ممن يرى هذا الرأي فيحتج بذلك، فيرد به على من يذهب إلى تضعيفه.
قال السخاوي: وأما من لم يتوقف من المحدثين والفقهاء في تسمية ما يجمع شروط الصحة الثلاثة- أي في سنده- صحيحا، ثم إن ظهر شذوذ أو علة رده، فشاذ، وهو استرواح حيث يحكم على الحديث بالصحة قبل الإمعان في الفحص، وتتبع طرقه التي يعلم بها الشذوذ أو العلة نفيا وإثباتا، فضلا من أحاديث الباب كله التي ربما احتيج إليها في ذلك.
قال: وكذا لا ينبغي الحكم بالانقطاع، ولا بجهالة الراوي المبهم بمجرد الوقوف على طريق، كذلك لا بد من الإمعان في التفتيش لئلا يكون متصلا ومعينا في طريق آخر، فيعطل بحكمه الاستدلال به (1)
__________
(1) انظر فتح المغيث (1 \ 3) .(41/346)
التصحيح والتضعيف العقلي:
إذا تأملنا بعض ردود الصحابة ومناقشاتهم، واستدراك بعضهم على بعض فإننا نرتضي القول بأن (الصحابة فسحوا الطريق للعقل، للنظر في الحديث، ولكن هذا النظر لم يكن نظرا عقليا مجردا، بل كان مستندا إلى اعتبار الأصول والأحكام الثابتة بالأدلة القاطعة) (1) وكانوا ينكرون أشد الإنكار على من يرد الحديث دون استناد إلى الأصول والقواعد الثابتة أو لمجرد مخالفته لعقله ورأيه (2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (لا يعلم حديث واحد يخالف العقل، أو السمع الصحيح، إلا وهو عند أهل العلم ضعيف، بل موضوع، بل لا يعلم حديث صحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأمر والنهي أجمع المسلمون على تركه إلا أن يكون له حديث صحيح يدل على أنه منسوخ.
قال: والنصوص الثابتة في الكتاب والسنة لا يعارضها معقول بين قط، ولا يعارضها إلا ما فيه اشتباه واضطراب (3) إن دور العقل يجب أن يكون في تأصيل القواعد العلمية الصحيحة للنقد والجرح والتعديل، والترجيح والتعليل والحكم على الراوي، وغير ذلك.
فإذا ثبت الحديث بحسب القواعد العلمية، ونقله إلينا العدل الضابط، وليس في سنده أو متنه ما يخالف أصلا ثابتا، فليس لأحد رده لمظنة احتمال الخطأ على راويه، أو لظن مخالفته للعقل (4) .
__________
(1) انظر مقاييس نقد السنة د. مسفر الدميني (ص 261) .
(2) انظر مقاييس نقد السنة د. مسفر الدميني (ص 261) .
(3) وانظر للأمثلة على ذلك المصدر نفسه (ص55- 60) ، الإجابة لما استدركته عائشة على الصحابة للزركشي.
(4) درء تعارص العقل والنقل (1 \ 124، 126) .(41/347)
قال الشيخ المعلمي رحمه الله: ولقد راعى المحدثون العقل في أربعة مواطن:
1 - عند السماع.
2 - عند التحديث.
3 - عند الحكم على الرواة.
4 - عند الحكم على الحديث. وبسط ذلك بسطا شافيا في أنواره الكاشفة (1) ثم إن أصحاب هذا الاتجاه من العقلانيين لم يتفقوا على قاعدة واحدة في هذه المسألة، ومن تأمل آراءهم، واتجاهاتهم وجد تخبطا واضطرابا عند متقدميهم ومتأخريهم من المتكلمين أو من المستشرقين أو من لف لفهم في ذلك.
فأي قاعدة يرجع إليها في تصحيح الحديث أو تضعيفه، أم أن عقل كل واحد منهم يجعله هو القاعدة في ذلك؟! .
__________
(1) الأنوار الكاشفة ص 6 وما بعدها.(41/348)
التصحيح والتضعيف بالكشف:
ذهب بعض المتصوفة إلى الاعتماد على المعرفة القلبية، والعلم الباطن في التمييز بين الحق والباطل وتصحيح الحديث، أو الحكم عليه بالضعف أو بالوضع.
يقول ابن عربي: رب حديث يكون صحيحا من طريق رواته يحصل لهذا المكاشف أنه غير صحيح لسؤاله (للرسول) -صلى الله عليه وسلم- فيعلم وضعه ويترك العمل به، وإن عمل به أهل النقل لصحة طريقه، ورب حديث ترك العمل(41/348)
به لضعف طريقه من أجل وضاع في رواته يكون صحيحا في نفس الأمر لسماع المكاشف له من (الروح) حين إلقائه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (1) .
معنى الكشف عندهم:
وقد عرف أهل التصوف الكشف بأنه: (الإطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية وجودا وشهودا) . أو (العلم الباطن المتفجر من داخل القلب) . أو (إدراك الأمور بنور إلهي لا بالسماع) (2) ولا يخفى بطلان هذا المسلك، فهو قول محدث لم يعرفه سلف الأمة، وفيه إبطال لقواعد الجرح والتعديل، وهدم لمنهج المحدثين، فوق أن الكشف مضطرب لا قاعدة له ولا انضباط.
قال ابن القيم رحمه الله: ومن أحالك على غير (أخبرنا) و (حدثنا) فقد أحالك إما على خيال صوفي، أو قياس فلسفي، أو رأي نفسي فليس بعد القرآن وأخبرنا إلا الشبهات، ومن فارق الدليل ضل عن سواء السبيل (3) .
__________
(1) انظر: كشف الخفاء (1 \ 10) ، كشف المخبوء (ص 54) .
(2) معجم المصطلحات الصوفية (ص 225) ، إحياء علوم الدين (1 \ 19، 104) .
(3) انظر: تهذيب مدارج السالكين (ص 484) ، درء تعارض العقل والنقل (5 \ 353) ، قطف الثمر (ص 105) .(41/349)
الحديث الضعيف المتلقي بالقبول:
مما اشتهر عند بعض العلماء أن الحديث الضعيف الذي لا يعرف له إسناد ثابت إذا تلقاه العلماء بالقبول فإنه يعمل به، ويقوى من أجل هذا التلقي.(41/349)
وقد نظرت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فتبين لي فيها ما يلي:
1 - أن القول بأن العلماء تلقوه بالقبول، المقصود به جمهور العلماء فلا يعد إجماعا.
2 - أن أكثر الأحاديث التي وصفت بهذا الوصف مختلف في تصحيحها وتضعيفها.
3 - أن تلقي معنى الحديث بالقبول لا يلزم منه تصحيح الحديث.
4 - أن هذه الطريقة لا تعرف لتصحيح الحديث عند المحدثين، فلا تعتمد لتصحيح إسناد الحديث، والاحتجاج به على قواعد المحدثين ومنهجهم.(41/350)
تصحيح الحديث لموافقته الأصول وتضعيفه لمخالفته لها:
أما تصحيح الحديث لموافقته للأصول فقد تقرر أن من قواعد المحدثين أن الحديث يتقوى إذا تأيد بظاهر القرآن أو موافقة شاهد صحيح له، وهذا إذا كان الحديث مما يتقوى مثله فإنه لا يصحح ولا يحسن بهذا التأييد.
ودعوى معارضة الحديث للأصول دعوى عريضة يدعيها المتسرعون إلى إسقاط الحديث أو الحكم بضعفه لتوهم معارضته للأصول، وما ذكروه من أمثلة يصلح أن يكون برهانا عاد هذا التسرع وسوء الفهم للحديث.
قال ابن القيم رحمه الله في رد الدعوى بمخالفة حديث المصراة للأصول: والحديث موافق لأصول الشريعة وقواعدها، وإن خالفها لكان أصلا بنفسه، كما أن غيره أصل بنفسه، وأصول الشرع لا يضرب بعضها ببعض، بل يجب اتباعها كلها، ويقر كل منها على أصله، وموضعه، فإنها كلها من عند الله الذي أتقن شرعه وخلقه (1) .
__________
(1) إعلام الموقعين (2 \ 38) .(41/350)
ولسنا ننكر على المؤهل علما ودينا أن يعمل عقله عند توهم التعارض، ويرجح ما يغلب على ظنه ترجيحه وفق القواعد العلمية، ولكننا ننكر أشد الإنكار إطلاق القول برد السنة الصحيحة الثابتة بنقل العدول بحجة كونها آحادا، أو بحجة معارضتها للقرآن الكريم أو السنة المتواترة حتى يصبح ذلك أصلا مسلما يسارع إليه المؤهل وغير المؤهل.
ومن نظر في صناعة هؤلاء القوم، وتأمل ما أوردوه من أمثلة مزعومة على التعارض وجد خبطا وخلطا كثيرا، وأدرك تجنيا على الحق ملبسا ثوب المنهج العلمي، والموضوعية، وتحري الإنصاف.
وإنما هم يحكمون في الحقيقة بوهم الثقات الضابطين بل يتهمونهم في نقلهم، بل أكثر من ذلك هم يحكمون على جماهير ومحدثي الأمة وعلمائها بالجهل والغباء، حيث قبلوا هذه الأحاديث دون فقه أو نظر في متونها ليتبينوا ما تبين هؤلاء.(41/351)
عرض الحديث على القرآن:
ومما جعل سببا لرد الحديث عند البعض أن المحدثين كانوا أو جلهم- زعموا- رواة نقله، لم يعتنوا بفقه الحديث، ولم يهتموا بتحقيق معناه، وإنما كانت همتهم منصرفة لبيان الأسانيد، وأحوال الرواة، وصيغ الأداء، وربما استدلوا لما زعموا بحديث: (ما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فلم أقله) .
والجواب على هذا من وجوه:
1 - هذا الحديث موضوع على النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يصح أن ينسب إليه، فقد وضعه أبو جعفر المدائني عبد الله بن المسور، وكان كذابا يضع الحديث(41/351)
على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وله طرق أخرى كلها ضعيفة وقد أنكره الأئمة ابن معين، والشافعي، وابن حزم، وابن تيمية وغيرهم.
2 - أما من حيث المتن فهو مردود من وجهين:
الأول: هو كما قال البيهقي رحمه الله ينعكس على نفسه بالبطلان، فليس في القرآن دلالة على عرض الحديث على القرآن (1) .
الثاني: أنه صح خلافه كما قال الفيروز آبادي يرحمه الله، وهو حديث: «ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه (2) »
وهذا الحديث يلقم حجرا كل من حاول الدس والطعن في السنة الصحيحة أو حاول أن يفتعل التعارض بينها وبين ظاهر القرآن، ولله الحمد كله.
__________
(1) مفتاح الجنة (10) .
(2) انظر التنكيت والإفادة (192) ، والحديث أخرجه أحمد (4 \ 131) ، وأبو داود (4 \ 279) بإسناد صحيح.(41/352)
تضعيف الحديث لمخالفته للأمور الطبيعية والعلمية:
من المعلوم أنه لا تعارض بين حقيقة جاء الشارع بها سواء أكان ثبوتها بآية من كتاب الله، أم بحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وبين حقيقة علمية أو طبيعية ثابتة لا يتطرق إليها احتمال الخطأ لكن يأبى بعض مرضى القلوب إلا أن يفتعل التعارض بين الحديث، وبين بعض الفروض أو النظريات والآراء العلمية، أو الكشوف الطبية.
ويشغبون لذلك برد أحاديث ثابتة لا يتطرق أدنى احتمال، لصحتها مما(41/352)
اتفق عليه الشيخان وتلقته الأمة بالقبول، ويسخرون من الأئمة العدول الضابطين، جبال العلم والحفظ، وجهابذة النقد.
فالحديث إذا ثبت عندنا وصح بحسب القواعد العلمية المؤصلة، فلا قدر عندنا بعد ذلك لتجربة أو تحليل مختبري، أو غيره، فإننا على يقين أن ما لم يتأهل له الأطباء اليوم فقد يتأهلون له غدا، وليس هناك عامل يجزم أن عصرنا هذا أو أطباءنا وخبراءنا اليوم هم نهاية مطاف الدنيا في البحوث والمكتشفات العلمية والتجارب الطبية، فما من يوم يبزغ شجره إلا ويكشف لنا عن جهلنا في يوم غربت شمسه، ولله تعالى في خلقه شئون، وفوق كل ذي علم عليم.(41/353)
تضعيف الحديث لمخالفته للواقع الاجتماعي، والظروف الاجتماعية والنفسية:
زعم بعض الباحثين إهمال المحدثين لدراسة الواقع الاجتماعي والنفسي والسياسي للراوي، وأثر ذلك على الرواية، ولم يدرسوا- بزعمه- كثيرا بيئة الرواي الشخصية وما قد يحمله على الوضع (1) .
إن من يعلم واقع المحدثين ويطلع على دقة منهجهم في تمحيص الروايات، وتتبع أحوال الراوي وظروف الرواية، ومعرفة كشف دقيق وجليل، ومدخل الرواة ومخرجهم، وتلاميذهم وشيوخهم، وسيرتهم الخاصة والعامة، ورحلاتهم، وضبطهم، ووهمهم، وما خالفوا فيه حتى إنهم أسقطوا رواية الراوي إذا هم أن يكذب في الحديث ولو هما) (2) .
كل من يعلم ذلك ولو بإلقاء نظرة على كتب الرجال يدرك أن الزعم المتقدم محض افتراء على المحدثين مع خلوه من الأمانة والموضوعية.
__________
(1) ضحى الإسلام (2 \ 130) .
(2) الضعفاء والمجروحون، ابن حبان (1 \ 21) .(41/353)
قال شيخنا محمد أبو شهبة رحمه الله في رده على أبي رية: وما يتراءى لبعض الناس أنه مخالف الكونية- من الأحاديث- قد لا يكون مخالفا عند التحقيق والتدقيق، وما يعتبره البعض مخالفا للقطعي أو للحسي قد لا يعتبره الآخر كذلك، فمن ثم دخلت المغالط الكثيرة على المؤلف وغيره ممن عرضوا لنقد الحديث، وذلك لأنهم جعلوا غايتهم التزييف والهدم، فمن ثم تلمسوا أوهى الأسباب، وركبوا كل صعب في سبيل إظهار بعض الأحاديث بمظهر المخالف لما ذكر (1)
__________
(1) دفاع عن السنة (ص 196- 197) .(41/354)
تضعيف الحديث لكونه لم يروه أصحاب الكتب المعتمدة:
إذا لم يرد الحديث في كتب السنة المعتمدة، ولم يروه أحد من أصحاب المصنفات الحديثية المشهورة المعروفة، فهل يحكم لذلك على الحديث بالضعف، وذلك بأن يروى في جزء من الأجزاء، أو الفوائد أو الأمالي أو المجالس، أو المشيخات أو غيرها من المصنفات، ولم يخرج في شيء من الكتب المعتمدة.
ونعني بكون الكتاب معتمدا أن يكون من كتب الحديث ويجمع بين صفتي التقدم والشهرة، أي التداول في أوساط العلماء، ويكون معروفا مشهورا لديهم، متقدما في التصنيف، لا شك أن الحديث إذا كان مما يحتاج إلى مثله ولم يعرف لدى المصنفين المشهورين الذين قاموا بجمع الأحاديث وتصنيفها، أو يكون معروفا لكن يعرضون عن إخراجه، فإنه مما يغلب على الظن عدم صحته، إذ لو كان صحيحا لعرفه وخرجه بعض هؤلاء الحفاظ المتقدمين.(41/354)
قال ابن الجوزي: (الموضوعات 1 \ 99) : فمتى رأيت الحديث خارجا عن دواوين الإسلام كالموطأ، ومسند أحمد، والصحيحين، وسنن أبي داود ونحوها فانظر فيه فإن كان له نظير من الصحاح والحسان قرب أمره، وإن ارتبت فيه ورأيته يباين الأصول فتأمل رجال إسناده. .
إلخ.
قال الزيلعي: يكفينا في تضعيف أحاديث الجهر بالبسملة إعراض أصحاب الجوامع الصحيحة، والسنن المعروفة، والمسانيد المشهورة المعتمدة عليها في حجج العلم ومسائل الدين عنه.
وقال صاحب "التنقيح " كيف يكون هذا الحديث- أي حديث رخصة الحجامة للصائم- صحيحا، سالما من الشذوذ والعلة، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ولا هو في المصنفات المشهورة، ولا في السنن المأثورة، ولا في المسانيد المعروفة، وهم يحتاجون إليه أشد احتياج (1) .
وقد كثر هذا في كلام العلماء كابن تيمية، وابن عبد الهادي، وغيرهما (2) قال ابن جماعة: مع غلبة الظن أنه لو صح لما أهمله أئمة الأعصار المتقدمة لشدة فحصهم واجتهادهم (3) .
ولا عبرة هنا بالأحاديث المنقولة في كتب الفقه المبسوطة، أو كتب التاريخ والتصوف ونحوها ما لم يظهر سندها، أو يعلم اعتماد أرباب الحديث
__________
(1) نصب الراية (1 \ 355، 356) ، (2 \ 480) ، تحقيق الغاية (55) .
(2) انظر مثلا منهاج السنة (4 \ 286، 483، 495، 561) ، الصارم المنكي (31، 40) .
(3) المنهل الروي.(41/355)
عليها، وإن كان مصنفها فقيها جليلا يعتمد عليه في نقل الأحكام، وعلم الحلال والحرام (1)
__________
(1) انظر الأجوبة الفاضلة (29) ، قواعد التحديث (179، 182) .(41/356)
تصحيح الحديث المضطرب إذا لم يكن له مخالف:
الحديث المضطرب: هو الذي تختلف الرواية فيه فيروى على أكثر من وجه يخالف بعضها بعضا وتكون متساوية في القوة، وقد يكون الراوي نفسه هو الذي روى هذه الوجوه، وقد يرويه بعض الرواة على وجه، وبعضهم على وجه آخر.
وإنما يحكم بضعف الحديث المضطرب، لأنه دال على عدم ضبط الراوي أو الإخلال بضبطه.
ولا يتحقق الاضطراب إلا بأن تتساوى الوجوه المتعارضة في القوة أما إذا ترجحت إحداها بحيث لا تقاومها الأخرى فالحكم للراجحة، ولا اضطراب حينئذ في الحديث.
وقال ابن التركماني: إذا أقام ثقة إسنادا اعتمد ولم يبال بالاختلاف (1) قال الخلال في جامعه في حديث ابن عباس في كفارة وطء الحائض قال: كأنه يعني الإمام أحمد - أحب أن لا يترك الحديث وإن كان مضطربا لأن مذهبه في الأحاديث إذا كانت مضطربة ولم يكن لها مخالف قال بها (2) وإذا فلا تنافي بين الصحة والاضطراب في الرواية دائما فقد تجتمعان،
__________
(1) الجوهر النقي (1 \ 143) .
(2) الآداب الشرعية (2 \ 306) .(41/356)
وقد يوصف المضطرب بالصحة أو بالحسن، وذلك بأن يقع الاختلاف في اسم رجل واحد وأبيه ونسبته ونحو ذلك، ويكون ثقة، فيحكم للحديث بالصحة ولا يضر الاختلاف فيما ذكر مع تسميته مضطربا، بل جزم بعض العلماء كالزركشي بذلك أيضا في المقلوب والشاذ بأن يدخل القلب والشذوذ والاضطراب في قسم الصحيح والحسن (1)
__________
(1) انظر تدريب الراوي (173) ، قواعد في علوم الحديث (166) .(41/357)
ما سكت عنه أبو داود:
قال أبو داود في بيان حال الأحاديث التي اشتمل عليها كتابه: ما كان في كتابي من حديث فيه وهن شديد فقد بينته.
وما لم أذكر فيه شيئا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض (1) وقد اختلفت في مقصود أبي داود من كلمة " صالح " هل تعني أنه صالح للاحتجاج، أو صالح للاعتبار، أو حديث حسن.
قال ابن الصلاح بعد ذكره كلام أبي داود المتقدم: فعلى هذا ما وجدناه في كتابه مذكورا مطلقا، وليس في واحد من الصحيحين ولا نص على صحته أحد ممن يميز بين الصحيح والحسن عرفنا بأنه من الحسن عند أبي داود، وقد يكون في ذلك ما ليس بحسن عنده، ولا مندرج فيما حققنا ضبط الحسن به.
وقال ابن منده: وكذلك أبو داود السجستاني يأخذ مأخذه- أي مأخذ النسائي - ويخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب وغيره، لأنه أقوى عنده من رأي الرجال (2) .
__________
(1) رسالة أبي داود لأهل مكة ص (27) .
(2) المقدمة (18) ، الحطة في ذكر الصحاح الستة (213) .(41/357)
وقسم الحافظ ابن حجر ما سكت عليه أبو داود إلى أربعة أقسام:
1 - ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة.
2 - ما هو من قبيل الحسن لذاته.
3 - ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد.
4 - ما هو ضعيف لكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالبا. وكل هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج (1) وقال ابن عبد البر: كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيح عنده لا سيما إن كان لم يذكر في الباب غيره (2) قال العراقي: إن كان أبو داود يرى الحسن رتبة بين الصحيح والضعيف فالاحتياط بل الصواب ما قاله ابن الصلاح، وإن كان رأيه كالمتقدمين أن الحديث ينقسم إلى صحيح وضعيف، فما سكت عنه فهو صحيح، والاحتياط أن يقال فهو صالح كما عبر أبو داود. قال: وهكذا رأيت الحافظ أبا عبد الله بن المواق (3) .
يفعل في كتابه (بغية النقاد) يقول في الحديث الذي سكت عليه أبو داود: هذا حديث صالح (4) .
فالخلاصة: أن ما سكت عليه أبو داود في سننه ليس نوعا واحدا ولا يحكم عليه بحكم واحد، فمنه ما هو صحيح، ومنه ما هو حسن، ومنه ما هو ضعيف هذا من حيث الواقع، أما عند أبي داود فما سكت عنه يعني أنه صالح للاحتجاج عنده، ولا يخفى أنه ليس كله على درجة واحدة.
__________
(1) النكت (1 \ 435) .
(2) المصدر نفسه.
(3) محمد بن يحيى المواق (م 721هـ) .
(4) التقييد والإيضاح (53) .(41/358)
تصحيح الحديث أو تضعيفه للحب والبغض:
وهذا لون من ألوان التعصب الأعمى، وضرب من ضروب الهوى لا يستند إلى دليل، ولا يتحام إلى حق، وإنما هو محض الهوى.
وهو منهج يتبعه الرافضة وغيرهم من الطوائف الزائغة عن الحق، فما وافق من ذلك هواهم، ونصر بدعتهم صححوه وإن كان بأوهى الأسانيد، وما خالفهم ضعفوه وإن كان بأصح الأسانيد.
وهؤلاء الرافضة من أجهل الناس بالسنة، وأبعدهم عن معرفة صحيحها من سقيمها، وهم كما وصفهم ابن تيمية رحمه الله: " وأما الحديث فهم من أبعد الناس عن معرفته، لا إسناده، ولا متنه، ولا يعرفون الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأحواله، ولهذا إذا نقلوا شيئا من الحديث كانوا من أجهل الناس به، وأي كتاب وجدوا فيه ما يوافق هواهم نقلوه من غير معرفة بالحديث " (1) ولسنا نتجنى عليهم، فهذه أحاديث البخاري ومسلم التي تلقتها الأمة بالقبول، وسلم بصحتها ألوف المحدثين جيلا بعد جيل، قد رموها بالكذب وحكموا عليها بالوضع والتلفيق إلا بعض الأحاديث التي توافق ما عندهم من هوى.
وقد صححوا آلاف الأحاديث الواهية والمنقطعة، التي لا يقوم لها إسناد، ولا يعرف لها أصل، وما ذلك إلا لغلبة الهوى، واستحكام العمى، والبغض المقيت الذي يملأ قلوبهم على السنة وأهلها، وحملتها الذابين عنها.
قال العلامة محب الدين الخطيب في بيان موقف الشيعة من الحديث:
__________
(1) منهاج السنة (3 \ 246) .(41/359)
" لا يعتمدون إلا الأحاديث المنسوبة لآل بيت الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وبعض الأحاديث لمن كانوا مع علي -رضي الله عنه- في معاركه السياسية.
ويرفضون ما سوى ذلك.
ولا يهتمون بصحة السند، ولا الأسلوب العلمي فكثيرا ما يقولون مثلا: " عن محمد بن إسماعيل، عن بعض أصحابنا، عن رجل، عنه أنه قال " وكتبهم مليئة بعشرات الآلاف من الأحاديث التي لا يمكن إثبات صحتها، وقد بنوا عليها دينهم.
وبذلك أنكروا أكثر من ثلاثة أرباع السنة النبوية، وهذه من أهم نقط الخلاف بينهم، وبين سائر المسلمين (1) وقال الدكتور موسى الموسوي: ولا أعتقد أن زعيما دينيا واحدا من زعماء المذهب الشيعي قديما وحديثا قد قام بغربلة الكتب الشيعية من الروايات التي تنسب زورا إلى الأئمة في تجريح الخلفاء، وغيرها من الروايات التي يحكم العقل السليم ببطلانها، وعدم صدورها من الإمام مع أن علماء المذهب كلهم مجمعون أيضا بأن الكتب التي يعتمدون عليها في الشئون المتعلقة بالمذهب فيها روايات باطلة غير صحيحة، وهم يذعنون بأن هذه الكتب تجمع بين طياتها الصدف والخزف والصحيح والسقيم، ومع ذلك لم يسلك هؤلاء الزعماء طريق إصلاح مثل هذه الروايات.
فإذا كانت زعاماتنا الشيعية تتصفح بالشجاعة وتؤمن بالمسئولية الملقاة على عاتقها في رفع الخلاف لتحملت مسئولية الخلاف بكاملها، ولعملت على إزالة مثل هذه الروايات من بطون الكتب، وعقول الشيعة، ولفتحت صفحة جديدة، ولعم الخير على جميع المسلمين (2)
__________
(1) الخطوط العريضة (ص49) .
(2) الشيعة والتصحيح (ص 58) .(41/360)
تضعيف الحديث لمخالفته للقياس الجلي:
إذا خالف الحديث القياس فلا يجوز أن يرد الخبر، أو يضعف أو يترك العمل به؛ لأننا مأمورون بالرجوع إلى الكتاب والسنة، والتحاكم إليهما.
وقد ذهب بعض أهل الرأي إلى أن ما وافق القياس الجلي يجوز أن يعزى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو كان لا سند له (1) .
وذهب بعض المالكية إلى عدم جواز العمل بالخبر إذا كان القياس مخالفا له.
قال الخطيب: وأما إذا ورد مخالفا للقياس أو انفرد الواحد برواية، ما تعم به البلوى لم يرد، وقال قوم ممن ينتحل مذهب مالك بن أنس إذا كان مخالفا للقياس لم يجز العمل به، والقياس مقدم عليه (2) .
واختار ابن الحاجب أن العلة إن كانت ثابتة بنص راجح على الخبر، سواء كان ذلك النص قطعيا أو ظنيا ووجودها في الفرع قطعيا فالقياس مقدم.
وإن كان وجود العلة في الفرع ظنيا فالتوقف، وإن لم تكن العلة ثابتة بنص راجح على الخبر فالخبر مقدم (3) .
وقد أوضح الخطيب وجوب تقديم الخبر.
على القياس بأمور ملخصها كما يأتي:
1 - حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يثبت بنفسه لا بعمل غيره بعده.
__________
(1) انظر توجيه النظر (ص 75) .
(2) الفقيه والمتفقه (1 \ 133) .
(3) المختصر (1 \ 752) .(41/361)
2 - الخبر يدل على قصد صاحب الشريعة بصريحه، والقياس يدل على ذلك بالاستدلال، والتصريح أقوى فوجب أن يكون التقديم أولى.
3 - القياس يفتقر إلى الاجتهاد في موضعين:
إحداهما: ثبوت العلة في الأصل.
والثاني: الحكم في الفرع، لأن من الناس من قال إذا ثبتت العلة في الأصل لا يجب الحكم بها في الفرع إلا أن يحصل الأمر بالقياس.
والاجتهاد في خبر الواحد إنما هو في ثبوت صدق الراوي، فإذا ثبت صدقه من طريق يوجب الظن لزم المصير إلى خبره، ولم يبق موضع آخر يحتاج إلى الاجتهاد فيه.
4 - ثبوت صدق الراوي في الظاهر أجلى من طريق ثبوت العلة (1) .
وهذا هو الذي يتعين القول به، وأن الحديث إذا ثبت بحسب قواعد المحدثين المعروفة فلا محيد عن تصحيحه، ووجوب العمل به.
قال الشافعي رحمه الله: لا يحل القياس والخبر موجود (2) .
قال الشيخ ناصر الدين الألباني: إن رد الحديث الصحيح لقياس أو غيره من القواعد مثل رده بمخالفة أهل المدينة له، لهو مخالفة صريحة لتلك الآيات والأحاديث القاضية بوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف والتنازع.
ومما لا شك فيه عند أهل العلم أن رد الحديث لمثل ما ذكرنا من القواعد ليس مما اتفق عليه أهل العلم كلهم، بل إن جماهير العلماء يخالفون تلك القواعد ويقدمون.
عليها الحديث الصحيح اتباعا للكتاب والسنة (3) .
__________
(1) الفقيه والمتفقه (1 \ 136) .
(2) الرسالة (ص 423) .
(3) الحديث حجة بنفسه (ص15- 17) .(41/362)
وكيف نكون مأمورين عند التنازع والاختلاف بالرجوع إلى أمر متنازع فيه، غير متفق عليه؟ وكذلك إذا وافق الحديث الضعيف أو ما لا أصل له القياس فإنه لا يحكم بصحته لموافقته القياس.(41/363)
تضعيف الحديث إذا وقع واحدا فيما تعم به البلوى:
قال ابن الحاجب في مختصره: خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول عند الأكثر خلافا لبعض الحنفية.
وقال شارحه شمس الدين الأصفهاني (م 749 هـ) : إذا وقع خبر الواحد فيما تعم به البلوى أي فيما يحتاج إليه عموم الناس من غير أن يكون مخصوصا بواحد دون آخر فهو مقبول عند الأكثر خلافا لبعض الحنفية، وحجة الأكثر أن الأئمة أجمعوا على قبول خبر الواحد في تفاصيل الصلاة.
وأيضا جاز قبول القياس فيما تعم به البلوى، والقياس أضعف من خبر الواحد (1) وأما القول بأنه إذا عمت البلوى كثر السؤال، وإذا كثر السؤال كثر الجواب، ويكون النقل على حسب البيان، فإذا نقل خاصا علم أنه لا أصل له.
فالجواب عنه من وجوه:
1 - لا يجب أن. يكون النقل على حسب البيان، لأن الصحابة كانت دواعيهم مختلفة وكان بعضهم لا يرى الرواية، ويؤثر عليها الاشتغال بالجهاد.
__________
(1) المختصر (1 \ 746- 748) .(41/363)
قال السائب بن يزيد: صحبت سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة فلم أسمعه يروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثا، وروي: إلا حديثا، حتى رجع (1) .
2 - يجوز أن يتعبد الله تعالى فيما تعم به البلوى بالظن، ورجوع العامة إلى اجتهاد أهل العلم، فيلقى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحكم إلقاء خاصا فلا يظهر، ويكون من بلغه خبره يلزمه حكمه، ومن لم يبلغه خبره يكون مأمورا بالاجتهاد (2) ومن ذلك لو تفرد صحابي برواية حديث فإن عدم رواية الصحابة له لا يطعن في صحته، ولو كان مما يحتاج إلى نقله.
وكذلك فإن خبر الواحد مقبول في الحدود خلافا لمن منعه.
وكذا إذا عمل أكثر الأمة بخلاف خبر الواحد، فالعمل بخبر الواحد لا بعمل أكثر الأمة، لما علم أن قول الأكثر لا يكون حجة فضلا عن أن يكون راجحا على خبر الواحد انظر (3) .
وكما لا يعد عمل أكثر الأمة بخلاف الحديث تضعيفا له، لا يعد عملهم وفقا للحديث تصحيحا له.
وكذلك إذا روى الصحابي حديثا وعمل بخلافه، فإنه ينبغي الأخذ بروايته وترك ما روي عنه من فعل أو فتيا، لأن الواجب علينا قبول نقله وروايته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا قبول رأيه.
ولا يعد هذا تضعيفا للحديث، ولا يصح أن ترد به رواية الثقات الإثبات.
__________
(1) الفقيه والمتفقه (1 \ 137) .
(2) انظر الفقيه والمتفقه (1 \ 138) .
(3) المختصر لابن الحاجب (1 \ 752) .(41/364)
هذا ما وفق الله تعالى إليه من قواعد متعلقة بالتصحيح والتضعيف، وبعض هذه القواعد اختصرتها وهي مما يحتمل البسط والإسهاب وذلك رغبة في الإيجاز وعدم الإطالة.
والله تعالى أسأل أن يجعله من خالص العمل، ونافع العلم والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(41/365)
صفحة فارغة(41/366)
زيارة قبور الأولياء
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
ما حكم من يزور القبور ثم يقرأ الفاتحة، وخاصة على قبور الأولياء كما يسمونهم في بعض البلاد بالرغم أن بعضهم يقول لا أريد الشرك ولكن إذا لم أقم بزيارة هذا الولي فإنه يأتي إلي في المنام ويقول لي لماذا لم تزرني، فما حكم ذلك جزاكم الله خيرا؟ .
يسن للرجال من المسلمين زيارة القبور كما شرعه الله سبحانه لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
وروى مسلم في صحيحه أيضا عن بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- قال: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. نسأل الله لنا ولكم العافية (2) »
وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنه «كان إذا زار القبور يقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد (3) »
ولم يكن حال الزيارة عليه الصلاة والسلام يقرأ سورة الفاتحة ولا غيرها من القرآن فقراءتها وقت الزيارة بدعة، وهكذا قراءة غيرها من القرآن، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » .
متفق على صحته، وفي رواية مسلم رحمه الله يقول -صلى الله عليه وسلم-: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5) » .
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (975) ، سنن النسائي الجنائز (2040) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1547) ، مسند أحمد بن حنبل (5/353) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (974) ، سنن النسائي الجنائز (2039) ، مسند أحمد بن حنبل (6/111) .
(4) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(5) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(41/367)
رضي الله عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «أنه كان يقول في خطبته يوم الجمعة: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (1) » وأخرجه النسائي وزاد: «وكل ضلالة في النار (2) » .
فالواجب على المسلمين التقيد بالشرع المطهر والحذر من البدع في زيارة القبور وغيرها.
والزيارة مشروعة لقبور المسلمين جميعا سواء سموا أولياء أم لم يسموا أولياء.
وكل مؤمن وكل مؤمنة من أولياء الله كما قال الله عز وجل: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (4) .
وقال سبحانه في سورة الأنفال: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (5) ولا يجوز للزائر ولا لغيره دعاء الأموات أو الاستغاثة بهم أو النذر لهم أو الذبح لهم عند قبورهم أو في أي مكان يتقرب بذلك إليهم ليشفعوا له أو يشفوا مريضه أو ينصروه على عدوه أو لغير ذلك من الحاجات، لأن هذه الأمور من العبادة.
والعبادة كلها لله وحده كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (6) وقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (7) .
وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (8) .
وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (9) .
والمعنى أمر ووصى، وقال عز وجل: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (10) .
وقال عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (11) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (12) .
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(3) سورة يونس الآية 62
(4) سورة يونس الآية 63
(5) سورة الأنفال الآية 34
(6) سورة البينة الآية 5
(7) سورة الذاريات الآية 56
(8) سورة الجن الآية 18
(9) سورة الإسراء الآية 23
(10) سورة غافر الآية 14
(11) سورة الأنعام الآية 162
(12) سورة الأنعام الآية 163(41/368)
والآيات في هذا المعنى كثيرة وصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (1) » متفق على صحته من حديث معاذ رضي الله عنه.
وهذا يشمل جميع العبادات من صلاة وصوم وركوع وسجود وحج ودعاء وذبح ونذر وغير ذلك من أنواع العبادة كما أن الآيات السابقات تشمل ذلك كله وفي صحيح مسلم عن علي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لعن الله من ذبح لغير الله (2) » .
وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله (3) » .
والأحاديث في الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن الإشراك به وعن وسائل ذلك كثيرة معلومة.
أما النساء فليس لهن زيارة القبور، لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «لعن زائرات القبور (4) » والحكمة في ذلك- والله أعلم- أن زيارتهن قد تحصل بها الفتنة لهن ولغيرهن من الرجال.
وقد كانت الزيارة للقبور في أول الإسلام ممنوعة حسما لمادة الشرك.
فلما فشا الإسلام وانتشر التوحيد أذن -صلى الله عليه وسلم- في الزيارة للجميع ثم خص النساء بالمنع حسما لمادة الفتنة بهن.
أما قبور الكفار فلا مانع من زيارتها للذكرى والاعتبار، ولكن لا يدعى لهم ولا يستغفر لهم لما ثبت في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «أنه استأذن ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له واستأذنه أن يزور قبرها فأذن له، وذلك أنها ماتت في الجاهلية على دين قومها (5) » .
وأسأل الله أن يوفق المسلمين رجالا ونساء للفقه في الدين والاستقامة عليه قولا وعملا وعقيدة، وأن يعيذهم جميعا من كل ما يخالف شرعه المطهر إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .
(2) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(4) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) .
(5) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1572) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .(41/369)
حديث شريف
حدثنا محمد بن الصباح وزهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالوا حدثنا هشيم أخبرنا أبو الزبير عن جابر قال: «لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء (1) »
رواه مسلم
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .(41/370)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (1) {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} (2) {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3) {وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (4)
(سورة النمل، الآيات: 50 - 53)
__________
(1) سورة النمل الآية 50
(2) سورة النمل الآية 51
(3) سورة النمل الآية 52
(4) سورة النمل الآية 53(42/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(42/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(42/3)
المحتويات
الافتتاحية:
الدعوة إلى الله سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث في الادخار (القسم الأول) اللجنة الدائمة 27
الفتاوى:
فتاوى اللجنة اللجنة الدائمة 91
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 131(42/4)
البحوث:
شيخ الإسلام ابن تيمية د / عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي 163
ضرورة توثيق الحديث الشريف من مصادره د / صالح بن يوسف معتوق 191
حكم الطلاق في الحيض د / سليمان بن فهد بن عيسى العيسى 211
بحث في حكم زكاة المال الحرام الشيخ / عبد الله بن سليمان المنيع 247
الشيخ عبد الله القرعاوي (مجدد الدعوة في الجنوب) د / محمد بن سعد الشويعر 269
مصطلحات الإمام أحمد رحمه الله تعالى د / الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان 327
شركة الأبدان د / صالح بن عبد الرحمن الأطرم 349
بيان هيئة كبار العلماء هيئة كبار العلماء 383(42/5)
صفحة فارغة(42/6)
الافتتاحية
الدعوة إلى الله
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى أصحابه ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن كل من له أدنى إلمام بالعلم يعرف أن الدعوة شأنها عظيم، وأنها مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام، والرسل عليهم الصلاة والسلام هم الأئمة في هذا الشأن، وهم الأئمة في الدعوة، وهي وظيفتهم؛ لأن الله جل وعلا بعثهم دعاة للحق، وهداة للخلق عليهم الصلاة والسلام، فكفى الدعوة شرفا، وكفاها منزلة عظيمة أن تكون وظيفة الرسل وأتباعهم إلى يوم القيامة. قال الله تعالى في كتابه المبين: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ} (1) ، فبين سبحانه وتعالى أن الرسل جميعا بعثوا لهذا الأمر العظيم للدعوة إلى عبادة الله وحده، واجتناب الطاغوت.
والمعنى أنهم بعثوا لدعوة الناس إلى إفراد الله بالعبادة، وتخصيصه بها، دون كل ما سواه، وتحرير الناس من عبادة الطاغوت إلى عبادة الله وحده.
والطاغوت كل ما عبد من دون الله من شجر وحجر، أما ما عبد من دون الله من الأنبياء والصالحين والملائكة ونحو ذلك فليس المعبود طاغوتا،
__________
(1) سورة النحل الآية 36(42/7)
ولكن الطاغوت هو الشيطان الذي دعا إلى ذلك وزين ذلك، وإلا فالرسل والصالحون يبرءون إلى الله عز وجل من عبادة من عبدهم.
فالطاغوت كل ما عبد من دون الله من الجمادات، ومن العقلاء الذين يرضون بذلك كفرعون وأشباهه، أما من لا يرضى بذلك فالطاغوت هو الشيطان الذي دعا إلى عبادته وزينها.
وقال عز وجل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (1) فبين سبحانه وتعالى أن الرسل بعثوا مبشرين ومنذرين، مبشرين من أطاعهم بالنصر والتأييد والجنة والكرامة، ومنذرين من عصاهم بالخيبة والندامة والنار.
وفي بعثتهم إقامة الحجة وقطع المعذرة، حتى لا يقول قائل ما جاءنا من بشير ولا نذير فالله سبحانه وتعالى بعث الرسل إقامة للحجة، وقطعا للمعذرة، وهداية للخلق، وبيانا للحق، وإرشادا للعبادة إلى أسباب النجاة، وتحذيرا لهم من أسباب الهلاك عليهم الصلاة والسلام فهم خير الناس وأصلح الناس، وأنفع الناس للناس، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (2) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (3) فأخبر سبحانه أنه بعث هذا الرسول الكريم محمدا عليه الصلاة والسلام شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله- فعلم بذلك أن وظيفة الدعوة إلى الله هي تبليغ الناس الحق، وإرشادهم إليه، وتحذيرهم مما يخالفه ويضاده. وهكذا أتباعهم إلى يوم القيامة، مهمتهم الدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى
__________
(1) سورة النساء الآية 165
(2) سورة الأحزاب الآية 45
(3) سورة الأحزاب الآية 46(42/8)
ما خلقوا له، وتحذيرهم من أسباب الهلاك، كما قال عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) فأمر الله نبيه أن يبلغ الناس أن سبيله التي هو عليها الدعوة إلى الله عز وجل، وهكذا أتباعه هم على ذلك، والمعنى: قل يا محمد، أو قل يا أيها الرسول للناس: هذه سبيلي أنا ومن اتبعني. فعلم بذلك أن الرسل وأتباعهم هم أهل الدعوة، وهم أهل البصائر، فمن دعا على غير بصيرة فليس من أتباعهم، ومن أهمل الدعوة فليس من أتباعهم، وإنما أتباعهم على الحقيقة هم الدعاة إلى الله على بصيرة، يعني أتباعهم الكمل الصادقين الذين دعوا إلى الله على بصيرة، ولم يقصروا في ذلك، وعملوا بما يدعون إليه، وكل ما حصل من تقصير في الدعوة، أو في البصيرة كان نقصا في الاتباع، ونقصا في الإيمان وضعفا فيه، فالواجب على الداعية إلى الله عز وجل، أن يكون ذا بصيرة، أي ذا علم، فالدعوة على جهل لا تجوز أبدا؛ لأن الداعية إلى الله على جهل يضر ولا ينفع، ويخرب ولا يعمر، ويضل ولا يهدي، فالواجب على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى التأسي بالرسل بالصبر والعلم والنشاط في الدعوة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (2) فالدعوة إلى الله عز وجل هي سبيل الرسل وطريقهم عليهم الصلاة والسلام، وفي ذلك غاية الشرف والفضل للدعاة أتباع الرسل، والمقتدين بهم السائرين على منهاجهم عليهم الصلاة والسلام، ومن شرط ذلك أن يكون الداعية على بصيرة وعلم وبينة بما يدعو إليه، ومما يحذر منه حتى لا يضر الناس، وحتى لا يدعو إلى ضلالة وهو لا يدري، أو يدعو إلى باطل وترك حق وهو لا يدري، حتى يكون على بينة ليعرف ما يدعو إليه، وما يدعو إلى تركه، وقال عز وجل:
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة يوسف الآية 108(42/9)
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ، هذا الأمر العظيم، وإن كان موجها إلى الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، فهو أمر للأمة جميعا وإن خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم فهو الأصل والأساس، وهو القدوة عليه الصلاة والسلام، ولكنه مع ذلك موجه للأمة جميعا؛ لأن القاعدة الشرعية أن أمته تابعة له في الأمر والنهي إلا ما دل الدليل على أنه خاص به عليه الصلاة والسلام، فالدعوة إلى الله فرض على الجميع، وواجب على الجميع، قال الله جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (2) فعلى المسلمين أن يتأسوا بنبيهم عليه الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله، والتوجيه إليه، وإرشاد العباد إلى أسباب النجاة وتحذيرهم من أسباب الهلاك، وفي هذه الآية العظيمة بيان كيفية الدعوة وأسلوبها ونظامها وما ينبغي للداعي أن يكون عليه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} (3) قال جماعة من علماء التفسير: معنى ذلك: الآيات والأحاديث: يعني ادع إلى الله بآيات الله وبسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولما فيها من الحكمة، ولما فيها من الفقه والردع والبيان، والإيضاح والكلمة الحكيمة هي التي فيها الردع عن الباطل، والتوجيه إلى الخير، وفيها الإقناع والتوجيه إلى ما فيه السعادة.
فالداعي إلى الله جل وعلا، ينبغي له أن يتحرى في دعوته ما يقنع المدعو، ويوضح الحق، ويردعه عما يضره، بالأسلوب الحسن الطيب، اللين الرقيق، ولهذا قال بعده: "والموعظة الحسنة" فليكن الداعي ذا حكمة، وذا موعظة حسنة، عند الحاجة إليها، فهو يوضح الحق ويبينه، ويرشد إليه بالآيات والأحاديث الواضحة البينة الصحيحة، حتى لا يبقى شبهة للمدعو.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة الأحزاب الآية 21
(3) سورة النحل الآية 125(42/10)
ومن الحكمة إيضاح المعنى وبيانه بالأساليب المؤثرة التي يفهمها المدعو وبلغته التي يفهمها حتى لا يبقى عنده شبهة، وحتى لا يخفى عليه الحق بسبب عدم البيان، أو بسبب عدم إقناعه بلغته، أو بسبب تعارض بعض الأدلة، وعدم بيان المرجح، فإذا كان هناك ما يوجب الموعظة وعظ وذكر بالآيات الزواجر، والأحاديث التي فيها الترغيب والترهيب، حتى ينتبه المدعو ويرق قلبه، وينقاد للحق، فالمقام قد يحتاج فيه المدعو إلى موعظة وترغيب وترهيب على حسب حاله، وقد يكون مستعدا لقبول الحق، فعند أقل تنبيه يقبل الحق، وتكفيه الحكمة، وقد يكون عنده بعض التمنع وبعض الإعراض فيحتاج إلى موعظة وإلى توجيه، وإلى ذكر آيات الزجر والترغيب، وأحاديث الزجر والترغيب والترهيب حتى يلين قلبه، ويقبل الحق.
وقد يكون عنده شبه فيحتاج إلى جدال بالتي هي أحسن، حتى تزاح الشبهة، ويتضح الحق ولهذا قال جل وعلا: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) .
فإذا كان المدعو عنده بعض الشبه، فعليك أيها الداعي أن توضح الحق بدلائله، وأن يزيح الشبهة بالدلائل التي تزيحها، حتى يبقى معك المدعو على أمر بين واضح، وليكن هذا بالتي هي أحسن؛ لأن العنف والشدة قد يضيعان الفائدة، وقد يقسو قلب المدعو بسبب ذلك ويحصل له به الإعراض والتكبر عن القبول فعليك بالرفق والجدال بالتي هي أحسن حتى يقبل منك الحق، وحتى لا تضيع الفرصة، وتذهب الفائدة سدى، بسبب العنف والشدة، ما دام صاحبك يريد منك الحق، ولم يظلم ولم يتعد، أما عند الظلم والتعدي
__________
(1) سورة النحل الآية 125(42/11)
فله منهج آخر، وسبيل آخر كما قال جل وعلا: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (1) فإذا كان أهل الكتاب يجادلون بالتي هي أحسن، فالمسلمون من باب أولى أن يجادلوا بالتي هي أحسن، لكن من ظلم ينتقل معه إلى شيء آخر، فقد يستحق الظالم الزجر والتوبيخ وقد يستحق التأديب والسجن، إلى غير ذلك على حسب ظلمه.
والآيات في فضل الدعوة، والحث عليها كثيرة، ولكن من أهم ذلك وأوضحه ما بيناه، ومن هذا قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) ففي هذه الآية الكريمة بيان أنه لا أحسن قولا ممن دعا إلى الله، وفي ذلك غاية الحث على الدعوة، وغاية التحريض عليها، إذا كان لا أحسن قولا ممن دعا إلى الله، فحقيق بالمؤمن وحقيق بطالب العلم أن يبادر ويسارع إلى هذا المقام العظيم، مقام الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهو الدعوة إلى الله والإرشاد إلى دينه الحق، وهذه الطائفة رأسها وأئمتها الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم أحسن الناس قولا، وهم أئمة الهدى والدعوة، وهم أولى الناس بالدخول في هذه الآية الكريمة، لأنهم القدوة والأساس في الدعوة إلى الله عز وجل عليهم الصلاة والسلام.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) هذه الآية العظيمة تبين لنا أن الداعي إلى الله عز وجل ينبغي
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2) سورة فصلت الآية 33
(3) سورة فصلت الآية 33(42/12)
أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضا، ولهذا قال بعده {وَعَمِلَ صَالِحًا} (1) فالداعي إلى الله عز وجل يكون داعية باللسان، وداعية بالعمل، ولا أحسن قولا من هذا الصنف من الناس، هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة، وهم يوجهون الناس بالأقوال والأعمال فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم.
وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام، دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال والسيرة، وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال، ولا سيما العامة وأرباب العلوم القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها، فالداعي إلى الله عز وجل من أهم المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة وذا عمل صالح وذا خلق فاضل حتى يقتدى بفعاله وأقواله وسيرته. {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) يعني الداعي يصرح بما هو عليه ويبين أنه على المنهج الأسمى، على الحق، يقول هذا معتزا به فرحا به مغتبطا به لا مرائيا ولا مفاخرا ولكنه مبين للحق يقول إني على صراط مستقيم، أنا من المسلمين، لست نصرانيا ولا يهوديا ولا وثنيا ولكنني مسلم حنيف أدعو إلى الله على بصيرة أدعو إلى ديني أدعو إلى الحق، ويقول هذا عن اغتباط وعن سرور وعن اعتراف صادق وعن إيمان بما يدعو إليه حتى يعلم المدعوون إنه على بينة وأنه على طريق واضح ومنهج صحيح، وأنه إذا دعا إلى الإسلام فإنه يدعو إليه وهو من أهله، ليس يدعو إليه وهو من غير أهله بل هو يدعو إليه وهو عليه آخذ به ملتزم به.
وكثير من الدعاة قد يدعون إلى شيء وهم على خلافه، لكن دعوا إليه إما لمال أخذوه وإما رياء وإما لأسباب أخرى لكن الداعي الصادق إلى الله يدعو إلى الإسلام لأنه دينه ولأنه الحق الذي لا يجوز غيره ولأنه سبيل النجاة وسبيل العزة والكرامة ولأنه دين الله الذي لا يرضى سواه سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة فصلت الآية 33(42/13)
فهذه الآية العظيمة فيها الحث والتحريض على الدعوة إلى الله عز وجل وبيان منزلة الدعاة وأنهم أحسن الناس قولا إذا صدقوا في قولهم وعملوا الصالحات وهم أحسن الناس قولا ولا أحد أحسن منهم قولا أبدا وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ثم أتباعهم على بصيرة إلى يوم القيامة.
ومن الدعاة إلى الله الداخلين في هذه الآية المؤذنون فإنهم دعاة إلى الله ينادون على رؤوس الأشهاد بتكبير الله وتعظيمه والشهادة له بالوحدانية ولنبيه بالرسالة عليه الصلاة والسلام فهم من الدعاة إلى الله وهم داخلون في هذه الآية الكريمة. ومما صح في السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام في شأن الدعوة وفضلها قوله عليه الصلاة والسلام لما بعث عليا رضي الله عنه إلى خيبر قال: «ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (1) » متفق عليه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
أقسم عليه الصلاة والسلام وهو الصادق وإن لم يقسم، أن هداية رجل واحد على يد علي رضي الله عنه خير له من حمر النعم، فدل ذلك على أن الدعوة إلى الله شأنها عظيم وأنها منزلة عظمى، وفي هذا بيان أن المقصود من الدعوة والجهاد ليس قتل الناس ولا أخذ أموالهم ولكن المقصود هدايتهم وإنقاذهم مما هم فيه من الباطل وإخراجهم من الظلمات إلى النور. وانتشالهم من وهدة الضلالة وأوحال الرذيلة إلى عز الهدى وشرف التقوى. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (2) » .
وفيه من الفوائد حث الغزاة وأئمة الغزو على التريث وعدم العجلة في القتال وأن يجتهدوا في الدعوة وإرشاد المدعوين وتنبيههم على أسباب النجاة لعلهم يرجعون ويجيبون الداعي ولعلهم يتركون القتال ويدخلون في دين الله سبحانه وتعالى، فليس مقصود المسلمين ولا مقصود الإسلام والجهاد القتل
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) ، مسند أحمد بن حنبل (5/447) ، سنن الدارمي الصلاة (1502) .(42/14)
وسبي النساء والذرية والأموال وإنما المقصود من ذلك هداية الناس وإرشادهم إلى الحق الذي خلقوا له كما سبق فإذا امتنعوا وأصروا ولم يقبلوا الحق بعد ذلك فالجهاد يفر إليه عند الحاجة أما إذا كفت الدعوة وقبلوا الحق فلا حاجة إلى الجهاد وإنما يصار إليه عند امتناع المدعو وعدم قبوله الحق فعند هذا شرع الله الجهاد بالسلاح لقمع المبطلين وإزاحتهم عن طريق الدعوة وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وفتح الطريق أمام الدعوة إلى الله عز وجل حتى ينتشر الإسلام في أرض الله، وفيه من الفوائد أيضا الدلالة على أن هداية واحد خير من حمر النعم يعني أن الهداية لواحد من الكفار على يدك أيها الداعي أو أيها الأمير فيه خير عظيم وفضل كبير. قال بعض الأئمة معنى ذلك خير من الدنيا وما عليها لأن الدنيا زائلة والآخرة باقية فخيرها ولو كان قليلا خير من الدنيا وما عليها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها (1) » .
وإنما ذكر صلى الله عليه وسلم حمر النعم لأن حمر النعم أنفس أموال العرب وأرفعها عندهم فمثل بها وإلا فالمقصود أن هداية رجل واحد أو أكثر من ذلك خير من الدنيا وحطامها الزائل الفاني. . وقال عليه الصلاة والسلام: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » أخرجه مسلم في الصحيح وهو يدل على أن من دعا إلى الخير وأرشد إليه كان له مثل أجر فاعله وهذه فضيلة عظيمة للدعوة وشرف عظيم للدعاة أن الله سبحانه وتعالى يعطيهم مثل أجور من هداه الله على أيديهم، فيا له من خير ويا له من فضل ويا لها من منزلة.
يا أخي تدعو إلى ربك وإلى دينك وإلى اتباع نبيك عليه الصلاة والسلام، ويحصل لك مثل أجور من هداه الله على يديك هذه مزية عظيمة وفضل كبير، وفي ذلك حث وتحريض للدعاة على الدعوة والصبر عليها إذا كنت تحصل بذلك على مثل أجور من هداه الله على يدك، فحقيق بك أن تشمر وأن تسارع إلى الدعوة وأن تصبر عليها، وفي هذا خير عظيم، وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) ، مسند أحمد بن حنبل (5/447) ، سنن الدارمي الصلاة (1502) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(42/15)
مسلم أيضا في الصحيح «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا (1) » وهذا أيضا فضل عظيم «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه (2) » وهذا مثل ما تقدم في حديث من دل على خير فله مثل أجر فاعله.
وهذه الأحاديث وما جاء في معناها فيها الحث والتحريض على الدعوة وبيان فضلها وأنها في منزلة عظيمة من الإسلام وأنها وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام وقد بعث الله تعالى الرسل جميعا دعاة لله عز وجل ومبشرين بدينه ومنذرين من عصاه فحقيق بك أيها المؤمن أن تسير على منهاجهم الصالح، وأن تستمر على طريقهم الواضح بالدعوة إلى الله والتبشير بدينه والتحذير من خلافه وإنما يتم هذا الفضل ويحصل هذا الخير ويتضاعف بالصبر والإخلاص والصدق فمن ضعف صبره أو ضعف صدقه أو ضعف إخلاصه لا يستقيم مع هذا الأمر العظيم، ولا يحصل به المطلوب كما ينبغي فالمقام يحتاج إلى إخلاص فالمرائي ينهار ولا يثبت عند الشدائد ويحتاج إلى صبر. فذو الملل وذو الكسل لا يحصل به المقصود على التمام فالمقام يحتاج إلى إخلاص وإلى صدق وإلى صبر.
كما قال سبحانه: وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (3) وكما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (4) وقال عز وجل: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (5) فلا بد من الصبر كما قال عز وجل {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} (6) ولا بد من الصبر كما قال جل وعلا: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (7) وكما قال سبحانه:
__________
(1) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(2) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(3) سورة يوسف الآية 108
(4) سورة التوبة الآية 119
(5) سورة الأنفال الآية 46
(6) سورة المائدة الآية 119
(7) سورة الأنفال الآية 46(42/16)
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (1) فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين- فالدعاة إلى الله عز وجل إذا صبروا وصدقوا وكانت دعوتهم على علم وعلى بصيرة صاروا أئمة للناس يقتدى بهم في الشدة والرخاء والعسر واليسر كما سبق في قوله تعالى:
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (2) فعليك يا عبد الله بالصبر على دعوتك وإيمانك وعملك الصالح وعليك باليقين في أعمالك، كن على بصيرة، تعلم وتفقه وتثقف في الدين وكن على بينة في أمورك حتى تكون دعوتك عن صبر وعن يقين وبهذا تكون إماما يقتدى به، وتكون إماما وقدوة وأسوة صالحة في أعمالك الطيبة وسيرتك الحسنة.
وبهذا ينتهي الكلام على فضل الدعوة وهو الشق الأول.
أما الشق الثاني: وهو أثرها في انتشار الإسلام، فنقول إن الله جل وعلا بعث الرسل كما سبق عليهم السلام دعاة للحق وهداة للخلق ولم يبلغنا أن الرسل الأولين كانوا يجاهدون على دعوتهم وإنما ذكر الله الجهاد بعد بعث موسى عليه الصلاة والسلام.
ومن وقت آدم إلى نزول التوراة كان الرسل دعاة ليس هناك جهاد فانتشر الإسلام بالدعوة والبيان والكتب المنزلة من السماء فكان الرسل عليهم الصلاة والسلام يدعون إلى الله وينذرون الناس فانتشر دينهم وإسلامهم بالدعوة من عهد آدم إلى أن بعث الله موسى عليه الصلاة والسلام.
والإسلام هو دين الله قال جل وعلا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (3) فهو دين الله لجميع المرسلين وجميع الأمم كما قال سبحانه
__________
(1) سورة السجدة الآية 24
(2) سورة السجدة الآية 24
(3) سورة آل عمران الآية 19(42/17)
وتعالى _ عن نوح {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) وهو أول الرسل وقال عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما كان بين آدم ونوح عليهما الصلاة والسلام عشرة قرون كلها على الإسلام حتى وقع الشرك في قوم نوح وقال جل وعلا في قصة إبراهيم وإسماعيل وهما يعمران الكعبة {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (2) فطلبا أن يكونا مسلمين، وقال في قصة يوسف: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (3) وقال في قصة موسى {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (4) وقال عن بلقيس: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (5) فالدين عند الله هو الإسلام ولكن الله بعث محمدا عليه السلام بأكمله وأتمه، بعثه بالإسلام وبشريعة كاملة في الإسلام، فالذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم هو أكمل الدين وأتمه، بعثه بالإسلام الذي هو دين الله وبعثه بشريعة كاملة صالحة لجميع الزمان والمكان حتى تقوم الساعة أما ما بعث الله به الأنبياء الماضين فهو دين الإسلام ولكن بشرائع خاصة لأقوام خاصة، كل رسول بعثه الله إلى قومه بشريعة خاصة والدين هو الإسلام، هو توحيد الله كما قال سبحانه وتعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (6) فكل أمة بعث إليها رسول ليدعوهم إلى الإسلام، والاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة في الشرك وأهله، فكل رسول بعثه الله بهذا الإسلام وهو دين الله وتوحيده بإفراده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه وبعث معه شريعة خاصة تلائم زمانه وتناسب وقته
__________
(1) سورة النمل الآية 91
(2) سورة البقرة الآية 128
(3) سورة يوسف الآية 101
(4) سورة يونس الآية 84
(5) سورة النمل الآية 44
(6) سورة النحل الآية 36(42/18)
وقومه حتى ختم الله جل وعلا الشرائع والنبوات ببعث محمد عليه الصلاة والسلام وبشريعة كاملة ودين شامل ونظام عام لجميع الأمة في حاضرها وقت نزول القرآن وفي مستقبلها إلى يوم القيامة.
وجعله دينا شاملا لجميع الشئون شئون الدين والدنيا شئون العبادة وشئون المعاملة وشئون الأحوال الشخصية وشئون الجنايات وغير ذلك في جميع الأمور، جعله دينا شاملا منظما لجميع مصالح العباد منظما لجميع ما يحتاجون إليه في شئونهم العاجلة والآجلة مفصلا لكل ما يتطلبه العقل وتقتضيه الحاجة.
وبهذا يعلم أن انتشار الإسلام في عهد آدم وما بعده وعهد نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب وهو إسرائيل ويوسف عليهم الصلاة والسلام جميعا والأنبياء بعدهم كان بالدعوة: انتشر الإسلام بالدعوة وظهر بالدعوة، كان الرسل يدعون وهكذا أنصارهم وأتباعهم يدعون إلى الله جل وعلا؛ فانتشر الإسلام في أممهم بالدعوة لا بالجهاد ولا بالسيف فلم يذكر الله في كتابه العزيز عن أولئك أنهم جاهدوا بالسيف وإنما دعوا إلى الله وأنذروا الناس وبشروهم فقبل الدعوة من هداه الله وأباها من سيقت له الشقاوة نعوذ بالله من ذلك.
وكانت الأمم قبل موسى عليه الصلاة والسلام إذا عاندوا الرسول وأبوا اتباعه جاءهم العذاب فأهلكوا عن آخرهم إلا من آمن بالله. فآدم عليه الصلاة والسلام ومن كان في زمانه من ذريته إلى عهد نوح كانوا على الإسلام والهدى ولا يلزم من ذلك أن لا يكون فيهم معصية فقد عصى قابيل وقتل أخاه هابيل بغير حق ولكنهما كانا على الإسلام، ثم زين الشيطان لقوم نوح الغلو في الصالحين في قالب المحبة لهم ودعاهم إلى تصوير صورهم ونصبها في مجالسهم، ثم بعد ذلك زين لمن بعدهم التعلق بها وعبادتها حتى وقع الشرك في قوم نوح بسبب الغلو في الصالحين(42/19)
وتصوير الصور والابتداع في الدين، ولهذا حذر الرسول عليه الصلاة والسلام من الصور وحذر من البدع لأن البدع هي وسائل الشرك نسأل الله العافية. ولما أخبرته أم حبيبة وأم سلمة بالكنيسة التي رأتها في الحبشة وما فيها من الصور، قال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله (1) » .
فأخبر عليه الصلاة والسلام أنهم شرار الخلق بسبب غلوهم في صالحيهم باتخاذ المساجد على قبورهم وتصوير الصور عليها وهكذا وقع في قوم نوح فالإسلام انتشر بالدعوة فلما أبى قوم نوح إلا العناد والشرك ولم يستجيبوا لداعيهم نوح عليه الصلاة والسلام ألف سنة إلا خمسين عاما أرسل الله عليهم الطوفان فأهلكهم عن آخرهم بالغرق، نسأل الله العافية.
وقوم هود هلكوا بريح عقيم وقوم صالح بالرجفة والصيحة حتى هلكوا عن آخرهم وهكذا عاقب الله كثيرا من الأمم بأنواع من العقوبات بسبب كفرهم وضلالهم وامتناعهم عن قبول الدعوة الإسلامية، ثم شرع الجهاد في عهد موسى عليه الصلاة والسلام؛ لنصر الحق وقمع الباطل ثم شرع الله الجهاد على يد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل، ونبينا عليه الصلاة والسلام لما بعثه الله مكث في مكة بضعة عشر عاما يدعو إلى الله عز وجل ولم يكن هناك جهاد بالسيف ولكنه الدعوة والتبشير بالإسلام، وقد أنكر قومه دعوته وآذوه وآذوا أصحابه ولكنه صبر على ذلك عليه الصلاة والسلام، وكان مستترا بها أولا ثم أمره الله بالصدع فأظهر الدعوة وصبر على الأذى وهكذا أصحابه، وكان من السابقين إلى ذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه سبق إلى الإسلام والدعوة، وخديجة رضي الله عنها وعلي رضي الله عنه، وزيد بن حارثة هؤلاء الأربعة هم السابقون إلى الإسلام والدعوة، ثم تابعهم الناس، وكان الصديق رضي الله عنه شريفا في قومه معظما مألوفا ذا معروف
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6130) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2440) ، سنن أبو داود الأدب (4931) ، سنن ابن ماجه النكاح (1982) ، مسند أحمد بن حنبل (6/234) .(42/20)
وإحسان وذا تجارة ومال وذا خلق كريم، فكان يدعو إلى الله سرا ويبشر بالإسلام حتى أسلم على يديه جم غفير، منهم عثمان رضي الله عنه والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله رضي الله عن الجميع، وأسلم جم غفير في مكة بالدعوة لا بقهر ولا بجهاد ولكن بالدعوة والتوجيه وقراءة القرآن وشرح محاسن الإسلام، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ويقرأ عليهم القرآن ويبين لهم بعض ما أشكل عليهم فيتقبلون الحق ويرضون به ويدخلون في دين الله جل وعلا.
ثم انتشر الإسلام والدعوة إليه في القبائل والبادية والقرى المجاورة لمكة بسبب الدعوة وبسبب ما يسمعونه من الصحابة الذين أسلموا وأجابوا النبي عليه الصلاة والسلام وكان النبي عليه الصلاة والسلام يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج كل عام يطلب منهم أن يجيبوه وأن يؤووه وأن ينصروه حتى يبلغ رسالة ربه عليه الصلاة والسلام فلم يقدر الله سبحانه ذلك إلا للأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم فأجابه الأنصار واجتمعوا به عند الجمرة في المرة الأولى وكانوا ستة دعاهم إلى الإسلام فأجابوا وقبلوا الحق وصاروا رسلا إلى قومهم، فذهبوا إلى المدينة ودعوا إلى الله عز وجل وبشروا بالإسلام؛ فأجاب إلى الإسلام منهم بشر كثير ثم قدم منهم في السنة الثانية اثنا عشر منهم الستة الأقدمون ومن جملتهم أسعد بن زرارة رضي الله عنه وجماعة كانوا من الخزرج سوى اثنين من الأوس وقيل ثلاثة فاجتمعوا به عليه الصلاة والسلام أيضا في وسط أيام التشريق وتلا عليهم القرآن وبايعوه على الإسلام ثم رجعوا إلى بلادهم فدعوا إلى الله عز وجل وانتشر الإسلام في بيوت الأنصار إلا قليلا منهم ودخل في دين الله جم غفير من الأنصار ثم تنازعوا على أن يطلبوا من النبي على أن يهاجر إليهم وأن ينقذوه من حال المشركين وأذاهم.
وكان قد بعث إليهم عليه الصلاة والسلام مصعب بن عمير بعد البيعة(42/21)
الأولى فكان يعلم ويرشد في المدينة وأسلم على يديه جماعة كثيرة وانتشر الإسلام بسبب ذلك ومن جملة من أسلم على يديه سيد الأوس سعد بن معاذ والسيد الثاني من الأوس أسيد بن الحضير وبسبب إسلامهما انتشر الإسلام في الأوس وبسبب إسلام أسعد بن زرارة هو وسعد بن عبادة وجماعة من الخزرج انتشر الإسلام في الخزرج وظهر دين الله هناك ثم قدموا في السنة الثالثة، قدم منهم سبعون رجلا من الأنصار وقيل ثلاثة وسبعون وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام والنصرة والإيواء، وتم ذلك بحضرة عمه العباس رضي الله عنه ثم شرع المسلمون في الهجرة إلى المدينة بإذنه عليه الصلاة والسلام ثم هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وقام بالدعوة إلى الله هناك ونشر الإسلام، وهكذا المسلمون الذين أسلموا من الحاضرة والبادية نشروا الإسلام بالدعوة ومن جملتهم أبو ذر الغفاري وعمر بن عبسة السلمي وغيرهما ثم شرع الله الجهاد على أطوار ثلاثة: أولا أذن فيه ثم أمروا أن يقاتلوا من قاتلهم ويكفوا عمن كف عنهم ثم شرع الله الجهاد العام طلبا ودفاعا، وهذه الأطوار باقية على حسب ضعف المسلمين وقوتهم فإذا قوي المسلمون وجب عليهم الجهاد طلبا ودفاعا وإذا ضعفوا عن ذلك وجب عليهم الدفاع وسقط عنهم الطلب حتى يقدروا ويستطيعوا.
والمقصود من الجهاد كما تقدم هو نشر الإسلام وإخراج الناس من الظلمات إلى النور وإزاحة العقبات من طرق الدعوة والقضاء على العناصر الفاسدة التي تمنع الدعوة وتحول بين الدعاة إلى الله ويبين مقاصدهم الطيبة ولهذا شرع الله الجهاد لإزاحة العراقيل عن طريق الدعوة ولإخراج الناس من الظلمات إلى النور وانتشالهم من الباطل إلى الحق والهدى وإخراجهم من ظلم الأديان وضيق الدنيا إلى سعة الإسلام وعدل الإسلام ومضى على ذلك نبي الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام وأتباعهم بإحسان حتى ظهر(42/22)
دين الله وانتشر الحق بالدعوة الصحيحة الإسلامية وبالجهاد الذي يناصره ويؤيدها إذا وقف في طريقها أحد حتى أزاحوا الروم عن الشام واستولوا على مملكة الفرس وانتشر الإسلام في اليمن وغيره من أنحاء الجزيرة العربية بسبب الدعوة إلى الله والجهاد الصادق في سبيل الله وأزيحت العقبات عن طريق الدعوة. وبهذا يعلم أن انتشار الإسلام بالدعوة كان هو الأساس وهو الأصل وأما الجهاد بالسيف فكان منقذا للحق وقامعا للفساد وعند وجود المعارضين الواقفين في طريق الدعوة.
وبالجهاد والدعوة فتحت الفتوحات بسبب أن أكثر الخلق لا يقبل الدعوة بمجردها لمخالفتها لهواه ولما في نفسه من حب للشهوات المحرمة ورياسته الفاسدة الظالمة فجاء الجهاد يقمع هؤلاء ويزيحهم عن مناصبهم التي كانوا فيها عقبة كأداء في طريق الدعوة فالجهاد مناصر للدعوة ومحقق لمقاصدها ومعين للدعاة على أداء واجبهم، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى على حالين:
إحداهما: فرض عين
والثانية: فرض كفاية
فهي فرض عين عند عدم وجود من يقوم باللازم كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كنت في بلد أو قبيلة أو منطقة من المناطق ليس فيها من يدعو إلى الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وأنت عندك علم فإنه يجب عليك عينا أن تقوم بالدعوة وترشد الناس إلى حق وتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر. أما إذا وجد من يقوم بالدعوة ويبلغ الناس ويرشدهم فإنها تكون في حق الباقين العارفين بالشرع سنة لا فرضا، وهكذا الجهاد كله فرض كفاية عند وجود من يكفي فيسقط الجهاد والأمر والنهي والدعوة عن الباقين ويكون في حقهم سنة مؤكدة وعند عدم وجود من يكفي يتعين الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عليك حسب طاقتك وحسب(42/23)
إمكانك كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقال جل وعلا: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) وقد قام الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم بالدعوة والجهاد بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام قياما عظيما فأبو موسى ومعاذ وعلي بعثوا إلى اليمن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقاموا بالدعوة هناك ثم رجع معاذ في عهد الصديق ورجع علي وأبو موسى في حجة الوداع فقام خلفاؤهم بالدعوة هناك ونشر الإسلام.
وقام الصحابة الذين سافروا إلى العراق والشام بالدعوة إلى الله هناك ونشر الإسلام، ثم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاموا بالدعوة والجهاد والتعليم والتفقيه في الشام والعراق واليمن ومصر وغير ذلك، وفي شرق وشمال أفريقيا، ثم لم تزل الدعوة تنتشر في أفريقيا كلها وفي الشرق كله حتى ظهرت الدعوة وانتشرت في أقصى المغرب والمشرق.
وفي وقتنا هذا ضعف أمر الجهاد لما تغير المسلمون وتفرقوا وصارت القوة والسلاح بيد عدونا وصار المسلمون الآن إلا من شاء الله لا يهتمون إلا بمناصبهم وشهواتهم العاجلة وحظهم العاجل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فلم يبق في هذه العصور إلا الدعوة إلى الله عز وجل والتوجيه إليه وقد انتشر الإسلام بالدعوة في هذه العصور في أماكن كثيرة في أفريقيا شرقها وغربها ووسطها وفي أوروبا وفي أمريكا وفي اليابان وفي كوريا وفي غير ذلك في أنحاء آسيا وكل هذا بسبب الدعوة إلى الله بعضها على أيدي التجار، وبعضها على أيدي من قام بالدعوة وسافر لأجلها وتخصص لها، وبهذا يعلم طالب العلم ومن آتاه الله بصيرة أن الدعوة إلى الله عز وجل من أهم المهمات
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) سورة البقرة الآية 286(42/24)
وأن واجبها اليوم عظيم لأن الجهاد اليوم مفقود في غالب المعمورة والناس في أشد الحاجة إلى الدعاة والمرشدين على ضوء الكتاب والسنة فالواجب على أهل العلم أينما كانوا أن يبلغوا دعوة الله وأن يصبروا على ذلك وأن تكون دعوتهم نابعة من كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة عليه الصلاة والسلام وعلى طريق الرسول وأصحابه ومنهج السلف الصالح رضي الله عنهم، وأهم من ذلك الدعوة إلى توحيد الله وتخليص القلوب من الشرك والخرافات والبدع لأن الناس ابتلوا بالبدع والخرافات إلا من رحم الله فيجب على الداعية أن يهتم بتنقية العقيدة وتخليصها مما شابها من خرافات وبدع وشركيات كما يقوم بنشر الإسلام بجميع أحكامه وأخلاقه والطريق إلى ذلك وتفقيه الناس في القرآن والسنة، فالقرآن هو الأصل الأصيل في دعوة الناس إلى الخير ثم السنة بعد ذلك تفسر القرآن وتدل عليه وتعبر عنه وتوضح معناه وتبينه، وخلق النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن يتأسى المسلمون به ويقتدوا به عليه الصلاة والسلام.
قال الله جل وعلا: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) قالت عائشة رضي الله عنها «كان خلقه القرآن، (2) » فالداعية إلى الله ينبغي له أن يهتم بالقرآن الكريم وأن يعني به تلاوة وتدبرا وتعقلا وقراءة على الناس وتوجيها لهم إليه حتى يدرسوه ويتعلموه ويعملوا به وهكذا السنة يعلمهم إياها ويبشرهم بها ويحثهم عليها، ويوضح سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه حتى يسيروا على طريقهم الصالح وعلى نهجهم الطيب وهذا هو الطريق والسبيل إلى نشر الإسلام وتخليص الناس من الشرك والخرافات والبدع، وهو دعوتهم إلى الله وإرشادهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن على
__________
(1) سورة القلم الآية 4
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (746) ، سنن أبو داود الصلاة (1342) ، مسند أحمد بن حنبل (6/54) ، سنن الدارمي الصلاة (1475) .(42/25)
ضوء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والطريقة السلفية التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار عليها أصحابه الكرام وأتباعهم بإحسان.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا لما فيه رضاه، وأن يهدينا صراطه المستقيم وأن يمن علينا وعلى المسلمين جميعا بسلوك طريق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وطريق أصحابه والثبات عليه والدعوة إليه والذب عنه والتحذير من خلافه، كما نسأله سبحانه أن يصلح ولاة أمر المسلمين وأن يمن عليهم بالتوفيق والهداية وأن يجمعهم وشعوبهم على الحق والهدى وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل وأن يقيم بهم علم الجهاد على دين الله، الجهاد الصالح الشرعي حتى يكونوا دعاة إلى الله ومرشدين إليه سبحانه وتعالى إنه جل وعلا جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.(42/26)
بحث في الادخار "القسم الأول"
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: -
بناء على المحضر التاسع من محاضر الدورة الحادية والعشرين لهيئة كبار العلماء والمؤرخ في يوم 27 \ 3 \ 1403هـ والذي جاء فيه أن المجلس بحث موضوع الادخار وقرر إحالته إلى اللجنة الدائمة لإعداد بحث فيه ويطلب نسخه من نظم هذه الصناديق في المنطقة الشرقية والوسطى وفي شركة أرامكو ثم يعرض على المجلس في الدورة القادمة بناء على ذلك تم طلب الأنظمة المشار إليها من الجهات المعنية وجاءت هذه الأنظمة واطلعت اللجنة عليها فأعدت بحثا يشتمل على ما يلي:
1 - مقدمة بأن كل مطلب شرعي لا بد في إثباته من دليل شرعي. وتحقيق مناطه فيه.
2 - نصوص من القرآن والسنة يرجع إليها في الحكم بالربا عند التطبيق في الجزئيات وتحقيق المناط فيها.
3 - نقول عن بعض فقهاء المذاهب يستنار بها في التطبيق وفهم الحكم في المسائل الربوية.
4 - نقول عن بعض علماء المذاهب الأربعة في حكم الربا بدار الحرب مع الأدلة ومناقشة بعضهم لبعض.(42/27)
5 - المقصود من أنظمة الادخار في شركة كهرباء المنطقة الوسطى والمنطقة الشرقية وشركة أرامكو مع التعليق عليها.
6 - نقول عن بعض المعاصرين في معنى الادخار وأنواع بنوك الادخار وتوظيف الأموال المدخرة مع التعليق على ذلك.
7 - حكم الادخار.
8 - ملخص المقصود مما سبق.
أولا: المقدمة:
كل مسألة يراد إثبات حكمها لا بد لها من دليل مشتمل على مقدمتين:
إحداهما كلية مسلمة، سواء كانت شرعية أم عقلية أم لغوية أم طبية أم غير ذلك، وذلك لقيام ما يوجب تسليمها شرعا أو عقلا أو لغة. . . إلى آخره.
والمقدمة الأخرى تتضمن تحقيق المناط وذلك بإثبات مناط حكم الكلية في المسألة الجزئية المطلوب إثبات الحكم فيها، وقد أفاض الشاطبي القول في ذلك مع التوضيح بالأمثلة، فاستحسنا نقله بنصه:
قال رحمه الله تعالى: (المسألة السادسة) كل دليل شرعي مبني على مقدمتين: إحداهما راجعة إلى تحقيق مناط الحكم والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي، فالأولى نظرية، وأعني بالنظرية هاهنا ما سوى النقلية سواء علينا أثبتت بالضرورة أم بالفكر والتدبر ولا أعني بالنظرية مقابل الضرورية، والثانية نقلية وبيان ذلك ظاهر في كل مطلب شرعي بل هذا جاء في كل مطلب عقلي أو نقلي، فيصح أن نقول: الأولى راجعة إلى تحقيق المناط، والثانية راجعة إلى الحكم،(42/28)
ولكن المقصود هنا بيان المطالب الشرعية فإذا قلت إن كل مسكر حرام فلا يتم القضاء عليه حتى يكون؛ بحيث يشار إلى المقصود منه ليستعمل أو لا يستعمل؛ لأن الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون، فإذا شرع المكلف في تناول خمر مثلا قيل له: أهذا خمر أم لا؟ فلا بد من النظر في كونه خمرا أم غير خمر، وهو معنى تحقيق المناط، فإذا وجد فيه أمارة الخمر أو حقيقتها بنظر معتبر قال: نعم هذا خمر، فيقال له: كل خمر حرام الاستعمال، فيجتنبه. وكذلك إذا أراد أن يتوضأ بماء فلا بد من النظر إليه: هل هو مطلق أم لا؟ ، وذلك برؤية اللون وبذوق الطعم وشم الرائحة، فإذا تبين أنه على أصل خلقته فقد تحقق مناطه عنده وأنه مطلق، وهي المقدمة النظرية، ثم يضيف إلى هذه المقدمة ثانية نقلية، وهي أن كل ماء مطلق فالوضوء به جائز. وكذلك إذا نظر: هل هو مخاطب بالوضوء أم لا؟ ، فينظر: هل هو محدث أم لا؟ ، فإن تحقق الحدث فقد حقق مناط الحكم، فيرد عليه أنه مطلوب بالوضوء، وإن تحقق فقده فكذلك فيرد عليه أنه غير مطلوب بالوضوء، وهي المقدمة النقلية.
فالحاصل أن الشارع حكم على أفعال المكلفين مطلقة ومقيدة، وذلك مقتضى إحدى المقدمتين وهي النقلية، ولا ينزل الحكم بها إلا على ما تحقق أنه مناط ذلك الحكم على الإطلاق أو على التقييد، وهو مقتضى المقدمة النظرية. والمسألة ظاهرة في الشرعيات، نعم وفي اللغويات والعقليات، فإنا إذا قلنا (ضرب زيد عمرا) وأردنا أن نعرف الذي يرفع من الاسمين(42/29)
وما الذي ينصب فلا بد من معرفة الفاعل من المفعول، فإذا حققنا الفاعل وميزناه حكمنا عليه بمقتضى المقدمة النقلية وهي أن كل فاعل مرفوع، ونصبنا المفعول كذلك؛ لأن كل مفعول منصوب، وإذا أردنا أن نصغر عقربا حققنا أنه رباعي فيستحق من أبنية التصغير بنية فعيعل؛ لأن كل رباعي على هذه الشاكلة تصغيره على هذه البنية، وهكذا في سائر علوم اللغة، وأما العقليات فكما إذا نظرنا في العالم: هل هو حادث أم لا؟ فلا بد من تحقيق مناط الحكم وهو العالم، فنجده متغيرا وهي المقدمة الأولى، ثم نأتي بمقدمة مسلمة وهو قولنا (كل متغير حادث) .
لكنا قلنا في الشرعيات وسائر النقليات إنه لا بد أن تكون إحدى المقدمتين نظرية وهي المفيدة لتحقيق المناط، وذلك مطرد في العقليات أيضا، والأخرى نقلية فما الذي يجري في العقليات مجرى النقليات؟ هذا لا بد من تأمله، والذي يقال فيه: إن خاصية المقدمة النقلية أن تكون مسلمة إذا تحقق أنها تفتقر إلى نظر وتأمل إلا من جهة تصحيحها نقلا، ونظير هذا في العقليات المقدمة المسلمة وهي الضروريات وما تنزل منزلتها مما يقع مسلما عند الخصم، فهذه خاصية إحدى المقدمتين، وهي أن تكون مسلمة، وخاصية الأخرى أن تكون تحقيق مناط الأمر المحكوم عليه، ولا حاجة إلى البسط هنا فإن التأمل يبين حقيقة الأمر فيه وأيضا في فصل السؤال، والجواب له بيان آخر، وبالله التوفيق. انتهى (1) .
__________
(1) كتاب الموافقات جـ3 ص 26، 27، 28 ط محمد علي صبيح.(42/30)
ثانيا: نصوص من القرآن والسنة يرجع إليها في الحكم بالربا
عند تحقيق المناط، والتطبيق على الجزئيات
1 - نصوص من القرآن معها تفسيرها: (أ) قال أبو بكر الجصاص رحمه الله في تفسير آيات الأحكام:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1) إلى قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) .
قال أبو بكر: أصل الربا في اللغة هو الزيادة، ومنه الرابية لزيادتها على ما حولها من الأرض، ومنه الربوة من الأرض وهي المرتفعة، ومنه قولهم أربى فلان في القول أو الفعل إذا زاد عليه.
وهو في الشرع يقع على معان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة، ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى النساء ربا في حديث أسامة بن زياد؛ فقال: «إنما الربا في النسيئة (3) » وقال عمر بن الخطاب: إن من الربا أبوابا لا تخفى، منها السلم في السن يعني الحيوان. وقال عمر أيضا: إن آية الربا من آخر ما نزل من القرآن وإن النبي صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يبينه لنا فدعوا الربا والريبة.
فثبت بذلك أن الربا قد صار اسما شرعيا لأن لو كان باقيا على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر لأنه كان عالما بأسماء اللغة لأنه من أهلها، ويدل عليه أن العرب لم تكن تعرف بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة نساء ربا، وهو ربا في الشرع، وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعان لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة نحو الصلاة والصوم والزكاة فهو مفتقر إلى البيان، ولا يصح الاستدلال بعمومه في تحريم شيء من العقود إلا فيما قامت دلالته أنه مسمى في الشرع بذلك، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم من مراد الله بالآية نصا وتوقيفا، ومنه ما بينه
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(42/31)
دليلا فلم يخل مراد الله من أن يكون معلوما عند أهل العلم بالتوقيف والاستدلال، والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به، ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد وإذا كان متفاضلا من جنس واحد، هذا كان المتعارف المشهور بينهم ولذلك قال تعالى {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (1) فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين لأنه لا عوض لها من جهة المقرض وقال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (2) إخبارا عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط الزيادة أضعافا مضاعفة، فأبطل الله تعالى الربا الذي كانوا يتعاملون به وأبطل ضروبا أخر من البياعات وسماها ربا فانتظم قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طرق الشرع، ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة.
واسم الربا في الشرع يعتوره معان
أحدها: الربا الذي كان عليه أهل الجاهلية
والثاني: التفاضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون على قول أصحابنا، ومالك بن أنس يعتبر مع الجنس أن يكون مقتاتا مدخرا، والشافعي يعتبر الأكل مع الجنس فصار الجنس معتبرا عند الجميع فيما يتعلق به من تحريم التفاضل عند انضمام غيره إليه على ما قدمنا
والثالث: النساء وهو على ضروب: منها في الجنس الواحد من كل شيء لا يجوز بيع بعضه ببعض نساء، سواء كان من المكيل أو من الموزون أو من غيره، فلا يجوز عندنا بيع ثوب مروي بثوب مروي نساء لوجود الجنس، ومنها وجود المعنى المضموم إليه الجنس في شرط تحريم التفاضل وهو الكيل والوزن
__________
(1) سورة الروم الآية 39
(2) سورة آل عمران الآية 130
(3) سورة البقرة الآية 275(42/32)
في غير الأثمان التي هي الدراهم والدنانير فلو باع حنطة بجص نساء لم يجز لوجود الكيل ولو باع حديدا بصفر نساء لم يجز لوجود الوزن والله تعالى الموفق.(42/33)
ومن أبواب الربا الشرعي السلم في الحيوان:
قال عمر رضي الله عنه إن من الربا أبوابا لا تخفى، منها السلم في السن، ولم تكن العرب تعرف ذلك ربا فعلم أنه قال ذلك توقيفا فجملة ما اشتمل عليه اسم الربا في الشرع النساء والتفاضل على شرائط قد تقرر معرفتها عند الفقهاء. والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا والشعير بالشعير مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا (1) » وذكر اسم التمر والملح والذهب والفضة فسمى الفضل في الجنس الواحد من المكيل والموزون ربا. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة بن زيد الذي رواه عنه عبد الرحمن بن عباس: «إنما الربا في النسيئة (2) » وفي بعض الألفاظ: «لا ربا إلا في النسيئة (3) » فثبت أن اسم الربا في الشرع يقع على التفاضل تارة وعلى النساء أخرى، وقد كان ابن عباس يقول: لا ربا إلا في النسيئة، ويجوز بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة متفاضلا ويذهب فيه إلى حديث أسامة بن زيد ثم لما تواتر عنده الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم التفاضل في الأصناف الستة رجع عن قوله. قال جابر بن زيد: رجع ابن عباس عن قوله في الصرف وعن قوله في المتعة، وإنما معنى حديث أسامة: النساء في الجنسين، كما روي في حديث عبادة بن الصامت وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد (4) » وذكر الأصناف الستة ثم قال: «بيعوا الحنطة بالشعير كيف شئتم يدا بيد (5) » وفي بعض الأخبار: «وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد (6) » فمنع النساء في الجنسين من المكيل والموزون وأباح التفاضل، فحديث أسامة بن زيد محمول على هذا.
ومن الربا المراد بالآية شراء ما يباع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن، والدليل على أن ذلك ربا حديث يونس بن إسحاق عن أبيه عن أبي العالية
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1588) ، سنن النسائي البيوع (4559) ، سنن ابن ماجه التجارات (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1588) ، سنن النسائي البيوع (4559) ، سنن ابن ماجه التجارات (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (2/232) .
(5) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(6) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) .(42/33)
قال: كنت عند عائشة فقالت لها امرأة إني بعت زيد بن أرقم جارية لي إلى عطائه بثمانمائة درهم وإنه أراد أن يبيعها فاشتريتها منه بستمائة فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب، فقالت: يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي فقالت: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) فدلت تلاوتها لآية الربا عند قولها " أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي " أن ذلك كان عندها من الربا وهذه التسمية طريقها التوقيف، وقد روى ابن المبارك عن حكم بن زريق عن سعيد بن المسيب قال: سألته عن رجل باع طعاما من رجل إلى أجل فأراد الذي اشترى الطعام أن يبيعه بنقد من الذي باعه منه فقال هو ربا، ومعلوم أنه أراد شراءه بأقل من الثمن الأول إذ لا خلاف أن شراءه بمثله أو أكثر منه جائز فسمى سعيد بن المسيب ذلك ربا.
وقد روي النهي عن ذلك عن ابن عباس والقاسم بن محمد ومجاهد وإبراهيم والشعبي وقال الحسن وابن سيرين في آخرين: إن باعه بنقد جاز أن يشتريه فإن كان باعه بنسيئة لم يشتره بأقل منه إلا بعد أن يحل الأجل.
وروي عن ابن عمر أنه إذا باعه ثم اشتراه بأقل من ثمنه جاز، ولم يذكر فيه قبض الثمن وجائز أن يكون مراده إذا قبض الثمن، فدل قول عائشة وسعيد بن المسيب أن ذلك ربا فعلمنا أنهما لم يسمياه ربا إلا توقيفا إذ لا يعرف ذلك اسما له من طريق اللغة فلا يسمى به إلا من طريق الشرع، وأسماء الشرع توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم بالصواب.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(42/34)
ومن أبواب الربا الدين بالدين:
وقد روى موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي(42/34)
صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن الكالئ بالكالئ» وفي بعض الألفاظ: عن الدين بالدين وهما سواء، وقال في حديث أسامة بن زيد: «إنما الربا في النسيئة (1) » إلا أنه في العقد عن الدين بالدين وأنه معفو عنه بمقدار المجلس؛ لأنه جائز له أن يسلم دراهم في كر حنطة وهما دين بدين إلا أنهما إذا افترقا قبل قبض الدراهم بطل العقد وكذلك بيع الدراهم بالدنانير جائز وهما دينان وإن افترقا قبل التقابض بطل.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(42/35)
ومن أبواب الربا الذي تضمنت الآية تحريمه:
الرجل يكون عليه ألف درهم دين مؤجل فيصالحه منه على خمسمائة حالة فلا يجوز، وقد روى سفيان عن حميد عن ميسرة قال: سألت ابن عمر: يكون لي على الرجل الدين إلى أجل فأقول عجل لي وأضع عنك؟ فقال: هو ربا، وروي عن زيد بن ثابت أيضا النهي عن ذلك، وهو قول سعيد بن جبير والشعبي والحكم، وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء، وقال ابن عباس وإبراهيم النخعي: لا بأس بذلك. والذي يدل على بطلان ذلك شيئان: أحدهما تسمية ابن عمر إياه ربا وقد بينا أن أسماء الشرع توقيف، والثاني أنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة فكانت الزيادة بدلا من الأجل فأبطله الله تعالى وحرمه وقال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1) وقال تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) حظر أن يؤخذ للأجل عوض فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجلة فوضع عنه على أن يعجله فإنما جعل الحط بحذاء الأجل فكان هذا هو معنى الربا الذي نص الله تعالى على تحريمه، ولا خلاف أنه لو كان عليه ألف درهم حالة فقال له أجلني وأزيدك فيها مائة درهم لا يجوز؛ لأن المائة عوض من الأجل، كذلك الحط
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 278(42/35)
في معنى الزيادة إذ جعله عوضا من الأجل وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الأبدال عن الآجال ولذلك قال أبو حنيفة فيمن دفع إلى خياط ثوبا فقال: إن خطته اليوم؛ فلك درهم، وإن خطته غدا فلك نصف درهم - أن الشرط الثاني باطل فإن خاطه غدا فله أجر مثله لأنه جعل الحط بحذاء الأجل والعمل في الوقتين على صفة واحدة فلم يجزه؛ لأنه بمنزل بيع الأجل على النحو الذي بيناه.
ومن أجاز من السلف إذا قال: عجل لي وأضع عنك فجائز أن يكون أجازوه إذا لم يجعله شرطا فيه، وذلك بأن يضع عنه بغير شرط، ويعجل الآخر الباقي بغير شرط، وقد ذكرنا الدلالة على أن التفاضل قد يكون ربا، على حسب ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأصناف الستة، وأن النساء قد يكون ربا في البيع بقوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد (1) » وقوله: «إنما الربا في النسيئة (2) » وأن السلم في الحيوان قد يكون ربا بقوله: «إنما الربا في النسيئة (3) » وقوله: «إذا اختلف النوعان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد (4) » وتسمية عمر إياه ربا، وشراء ما بيع بأقل من ثمنه قبل نقد الثمن لما بينا. وشرط التعجيل مع الحط، وقد اتفق الفقهاء على تحريم التفاضل في الأصناف الستة التي ورد بها الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة، وهو عندنا في حيز التواتر لكثرة رواته واتفاق الفقهاء على استعماله، واتفقوا أيضا في أن مضمون هذا النص معني به تعلق الحكم يجب اعتباره في غيره، واختلفوا فيه بعد اتفاقهم على اعتبار الجنس على الوجوه التي ذكرنا فيما سلف من هذا الباب، وأن حكم تحريم التفاضل غير مقصور على الأصناف الستة. وقد قال قوم هم شذوذ عندنا لا يعدون خلافا أن حكم تحريم التفاضل مقصور على الأصناف التي ورد فيها التوقيف دون تحريم غيرها.
ولما ذهب إليه أصحابنا في اعتبار الكيل والوزن دلائل من الأثر والنظر وقد ذكرناها في مواضع، ومما يدل عليه من فحوى الخبر قوله: «الذهب بالذهب مثلا بمثل وزنا بوزن، والحنطة بالحنطة مثلا بمثل كيلا بكيل (5) » .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(42/36)
فأوجب استيفاء المماثلة بالوزن في الموزون وبالكيل في المكيل فدل ذلك على أن الاعتبار في التحريم الكيل والوزن مضموما إلى الجنس. ومما يحتج به المخالف من الآية على اعتبار الأكل قوله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1) وقوله تعالى {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا} (2) فأطلق اسم الربا على المأكول، قالوا فهذا عموم في إثبات الربا في المأكول، وهذا عندنا لا يدل على ما قالوا من وجوه:
أحدها: ما قدمنا من إجمال لفظ الربا في الشرع وافتقاره إلى البيان فلا يصح الاحتجاج بعمومه، وإنما يحتاج إلى أن يثبت بدلالة أخرى أنه ربا حتى يحرمه بالآية ولا يأكله.
والثاني: أن أكثر ما فيه إثبات الربا في مأكول وليس فيه أن جميع المأكولات فيها ربا ونحن قد أثبتنا الربا في كثير من المأكولات، وإذا فعلنا ذلك فقد قضينا عهدة الآية، ولما ثبت بما قدمنا من التوقيف والاتفاق على تحريم بيع ألف بألف ومائة كما بطل بيع ألف بألف إلى أجل فجرى الأجل المشروط مجرى النقصان في المال وكان بمنزلة بيع ألف بألف ومائة وجب أن لا يصح الأجل في القرض كما لا يجوز قرض ألف بألف ومائة إذ كان نقصان الأجل كنقصان الوزن وكان الربا تارة من جهة نقصان الوزن وتارة من جهة نقصان الأجل وجب أن يكون القرض كذلك، فإن قال قائل ليس القرض في ذلك كالبيع؛ لأنه يجوز له مفارقته في القرض قبل قبض البدل ولا يجوز مثله في بيع ألف بألف. قيل له إنما يكون الأجل نقصانا إذا كان مشروطا فأما إذا لم يكن مشروطا فإن ترك القبض لا يوجب نقصا في أحد المالين، وإنما بطل
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة آل عمران الآية 130(42/37)
البيع لمعنى آخر غير نقصان أحدهما عن الآخر، ألا ترى أنه لا يختلف الصنفان والصنف الواحد في وجوب التقابض في المجلس؛ أعني الذهب بالفضة مع جواز التفاضل فيهما، فعلمنا أن الموجب لقبضهما ليس من جهة أن ترك القبض موجب للنقصان في غير المقبوض، ألا ترى أن رجلا لو باع من رجل عبدا بألف درهم ولم يقبض ثمنه سنين جاز للمشتري بيعه مرابحة على ألف، ولو كان باعه بألف إلى شهر ثم حل الأجل لم يكن للمشتري بيعه مرابحة على ألف حالة حتى يبين أنه اشتراه بثمن مؤجل، فدل ذلك على أن الأجل المشروط في العقد يوجب نقصا في الثمن، ويكون بمنزلة نقصان الوزن في الحكم، فإذا كان كذلك فالتشبيه بين القرض والبيع من الوجه الذي ذكرنا صحيح لا يعترض عليه هذا السؤال، ويدل على بطلان التأجيل فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الربا في النسيئة (1) » ولم يفرق بين البيع والقرض فهو على الجميع، ويدل عليه أن القرض لما كان تبرعا لا يصلح إلا مقبوضا، أشبه الهبة فلا يصح فيه التأجيل كما لا يصح في الهبة، وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم التأجيل فيها بقوله: «من أعمر عمرى فهي له ولورثته من بعده (2) » فأبطل التأجيل المشروط في الملك، وأيضا فإن قرض الدراهم عاريتها، وعاريتها قرضها؛ لأنها تمليك المنافع إذ لا يصل إليها إلا باستهلاك عينها، ولذلك قال أصحابنا: إذا أعاره دراهم فإن ذلك قرض، ولذلك لم يجيزوا استيجار الدراهم لأنها قرض فكأنه استقرض دراهم على أن يرد عليه أكثر منها، فلما لم يصح الأجل في العارية لم يصح في القرض.
ومما يدل على أن قرض الدراهم عارية حديث إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تدرون أي الصدقة خير؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: خير الصدقة المنحة؛ أن تمنح أخاك الدراهم أو ظهر الدابة أو لبن الشاة، (3) » والمنحة هي العارية فجعل قرض الدراهم عاريتها، ألا ترى إلى قوله في حديث آخر: «والمنحة مردودة (4) » فلما لم
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(2) صحيح مسلم الهبات (1625) ، سنن الترمذي الأحكام (1350) ، سنن النسائي العمرى (3747) ، سنن أبو داود البيوع (3551) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2380) ، مسند أحمد بن حنبل (3/386) ، موطأ مالك الأقضية (1479) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/463) .
(4) سنن الترمذي الوصايا (2120) ، سنن أبو داود البيوع (3565) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2398) .(42/38)
يصح التأجيل في العارية لم يصح في القرض وأجاز الشافعي التأجيل في القرض وبالله التوفيق ومنه الإعانة.(42/39)
باب البيع
قوله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) عموم في إباحة سائر البياعات لأن لفظ البيع موضوع لمعنى معقول في اللغة وهو تمليك المال بمال بإيجاب وقبول عن تراض منهما، وهذا هو حقيقية البيع في مفهوم اللسان. ثم منه جائز ومنه فاسد إلا أن ذلك غير مانع من اعتبار عموم اللفظ متى اختلفنا في جواز بيع أو فساده، ولا خلاف بين أهل العلم أن هذه الآية وإن كان مخرجها مخرج العموم فقد أريد الخصوص؛ لأنهم متفقون على حظر كثير من البياعات نحو بيع ما لم يقبض وبيع ما ليس عند الإنسان وبيع الغرر والمجاهيل وعقد البيع على المحرمات من الأشياء، وقد كان لفظ الآية يوجب جواز هذه البياعات، وإنما خصت منها بدلائل إلا أن تخصيصها غير مانع اعتبار عموم لفظ الآية فيما لم تقم الدلالة على تخصيصه، وجائز أن يستدل بعمومه على جواز البيع الموقوف؛ لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (2) والبيع اسم للإيجاب والقبول، وليست حقيقته وقوع الملك به للعاقد ألا ترى أن البيع المعقود على شرط خيار المتبايعين لم يوجب ملكا وهو بيع والوكيلان يتعاقدان البيع ولا يملكان
وقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) حكمه ما قدمناه من الإجمال والوقف على ورود البيان، فمن الربا ما هو بيع ومنه ما ليس ببيع وهو ربا أهل الجاهلية، وهو القرض المشروط فيه الأجل وزيادة مال على المستقرض.
وفي سياق الآية ما أوجب تخصيص ما هو ربا من البياعات من عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (4) وظن الشافعي أن لفظ الربا لما كان مجملا أنه
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 275(42/39)
يوجب إجمال لفظ البيع، وليس كذلك عندنا لأن ما لا يسمى ربا من البياعات فحكم العموم جار فيه، وإنما يجب الوقوف فيما شككنا أنه ربا أو ليس بربا فأما ما تيقنا أنه ليس بربا فغير جائز الاعتراض عليه بآية تحريم الربا، وقد بينا ذلك في أصول الفقه. وأما قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (1) حكاية عن المعتقدين لإباحته من الكفار فزعموا أنه لا فرق بين الزيادة المأخوذة على وجه الربا وبين سائر الأرباح المكتسبة بضروب البياعات، وجهلوا ما وضع الله أمر الشريعة عليه من مصالح الدين والدنيا فذمهم الله على جهلهم وأخبر عن حالهم يوم القيامة وما يحل بهم من عقابه. قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (2) يحتج به في جواز بيع ما لم يره المشتري ويحتج فيمن اشترى حنطة بحنطة بعينها متساوية أنه لا يبطل بالافتراق قبل القبض، وذلك لأنه معلوم من ورود اللفظ لزوم أحكام البيع وحقوقه من القبض والتصرف والملك وما جرى مجرى ذلك، فاقتضى ذلك بقاء هذه الأحكام مع ترك التقابض وهو كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (3) المراد تحريم الاستمتاع بهن. ويحتج أيضا لذلك بقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (4) من وجهين:
أحدهما: ما اقتضاه من إباحة الأكل قبل الافتراق وبعده من غير قبض.
والآخر: إباحة أكله لمشتريه قبل قبض الآخر بعد الفرقة.
وأما قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (5) فالمعنى فيه أن من انزجر بعد النهي فله ما سلف من المقبوض قبل نزول تحريم الربا ولم يرد ما لم يقبض لأن قد ذكر في نسق
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة النساء الآية 23
(4) سورة النساء الآية 29
(5) سورة البقرة الآية 275(42/40)
التلاوة حظر ما لم يقبض منه وإبطاله بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) فأبطل الله من الربا ما لم يكن مقبوضا وإن كان معقودا قبل نزول التحريم ولم يتعقب بالفسخ ما كان منه مقبوضا بقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (2) وقد روي ذلك عن السدي وغيره من المفسرين، وقال تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) فأبطل منه ما بقي مما لم يقبض ولم يبطل المقبوض، ثم قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (4) وهو تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه ولا زيادة، وروي عن ابن عمر وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته يوم حجة الوداع بمكة - وقال جابر بعرفات -: «إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب (5) » فكان فعله صلى الله عليه وسلم مواطئا لمعنى الآية في إبطال الله تعالى من الربا ما لم يكن مقبوضا وإمضائه ما كان مقبوضا، وفيما روي في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم ضروب من الأحكام
أحدها: أن كل ما طرأ على عقد البيع قبل القبض مما يوجب تحريمه فهو كالموجود في حال وقوعه وما طرأ بعد القبض مما يوجب تحريم ذلك العقد لم يوجب في فسخه، وذلك نحو النصرانيين إذا تبايعا عبدا بخمر فالبيع جائز عندنا، وإن أسلم أحدهما قبل قبض الخمر بطل العقد، وكذلك لو اشترى رجل مسلم صيدا ثم أحرم البائع أو المشتري بطل البيع لأنه قد طرأ عليه ما يوجب تحريم العقد قبل القبض كما أبطل الله تعالى من الربا ما لم يقبض لأنه طرأ عليه ما يوجب تحريمه قبل القبض وإن كانت الخمر مقبوضة ثم أسلما أو أحرما لم يبطل البيع كما لم يبطل الله الربا المقبوض حين أنزل التحريم، فهذا جائز في
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 278
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) صحيح البخاري التمني (7230) ، صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن الترمذي الحج (856) ، سنن النسائي مناسك الحج (2763) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، موطأ مالك الحج (836) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .(42/41)
نظائره من المسائل، ولا يلزم عليه أن يقتل العبد المبيع قبل القبض ولا يبطل البيع، وللمشتري اتباع الجاني من قبل أنه لم يطرأ على العقد ما يوجب تحريم العقد لأن العقد باق على هيئته التي كان عليها، والقيمة قائمة مقام المبيع، وإنما يعتبر المبيع وللمشتري الخيار فحسب. وفيها دلالة على أن هلاك المبيع في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد، وهو قول أصحاب الشافعي، وقال مالك: لا يبطل والثمن لازم للمشتري إذا لم يمنعه، ودلالة الآية ظاهرة في أن قبض المبيع من تمام البيع وأن سقوط القبض يوجب بطلان العقد؛ وذلك لأن الله تعالى لما أسقط قبض الربا أبطل العقد الذي عقداه وأمر بالاقتصار على رأس المال، فدل ذلك على أن قبض المبيع من شرائط صحة العقد، وأنه متى طرأ على العقد ما يسقطه أوجب ذلك بطلانه، وفيها الدلالة على أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ، وإن كانت معقودة على فساد؛ لأنه معلوم أنه كان بين نزول وبين خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ووضعه الربا الذي لم يكن مقبوضا عقود من عقود الربا بمكة قبل الفتح ولم يتعقبها بالفسخ ولم يميز ما كان منها قبل نزول الآية مما كان منها بعد نزولها، فدل ذلك على أن العقود الواقعة في دار الحرب بينهم وبين المسلمين إذا ظهر عليها الإمام لا يفسخ منها ما كان مقبوضا.
وقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (1) يدل على ذلك أيضا لأنه قد جعل له ما كان مقبوضا منه قبل الإسلام.
وقد قيل إن معنى قوله الله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} (2) من ذنوبه على معنى أن الله يغفرها له، وليس هذا كذلك لأن الله تعالى قد قال: {وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (3) يعني فيما يستحقه من عقاب أو ثواب فلم يعلمنا حكمه في الآخرة، ومن جهة أخرى أنه لو كان هذا مرادا لم ينتف به ما ذكرنا فيكون على الأمرين جميعا لاحتماله لهما فيغفر
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275(42/42)
الله ذنوبه ويكون له المقبوض من ذلك قبل إسلامه وذلك يدل على أن بياعات أهل الحرب كلها ماضية إذا أسلموا بعد التقابض فيها لقوله تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) وقوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (3) قال أبو بكر يحتمل ذلك معنيين:
أحدهما: إن لم تقبلوا أمر الله تعالى ولم تنقادوا له
الثاني: إن لم تذروا ما بقي من الربا بعد نزول الأمر بتركه فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن اعتقدوا تحريمه، وقد روي عن ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس فيمن أربى أن الإمام يستتيبه فإن تاب وإلا قتله، وهذا محمول على أن يفعله مستحلا له لأنه لا خلاف بين أهل العلم أنه ليس بكافر إذا اعتقد تحريمه. وقوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4) لا يوجب إكفارهم لأن ذلك قد يطلق على ما دون الكفر من المعاصي، قال زيد بن أسلم عن أبيه: أن عمر رأى معاذا يبكي فقال: ما يبكيك؟ فقال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: «اليسير من الرياء شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة (5) » . فأطلق اسم المحاربة عليه وإن لم يكفر.
وروى أسباط عن السدي عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم: «أنا حرب لمن حاربتم سلم لمن سالمتم (6) » وقال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} (7) .
والفقهاء متفقون على أن ذلك حكم جار في أهل الملة وأن هذه السمة تلحقهم بإظهارهم قطع الطريق، وقد دل على أنه جائز إطلاق اسم المحاربة لله ورسوله على من عظمت معصيته وفعلها مجاهرا بها وإن كانت
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) سنن ابن ماجه كتاب الفتن (3989) .
(6) سنن الترمذي المناقب (3870) ، سنن ابن ماجه المقدمة (145) .
(7) سورة المائدة الآية 33(42/43)
دون الكفر وقوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) إخبار منه بعظم معصيته وأنه يستحق بها المحاربة عليها وإن لم يكن كافرا وكان ممتنعا على الإمام، فإن لم يكن ممتنعا عاقبه الإمام بمقدار ما يستحقه من التعزير والردع.
وكذلك ينبغي أن يكون حكم سائر المعاصي التي أوعد الله عليها العقاب إذا أصر الإنسان عليها وجاهر بها، وإن كان ممتنعا حورب عليها هو ومتبعوه، وقوتلوا حتى ينتهوا، وإن كانوا غير ممتنعين عاقبهم الإمام بمقدار ما يرى من العقوبة.
وكذلك حكم من يأخذ أموال الناس من المتسلطين الظلمة، وآخذي الضرائب واجب على كل المسلمين قتالهم وقتلهم إذا كانوا ممتنعين، وهؤلاء أعظم جرما من آكلي الربا؛ لانتهاكهم حرمة النهي وحرمة المسلمين جميعا، وآكل الربا إنما انتهك حرمة الله تعالى في أخذ الربا، ولم ينتهك لمن يعطيه ذلك حرمة لأنه أعطاه بطيبة نفسه، وآخذو الضرائب في معنى قطاع الطريق المنتهكين لحرمة نهي الله تعالى وحرمة المسلمين إذ كانوا يأخذونه جبرا وقهرا لا على تأويل ولا شبهة، فجائز لمن علم من المسلمين إصرار هؤلاء على ما هم عليه من أخذ أموال الناس على وجه الضريبة أن يقتلهم كيف أمكنه قتلهم وكذلك أتباعهم وأعوانهم الذين بهم يقومون على أخذ الأموال.
وقد كان أبو بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة لموافقة من الصحابة إياه على شيئين: أحدهما الكفر والآخر منع الزكاة، وذلك لأنهم امتنعوا من قبول فرض الزكاة ومن أدائها فانتظمها به معنيين أحدهما الامتناع من قبول أمر الله تعالى؛ وذلك كفر، والآخر الامتناع من أداء الصدقات المفروضة في أموالهم إلى الإمام، فكان قتاله إياهم للأمرين جميعا، ولذلك قال: لو منعوني عقالا، وفي بعض الأخبار عناقا مما كانوا يؤدونه إلى رسول صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. فإنما قلنا: إنهم كانوا كفارا ممتنعين من قبول فرض الزكاة لأن الصحابة سموهم أهل الردة وهذه السمة لازمة لهم إلى يومنا هذا، وكانوا سبوا نساءهم وذراريهم، ولو لم
__________
(1) سورة البقرة الآية 279(42/44)
يكونوا مرتدين لما سار فيهم هذه المسيرة وذلك شيء لم يختلف فيه الصدر الأول ولا من بعدهم من المسلمين؛ أعني في أن القوم الذين قاتلهم أبو بكر كانوا أهل ردة، فالمقيم على أكل الربا إن كان مستحلا له فهو كافر، وإن كان ممتنعا بجماعة تعضده سار فيهم الإمام بسيرته في أهل الردة إن كانوا قبل ذلك من جملة أهل الملة، وإن اعترفوا بتحريمه وفعلوه غير مستحلين له قاتلهم الإمام إن كانوا ممتنعين حتى يتوبوا، وإن لم يكونوا ممتنعين ردعهم عن ذلك بالضرب والحبس حتى ينتهوا.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران وكانوا ذمة نصارى: «إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله،» وروى أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثني أيوب الدمشقي قال حدثني سعدان بن يحيى عن عبد الله بن أبي حميد عن أبي مليح الهذلي: «أن رسول الله صلى عليه وسلم صالح أهل نجران فكتب إليهم كتابا في آخره: على أن لا تأكلوا الربا، فمن أكل الربا فذمتي منه بريئة» . فقول الله تعالى {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) عقيب قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) هو عائد عليهما جميعا من رد الأمر على حاله ومن الإقامة على أكل الربا مع قبول الأمر، فمن رد الأمر قوتل على الردة، ومن قبل الأمر وفعله محرما له قوتل على تركه إن كان ممتنعا ولا يكون مرتدا، وإن لم يكن ممتنعا عزر بالحبس والضرب على ما يرى الإمام.
وقوله تعالى {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (3) إعلام بأنهم إن لم يفعلوا ما أمروا به في هذه الآية فهم محاربون لله ورسوله، وفي ذلك إخبار منه بمقدار عظم الجرم وأنهم يستحقون به هذه السمة؛ وهي أن يسموا محاربين لله ورسوله، وهذه السمة يعتورها معنيان: أحدهما الكفر إذا كان مستحلا والآخر الإقامة على أكل الربا مع اعتقاد
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279(42/45)
التحريم على ما بيناه، ومن الناس من يحمله على أنه إعلام منه بأن الله تعالى يأمر رسوله والمؤمنين بمحاربتهم، ويكون إيذانا لهم بالحرب حتى لا يؤتوا على غرة قبل العلم بها؛ كقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (1) فإذا حمل على هذا الوجه كان الخطاب بذلك متوجها إليهم إذا كانوا ذوي منعة، وإذا حملناه على الوجه الأول دخل كل واحد من فاعلي ذلك في الخطاب، وتناوله الحكم المذكور فيه فهو أولى.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 58(42/46)
(ب) قال أبو بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي في كتابه "أحكام القرآن": الآية السابعة والثمانون قوله تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} (1) هذه الآية من أركان الدين، وفيها خمس مسائل:
(المسألة الأولى) في سبب نزولها. ذكر من فسر أن الله تعالى لما حرم الربا قالت ثقيف: وكيف ننتهي عن الربا وهو مثل البيع؟! فنزلت فيهم الآية.
(المسألة الثانية) قال علماؤنا: قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} (2) كناية عن استيجابه في البيع وقبضه باليد لأن ذلك إنما يفعله المربي قصدا لما يأكله فعبر بالأكل عنه وهو مجاز من باب التعبير عن الشيء بفائدته وثمرته وهو أحد قسمي المجاز كما بيناه في غير موضع.
(المسألة الثالثة) قال علماؤنا: الربا في اللغة هو الزيادة ولا بد في الزيادة من مزيد عليه تظهر الزيادة به، فلأجل ذلك اختلفوا: هل هي عامة في تحريم كل ربا أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها، والصحيح أنها عامة لأنهم كانوا يتبايعون ويربون، وكان الربا عندهم معروفا يبايع الرجل الرجل إلى أجل فإذا حل الأجل قال: أتقضي أم تربي، يعني أم تزيدني على ما لي عليك وأصبر
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275(42/46)
أجلا آخر، فحرم الله تعالى الربا وهو الزيادة، ولكن لما كان كما قلنا لا تظهر الزيادة إلا على مزيد عليه، ومتى قابل الشيء غير جنسه في المعاملة لم تظهر الزيادة، وإذا قابل جنسه لم تظهر الزيادة أيضا إلا بإظهار الشرع، ولأجل هذا صارت الآية مشكلة على الأكثر معلومة لمن أيده الله تعالى بالنور الأظهر وقد فاوضت فيها علماء وباحثت رفعاء فكل منهم أعطى ما عنده حتى انتظم فيها سلك المعرفة بدرره وجوهرته العليا: أن من زعم أن هذه الآية مجملة فلم يفهم مقاطع الشريعة فإن الله تعالى أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوم هو منهم بلغتهم، وأنزل عليهم كتابه تيسيرا منه بلسانهم، وقد كانت التجارة والبيع عندهم من المعاني المعلومة فأنزل عليهم مبينا لهم ما يلزمهم فيهما ويعقدونهما عليه فقال تعالى {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) والباطل كما بيناه في كتب الأصول هو الذي لا يفيد وقع التعبير به عن تناول المال بغير عوض في صورة العوض، والتجارة هي مقابلة الأموال بعضها ببعض وهو البيع وأنواعه في متعلقاته بالمال كالأعيان المملوكة، أو ما في معنى المال كالمنافع، وهي ثلاثة أنواع:
عين بعين: وهو بيع النقد، أو بدين مؤجل: وهو السلم، أو حال: وهو يكون في الثمن، أو على رسم الاستصناع، أو بيع عين بمنفعة وهو الإجارة.
والربا في اللغة هو الزيادة، والمراد به في الآية كل زيادة لم يقابلها عوض، فإن الزيادة ليست بحرام لعينها بدليل جواز العقد عليها على وجهه ولو كانت حراما ما صح أن يقابلها عوض ولا يرد عليها عقد كالخمر والميتة وغيرهما، وتبين أن معنى الآية: وأحل الله البيع المطلق الذي يقع فيه العوض على صحة القصد والعمل وحرم منه ما وقع على وجه الباطل، وقد كانت الجاهلية تفعله كما تقدم، فتزيد زيادة لم يقابلها عوض، وكانت تقول: إنما البيع مثل الربا أي إنما الزيادة عند حلول
__________
(1) سورة النساء الآية 29(42/47)
الأجل آخرا مثل أصل الثمن في أول العقد فرد الله تعالى عليهم قولهم وحرم ما اعتقدوه حلالا عليهم، وأوضح أن الأجل إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدى أنظر إلى الميسرة تخفيفا، يحققه أن الزيادة إنما تظهر بعد تقدير العوضين فيه، وذلك على قسمين:
أحدهما: تولي الشرع تقدير العوض فيه وهو الأموال الربوية، فلا تحل الزيادة فيه، وأما الذي وكله إلى المتعاقدين فالزيادة فيه على قدر مالية العوضين عند التقابل على قسمين: أحدهما ما يتغابن الناس بمثله فهو حلال بإجماع، ومنه ما يخرج عن العادة، واختلف علماؤنا فيه: فأمضاه المتقدمون وعدوه من فن التجارة، ورده المتأخرون ببغداد ونظرائها وحدوا المردود بالثلث.
والذي أره أنه إذا وقع عن علم المتعاقدين فإنه حلال ماض لأنهما يفتقران إلى ذلك في الأوقات وهو داخل تحت قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (1) وإن وقع عن جهل من أحدهما فإن الآخر بالخيار، وفي مثله ورد الحديث: «أن رجلا كان يخدع في البيوع فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بايعت فقل: لا خلابة (2) » زاد الدارقطني وغيره: «ولك الخيار ثلاثا» وقد مهدناه في شرح الحديث ومسائل الخلاف فهذا أصل علم هذا الباب.
فإن قيل: أنكرتم الإجمال في الآية وما أوردتموه من البيان والشروط هو بيان ما لم يكن في الآية مبينا ولا يوجد عنها من القول ظاهرا.
قلنا: هذا سؤال من لم يحضر ما مضى من القول ولا ألقي إليه السمع وهو شهيد وقد توضح في مسائل الكلام أن جميع ما أحل الله لهم أو حرم عليهم كان معلوما عندهم لأن الخطاب جاء فيه بلسانهم فقد أطلق لهم حل ما كانوا يفعلونه من بيع وتجارة ويعلمونه، وحرم عليهم أكل المال بالباطل وقد كانوا يفعلونه
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) صحيح البخاري البيوع (2117) ، صحيح مسلم البيوع (1533) ، سنن النسائي البيوع (4484) ، سنن أبو داود البيوع (3500) ، مسند أحمد بن حنبل (2/130) ، موطأ مالك البيوع (1393) .(42/48)
ويعلمونه ويتسامحون فيه، ثم إن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم زيادة فيما كان عندهم من عقد أو عوض لم يكن عندهم جائزا فألقى إليهم وجوه الربا المحرمة في كل مقتات، وثمن الأشياء مع الجنس متفاضلا وألحق به بيع الرطب بالتمر والعنب بالزبيب والبيع والسلف وبين وجوه أكل المال بالباطل في بيع الغرر كله أو ما لا قيمة له شرعا فيما كانوا يعتقدونه متقوما كالخمر والميتة والدم وبيع الغش، ولم يبق في الشريعة بعد هاتين الآيتين بيان يفتقر إليه في الباب، وبقي ما وراءهما على الجواز إلا أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يصح ستة وخمسون معنى نهي عنها:
الأول والثاني: ثمن الأشياء جنسا بجنس.
والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع: بيع المقتات أو ثمن الأشياء جنسا بجنس متفاضلا أو جنسا بغير جنسه نسيئة أو بيع الرطب بالتمر أو العنب بالزبيب أو بيع المزابنة على أحد القولين أو عن بيع وسلف وهذا كله داخل في الربا وهو مما تولى الشرع تقدير العوض فيه فلا تجوز الزيادة عليه.
الثامن: بيعتان في بيعة. التاسع: بيع الغرر، ورد بيع الملامسة والمنابذة والحصاة وبيع الثنيا وبيع العريان وما ليس عندك والمضامين والملاقيح وحبل حبلة ويتركب عليهما من وجه بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها وبيع السنبل حتى يشتد والعنب حتى يسود وهو مما قبله وبيع المحاقلة والمعاومة والمخابرة والمحاصرة وبيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن وبيع الطعام قبل أن يستوفي من بعض ما تقدم والخمر والميتة وشحومها وثمن الدم وبيع الأصنام وعسيب الفحل والكاب والسنور وكسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن وبيع المضطر وبيع الولاء وبيع الولد أو الأم فردين أو الأخ والأخ فردين وكراء الأرض والماء والكلأ والنجس وبيع الرجل على بيع أخيه وخطبته على خطبة أخيه وحاضر لباد وتلقي السلع والقينات.
فهذه ستة وخمسون معنى حضرت الخاطر مما نهي عنه أوردناها حسب نسقها في(42/49)
الذكر، وهي ترجع في التقسيم الصحيح الذي أوردناه في المسائل إلى سبعة أقسام: ما يرجع إلى صفة العقد، وما يرجع إلى صفة المتعاقدين، وما يرجع إلى العوضين، وإلى حال العقد، والسابع وقت العقد كالبيع وقت نداء يوم الجمعة أو في آخر جزء من الوقت المعين للصلاة، ولا تخرج عن ثلاثة أقسام وهي الربا والباطل والغرر، ويرجع الغرر بالتحقيق إلى الباطل فيكون قسمين على الآيتين.
وهذه المناهي تتداخل ويفصلها المعنى، ومنها أيضا ما يدخل في الربا والتجارة ظاهرا، ومنها ما يخرج عنها ظاهرا، ومنها ما يدخل فيها باحتمال، ومنها ما ينهى عنها مصلحة للخلق وتألفا بينهم لما في التدابر من المفسدة.
(المسألة الرابعة) : قد بينا أن الربا على قسمين: زيادة في الأموال المقتاتة والأثمان والزيادة في سائرها، وذكرنا حدودها وبينا أن الربا فيما جعل التقدير فيه للمتعاقدين جائز بعلمهما ولا خلاف فيه، وكذلك يجوز الربا في هبة الثواب.
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيما رجل وهب هبة يرى أنها للثواب فهو على هبته حتى يرضى منها. فهو مستثنى من الممنوع الداخل في عموم التحريم، وقد انتهى القول في هذا الغرض ها هنا وشرحه في تفسير الحديث ومسائل الخلاف، ومنه ما تيسر على آيات القرآن في هذا القسم من الأحكام.
(المسألة الخامسة) : من معنى هذه الآية وهي في التي بعدها قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1) ذهب بعض الغلاة من أرباب الورع إلى أن المال الحلال إذا خالطه حرام حتى لم يتميز ثم أخرج منه مقدار الحرام المختلط به لم يحل ولم يطب لأنه يمكن أن يكون الذي أخرج هو الحلال.
__________
(1) سورة البقرة الآية 279(42/50)
والذي بقي هو الحرام وهو غلو في الدين فإن كل ما لم يتميز فالمقصود منه ماليته لا عينه، ولو تلف لقام المثل مقامه، والاختلاط إتلاف لتميزه كما أن الإهلاك إتلاف لعينه والمثل قائم مقام الذاهب وهذا بين حسابين معنى، والله أعلم) .(42/51)
(جـ) قال أبو الفداء إسماعيل بن كثير في تفسيره: قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) .
لما ذكر الله تعالى الأبرار المؤدين النفقات المخرجين الزكوات المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات في جميع الأحوال والأوقات: شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات. أخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم فقال: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2) أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له، وذلك أنه يقوم قياما منكرا، وقال ابن عباس: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق، رواه ابن أبي حاتم، قال: وروي عن عوف بن مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك، وحكي عن عبد الله بن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا: في قوله {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (3) يعني.
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275(42/51)
لا يقومون يوم القيامة، وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد والضحاك وابن زيد، وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حنيف عن أبي عبد الله بن مسعود عن أبيه أنه كان يقرأ: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة " - وقال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا ربيعة بن كلثوم حدثنا أبي - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب وقرأ: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (1) وذلك حين يقوم من قبره.
وفي حديث أبي سعيد في الإسراء كما هو مذكور في سورة "سبحان": «أنه عليه السلام مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت، فسأل عنهم فقيل: هؤلاء أكلة الربا» . رواه البيهقي مطولا، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات تجري من خارج بطونهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا (2) » ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان كلاهما عن حماد بن سلمة به، وفي إسناده ضعف
وقد روى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل: «فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه حجرا (3) » وذكر في تفسيره أنه آكل الربا.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (4) أي إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه، وليس هذا قياسا منهم
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2273) .
(3) صحيح البخاري التعبير (7047) ، مسند أحمد بن حنبل (5/9) .
(4) سورة البقرة الآية 275(42/52)
للربا على البيع؛ لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع وإنما قالوا (إنما البيع مثل الربا) أي هو نظيره فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع أي هذا مثل هذا وقد أحل هذا وحرم هذا.
وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) يحتمل أن يكون من تمام الكلام ردا عليهم؛ أي على ما قالوه من الاعتراض مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما، وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها، وما ينفع عباده فيبيحه لهم وما يضرهم فينهاهم عنه، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل، ولهذا قال: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) ؛ أي من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة لقوله: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} (3) وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين، وأول ربا أضع ربا العباس (4) » ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف، كما قال تعالى: {فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (5) قال سعيد بن جبير والسدي: فله ما سلف ما كان أكل من الربا قبل التحريم.
وقال ابن أبي حاتم: قرأ علي محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن أبي إسحاق الهمداني عن أم يونس يعني امرأته العالية بنت أبقع أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها أم محبة أم ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين أتعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة، فقالت: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب، قالت: فقلت: أرأيت
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة المائدة الآية 95
(4) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(5) سورة البقرة الآية 275(42/53)
إن تركت المائتين وأخذت الستمائة قالت: نعم {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (1) وهذا الأثر مشهور وهو دليل لمن حرم مسألة العينة مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة المقررة في كتاب الأحكام، ولله الحمد والمنة.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ عَادَ} (2) أي إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحجة، ولهذا قال: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (3) وقد قال أبو داود: حدثنا يحيى أبو داود حدثنا يحيى بن معين أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي الزبير عن جابر قال: لما نزلت {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (4) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله (5) » ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي خيثم، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وإنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض، إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسما لمادة الربا؛ لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (6) .
باب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه: الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا- يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا، والشريعة
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سنن أبو داود البيوع (3406) .
(6) سورة يوسف الآية 76(42/54)
شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله لأن ما أفضى إلى الحرام حرام كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه (1) » .
وفي السنن عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » .
وفي الحديث الآخر: «الإثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس (3) » وفي رواية: «استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك (4) » .
وقال الثوري عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس قال: آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا، رواه البخاري عن قبيصة بن عقبة وقال أحمد عن يحيى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر قال: من آخر ما نزل آية الربا وإن رسول الله قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة. وقال: رواه ابن ماجه وابن مردويه من طريق هياج بن بسطام عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: " إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم، وآمركم بأشياء لا تصلح لكم، وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم" وقد قال ابن أبي عدي بالإسناد موقوفا فذكره، ورده الحاكم في مستدركه وقد قال ابن ماجه: حدثنا عمرو بن علي الصيرفي حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن زيد عن إبراهيم عن مسروق عن عبد الله هو ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والربا ثلاثة وسبعون بابا (5) » ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عمرو بن علي الفلاس بإسناد مثله وزاد: «أيسرها أن ينكح الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم (6) » وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقال ابن ماجه: حدثنا عبد الله بن
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2553) ، سنن الترمذي الزهد (2389) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) ، سنن الدارمي الرقاق (2789) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/228) ، سنن الدارمي البيوع (2533) .
(5) سنن ابن ماجه التجارات (2275) .
(6) سنن ابن ماجه التجارات (2274) .(42/55)
سعيد حدثنا عبد الله بن إدريس عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الربا سبعون جزءا أيسرها أن ينكح الرجل أمه (1) »
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم عن عباد بن راشد عن سعيد بن أبي خيرة حدثنا الحسن منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا " قال: قيل له: الناس كلهم؟ قال: من لم يأكله منهم ناله من غباره (2) » وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن به.
ومن هذا القبيل تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات، الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة قالت: «لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقرأهن فحرم التجارة في الخمر (3) » وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي من طرق عن الأعمش به وهكذا لفظ رواية البخاري عند تفسير هذه الآية فحرم التجارة وفي لفظ له عن عائشة قالت: «لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ثم حرم التجارة في الخمر (4) » قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة: لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك كما قال عليه السلام في الحديث المتفق عليه: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها. وأكلوا أثمانها (5) » وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما عند لعن المحلل في تفسير قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (6) قوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه (7) » قالوا: وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا بالاعتبار بمعناه لا بصورته لأن الأعمال بالنيات، وفي الصحيح: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (8) » وقد
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2274) .
(2) سنن النسائي البيوع (4455) ، سنن أبو داود البيوع (3331) ، سنن ابن ماجه التجارات (2278) ، مسند أحمد بن حنبل (2/494) .
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4540) ، صحيح مسلم المساقاة (1580) ، سنن النسائي البيوع (4665) ، سنن أبو داود البيوع (3490) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (6/127) ، سنن الدارمي البيوع (2569) .
(4) صحيح البخاري تفسير القرآن (4540) ، صحيح مسلم المساقاة (1580) ، سنن النسائي البيوع (4665) ، سنن أبو داود البيوع (3490) ، مسند أحمد بن حنبل (6/127) ، سنن الدارمي البيوع (2569) .
(5) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3460) ، صحيح مسلم المساقاة (1582) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4257) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3383) ، مسند أحمد بن حنبل (1/25) ، سنن الدارمي الأشربة (2104) .
(6) سورة البقرة الآية 230
(7) صحيح مسلم المساقاة (1597، 1598) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .
(8) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) .(42/56)
صنف الإمام العلامة أبو العباس ابن تيمية كتابا في إبطال التحليل تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل، وقد كفى في ذلك وشفى فرحمه الله ورضي عنه.
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (1) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2) .
يخبر تعالى أنه يمحق الربا أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به بل يعذبه به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة كما قال تعالى: {قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (3) وقال تعالى: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ} (4) وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (5) الآية وقال ابن جرير: قوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (6) وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل (7) » وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده فقال: حدثنا حجاج حدثنا شريك عن الركين بن الربيع عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل (8) » وقد رواه ابن ماجه عن العباس بن جعفر عن عمرو بن عون عن يحيى بن أبي زائدة عن إسرائيل عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري عن أبيه عن ابن مسعود عن
__________
(1) سورة البقرة الآية 276
(2) سورة البقرة الآية 277
(3) سورة المائدة الآية 100
(4) سورة الأنفال الآية 37
(5) سورة الروم الآية 39
(6) سورة البقرة الآية 276
(7) سنن ابن ماجه التجارات (2279) ، مسند أحمد بن حنبل (1/395) .
(8) سنن ابن ماجه التجارات (2279) ، مسند أحمد بن حنبل (1/395) .(42/57)
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قل (1) » وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود كما قال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا الهيثم بن نافع الظاهري حدثني أبو يحيى - رجل من أهل مكة - عن فروخ مولى عثمان أن عمر وهو يومئذ أمير المؤمنين خرج من المسجد فرأى طعاما منشورا فقال: ما هذا الطعام؟ فقالوا: طعام جلب إلينا، قال: بارك الله فيه وفيمن جلبه، قيل: يا أمير المؤمنين إنه قد احتكر قال: من احتكره؟ قالوا: فروخ مولى عثمان، وفلان مولى عمر، فأرسل إليهما فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالا: يا أمير المؤمنين نشتري بأموالنا ونبيع، فقال: عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس أو بجذام (2) » فقال فروخ عند ذلك: أعاهد الله وأعاهدك أن لا أعود في طعام أبدا، وأما مولى عمر فقال: إنما نشتري بأموالنا ونبيع، قال أبو يحيى: فقد رأيت مولى عمر مجذوما ورواه ابن ماجه من حديث الهيثم بن رافع به ولفظه: «من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس والجذام (3) » .
وقوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (4) قرئ بضم الياء والتخفيف من ربا الشيء يربو وأرباه يربيه أي كثره ونماه ينميه وقرئ يربي بالضم والتشديد من التربية، قال البخاري: حدثنا عبد الله بن كثير أخبرنا كثير سمع أبا النضر حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل (5) » كذا رواه في كتاب الزكاة
وقال في كتاب التوحيد: وقال خالد بن مخلد بن سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار فذكر بإسناده نحوه وقد رواه مسلم في الزكاة عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن خالد
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2279) .
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2155) ، مسند أحمد بن حنبل (1/21) .
(3) سنن ابن ماجه التجارات (2155) ، مسند أحمد بن حنبل (1/21) .
(4) سورة البقرة الآية 276
(5) صحيح البخاري الزكاة (1410) ، صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (661) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) .(42/58)
بن مخلد فذكره قال البخاري: ورواه مسلم بن أبي مريم وزيد بن أسلم وسهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: أما رواية مسلم بن أبي مريم فقد تفرد البخاري بذكرها وأما طريق زيد بن أسلم فرواها مسلم في صحيحه عن أبي الظاهر بن السرح عن أبي وهب عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم به وأما حديث سهيل فرواه مسلم عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن عن سهيل به والله أعلم.
قال البخاري وقال: ورقاء عن ابن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أسند هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي عن الحاكم وغيره عن الأصم عن العباس المروزي عن أبي الزناد هاشم بن القاسم عن ورقاء وهو ابن عمر اليشكري عن عبد الله بن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل أحد (1) » وهكذا روى هذا الحديث مسلم والترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن الليث بن سعد عن سعيد المقبري وأخرجه النسائي من رواية مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري ومن طريق يحيى القطان عن محمد بن عجلان ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقد روي عن أبي هريرة من وجه آخر فقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي حدثنا وكيع عن عباد بن منصور حدثنا القاسم بن محمد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد (2) » وتصديق ذلك في كتاب الله {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (3) وكذا رواه أحمد عن وكيع وهو في تفسير وكيع ورواه الترمذي
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1410) ، صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (661) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1410) ، صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (662) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/404) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) .
(3) سورة البقرة الآية 276(42/59)
عن أبي كريب عن وكيع به وقال حسن صحيح، وكذا رواه الترمذي عن عباد بن منصور به، ورواه أحمد أيضا عن خلف بن الوليد عن ابن المبارك عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن منصور كلاهما عن أبي نضرة عن القاسم به، وقد رواه ابن جرير عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه فيأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله أو قال في كف الله حتى تكون مثل أحد فتصدقوا (1) » وهكذا رواه أحمد عن عبد الرزاق وهذا طريق غريب صحيح الإسناد ولكن لفظه عجيب والمحفوظ ما تقدم، وروي عن عائشة أم المؤمنين فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد عن ثابت عن القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد (2) » تفرد به أحمد من هذا الوجه.
وقال البزار حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور حدثنا إسماعيل حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتصدق من الكسب الطيب ولا يقبل الله إلا الطيب فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه (3) » أو قال فصيله ثم قال: لا نعلم أحدا رواه عن يحيى بن سعيد عن عمرة إلا أبا أويس.
وقوله: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (4) أي لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة فهو
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/268) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (6/251) .
(3) صحيح البخاري الزكاة (1410) ، صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (661) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/541) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) .
(4) سورة البقرة الآية 276(42/60)
جحود لما عليه من النعمة ظلوم آثم يأكل أموال الناس بالباطل - ثم قال تعالى مادحا للمؤمنين بربهم المطيعين أمره المؤدين شكره المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مخبرا عما أعد لهم من الكرامة وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (3) {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (5) .
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه ناهيا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} (6) أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (7) أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الإنذار {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (8) أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك.
وقد ذكر زيد بن أسلم وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف وبني المغيرة من بني مخزوم كان بينهم ربا في الجاهلية فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم فتشاوروا، وقالت بنو المغيرة لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام، فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه
__________
(1) سورة البقرة الآية 277
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 280
(5) سورة البقرة الآية 281
(6) سورة البقرة الآية 278
(7) سورة البقرة الآية 278
(8) سورة البقرة الآية 248(42/61)
الآية، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (2) فقالوا: نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا، فتركوه كلهم، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار، قال ابن جريج قال ابن عباس: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ} (3) أي استيقنوا بحرب من الله ورسوله، وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب، ثم قرأ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (4) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (5) فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي عن الحسين حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الأعلى حدثنا هشام بن حسان عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا: والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا وإنهم قد أذنوا بحرب من الله ورسوله ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح، وقال قتادة: أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون وجعلهم بهرجا أين ما أتوا فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة. رواه ابن أبي حاتم
وقال الربيع بن أنس: أوعد الله آكل الربا بالقتل رواه ابن جرير وقال السهيلي: ولهذا قالت عائشة لأم محبة مولاة زيد بن أرقم في مسألة العينة أخبريه أن جهاده مع النبي صلى الله عليه وسلم قد أبطل إلا أن يتوب فخصت الجهاد لأن ضد قوله: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (6) قال: وهذا المعنى ذكره كثير قال: ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف.
ثم قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (7) أي بأخذ الزيادة ولا تظلمون أي بوضع رؤوس الأموال أيضا بل لكم
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 279
(4) سورة البقرة الآية 279
(5) سورة البقرة الآية 279
(6) سورة البقرة الآية 279
(7) سورة البقرة الآية 279(42/62)
ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن الحسين بن أشكاب حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن شبيب بن غرقدة البارقي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله (1) » كذا وجده سليمان بن الأحوص وقد قال ابن مردويه: حدثنا الشافعي حدثنا معاذ بن المثنى أخبرنا مسدد أخبرنا أبو الأحوص حدثنا شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إلا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (2) » وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حمزة الرقاشي عن عمرو هو ابن خارجة فذكره.
وقوله: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء فقال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (4) لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين: إما أن تقضي وإما أن تربي. ثم يندب إلى الوضع عنه ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل فقال: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) أي وإن تتركوا المال بالكلية وتضعوه عن المدين.
__________
(1) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .
(2) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن أبو داود البيوع (3334) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .
(3) سورة البقرة الآية 280
(4) سورة البقرة الآية 280
(5) سورة البقرة الآية 280(42/63)
2 - نصوص من أحاديث أحكام الربا مع شرحها
(أ) نصوص من صحيح البخاري مع شرحها لابن حجر رحمه الله:
باب بيع التمر بالتمر:
حدثنا أبو الوليد حدثنا الليث عن ابن شهاب عن مالك بن أوس سمع عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء، وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء (1) » .
قوله باب بيع التمر بالتمر أورد فيه حديث عمر مختصرا. وسيأتي الكلام عليه بعد.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2170) ، صحيح مسلم المساقاة (1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243) ، سنن النسائي البيوع (4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578) .(42/64)
باب بيع الزبيب بالزبيب والطعام بالطعام:
حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة (1) » . والمزابنة بيع التمر بالتمر كيلا وبيع الزبيب بالكرم كيلا) .
حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة (2) » . قال: والمزابنة أن يبيع التمر بكيل: إن زاد فلي وإن نقص فعلي) .
قال: وحدثني زيد بن ثابت: «أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا بخرصها (3) » قوله: (باب بيع الزبيب بالزبيب والطعام بالطعام) ذكر فيه حديث ابن عمر في النهي عن المزابنة من طريقين: وسيأتي الكلام عليه بعد خمسة أبواب. وفي الطريق الثانية حديث ابن عمر عن زيد بن ثابت في العرايا وسيأتي الكلام عليه بعد سبعة أبواب. وذكر في الترجمة الطعام بالطعام وليس في الحديث الذي ذكره للطعام ذكر. وكذلك ذكر فيها الزبيب بالزبيب، والذي في الحديث: الزبيب بالكرم. قال الإسماعيلي: لعله أخذ ذلك
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2205) ، صحيح مسلم البيوع (1542) ، سنن النسائي البيوع (4549) ، سنن ابن ماجه التجارات (2265) .
(2) صحيح البخاري المساقاة (2384) ، صحيح مسلم البيوع (1540) ، سنن النسائي البيوع (4543) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2173) ، سنن الترمذي البيوع (1300) .(42/64)
من جهة المعنى قال: ولو ترجم للحديث ببيع التمر في رؤوس الشجر بمثله من جنسه يابسا لكان أولى، انتهى. ولم يخل البخاري بذلك كما سيأتي بعد ستة أبواب: وأما هنا فكأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرقه من ذكر الطعام. وهو في رواية الليث عن نافع كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وروى مسلم من حديث معمر بن عبد الله مرفوعا: «الطعام بالطعام مثلا بمثل (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1592) ، مسند أحمد بن حنبل (6/401) .(42/65)
باب بيع الشعير بالشعير:
حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس أخبره: (أنه التمس صرفا بمائة دينار، فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا، حتى اصطرف مني، فأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك. فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء (1) » .
قوله: (باب بيع الشعير بالشعير) أي ما حكمه؟
قوله: (أنه التمس صرفا) بفتح الصاد المهملة أي من الدراهم بذهب كان معه، وبين ذلك الليث في روايته عن ابن شهاب ولفظه: " عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أقبلت أقول من يصطرف الدراهم؟ " قوله (فتراوضنا) بضاد معجمة أي تجارينا الكلام في قدر العوض بالزيادة والنقص كأن كلا منهما كان يروض صاحبه ويسهل خلفه. وقيل المراوضة هنا المواصفة بالسلعة. وهو أن يصف كل منهما سلعته لرفيقه.
قوله: (فأخذ الذهب يقلبها) أي الذهبة.
والذهب يذكر ويؤنث فيقال ذهب وذهبة. أو يحمل على أنه ضمن الذهب معنى العدد المذكور وهو المائة فأنثه لذلك. وفي رواية الليث: فقال طلحة إذا جاء خادمنا نعطيك ورقك، ولم أقف على تسمية الخازن الذي أشار إليه
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2134) ، صحيح مسلم المساقاة (1586) ، سنن الترمذي البيوع (1243) ، سنن النسائي البيوع (4558) ، سنن أبو داود البيوع (3348) ، سنن ابن ماجه التجارات (2253) ، مسند أحمد بن حنبل (1/45) ، موطأ مالك البيوع (1333) ، سنن الدارمي البيوع (2578) .(42/65)
طلحة. قوله (من الغابة) بالغين المعجمة وبعد الألف موحدة يأتي شرح أمرها في أواخر الجهاد في قصة تركة الزبير بن العوام، وكان طلحة كان له بها مال من نخل وغيره، وأشار إلى ذلك ابن عبد البر.
قوله (حتى تأخذ منه) أي عوض الذهب، في رواية الليث: والله لتعطينه ورقه أو لتردن إليه ذهبه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكره.
قوله (الذهب بالورق ربا) قال ابن عبد البر: لم يختلف على مالك فيه وحمله عنه الحفاظ حتى رواه يحيى بن أبي كثير عن الأوزاعي عن مالك، وتابعه معمر والليث وغيرهما. وكذلك رواه الحفاظ عن ابن عيينة. وشذ أبو نعيم عنه فقال: (الذهب بالذهب) ، وكذلك رواه ابن إسحاق عن الزهري ويجوز في قوله (الذهب بالورق) الرفع أي بيع الذهب بالورق فحذف المضاف للعلم به، أو المعنى الذهب يباع بالذهب، ويجوز النصب أي بيعوا الذهب، والذهب يطلق على جميع أنواعه المضروبة وغيرها، والورق: الفضة، وهو بفتح الواو وكسر الراء وبإسكانها على المشهور ويجوز فتحهما. وقيل: بكسر الواو: المضروبة، وبفتحها: المال، والمراد هنا جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة.
قوله (إلا هاء وهاء) بالمد فيهما وفتح الهمزة وقيل: بالكسر وقيل بالسكون. وحكي القصر بغير همز وخطأها الخطابي، ورد عليه النووي وقال: هي صحيحة لكن قليلة والمعنى خذ وهات.
وحكي (هاك) بزيادة كاف مكسورة ويقال: هاء بكسر الهمزة بمعنى هات وبفتحها بمعنى خذ بغير تنوين، وقال ابن الأثير هاء وهاء هو أن يقول كل واحد من البيعين هاء فيعطيه ما في يده، كالحديث الآخر: «إلا يدا بيد (1) » يعني مقابضة في المجلس. وقيل معناه خذ وأعط. قال: وغير الخطابي يجيز فيها السكون على حذف العوض ويتنزل منزلة (ها) التي للتنبيه.
وقال ابن مالك: ها اسم فعل بمعنى خذ. وإن رفعت بعد إلا فيجب تقدير قول قبله يكون به محكيا فكأنه قيل: ولا الذهب بالذهب إلا مقولا عنده من
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1584) .(42/66)
المتبايعين هاء وهاء. وقال الخليل: كلمة تستعمل عند المناولة. والمقصود من قوله (هاء وهاء) أن يقول كل واحد من المتعاقدين لصاحبه هاء فيتقابضان في المجلس، قال ابن مالك: حقها أن لا تقع بعد إلا كما لا يقع بعدها خذ قال: فالتقدير لا تبيعوا الذهب بالورق إلا مقولا بين المتعاقدين هاء وهاء. واستدل به على اشتراط التقابض في الصرف في المجلس وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
وعن مالك: لا يجوز الصرف إلا عند الإيجاب بالكلام ولو انتقلا من ذلك الموضع إلى آخر لم يصح تقابضهما. ومذهبه أنه لا يجوز عنده تراخي القبض في الصرف، سواء كانا في المجلس أو تفرقا. وحمل قول عمر (لا يفارقه) على الفور حتى لو أخر الصيرفي القبض حتى يقوم إلى قعو دكانه ثم يفتح صندوقه لما جاز.
قوله (البر بالبر) بضم الموحدة ثم راء: من أسماء الحنطة، والشعير بفتح أوله: معروف وحكي جواز كسره. واستدل به على أن البر والشعير صنفان وهو قول الجمهور. وخالف في ذلك مالك والليث والأوزاعي فقالوا هما صنف واحد.
قال ابن عبد البر في هذا الحديث: إن الكبير يلي البيع والشراء لنفسه وإن كان له وكلاء وأعوان يكفونه. وفيه المماكسة في البيع والمراوضة وتقليب السلعة، وفائدته الأمن من الغبن، وأن من العلم ما يخفى على الرجل الكبير القدر حتى يذكره غيره، وأن الإمام إذا سمع أو رأى شيئا لا يجوز ينهى عنه ويرشد إلى الحق، وأن من أفتى بحكم حسن أن يذكر دليله، وأن يتفقد أحوال رعيته ويهتم بمصالحهم. وفيه اليمين لتأكيد الخبر، وفيه الحجة بخبر الواحد، وأن الحجة على من خالف في حكم من الأحكام التي في كتاب الله أو حديث رسوله.
وفيه أن النسيئة لا تجوز في بيع الذهب بالورق، وإذا لم يجز فيهما مع تفاضلهما بالنسيئة فأحرى أن لا يجوز في الذهب بالذهب وهو جنس واحد، وكذا الورق بالورق يعني إذا لم تكن رواية ابن إسحاق ومن تابعه(42/67)
محفوظة فيؤخذ الحكم من دليل الخطاب وقد نقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على هذا الحكم؛ أي التسوية في المنع بين الذهب بالذهب وبين الذهب بالورق فيستغنى حينئذ بذلك عن القياس.(42/68)
باب بيع الذهب بالذهب:
حدثنا صدقة بن الفضل أخبرنا إسماعيل بن علية قال حدثني يحيى بن أبي إسحاق حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: قال أبو بكرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا سواء بسواء والفضة بالفضة إلا سواء بسواء وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم (1) » .
قوله: (باب بيع الذهب بالذهب) تقدم حكمه في الباب الذي قبله، وذكر المصنف فيه حديث أبي بكرة ثم أورده بعد ثلاثة أبواب من وجه آخر عن يحيى بن أبي إسحاق ورجال الإسنادين بصريون كلهم. وأخذ حكم بيع الذهب بالورق من قوله: «وبيعوا الذهب بالفضة والفضة بالذهب كيف شئتم (2) » وفي الرواية الأخرى: «وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا (3) » الحديث، وسيأتي الكلام عليه.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2175) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4579) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2175) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4579) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .
(3) صحيح البخاري كتاب البيوع (2182) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4578) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .(42/68)
باب بيع الفضة بالفضة:
حدثنا عبيد الله بن سعد حدثنا عمي حدثنا ابن أخي الزهري عن عمه قال: حدثني سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أبا سعيد الخدري حدثه مثل ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه عبد الله بن عمر فقال: يا أبا سعيد: ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو سعيد في الصرف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الذهب بالذهب مثلا بمثل والورق بالورق مثلا بمثل (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(42/68)
حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (1) » .
قوله (باب بيع الفضة بالفضة) تقدم حكمه أيضا. قوله (حدثني عبيد الله بن سعد) زاد في رواية المستملي " وهو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف " وابن أخي الزهري هو محمد بن عبد الله بن مسلم.
قوله: (عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن أبا سعيد الخدري حدثه مثل ذلك حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه عبد الله بن عمر فقال: يا أبا سعيد ما هذا الذي تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو سعيد في الصرف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) فذكر الحديث. هكذا ساقه وفيه اختصار وتقديم وتأخير وقد أخرجه الإسماعيلي من وجهين عن يعقوب بن إبراهيم شيخ شيخ البخاري فيه بلفظ أن أبا سعيد حدثه حديثا مثل حديث عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصرف. فقال أبو سعيد فذكره فظهر بهذه الرواية معنى قوله (مثل ذلك) أي مثل حديث عمر؛ أي حديث عمر الماضي قريبا في قصة طلحة بن عبيد الله، وتكلف الكرماني هنا فقال: قوله (مثل ذلك) أي مثل حديث أبي بكرة في وجوب المساواة ولو وقف على رواية الإسماعيلي لما عدل عنها.
وقوله (فلقيه عبد الله) أي بعد أن كان سمع منهم الحديث فأراد أن يستثبته فيه، وقد وقع لأبي سعيد مع ابن عمر في هذا الحديث قصة، وهي هذه، ووقعت له فيه مع ابن عباس قصة أخرى كما في الباب الذي بعده.
فأما قصته مع ابن عمر فانفرد بها البخاري عن طريق سالم وأخرجها مسلم من طريق الليث عن نافع ولفظه: " أن ابن عمر قال له رجل من بني ليث: إن أبا سعيد الخدري يأثر هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(42/69)
نافع: فذهب عبد الله وأنا معه والليث حتى دخل على أبي سعيد الخدري فقال: إن هذا أخبرني أنك تخبر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الورق بالورق إلا مثلا بمثل (1) » الحديث فأشار أبو سعيد بإصبعيه إلى عينيه وأذنيه فقال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل (2) » (الحديث) . ولمسلم من طريق أبي نضرة في هذه القصة لابن عمر مع أبي سعيد (أن ابن عمر نهى عن ذلك بعد أن كان أفتى به لما حدثه أبو سعيد بنهي النبي صلى الله عليه وسلم) .
وأما قصة أبي سعيد مع ابن عباس فسأذكرها في الباب الذي يليه.
قوله في الرواية الأولى: (الذهب بالذهب) يجوز في الذهب الرفع والنصب وقد تقدم توجيهه. ويدخل في الذهب جميع أصنافه من مضروب ومنقوش وجيد ورديء وصحيح ومكسر وحلي وتبر وخالص ومغشوش، ونقل النووي تبعا لغيره في ذلك الإجماع.
قوله (مثل بمثل) كذا في رواية أبي ذر بالرفع ولغير أبي ذر (مثلا بمثل) ، وهو مصدر في موضع الحال أي الذهب يباع بالذهب موزونا بموزون أو مصدر مؤكد أي يوزن وزنا بوزن، وزاد مسلم في رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه «إلا وزنا بوزن مثلا بمثل سواء بسواء (3) »
قوله (ولا تشفوا) بضم أوله وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء: أي تفضلوا، وهو رباعي من أشف والشف بالكسر الزيادة، وتطلق على النقص.
قوله (ولا تبيعوا منها غائبا بناجز) بنون وجيم وزاي مؤجلا بحال، أي والمراد بالغائب أعم من المؤجل كالغائب عن المجلس مطلقا مؤجلا كان أو حالا، والناجز الحاضر، قال ابن بطال: فيه حجة للشافعي في قوله: من كان له على رجل دراهم ولآخر عليه دنانير لم يجز أن يقاص أحدهما الآخر بما له؛ لأنه يدخل في معنى بيع الذهب بالورق دينا؛ لأنه إذا لم يجز غائب بناجز فأحرى أن لا يجوز غائب بغائب، وأما الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن عن ابن عمر قال:
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2176) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، مسند أحمد بن حنبل (3/51) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/73) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1584) ، مسند أحمد بن حنبل (3/9) .(42/70)
«كنت أبيع الإبل بالبقيع: أبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير. فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا بأس به إذا كان بسعر يومه ولم تفترقا وبينكما شيء (1) » فلا يدخل في بيع الذهب بالورق دينا؛ لأن النهي بقبض الدراهم عن الدنانير لم يقصد إلى التأخير في الصرف قاله ابن بطال، واستدل بقوله (مثلا بمثل) على بطلان البيع بقاعدة مد عجوة؛ وهو أن يبيع مد عجوة ودينارا بدينارين مثلا، وأصرح من ذلك في الاستدلال على المنع حديث فضالة بن عبيد عند مسلم في رد البيع في القلادة التي فيها خرز وذهب حتى تفصل أخرجه مسلم. وفي رواية أبي داود فقلت إنما أردت الحجارة، فقال: لا؛ حتى تميز بينهما.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .(42/71)
باب بيع الدينار بالدينار نساء:
حدثنا علي بن عبد الله حدثنا الضحاك بن مخلد حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار أن أبا صالح الزيات أخبره أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم فقلت له: فإن ابن عباس لا يقوله. فقال أبو سعيد: سألته فقلت سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم أو وجدته في كتاب الله؟ قال كل ذلك لا أقول، وأنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولكن أخبرني أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ربا إلا في النسيئة (1) » .
قوله (باب بيع الدينار بالدينار نساء) بفتح النون المهملة والمد والتنوين منصوبا. أي مؤجلا مؤخرا يقال أنساه نساء ونسيئة. قوله (الضحاك بن مخلد) هو أبو عاصم شيخ البخاري وقد حدث في مواضع عنه بواسطة كهذا الموضع. قوله (سمع أبا سعيد الخدري يقول: الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم) كذا وقع في هذه الطريق. وقد أخرجه مسلم من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار فزاد فيه (مثلا بمثل) من زاد أو ازداد فقد أربى) قوله (أن ابن عباس لا يقوله) في رواية مسلم (يقول غير هذا) . قوله
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(42/71)
(فقال أبو سعيد سألته) في رواية مسلم (لقد لقيت ابن عباس فقلت له) . قوله (فقال كل ذلك لا أقول) بنصب (كل) على أنه مفعول مقدم، وهو في المعنى نظير قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ذي اليدين (كل ذلك لم يكن) فالمنفي هو المجموع. وفي رواية مسلم (فقال لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا وجدته في كتاب الله عز وجل) ولمسلم من طريق عطاء أن أبا سعيد لقي ابن عباس فذكر نحوه وفيه (فقال كل ذلك لا أقول) أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله فلا أعلمه) أي لا أعلم هذا الحكم فيه. وإنما قال لأبي سعيد أنتم أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم مني لكون أبي سعيد وأنظاره كانوا أسن منه وأكثر ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي السياق دليل على أن أبا سعيد وابن عباس متفقان على أن الأحكام الشرعية لا تطلب إلا من الكتابة والسنة. قوله (لا ربا إلا في النسيئة) في رواية مسلم (الربا في النسيئة) وله من طريق عبيد الله بن أبي يزيد وعطاء جميعا عن ابن عباس (إنما الربا في النسيئة) زاد في رواية عطاء (ألا إنما الربا) وزاد في رواية طاوس عن ابن عباس (لا ربا فيما كان يدا بيد) وروى مسلم من طريق أبي نضرة قال (سألت ابن عباس عن الصرف فقال: أيدا بيد قلت: نعم قال: فلا بأس. فأخبرت أبا سعيد فقال: أو قال ذلك سنكتب إليه فلا يفتيكموه) وله من وجه آخر عن أبي نضرة (سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا، فإني لقاعد عند أبي سعيد فسألته عن الصرف فقال: ما زاد فهو ربا. فأنكرت ذلك لقولهما، فذكر الحديث قال (فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس عنه بمكة فكرهه) .
والصرف بفتح المهملة: دفع ذهب وأخذ فضة وعكسه.
وله شرطان:
منع النسيئة مع اتفاق النوع واختلافه وهو المجمع عليه، ومن التفاضل في النوع الواحد منهما وهو قول الجمهور. وخالف فيه ابن عمر ثم رجع وابن عباس واختلف في(42/72)
رجوعه. وقد روى الحاكم من طريق حيان العدوي وهو بالمهملة والتحتانية (سألت أبا مجلز عن الصرف فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا من عمره ما كان منه عينا بعين يدا بيد. وكان يقول: إنما الربا في النسيئة، فلقيه أبو سعيد فذكر القصة والحديث وفيه: «التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والذهب بالذهب والفضة بالفضة يدا بيد مثلا بمثل، فمن زاد فهو ربا (1) » فقال ابن عباس: أستغفر الله وأتوب إليه. فكان ينهى عنه أشد النهي) .
واتفق العلماء على صحة حديث أسامة. واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد فقيل منسوخ، ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وقيل المعنى في قوله (لا ربا) الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره. وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل، وأيضا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم. فيقدم عليه حديث أبي سعيد لأن دلالته بالمنطوق ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر كما تقدم والله أعلم.
وقال الطبري: معنى حديث أسامة لا ربا إلا في النسيئة) إذا اختلفت أنواع البيع والفضل فيه يدا بيد ربا جمعا بينه وبين حديث أبي سعيد.
(تنبيه) : وقع في نسخ الصغاني هنا (قال أبو عبد الله) يعني البخاري (سمعت سليمان بن حرب يقول: لا ربا إلا في النسيئة، هذا عندنا في الذهب بالورق والحنطة بالشعير متفاضلا، ولا بأس به يدا بيد ولا خير فيه نسيئة) قلت: وهذا موافق. وفي قصة أبي سعيد مع ابن عمر ومع ابن عباس أن العالم يناظر العالم ويوقفه على معنى قوله ويرده من الاختلاف إلى الاجتماع، ويحتج عليه بالأدلة وفيه إقرار الصغير للكبير بفضل التقدم.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن النسائي البيوع (4565) ، مسند أحمد بن حنبل (3/50) .(42/73)
باب بيع الورق بالذهب نسيئة:
حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة قال أخبرني حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت أبا المنهال قال: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهم عن الصرف، فكل واحد منهما يقول: هذا خير مني، فكلاهما يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا) .
قوله (باب بيع الورق بالذهب نسيئة) البيع كله إما بالنقد أو (بالعرض) حالا أو مؤجلا، فهي أربعة أقسام: فبيع النقد إما بمثله وهو المراطلة، أو بنقد غيره وهو الصرف. وبيع العرض بنقد يسمى النقد ثمنا والعرض عوضا، وبيع العرض بالعرض يسمى مقايضة. والحلول في جميع ذلك جائز، وأما التأجيل فإن كان النقد بالنقد مؤخرا فلا يجوز، وإن كان العرض جاز، وإن كان العرض مؤخرا فهو السلم، وإن كانا مؤخرين فهو بيع الدين بالدين وليس بجائز إلا في الحوالة عند من يقول إنها بيع، والله أعلم.
قوله (عن الصرف) أي بيع الدراهم بالذهب أو عكسه وسمي به لصرفه عن مقتضى البياعات من جواز التفاضل فيه. وقيل من الصريف وهو تصويتهما في الميزان. وسيأتي في أوائل الهجرة من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال قال (باع شريك لي دراهم أي بذهب- في السوق نسيئة. فقلت: سبحان الله أيصلح هذا؟ فقال لقد بعتها في السوق فما عابه علي أحد. فسألت البراء بن عازب فذكره. قوله (هذا خير مني) في رواية سفيان المذكورة " قال: فالق زيد بن أرقم فاسأله فإنه كان أعظمنا تجارة فسألته " فذكره.
وفي رواية الحميدي في مسنده من هذا الوجه عن سفيان " فقال: صدق البراء " وقد تقدم في (باب التجارة في البر) من وجه آخر عن أبي المنهال بلفظ: (إن كان يدا بيد فلا بأس. وإن كان نسيئا فلا يصلح. وفي الحديث ما كان عليه الصحابة من التواضع وإنصاف بعضهم(42/74)
بعضا، ومعرفة أحدهم حق الآخر، واستظهار العالم في الفتيا بنظيره في العلم، وسيأتي بعد الكلام على هذا الحديث في الشركة إن شاء الله تعالى.(42/75)
باب بيع الذهب بالورق يدا بيد:
حدثنا عمران بن ميسرة حدثنا عباد بن العوام أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه رضي الله عنه قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواء بسواء، وأمرنا أن نبتاع الذهب بالفضة كيف شئنا والفضة بالذهب كيف شئنا (1) » .
قوله (باب الذهب بالورق يدا بيد) ذكر فيه حديث أبي بكرة الماضي قبل بثلاثة أبواب وليس فيه التقييد بالحلول. وكأنه أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه: فقد أخرجه مسلم عن أبي الربيع عن عباد الذي أخرجه البخاري من طريقه وفيه (فسأله رجل فقال: يدا بيد. . فقال: هكذا سمعت، وأخرجه مسلم عن طريق يحيى بن أبي كثير عن يحيى بن أبي إسحاق فلم يسق لفظه فساقه أبو عوانة في مستخرجه فقال في آخره: (والفضة بالذهب كيف شئتم يدا بيد) ، واشتراط القبض في الصرف متفق عليه، وإنما وقع الاختلاف في التفاضل بين الجنس الواحد واستدل به على بيع الربويات بعضها ببعض إذا كان يدا بيد. وأصرح منه حديث عبادة بن الصامت عند مسلم بلفظ: «فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم (2) » .
نصوص أخرى منه مع الشرح المذكور:
حدثني عمرو بن زرارة أخبرنا إسماعيل بن علية أخبرنا ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة والناس يسلفون في التمر العام والعامين، أو قال
__________
(1) صحيح البخاري كتاب البيوع (2182) ، صحيح مسلم المساقاة (1590) ، سنن النسائي البيوع (4578) ، مسند أحمد بن حنبل (5/38) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) .(42/75)
عامين أو ثلاثة - شك إسماعيل - فقال: من سلف في تمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم (1) » .
حدثنا محمد أخبرنا إسماعيل عن ابن أبي نجيح بهذا «في كيل معلوم ووزن معلوم (2) » .
قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم. كتاب السلم، باب السلم في كيل معلوم) كذا في رواية المستملي والبسملة متقدمة عنده ومتوسطة في رواية الكشميهني بين كتاب وباب، وحذف النسفي كتاب السلم وأثبت الباب وأخر البسملة عنه. والسلم بفتحتين: السلف وزنا ومعنى، وذكر الماوردي أن السلف لغة أهل العراق والسلم لغة أهل الحجاز - وقيل السلف تقديم رأس المال والسلم تسليمه في المجلس، فالسلف أعم، والسلم شرعا: بيع موصوف في الذمة، ومن قيده بلفظ السلم زاده في الحد، ومن زاد فيه ببدل يعطى عاجلا فيه نظر لأنه ليس داخلا في حقيقته، واتفق العلماء على مشروعيته إلا ما حكي عن ابن المسيب، واختلفوا في بعض شروطه. واتفقوا على أنه يشترط له ما يشترط للبيع، وعلى تسليم رأس المال في المجلس. واختلفوا هل هو عقد غرر جوز للحاجة أم لا؟
وقول المصنف (باب السلم في كيل معلوم) أي فيما يكال، واشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل متفق عليه من أجل اختلاف المكاييل. إلا أن لا يكون في البلد سوى كيل واحد فإنه ينصرف إليه عند الإطلاق. ثم أورد حديث ابن عباس مرفوعا: «من أسلف في شيء (3) » الحديث عن طريق ابن علية. وفي الباب الذي بعده من طريق ابن عيينة كلاهما عن ابن أبي نجيح. وذكره بعد من طرق أخرى عنه، ومداره على عبد الله بن كثير وقد اختلف فيه فجزم القابسي وعبد الغني والمزي بأنه المكي القارئ المشهور وجزم الكلاباذي وابن طاهر والدمياطي بأنه ابن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي. وكلاهما ثقة. والأول أرجح فإنه مقتضى صنيع المصنف في تاريخه.
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2239) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/217) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .
(2) صحيح البخاري السلم (2239) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .
(3) صحيح البخاري السلم (2241) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) .(42/76)
وأبو المنهال شيخه هو عبد الرحمن بن مطعم الذي تقدمت روايته قريبا عن البراء وزيد بن أرقم. قوله: (عامين أو ثلاثة شك إسماعيل) يعني ابن علية، ولم يشك سفيان فقال: (وهم يسلفون في التمر السنتين والثلاث، وقوله عامين وقوله السنتين منصوب إما على نزع الخافض أو على المصدر، قوله (من سلف في تمر) كذا لابن علية. بالتشديد. وفي رواية ابن عيينة (من أسلف في شيء) وهي أشمل وقوله (ووزن معلوم) الواو بمعنى أو (والمراد اعتبار الكيل فيما يكال والوزن فيما يوزن.
قوله (حدثنا محمد أخبرنا إسماعيل هو ابن علية، واختلف في محمد فقال الجياني لم أره منسوبا وعندي أنه ابن سلام وبه جزم الكلاباذى، زاد السفيانان (إلى أجل معلوم) وسيأتي البحث فيه في بابه.(42/77)
باب السلم في وزن معلوم:
حدثنا صدقة أخبرنا ابن عيينة أخبرنا ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون بالتمر السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (1) » .
حدثنا علي حدثنا سفيان قال حدثني ابن أبي نجيح وقال: (فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم) .
حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عند عبد الله بن كثير عن أبي المنهال قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال: «في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (2) » .
حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن أبي المجالد وحدثنا يحيى حدثنا وكيع عن شعبة عن محمد بن أبي المجالد حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2241) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .
(2) صحيح البخاري السلم (2241) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/222) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .(42/77)
قال أخبرني محمد أو عبد الله بن أبي المجالد قال: (اختلف عبد الله بن شداد بن الهاد وأبو بردة في السلف، فبعثوني إلى ابن أبي أوفى - رضي الله عنه - فسألته فقال: «إنا كنا نسلف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر في الحنطة والشعير والزبيب والتمر (1) » وسألت ابن أبزى فقال مثل ذلك.
قوله (باب السلم في وزن معلوم) أي فيما يوزن، وكأنه يذهب إلى أن ما يوزن لا يسلم فيه مكيلا وبالعكس، وهو أحد الوجهين، والأصح عند الشافعية الجواز، وحمله إمام الحرمين على ما يعد الكيل في مثله ضابطا، واتفقوا على اشتراط تعيين الكيل فيما يسلم فيه من المكيل كصاع الحجاز وقفيز العراق وأردب مصر، بل مكاييل هذه البلاد في نفسها مختلفة، فإذا أطلق صرف إلى الأغلب، وأورد فيه حديثين: أحدهما حديث ابن عباس الماضي في الباب قبله، ذكره عن ثلاثة من مشايخه حدثوه به عن ابن عيينة. قال في الأولى: «من أسلف في شيء ففي كيل معلوم (2) » الحديث. وقال في الثانية: «من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم (3) » ولم يذكر الوزن وذكره في الثالثة. وصرح في الطريق الأولى بالإخبار بين ابن عيينة وابن أبي نجيح.
وقوله (في شيء) أخذ منه جواز السلم في الحيوان إلحاقا للعدد بالكيل والمخالف فيه الحنفية. وسيأتي القول بصحته عن الحسن بعد ثلاثة أبواب. ثانيهما حديث ابن أبي أوفى.
قوله (عن ابن أبي المجالد) كذا أبهمه أبو الوليد عن شعبة، وسماه غيره عنه محمد بن أبي المجالد، ومنهم من أورده على الشك محمدا وعبد الله، وذكر البخاري الروايات الثلاث، وأورده النسائي من طريق أبي داود الطيالسي عن شعبة عن عبد الله، وقال مرة (محمد) وقد أخرجه البخاري في الباب الذي يليه من رواية عبد الواحد بن زياد وجماعة عن أبي إسحاق الشيباني فقال (عن محمد بن أبي المجالد) ولم يشك في اسمه، وكذلك ذكره البخاري في تاريخه في المحمدين، وجزم
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2243) ، سنن النسائي البيوع (4615) ، سنن أبو داود البيوع (3464) ، سنن ابن ماجه التجارات (2282) .
(2) صحيح البخاري السلم (2241) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .
(3) صحيح البخاري السلم (2241) .(42/78)
أبو داود بأن اسمه عبد الله، وكذا قال ابن حبان، ووصفه بأنه كان صهر مجاهد، وبأنه كوفي ثقة، وكان مولى عبد الله بن أبي أوفى، ووثقه أيضا يحيى بن معين وغيره، وليس له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد.
قوله (اختلف عبد الله بن شداد) أي ابن الهاد الليثي، وهو من صغار الصحابة (وأبو بردة) أي ابن أبي موسى الأشعري. قوله (في السلف) أي هل يجوز السلم إلى من ليس عنده المسلم فيه في تلك الحالة أم لا؟ وقد ترجم له كذلك في الباب الذي يليه.
قوله (وسألت ابن أبزى) هو عبد الرحمن الخزامي أحد صغار الصحابة. ولأبيه أبزى صحبة على الراجح. وهو بالموحدة والزاي وزن أعلى، ووجه إيراد هذا الحديث في باب السلم في وزن معلوم الإشارة إلى ما في بعض طرقه، وهو في الباب الذي يليه بلفظ (فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت؛ لأن الزيت من جنس ما يوزن، قال ابن بطال أجمعوا على أنه إن كان في السلم ما يكال أو يوزن، فلا بد فيه من ذكر الكيل المعلوم والوزن المعلوم، فإن كان فيما لا يكال ولا يوزن فلا بد فيه من عدد معلوم. قلت: أو ذرع معلوم، والعدد والذرع ملحق بالكيل والوزن للجامع بينهما، وهو عدم الجهالة بالمقدار، ويجري في الذرع ما تقدم شرطه في الكيل والوزن من تعيين الذراع؛ لأجل اختلافه في الأماكن. وأجمعوا على أنه لا بد من معرفة صفة الشيء المسلم فيه صفة تميزه عن غيره، وكأنه لم يذكر في الحديث؛ لأنهم كانوا يعملون به، وإنما تعرض لذكر ما كانوا يهملونه.(42/79)
باب السلم إلى من ليس عنده أصل
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الشيباني، حدثنا محمد بن أبي المجالد، قال: (بعثني عبد الله بن شداد وأبو بردة إلى عبد الله بن أبي(42/79)
أوفى - رضي الله عنهما - فقالا: سله هل كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلفون في الحنطة قال عبد الله: كنا نسلف نبيط أهل الشام في الحنطة والشعير والزبيب في كيل معلوم إلى أجل معلوم، قلت: إلى من كان أصله عنده؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك. ثم بعثاني إلى عبد الرحمن بن أبزى، فسألته فقال: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يسلفون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم نسألهم ألهم حرث أم لا) .
حدثنا إسحاق، حدثنا خالد بن عبد الله عن الشيباني، عن محمد بن أبي مجالد بهذا وقال: (فنسلفهم في الحنطة والشعير) . وقال عبد الله بن الوليد عن سفيان، حدثنا الشيباني وقال (والزيت) حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن الشيباني وقال: (في الحنطة والشعير والزبيب) .
حدثنا آدم، حدثنا شعبة، أخبرنا عمرو قال سمعت أبا البختري الطائي قال: (سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن السلم في النخل فقال: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى يؤكل منه وحتى يوزن (1) » . فقال رجل: وأي شيء يوزن؟ قال رجل إلى جانبه: حتى يحرز، وقال معاذ: حدثنا شعبة عن عمرو، قال أبو البختري: سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - (نهى النبي صلى الله عليه وسلم) مثله.
قوله (باب السلم إلى من ليس عنده أصل) أي مما أسلم فيه، وقيل المراد بالأصل أصل الشيء الذي يسلم فيه، فأصل الحب مثلا الزرع، وأصل الثمر مثلا الشجر. والغرض من الترجمة أن ذلك لا يشترط. وأورد المصنف حديث ابن أبي أوفى من طريق الشيباني، فأورده أولا من طريق عبد الواحد، وهو ابن زياد عنه، فذكر الحنطة والشعير والزيت. ومن طريق خالد عن الشيباني ولم يذكر الزيت، ومن طريق جرير عن الشيباني، فقال الزبيب بدل الزيت، ومن طريق سفيان عن الشيباني فقال - وذكره بعد ثلاثة
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2248) ، صحيح مسلم البيوع (1537) ، مسند أحمد بن حنبل (1/341) .(42/80)
أبواب من وجه آخر عن سفيان - كذلك. قوله (نبيط أهل الشام) في رواية سفيان (أنباط من أنباط الشام) ، وهم قوم من العرب دخلوا في العجم والروم، واختلطت أنسابهم، وفسدت ألسنتهم، وكان الذين اختلطوا بالعجم منهم ينزلون البطائح بين العراقين، والذين اختلطوا بالروم ينزلون في بوادي الشام، ويقال لهم النبط بفتحتين، والنبيط بفتح أوله وكسر ثانيه وزيادة تحتانية، والأنباط قيل سموا بذلك لمعرفتهم بإنباط الماء؛ أي استخراجه لكثرة معالجتهم الفلاحة.
قوله (قلت إلى من كان أصله عنده) أي المسلم فيه، وسيأتي من طريق سفيان بلفظ (قلت أكان لهم زرع أو لم يكن لهم) قوله (ما كنا نسألهم عن ذلك) كأنه استفاد الحكم من عدم الاستفصال، وتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. قوله (وقال عبد الله بن الوليد) وهو العدني. وسفيان هو الثوري. وطريقه موصولة في (جامع سفيان) من طريق علي بن الحسن الهلالي عن عبد الله بن الوليد المذكور.
واستدل بهذا الحديث على صحة المسلم إذا لم يذكر مكان القبض، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور وبه قال مالك وزاد: ويقبضه في مكان السلم، فإن اختلفا فالقول قول البائع. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي: لا يجوز السلم فيما له حمل ومؤنة، إلا أن يشترط في تسليمه مكانا معلوما. واستدل به على جواز السلم فيما ليس موجودا في وقت السلم إذا أمكن وجوده في وقت حلول السلم، وهو قول الجمهور، ولا يضر انقطاعه قبل المحل وبعده عندهم. وقال أبو حنيفة: لا يصح فيما ينقطع قبله، ولو أسلم فيما يعم فانقطع في محله، لم ينفسخ البيع عند الجمهور. وفي وجه الشافعية ينفسخ، واستدل به على جواز التفرق في السلم قبل القبض لكونه لم يذكر في الحديث، وهو قول مالك إن كان بغير شرط، وقال الشافعي(42/81)
والكوفيون: يفسد بالافتراق قبل القبض؛ لأنه يصير من باب بيع الدين بالدين. وفي حديث ابن أبي أوفى جواز مبايعة أهل الذمة والسلم إليهم. ورجوع المختلفين عند التنازع إلى السنة والاحتجاج بتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن السنة إذا وردت بتقرير حكم كان أصلا برأسه لا يضره مخالفة أصل آخر.
ثم أورد المصنف في الباب حديث ابن عباس الآتي في الباب الذي يليه، وزعم ابن بطال أنه غلط من الناسخ، وأنه لا مدخل له في هذا الباب، إذ لا ذكر للسلم فيه. وغفل عما وقع في السياق من قول الراوي إنه سأل ابن عباس عن السلم في النخل، وأجاب ابن المنير أن الحكم مأخوذ بطريق المفهوم، وذلك أن ابن عباس لما سئل عن السلم مع من له نخل في ذلك النخل رأى أن ذلك من قبيل بيع الثمار قبل بدو الصلاح، فإذا كان السلم في النخل المعين لا يجوز تعين جوازه في غير المعين للأمن فيه من غائلة الاعتماد على ذلك النخل بعينه؛ لئلا يدخل في باب بيع الثمار قبل بدو الصلاح ويحتمل أن يريد بالسلم معناه اللغوي أي السلف لما كانت الثمرة قبل بدو صلاحها، فكأنها موصوفة في الذمة.
قوله (أخبرنا عمرو) في رواية مسلم (عمرو بن مرة) وكذلك أخرجه الإسماعيلي من طرق عن شعبة. قوله (فقال رجل ما يوزن) لم أقف على اسمه، وزعم الكرماني أنه أبو البختري نفسه؛ لقوله في بعض طرقه (فقال له الرجل) بالتعريف.
قوله (فقال له رجل إلى جانبه) لم أقف على اسمه، وقوله (حتى يحرز) بتقديم الراء على الزاي أي يحفظ ويصان، وفي رواية الكشميهني بتقديم الزاي على الراء، أي يوزن، أو يخرص، وفائدة ذلك معرفة كمية حقوق الفقراء قبل أن يتصرف فيه المالك، وصوب عياض الأول، ولكن الثاني أليق بذكر الوزن، ورأيته في رواية النسفي (حتى يحرر) براءين الأولى ثقيلة، ولكنه رواه بالشك. قوله (وقال معاذ حدثنا شعبة) وصله الإسماعيلي عن يحيى بن محمد عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه به.(42/82)
باب السلم في النخل:
حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة عن عمرو، عن أبي البختري قال (سألت ابن عمر - رضي الله عنهما - عن السلم في النخل فقال: نهى عن بيع النخل حتى يصلح، وعن بيع الورق نساء بناجز، وسألت ابن عباس عن السلم في النخل فقال: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى يؤكل منه، أو يأكل منه حتى يوزن (1) » .
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن عمرو عن أبي البختري (سألت ابن عمر - رضي الله عنهما - عن السلم في النخل فقال: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر حتى يصلح، ونهى عن الورق بالذهب نساء بناجز (2) » . وسألت ابن عباس «فقال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى يأكل أو يؤكل، وحتى يوزن. قلت: وما يوزن؟ قال رجل عنده: حتى يحزر (3) » .
قوله (باب السلم في النخل) أي في ثمر النخل. قوله (فقال) أي ابن عمر (نهى عن بيع النخل حتى يصلح) أي نهى عن بيع ثمر النخل. واتفقت الروايات في هذا الموضع على أنه نهي على البناء للمجهول، واختلف في الرواية الثانية، وهي رواية غندر: فعند أبي ذر وأبي الوقت فقال: نهى عمر عن بيع الثمر الحديث، وفي رواية غيرهما (نهى النبي صلى الله عليه وسلم) واقتصر مسلم على حديث ابن عباس. قوله (وعن بيع الورق) أي بالذهب كما في الرواية الثانية. قوله (نساء) بفتح النون والمهملة والمد أي تأخيرا. تقول نسأت الدين أي أخرته نساء أي تأخيرا، وسيأتي البحث في اشتراط الأجل في السلم في الباب الذي يليه. وحديث ابن عمر إن صح فمحمول على السلم الحال عند من يقول به أو ما قرب أجله. واستدل به على جواز السلم في النخل المعين من البستان المعين، لكن بعد بدو صلاحه وهو قول المالكية. وقد
__________
(1) صحيح مسلم البيوع (1537) ، مسند أحمد بن حنبل (1/341) .
(2) صحيح البخاري السلم (2250) .
(3) صحيح البخاري السلم (2246) ، صحيح مسلم البيوع (1537) ، مسند أحمد بن حنبل (1/341) .(42/83)
روى أبو داود وابن ماجه من طريق النجراني عن ابن عمر قال: «لا يسلم في نخل قبل أن يطلع، فإن رجلا أسلم في حديقة نخل قبل أن تطلع، فلم تطلع ذلك العام شيئا، فقال المشتري: هو لي حتى تطلع، وقال البائع إنما بعتك هذه السنة، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: اردد عليه ما أخذت منه ولا تسلموا في نخل حتى يبدو صلاحه (1) » وهذا الحديث فيه ضعف، ونقل ابن المنذر اتفاق الأكثر على منع السلم في بستان معين؛ لأنه غرر، وقد حمل الأكثر الحديث المذكور على السلم الحال، وقد روى ابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث عبد الله بن سلام في قصة إسلام زيد بن سعنة بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة بعدها نون، «أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل لك أن تبيعني تمرا معلوما إلى أجل معلوم من حائط بني فلان. قال لا أبيعك من حائط مسمى بل أبيعك أوسقا مسماة إلى أجل مسمى» .
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2284) .(42/84)
باب الكفيل في السلم:
حدثني محمد بن سلام، حدثنا يعلى، حدثنا الأعمش عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت « (اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما من يهودي بنسيئة ورهنه درعا له من حديد) (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2251) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .(42/84)
باب الرهن في السلم:
حدثني محمد بن محبوب، حدثنا عبد الواحد، حدثنا الأعمش قال: (تذاكرنا عند إبراهيم الرهن في السلف، فقال (حدثني الأسود عن عائشة - رضي الله عنها - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى من يهودي طعاما إلى أجل معلوم وارتهن منه درعا من حديد (1) » .
قوله (باب الكفيل في السلم) أورد فيه حديث عائشة «اشترى النبي - صلى الله عليه وسلم - طعاما من يهودي نسيئة ورهنه درعا من حديد، (2) » ثم ترجم له باب الرهن.
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2252) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2068) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .(42/84)
في السلم وهو ظاهر فيه، وأما الكفيل فقال الإسماعيلي: ليس في هذا الحديث ما ترجم به، ولعله أراد إلحاق الكفيل بالرهن؛ لأنه حق ثبت الرهن به، فيجوز أخذ الكفيل فيه. قلت: هذا الاستنباط بعينه سبق إليه إبراهيم النخعي راوي الحديث. وإلى ذلك أشار البخاري في الترجمة، فسيأتي في الرهن (عن مسدد، عن عبد الواحد عن الأعمش قال: تذاكرنا عند إبراهيم الرهن والكفيل في السلف، فذكر إبراهيم هذا الحديث) فوضح أنه هو المستنبط لذلك. وأن البخاري أشار بالترجمة إلى ما ورد في بعض طرق الحديث على عادته، وفي الحديث الرد على من قال إن الرهن في السلم لا يجوز، وقد أخرج الإسماعيلي من طريق ابن نمير عن الأعمش أن رجلا قال لإبراهيم النخعي إن سعيد بن جبير يقول: إن الرهن في السلم هو الربا المضمون، فرد عليه إبراهيم بهذا الحديث، وسيأتي بقية الكلام على هذا الحديث في كتاب الرهن إن شاء الله تعالى. قال الموفق: رويت كراهة ذلك عن ابن عمر، والحسن، والأوزاعي، وإحدى الروايتين عن أحمد، ورخص فيه الباقون، والحجة فيه قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) إلى أن قال: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2) واللفظ عام، فيدخل السلم في عمومه، لأنه أحد نوعي البيع، واستدل لأحمد بما رواه أبو داود من حديث أبي سعيد: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (3) » وجه الدلالة منه أنه لا يأمن هلاك الرهن في يده بعدوان، فيصير مستوفيا لحقه من غير المسلم فيه، وروى الدارقطني من حديث ابن عمر رفعه: «من أسلف في شيء فلا يشترط على صاحبه غير قضائه (4) » وإسناده ضعيف، ولو صح فهو محمول على شرط ينافي مقتضى العقد. والله أعلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 283
(3) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .
(4) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .(42/85)
باب السلم إلى أجل معلوم:
وبه قال ابن عباس، وأبو سعيد، والحسن، والأسود.(42/85)
قال ابن عمر: لا بأس في الطعام الموصوف بسعر معلوم إلى أجل معلوم ما لم يكن ذلك في زرع لم يبد صلاحه.
حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن عبد الله بن كثير، عن أبي المنهال، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال «قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث فقال: أسلفوا في الثمار في كيل معلوم إلى أجل معلوم (1) » . وقال عبد الله بن الوليد حدثنا سفيان، حدثنا ابن أبي نجيح، وقال (في كيل معلوم ووزن معلوم) .
حدثنا محمد بن مقاتل، أخبرنا عبد الله، أخبرنا سفيان عن سليمان الشيباني، عن محمد بن أبي مجالد، قال (أرسلني أبو بردة وعبد الله بن شداد إلى عبد الرحمن بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى فسألتهما عن السلف فقالا: كنا نصيب المغانم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام فنسلفهم في الحنطة والشعير والزيت إلى أجل مسمى. قال: قلت: أكان لهم زرع أو لم يكن لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم من ذلك) .
قوله (باب السلم إلى أجل معلوم) يشير إلى الرد على من أجاز السلم الحال، وهو قول الشافعية، وذهب الأكثر إلى المنع، وحمل من أجاز الأمر في قوله (إلى أجل معلوم) على العلم بالأجل فقط، فالتقدير عندهم من أسلم إلى أجل فليسلم إلى أجل معلوم لا مجهول. وأما السلم لا إلى أجل فجوازه بطريق الأولى لأنه إذا جاز مع الأجل وفيه الغرر فمع الحال أولى لكونه أبعد عن الغرر. وتعقب بالكتابة وأجيب بالفرق: لأن الأجل في الكتابة شرع لعدم قدرة العبد غالبا. قوله (وبه قال ابن عباس) أي باختصاص السلم بالأجل، وقوله (وأبو سعيد) هو الخدري والحسن (أي البصري) والأسود (أي ابن يزيد النخعي) فأما قول ابن عباس فوصله الشافعي من طريق ابن حسان الأعرج، عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون إلى
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2253) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .(42/86)
أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه، ثم قرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) وأخرجه الحاكم من هذا الوجه وصححه، وروى ابن أبي شيبة من وجه آخر عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لا يسلف إلى العطاء ولا إلى الحصاد واضرب أجلا. ومن طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس بلفظ آخر سيأتي. وأما قول أبي سعيد فوصله عبد الرزاق من طريق نبيح بنون وموحدة ومهملة مصغر، وهو العنزي بفتح المهملة والنون ثم الزاي، الكوفي عن أبي سعيد الخدري قال: (السلم بما يقوم به السعر ربا، ولكن أسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم) . وأما قول الحسن فوصله سعيد بن منصور من طريق يونس بن عبيد عنه (أنه كان لا يرى بأسا بالسلف في الحيوان، إذا كان شيئا معلوما إلى أجل معلوم) . وأما قول الأسود فوصله ابن أبي شيبة من طريق الثوري عن أبي إسحاق عنه، قال: (سألته عن السلم في الطعام فقال: لا بأس به. كيل معلوم إلى أجل معلوم) . ومن طريق سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس قال: (إذا سميت في السلم قفيزا وأجلا فلا بأس) وعن شريك عن أبي إسحاق عن الأسود مثله. واستدل بقول ابن عباس الماضي (لا تسلف إلى العطاء) لاشتراط تعيين وقت الأجل بشيء لا يختلف، فإن زمن الحصاد يختلف ولو بيوم، وكذلك خروج العطاء، ومثله قدوم الحاج، وأجاز ذلك مالك، ووافقه أبو ثور، واختار ابن خزيمة من الشافعية تأقيته إلى الميسرة، واحتج بحديث عائشة: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى يهودي: ابعث لي ثوبين إلى الميسرة، (2) » وأخرجه النسائي، وطعن ابن المنذر في صحته بما وهم فيه، والحق أنه لا دلالة فيه على المطلوب؛ لأنه ليس في الحديث إلا مجرد الاستدعاء، فلا يمتنع أنه إذا وقع العقد قيد بشروطه، ولذلك لم يصف الثوبين.
قوله: (وقال ابن عمر: لا بأس في
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سنن الترمذي البيوع (1213) ، سنن النسائي البيوع (4628) ، مسند أحمد بن حنبل (6/147) .(42/87)
الطعام الموصوف بسعر معلوم إلى أجل معلوم، ما لم يكن ذلك في زرع لم يبد صلاحه) وصله مالك في (الموطأ) عن نافع عنه قال: (لا بأس أن يسلف الرجل في الطعام الموصوف) فذكر مثله وزاد (أو ثمرة لم يبد صلاحها) وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله بن عمر، عن نافع نحوه، وقد مضى حديث ابن عمر في ذلك مرفوعا في الباب الذي قبله، ثم أورد المصنف حديث ابن عباس المذكور في أول أبواب السلم.
قوله: (وقال عبد الله بن الوليد: حدثنا سفيان حدثنا ابن أبي نجيح) هو موصول في (جامع سفيان) من طريق عبد الله بن الوليد المذكور، وهو العدني عنه، وأراد المصنف بهذا التعليق بيان التحديث؛ لأن الذي قبله مذكور بالعنعنة. ثم أورد حديث ابن أبي أوفى، وابن أبزى، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى عن قريب.(42/88)
باب السلم إلى أن تنتج الناقة:
حدثني موسى بن إسماعيل، أخبرنا جويرية عن نافع عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: «كانوا يتبايعون الجزور إلى حبل الحبلة فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه (1) » فسره نافع: إلى أن تنتج الناقة ما في بطنها.
قوله (باب السلم إلى أن تنتج الناقة) أورد فيه حديث ابن عمر في النهي عن بيع حبل الحبلة، وقد تقدمت مباحثه في كتاب البيوع. ويؤخذ منه ترك جواز السلم إلى أجل غير معلوم، ولو أسند إلى شيء يعرف بالعادة. خلافا لمالك ورواية عن أحمد.
(خاتمة) اشتمل كتاب السلم على أحد وثلاثين حديثا. المعلق منها أربعة، والبقية موصولة، الخالص منها خمسة أحاديث، والبقية مكررة، وافقه مسلم على تخريج حديثي ابن عباس خاصة. وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين ستة آثار.
__________
(1) صحيح البخاري السلم (2256) ، صحيح مسلم البيوع (1514) ، مسند أحمد بن حنبل (2/144) .(42/88)
(ب) أحاديث من منتقى الأخبار لأبي البركات ابن تيمية معها شرحها من نيل الأوطار للشوكاني:
عن ابن مسعود «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا، ومؤكله، وشاهديه، وكاتبه، (1) » رواه الخمسة، وصححه الترمذي، غير أن لفظ النسائي: «آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه، إذا علموا ذلك ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة (2) » .
(وعن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم، أشد من ست وثلاثين زنية (3) » رواه أحمد) .
حديث ابن مسعود أخرجه أيضا ابن حبان، والحاكم، وصححاه، وأخرجه مسلم من حديث جابر بلفظ: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، هم سواء (4) » وفي الباب عن علي - عليه السلام - عن النسائي، وعن أبي جحيفة تقدم في أول البيع. وحديث عبد الله بن حنظلة وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط والكبير، قال في مجمع الزوائد: ورجال أحمد رجال الصحيح. ويشهد له حديث البراء عند ابن جرير بلفظ: «الربا اثنان وستون بابا، أدناها مثل إتيان الرجل أمه (5) » وحديث أبي هريرة عند البيهقي بلفظ: «الربا سبعون بابا أدناها الذي يقع على أمه (6) » وأخرج ابن جرير عنه نحوه، وكذلك أخرج عنه نحوه ابن أبي الدنيا. وحديث عبد الله بن مسعود عند الحاكم، وصححه بلفظ: «الربا ثلاثة وسبعون بابا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم (7) » .
(قوله: آكل الربا) بمد الهمزة، ومؤكله بسكون الهمزة بعد الميم ويجوز إبدالها واوا: أي ولعن مطعمه غيره، وسمى آخذ المال آكلا ودافعه مؤكلا؛ لأن المقصود منه الأكل، وهو أعظم
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1597) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .
(2) سنن النسائي الزينة (5102) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/225) .
(4) صحيح مسلم المساقاة (1598) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) .
(5) سنن ابن ماجه التجارات (2274) .
(6) سنن ابن ماجه التجارات (2274) .
(7) سنن ابن ماجه التجارات (2275) .(42/89)
منافعه وسببه إتلاف أكثر الأشياء.
(قوله: وشاهديه) رواية أبي داود بالإفراد والبيهقي (وشاهديه أو شاهده) (قوله: وكاتبه) فيه دليل على تحريم كتابة الربا إذا علم ذلك، وكذلك الشاهد لا يحرم عليه الشهادة إلا مع العلم، فأما من كتب أو شهد غير عالم فلا يدخل في الوعيد.
ومن جملة ما يدل على تحريم كتابة الربا وشهادته وتحليل الشهادة والكتابة في غيره قوله تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (1) وقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} (2) فأمر بالكتابة والإشهاد فيما أحله وفهم منه تحريمها فيما حرمه.
(قوله: أشد من ست وثلاثين. . . إلخ) يدل على أن معصية الربا من أشد المعاصي؛ لأن المعصية التي تعدل معصية الزنا التي هي في غاية الفظاعة والشناعة بمقدار العدد المذكور بل أشد منها، لا شك أنها قد تجاوزت الحد في القبح. وأقبح منها استطالة الرجل في عرض أخيه المسلم. ولهذا جعلها الشارع أربى الربا. وبعد الرجل يتكلم بالكلمة التي لا يجد لها لذة، ولا تزيد في ماله ولا جاهه، فيكون إثمه عند الله أشد من إثم من زنى ستا وثلاثين زنية. هذا ما لا يصنعه بنفسه عاقل، نسأل الله تعالى السلامة، آمين آمين.
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) سورة البقرة الآية 282(42/90)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية
والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفسارات تهم المسلمين
في شؤونهم الدينية والاجتماعية.(42/91)
فتوى رقم 11248
س: لي أجداد ماتوا على الشرك، فهل لي أن أستغفر لهم أم لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد:
جـ: لا يجوز للمسلم أن يستغفر لأجداده ولا لغيرهم إذا كانوا قد ماتوا على الشرك لقوله تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (1) وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التوبة الآية 113(42/92)
من الفتوى رقم 2301
السؤال الثاني:
هل الإسلام يسمح لنا جماعة المسلمين، أن نتعود عادات أو نتقلد تقاليد غير إسلامية كالأوروبيين وتقاليدهم في لباسهم وأفراحهم، وهل يسمح للعروس أن يدخل على نساء الآخرين، والمصور وراءه سواء كان عربيا أم أجنبيا، وليس للعروس ولا للمصورين علاقة تجعلهم محارم لهؤلاء النساء؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد:
جـ: يجب على المسلمين والمسلمات أن يحرصوا على الأخلاق(42/92)
الإسلامية، وأن يسيروا على منهج الإسلام في أفراحهم، وأتراحهم، ولباسهم، وطعامهم، وشرابهم، وجميع شئونهم، ولا يجوز لهم أن يتشبهوا بالكفار في لباسهم، بأن يلبسوا الملابس الضيقة التي تحدد العورة أو الملابس الشفافة الرقيقة، التي تشف عن العورة ولا تسترها، أو الملابس القصيرة التي لا تغطي الصدر أو الذراعين أو الرقبة أو الرأس أو الوجه، كما لا يجوز أن يتشبهوا بهم في الطعام، بأن يأكلوا بشمالهم أو يأكلوا مختلطين رجالا ونساء، يتبادلون تناول الطعام على المائدة، وليسوا محارم لهؤلاء النساء، ويتبادلون كذلك كلمات المرح، والتسلية والمداعبة، كل مع غير زوجته أو محرمه، ولا يجوز للمسلمين والمسلمات أيضا أن يتشبهوا بالكفار في عاداتهم في الأفراح، بأن يدخل الرجل على عروسه، ومعه المصور وحولها نساء محارم وأجنبيات، فيأخذ لهن صورة أو صورا على أشكال مختلفة، فإن في ذلك الشر الكثير من تصوير ذوات الأرواح، وكشف المصورات للأجانب واطلاع الأجانب على زينة النساء الباطنة، في أبهى وأجمل ما تكون من الزينة، واختلاط الرجال بالنساء، وقد حرمت الشريعة الإسلامية ذلك ونهت عن تشبه المسلمين والمسلمات بالكفار. . . فينبغي للمسلمين رجالا ونساء أن يحافظوا على دينهم، وأن يسيروا على نهجه القويم، فإنه لا خير إلا دلنا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شر إلا نهانا عنه، وقد نهانا عن التشبه بالكفار، فلا يجوز لنا أن نتشبه بهم في عاداتهم وتقاليدهم، وإن لم تفعل تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/93)
من الفتوى رقم 4566
السؤال الأول والثاني
ما هي المشابهة المنهي عنها؟ هل هي فيما يخصهم فقط، أم فيما قد أصبح منتشرا ويفعله المسلمون والكفار؟ وإن كان أصله واردا من بلاد الكفر كما هو الحال في البنطلونات والحلل الإفرنجية، وهل إذا كان يفعله فساق المسلمين فقط دون عدولهم يصبح أيضا من المشابهة، إذا فعله عدول المسلمين، ما هو حكم لبس البدل الإفرنجية على الوجه الذي يفعله غالبية الناس الآن، من مسلمين وكفار، هل هو مشابهة فقط، وإن كان فيه مشابهة بالكفار فما هي درجة التحريم أو الكراهة، هل هناك كراهة أيضا حيث إن البنطلون يجسم العورة، إذا كان هناك كراهة فهل هي كراهة تحريمية أم تنزيهية؟ وما العورة المقصودة بالتجسيم؟ هل هي العورة المغلظة أم هي والفخذ أيضا؟ وإن أمكن تلافي هذا الأمر (وهو تجسيم العورة المغلظة والفخذ) بقدر الإمكان باستعمال البنطلونات الواسعة، فهل تظل الكراهة موجودة، وما حكم لبس البنطلونات الضيقة، أو المضبوطة تماما بحيث لا يكون فيها وسع عن الساق إلا قليلا.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد
جـ: المراد بمشابهة الكفار المنهي عنها، مشابهتهم فيما اختصوا به من العادات، وما ابتدعوه في الدين من عقائد وعبادات، كمشابهتهم في حلق اللحية، وشد الزنار، وما اتخذوه من المواسم والأعياد، والغلو في الصالحين بالاستغاثة بهم، والطواف حول قبورهم والذبح لهم، ودق الناقوس وتعليق الصليب في العنق، أو على البيوت، أو اتخاذه وشما باليد مثلا تعظيما له واعتقادا لما يعتقده النصارى، ويختلف حكم مشابهتهم فقد يكون كفرا كالتشبه بهم في الاستغاثة بأصحاب القبور، والتبرك بالصليب، واتخاذه شعارا.(42/94)
وقد يكون محرما فقط كحلق اللحية، وتهنئتهم بأعيادهم، وربما أفضى التساهل في مشابهتهم المحرمة إلى الكفر والعياذ بالله.
أما لبس البنطلون والبدلة وأمثالهما من اللباس، فالأصل في أنواع اللباس الإباحة؛ لأنه من أمور العادات قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (1) الآية، ويستثنى من ذلك ما دل الدليل الشرعي على تحريمه أو كراهته كالحرير للرجال، والذي يصف العورة لكونه شفافا يري من ورائه لون الجلد أو ككونه ضيقا يحدد العورة؛ لأنه حينئذ في حكم كشفها، وكشفها لا يجوز، وكالملابس التي هي من سيما الكفار، فلا يجوز لبسها لا للرجال ولا للنساء؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن التشبه بهم، وكلبس الرجال ملابس النساء، ولبس النساء ملابس الرجال؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، وليس اللباس المسمى بالبنطلون والقميص مما يختص لبسه بالكفار، بل هو لباس عام في المسلمين والكافرين في كثير من البلاد والدول، وإنما تنفر النفوس من لبس ذلك في بعض البلاد، ولعدم الإلف، ومخالفة عادة سكانها في اللباس، وإن كان ذلك موافقا لعادة غيرهم من المسلمين، لكن الأولى بالمسلم إذا كان في بلد لم يعتد أهلها ذلك اللباس ألا يلبسه في الصلاة، ولا في المجامع العامة، ولا في الطرقات.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأعراف الآية 32(42/95)
من الفتوى رقم 5176
السؤال العاشر:
إن كان لنا جيران كفار (نصارى) فكيف نعاملهم إن قدموا لنا هدايا نقبلها منهم، وهل يجوز لنا أن نظهر لهم سافرات الوجوه، أو أن يروا منا أكثر من الوجه، وهل يجوز لنا أن نشتري من البائعين النصارى؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أحسنوا إلى من أحسن إليكم منهم، وإن كانوا نصارى، فإذا أهدوا إليكم هدية مباحة، فكافئوهم عليها، وقد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدية من عظيم الروم وهو نصراني، وقبل الهدية من اليهود، وقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) ويجوز لك أن تظهري أمام نسائهم بما يجوز أن تظهري به أمام النساء المسلمات، مما يكشف وما يتزين به من الملابس ونحوها، في أصلح قولي العلماء، وأن تشتري منهن ما تحتاجين من المتاع المباح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 8
(2) سورة الممتحنة الآية 9(42/96)
من الفتوى رقم 10615
السؤال الأول:
رجل كان مسلما ثم ارتد عن الإسلام، ومات على ذلك، فهل نستطيع أن نقول بأنه كافر، وما حكم المرتد في الإسلام، وهل نستطيع أن نستغفر الله له مثلا اللهم اغفر له ذنبه.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: من كان مسلما ثم ارتد عن الإسلام فهو كافر، يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا قتل، ولا يجوز الاستغفار له إذا مات على الردة؛ لقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (1) وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التوبة الآية 113(42/97)
فتوى رقم 11123
س: نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بدء الكفار بالسلام، فهل هذا النهي يقتصر على قول: (السلام عليكم ورحمة الله) لهم، أم هو نهي يشمل كل مبادأة بالتحية، وهل يجوز لي أن أبدأ جاري النصراني بغير قول السلام(42/97)
عليكم ورحمة الله، كأن أقول له: صباح الخير، كيف حالك، Good Morning صباح الخير بالإنجليزية، وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خيرا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا يجوز بداءة الكافر بالسلام، لما ثبت من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه (1) » رواه مسلم، وفي حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (2) » رواه البخاري ومسلم.
فيرد عليهم بما دل عليه الحديث، وهو أن يقال: وعليكم، ولا بأس أن يقول للكافر ابتداء: كيف حالك، كيف أصبحت، كيف أمسيت، ونحو ذلك، إذا دعت الحاجة إلى ذلك، صرح بذلك جمع من أهل العلم، منهم أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد2 \ 346 و 444 و 459، ومسلم برقم 2167، وأبو داود برقم 5205 والترمذي برقم 2701.
(2) أحمد 3 \ 99 و140 و 144 و 212 و 214 و 218 و 234 و 262 و 6 \ 398، والبخاري برقم 6258 و 6926، ومسلم برقم 2163 وأبو داود برقم 5207 والترمذي برقم 3296.(42/98)
تهنئة النصارى بأعيادهم
فتوى رقم (11168) :
س: ما حكم الإسلام في تهنئة النصارى في أعيادهم؛ لأنه عندي خالي جاره نصراني يهنئه في الأفراح وفي الأعياد وهو أيضا يهنئ خالي في فرح أو عيد وكل مناسبة، هل هذا جائز تهنئة المسلم للنصراني والنصراني للمسلم في أعيادهم وأفراحهم؟ أفتوني جزاكم الله خيرا.
ج: لا يجوز للمسلم تهنئة النصارى بأعيادهم؛ لأن في ذلك تعاونا على الإثم وقد نهينا عنه قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) كما أن فيه توددا إليهم وطلبا لمحبتهم وإشعارا بالرضى عنهم وعن شعائرهم وهذا لا يجوز، بل الواجب إظهار العداوة لهم وتبين بغضهم؛ لأنهم يحادون الله جل وعلا ويشركون معه غيره ويجعلون له صاحبة وولدا قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (2) الآية، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (3) .
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة المجادلة الآية 22
(3) سورة الممتحنة الآية 4(42/99)
من الفتوى رقم 3418
السؤال الثاني:
بأي وسيلة يكون الإنسان يهوديا أو نصرانيا بواسطة الأعمال اليهودية، أو بواسطة علمهم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد:
جـ: يكون يهوديا باعتقاد عقائدهم والعمل بمقتضاها، وكذلك يكون نصرانيا باعتقاد عقائد النصارى، والعمل بمقتضاها، وأما مجرد العلم بعقائدهم، والعلم بما جرى عليه العمل عندهم للوقوف على باطلهم، أو للرد عليهم فلا يعتبر بذلك يهوديا أو نصرانيا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/100)
من الفتوى رقم 7289
السؤال الخامس:
هل الإنسان في حاجة إلى الرسل، ما دام أن الله أكرمه بالعقل والفطرة، ولماذا يكون الرسل من البشر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: بل في أشد الضرورة إليهم؛ لأن عقول الناس مختلفة أعظم اختلاف، ولا تستطيع أن تستقل بمعرفة ما يرضي الله سبحانه أو يسخطه من الأقوال والأعمال والعقائد، ومن أجل ذلك أرسل الله رسله، من نوح عليه الصلاة والسلام إلى أن ختموا بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه الله بدين شامل(42/100)
كامل باق عام للبشرية، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
وننصحك بالإكثار من قراءة القرآن، والتأمل فيه، وخاصة قصص الأنبياء فيه، وماذا واجهوا به أممهم من أمور الرسالة وأغراضها، المذكورين في مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (1) أما إرسالهم من البشر؛ فلأن ذلك أكمل في إقامة الحجة؛ لكونهم من جنسهم يستطيعون التفاهم معهم، وسؤالهم عما يهمهم، ويتمكنون من فهم كلامهم؛ لقول الله عز وجل: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} (2) {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} (3) وقال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (4) الآية.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 25
(2) سورة الإسراء الآية 94
(3) سورة الإسراء الآية 95
(4) سورة إبراهيم الآية 4(42/101)
من الفتوى رقم 8381
السؤال الأول والثاني:
ما الحكمة في جعل الأنبياء والرسل على فترات متقطعة، ولماذا لم يجعلهم في فترة واحدة؟
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد:
جـ: الله تعالى حكيم، ومن حكمته أن جعل أنبياءه ورسله على فترات، يختارهم ويبعثهم كلما دعت حاجة البشر إليهم؛ ليهدوهم إذا ضلوا؛ ولينقذوهم مما انتشر فيهم من الشرك والفساد، وقد يجتمع أنبياء ورسل في فترة واحدة، كداود وسليمان وكإبراهيم ولوط وموسى وهارون.
س: ما هو آخر نبي ورسول كان قبل آخر رسول وهو نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -؟
جـ: هو عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 2 \ 319 و 437 و 463 و 482 و 541 والبخاري برقم 3442 و 3443 ومسلم برقم 2365 وأبو داود برقم 4675 والطبراني في معجمه كتاب التفسير برقم 7145(42/102)
من الفتوى رقم 1000
السؤال السادس:
أستفسر عن التفريق بين رسل الله، وأيهم أفضل مكانة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد:
جـ: يجب الإيمان برسالة كل من ثبتت رسالته بالقرآن أو السنة الصحيحة، فمن آمن ببعضهم وكفر ببعض فقد كفر لقوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (1) سورة البقرة، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (2) {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (3) {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) وأما الفرق بين الرسل في المكانة والمنزلة، والتفاوت بينهم في الفضل والدرجة، فهذا صحيح، ورد به النص الشرعي قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (5) .
وأفضلهم أولو العزم، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - وأفضل هؤلاء الخمسة الخليلان إبراهيم ومحمد لاختصاصهما بالخلة، وهي كمال المحبة - عليهم الصلاة والسلام - وأفضل الرسل
__________
(1) سورة البقرة الآية 285
(2) سورة النساء الآية 150
(3) سورة النساء الآية 151
(4) سورة النساء الآية 152
(5) سورة البقرة الآية 253(42/103)
على الإطلاق، خاتم النبيين محمد - عليهم الصلاة والسلام - لحديث: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع (1) » رواه مسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، وحديث: «أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر (2) » . . . الحديث رواه الدارمي في سننه، وحديث: «أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة (3) » رواه مسلم في صحيحه، وأحاديث اختصاصه بالشفاعة العظمى وإقدامه عليها بعد اعتذار الأنبياء عنها، وإنقاذ الناس من هول الموقف بشفاعته لهم وغير ذلك من الأحاديث التي وردت في تفضيله، وإجماع الأمة على ذلك، إلا أنه ينبغي للمسلم أن يتأدب مع الأنبياء فلا يخوض في التفضيل بينهم إلا في مقام التعليم والإرشاد ونحو ذلك، خشية أن يجر ذلك إلى الجدل والتفاخر، وأن يكون ذريعة إلى انتقاص بعضهم، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أنه قال: «استب رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه: والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده فلطم وجه اليهودي، فقال: أي خبيث وعلى محمد صلى الله عليه وسلم. فجاء اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى المسلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تفضلوني على الأنبياء. . . (4) »
__________
(1) أحمد 5 \ 540 ومسلم برقم 2278 وأبو داود برقم 4673 وابن خزيمة في التوحيد برقم 362.
(2) الدارمي 1 \ 31 والبيهقي في الدلائل 5 \ 480 من حديث جابر بن عبد الله.
(3) أحمد 2 \ 341 و451 ومسلم برقم 196 وابن ماجه برقم 4356 وابن أبي شيبة في المصنف 11 \ 503.
(4) أحمد 3 \ 41 بلفظ '' لا تفضلوا بعض الأنبياء على بعض '' من حديث أبي سعيد الخدري والبخاري برقم 3414 ومسلم كتاب الفضائل حديث 159 والبيهقي في الدلائل 5 \ 482 بلفظ: '' لا تفضلوا بين أنبياء الله ''.(42/104)
الحديث، فنهى عن الدخول في المفاضلة بينه وبين الأنبياء في مثل هذه الحالة؛ خشية أن يجر إلى ما لا تحمد عقباه، وإن كان تفضيل بعضهم على بعض ثابتا في القرآن والسنة، وتعيين من هو أفضل ثابتا أيضا بالنص الصريح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(42/105)
فتوى رقم 11324
س: حدثت مناظرة بيني وبين شخص مسيحي، وقد فاجأني بقوله لي: هناك آية في القرآن تتضمن قول الله سبحانه وتعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (1) إلى آخر الآية، والآية الأخرى تتضمن قوله تعالى: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} (2) و {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِِحٍ} (3) وهناك آية أخرى، وهي قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (4)
__________
(1) سورة النور الآية 26
(2) سورة هود الآية 45
(3) سورة هود الآية 46
(4) سورة التحريم الآية 10(42/105)
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} (1) . . . إلى آخر الآية، وأن هناك - على حد زعمه - تناقضا، فكيف يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} (2) إلى آخر الآية، بينما زوجات أنبياء الله نوح ولوط خبيثات، وفرعون كما جاء فيه في القرآن وزوجته طيبة، وحيث ليس لدي جواب مقنع، آمل التكرم بإفتائي عن ذلك جزاكم الله خيرا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: قال الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (3) هذه الآية ذكرت بعد الآيات التي نزلت في قصة الإفك تأكيدا لبراءة عائشة - رضي الله عنها - مما رماها به عبد الله بن أبي ابن سلول، رأس المنافقين، زورا وبهتانا، وبيانا لنزاهتها وعفتها في نفسها، ومن جهة صلتها برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وللآية معنيان: الأول: أن الكلمات الخبيثات والأعمال السيئات أولى بها الناس الخبيثون، والناس الخبثاء أولى وأحق بالكلمات الخبيثات والأعمال الفاحشة، والكلمات الطيبات والأعمال الطاهرة أولى وأحق بها الناس الطيبون ذوو النفوس الأبية والأخلاق الكريمة السامية، والطيبون أولى بالكلمات والأعمال الصالحات.
والمعنى الثاني: أن النساء الخبيثات للرجال الخبيثين، والرجال الخبيثون
__________
(1) سورة التحريم الآية 11
(2) سورة النور الآية 26
(3) سورة النور الآية 26(42/106)
أولى بالنساء الخبيثات، والنساء الطيبات الطاهرات العفيفات أولى بالرجال الطاهرين الأعفاء، والرجال الطيبون الأعفاء أولى بالنساء الطاهرات العفيفات، والآية على كلا المعنيين دالة على المقصود منها، وهو نزاهة عائشة - رضي الله عنها - عما رماها به عبد الله بن أبي ابن سلول من الفاحشة، ومن تبعه ممن انخدع ببهتانه، واغتر بزخرف قوله.
ثانيا: قال الله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} (1) {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلينَ} (2) سورة هود، ومعنى الآيتين أن الله تعالى أخبر عن رسوله نوح - عليه السلام - أنه سأله تعالى أن ينجز له وعده إياه بنجاة ولده من الغرق والهلاك بناء على فهمه من ذلك من قوله تعالى له: {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ} (3) {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (4) وقد وعدتني بنجاة أهلي ووعدك الحق الذي لا يخلف {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} (5) {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} (6) أي الذين وعدتك بإنجائهم لأني إنما وعدتك بإنجاء من آمن من أهلك بدليل الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} (7) ولذلك عاتبه الله تعالى على تلك المساءلة وذلك الفهم بقوله: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} (8) وبين ذلك بقوله {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (9) لكفره بأبيه نوح - عليه السلام - ومخالفته إياه فليس من أهله دينا، وإن كان ابنا له من النسب، قال ابن عباس وغير واحد من السلف - رضي الله عنهم - (ما زنت امرأة نبي قط) وهذا هو الحق، فإن الله سبحانه أغير من أن
__________
(1) سورة هود الآية 45
(2) سورة هود الآية 46
(3) سورة هود الآية 40
(4) سورة هود الآية 45
(5) سورة هود الآية 45
(6) سورة هود الآية 46
(7) سورة هود الآية 40
(8) سورة هود الآية 46
(9) سورة هود الآية 46(42/107)
يمكن امرأة من الفاحشة، ولذلك غضب سبحانه على الذين رموا عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفاحشة، وأنكر عليهم ذلك، وبرأها مما قالوا فيها، وأنزل في ذلك قرآنا يتلى يوم القيامة.
ثالثا: قال الله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (1) الآيتين من سورة التحريم.
بعد أن عاتب الله تعالى أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخاصة عائشة وحفصة - رضي الله عنهن جميعا - على ما بدر منهن مما لا يليق بحسن معاشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى حلف أن يعتزلهن شهرا، وأنكر تعالى عليهن بعض ما وقع منهن من أخطاء في حقه - عليه الصلاة والسلام - وأنذرهن بالطلاق، وأن يبدله أزواجا خيرا منهن - ختم سورة التحريم بمثلين مثل ضربه للذين كفروا بامرأتين كافرتين: امرأة نوح وامرأة لوط، ومثل ضربه للذين آمنوا بامرأتين صالحتين: بآسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران إيذانا بأن الله حكم عدل لا محاباة عنده، بل كل نفس عنده بما كسبت رهينة، حث العباد على التقوى، وأن يخشوا يوما يرجعون فيه إلى الله، يوما لا يجزي فيه والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، يوم لا تزر فيه وازرة وزر أخرى، وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء، ولو كان ذا قربى، يوم لا تنفع فيه الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا.
فبين سبحانه أن امرأة نوح وامرأة لوط كانتا كافرتين، وكانتا تحت رسولين كريمين من رسل الله، وكانت امرأة نوح تخونه بدلالة الكفار على من آمن بزوجها، وكانت امرأة لوط تدل الكفار على ضيوفه؛ إيذاء وخيانة لهما وصدا للناس عن اتباعهما، فلم ينفعهما صلاح زوجيهما نوح ولوط، ولم يدفعا عنهما من بأس الله شيئا، وقيل لهاتين المرأتين: ادخلا النار مع الداخلين
__________
(1) سورة التحريم الآية 10(42/108)
جزاء وفاقا بكفرهما وخيانتهما، بدلالة امرأة نوح على من آمن به، ودلالة امرأة لوط على ضيوفه، لا بالزنى، فإن الله سبحانه لا يرضى لنبي من أنبيائه زوجة زانية، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير قوله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} (1) قال: (ما زنتا) . وقال: (ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين) وهكذا قال عكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك وغيرهم.
وبين الله سبحانه بالمثل الذي ضربه للذين آمنوا بآسية زوجة فرعون وكان أعتى الجبابرة في زمانه، أن مخالطة المؤمنين للكافرين لا تضرهم إذا دعت الضرورة إلى ذلك ما داموا معتصمين بحبل الله تعالى، متمسكين بدينه، كما لم ينفع صلاح الرسولين نوح ولوط زوجتيهما الكافرتين، قال الله تعالى: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} (2) ولذلك لم يضر زوجة فرعون كفر زوجها وجبروته، فإن الله حكم عدل، لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره، بل حماها وأحاطها بعنايته، وحسن رعايته، واستجاب دعاءها، وبنى لها بيتا في الجنة، ونجاها من فرعون وكيده، وسائر القوم الظالمين.
مما تقدم في تفسير الآيات من أن ابن نوح ليس ابن زنى، وأن عائشة - رضي الله عنها - برأها الله في القرآن مما رماها به رأس النفاق، ومن انخدع بقوله من المؤمنين والمؤمنات، وأن كلا من امرأة نوح وامرأة لوط لم تزن، وإنما كانتا كافرتين، ودلت كل منهما الكفار على ما يسوءهما، ويصد الناس عن اتباعهما، وأن زواج المؤمن بالكافرة كان مباحا في الشرائع السابقة، وكذا زواج الكافر بالمؤمنة، وأن الله حمى امرأة فرعون من كيده، وحفظ عليها دينها ونجاها من
__________
(1) سورة التحريم الآية 10
(2) سورة آل عمران الآية 28(42/109)
الظالمين، يتبين أن الآيات المذكورة متوافقة لا متناقضة، وأن بعضها يؤيد بعضا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/110)
فتوى رقم 6893
س: هل من الناس من أوحى الله إليه غير الأنبياء؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا نعلم أن الله أوحى إلى أحد غير الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وحي تشريع.
أما وحي الإلهام فقد أوحى الله إلى أم موسى وإلى النحل، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (1) وقال {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (2) وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة القصص الآية 7
(2) سورة النحل الآية 68(42/110)
من الفتوى رقم 6147
السؤال السابع:
الرسل الثلاثمائة والثلاثة عشر أولهم نوح وآخرهم محمد - عليهم الصلاة والسلام - هل أرسل قبل نوح رسول أم لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد.
جـ: نوح أول الرسل إلى أهل الأرض بعد آدم؛ لما ثبت في الصحيحين في حديث الشفاعة الطويل: «أن المؤمنين أتوا نوحا فقالوا أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض فاشفع إلى ربنا (1) » الحديث.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) انظر الفتوى رقم 1000.(42/111)
من الفتوى رقم 8257
السؤال الثالث:
الأنبياء جميعهم ماتوا، ولكن الرسول - عليه السلام - يوم أسري به وعرج به إلى السماء رأى في كل سماء أحد الأنبياء والرسل، وصلى بهم، فهل يعني هذا أن الأولياء الصالحين كذلك يرفعون إلى السماء، وقبل أيام قرأت في كتاب لا أذكر اسمه بالضبط، أن الرسل عندما يموتون تبقى أجسامهم حية لا تفنى، أقصد أن الدود لا يأكلها كما يأكل باقي الأجساد فما رأيكم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إذا مات الإنسان وليا أو غير ولي، فإن جسمه لا يرفع إلى السماء.(42/111)
وإنما تصعد روح المؤمن إلى السماء، وأما الأجساد فإنها تبقى في الأرض؛ لقوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (1) كما أن الأجساد تفنى ويأكلها الدود، حاشا أجساد الأنبياء، فقد ثبت من حديث أوس بن أوس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، فقالوا: يا رسول الله: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت، قال: يقولون بليت، قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء (2) » رواه أبو داود والنسائي.
مع العلم بأن عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - لم يمت، وإنما رفع إلى السماء، وسينزل في آخر الزمان، ثم يموت كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة طه الآية 55
(2) سنن النسائي الجمعة (1374) ، سنن أبو داود الصلاة (1047) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1636) ، مسند أحمد بن حنبل (4/8) ، سنن الدارمي الصلاة (1572) .(42/112)
فتوى رقم 4054
س: بعد التحية والتكريم: أخي الكريم الشيخ عبد العزيز بن باز بما أني م مخرج - س- وكاتب سينمائي ومسرحي أخيرا، فكرت في إنتاج - شريط فيلم جديد - تحت عنوان " رجل من بابل " هذا السيناريو أو القصة والحوار يتحدث عن سيدنا إبراهيم الخليل، فطبعا بعد قراءة الكتاب الذي(42/112)
ألف من طرف الكتاب التونسيين، والكتاب من بعض الدول العربية، أخرجت منه السيناريو والحوار، وفجأة سمعت في المركز التعليمي السعودي بتونس أن الأخ الكريم وكيل وزارة الإعلام يزور تونس الخضراء في مهمة اجتماع هيئة الإذاعات العربية فرحبت به؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا يجوز تمثيل الرسل والأنبياء، وهذا لازم لتصوير قصصهم، فلا يجوز الإقدام على ذلك؛ لما يترتب عليه من المفاسد، وقد صدر قرار من هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في هذا الموضوع، يتضمن بيان تحريم ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/113)
فتوى رقم 4723
س: حكم تمثيل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - والصحابة والتابعين - رضي الله عنهم؟ وعن تمثيل الأنبياء وأتباعهم من جانب، والكفار من جانب آخر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: إن المشاهد في التمثيليات التي تقام، والمعهود فيها طابع اللهو وزخرفة القول، والتصنع في الحركات، ونحو ذلك مما يلفت النظر ويستميل(42/113)
نفوس الحاضرين، ويستولي على مشاعرهم، ولو أدى ذلك إلى لي في كلام من يمثله، أو تحريف له، أو زيادة فيه، وهذا مما لا يليق في نفسه فضلا عن أنه يقع تمثيلا من شخص أو جماعة للأنبياء وصحابتهم وأتباعهم، فيما يصدر عنهم من أقوال في الدعوة والبلاغ، وما يقومون به من عبادة وجهاد؛ أداء للواجب ونصرة للإسلام.
ثانيا: إن الذين يشتغلون بالتمثيل يغلب عليهم عدم تحري الصدق، وعدم التحلي بالأخلاق الإسلامية الفاضلة، وفيهم جرأة على المجازفة، وعدم مبالاة بالانزلاق إلى ما لا يليق ما دام في ذلك تحقيق لغرضه، من استهواء الناس، وكسب للمادة، ومظهر نجاح في نظر السواد الأعظم من المتفرجين، فإذا قاموا بتمثيل الصحابة ونحوهم أفضى ذلك إلى السخرية والاستهزاء بهم، والنيل من كرامتهم، والحط من قدرهم، وقضى على ما لهم من هيبة ووقار في نفوس المسلمين.
ثالثا: إذا قدر أن التمثيلية لجانبين، جانب الكافرين كفرعون وأبي جهل ومن على شاكلتهما، وجانب المؤمنين كموسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - وأتباعهم فإن من يمثل الكافرين سيقوم مقامهم، ويتكلم بألسنتهم، فينطق بكلمات الكفر ويوجه السباب والشتائم للأنبياء، ويرميهم بالكذب، والسحر والجنون. . . إلخ، ويسفه أحلام الأنبياء وأتباعهم ويبهتهم بكل ما تسوله له نفسه من الشر والبهتان مما جرى من فرعون وأبي جهل وأضرابهما مع الأنبياء وأتباعهم لا على وجه الحكاية عنهم، بل على وجه النطق بما نطقوا به من الكفر والضلال، هذا إذا لم يزيدوا من عند أنفسهم ما يكسب الموقف بشاعة، ويزيده نكرا وبهتانا، وإلا كانت جريمة التمثيل أشد وبلاؤها أعظم، وذلك مما يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه من الكفر وفساد المجتمع، ونقيصة الأنبياء والصالحين.(42/114)
رابعا: دعوى أن هذا العرض التمثيلي لما جرى بين المسلمين والكافرين طريق من طرق البلاغ الناجح، والدعوة المؤثرة، والاعتبار بالتاريخ - دعوى يردها الواقع، وعلى تقدير صحتها، فشرها يطغى على خيرها، ومفسدتها تربو على مصلحتها، وما كان كذلك يجب منعه، والقضاء على التفكير فيه.
خامسا: وسائل البلاغ والدعوة إلى الإسلام ونشره بين الناس كثيرة، وقد رسمها الأنبياء لأممهم، وآتت ثمارها يانعة؛ نصرة للإسلام وعزة للمسلمين، وقد أثبت ذلك واقع التاريخ، فلنسلك ذلك الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولنكتف بذلك عما هو إلى اللعب وإشباع الرغبة والهوى أقرب منه إلى الجد وعلو الهمة، ولله الأمر كله من قبل ومن بعد، وهو أحكم الحاكمين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/115)
من الفتوى رقم 6290
السؤال العاشر:
بعض الناس يقولون، ومنهم الملحدون، أن الأنبياء والرسل يكون في حقهم الخطأ، يعني يخطئون كباقي الناس، قالوا إن أول خطأ ارتكبه ابن آدم قابيل هو قتل هابيل، داود عندما جاء إليه الملكان سمع كلام الأول، ولم يسمع قضية الثاني، فأفتى، يونس وقصته لما التقمه الحوت، وقصة الرسول مع زيد بن حارثة، قالوا بأنه أخفى في نفسه شيئا يجب عليه أن يقوله ويظهره، قصته مع الصحابة أنتم أدرى بأمور دنياكم، قالوا بأنه أخطأ في هذا(42/115)
الجانب. قصته مع الأعمى وهي: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} (1) {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} (2) فهل الأنبياء والرسل حقا يخطئون، وبماذا نرد على هؤلاء الآثمين؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد:
جـ: نعم الأنبياء والرسل يخطئون، ولكن الله تعالى لا يقرهم على خطئهم، بل يبين لهم خطأهم رحمة بهم وبأممهم ويعفو عن زلتهم ويقبل توبتهم فضلا منه ورحمة والله غفور رحيم، كما يظهر ذلك من تتبع الآيات القرآنية التي جاءت فيما ذكر من الموضوعات في هذا السؤال، ولم ينكر الله تعالى على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - إخباره أمته بحديث الذباب، وما في جناحيه من الداء والدواء، بل أقره فكان صحيحا وأما أبناء آدم فمع أنهما ليسا من الأنبياء لما قتل أحدهما الآخر ظلما وعدوانا، بين الله سوء صنيعه بأخيه، وبين نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أن ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة عبس الآية 1
(2) سورة عبس الآية 2(42/116)
فتوى رقم 7786
س: أريد أن أستفيد من جنابكم استفادة علمية لأشفي القلب بها،(42/116)
وقد قال الله تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) والله سبحانه وتعالى ولي الحق والصواب، وإليه المرجع والمآب، وذلك أني بعدما درست الفنون وعلوم الحديث، وعلوم القرآن، بحمد الرحمن، وقع ورسخ في قلبي أن الذي ألقى في النار سيدنا إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والتسليم - ليس هو نمرود الذي ملك الأرض كلها، كما هو بين الخواص والعوام، والمذكور في التفاسير والتواريخ لعلماء الإسلام، بل ما ألقاه إلا قومه؛ وذلك لأن القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه حينما وأيما ذكر هذه القصة يصرح تصريحا بأن الواقعة هذه قد وقعت مع قومه وأبيه؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، وهو صلى الله عليه وسلم وعلى نبينا محمد يمنعهم، إلى أن جعل الأصنام جذاذا، وجوز القوم هذا الجزاء بإزاء ما فعل، حيث قال جل شأنه: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} (2) القصة من سورة الأنبياء وغيرها، فالمباشرين لإجراء هذا الجزاء والمجوزين بعد المشاورة له، ليس إلا قومه، فالسياق والسباق وإرجاع هذه الضمائر إلى القوم لا يصرح تصريحا لا يقبل التأويل إلا بأن الواقعة هذه قد وقعت مع قومه، لا مع نمرود، نعم الواقعة المبينة في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ} (3) القصة تدل على أنها وقعت مع نمرود، لا مع القوم، مع أن المعلوم من التاريخ أن نمرود هذا ليس من قوم إبراهيم - عليه الصلاة والتسليم - فإلى جانب سياق القرآن وتصريحه الذي لا يقبل التأويل، وإلى جانب التواريخ والتفاسير وضعاف الأحاديث التي لا تساوي السياق القرآني وتصريحه، فبهذا نشأ القلق والاضطراب، وإني راجعت التفاسير فما وجدت لهذه المعضلة شفاء.
فالمرجو من حضرتكم الجواب الشافي المؤيد بالروايات الصحيحة من
__________
(1) سورة النحل الآية 43
(2) سورة الصافات الآية 97
(3) سورة البقرة الآية 258(42/117)
الأحاديث النبوية مع الإحاطة، ولا يقبل إلا الحديث الصحيح وأقوال علماء المحققين، أجري وأجركم على الله؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد:
جـ: إن الله تعالى ذكر في سورة البقرة قصة الذي حاج إبراهيم في ربه، وختمها بانتصار إبراهيم عليه ودحضه شبهته، فقال: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) ولم يشر سبحانه في القصة إلى أنه تعرض لإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بأذى أو أنذره بشر.
وذكر سبحانه في سورة الأنعام والأنبياء والشعراء والعنكبوت دعوة إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - أباه وقومه إلى التوحيد، وإنكاره عليهم عبادة غير الله، وتحطيمه أصنامهم، وما دار بينه وبينهم من المحاجة، وختمها بإلقائهم إياه في النار، وإنجائه منها، فقال سبحانه: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} (2) {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (3) {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} (4) {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (5) وهذا بين في أن قومه هم الذين ألقوه في النار، وأن الله تعالى رد كيدهم وأحبط سعيهم، ونجى خليله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - مما أرادوه به من الهلاك، فلا إشكال في المسألة، ولا إعضال، فالمقصود هو بيان أن إبراهيم - عليه السلام - بلغ البلاغ المبين، وأقام الحجة على الكافرين، وأنه ابتلي البلاء العظيم، فصبر ابتغاء وجه الله الكريم، فأنجاه الله من النار، وأبطل كيد الكفار، وقد تم كل ذلك بفضل الله ورحمته، فهون على
__________
(1) سورة البقرة الآية 258
(2) سورة الأنبياء الآية 68
(3) سورة الأنبياء الآية 69
(4) سورة الأنبياء الآية 70
(5) سورة الأنبياء الآية 71(42/118)
نفسك، وأشغل بالك بما هو أهم من ذلك، زادك الله فقها في الدين، وعناية، ووفقنا وإياك للنافع من العلم، وصالح العمل، ونفع بنا وبك المسلمين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/119)
من الفتوى رقم 4804
السؤال السادس:
أبو إبراهيم الخليل - عليه السلام - هل هو (آزر) أم (آزار) كما يقولون فعل ماض بمعنى أخذه الإثم بمخالفة إبراهيم الخليل، أو كما يقولون مأخوذ من (الوزر) أيهما أصح؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: آزر اسم أعجمي لوالد إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - على الصحيح من أقوال العلماء، وهو بدل من أبيه أو معطوف عليه عطف بيان، وليس فعلا ماضيا مشتقا من الوزر، فإن ماضي الوزر- وزر - ثلاثي بمعنى أثم وحمل، وآزر أربعة حروف، وليس آزر اسما لصنم كان يعبده قوم إبراهيم وأبوه، لكونه مخالفا لسياق خطاب إبراهيم - عليه السلام - لأبيه ولجمع الأصنام في نفس الآية، ولتعداد معبوداتهم تفصيلا بعد ذلك من كوكب وقمر وشمس.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/119)
من الفتوى رقم 4333
السؤال الثالث:
يروى في كتب السير بأن إسماعيل - عليه السلام - دفن في الحطيم (بمكة المكرمة) إذا كان القبر في الحطيم، فكيف تجوز الصلاة في ذلك المكان؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: ما قيل من أن إسماعيل - عليه الصلاة والسلام - مدفون في (الحطيم) غير صحيح فلا يعول عليه بحال.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/120)
من الفتوى رقم 9308
السؤال الثاني:
هل إخوة سيدنا يوسف - عليه السلام - الذين رموه في الجب من الأسباط المذكورين في القرآن الذين هم من الأنبياء والمرسلين، وإن كانوا كذلك فهل يجوز فعلهم هذا في حق الرسل والأنبياء أم أنهم فعلوا ذلك قبل أن تأتيهم النبوة والرسالة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: يوسف - عليه السلام - وإخوته هم بنو يعقوب - عليه السلام - إسرائيل والمراد بالأسباط حفدة يعقوب وذرية أبنائه الاثني عشر، وليس من الاثني عشر نبي إلا يوسف - عليه السلام - على الصحيح، كما ذكر ذلك ابن كثير في كتابه (البداية) ص215 - 216 ج1 وعلى هذا فلا يستبعد أن(42/120)
يحتال إخوة يوسف على أبيهم، ويرتكبوا ما حصل منهم من الكيد لأخيهم يوسف - عليه السلام.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/121)
من الفتوى رقم 5513
السؤال الأول والثاني:
هل الخضر - عليه السلام - ما زال على قيد الحياة كما يدعون؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الصحيح من قولي العلماء ما ذهب إليه الجمهور من أن الخضر - عليه السلام - قد مات لظاهر العموم في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} (1) ولما ثبت عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قام فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد (2) » . قال ابن عمر: " فوهل الناس في مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك فيما يتحدثون من الأحاديث عن مائة سنة، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد (3) » يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن) رواه مسلم، ثم هذا هو الأصل الغالب في سنة الله في بني آدم، فيجب
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 34
(2) صحيح البخاري العلم (116) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2537) ، سنن الترمذي الفتن (2251) ، سنن أبو داود الملاحم (4348) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(3) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (601) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2537) ، سنن الترمذي الفتن (2251) ، سنن أبو داود الملاحم (4348) ، مسند أحمد بن حنبل (2/131) .(42/121)
البقاء معه حتى يثبت ما ينقل عنه من الأدلة، ولم يثبت فيما نعلم ما يدل على استثناء الخضر عليه السلام.
س: هل الخضر نبي أو رجل صالح؟
جـ: الصحيح أن الخضر - عليه السلام - نبي؛ لما ذكره الله تعالى في سورة الكهف من قصته مع موسى - عليهما السلام - فإن فيها أنه خرق سفينة كانت لمساكين يعملون في البحر، وقتل غلاما لم يرتكب جريمة، وأقام جدارا ليتيمين بلا أجر في قرية أبى أهلها إطعامها، وأنكر موسى كل ذلك عليه فبين له السبب أخيرا، ثم ختمت القصة بأن كل ذلك منه بوحي من الله، وذلك فيما أخبر الله عنه من قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (1) وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الكهف الآية 82(42/122)
فتوى رقم 6001
س: يعتقد كثير من عوام المسلمين في كثير من البلاد الإسلامية وعلماء الطرق الصوفية، بأن الخضر صاحب موسى - عليه السلام - حي يرزق للآن، وأنه يطوف الدنيا كلها، وأنه يتشكل في صور مختلفة، ويعتقدون بأنه لا ظل له، وأن معه النبي (إلياس) - عليه السلام - ويعتقد العوام بأن الخضر إذا(42/122)
زارهم، ودعا لهم أصبحوا أغنياء في أقل من لمح البصر، وإذا غضب عليهم انقلبوا فقراء إذا كانوا أغنياء، ومرضى إذا كانوا أصحاء، ومن عقيدتهم - عافانا الله منها - أنه يأتي في صورة سائل مرة، وفي صورة مريض، ينزل من جسده القيح والصديد، فإن طردوه من منازلهم كان هذا دليلا على شقاوتهم وتعاستهم، وإن رحبوا به وعالجوه اختفى بدون أن يترك أي أثر وكان هذا دليلا على سعادتهم.
س: هل الخضر صاحب موسى - عليه السلام - حي يرزق للآن، وهل هو نبي، هل ذكر صراحة في الأحاديث النبوية الصحيحة، ما هي حقيقة أمره؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الخضر نبي من أنبياء الله - عليهم الصلاة والسلام - والصحيح أنه مات كغيره من البشر، فلا يطوف بالدنيا ولا يتمثل في صورة مختلفة، وليس سببا اليوم لغنى أو فقر. وقد سبق أن صدر منا فتوى مفصلة عنه مع الأدلة هذا نصها: (1) (الصحيح من قولي العلماء ما ذهب إليه الجمهور من أن الخضر - عليه السلام - قد مات لظاهر العموم في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} (2) ولما ثبت عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: أرأيتكم ليلتكم هذه، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد، (3) » قال ابن عمر: فوهل الناس في مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك
__________
(1) صدرت برقم 5513.
(2) سورة الأنبياء الآية 34
(3) صحيح البخاري العلم (116) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2537) ، سنن الترمذي الفتن (2251) ، سنن أبو داود الملاحم (4348) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .(42/123)
فيما يتحدثون من الأحاديث عن مائة سنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد (1) » يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن) رواه مسلم، ثم هذا هو الأصل الغالب في سنة الله في بني آدم، فيجب البقاء معه حتى يثبت ما ينقل عنه من الأدلة، ولم يثبت - فيما نعلم - ما يدل على استثناء الخضر عليه السلام.
هل الخضر نبي أو رجل صالح؟ الصحيح أن الخضر - عليه السلام - نبي؛ لما ذكره الله تعالى في سورة الكهف من قصته مع موسى - عليهما السلام - فإن فيها أنه خرق سفينة كانت لمساكين يعملون في البحر وقتل غلاما لم يرتكب جريمة وأقام جدارا ليتيمين بلا أجر في قرية أبى أهلها إطعامهما، وأنكر موسى كل ذلك عليه، فبين له السبب أخيرا، ثم ختم القصة بأن كل ذلك كان منه بوحي من الله، وذلك فيما أخبر الله عنه من قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} (2) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري مواقيت الصلاة (601) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2537) ، سنن الترمذي الفتن (2251) ، سنن أبو داود الملاحم (4348) ، مسند أحمد بن حنبل (2/131) .
(2) سورة الكهف الآية 82(42/124)
فتوى رقم 7647
س: قد كنت أتحدث مع رجل مصري الجنسية ويعمل طبيبا في بريطانيا، وأثناء ذلك ذكر لي أن مريم ابنة عمران بعدما أنجبت ابنها عيسى - عليه السلام - تزوجها رجل لا يحضرني اسمه الآن وأنجبت منه طفلين، فهل(42/124)
هذا صحيح أو لا؟ وإذا كان ذلك حقيقة فما الدليل من القرآن الكريم أو من السنة أو غيرهما، لأن الرجل الذي ذكر ذلك لي لم يستطع ذكر أي دليل، وأنا كذلك لا أستطيع ذكر ما سمعته ما لم أستدل بشيء من القرآن أو من السنة، أرجو تزويدي بشيء من ذلك، والله يحفظكم لنا ذخرا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لم يذكر في كتاب الله تعالى، ولا ثبت في السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن مريم بنت عمران تزوجت بعد أن ولدت عيسى - عليه السلام - ولا أنها ولدت أولادا سوى عيسى - عليه السلام.
أما قبل عيسى - عليه السلام - فقد ثبت أنها لم يمسسها بشر، ولم تك بغيا، قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} (1) {فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} (2) {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا} (3) {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا} (4) {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} (5) وقد أقر الله تعالى قولها وصدقها فيه.
وبهذا يتبين أن ما قيل من أن مريم بنت عمران تزوجت أو ولدت غير عيسى - عليه الصلاة والسلام - لا أصل له.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة مريم الآية 16
(2) سورة مريم الآية 17
(3) سورة مريم الآية 18
(4) سورة مريم الآية 19
(5) سورة مريم الآية 20(42/125)
من الفتوى رقم 6821
السؤال الثاني:
في بعض الأحيان أقوم بالكتابة إلى بعض الهيئات النصرانية المنتشرة في لبنان وفرنسا وسويسرا وأسبانيا وغيرها، وهم يرسلوا لي بعض نشراتهم وكذلك بعض الأسئلة عليها، ومن باب التسلية أو الحصول على معلومات عنهم أقوم بالرد على هذه الأسئلة كما يريدون، فهل يجوز ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إذا كان الأمر كما ذكر من طلب النشرات والإجابة عليها للتسلية فلا يجوز، وإن كان طلبها للرد عليها، وإظهار مثالبها وكشف حقيقتها، وبيان الحق فيها، فلا حرج.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/126)
من الفتوى رقم 9886
السؤال الثاني:
إذا مات الإنسان ودخل القبر، هل يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهل يقال له: ما تقوله في هذا الرجل؟ والحال قد يموت في الوقت الواحد خلق كثير، وإذا سأله ملكان هل يسألانه بلسانه أو بالعربية أو بالسريانية؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إذا مات الإنسان ودفن جاءه ملكان وسألاه عن ربه ونبيه ودينه بلغة يفهمها، فالمؤمن يسدد في الجواب دون الكافر، ولو تعدد الأموات(42/126)
واتحد الوقت ولا غرابة، فالملائكة لهم شأن غير شأن البشر، ولم يرد أن الميت يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبره فيما نعلم.
ونوصيك بمراجعة " كتاب العقيدة الواسطية " لشيخ الإسلام ابن تيمية، " والأصول الثلاثة " لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في الموضوع وغيره زيادة في الفائدة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/127)
من الفتوى رقم 6522
السؤال السابع:
هل صح حديث أن أهل البرزخ يرى بعضهم بعضا أم لا ويتحدث بعضهم مع البعض؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا نعلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه المسألة حديثا يعتمد عليه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/127)
من الفتوى رقم 8864
السؤال الثالث:
ما هو الشيء الذي دل عليه الكتاب والسنة في النجاة من عذاب القبر، فهل هناك أحاديث نبوية، أو أدعية خاصة، نقولها يوميا للنجاة من(42/127)
عذاب القبر، وإنني قرأت حديثا للرسول - صلى الله عليه وسلم - عن قراءة سورة الملك يوميا، فكم مرة تقرأ هذه السورة في اليوم، ومتى هو وقت القراءة ولكم الشكر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الشيء الذي دل عليه الكتاب والسنة في النجاة من عذاب القبر هو أداء ما أوجبه الله على العبد، وترك ما حرمه عليه، والإكثار من التوبة والاستغفار، وفضائل الأعمال، وكثرة الاستعاذة بالله من عذاب القبر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) 0 وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ في آخر الصلاة من أربع؛ منها عذاب القبر، ويأمر بذلك، أما قراءة سورة الملك للاستجارة بها من عذاب القبر فلا نعلم حديثا صحيحا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102(42/128)
من الفتوى رقم 1333
السؤال الثالث:
قال ابن عباس: «مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة، قالوا: يا رسول الله؛ لم فعلت؟ قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا (1) » رواه البخاري، فهل يصح لنا الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك،
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (218) ، صحيح مسلم الطهارة (292) ، سنن الترمذي الطهارة (70) ، سنن النسائي الجنائز (2068) ، سنن أبو داود الطهارة (20) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (347) ، مسند أحمد بن حنبل (1/225) ، سنن الدارمي الطهارة (739) .(42/128)
وهل يجوز وضع ما شابه الجريدة من الأشياء الرطبة الخضراء قياسا على الجريدة، أو يجوز غرس شجرة على القبر؛ لتكون دائمة الخضرة لهذا الغرض؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إن وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجريدة على القبرين ورجاءه تخفيف العذاب عمن وضعت على قبريهما، واقعة عين لا عموم لها في شخصين أطلعه الله على تعذيبهما، وأن ذلك خاص برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لم يكن منه سنة مطردة في قبور المسلمين، وإنما كان مرتين أو ثلاثا على تقدير تعدد الواقعة لا أكثر، ولم يعرف فعل ذلك عن أحد من الصحابة وهم أحرص المسلمين على الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - وأحرصهم على نفع المسلمين، إلا ما روي عن بريدة الأسلمي: أنه أوصى أن يجعل في قبره جريدتان، ولا نعلم أن أحدا من الصحابة - رضي الله عنهم - وافق بريدة على ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/129)
من الفتوى رقم 7266
س: ما رأيكم في الصليب، وكيف إذا كان معمولا على السجاد الذي يصلى عليه، وفرش بعض المساجد الذي عليه السيفان والنخلة، ومنقوش عليه الصلبان، فكيف الصلاة على هذه الصلبان؟(42/129)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: صنع الصليب حرام، سواء كان مجسما أم نقشا أم رسما أو غير ذلك، على جدار أو فرش أو غير ذلك، ولا يجوز إدخاله مسجدا، ولا بيوتا، ولا دور تعليم، من مدارس ومعاهد ونحو ذلك. ولا يجوز الإبقاء بل يجب القضاء عليه، وإزالته بما يذهب بمعالمه من كسر ومحو وطمس وغير ذلك. ولا يجوز بيعه ولا الصلاة عليه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(42/130)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
حكم إقامة مراسم العزاء
س: تقام مراسم العزاء، يتجمع الناس عند بيت المتوفى خارج المنزل، توضع بعض المصابيح الكهربائية (تشبه تلك التي في الأفراح) ويصطف أهل المتوفى ويمر الذين يريدون تعزيتهم، يمرون عليهم واحدا بعد الآخر، ويضع كل منهم يده على صدر كل فرد من أهل المتوفى ويقول له (عظم الله أجرك) فهل هذا الاجتماع، وهذا الفعل مطابق للسنة؟ وإذا لم يوافق السنة فما هي السنة في ذلك أفيدونا جزاكم الله خيرا.
جـ: هذا العمل ليس مطابقا للسنة، ولا نعلم له أصلا في الشرع المطهر، وإنما السنة التعزية لأهل المصاب من غير كيفية معينة، ولا اجتماع معين كهذا الاجتماع، وإنما يشرع لكل مسلم أن يعزي أخاه بعد خروج الروح، في البيت، أو في الطريق، أو في المسجد، أو في المقبرة، سواء كانت التعزية قبل الصلاة أو بعدها، وإذا قابله شرع له مصافحته والدعاء له بالدعاء المناسب مثل (أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك، وجبر مصيبتك) . وإذا كان الميت مسلما دعا له بالمغفرة والرحمة، وهكذا النساء فيما بينهن يعزي بعضهن بعضا، ويعزي الرجل المرأة، والمرأة الرجل، لكن من دون خلوة ولا مصافحة، إذا كانت المرأة ليست محرما له. . وفق الله المسلمين جميعا للفقه في دينه، والثبات عليه، إنه خير مسئول.(42/131)
حكم قراءة الفاتحة على قبور الأولياء
س: ما حكم من يزور القبور، ثم يقرأ الفاتحة، وخاصة على قبور الأولياء، كما يسمونهم في بعض البلاد العربية المجاورة. بالرغم أن بعضهم يقول لا أريد الشرك، ولكن إذا لم أقم بزيارة هذا الولي فإنه يأتي إلي في المنام، ويقول لي: لماذا لم تزرني؟ فما حكم ذلك جزاكم الله خيرا؟
جـ: يسن للرجال من المسلمين زيارة القبور، كما شرعه الله سبحانه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وروى مسلم في صحيحه أيضا عن بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - قال: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية (2) » .
وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنه كان إذا زار القبور يقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد (3) » ولم يكن حال الزيارة - عليه الصلاة والسلام - يقرأ سورة الفاتحة، ولا غيرها من القرآن، فقراءتها وقت الزيارة بدعة، وهكذا قراءة غيرها من القرآن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » متفق على صحته، وفي رواية مسلم - رحمه الله - يقول صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5) » وفي صحيح مسلم عن جابر، عن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه كان يقول في خطبته يوم الجمعة أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (975) ، سنن النسائي الجنائز (2040) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1547) ، مسند أحمد بن حنبل (5/353) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (974) ، سنن النسائي الجنائز (2039) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1546) ، مسند أحمد بن حنبل (6/221) .
(4) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(5) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(42/132)
وكل بدعة ضلالة (1) » وأخرجه النسائي وزاد: «كل ضلالة في النار (2) » . فالواجب على المسلمين التقيد بالشرع المطهر، والحذر من البدع في زيارة القبور وغيرها. والزيارة مشروعة لقبور المسلمين جميعا، سواء سموا أولياء أم لم يسموا أولياء، ولكل مؤمن وكل مؤمنة من أولياء الله، كما قال الله عز وجل: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (4) وقال سبحانه في سورة الأنفال: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (5) ولا يجوز للزائر ولا لغيره دعاء الأموات، أو الاستغاثة بهم، أو النذر لهم، أو الذبح لهم عند قبورهم، أو في أي مكان يتقرب بذلك إليهم؛ ليشفعوا له أو يشفوا مريضه، أو ينصروه على عدوه، أو لغير ذلك من الحاجات؛ لأن هذه الأمور من العبادة، والعبادة كلها لله وحده، كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (6) وقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (7) ، وقال سبحانه {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (8) وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (9) والمعنى: أمر ووصى، وقال عز وجل: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (10) وقال عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (11) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (12) والآيات في هذا المعنى
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(3) سورة يونس الآية 62
(4) سورة يونس الآية 63
(5) سورة الأنفال الآية 34
(6) سورة البينة الآية 5
(7) سورة الذاريات الآية 56
(8) سورة الجن الآية 18
(9) سورة الإسراء الآية 23
(10) سورة غافر الآية 14
(11) سورة الأنعام الآية 162
(12) سورة الأنعام الآية 163(42/133)
كثيرة، وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا (1) » متفق على صحته من حديث معاذ - رضي الله عنه - وهذا يشمل جميع العبادات من صلاة، وصوم، وركوع، وسجود، وحج، ودعاء، وذبح، ونذر، وغير ذلك من أنواع العبادة، كما أن الآيات السابقات تشمل ذلك كله، وفي صحيح مسلم عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لعن الله من ذبح لغير الله (2) » وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله (3) » والأحاديث في الأمر بعبادة الله وحده والنهي عن الإشراك به، وعن وسائل ذلك كثيرة معلومة. أما النساء فليس لهن زيارة القبور؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لعن زائرات القبور (4) » والحكمة في ذلك والله أعلم أن زيارتهن قد تحصل بها الفتنة لهن ولغيرهن من الرجال. وقد كانت الزيارة للقبور في أول الإسلام ممنوعة حسما لمادة الشرك. فلما فشا الإسلام، وانتشر التوحيد، أذن - صلى الله عليه وسلم - في الزيارة للجميع، ثم خص النساء بالمنع حسما لمادة الفتنة بهن.
أما قبور الكفار فلا مانع من زيارتها للذكرى والاعتبار، ولكن لا يدعى لهم، ولا يستغفر لهم، لما ثبت في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه استأذن ربه أن يستغفر لأمه فلم يأذن له، واستأذنه أن يزور قبرها فأذن له، وذلك أنها ماتت في الجاهلية على دين قومها (5) » .
وأسأل الله أن يوفق المسلمين رجالا ونساء للفقه في الدين، والاستقامة عليه قولا وعملا وعقيدة، وأن يعيذهم جميعا من كل ما يخالف شرعه المطهر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .
(2) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3445) ، مسند أحمد بن حنبل (1/47) .
(4) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) .
(5) صحيح مسلم الجنائز (976) ، سنن النسائي الجنائز (2034) ، سنن أبو داود الجنائز (3234) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1572) ، مسند أحمد بن حنبل (2/441) .(42/134)
حكم قيام الطالبات للمدرسة
س: ما حكم قيام الطالبات للمدرسة احتراما لها؟
جـ: إن قيام البنات للمدرسة والبنين للمدرس أمر لا ينبغي، وأقل ما فيه الكراهة الشديدة، لقول أنس - رضي الله عنه: (لم يكن أحد أحب إليهم - يعني الصحابة - رضي الله عنهم - من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكونوا يقومون له إذا دخل عليهم؛ لما يعلمون من كراهته لذلك) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار (1) » .
وحكم النساء حكم الرجال في هذا الأمر. وفق الله الجميع لما يرضيه، وجنبنا جميعا مساخطه ومناهيه، ومنح الجميع العلم النافع والعمل به إنه جواد كريم.
__________
(1) سنن الترمذي الأدب (2755) ، سنن أبو داود الأدب (5229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/100) .(42/135)
أجوبة مفيدة تتعلق بالرؤيا والصوم عن الميت
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ن. هـ. ع وفقه الله آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بعده:
وصلني كتابكم الكريم - وصلك الله بهداه - وما تضمنه من الأسئلة الخمسة كان معلوما. وإليك جوابها: (1)
__________
(1) جواب السؤالين الرابع والخامس لم يذكرا هنا لعدم تعلقهما بالعقيدة.(42/135)
الأول: رأت أمك رؤيا متكررة، بأنها تجمع غنما وكلما جمعت قسما انفلت منها قسم آخر وتعبت من ذلك.
الجواب: مثل هذه الرؤيا تعتبر رؤيا مكروهة، والمشروع في ذلك لمن رأى مثل هذه الرؤيا أن ينفث عن يساره ثلاثا إذا استيقظ، ويتعوذ بالله من الشيطان، ومن شر ما رأى ثلاث مرات، ثم ينقلب على جنبه الآخر فإنها لا تضره، ولا يخبر بها أحدا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره فلينفث عن يساره ثلاث مرات، وليستعذ بالله من الشيطان، ومن شر ما رأى ثلاث مرات، ثم ينقلب على جنبه الآخر، فإنها لا تضره ولا يخبر بها أحدا (1) » متفق على صحته.
وأما التيس الذي أخذته أمك من الغنم التي اختلطت بغنمها، ولم تخبر به صاحبه ثم ذبحوه وأكلوه - فإن عليها التوبة من ذلك وعليها قيمته لصاحبه ذلك الوقت، فإن لم تعرف صاحبه تصدقت به عنه على بعض الفقراء. نسأل الله أن يعفو عنا وعنها وعن كل مسلم.
الثاني: ترى أمك أمها مرات كثيرة، وهي مريضة في حياتها وبعد موتها. . . إلخ.
الجواب: الجواب عن هذا السؤال كالذي قبله، لأنها رؤيا مكروهة، وهي من الشيطان، والمشروع في ذلك لمن رأى رؤيا مكروهة هو ما ذكرنا في جواب السؤال الأول.
الثالث: كانت جدتك أم أمك مريضة مرضا شبه مستمر، وكانت تفطر في رمضان وتقضي، وكانت أمك تساعدها في القضاء بالصوم عنها. . . إلخ؟
الجواب: لا يجزئ صوم الإنسان عن غيره إذا كان المصوم عنه حيا.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3292) ، صحيح مسلم الرؤيا (2261) ، سنن الترمذي الرؤيا (2277) ، سنن أبو داود الأدب (5021) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3909) ، مسند أحمد بن حنبل (5/300) ، موطأ مالك الجامع (1784) ، سنن الدارمي الرؤيا (2142) .(42/136)
وقد ماتت جدتك - رحمها الله - فيشرع للوالدة أن تصوم عنها الأيام التي صامت عنها في حياتها؛ لأن صومها عنها في حياتها غير مجزئ، فإن لم يتيسر لها الصوم فالمشروع لها أن تتصدق عنها كل يوم بنصف صاع من التمر أو غيره من قوت البلد، ومقداره (كيلو ونصف) تقريبا مع الدعاء لها بالمغفرة والرحمة.(42/137)
لا حرج من الرحلة للتفقه في القرآن واستماعه
من حسن الصوت (1)
س: يوجد في مدينتنا قارئ جيد يخشع في صلاته، ويأتي إليه الناس من مدن بعيدة كالرياض والمنطقة الشرقية والباحة وغيرها، فما الحكم في مجيء هؤلاء، وهل صحيح أنهم وقعوا في النهي الوارد في الحديث: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسجد الأقصى (2) » نرجو الإفادة والتوجيه. جزاكم الله خيرا.
أ. ب. ف- القصيم
جـ: لا نعلم حرجا في ذلك، بل ذلك داخل في الرحلة لطلب العلم والتفقه في القرآن الكريم واستماعه من حسن الصوت به، وليس السفر لذلك من شد الرحال المنهي عنه. وقد ارتحل موسى - عليه الصلاة والسلام - رحلة عظيمة إلى الخضر - عليه السلام - في مجمع البحرين لطلب العلم، ولم يزل أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم يرتحلون من إقليم إلى إقليم
__________
(1) الدعوة. العدد 1227 تاريخ 6 \ 7 \ 1410 هـ.
(2) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .(42/137)
ومن بلاد إلى بلاد لطلب العلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (1) » خرجه الإمام مسلم - رحمه الله - في صحيحه.
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(42/138)
حكم أخذ الكتب من المكتبات المدرسية.
س: الأخت التي رمزت لاسمها بـ: فـ - س- ز من عنيزة في المملكة العربية السعودية تقول في سؤالها: في سنوات دراستي الماضية كان لدينا في مدرستنا مكتبة تضم عددا من الكتب والمجلات، وكانت لا تلقى أي اهتمام من الطالبات، وقد كنت أحب القراءة واقتناء الكتب، وأعجبني بعض الكتب الدينية التي كانت فيها، وكذلك الكتب الطبية والقصصية، وهي حوالي أربعة كتب، وقد أخذتها من مكتبة المدرسة حتى أقرأها وأعيدها، وفي زحمة الدراسة نسيت أن أعيدها إلى المكتبة، وبعد أن تخرجت من المدرسة بحوالي ثلاث سنوات قالت لي إحدى الأخوات: إن أخذ هذه الكتب وعدم إرجاعها حرام، ومحاسبون عليه يوم القيامة، مع العلم أنني عندما أخذتها لم أكن أعلم بحكم أخذها، وكذلك لم يكن للمكتبة أي اهتمام من المدرسات أو الطالبات، وأنا قد استفدت منها وخاصة الدينية، ولا أود أن أعيدها لأن فيها أحكاما أفادتني. فما الحكم في ذلك جزاكم الله خيرا؟
جـ: الواجب عليك ردها إلى المكتبة؛ لأنها في حكم الوقف على المكتبة، ولا يجوز لأحد أن يأخذ من المكتبات العامة، ولا من المكتبات المدرسية شيئا، إلا بإذن المسئول عنها على وجه العارية لمدة محدودة، وعليك مع ذلك التوبة إلى الله مما فعلت، ونسأل الله أن يتوب عليك، ويغفر لك إنه خير مسئول.(42/138)
طاعة الوالد بالمعروف.
س: يسأل الأخ: ر. أ. م من جمهورية مصر العربية: بعد السلام على سماحتكم، عما يصدر من والده من أعمال تخالف الشريعة وآدابها، وماذا يجب عليه نحو والده في هذه الحالة؟
جـ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته:
بعده نسأل الله لوالدك الهداية، وأن يمن عليه بالتوبة، ونوصيك بالرفق به ونصيحته بالأسلوب الحسن، وعدم اليأس من هدايته، لقول الله سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (1) {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (2) الآية، فأوصى سبحانه بشكر الوالدين مع شكره، وأمر الولد أن يصاحبهما في الدنيا معروفا، وإن جاهداه على الكفر بالله، وبذلك تعلم أن المشروع لك أن تصحب والدك بالمعروف، وأن تحسن إليه وإن أساء إليك، وأن تجتهد في دعوته إلى الحق؛ لعل الله يهديه بأسبابك. ولا يجوز لك أن تطيعه في معصية، ونوصيك أيضا بأن تستعين على هدايته بالله - عز وجل - ثم بأهل الخير من أقاربك كأعمامك وغيرهم ممن يقدرهم ويحترمهم أبوك، لعله يقبل نصيحتهم. نسأل الله لنا ولك، وله الهداية والتوفيق للتوبة النصوح، إنه سميع قريب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
__________
(1) سورة لقمان الآية 14
(2) سورة لقمان الآية 15(42/139)
أسئلة متفرقة وأجوبتها.
س1: كثير من المسلمين يتساهلون في الحكم بغير شريعة الله، والبعض يعتقد أن ذلك التساهل لا يؤثر في تمسكه بالإسلام، والبعض الآخر يستحل الحكم بغير ما أنزل الله، ولا يبالي بما يترتب على ذلك، فما هو الحق في ذلك؟
ج1: هذا فيه تفصيل، وهو أن يقال من حكم بغير ما أنزل الله وهو يعلم أنه يجب عليه الحكم بما أنزل الله، وأنه خالف الشرع، ولكن استباح هذا الأمر، ورأى أنه لا حرج عليه في ذلك، وأنه يجوز له أن يحكم بغير شريعة الله، فهو كافر كفرا أكبر عند جميع العلماء، كالحكم بالقوانين الوضعية التي وضعها الرجال من النصارى أو اليهود أو غيرهم ممن زعم أنه يجوز الحكم بها، أو زعم أنها أفضل من حكم الله، أو زعم أنها تساوي حكم الله، وأن الإنسان مخير إن شاء حكم بالقرآن والسنة، وإن شاء حكم بالقوانين الوضعية. . . من اعتقد هذا كفر بإجماع العلماء كما تقدم.
أما من حكم بغير ما أنزل الله لهوى، أو لحظ عاجل، وهو يعلم أنه عاص لله ولرسوله، وأنه فعل منكرا عظيما، وأن الواجب عليه الحكم بشرع الله، فإنه لا يكفر بذلك الكفر الأكبر، لكنه قد أتى منكرا عظيما ومعصية كبيرة وكفرا أصغر، كما قال ذلك ابن عباس ومجاهد وغيرهما من أهل العلم، وقد ارتكب بذلك كفرا دون كفر، وظلما دون ظلم، وفسقا دون فسق، وليس هو الكفر الأكبر، وهذا قول أهل السنة والجماعة، وقد قال الله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (1) وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2)
__________
(1) سورة المائدة الآية 49
(2) سورة المائدة الآية 44(42/140)
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) وقال عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) وقال عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (4) فحكم الله هو أحسن الأحكام، وهو الواجب الاتباع، وبه صلاح الأمة وسعادتها في العاجل والآجل، وصلاح العالم كله، ولكن أكثر الخلق في غفلة عن هذا. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 45
(2) سورة المائدة الآية 47
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سورة المائدة الآية 50(42/141)
س2: هل يكفي النطق بالركن الأول: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أم لا بد من أشياء أخرى حتى يكتمل إسلام المرء؟
ج2: إذا شهد الكافر أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله عن صدق بذلك ويقين، وعلم بما دلت عليه، وعمل بذلك دخل في الإسلام، ثم يطالب بالصلاة وباقي الأحكام، ولهذا «لما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا إلى اليمن قال له: ادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم (1) » فلم يأمرهم بالصلاة
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .(42/141)
والزكاة إلا بعد التوحيد والإيمان بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فإذا فعل الكافر ذلك صار له حكم المسلمين، ثم يطالب بالصلاة وبقية أمور الدين، فإذا امتنع عن ذلك صارت له أحكام أخرى، فإن ترك الصلاة استتابه ولي الأمر، فإن تاب وإلا قتل، وهكذا بقية الأحكام يعامل فيها بما يستحق.(42/142)
س3: سمعنا عن قوم يأجوج ومأجوج في القرآن الكريم، فما موقفهم الحالي في عالمنا المعاصر، وما دورهم فيه؟
ج3: هم من بني آدم، ويخرجون في آخر الزمان، وهم في جهة الشرق، وكان الترك منهم، فتركوا دون السد، وبقي يأجوج ومأجوج وراء السد، والأتراك كانوا خارج السد. ويأجوج ومأجوج من الشعوب الشرقية (الشرق الأقصى) ، وهم يخرجون في آخر الزمان من الصين الشعبية وما حولها بعد خروج الدجال، ونزول عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - لأنهم تركوا هناك حين بنى ذو القرنين السد وصاروا من ورائه من الداخل، وصار الأتراك والتتر من الخارج، والله - جل وعلا - إذا شاء خروجهم على الناس خرجوا من محلهم، وانتشروا في الأرض، وعثوا فيها فسادا، ثم يرسل الله عليهم نغفا في رقابهم، فيموتون موتة نفس واحدة في الحال، كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويتحصن منهم نبي الله عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون؛ لأن خروجهم في وقت عيسى بعد خروج الدجال.(42/142)
س4: أنا مسلمة والحمد لله، وأعمل كل ما يرضي الله وملتزمة بالحجاب الشرعي، ولكن والدتي سامحها الله لا تريد مني أن ألتزم بالحجاب، وتأمرني أن أشاهد السينما والفيديو. . . إلخ، وتقول لي: إذا لم تتمتعي وتنشرحي تكونين عجوزا ويبيض شعرك؟(42/142)
ج4: الواجب عليك أن ترفقي بالوالدة، وأن تحسني إليها، وأن تخاطبيها بالتي هي أحسن؛ لأن الوالدة حقها عظيم، ولكن ليس لك طاعتها في غير المعروف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف، (1) » وقوله - عليه الصلاة والسلام: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، (2) » وهكذا الأب والزوج وغيرهما لا يطاعون في معاصي الله للحديث المذكور، ولكن ينبغي للزوجة والولد ونحوهما أن يستعملوا الرفق والأسلوب الحسن في حل المشاكل، وذلك ببيان الأدلة الشرعية، ووجوب طاعة الله ورسوله، والحذر من معصية الله ورسوله، مع الثبات على الحق، وعدم طاعة من أمر بمخالفته من زوج أو أب أو أم أو غيرهم. ولا مانع من مشاهدة ما لا منكر فيه من التلفاز والفيديو، وسماع الندوات العلمية، والدروس المفيدة، والحذر من مشاهدة ما يعرض فيهما من المنكر، كما لا يجوز مشاهدة السينما؛ لما فيها من أنواع الباطل.
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/131) .(42/143)
س5: نسمع أن هناك أناسا سموا أبناءهم بعبد الرسول، وعبد النبي، وعبد الحسن، فما التوجيه؟
ج5: التعبيد لا يجوز إلا لله سبحانه، قال أبو محمد بن حزم الإمام المشهور: اتفقوا (العلماء) على تحريم كل اسم معبد لغير الله، كعبد عمرو، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب. (انتهى) .
ولا يجوز التسمية بالتعبيد لغير الله، كعبد النبي وعبد الكعبة وعبد علي وعبد الحسن وعبد الحسين ونحو ذلك، أما عبد المحسن فلا بأس به؛ لأن المحسن من أسماء الله سبحانه وتعالى.
وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام؛ كما روي عن ابن عمر مرفوعا: «أحب الأسماء إلى الله تعالى(42/143)
عبد الله، وعبد الرحمن (1) » رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وفي رواية الطبراني عن ابن مسعود قال صلى الله عليه وسلم: «أحب الأسماء إلى الله ما تعبد له وأصدق الأسماء همام وحارث» .
__________
(1) صحيح مسلم الآداب (2132) ، سنن الترمذي الأدب (2833) ، سنن أبو داود الأدب (4949) ، مسند أحمد بن حنبل (2/24) ، سنن الدارمي الاستئذان (2695) .(42/144)
س6: عندما استمعت لهذا البرنامج - أعني نور على الدرب - استفدت الكثير، وخاصة عندما عرفت أن الأولياء والموتى لا يفيدون الإنسان، وعندما أخبرت أهلي بذلك اتهموني بأني كافرة، وأن الأولياء سيضرونني، وأنهم يرونني في المنام بأن هؤلاء الصالحين يلومونني. فبماذا تنصحون مثل هؤلاء الذين تشبعت عقولهم بالخرافات والبدع التي تكاد تنتشر في البلاد العربية؟
ج: ننصح الجميع بأن يتقوا الله - عز وجل - ويعلموا أن السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة في عبادة الله وحده، واتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - والسير على منهاجه، فهو سيد الأولياء، وأفضل الأولياء، فالرسل والأنبياء هم أفضل الناس، وهم أفضل الأولياء والصالحين، ثم يليهم بعد ذلك في الفضل أصحاب الأنبياء - رضي الله عنهم - ومن بعدهم، وأفضل هذه الأمة أصحاب نبينا - صلى الله عليه وسلم - ثم من بعدهم سائر المؤمنين على اختلاف درجاتهم ومراتبهم في التقوى. فالأولياء هم أهل الصلاح والاستقامة على طاعة الله ورسوله، وعلى رأس الأنبياء نبينا محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - ثم أصحابه - رضي الله عنهم - ثم الأمثل فالأمثل في التقوى والإيمان كما تقدم. وحبهم في الله والتأسي بهم في الخير وعمل الصالحات أمر مطلوب، ولكن لا يجوز التعلق بهم وعبادتهم من دون الله، ولا دعاؤهم مع الله، ولا أن يستعان بهم أو يطلب منهم المدد؛ كأن يقول: يا رسول الله أغثني، أو يا علي أغثني، أو يا الحسن أغثني أو انصرني، أو يا سيدي الحسين، أو يا شيخ عبد القادر أو غيرهم، كل ذلك(42/144)
لا يجوز؛ لأن العبادة حق الله وحده، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) وقال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (3) الآية، وقال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (4) وقال عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (5) فسماهم كفرة بدعائهم غير الله، وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (6) وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (7) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (8) فبين سبحانه أن مدعويهم من دون الله من الرسل أو الأولياء أو غيرهم لا يسمعون؛ لأنهم ما بين ميت، أو مشغول بطاعة ربه كالملائكة، أو غائب لا يسمع دعاءهم، أو جماد لا يسمع ولا يعي، ثم أخبر سبحانه أنهم لو سمعوا لم يستجيبوا لدعائهم، وأنهم يوم القيامة يكفرون بشركهم، فعلم بذلك أن الله - عز وجل - هو الذي يسمع الدعاء، ويجيب الداعي إذا شاء، وهو النافع الضار المالك لكل شيء، والقادر على كل شيء. فالواجب الحذر من عبادة غيره، والتعلق بغيره من
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة غافر الآية 60
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة النمل الآية 62
(5) سورة المؤمنون الآية 117
(6) سورة الجن الآية 18
(7) سورة فاطر الآية 13
(8) سورة فاطر الآية 14(42/145)
الأموات والغائبين والجماد وغيرهم من المخلوقات التي لا تسمع الداعي ولا تستطيع نفعه أو ضره، أما الحي الحاضر القادر فلا بأس أن يستعان به فيما يقدر عليه، كما قال - عز وجل - في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) الآية، وكما يستعين المسلم في الجهاد وقتال الأعداء بإخوانه المجاهدين. . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة القصص الآية 15(42/146)
س7: هل يجوز أن أختم القرآن الكريم لوالدي علما أنهما أميان لا يقرآن ولا يكتبان؟ وهل يجوز أن أختم القرآن لشخص يعرف القراءة والكتابة، ولكن أريد إهداءه هذه الختمة، وهل يجوز لي أن أختم القرآن لأكثر من شخص. .؟
جـ7: لم يرد في الكتاب العزيز ولا في السنة المطهرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته الكرام ما يدل على شرعية إهداء القرآن الكريم للوالدين ولا لغيرهما، وإنما شرع الله قراءة القرآن للانتفاع به، والاستفادة منه، وتدبر معانيه، والعمل بذلك، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (3) وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة (4) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «إنه يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين يعملون به
__________
(1) سورة ص الآية 29
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة فصلت الآية 44
(4) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804) ، مسند أحمد بن حنبل (5/249) .(42/146)
تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن أصحابهما (1) » المقصود أنه أنزل للعمل به وتدبره والتعبد بتلاوته والإكثار من قراءته لا لإهدائه للأموات أو غيرهم، ولا أعلم في إهدائه للوالدين أو غيرهم أصلا يعتمد عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد، (2) » وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك، وقالوا: لا مانع من إهداء ثواب القرآن وغيره من الأعمال الصالحات، وقاسوا ذلك على الصدقة والدعاء للأموات وغيرهم، ولكن الصواب هو القول الأول للحديث المذكور، وما جاء في معناه، ولو كان إهداء التلاوة مشروعا لفعله السلف الصالح.
والعبادة لا يجوز فيها القياس؛ لأنها توقيفية لا تثبت إلا بالنص من كلام الله - عز وجل - أو من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - للحديث السابق، وما جاء في معناه. أما الصدقة عن الأموات وغيرهم، والدعاء لهم، والحج عن الغير ممن قد حج عن نفسه، وهكذا العمرة عن الغير ممن قد اعتمر عن نفسه، وهكذا قضاء الصوم عمن مات وعليه صيام، فكل هذه العبادات قد صحت بها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. . والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (805) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2883) ، مسند أحمد بن حنبل (4/183) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(42/147)
س8: أرجو شرح قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} (1) {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (2) {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (3) هل يفهم من هذا أن من دخل الجنة يخرج منها إذا شاء الله؟ وهل نسخت هاتان الآيتان بشيء من القرآن إذ أنهما وردتا في سورة مكية؟
__________
(1) سورة هود الآية 106
(2) سورة هود الآية 107
(3) سورة هود الآية 108(42/147)
جـ8: الآيتان ليستا منسوختين بل محكمتان، وقوله - عز وجل: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (1) اختلف أهل العلم في معنى ذلك، مع إجماعهم على أن نعيم الجنة دائم أبدا لا ينقضي ولا يزول ولا يخرجون منها، ولهذا قال تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (2) لإزالة بعض ما قد يتوهم بعض الناس أن هناك خروجا، فهم خالدون فيها أبدا، ولهذا قال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (3) {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (4) يعنى آمنين من الموت، وآمنين من الخروج، وآمنين من الأمراض، ولهذا قال - عز وجل - بعد ذلك: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (5) {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (6) فهم فيها دائمون، ولا يخرجون ولا يموتون، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (7) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (8) {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} (9) {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (10) {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} (11) {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (12) {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (13) فأخبر سبحانه أن أهل الجنة في مقام أمين، لا يعتريه خراب ولا زوال، وأنهم آمنون أيضا لا خطر عليهم من موت ولا مرض ولا خروج ولا يموتون أبدا.
فقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (14) قال بعض أهل العلم: معناه: مدة مقامهم في القبور ليسوا في الجنة، وإن كان المؤمن في روضة من رياض
__________
(1) سورة هود الآية 108
(2) سورة هود الآية 108
(3) سورة الحجر الآية 45
(4) سورة الحجر الآية 46
(5) سورة الحجر الآية 47
(6) سورة الحجر الآية 48
(7) سورة الدخان الآية 51
(8) سورة الدخان الآية 52
(9) سورة الدخان الآية 53
(10) سورة الدخان الآية 54
(11) سورة الدخان الآية 55
(12) سورة الدخان الآية 56
(13) سورة الدخان الآية 57
(14) سورة هود الآية 107(42/148)
الجنة لكنها ليست هي الجنة، ولكنه شيء منها، فإنه يفتح للمؤمن وهو في قبره باب إلى الجنة يأتيه من ريحها وطيبها ونعيمها، وينقل بعد ذلك إلى الجنة فوق السماوات في أعلى شيء.
وقال بعضهم: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (1) يعني مدة إقامتهم في موقف القيامة للحساب والجزاء، وذلك بعد خروجهم من القبور، فإنهم بعد ذلك ينقلون إلى الجنة، وقال بعضهم: مجموع الأمرين مدة بقائهم في القبور ومدة بقائهم في الموقف ومرورهم على الصراط. . . في كل هذه الأماكن ليسوا في الجنة، لكنهم ينقلون منها إلى الجنة.
ومن هذا يعلم أن المقام مقام واضح، ليس فيه شبهة ولا شك، فأهل الجنة في الجنة أبد الآباد، ولا موت، ولا مرض، ولا خروج، ولا كدر، ولا حزن، ولا حيض، ولا نفاس، بل في نعيم دائم، وخير دائم.
وهكذا أهل النار يخلدون فيها أبد الآباد، ولا يخرجون منها كما قال - عز وجل - في حقهم: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
أما قوله - عز وجل - في حقهم: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (3) فقيل: إن المراد بذلك مقامهم في القبور، وقيل مقامهم في الموقف، وهم بعد ذلك يساقون إلى النار ويخلدون فيها أبد الآباد، كما قال تعالى في حقهم في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (4) وقال سبحانه في سورة المائدة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (5) والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة هود الآية 107
(2) سورة فاطر الآية 36
(3) سورة هود الآية 107
(4) سورة البقرة الآية 167
(5) سورة المائدة الآية 37(42/149)
س9: متى يكون الأعجمي أفضل من العربي؟
جـ9: الحكم في ذلك كما نبه الله سبحانه عليه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (1) فإذا كان العجمي أتقى لله فهو أفضل، وهكذا إذا كان العربي أتقى لله فهو أفضل، فالفضل والكرم والمنزلة بالتقوى، فمن كان أتقى لله فهو أفضل سواء كان عجميا أو عربيا.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13(42/150)
س10: ما حكم أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن الكريم، حيث إن لدينا إماما في قريتنا يأخذ أجرا على تحفيظ القرآن للصبيان؟
جـ10: لا حرج في أخذ الأجرة على تعليم القرآن وتعليم العلم؛ لأن الناس في حاجة إلى التعليم؛ ولأن المعلم قد يشق عليه ذلك، ويعطله التعليم عن الكسب، فإذا أخذ أجرة على تعليم القرآن وتحفيظه، وتعليم العلم، فالصحيح أنه لا حرج في ذلك، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن جماعة من الصحابة نزلوا ببعض العرب فلدغ سيدهم يعني رئيسهم، وأنهم عالجوه بكل شيء ولم ينفعه ذلك، وطلبوا منهم أن يرقوه، فتقدم أحد الصحابة فرقاه بفاتحة الكتاب، فشفاه الله وعافاه، وكانوا قد اشترطوا عليهم قطيعا من الغنم، فأوفوا لهم بشرطهم، فتوقفوا عن قسمه بينهم حتى سألوا النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال عليه الصلاة والسلام: أحسنتم واضربوا لي معكم بسهم (1) » رواه البخاري في صحيحه، ولم ينكر عليهم ذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا، كتاب الله (2) »
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الطب (5749) ، صحيح مسلم السلام (2201) ، سنن الترمذي الطب (2063) ، سنن أبو داود البيوع (3418) ، سنن ابن ماجه التجارات (2156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(2) صحيح البخاري الطب (5737) .(42/150)
رواه البخاري في الصحيح أيضا، فهذا يدل على أنه لا بأس بأخذ الأجرة على التعليم، كما جاز أخذها على الرقية.(42/151)
س11: ما هي العبارات التي تطلق في حق الأموات، فنحن نسمع عن فلان (المغفور له) أو (المرحوم) فهل هذه العبارات صحيحة؟ وما التوجيه في ذلك؟
جـ11: المشروع في هذا أن يقال: (غفر الله له) أو (رحمه الله) ونحو ذلك إذا كان مسلما، ولا يجوز أن يقال (المغفور له) أو (المرحوم) ؛ لأنه لا تجوز الشهادة لمعين بجنة أو نار أو نحو ذلك، إلا لمن شهد الله له بذلك في كتابه الكريم، أو شهد له رسوله - عليه الصلاة والسلام - وهذا هو الذي ذكره أهل العلم من أهل السنة، فمن شهد الله له في كتابه العزيز بالنار كأبي لهب وزوجته، وهكذا من شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة كأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وبقية العشرة - رضي الله عنهم - وغيرهم ممن شهد له الرسول - عليه الصلاة والسلام - بالجنة كعبد الله بن سلام، وعكاشة بن محصن - رضي الله عنهما - أو بالنار كعمه أبي طالب، وعمرو بن لحي الخزاعي وغيرهما ممن شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنار نعوذ بالله من ذلك - نشهد له بذلك.
أما من لم يشهد له الله سبحانه، ولا رسوله، بجنة ولا نار، فإنا لا نشهد له بذلك على التعيين، وهكذا لا نشهد لأحد معين بمغفرة أو رحمة، إلا بنص من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكن أهل السنة يرجون للمحسن، ويخافون على المسيء، ويشهدون لأهل الإيمان عموما بالجنة، وللكفار عموما بالنار، كما أوضح ذلك سبحانه في كتابه المبين، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} (1)
__________
(1) سورة التوبة الآية 72(42/151)
الآية من سورة التوبة، وقال تعالى فيها أيضا: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} (1) الآية، وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الشهادة بالجنة أو النار لمن شهد له عدلان أو أكثر بالخير أو الشر؛ لأحاديث صحيحة وردت في ذلك.
__________
(1) سورة التوبة الآية 68(42/152)
س12: ما معنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (1) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (2) هل المقصود في الآية أن مرتكب الكبائر الثلاث يخلد في النار أم المقصود إحداها فقط؟
جـ12: هذه الآية العظيمة فيها التحذير من الشرك والقتل والزنا، وأن أصحاب هذه الجرائم متوعدون بقوله سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (3) قيل: إنه واد في جهنم، وقيل أراد به إثما عظيما، فسره بقوله: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (4) وهذا جزاء من اقترف هذه الجرائم الثلاث أو إحداها، أن يضاعف له العذاب، ويخلد في العذاب مهانا، وهذه الجرائم الثلاث مختلفة في المراتب.
فجريمة الشرك هي أعظم الجرائم، وأعظم الذنوب، وصاحبها مخلد في النار أبد الآباد، ولا يخرج من النار أبدا، كما قال تعالى في سورة التوبة: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (5)
__________
(1) سورة الفرقان الآية 68
(2) سورة الفرقان الآية 69
(3) سورة الفرقان الآية 68
(4) سورة الفرقان الآية 69
(5) سورة التوبة الآية 17(42/152)
وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) وقال عز وجل {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) وقال تعالى في حقهم: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فالمشرك إذا مات ولم يتب، فإنه يخلد في النار، والجنة عليه حرام، والمغفرة عليه حرام بإجماع المسلمين، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (4) وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (5) جعل المغفرة حراما على المشرك، أما ما دون الشرك فهو تحت المشيئة.
ومن أنواع الشرك بالله التي يخلد صاحبها في النار إذا مات عليها إذا كانت قد بلغته الرسالة - دعاء الأموات من الأنبياء والأولياء وغيرهم، ودعاء الملائكة والجن والأصنام والأحجار والكواكب وغير ذلك من المخلوقات؛ كقول بعضهم: يا سيدي أنا في جوارك، أنا في حسبك، انصرني، اشف مريضي، المدد المدد. . ونحو ذلك، وهكذا الذبح لهم، والنذر لهم، وغير ذلك من
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة الزمر الآية 65
(3) سورة المائدة الآية 37
(4) سورة المائدة الآية 72
(5) سورة النساء الآية 48(42/153)
العبادات التي يجب صرفها لله وحده، ولا يجوز صرفها إلى غيره من جميع الخلق؛ لقوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) وقوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (2) وقوله عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) وقوله تعالى في سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (4) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
أما الجريمة الثانية وهي القتل، والثالثة وهي الزنا، وهاتان الجريمتان دون الشرك، إذا كان من تعاطاهما لم يستحلهما، ويعلم أنهما محرمتان، ولكن حمله الشيطان على الإقدام على القتل بغير حق؛ بسبب البغضاء والعداوة، أو أسباب أخرى، وحمله الهوى والشيطان على الزنا، وهو يعتقد أن القتل محرم بغير حق، وأن الزنا محرم - فهاتان الجريمتان توجبان النار والخلود فيها خلودا مؤقتا، إلا أن يعفو الله عن صاحبها لأعمال صالحة، أو توبة قبل الموت، أو بشفاعة الشفعاء، أو بدعاء المسلمين، إلى غير ذلك من الأسباب التي جعلها الله سببا لغفران الذنوب، وقد يعذب صاحبها حسب مشيئة الله وحكمته، وهذا واقع لكثير من الناس، يعذبون على معاصيهم، ثم يخرجهم الله من النار برحمته سبحانه، إما بشفاعة الشفعاء، أو بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، أو بشفاعة الملائكة أو الأفراط أو المؤمنين، فيخرجهم الله من
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة البينة الآية 5
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة الفاتحة الآية 5(42/154)
النار بشفاعة هؤلاء بعد أن يمضوا فيها ما كتب الله عليهم من العذاب، ويبقى في النار أقوام من أهل التوحيد لم تشملهم شفاعة الشفعاء، فيخرجهم الله - سبحانه وتعالى - برحمته بدون شفاعة أحد؛ لأنهم ماتوا على التوحيد والإيمان لكنهم لهم أعمال خبيثة ومعاص دخلوا بها النار، فإذا طهروا منها، ومضت المدة التي كتب الله عليهم البقاء فيها، أخرجهم سبحانه من النار رحمة منه - عز وجل - ويلقون في نهر الحياة من أنهار الجنة فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا تم خلقهم أدخلهم الله الجنة، كما صحت بذلك الأحاديث المتواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
ومن هذا يعلم أن العاصي كالقاتل والزاني، لا يخلد في النار خلود الكفار؛ بل خلودا خاصا له نهاية؛ لقوله سبحانه وتعالى: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (1) وهذا خلود مؤقت، ليس كخلود المشركين، ومثل ذلك ما ورد في وعيد القاتل لنفسه. نسأل الله السلامة من ذلك.
__________
(1) سورة الفرقان الآية 69(42/155)
س13: في قريتنا إمام يصلي بنا، وهو يتعاطى أمرا كثيرا، مما حيرنا في ذلك أنه عندما يتزوج أحد بالقرية لم يجعله يتم الزواج كاملا، حيث إن العروسين يحصل بينهما غضب شديد، ويقال: اذهبوا إلى هذا الشيخ لكي يعمل ورقة، وهم عند ذلك يرضون على بعض، وعندما يحضر الشيخ يأتي بكتب من الإنس والجن، ويقرأ فيها ويمسح على رأس العروسين بزيت، ويحضر معه حبرا أحمر، ويقول: هذا الحبر ينقعه في الماء ويشربه، وبعد ذلك يقول: ائتوني بدجاجة، فيذبحها ويأخذ دمها ويضعه على رأس العروسين، وبعد ذلك ينصرف الغضب. فما حكم ذلك؟ .
جـ13: هذا العمل منكر وخطأ، وغلط وتلبيس على الناس، لا وجه له، ولا أساس له من الصحة، بل الواجب على من أحس بشيء من غضب أن يتعوذ(42/155)
بالله من الشيطان حتى يهدأ غضبه، ويشرع له الوضوء كما أمر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الشيطان خلق من النار، والنار تطفأ بالماء، والغضب من الشيطان، فالمؤمن يفعل الأشياء الشرعية، من التعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويتوضأ. كذلك من أسباب إطفاء الغضب أن يجلس إن كان قائما، أو يضطجع إن كان قاعدا، أو يخرج من المحل حتى يهدأ الغضب.
أما ما يعمله هذا الشيخ من تلطيخ رءوسهم بالزيت أو بالدم أو بدم الدجاجة. . . إلخ، فهذا لا أصل له، وكله غلط وتلبيس وخداع، وإن كان قصده بذبح الدجاجة التقرب للجن، فذلك شرك أكبر، ففي الحديث الصحيح: «لعن الله من ذبح لغير الله (1) » والله يقول سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} (2) (يعني ذبحي) {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (4) .
ويقول تعالى {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (5) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (6) والنحر: هو الذبح، فالواجب أن يعرضوا عن هذا الرجل، ويبتعدوا عنه وينصحوه، فإن لم ينتصح ويتب إلى الله - سبحانه وتعالى - رفع أمره إلى المحكمة الشرعية، أو إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو إلى الجهة المختصة إن لم يكن في البلد محكمة شرعية أو هيئة أمر بالمعروف؛ ليحضروه ويخبروه بخطئه، ويمنعوه من العلاج المخالف للشرع المطهر. أما الإمامة فلا ينبغي أن يبقى فيها، بل يجب عزله؛ لأنه متهم بالشرك، مع ما يتعاطاه من الأعمال التي لا أساس لها في الشرع
__________
(1) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 162
(4) سورة الأنعام الآية 163
(5) سورة الكوثر الآية 1
(6) سورة الكوثر الآية 2(42/156)
المطهر. أما العروسان فيعالجان بالطرق الشرعية كما تقدم. . والله ولي التوفيق.(42/157)
س14: إذا حلف الرجل ليتم أمرا وهو في حالة قد لا يملك شعوره، هل يلزمه التكفير وما هو؟ .
جـ14: إذا حلف الإنسان على شيء يفعله فلم يفعله لزمته كفارة اليمين، مثل أن يقول: (والله لأكلمن فلانا) أو (والله لأزورنه) أو (والله لأصلين كذا وكذا) وما أشبه ذلك فلم يفعل ما حلف عليه، فإنه يلزم كفارة اليمين، إذا كان عاقلا يعلم ما يقوله، أما إذا كان قد اشتد به الغضب وليس في وعيه، فاليمين لا تنعقد؛ لأن الوعي لما يقول لا بد منه، فإذا اشتد به الغضب حتى لا يعقل ما يقوله ولا يضبط ما يقول فمثل هذا لا كفارة عليه كالمجنون والمعتوه والنائم.(42/157)
س15: من كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين، فهل يجوز إطعام واحد منهم الآن والآخر بعد أسبوع؛ لأنه قد لا يوجد عشرة مساكين دفعة واحدة، وهل إذا أطعمت واحدا عشر مرات أكون أطعمت عشرة مساكين؟ .
جـ15: يجب التماس العشرة، فإذا أطعمت واحدا وكررت ذلك لا يكفي، فلا بد من عشرة كما قال الله - عز وجل - في كتابه الكريم في سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (1) . الآية. فلا بد من التماس العشرة ولو تعددت الأيام، لكن تجب المبادرة حسب الإمكان، ولو كان
__________
(1) سورة المائدة الآية 89(42/157)
إطعامهم متفرقا في أيام فلا بأس، ولكن عليك أن تجتهد، وتلتمس عشرة، وتبادر بإخراج الكفارة، أو تكسوهم كسوة تجزئهم في الصلاة، تغديهم أو تعشيهم، فإن هذا يكفي للآية السابقة.(42/158)
س16: طالب يسأل ويقول: ما هو الحق في تفسير قوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} (1) .
جـ16: الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسرها بأن المراد يوم يجيء الرب يوم القيامة، ويكشف لعبادة المؤمنين عن ساقه، وهي العلامة التي بينه وبينهم - سبحانه وتعالى، فإذا كشف عن ساقه عرفوه وتبعوه، وإن كانت الحرب يقال لها كشفت عن ساق إذا استشرت، وهذا معروف لغويا، قاله أئمة اللغة. ولكن في الآية الكريمة يجب أن يفسر بما جاء في الحديث الشريف، وهو كشف الرب عن ساقه - سبحانه وتعالى. وهذه من الصفات التي تليق بالله لا يشابهه فيها أحد - جل وعلا، وهكذا سائر الصفات كالوجه واليدين والقدم والعين وغير ذلك من الصفات الثابتة بالنصوص، ومن ذلك الغضب والمحبة والكراهة وسائر ما وصف به نفسه سبحانه في الكتاب العزيز، وفي ما أخبر به عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (3) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (4) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (5) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (6) وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان من أئمة العلم والهدى، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة القلم الآية 42
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة الإخلاص الآية 1
(4) سورة الإخلاص الآية 2
(5) سورة الإخلاص الآية 3
(6) سورة الإخلاص الآية 4(42/158)
س17: أخ يسأل ويقول: ما حكم التأويل في الصفات؟ .
جـ17: التأويل منكر، لا يجوز تأويل الصفات، بل يجب إمرارها كما جاءت على ظاهرها اللائق بالله - سبحانه وتعالى - بغير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، فالله - جل وعلا - أخبرنا عن صفاته وعن أسمائه، وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) فعلينا أن نمرها كما جاءت. وهكذا قال أهل السنة والجماعة، أمروها كما جاءت بلا كيف، أي أقروها كما جاءت بغير تحريف لها ولا تأويل ولا تكييف، بل تقر على ظاهرها على الوجه الذي يليق بالله من دون تكييف ولا تمثيل. فيقال في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وأمثالها من الآيات إنه استواء يليق بجلال الله وعظمته لا يشبه استواء المخلوق، ومعناه عند أهل الحق: العلو والارتفاع. وهكذا يقال في العين والسمع والبصر واليد والقدم، وغير ذلك من الصفات الواردة في النصوص، وكلها صفات تليق بالله لا يشابهه فيها الخلق - جل وعلا. وعلى هذا سار أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من أئمة السنة كالأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، وغيرهم من أئمة المسلمين - رحمهم الله جميعا. ومن ذلك قوله تعالى في قصة نوح: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (3) {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (4) الآية. وقوله سبحانه وتعالى في قصة موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (5) فسرهما أهل السنة بأن المراد بقوله
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة القمر الآية 13
(4) سورة القمر الآية 14
(5) سورة طه الآية 39(42/159)
سبحانه وتعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (1) أنه سبحانه سيرها برعايته سبحانه حتى استوت على الجودي، وهكذا قوله سبحانه في قصة موسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (2) أي على رعايته سبحانه وتوفيقه للقائمين على تربيته عليه الصلاة والسلام، وهكذا قوله سبحانه للنبي - صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (3) أي أنك تحت كلاءتنا وعنايتنا وحفظنا، وليس هذا كله من التأويل، بل ذلك من التفسير المعروف في لغة العرب وأساليبها. ومن ذلك الحديث القدسي وهو قول الله سبحانه: «من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة (4) » يمر كما جاء عن الله - سبحانه وتعالى - من غير تكييف ولا تحريف ولا تمثيل؛ بل على الوجه الذي أراده الله - سبحانه وتعالى.
وهكذا نزوله سبحانه في آخر الليل، وهكذا السمع والبصر والغضب والرضا والضحك والفرح وغير ذلك من الصفات الثابتة، كلها تمر كما جاءت على الوجه الذي يليق بالله من غير تكييف ولا تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل، عملا بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5) وما جاء في معناها من الآيات. أما التأويل للصفات، وصرفها عن ظاهرها، فهو مذهب أهل البدع من الجهمية والمعتزلة، ومن سار في ركابهم، وهو مذهب باطل، أنكره أهل السنة، وتبرءوا منه، وحذروا من أهله. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة القمر الآية 14
(2) سورة طه الآية 39
(3) سورة الطور الآية 48
(4) صحيح البخاري التوحيد (7405) ، صحيح مسلم التوبة (2675) ، سنن الترمذي الدعوات (3603) ، سنن ابن ماجه الأدب (3822) ، مسند أحمد بن حنبل (2/535) .
(5) سورة الشورى الآية 11(42/160)
س18: عن قوله تعالى {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ} (1) فما هو معنى الآية؟ وما هو المراد بالشرك في الآية الكريمة؟ .
__________
(1) سورة يوسف الآية 106(42/160)
جـ18: قد أوضح العلماء معناها كابن عباس وغيره، وأن معناها أن المشركين إذا سئلوا عمن خلق السماوات والأرض ومن خلقهم يقولون الله، وهم مع هذا يعبدون الأصنام والأوثان كاللات والعزى ونحوهما، ويستغيثون بها، وينذرون ويذبحون لها.
فإيمانهم هذا هو توحيد الربوبية، ويبطل ويفسد بشركهم بالله تعالى ولا ينفعهم، فأبو جهل وأشباهه يؤمنون بأن الله خالقهم ورازقهم وخالق السماوات والأرض، ولكن لم ينفعهم هذا؛ لأنهم أشركوا بالله بعبادة الأصنام والأوثان. هذا هو معنى الآية عن أهل العلم.(42/161)
س19: ما حكم تصوير المحاضرات بجهاز الفيديو للاستفادة منها في أماكن أخرى لتعم الفائدة؟ .
جـ19: هذا محل نظر، وتسجيلها بالأشرطة أمر مطلوب، ولا يحتاج معها إلى الصورة، ولكن الصورة قد يحتاج إليها بعض الأحيان حتى يعرف ويتحقق أن المتكلم فلان، فالصورة توضح المتكلم، وقد يكون ذلك لأسباب أخرى، فأنا عندي في هذا توقف، من أجل ما ورد من الأحاديث في حكم التصوير لذوات الأرواح وشدة الوعيد في ذلك. وإن كان جماعة من إخواني أهل العلم رأوا أنه لا بأس بذلك للمصلحة العامة، ولكن أنا عندي بعض التوقف في مثل هذا لعظم الخطر في التصوير، ولما جاء فيه من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما في بيان أن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون، وأحاديث لعن المصورين إلى غير ذلك من الأحاديث. والله ولي التوفيق.(42/161)
س20: أخ يسأل ويقول: إن كثيرا من طلبة العلم اليوم يعرفون كثيرا من فضائل الأعمال وأجرها، ومنها قيام الليل ولا يطيقون هذا، حيث إنهم يعلمون ولا يعملون.
جـ20: الأعمال التي جاءت النصوص ببيان فضلها قسمان: قسم واجب، فعلى المرء المسلم سواء كان عالما أو غير عالم أن يعتني به، وأن يتقي الله في ذلك، وأن يحافظ عليه كالصلوات الخمس، وأداء الزكاة، وغيرهما من الفرائض.
وقسم مستحب، كالتهجد بالليل وصلاة الضحى ونحو ذلك. فالمشروع للمؤمن أن يجتهد في ذلك ويحرص عليه، ولا سيما أهل العلم؛ لأنهم قدوة، ولو شغل عن ذلك أو تركه بعض الأحيان لم يضره ذلك؛ لأنه نافلة، لكن من صفات أهل العلم والأخيار العناية بهذا الأمر، والمحافظة عليه، كالتهجد بالليل وصلاة الضحى والرواتب إلى غير هذا من وجوه الخير.(42/162)
شيخ الإسلام ابن تيمية
علومه ومعارفه ودعوته في شبه القارة الهندية
تأليف: الدكتور عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي
كتب الله لدعوة شيخ الإسلام قبولا عاما في البلاد الإسلامية، فانتشرت كتبه، ورسائله، وفتاويه، بسرعة عجيبة في أقاصي البلاد وأدانيها شرقا وغربا في حياته، وبعد مماته، وحمل هذه الدعوة المباركة أصحابه وتلاميذه في حياته في دمشق، ومصر، ونقلوها إلى بلاد المغرب غربا، وإلى بلاد الهند شرقا.
وقد أوذي أصحابه ومحبوه من أجل نصرتهم لدعوته، وكان من هؤلاء العلامة شمس الدين بن الحريري قاضي الحنفية بمصر الذي كتب في حق شيخ الإسلام محضرا في الثناء عليه بالعلم والفهم، وكتب فيه بخطه ثلاثة عشر سطرا من جملتها: " أنه منذ ثلاثمائة سنة ما رأى الناس مثله "، فبلغ ذلك ابن مخلوف القاضي، فسعى في عزل ابن الحريري، فعزل (1) .
رحل ابن الحريري إلى الهند عصر السلطان علاء الدين الخلجي في سنة 708هـ فصحب معه أربعمائة كتاب.
__________
(1) الدرر الكامنة (1 \ 148) .(42/163)
وممن وصل إلى الهند من أصحاب شيخ الإسلام: العلامة عبد العزيز الأردبيلي الذي اتصل ببلاط السلطان محمد تغلق (1) وأثر دعوته ظاهر وملموس في الإصلاحات التي نفذها محمد تغلق في القضاء على تصور الولاية عند الصوفية، وفي القضاء على نظام الخلوات الصوفية وتكاياهم، وهي تتشابه تماما مع أفكار شيخ الإسلام الإصلاحية.
ومن هؤلاء العلماء الذين كان لهم دور في نشر دعوة شيخ الإسلام في شبه القارة الهندية: العلامة علم الدين سليمان بن أحمد الملتاني، حفيد العلامة بهاء الدين زكريا الملتاني، الذي رحل إلى الهند، واتصل بالسلطان محمد تغلق، وهو يعتبر من أشهر الناس الذين شجعوا السلطان على القضاء على البدع والخرافات المنتشرة في صفوف المسلمين هناك.
وقد نوه بجهود هؤلاء العلماء من أصحاب شيخ الإسلام كل من كتب في تاريخ الإسلام والمسلمين في القرن الثامن كالعلامة أكبر شاه خان النجيب آبادي، والمحقق المحدث الشيخ محمد عطاء الله الفوجياني، والدكتور خليق أحمد النظامي، إلا أن هذه الدعوة كانت محدودة في خواص العلماء، فكانوا هم يستفيدون من أفكار شيخ الإسلام في مختلف العلوم والفنون، وكانت علاقة علماء الهند في الغالب مع علماء الحرمين، فهم كانوا على مذهبهم في الأصول والفروع، ومن المعلوم لدى المشتغلين بتاريخ العقائد الإسلامية أن معظم العلماء كانوا ينتسبون إلى الأشعرية والماتريدية في الاعتقاد، وإلى بعض المذاهب الفقهية السائدة، وكان أهل
__________
(1) رحلة ابن بطوطة (212، 456) .(42/164)
الهند قاطبة ماتريدية المعتقد، وحنفية المذهب، ومن الطرقيين المنتسبين إلى الطرق الصوفية كالنقشبندية، والقادرية، والجشتية، والسهروردية إلى غير ذلك من مذاهب التصوف، مع ميل كثير منهم إلى ابن عربي ومذهبه الإلحادي.
ويتبين ذلك من شروح أهل الهند لكتب ابن عربي، وكان لابن حجر الهيتمي المكي تأثير بالغ على أفكار علماء الهند لتتلمذهم عليه، وعلى أصحابه، وابن حجر معروف بعدائه الشديد لشيخ الإسلام.
ويوجد أثر هذا العداء سافرا في كتابات بعض علماء الهند (1) .
وقد من الله على أهل الهند، بالشاه ولي الله الدهلوي.
الذي ركز جهوده على تحصيل علم الحديث النبوي فرحل إلى الحرمين، وأخذ علم الحديث عن علمائهما، واطلع على كتب ابن تيمية، وابن القيم بواسطة الشيخ إبراهيم الكوراني ابن الشيخ طاهر الكردي، واستفاد من آراء شيخ الإسلام في كتاباته، ولعل هذه الانطلاقة الفكرية التي وجدت في كتب ولي الله الدهلوي كانت بتأثير كتابات شيخ الإسلام.
ومن المعلوم أن الشاه ولي الله الدهلوي ألف كتابين عظيمين في فضائل الصحابة، وخلافة الخلفاء الأربعة باللغة الفارسية التي كانت لغة المسلمين
__________
(1) وليس هذا موضع بسطه، ولعلي أجد فرصة للكتابة في هذا الموضوع إن شاء الله.(42/165)
آنذاك أولهما: " إزالة الخفاء عن خلافة الخلفاء " وثانيهما: " قرة العينين في تفضيل الشيخين " (1) وقد سبق أن شيخ الإسلام ألف كتابه العظيم " منهاج السنة " ورجح أن خلافة أبي بكر ثابتة بالنص، ونرى أن الدهلوي يذهب إلى هذا المذهب، ويسوق لها الأدلة نحو ما وجد في المنهاج، وهكذا نرى أن الشاه ولي الله الدهلوي قد استفاد من أفكار ابن تيمية في حجة الله البالغة، حتى نقل بعض عباراته حرفيا.
وأكبر دليل على معرفته التامة بشيخ الإسلام وعلومه هو ما كتبه إلى تلميذه المحقق العلامة الملا محمد معين السندي الحنفي مصنف " دراسات اللبيب " ردا على سؤاله عن شخصية شيخ الإسلام فهو يقول:
إننا قد تحققنا من حاله أنه عالم بكتاب الله ومعانيه اللغوية والشرعية، وحافظ لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثار السلف، عارف بمعانيها اللغوية والشرعية، أستاذ في النحو واللغة، محرر لمذهب الحنابلة: فروعه وأصوله، فائق في الذكاء، ذو لسان وبلاغة، اللهم إلا هذه الأمور التي ضيق عليه لأجلها، وليس شيء منها إلا ومعه دليله من الكتاب والسنة وآثار السلف، فمثل هذا الشيخ عزيز الوجود في العالم، ومن يطيق أن يلحق شأوه في تحريره وتقريره؟ ! والذين ضيقوا عليه ما بلغوا معشار ما آتاه الله، وإن كان تضييقهم ذلك ناشئا عن اجتهاد ". انتهى (2) .
__________
(1) نقله إلى العربية فضيلة الدكتور مقتدي حسن الأزهري، وهو جاهز للطبع محققا ومخرجا بإذن الله.
(2) مناقب البخاري وفضيلة ابن تيمية ط. السلفية، بلاهور، باكستان.(42/166)
ثم وضح في هذه الرسالة موقف شيخ الإسلام من مسألة الاستواء وزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم جاء بعده ابنه الشاه عبد العزيز الدهلوي، وألف كتابه القيم في الرد على الروافض وأسماه " تحفة الاثني عشرية " (1) باللغة الفارسية، وأفاد فيه " منهاج السنة " كما لا يخفى على من قرأ الكتابين، وفي هذه المدة نرى أن كتب شيخ الإسلام قد وصلت إلى جنوب الهند.
فعلى سبيل المثال يوجد ذكر شيخ الإسلام في مؤلفات الشاه عبد القادر مهربان الفخري الملابوري المدراسي المتوفى سنة 1204هـ، والعلامة باقر آغا المدراسي المتوفى سنة 1220هـ.
وقد أثنى الشيخ باقر على " منهاج السنة " ثناء عظيما، وذكر أنه لم يؤلف مثله في الرد على الروافض.
هذه هي نبذة مختصرة عن وصول دعوة شيخ الإسلام إلى بلاد الهند، ولم تكن المطابع أنشئت بعد حتى تنشر مؤلفاته، ولم تكن القلوب متفتحة، ولا العقول متنورة لتقبل دعوته، إلى أن جاء النواب صديق حسن خان القنوجي البخاري، ثم البوفالي (ت 1307هـ) ، والمحدث السيد نذير حسين الدهلوي مجددا الدعوة السلفية، وعلوم الكتاب والسنة، وأصحابهما، وتلاميذهما الذين وفقهم الله لنشر معارف شيخ الإسلام ودعوته، وكان للنواب صديق حسن خان فضل السبق في مجال التجديد
__________
(1) راجع: مختصر التحفة الاثني عشرية للآلوسي ط. الجامعة السلفية.(42/167)
والإصلاح، فألف مؤلفات كثيرة، ونشرها في أقطار الإسلام عامة، وفي بلاد الهند خاصة (1) .
وأشاد بذكر شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وعلومهما، كما نقل عنهما في مؤلفاته باللغات العربية والأردية والفارسية مثل " أبجد العلوم "، " والتاج المكلل "، " وإتحاف النبلاء "، " وبقصار جيود الأبرار من تذكار جنود الأحرار "، وعدهما في مجددي هذه الأمة اللذين ليس لهما نظير في تاريخ الإسلام، وهو القائل في " أبجد العلوم " في ذكر أصول الدين: والكتب في العلم كثيرة جدا، وأحسنها كتب المحدثين في إثبات العقائد على الوجه المأثور عن الكتاب والسنة (2) .
وفي الرد على المتكلمين منها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وكتب تلميذه الحافظ ابن القيم، وكتاب الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم، للسيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير اليمني، وكتاب السفاريني وهو مجلد كبير، وقد من الله تعالى بتلك الكتب النافعة علي منا كافيا، وكتبت قبل ذلك رسالة سميتها " السبيل إلى ذم الكلام والتأويل " وهي نفيسة جدا (3) .
وقال في مبحث الاجتهاد والتقليد: " ومن أراد تحقيق ذلك فعليه بكتب شيخنا (الإمام الشوكاني) ، وكتب أئمة السنة، مثل (ابن تيمية، وابن الوزير، والسيد الأمير، ومن حذا حذوهم (4) وذكر نحوه في مبحث
__________
(1) راجع لمعرفة جهود هذين الإمامين وأصحابهما: جهود مخلصة في خدمة السنة المطهرة للفريوائي.
(2) راجع: أبجد العلوم (2 \ 68) ، وانظر لرأيه في زاد المعاد لابن القيم (2 \ 42 من أبجد العلوم) .
(3) أبجد العلوم (1 \ 140) .
(4) أبجد العلوم (1 \ 359) وراجع أيضا ص 23، 144، 371، 193، 442.(42/168)
ذم الكلام والتأويل وقال: واعتن بها اعتناء لا يفتر طبعك منها، واشدد يديك عليها شدا بالغا مبلغ النهاية تفز بسعادة الدارين، إن شاء الله تعالى، وسيتضح لك عند مطالعتها أي علم أحق بالتحصيل والاكتساب، وأشدها دخلا في الإنقاذ من الملكات في الدنيا والآخرة.
وترجم له في " التاج الملكي من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول " وذكر أقوال أهل العلم في الثناء عليه، وقال وأقول: أنا لا أعلم بعد ابن حزم مثله وما أظن أنه سمع الزمان ما بين عصري الرجلين بمن يشابهما ويقاربهما (1) .
وقال في المسائل التي تفرد بها شيخ الإسلام، وأنكر عليه بعض الفقهاء: أقول: وهذا الإنكار منهم إنكار جاهل على عالم، والمرء عدو لما جهل، والذي تفرد به شيخ الإسلام في بعض المسائل قد أثبته جماعة من أهل العلم بالأدلة الصحيحة المحكمة الثابتة. . . . ثم ذكر كلام الترمذي (2) .
وقد قام النواب صديق حسن بنشر (كتاب جلاء العينين في المحاكمة بين الحمدين) ، (والقول الجلي في ترجمة ابن تيمية الحنبلي) لصفي الدين البخاري (ت 1200هـ) ، كما لخص وترجم إلى اللغة الفارسية بعض رسائله وفتاويه، ونشرها وأذاعها، وما جرى بين صاحبه: السهسواني وبين الشيخ عبد الحي اللكنوي من نقاش طويل وعريض حول مسألة شد الرحال لزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر معروف ومشهور.
وهكذا الإمام المصلح السيد نذير حسين الدهلوي عكف على نشر
__________
(1) التاريخ المكلل (420) .
(2) المرجع السابق (420) .(42/169)
الكتاب والسنة، وفقه السلف الصالح، وبرز تلاميذه في هذا المجال بروزا، فقاموا بنشر مؤلفات شيخ الإسلام، وتداولوها دراسة وقراءة، وقد توطدت العلاقة بين علماء نجد الذين اشتهروا بمحبتهم لعلوم شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه، كابن القيم، والذهبي، وابن كثير، وبين علماء الأسرة الغزنوية، أصحاب السيد نذير حسين الدهلوي وهو: العلامة محمد صاحب (تفسير جامع البيان) ، والعلامة عبد الجبار، والعلامة عبد الرحيم، والعلامة عبد الواحد أبناء الإمام عبد الله الغزنوي تلميذ السيد حسين الدهلوي، فقام هؤلاء بنشر مؤلفات شيخ الإسلام حيث نشروا لأول مرة (مجموعة التوحيد) ، (ومجموعة الحديث النجدية) ، وفيها مؤلفات شيخ الإسلام وابن القيم، وبدءوا يدرسون دعوة شيخ الإسلام إلى التوحيد الخالص، وإلى السلفية المحضة في المدارس في المجتمع الإسلامي آنذاك.
ثم بدأت العلاقات بين الهند ومصر، وظهرت مؤلفات شيخ الإسلام تنتشر، وتصل إلى علماء الهند، وصارت شخصيته موضوع دراسة وبحث في مجالات مختلفة وكتب عديدة. وكانت لهذه الجهود الطيبة آثار حميدة في تعميم دعوة شيخ الإسلام.
ومن المعلوم أن الشيخ العلامة بشير الدين السهسواني قد قام بتأليف كتابه القيم " صيانة الإنسان من وسوسة القاضي دحلان " (1) والكتاب يعتبر دفاعا مجيدا عن دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، التي كانت تعتمد اعتمادا كبيرا على مؤلفات شيخ الإسلام، كما ألف العلامة السهسواني عدة كتب في مسألة شد الرحال لزيارة القبر النبوي الشريف حينما جرت بينه
__________
(1) ط. بعناية العلامة السيد محمد رشيد رضا.(42/170)
وبين الشيخ عبد الحي اللكنوي مساجلة علمية حول هذا الموضوع.
ونرى من هؤلاء العلماء المحدث الكبير عبد الرحمن المباركفوري، والمحدث شمس الحق العظيم آبادي وغيرهما، كانوا ينقلون من كتب شيخ الإسلام وتلاميذه ابن القيم وابن كثير، والذهبي (1) .
وينظر على سبيل المثال (عون المعبود في شرح أبي داود) وخاصة كتاب السنة منه، والفتاوى النذيرية (كتاب الإيمان والعقائد) إلا أن دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية لم تنتشر انتشارا عاما لدى أهل الحديث، فضلا عن الطوائف الأخرى؛ لأسباب كثيرة يطول شرحها.
ثم لما كثر إقبال الناس على مؤلفات شيخ الإسلام وأصحابه في مصر، وتأثر بعلمائها المبرزين أمثال الأستاذ الإمام محمد عبده، والأستاذ الداعية محمد رشيد رضا وأصحابهما: عالمان جليلان من علماء الهند، وهما يعتبران من أساتذة الجيل، وهما العلامة الشبلي النعماني، والعلامة أبو الكلام آزاد، وكان لهما صيت طيب في الأوساط العلمية والدينية في شبه القارة الهندية، فكتب العلامة الشبلي النعماني مقالة قيمة في مجلة الندوة عام 1908م، وأثنى على شيخ الإسلام ثناء بالغا حتى عده أكبر مجدد في تاريخ الإسلام، حيث قرر للمجددية ثلاثة شروط:
1 - أن يحدث المجدد انقلابا عظيما مفيدا في مجال المذهب أو العلم أو السياسة.
2 - وأن يكون مجتهدا فيما يراه، ولا يكون مقلدا للآخرين.
3 - وأن يكون ممن أوذي في سبيل دعوته، ولم يبال بحياته.
__________
(1) انظر لترجمتها: جهود مخلصة في خدمة السنة المطهرة (125 - 130- 146- ط1) .(42/171)
وقد ذكر العلامة الشبلي في هذا المقال أنه من الممكن أن يذكر في قائمة المجددين الإمام أبو حنيفة، والإمام الغزالي، والإمام الرازي، والشاه ولي الله الدهلوي، عند عدم ذكر الشرط الثالث للمجدد، لكن المصداق الحقيقي لمنصب التجديد هو الإمام ابن تيمية.
لفت هذا المقال أنظار الشباب إلى علوم شيخ الإسلام في أوساط الناطقين باللغة الأردية، فاشتاق الناس إليها. ثم جاء العلامة أبو الكلام آزاد الذي كان يشبه في منهجه وذكائه، وعبقريته شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان يعتبر عميد الأدب الأردي، وإمام المسلمين في الهند، فكتب كتابات رائعة جدا في كتابه (التذكرة) الذي ألفه في أحوال أسرته، وأفاض فيه إفاضة عجيبة، ومدح شيخ الإسلام وتلميذه، فكانت بداية القرن العشرين الميلادي بداية مباركة؛ لتعميم هذه الدعوة المباركة في شبه القارة الهندية، فظهرت عدة كتب باللغة الأردية في ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية، كما قام بعض أصحاب أبي الكلام آزاد وغيرهم من علماء أهل الحديث بنقل كتبه إلى اللغة الأردية.
ولما توطدت العلاقات العلمية الثقافية في الآونة الأخيرة بين مسلمي الهند وبين العالم الإسلامي، زاد الاهتمام بعلوم شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه.
وكانت لجهود الجامعة السلفية لتعميم علوم شيخ الإسلام في شبه القارة الهندية، وفي العالم الإسلامي بعقد مؤتمر عالمي حول سيرته ودعوته ومآثره التجديدية، ثم طبع مؤلفاته وبحوثه، ونشر دراسات حوله في مجلاتها العربية والأردية أثر كبير في تقريب علوم شيخ الإسلام إلى محبيه.
وبعد هذه الكلمة المختصرة المتواضعة عن تطورات دعوة شيخ الإسلام وعلومه، ومعارفه في شبه القارة الهندية أثبت قائمة للمؤلفات والبحوث(42/172)
التي ظهرت بجهود أبناء شبه القارة الهندية، فأذكر أولا ما ألف باللغة العربية، ثم ما ألف باللغة الأردية، ثم ما ألف باللغة الإنجليزية، ثم أذكر تراجم مؤلفاته إلى اللغات الأردية، والبنجالية، وغيرها، وما اختصر منه، وبالله التوفيق.(42/173)
(أ) الكتب المؤلفة باللغة العربية أو المترجمة إليها:
1 - التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار (في الثناء على شيخ الإسلام والوصاية به) للإمام عماد الدين بن إبراهيم الواسطي، المعروف بابن شيخ الحزاميين (ت 71هـ) بتحقيق وتعليق الدكتور عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي (ط. الجامعة السلفية 1987م) .
2 - حياة شيخ الإسلام ابن تيمية (من سلسلة رجال الفكر والدعوة في الإسلام) للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي. ونقله إلى العربية الأستاذ سعيد الرحمن الأعظمي الندوي. ط. دار القلم، الكويت.
3 - شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه، للدكتور عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي. رسالة دكتوراه من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، في أربع مجلدات وصفحاته (2100) .
4 - السيرة العلمية لشيخ الإسلام ابن تيمية للدكتور عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي (ط. الجامعة السلفية عام 1990م) .
5 - تراث المسلمين العلمي في نظر شيخ الإسلام ابن تيمية، للدكتور عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي، نشر في حلقات في مجلة الجامعة السلفية ببنارس بالهند.(42/173)
6 - مصطلح الحديث في ضوء إفادات شيخ الإسلام ابن تيمية، للدكتور عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي. (مطبوع على الآلة الكاتبة) .
7 - آثار ومؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية على حروف المعجم، مع بيان ما هو مطبوع أو مخطوط، أو مفقود أو موجود، في فتاويه وأجوبته للفريوائي (مخطوط) .
8 - ابن تيمية وفكره السياسي: قمر الدين خان، نقله إلى العربية مبارك البغدادي ط. بمكتبة الفلاح، بالكويت عام 1985 \ 1405م.
9 - شيخ الإسلام ابن تيمية حياته وعصره ومنهجه وآراؤه في أصول الفقه للحافظ عبد الحميد أزهر القصوري، إسلام آباد باكستان (مخطوط) .
10 - نظريات شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتصاد الإسلامي، للشيخ عبد المجيد الإصلاحي، مخطوط، ولم يطبع لأجل وفاة المؤلف.
11 - بحوث الندوة العالمية عن ابن تيمية وأعماله الخالدة، ط. الجامعة السلفية 1411هـ. تحت إشراف الفريوائي.
12 - دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في الحركات الإسلامية: صلاح الدين مقبول، ط. دلهي.(42/174)
(ب) الكتب المؤلفة باللغات الأردية والإنجليزية والبنجالية:
اللغة الأردية:
1 - الإمام ابن تيمية حياته وأعماله: الدكتور محمد يوسف كوكن العمري، رئيس قسم اللغة العربية والفارسية والأردية بجامعة مدراس، بالهند.(42/174)
ألفه عام 1937م بأمر من العلامة السيد سيلمان الندوي تلميذ العلامة شبلي النعماني بدار المصنفين بأعظم كره، وطبع عام 1379هـ \ 1959م في القطع الكبير، وصفحاته (663) ، وكتابه قيم جدا، وحافل بالمعلومات عن شيخ الإسلام وحياته وأعماله وآثاره. وتوفي قريبا رحمه الله وغفر له.
2 - اعتراضات شيخ الإسلام ابن تيمية على منطق أرسطو للعلامة محمد حنيف الندوي رحمه الله (مؤتمر الفلاسفة الباكستاني) ط. إدارة الثقافة الإسلامية بباكستان.
3 - حياة شيخ الإسلام ابن تيمية: تأليف محمد أبو زهرة، نقله إلى الأردية السيد رئيس أحمد الجعفري الندوي، وقدم له المحقق العلامة المؤرخ غلام رسول مهر، وحققه وعلق عليه، وزاد زيادات هامة في الكتاب، وحلاه بعدة ملاحق علمية: العلامة المحقق المحدث الشيخ محمد عطاء الله حنيف الفوجياني - رحمه الله - وهي:
1 - تحقيق القول بما رواه ابن بطوطة عن شيخ الإسلام، بأنه قال في خطبة الجمعة: إن نزول الرب تعالى كنزولي هكذا، ثم نزل من الأدراج.
2 - فهرس أسماء مؤلفات ابن تيمية على الفنون.
3 - المراجع والمصادر التي راجعها المحقق.
4 - والتعقيب عن أخطاء المؤلف العديدة في بيان سيرة شيخ الإسلام وعقيدته السلفية.
4 - حياة شيخ الإسلام ابن تيمية (في سلسلة رجال الفكر والدعوة لأبي الحسن علي الحسني الندوي ألفه بالأردية، وطبع بالعربية بتعريب الأستاذ سعيد الرحمن الأعظمي، كما طبع باللغة الإنجليزية.(42/175)
والكتاب مفيد في الجملة، إلا أنه ركز على جانب السلوك والتصوف، وقد خصص فصلا لإثبات أن شيخ الإسلام (عارف بالله ومحقق) : وزل قلمه كغيره في مسألة شد الرحال إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونسب إلى شيخ الإسلام ما هو من قبيل الافتراء على لسان شيخ الإسلام نفسه.
قال الشيخ أبو الحسن: إن قضية صيانة عقيدة التوحيد، وسد ذرائع الشرك في التعظيم والتشبه بالأمم التي اتخذت قبور أنبيائها مساجد، قضية مسلمة لا تقبل نقاشا، ويؤيدها كل من فهم روح الدين، وتذوق الكتاب والسنة، ولكن المنع عن زيارة القبر النبوي الشريف بتاتا، والتشديد في ذلك، لا يخلو من شيء من المغالاة والتطرف، وإنما كان نتيجة ذكاء ابن تيمية المتوقد، وحسه المرهف، الذي يمثل لصاحبه أبعد الإمكانات، وأقبح الاحتمالات، وذلك لا يغطي فضائله الكثيرة، ومواقفه العظيمة في خدمة الإسلام والمسلمين، وبلوغه درجة الإمامة في علوم الدين، ولم يكن يستحق بذلك ما لقيه من نكران وجفاء، وبقاء في الحبس إلى أن فارق الدنيا) ("المؤلف" هامش ص108) من كتاب حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ط. دار القلم عام 1401 \ 1981م) .
لعل الشيخ أبا الحسن اطلع على مثل هذا الكلام عند بعض الذين شنعوا على شيخ الإسلام لكونه يرى منع زيارة القبور، وهو لا يمنعها، وإنما يمنع شد الرحل من أجلها.(42/176)
وقد صرح شيخ الإسلام في غير موضع أن نسبة القول إليه بتحريم زيارة القبور كذب وافتراء، فقال في الرد على الأخنائي: " والمقصود هنا أن ما حكاه عن المجيب أنه يحرم زيارة قبور الأنبياء وزيارة القبور كذب بين على المجيب، ليس في الجواب، وإنما فيه السفر عامة، وكلام المجيب فيما لا يحصيه إلا الله، يبين كذب النقل، وأنه يستحب زيارة قبور المؤمنين عموما، فضلا عن الصالحين والأنبياء (الرد على الأخنائي (23) وراجع: 9، 12) .
وانظر أيضا الصارم المنكي في الرد على السبكي (21) .
5 - سيرة شيخ الإسلام ابن تيمية: تأليف العلامة المؤرخ غلام رسول مهر، ط. بلاهور عام 1925 م.
6 - إمام ابن تيمية: الدكتور غلام جيلاني برق، مطبوع في (192) صفحة بالقطع المتوسط بمدينة لاهور، عام 1979م.
7 - فهرس مؤلفات شيخ الإسلام مرتبة على الفنون للعلامة المحقق المحدث الشيخ محمد عطاء الله الفوجياني، أحد محبي علوم شيخ الإسلام وأصحابه في شبه القارة الهندية (مطبوع في آخر كتاب حياة شيخ الإسلام لأبي زهرة بترجمة رئيس أحمد الجعفري الندوي، وتعليق الشيخ الفوجياني) .
8 - شيخ الإسلام ابن تيمية ومآثره الإصلاحية والتجديدية للدكتور عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي. (شيخ الإسلام كي تجديدي شخصيت، أوراصلاحي كارنامون كا ايك مختصر تعارف) ط. الجامعة السلفية عام 1407هـ \ 1987م.
9 - السيرة العلمية لشيخ الإسلام ابن تيمية للدكتور الفريوائي، نقله إلى(42/177)
الأردية الأستاذ عبد الوهاب الحجازي، وطبعت بعض حلقاته في مجلة (محدث) ، الشهرية الصادرة من الجامعة السلفية، والكتاب تحت الطبع.
10 - مصطلح الحديث في ضوء إفادات ابن تيمية للدكتور الفريوائي (تحت الطبع) .
الكتب المؤلفة باللغة الإنجليزية
11 - ابن تيمية وفكرة السياسي، لقمر الدين خان الباكستاني (وقد طبعت ترجمته العربية كما تقدم ذكره) .
12 - ابن تيمية: للدكتور غلام جيلاني برق (نسخة خطية مخطوطة - بجامعة فنجاب، باكستان) .
13 - ابن تيمية وجهوده الإسلامية والتجديدية للدكتور سراج الحق، طبع بالمؤسسة الإسلامية، بنجلاديش بالقطع المتوسط، وصفحاته (223) .
14 - الفكر الاقتصادي عند ابن تيمية: الدكتور عبد العظيم الإصلاحي (رسالة دكتوراه من جامعة علي كره الإسلامية) .
15 - وجهات نظر إسلامية عن المسيحية في العصور الوسطى - دراسة تحليلية لكتاب ابن تيمية عن المسيح (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) للدكتور مزمل حسين صدقي (مركز دراسة الأديان، كلية اللاهوت، جامعة هارفاد 1987 \ 1396 \ رسالة دكتوراه) .
16 - حياة شيخ الإسلام ابن تيمية تأليف الشيخ عين الباري العالياوي (طبع في رسالة صغيرة) .
17 - حياة شيخ الإسلام ابن تيمية تأليف عبد الرحيم، عضو رابطة العالم الإسلامي.(42/178)
(جـ) وقد كتب غير واحد من علماء الهند في حياة شيخ الإسلام وأعماله التجديدية منهم:
1 - الشاه ولي الله الدهلوي (ت 1176هـ) في (مناقب البخاري وفضيلة ابن تيمية وهي رسالة كتبها إلى تلميذه العلامة معين الدين صاحب دراسات اللبيب، أثنى فيها على شيخ الإسلام ثناء بالغا، ودافع عنه دفاعا مجيدا. وهي مطبوعة قديما، وأعاد طبعها الشيخ محمد عطاء الله الفوجياني - رحمه الله - من المكتبة السلفية بلاهور بباكستان.
2 - والعلامة النواب صديق حسن القنوجي (ت 1307هـ) في عدة أماكن في مؤلفاته:
1 - التاج المكلل (420- 431) .
2 - واتحاف النبلاء المتقين بإحياء مآثر الفقهاء والمحدثين (بالفارسية) .
3 - وتقصار جيود الأبرار من تذكار جنود الأحرار.
4 - ونوه بذكره وبذكر مؤلفاته في أبجد العلوم في أماكن كثيرة (انظر مثلا 2 \ 23، 140، 193، 371، 442) .
3 - والعلامة المحقق المؤرخ شبلي النعماني، كتب مقالا قيما في حياة شيخ الإسلام وأعماله التجديدية في مجلة الندوة الصادرة من لكناؤ في شهر يوليو عام 1908، وقرر فيه أن شيخ الإسلام ابن تيمية أكبر مجدد في الإسلام، ثم نشر المقال في المجلد الخامس من مجموع مقالاته وبحوثه (65 - 66) .
4 - والعلامة أبو الكلام آزاد الملقب بمحيي الدين (ت 1958م) الذي(42/179)
لقب من عنفوان شبابه (بإمام الهند) وكان من كبار علماء عصره المبرزين في مجال العلم والسياسة، وقد أشاد بذكر شيخ الإسلام، وتلميذه ابن قيم الجوزية، وأعمالهما التجديدية والإصلاحية بأسلوب أدبي رائع في كتابه " التذكرة " (باللغة الأردية) ، وتعتبر كتاباته من أقوى الكتابات حول شيخ الإسلام وآثاره الإصلاحية.
5 - والعلامة المؤرخ الأستاذ غلام رسول مهر في تقديمه لكتاب حياة شيخ الإسلام لأبي زهرة (الترجمة الأردية) وتقديم كتاب (حياة ابن تيمية) لغلام برق جيلاني.
6 - والأستاذ الداعية أبو الأعلى المودودي في كتابه (تجديد الدين الإسلامي) .
7 - والشيخ العلامة عبد الصمد شرف الدين الكتبي في مقال له في الرد على اتهام دائرة المعارف الإسلامية ابن تيمية بالتجسيم في الصفات (وهو منشور في أول مجموعة تفسير ابن تيمية بتحقيقه عام 1374م من بومباي) .
8 - والشيخ أبو الحسن علي الندوي في مقال له: تجديد علوم الشريعة في عهد ابن تيمية (مجلة البعث الإسلامي 1975 \ 1395هـ \ المحرم) .
9 - وترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية في دائرة المعارف الإسلامية باللغة الأردية من جامعة فنجاب، بباكستان بقلم محمد شنف، وعبد المنان بن عمر.
10 - والشيخ المحقق محمد رئيس الندوي السلفي المدرس بالجامعة السلفية في جريدة ترجمان بدلهي: شيخ الإسلام ابن تيمية، وحياته، وآثاره في عدة حلقات، وركز على الجوانب التي أغفلها بعض الناس من أهل الهند.(42/180)
11 - والدكتور عبد العلي بن عبد الحميد الأزهري في مقدمة تحقيقاته لمؤلفات ابن تيمية الصادرة من الدار السلفية ببومبائي.
(د) بحوث الندوة العالمية عن شيخ الإسلام ابن تيمية ومآثره التجديدية وأعماله الخالدة المنعقدة في رحاب الجامعة السلفية ببنارس 29 \ ربيع الأول و1 - 2 \ ربيع الآخر 1408هـ \ 22، 23، 24 نوفمبر 1987م.
1 - مأثرة ابن تيمية الكبرى التركيز على أن النبوة هي الوسيلة الوحيدة للمعرفة والهداية: لسماحة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي أمين عام دار العلوم بندوة العلماء، لكناؤ.
2 - ابن تيمية والرد على المبتدعة: للدكتور السيد عبد الحفيظ السلفي، أمين عام دار العلوم الأحمدية السلفية، دربنجة (نقله إلى العربية أصغر علي السلفي) .
3 - موقف ابن تيمية من المنطق والعلوم العقلية: للشيخ أبي العرفان الندوي - رحمه الله - دار العلوم، ندوة العلماء، لكناؤ (نقله إلى العربية الفريوائي) .
4 - ابن تيمية حامل راية الكتاب والسنة للدكتور محمد لقمان السلفي، دار الإفتاء، الرياض. (نقله إلى الأردية عبد الوهاب الحجازي) .
5 - ابن تيمية ومنهجه في الدعوة الإسلامية: للدكتور عبد العليم بن عبد العظيم البستوي، رابطة العالم الإسلامي، بمكة المكرمة.
6 - ابن تيمية ومعارضوه: للدكتور عبد العلي عبد الحميد الأزهري - (ونقله إلى الأردية الفريوائي) .(42/181)
7 - ابن تيمية ودراسة التاريخ الإسلامي: للدكتور محمد ياسين مظهر الصديقي، جامعة علي كره الإسلامية، علي كره. (نقله إلى العربية الدكتور مقتدي حسن الأزهري، والدكتور الفريوائي) .
8 - أثر ابن تيمية في المفكرين العرب المعاصرين: للدكتور محمد راشد الندوي، جامعة علي كره الإسلامية، علي كره (نقله إلى العربية أصغر علي السلفي) .
9 - ابن تيمية ونهضة الفقه الإسلامي: الدكتور ظفر الإسلام. (نقله إلى العربية علي حسين السلفي) .
10 - ابن تيمية كمصدر عند ابن كثير: الدكتور مسعود الرحمن خان الندوي، جامعة علي كره الإسلامية، علي كره.
11 - ابن تيمية في نظر المقريزي: الدكتور كفيل أحمد القاسمي، جامعة علي كره الإسلامية، علي كره (نقله إلى العربية الفريوائي) .
12 - ملامح المجتمع الإسلامي عند ابن تيمية: الدكتور عبد الباري أحمد مجتبى، جامعة علي كره الإسلامية، علي كره (نقله إلى العربية عبد الوهاب الحجازي) .
13 - شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه: الدكتور عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي.
14 - ابن تيمية وعلم التفسير: الشيخ برهان الدين السنبهلي، دار العلوم ندوة العلماء، لكناؤ (نقله إلى العربية الفريوائي) .
15 - العوامل التي كونت شخصية ابن تيمية: الشيخ عبد المبين منظر (رح) شمس العلوم، سمرا، بستي (نقله إلى العربية أصغر علي السلفي) .(42/182)
16 - ابن تيمية وموقفه من الحسين ويزيد: الشيخ عبد السلام الرحماني وكيل جامعة سراج العلوم، بونديهار. (نقله إلى العربية الفريوائي) .
17 - مآثر ابن تيمية التجديدية: الشيخ عين الباري العالياوي، المدرسة العالية، كلكته، (نقله إلى العربية الفريوائي) .
18 - ابن تيمية ترجمان القرآن: الشيخ عبد الواحد بن عبد القدوس المدني، جامعة خير العلوم، دمريا كنج بستي (نقله إلى العربية الفريوائي) .
19 - مآثر ابن تيمية التجديدية: الشيخ محمد يوسف كوكن العمري، جامعة مدراس. (نقله إلى العربية الفريوائي) .
20 - دروس للدعاة والعلماء في حياة ابن تيمية: الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي العمري، جامعة دار السلام، عمر آباد مدراس.
21 - ابن تيمية وموقفه من التصوف: الشيخ محمد أحمد الأثري، جامعة دار الحديث الأثرية، مئو (نقله إلى العربية عبد الوهاب الحجازي) .
22 - ابن تيمية وعقيدة وحدة الوجود: الشيخ أبو الأجود محمد الأعظمي. (نقله إلى العربية عبد الوهاب الحجازي) .
23 - ابن تيمية والفقه الإسلامي: الشيخ عبد العزيز الأعظمي العمري، جامعة دار الحديث الأثرية، مئو.
24 - مآثر ابن تيمية التجديدية: الشيخ زبير أحمد القاسمي. (نقله إلى العربية الفريوائي) .(42/183)
25 - ابن تيمية والفقه الإسلامي: الشيخ محمد نعيم الرحماني جامعة " رحماني خانقاه "، مونغير. (نقله إلى العربية علي حسين السلفي) .
26 - ابن تيمية وانتقاد الحديث: الشيخ أنيس الرحماني القاسمي. (تهذيب وتلخيص الفريوائي) .
27 - ابن تيمية وعلم المنطق: الشيخ أبو العاص الوحيدي، جامعة سراج العلوم بونديهار. (نقله إلى العربية علي حسين السلفي) .
28 - ابن تيمية لدى معارضيه: الشيخ عبد العليم ماهر، دار التوحيد، مينا عيد كاه، بستي. (نقله إلى العربية الفريوائي) .
29 - العوامل التي كونت شخصية ابن تيمية: الدكتور محسن العثماني الندوي، جامعة جواهر - لال نهرو، دلهي. (نقله إلى الأردية أصغر علي السفلي) .
30 - موقف ابن تيمية من التصوف في ضوء شرحه لفتوح الغيب لعبد القادر الجيلاني: الدكتور أي، كه، أحمد كتي. (نقله إلى الأردية الفريوائي) .
31 - منهج ابن تيمية والفراهي في التفسير: الأستاذ أشهد رفيق الندوي، إدارة علوم القرآن، علي كره. (هذبه ونقله إلى العربية عبد الوهاب الحجازي) .
32 - وجوه انتفاع المسلمين المعاصرين من حياة ابن تيمية وجهوده: الشيخ محمد عبد الله طاري، جمعية أهل الحديث، كشمير. (نقله إلى العربية عبد الوهاب الحجازي) .(42/184)
33 - ابن تيمية في ضوء كتابه " منهاج السنة ": الشيخ عبد الرشيد بت طاهري بالكلية السلفية، كشمير. (نقله إلى العربية الفريوائي) .
34 - آثار ابن تيمية في الهند في البداية: الدكتور حفيظ الدين الكرماني، جامعة بنارس. الهندوكية، بنارس. (نقله إلى العربية الفريوائي) .
35 - مآثر ابن تيمية وتجديده: الدكتور أبو الحسن اختر جامعة بنارس، الهندوكية، بنارس.
36 - عبد العزيز الأردبيلي أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية في الهند: الدكتور شريف حسين القاسمي (جامعة بنارس الهندوية) . (ونقله إلى العربية الفريوائي) .
37 - شيخ الإسلام ابن تيمية وفكرة السياسي: عبيد الله فهد، علي جره. (نقله إلى العربية مع تهذيبه عبد الوهاب الحجازي) .
هذا، وقد أعدت بحوث وكلمات أخرى من كبار أهل العلم من البلاد الإسلامية والعربية في هذا المؤتمر، وهي كالتالي:
1 - شيخ الإسلام ابن تيمية وحياته وآثاره للعلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والدعوة والإفتاء والإرشاد بالرياض، المملكة العربية السعودية.
بعث سماحته كلمة إلى المؤتمر مسجلة على شريط، ثم كتب كلمة قيمة، وبعثها للمؤتمر (نقلهما إلى الأردية: الفريوائي) .
2 - تجدد المشكلات التي واجهها ابن تيمية يقتضي مجاهدتها من جديد، لمعالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامي بالرياض، ورئيس رابطة الجامعات الإسلامية. (نقله إلى الأردية الفريوائي) .(42/185)
3 - موقف ابن تيمية من الرافضة: الدكتور محمد هزاع الغامدي، بمطار الظهران الدولي، بالرياض. (نقله إلى الأردية الفريوائي) .
4 - البشائر المحمدية في دراسات ابن تيمية: الدكتور محمد سيد أحمد المسير، كلية أصول الدين بالأزهر بالقاهرة، بمصر، (أرسل المذكور كلمته إلى المؤتمر) . (نقله إلى الأردية الفريوائي) .
5 - ابن تيمية وجهوده في إثراء الفقه الإسلامي: الدكتور يوسف حسين أحمد (جامعة الأزهر بالقاهرة، أرسل كلمته إلى المؤتمر) .
6 - قصيدة عن حياة ابن تيمية وأعماله: الأستاذ محمود خليفة غانم، سفارة مصر بالهند.(42/186)
(هـ) كتب محققة:
وهناك عدة محاولات جديدة لتحقيق معارف شيخ الإسلام ونشرها، وقد سبقت الإشارة إلى أصحاب النواب صديق حسن البوفالي، والمحدث السيد نذير حسين الدهلوي قد قاموا بنشر مؤلفاته قديما، ولم يتيسر لي إحصاؤها في هذه العجالة، وفيما يلي ذكر بعض هذه الخدمات:
1 - مجموعة تفسير ابن تيمية: بتحقيق وتعليق الشيخ عبد الصمد شرف الدين الكتبي، الدار القيمة، بهيوندي.
2 - تفسيرات ابن تيمية: جمع وترتيب محمد إقبال الأعظمي، ط. ماليكاؤن.
3 - تفسير سورة الإخلاص: تحقيق الدكتور عبد العلي بن عبد الحميد الأعظمي ط. الدار السلفية، بومبائي، عام 1406 هـ.
4 - تفسير الآية الكريمة ط. الدار السلفية، بومبائي، عام 1407 هـ.
5 - تفسير سورة النور ط. الدار السلفية، بومبائي، عام 1408 هـ.(42/186)
6 - أربعون حديثا لشيخ الإسلام: تحقيق وتخريج الدكتور عبد الرحمن الفريوائي.
7 - شرح حديث «إنما الأعمال بالنيات (1) » تحقيق وتخريج الدكتور عبد الرحمن الفريوائي.
8 - شرح حديث أبي ذر: «إني حرمت الظلم (2) » تحقيق وتخريج الدكتور عبد الرحمن الفريوائي.
(و) تراجم مؤلفات شيخ الإسلام الأردية:
1 - مقدمة أصول التفسير: ترجمة الشيخ محمد عطاء الله حنيف الفوجياني، ونشر بالمكتبة السلفية بلاهور.
2 - تفسير سورة الإخلاص: ترجمة الشيخ محمد شريف عبد الغني بلاهور.
3 - تفسير المعوذتين ترجمة الشيخ محمد شريف عبد الغني بلاهور.
4 - زيارة القبور ترجمة الشيخ محمد شريف عبد الغني بلاهور.
5 - الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن، ترجمة الشيخ محمد شريف عبد الغني بلاهور.
6 - درجات اليقين ترجمة الشيخ محمد شريف عبد الغني بلاهور.
7 - الوصية الكبرى، ترجمة الشيخ محمد شريف عبد الغني بلاهور.
8 - الوصية الصغرى ترجمة الشيخ محمد شريف عبد الغني بلاهور.
9 - تفسير سورة الكوثر، الناشر مكتبة الهلال بلاهور.
10 - الوسيلة، الناشر مكتبة الهلال بلاهور.
11 - تفسير الآيات الكريمة، الناشر مكتبة الهلال بلاهور.
12 - اتباع الرسول بصحيح العقول، الناشر مكتبة الهلال بلاهور.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2495) ، سنن ابن ماجه الزهد (4257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/154) .(42/187)
13 - الواسطة بين الخلق والحق، الناشر مكتبة الهلال بلاهور.
14 - مناسك الحج، الناشر مكتبة الهلال بلاهور.
15 - أصحاب الصفة الناشر مكتبة الهلال بلاهور.
16 - فتوى شرك شكن الناشر مكتبة الهلال بلاهور.
17 - رفع الملام عن الأئمة الأعلام:
(أ) طبع الترجمة قديمة بمكتبة الهلال.
(ب) ثم ترجمه حديثا الأستاذ غلام أحمد الحريري - وطبع بباكستان (طارق اكيدمي)
18 - خلاف الأمة: الناشر: الهلال بك ايحنسي، لاهور.
19 - 23- مجموعة عدة رسائل باسم إفادات ابن تيمية: (رسائل النية، وزيارة بيت المقدس، رسالة القضاء والقدر، ورسالة الهجر الجميل، ورسالة في الفقر والفقراء) .
24 - رسالة في الوجد والسماع: ترجمة الأستاذ عبد الرزاق المليح آبادي.
25 - مناظرة ابن تيمية: ترجمة الأستاذ عبد الرزاق المليح آبادي.
26 - تلخيص وترجمة اقتضاء الصراط المستقيم:
(أ) ترجمه أولا الأستاذ عبد الرزاق المليح آبادي.
(ب) وترجمه مع تلخيصه شمس تبريز الندوي، وطبع بدار العلوم بندوة العلماء بلكناؤ.
(جـ) مهذب الاقتضاء (بترتيبي) ونقله إلى الأردية الدكتور مقتدي حسن الأزهري، وأسماه (راه حق كي تقاضي) وسيطبع بالهند، وبالمكتبة السلفية بلاهور، باكستان.(42/188)
27 - الفتوى الحموية ترجمه قديما قبل سبعين سنة العلامة غلام العلي القصوري الأمر تسري طبع بلاهور.
28 - العقيدة الواسطية: طبعت الترجمة سنة 1295هـ بالمطبعة المحمدية، بلاهور.
29 - معارج الوصول: طبع قبل أربعين سنة في مجلة " المحدث " بدلهي في عدة حلقات باسم (أصل الأصول) .
30 - الرسالة القبرصية: طبعت الترجمة في مجلة (رحيق) بلاهور.
31 - العبودية:
(أ) ترجمة الأستاذ أصغر علي روحي.
(ب) وترجمه أيضا الأستاذ صدر الدين الإصلاحي.
32 - المنتقى من منهاج الاعتدال: ترجمه الأستاذ غلام أحمد الحريري.
33 - قاعدة في التوسل والوسيلة: ترجمه عبد الرزاق المليح آبادي.
34 - الرد على الأخنائي (روضة أقدس كي زيارت) : ترجمه الشيخ محمد صادق خليل ط. ضياء السنة، فيصل آباد، باكستان.
35 - الرد على البكري (غير مطبوع) .
36 - الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (غير مطبوع) .
37 - شرح العقيدة الواسطية للشيخ خليل هراس (غير مطبوع) .
38 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة نقله إلى اللغة التاملية الشيخ سيد مولوي، وطبع بمدراس، جنوب الهند.
39 - إيضاح الدلالة لعموم الرسالة، نقله الدكتور عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي.(42/189)
صفحة فارغة(42/190)
ضرورة توثيق الحديث الشريف
من مصادره
د. صالح بن يوسف معتوق
مخطط البحث:
- أهمية التوثيق عامة.
- دفع فرية ابتكار المستشرقين لصناعة التوثيق العلمي.
- مراحل توثيق السنة.
- ضرورة تنوع طرق التوثيق.
- تساهل بعض المعاصرين في توثيق الحديث الشريف.
- ضرورة تميز توثيق الحديث الشريف.
- الطريقة المثلى في توثيق الحديث.
- اعتناء المحدثين السابقين بالتوثيق الأمثل.
- أخطاء في كيفية توثيق الحديث.
- أسباب عدم توثيق العلماء القدامى للأحاديث.
- أهمية بيان مرتبة الحديث.
- الصيغة التي يورد بها الحديث.(42/191)
أهمية التوثيق عامة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربه إلى يوم الدين.
أصبح توثيق النصوص المنقولة، وعزو كل نص مقتبس إلى مصدره سمة الأبحاث العلمية المعاصرة - لا سيما رسائل الماجستير والدكتوراه - كما أصبح خلو البحث من التوثيق والإحالات- مع وجود النقل - خروجا عن قواعد البحث العلمي.
ولا ريب أن الأبحاث الموثقة تجعل القارئ مطمئنا للنتائج التي توصل إليها الباحث، وتشعره بمدى الأمانة العلمية عنده، كما تساعده على معرفة مصدر نقل أعجبه فأراد الاستزادة منه.
وكثيرا ما يقع في الطباعة سقط وتحريف وتصحيف، تدع لب القارئ حيران، فيتشكك في معلوماته، فإذا أراد أن يزيل هذا الشك من صدره، ولم تكن تلك النقول موثقة؛ فإنه سيبذل جهدا ووقتا طويلا لإزالته، وربما يصل في النهاية إلى صحة ما يعلم، وخطأ المطبعة، فيندم على إضاعة ذلك الجهد بلا طائل، وربما يدفعه ذلك إلى عدم الثقة بكل ما جاء في الكتاب، بل قد تجعله كثرة ذلك لا يثق بالمؤلف نفسه، وكان يمكن تلافي هذا كله بإشارة موجزة من الكاتب إلى مصدره الذي استقى منه.
ولكون توثيق النصوص وإحالتها إلى مصادرها ذا أثر خطير في القارئ والكتاب؛ يهتم الأساتذة في الجامعات بتوجيه طلابهم إلى التزام هذه الصفة التي تعد من خصائص البحث العلمي.(42/192)
دفع فرية ابتكار المستشرقين لصناعة التوثيق العلمي:
يظن كثير من المثقفين - لا سيما المثقفين ثقافة غربية - أن صناعة التوثيق العلمي من ابتكار المستشرقين؛ فإنك قلما تجد عملا من أعمالهم العلمية خاليا من التوثيق والتحقيق الجاد.
وما سبب هذا الظن إلا قصور اطلاع مثقفينا على تراثهم، وشغف كثير منهم بكل ما جاء من الغرب، وتصديقهم بكل ما يزعمون أنه من مبتكراتهم دون تمحيص، ولجهلهم بأن توثيق النصوص ليس أمرا جديدا على أمتنا، بل هو سمة من سماتها منذ صدرها الأول.
وقد أحس العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر - رحمه الله - بهوس أولئك بكل ما جاء عن الغرب؛ من تصحيح الكتب، وتوثيقها، وعمل الفهارس لها، وهاله تمجيدهم للأجنبي، والإشادة بذكرهم، والاحتجاج بكل ما يصدر عنهم من رأي يتقلدونه ويدافعون عنه، إذ رأوهم أتقنوا صناعة توثيق وتصحيح الكتب. فظنوا أنهم اهتدوا إلى ما لم يهتد إليه أحد من أساطين الإسلام وباحثيه، حتى في التفسير والحديث والفقه.
فانبرى- رحمه الله تعالى - للرد عليهم في مقدمته الرائعة لسنن الترمذي، ونقل نصوصا كثيرة من مقدمة ابن الصلاح المتوفى سنة 643هـ تبين قواعد المحدثين في تصحيح وتوثيق النصوص، مفصلة تفصيلا دقيقا لم يسبق إليه. وقد حصل هذا في وقت لم تكن المطابع قد وجدت بعد - ولو كانت لديهم لأتوا بالعجب العجاب في ذلك (1) مما يدل دلالة قاطعة على حيازة قصب السبق في هذا المجال لعلماء المسلمين قبل قرون متطاولة، ويدفع أصلا فرية جهل المسلمين بهذه الصناعة، ونسبة ابتكارها للأجنبي.
__________
(1) مقدمة سنن الترمذي 1 \ 19 - 22 بتصرف، وانظر مقدمة ابن الصلاح من ص 87 إلى ص 102.(42/193)
وقد كان لعلماء الحديث - من بين علماء المسلمين - النصيب الأوفر في الاهتمام بالتوثيق، ونسبة النصوص إلى مصادرها ومنابعها الأولى. بل قل إن جل عمل المحدثين - في السابق - كان منصبا على تلك المهمة الجليلة. وما كان عملهم هذا إلا سيرا على نهج الصحابة والتابعين - رضوان الله عليهم - في التثبت في قبول الأخبار. وحق لهم أن يستوثقوا ويتثبتوا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يعتبر المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي.
وأمثلة تثبت الصحابة والتابعين كثيرة جدا، مثبوتة في كتب الحديث وعلومه، وشهرتها تغنينا عن الاستشهاد بها.(42/194)
مراحل توثيق السنة:
مر توثيق السنة النبوية بمرحلتين متمايزتين (1) .
الأولى: كانت العناية بتوثيق الأحاديث - في القرون الثلاثة الأولى - منصبة على رجال الإسناد، الذين هم الواسطة في النقل. لم يقبل المحدثون المرويات المجردة عن الإسناد - لا سيما بعد ظهور البدع - ولم يكتفوا بعزو الأحاديث إلى ناقليها. بل بحثوا في أحوال هؤلاء الناقلين، ليتثبتوا من صحة هذه الأخبار بمعارضتها مع مرويات المشهورين بالضبط والإتقان.
وقد أثمرت هذه الجهود حصر المرويات، وجمعها في دواوين ومصنفات متنوعة المناهج والطرق.
الثانية: مرحلة الاعتماد على المصنفات التي كتبت في المرحلة الأولى، والتي أصبحت المصادر المعتمدة في توثيق الأحاديث، فبعد أن كان العزو
__________
(1) انظر عناية المحدثين بتوثيق المرويات للدكتور أحمد نور سيف ص8 - 10.(42/194)
أولا إلى الراوي أو شيخه، أضحت هذه الكتب هي المصادر التي تعزى إليها المرويات. وذلك بعد الاستيثاق من صحة الأصل المعزو إليه.
ففي هذه المرحلة أصبح يكتفى أن يقال: هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، أو النسائي في سننه مثلا، دون ذكر لسند البخاري أو النسائي.
ثم صارت صفة الأمانة العلمية - التي تتمثل على خير أوجهها في ضبط المنقول، وسلامته من التحريف، وتخريجه بنسبته على مصدره - من الصفات اللازمة للمشتغلين بعلم الحديث. بل إن مصطلح التخريج استخدم أول ما استخدم في علم الحديث. ثم توسع الباحثون المتأخرون في استخدامه، فاستعملوه في تخريج الآيات القرآنية والأقوال المأثورة، والخطب، والوصايا، والشعر، والأمثال، والنصوص المقتبسة (1) .
__________
(1) انظر مقدمة أصول البحث العلمي للدكتور السيد رزق الطويل ص 234 - 235.(42/195)
ضرورة تنوع طرق التوثيق:
شاعت فكرة توثيق النصوص وتخريجها، وإحالتها إلى مصادرها الأصلية، وشاع استحسان هذه الفكرة وقبولها من الباحثين والكتاب - على العموم - إلا أنه ما زال هناك خطأ أو نقص في الطرق التي تتبع في الإحالات.
فالكثير يلزم طريقة واحدة في الإحالة، وهي ذكر رقم الجزء ورقم الصفحة، سواء أكان المنقول حديثا، أم تفسيرا لآية، أو نصا أدبيا، أو لغويا، أو تاريخيا، أو غير ذلك.(42/195)
وبعض الباحثين يعطي النص المنقول في اختصاصه عناية زائدة في التوثيق، فاللغوي إذا نقل نصا من لسان العرب مثلا، فلا يكتفي بذكر الجزء والصفحة، بل يضيف ذكر المادة التي ورد فيها النص في ذلك الكتاب، وقد يرى ذلك لزاما عليه، لمعرفته بترتيب الكتاب على المواد اللغوية لا الموضوعات.
وإذا نقل دارس التاريخ خبرا من تاريخ الطبري مثلا، فإنه يرى إضافة ذكر السنة التي جاء الخبر فيها - إلى جانب ذكر رقم الجزء والصفحة - من مقتضيات التوثيق التي ينبغي أن لا يغفل عنها، وذلك لعلمه أن إيراد الأحداث التاريخية في ذلك الكتاب مرتب على السنوات، لا الموضوعات ولا الدول.
وكذلك الباحث في علم التفسير، إذا ما استشهد بنص من تفسير الفخر الرازي مثلا، فإنه يرى من لوازم توثيقه للنص أن يذكر اسم السورة ورقم الآية التي جاء النص في سياق تفسيرها في ذلك الكتاب. وقل هذا في جميع المصنفات التي لها ميزة خاصة في ترتيب أبوابها وموادها.
وما شعر أولئك بلزوم ذلك عليهم إلا لدراية كل مختص منهم بترتيب تلك الكتب، وتعدد طبعاتها، وإن هذا التوثيق الزائد يجعل الرجوع للتثبت من النص المنقول أمرا ميسورا، لكل قارئ يستطيع الوصول إلى نسخة من الكتاب المحال عليه، ولو اختلفت طبعته، كما أنه لا يكلف المؤلف جهدا يذكر أمام التعب الذي كان سيلحق القارئ من عدم هذا التوثيق.
وقد استحسن كثير من الباحثين هذه الطريقة فاستعملوها في توثيق نقولاتهم. فتجد غير - اللغوي - يحيل على معجم لغوي بذكر المادة، غير مقتصر على ذكر الجزء والصفحة. وتجد غير المؤرخ يذكر السنة التي ورد فيها النص المنقول عندما يحيل على كتاب تاريخ قديم.(42/196)
ولا شك أن تنوع مناهج التصنيف، واختلاف ترتيبها من علم لآخر، وتعدد طبعاتها؛ يتطلب تنوعا في طرق الإحالة مناسبا لنهج تأليفها.
وإن الاهتمام والتمايز في التوثيق بين العلوم، تبعا لمقتضيات ترتيب موادها، يعطيان القارئ انطباعا حسنا في كتابه، بأنه قد خبر هذه المصنفات، وعرف دروبها ومسالكها، وكيفية الاستفادة منها واستخدامها، لذا فهو لا يسلك طريقة واحدة في توثيقها، بل يدرك إدراكا لا لبس فيه ضرورة اختلاف هذه الطريقة من علم لآخر. وهذا بعكس من لم يخبر هذه الكتب، أو كان دخيلا عليها، أو غرا في استخدامها، فإنه لا يتنبه لأهمية ذلك التمايز.(42/197)
تساهل بعض المعاصرين في توثيق الحديث:
وبالرغم من اهتمام الباحثين المعاصرين بتوثيق نقولاتهم من مصادرها الأصلية، ذاكرين رقم الجزء والصفحة، إضافة إلى ذكر المادة أو السنة، أو الآية - حسب موضوع البحث - إلا أنه بقي هناك علم يتساهل في توثيق نصوصه كثير من الباحثين غير المختصين - مع كثرة استشهادهم به - ألا وهو علم الحديث الشريف.
ربما أن نصوص الحديث الشريف زاد لكل مشتغل بالعلوم الشرعية، ويحتاج إليها الكاتبون في اللغة العربية أيضا، فإن معرفة كيفية تخريج نصوصه وتوثيقها يحتاج إليها كل مشتغل بتلك العلوم.
فمن ذلك التساهل أن ينقل أحدهم حديثا ويحيل على كتاب تفسير للقرآن الكريم - لا سيما إن كان الباحث مفسرا - أو يحيل على كتاب فقه - إن كان فقيها - أو على كتاب أدب - إن كان أديبا - وهكذا قل في سائر التخصصات.(42/197)
وغني عن البيان أن هذه الكتب لا تعد بحال من الأحوال من مصادر الحديث الشريف.
وإني أعتبر هذا نقصا كبيرا لعلم الحديث الذي اشتهر رجاله منذ القدم بتوثيق مروياتهم، وضبطهم لها، وبلوغهم في ذلك الغاية في الدقة والإتقان. مما حدا بأرباب العلوم الأخرى أن يحتذوا حذوهم، ويسلكوا القواعد والطرق التي اتبعوها في التوثيق.(42/198)
ضرورة تميز الحديث الشريف:
إن اعتبر العلماء التوثيق الزائد لما ينقل من كتب التفسير، أو التاريخ أو معاجم اللغة أمرا يحمد عليه الباحث وتعتبر فضيلة في حقه، فإنه في توثيق الحديث ليس فضيلة فحسب، بل هو ضرورة. وذلك للأسباب التالية:
1 - تعدد طبعات أكثر كتب السنة الشريفة.
2 - تنوع مناهج التأليف في تلك الكتب.
3 - كثيرا ما تبنى على الحديث المستشهد به أحكام، وتستنبط منه فوائد، ويستدل به على تحليل أمر أو تحريمه، أو مدح شيء أو ذمه. . . إلخ، ومن المعلوم أن الأحاديث جميعها ليست بمنزلة واحدة من حيث القبول والرد، كما أن المصنفات الحديثية ليست بمستوى واحد في الاحتجاج بكل ما جاء فيها. وبما أن هذه النصوص تنسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنها تستلزم منا قدرا أكبر من الحيطة والتوثيق؛ لأنه يخشى من الإخلال بذلك أن ينقل الباحث حديثا مكذوبا، أو غير معتمد عند أهلهن فيحل حراما أو يحرم حلالا، فيفضي به ذلك إلى النار - والعياذ بالله تعالى - ومن البدهي أن الإخلال بتوثيق العلوم الأخرى لا يردي صاحبه في تلك الهاوية مما يضفي(42/198)
أهمية خاصة على ضرورة توثيق الحديث من مصادره المعتمدة عند أهله، وعدم التساهل بشيء من ذلك.(42/199)
الطريقة المثلى في توثيق الحديث:
ينبغي أن يشتمل توثيق الحديث على العناصر التالية:
1 - أن يذكر اسم الكتاب، وعنوان الباب الذي ورد فيها الحديث. فيقال مثلا:
أخرجه البخاري في صحيحة، في كتاب العلم، باب العلم.
2 - أن يذكر رقم الباب، ورقم الحديث - إن وجدا.
والعنصر الأول هو أهم هذه العناصر التي لا ينبغي إغفالها؛ لأن اسم الكتاب وعنوان الباب أمران ثابتان، لا يتغيران في جميع الطبعات. أما أرقام الأجزاء والصفحات فتتغير تبعا لتعدد الطبعات، كما أن أرقام الأبواب والأحاديث تخلو منها كثير من كتب السنة - لا سيما ما طبع منها قديما.
فمن أتى بهذه العناصر جميعا عند توثيقه للحديث الشريف، فقد اتبع أكمل وأمثل طريقة، كما أنه لا حرج كبيرا على من اقتصر على العنصر الأول، إنما الحرج فيمن أغفل ذلك العنصر، ولو ذكر العنصرين الآخرين، فإن ذلك سيتعب القارئ الذي لا يملك طبعة الباحث، في الرجوع إلى الحديث المستشهد به. بينما يبذل هذا الجهد فيما لو وجد القارئ اسم الكتاب وعنوان الباب في ذلك التوثيق، لوجود هذه العناوين في جميع الطبعات.(42/199)
اعتناء المحدثين السابقين بالتوثيق الأمثل:
إن هذا الأمر الذي أدعو إليه قد يعتبره بعض الباحثين تعصبا مني للعلم الذي تخصصت به، وشرفت بالانتماء إليه، وأني أول من ابتدعه وجاء به.(42/199)
والحقيقة أن ما أدعو إليه ليس جديدا على علماء الحديث، فقد استعمله المحدثون في السابق، وعلى الأخص شراح الحديث، والمشتغلون بعلم التخريج منهم، فقد رأوا ضرورة ذلك والتزموه، فتراهم إذا أحالوا على حديث ما يقولون: أخرجه فلان في كتاب كذا، باب كذا، وإن أي قراءة - ولو كانت عابرة - لشروح بعض الأحاديث، في كتاب فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ، أو في كتاب عمدة القاري للحافظ بدر الدين العيني المتوفى سنة 855هـ، أو أي شرح آخر، تدلنا دلالة قاطعة على عناية أولئك المحدثين بذلك التوثيق، وإن هذا ظاهر ظهور الشمس في شروح البخاري أكثر من غيره؛ لأن من عادة البخاري - رحمه الله - أن يجزئ حديثا ويقطعه، أو يكرره في موضع آخر، فحتى لا يكرر الشارح شرحه كلما تكرر من الحديث فإنه يحيل على الشرح الأول، ولو أحال على الجزء والصفحة، لكانت الإحالة لغوا لا فائدة منها، تلك بعض المعلومات في صفحة أو جزء آخر. لذا يحيلون على الكتاب والباب.
وسأختار عشوائيا مثالين من كتاب عمدة القاري ليؤكدا صحة ما ذكرت.
ففي كتاب الصيام، باب القبلة للصائم، وبعد أن أورد العيني الحديث قال (1) والحديث مضى في كتاب الحيض، في باب من سمى النفاس حيضا، فإنه أخرجه هناك عن. . وذكر السند.
وفي الكتاب نفسه، باب السواك الرطب واليابس للصائم، قال (2)
__________
(1) عمدة القاري 11 \ 11.
(2) عمدة القاري 11 \ 21.(42/200)
بعد أن أورد الحديث: مر هذا الحديث في كتاب الوضوء، في باب الوضوء ثلاثا ثلاثا، فإنه أخرجه هناك عن. . وساق السند.
فانظر كيف ذكر اسم الكتاب والباب اللذين فيها الحديث، ولم يكتف بذلك، بل ذكر سند البخاري لذلك الحديث هناك. وفائدة ذكر السند أن الباب الواحد يشتمل في الأغلب على أكثر من حديث واحد، فحتى لا يجهد المراجع - ولو قليلا - في البحث عن حديث بين بضعة أحاديث، يختصر الوقت ويبحث عن شيخ البخاري، المذكور في أول سند الحديث، فيسهل ذلك له الوصول إلى مبتغاه. ولا يدرك أهمية ذلك إلا من ذاق عناء البحث، وعرف أهمية الوقت، فاحترم وقت قارئه، ولم يكن سببا في إهداره.
ولو رجعنا إلى ما قبل الحافظ العيني والحافظ ابن حجر، وجدنا الحافظ المزي المتوفى سنة 742هـ، وقد اهتم ببيان ذلك في كتابه الفريد، تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف فبعد أن يذكر- رحمه الله تعالى طرف الحديث، ويرمز إلى من أخرجه، يذكر موضوع وروده في ذلك الكتاب، مع ذكر السند.
وهناك مثال على ذلك من مسند الصحابي أبيض بن حمال الحميري، فبعد أن أورد المزي طرف الحديث قال: (1) .
" د. في الخراج، عن قتيبة بن سعيد ومحمد بن المتوكل العسقلاني،
__________
(1) تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف 1 \ 7. ود. يعني أبا داود في سننه، والخراج أي كتاب الخراج في السنن.(42/201)
كلاهما عن محمد بن يحيى بن قيس المأربي، عن أبيه، عن ثمامة بن شراحيل، عن سمي بن قيس، عن شمير بن عبد المدان، عن أبيض بن حمال به. . ".
وإن اقتصر المزي في تحفته على ذكر الكتاب دون الباب، فإيراده للسند الذي جاء به الحديث يعوض ذلك النقص، لا سيما في تلك العصور التي كانت تهتم بالأسانيد.
وقد شعر ناشر تحفة الأشراف بأهمية ذكر الباب بعد ذكر الكتاب، فقام مشكورا بذكر رقم الباب ورقم الحديث، ووضع ذلك بين قوسين تمييزا عن أصل المصنف.
وفي القرن المنصرم قام الشيخ محمد بن مصطفى التوقادي - أحد علماء الأستانة - بصنع فهرس لأحاديث صحيحي البخاري ومسلم مرتبا المتن على حروف المعجم، ذاكرا مكان ورود الحديث بالجزء والصفحة في صحيح البخاري، وأشهر شروحه، ولم يكتف بذلك، فقد ذكر - يرحمه الله تعالى - عنوان الكتاب الذي ورد فيه الحديث، ورقم الباب كذلك، ولو اقتصر على ذكر الجزء والصفحة فقط، لعدمت الفائدة منه الآن، لندرة وجود الطبعات التي اعتمدها آنذاك. ولكن صنيعه هذا جعل نفع كتابه عاما لكل من ملك نسخة - من صحيح البخاري أو مسلم أو أحد شروحهما، مهما تختلف الطبعات، ومهما يتقدم الزمن (1) .
هذا نزر يسير من الأمثلة - وهي كثيرة جدا - تدل على أن التوثيق
__________
(1) انظر تنويها بهذا العمل الذي قام به التوقادي في مقدمة سنن الترمذي للعلامة أحمد شاكر جـ1 ص60(42/202)
الدقيق لمصادر الحديث الشريف ليس بدعا، بل هو إحياء لسنة علمية أميتت، اقتضت الضرورة العلمية الآن، وتطور طرق استقاء المعلومات وتوثيقها، أن تبعث من جديد، وأن ينسب فضلها إلى أهلها.(42/203)
أخطاء في كيفية توثيق الحديث:
إني لأعجب من باحثين - وقد كتب بعضهم كتبا في أصول البحث العلمي - التزموا بطرق التوثيق لما نقلوه، فلا يستشهدون بآية إلا ويسارعون بتخريجها ولا يوردون بيت شعر إلا وينسبونه إلى قائله، ومكان وجود في ديوانه، ولا ينقلون نصا إلا ويذكرون مصدره، ومع ذلك تجدهم عند الاستشهاد بالحديث النبوي يخلون بطرق التوثيق التي التزموها في سائر النصوص! بل الأشد من ذلك أن يوثق الحديث من غير كتب السنة.
وبين يدي كتاب جديد في موضوعه، ظهر في الساحة الأدبية الإسلامية منذ سنوات، بعنوان " النظرة النبوية في نقد الشعر " أراد فيه مؤلفه أن يبين موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشعر والشعراء، واستدل على ما ذهب إليه بنصوص نبوية شريفة، وبالرغم من أن المؤلف استخدم طرق التوثيق العلمي في التثبت من نصوصه الأدبية، وعزا كل نقل إلى مصدره،(42/203)
غير أنه في الأحاديث النبوية لم يلتزم الطريقة نفسها، فقد أحال بعض الأحاديث إلى كتب السنة، وأحال بعضها الآخر إلى كتب أدبية، وإليك بعض الأمثلة على النوع الأخير:
في هامش الصفحة 25 خرج حديثا من كتاب بهجة المجالس.
وفي هامش الصفحة 26 خرج حديثا من العقد الفريد ومحاضرات الأدباء.
وفي هامش الصفحة 29 خرج حديثا من محاضرات الأدباء.
وفي هامش الصفحة 36 خرج حديثا من خزانة الأدب، والأغاني، ومن شرح شواهد المغني (1) .
ولا يخفى أنه لا قيمة علمية لهذا التوثيق، وأن هذا تساهل ينبغي تجنبه في كتابة البحوث العلمية، وينبغي أن لا يسلكه كاتب علمي جاد.
وإليك مثالا آخر من كاتب في علم التفسير، يوثق نقوله عموما، بيد أنه حينما يستشهد بحديث يحيل على كتاب تفسير، أو يقول: (رواه مسلم. (هكذا ولا يذكر موضعه) وأصحاب السنن وانظر تفسير ابن كثير 1 \ 31) ، أو يقول: " استشهد به أبو السعود في تفسيره إرشاد العقل السليم ص 8 " أو يقول: " انظر الحديث في تفسير ابن كثير " أو يقول: " رواه مسلم في صحيحه (ولا يذكر أين رواه) واستشهد به القرطبي في تفسيره 1 \ 115 " وغير ذلك من الأمثلة. هذه إحالات لا يجوز أن تكون في بحث علمي موثق، وهذا التساهل حاصل أيضا عند كثير من المتخصصين في الفقه، واللغة، والتوحيد، والسيرة، وسائر العلوم.
__________
(1) وهناك أمثلة أخرى في هوامش الصفحات 37، 38، 39، 43، 45 وغيرها.(42/204)
وربما سرى هذا التساهل في توثيق الأحاديث النبوية إلى بعض كتابنا من كتابات المستشرقين، فإنهم كثيرا ما يستشهدون بأحاديث من كتاب أدبي؛ كالأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، لا سيما عندما يوجهون الطعن والنقد إلى علماء الحديث أو علماء المسلمين عامة (1) .
__________
(1) انظر منهج النقد في علوم الحديث للدكتور نور الدين عتر ص 481.(42/205)
أسباب عدم توثيق العلماء القدامى للأحاديث:
وقد يحتج بعض الباحثين بأن العلماء الأوائل في القرون الستة الأولى لم يوثقوا الأحاديث التي يستشهدون بها، لا في كتب الفقه، ولا في التفسير، ولا في غيرها، فلم نلزم نحن ذلك؟ ولماذا يعاب علينا هذا الأمر ولا يعابون؟ ! مع أننا أقل منهم شأنا وعلما، وما المانع في أن نسير سيرهم، ونحذو حذوهم؟ .
وأجيب عن الشطر الأول من السؤال بأنه لم يكن هناك حاجة ماسة إلى التوثيق، كما هي الآن؛ لأن اطلاع السابقين على مصادر السنة كان اطلاعا واسعا، وصلتهم بمصادر الحديث الشريف كانت وثيقة، فعندما يستشهدون بحديث ما، سرعان ما يذكرون موضعه في كتب السنة، بل وفي جزء من أجزاء تلك الكتب، أو يعرفون على الأقل مظانه في المصنفات الحديثية، وهم على علم ودراية بترتيب تلك المصنفات وطريقة تأليفها، لذلك يسهل عليهم الاستفادة منها، والوصول إلى موضوع الحديث بيسر وسهولة (1) .
وهناك سبب آخر في إغفال المتقدمين تخريج الحديث وتوثيقه ذكره الحافظ المناوي (2) . نقلا عن الحافظ العراقي، وهو: " أن لا يغفل الناس النظر في كل علم في مظنته ".
__________
(1) أصول التخريج ودراسة الأسانيد ص 13 بتصرف.
(2) فيض القدير للمناوي 1 \ 21، وأصول التخريج ودراسة الأسانيد ص 13 بتصرف.(42/205)
وهذه الأسباب التي دعت المتقدمين إلى ذلك لم تعد موجودة اليوم، فإن كثيرا من الدارسين لعلوم الشريعة، بل ولعلم الحديث خاصة، يصعب عليهم معرفة موضع حديث قرءوه، وفي أي كتاب أو أي باب يوجد، فكيف بغيرهم؟ .
وإن كان من الأسباب السابقة حث الطلبة على الرجوع إلى المصادر الأصلية، وعدم هجرها وإغفالها من طلبة التخصصات الأخرى، فإن في الإحالة إليها اليوم حثا للطلبة والقراء على الرجوع إليها، وترك هذه الإحالة سيؤدي قطعا إلى هجر تلك الكتب، لفتور الهمم، ولجهل الكثير بطريقة تبويب تلك المصنفات، مما يزهدهم في الجوع إليها.
والجواب عن الشطر الثاني: أننا لم نعب على السابقين من الفقهاء - مثلا - عدم إحالتهم إلى معجم لغوي حينما يعرفون كلمة في اللغة، بينما لا نكتفي الآن من فقيه معاصر أن يفعل ذلك دون أن يسندها إلى كتاب في اللغة. وذلك لتوفر المصادر - الآن - وكثرتها وانتشارها، وسهولة الحصول عليها، بالاقتناء أو الاستعارة، أو بطرق الاتصالات الحديثة كالفاكس وغيره، فهذه الإمكانات لم تكن موجودة سابقا. كذلك نعيب الآن أن يحيل كاتب علمي حديثا على غير كتب السنة، بينما قبل هذا الفعل من عالم متقدم.
أضيف إلى ذلك أن طرق كتابة البحوث العلمية وتوثيقها أصبحت تدرس الآن في الجامعات والمعاهد، كما أجمع أرباب العلوم على ضرورة التزامها في البحوث العلمية، بينما لم يكن ذلك في السابق.
أهمية بيان مرتبة الحديث:
هناك أمر ينبعي أن يتنبه له طلبة العلم، وهو أن كتب الأدب والتاريخ(42/206)
والمناقب مرتع خصب للأحاديث الضعيفة والواهية، بل والموضوعة، والتي لا أصل لها. فيخشى على من ينقل الأحاديث منها أن يدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (1) » .
كما أن الأحاديث الواردة في كتب الفقه، والتفسير، والعقائد، والسيرة، والشمائل، ليست كلها على درجة واحدة من القبول، ففيها أيضا الضعيف، والواهي، بل الموضوع، إلى جانب الأحاديث الصحيحة والحسنة - لا سيما في كتب التفسير والشمائل - لذا ينبغي عدم الركون إليها، وعدم الاكتفاء بورود الحديث فيها.
ولا أعني بذلك أن كتب السنة خالية من تلك الأنواع، فهي موجودة في كتب المسانيد، والمصنفات، والمعاجم، وكتب الزهد والرقائق، والفضائل وغيرها، غير أنها موجودة في كتب السنة الأصلية بأسانيدها، بحيث يتاح الحكم عليها بعد دراسة رجال الإسناد، بينما هي في أغلب تلك الكتب مجردة عن الأسانيد.
ويظن بعض المحدثين أنه عندما يوثق حديثه بقوله: رواه الطبراني، أو رواه أحمد في المسند - وسواء أذكر الجزء والصفحة أم لا - قد أدى مهمته، وبرئت ذمته. وقد يظن بعض القراء أن إحالة المؤلف إلى تلك الكتب يدل على قبول ذلك الحديث عند أهله، وما نشأ ذلك الوهم والظن إلا من عدم معرفتهم أن وجود الحديث في كتاب محدث - مهما تعل
__________
(1) أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص في كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل 4 \ 207. وتمام الحديث: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي معتمدا فليتبوأ مقعده من النار) . وأخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، 5 \ 39 رقم الحديث 2669. ورواه الدارمي في المقدمة، باب البلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعليم السنن 1 \ 136. والإمام أحمد في مسنده 2 \ 159 - 202 - 14.(42/207)
رتبته - لا يدل بحال من الأحوال على صحته عند ذلك المحدث، اللهم إلا الكتب التي اشترط مصنفوها الصحة.
وخشية من الوقوع في هذا الوهم، نبه أحد الكاتبين في أصول كتابة البحوث العلمية وتحقيق التراث، على أهمية بيان درجة الحديث حين الاستشهاد به، وخطر الاكتفاء بذكر مصدره فقال: (1) .
" إن العبرة ليست في ذكر مصادر الحديث وتركها على رسلها، فليست هذه الغاية التي نرمي إليها. وإنما يجب أن تتجة الغاية إلى تبيان درجة الحديث من الصحة والسقم، حسب الأصول والقواعد المتبعة في علم مصطلح الحديث، ولا سيما في الكتب التاريخية، والأدبية، والعقائد، التي تكثر فيها الأحاديث الضعيفة والواهية والموضوعة، والتي لم يعتن مؤلفوها ببيان درجة صحتها أو سقمها، وقد أدى انتشار مثل هذه الكتب بين الناس إلى أن أصبح كثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة يدور على ألسنة الكثرة الكاثرة من الخطباء، والمدرسين، والمؤلفين. ويتلقاها عنهم أغلب الناس، فيعملون بها وبما يستفاد منها، فأصبحت تكون خطرا عظيما على أفكار الناس وعقائدهم وسلوكهم. . ".
ومصداقا لذلك فقد سمعت خطبة في أحد مساجد الشارقة، في شهر ربيع الأول من عام 1413هـ، أورد فيها الخطيب - وهو أستاذ فاضل - حديثا ذكر أنه قرأه في كتاب صبح الأعشى للقلقشندي فأعجبه، فأراد أن يعم هذا النفع إخوانه المصلين. ونص الحديث: عن جابر - رضي الله عنه - قال: «خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على العضباء فقال: يا أيها الناس كأن
__________
(1) ضبط النص والتعليق عليه 25، للدكتور بشار عواد معروف.(42/208)
الموت في هذه الدنيا على غيرنا قد وجب، وكأن الحق فيها على غيرنا قد كتب، وكأن ما نشيع به من الموتى عن قريب إلينا راجعون، نبوئهم أجداثهم، ونأكل تراثهم، كأنا مخلدون بعدهم، قد أمنا كل جائحة، فطوبى لمن وسعته السنة ولم يخالفها إلى بدعة، ورضي من العيش بالكفاف وقنع بذلك» .
وهذا الحديث مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نص أئمة الحديث على ذلك في كتب الموضوعات (1) .
وربما غر ذلك الشيخ الفاضل حلاوة ألفاظ الحديث، وصلاحه موعظة للناس، ووجوده في كتاب عميم النفع، ولم يدر أن كون الكتاب بهذه الصفة لا يلزم منه أن يكون كل ما فيه - لا سيما ما كان خارجا عن اختصاص مؤلفه - مقبولا وصحيحا. وأمثلة استشهاد الخطباء بالأحاديث الموضوعة أكثر من أن تحصى.
وينبغي أيضا أن يميز بين الأحاديث التي تساق للاحتجاج ولاستنباط الأحكام منها، وبناء القواعد عليها، وبين ما يورد للاستئناس، أو للتعاضد والتقوية، أو ما يذكر في فضائل الأعمال والترغيب والترهيب. فبينما لا يجوز في الأولى الاحتجاج بغير المقبول من الأحاديث، يجوز في الأخرى إيراد ما سوى الموضوع وشديد الضعف. وكل هذا لا يعرف إلا بعد معرفة درجة الحديث.
ونحن لا نكلف كل باحث غير متخصص في علوم الحديث البحث عن أحوال رجال الحديث، ثم الإدلاء برأيه وحكمه في قبول الحديث أو رده، ففي هذا خطر على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعظم من ضرر ترك الحديث بغير حكم. بل نطلب من هذا الباحث أن ينقل لنا أقوال المحدثين في بيان
__________
(1) انظر تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة 2 \ 340.(42/209)
مرتبته، فإن لم يجد بعد لأي حكما على ذلك الحديث، أو لم يعثر عليه في كتاب من كتب السنة، فلينبه على ذلك، ولا يقتصر في العزو إلى كتاب أدب أو غيره.(42/210)
الصيغة التي يورد بها الحديث:
يلاحظ أن كثيرا من الباحثين يستعملون - للأسف - صيغة واحدة في كل ما يوردونه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيذكرون: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث المقبولة والضعيفة. وهذه زلة ينبغي الرجوع فيها إلى علماء الحديث لتجنبها.
فقد نص علماء الحديث - رحمهم الله تعالى - على أن صيغة الجزم (قال) تؤتى عند التأكد من صحة الحديث وقبوله، أو فيما ذكر إسناده. أما إذا كانت الأحاديث ضعيفة، أو شك الباحث في صحتها، ولم يوردها بإسنادها، فلا يجوز له أن يسوقها بصيغة الجزم، بل بصيغة التمريض نحو: روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا، أو يروى كذا، أو جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - كذا (1) .
وبعد فهذه تنبيهات في ضرورة توثيق الحديث الشريف من مصادره، دعاني إلى الكتابة فيها كثرة ما رأيت من مجانبة طرق التوثيق العلمي للحديث لدى كثير من المؤلفين والباحثين، بل عدم اكتراث بعضهم بذلك. فإن أصبت فيها فلله الحمد والفضل والمنة، وإن أخطأت فأرجو أن لا أحرم أجر المجتهد المخطئ.
والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا.
__________
(1) انظر هذا الموضوع في مقدمة ابن الصلاح 49 وتدريب الراوي 1 \ 297.(42/210)
حكم الطلاق في الحيض
د. سليمان بن فهد بن عيسى العيسى (1) .
المقدمة:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وأمينه على وحيه، أرسله الله رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وأزال الله به الغمة، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الأحكام المتعلقة بالطلاق في الحيض من حيث حكمه، وحكمة المنع منه وحكمة المراجعة بعده، ووقت الطلاق بعد الطلاق فيه من الأحكام الهامة الجديرة بالبحث؛ لذا رأيت أن أجمع فيها بحثا يجمع شتات تلك المسائل، ويجد فيه القارئ من طلبة العلم بغيته وأمنيته.
أما مسألة حكم الطلاق في الحيض من حيث الوقوع أو عدمه فهذه من أهم مسائل الموضوع، غير أنني أفردت لها بحثا مستقلا أسميته (الفيض في تحقيق حكم الطلاق في الحيض من حيث الوقوع أو عدمه) .
والله أسال أن ينفع به، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) أستاذ مشارك في كلية الشريعة بالرياض بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية (قسم الفقه) .(42/211)
المبحث الأول
في معنى الطلاق في الحيض
وحكم الطلاق في الحيض
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: معنى الطلاق:
وفيه فرعان:
الفرع الأول: معناه في اللغة:
الطلاق في اللغة له عدة معان منها التخلية والإرسال، يقال طلقت الناقة إذا سرحت حيث شاءت، وحبس فلان في السجن طلقا بغير قيد، وأطلقه فهو مطلق وطليق: سرحه، فهو رفع القيد مطلقا (1) ومنه الطلاق المعروف، قال الجوهري في الصحاح، وطلق الرجل امرأته تطليقا، وطلقت هي بالفتح تطلق طلاقا فهي طالق وطالقة أيضا قال الأعمش:
أجارتنا بيني فإنك طالق
قال الأخفش: لا يقال طلقت بالضم، ورجل مطلاق أي كثير الطلاق للنساء، وكذلك رجل طلقة مثال همزة.
وناقة طالق، ونعجة طالق؛ أي مرسلة ترعى حيث شاءت، والطالق من الإبل التي يتركها الراعي لا يحتلبها على الماء، يقال: استطلق الراعي ناقة لنفسه (2) .
الفرع الثاني: معناه في الشرع:
أما تعريف الطلاق في الشرع فمعناه متفق عليه بين الفقهاء على
__________
(1) انظر لسان العرب 12 \ 95 إلى 100، والقاموس وشرحه تاج العروس 6 \ 424 إلى 426.
(2) مختار الصحاح للجوهري 4 \ 1519.(42/212)
اختلاف مذاهبهم، وإن تفاوتت ألفاظهم، غير أن بعضهم يضيف بعض القيود الخاصة باللفظ.
قال الكمال بن الهمام في فتح القدير: وفي الشرع - يعني معناه في الشرع -: رفع قيد النكاح بلفظ مخصوص (1) .
وعرفه المالكية: بأنه صفة حكمية ترفع حلية متعة الزوج بزوجته موجبا تكررها مرتين للحر ومرة لذي رق (2) .
وعرفه الشافعية والحنابلة: بأنه حل قيد النكاح (3) وبناء على ما تقدم يتبين لنا أن معناه في الشرع ينصرف إلى حل القيد المعنوي، وهو في المرأة.
__________
(1) فتح القدير 3 \ 20.
(2) مواهب الجليل شرح مختصر الدليل 4 \ 18.
(3) انظر مغني المحتاج 3 \ 279 والمغني لابن قدامة 7 \ 66.(42/213)
المطلب الثاني: تعريف الحيض:
وفيه فرعان:
الفرع الأول: تعريفه في اللغة:
الحيض في اللغة: السيلان يقال: حاض الوادي: إذا سال، وحاضت الشجرة إذا سال صمغها، قال الجوهري في الصحاح: حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا، فهي حائض، وحائضة أيضا، عن الفراء.
ونساء حيض وحوائض، والحيضة المرة الواحدة، والحيضة بالكسر الاسم، والجمع الحيض، والحيضة أيضا: الخرقة التي تستثفر بها المرأة، قالت عائشة - رضي الله عنها: (ليتني كنت حيضة ملقاة) وكذلك المحيضة، والجمع المحائض، واستحيضت المرأة أي استمر بها الدم بعد أيامها فهي مستحاضة، وتحيضت، أي قعدت أيام حيضها عن الصلاة، وفي(42/213)
الحديث: «تحيضي في علم الله ستا أو سبعا، (1) » وحاضت السمرة حيضا، وهي شجرة يسيل منها شيء كالدم (2) .
هذا وقد نقل النووي - رحمه الله - في المجموع عن صاحب الحاوي أن للحيض ستة أسماء وردت في اللغة، أشهرها الحيض، والثاني الطمث، والثالث العراك، والرابع الضحك، والخامس الإكبار، والسادس الإعصار (3) .
الفرع الثاني: معناه في الشرع:
الحيض في الشرع: اختلفت فيه عبارات الفقهاء - رحمهمم الله - غير أن المعنى متقارب، فقد عرفه الكاساني الحنفي بأنه اسم لدم خارج من الرحم، لا يعقب الولادة، مقدر بقدر معلوم في وقت معلوم، فلا بد من معرفة لون الدم وحاله، ومعرفة خروجه ومقداره ووقته (4) .
وعرفه المالكية بأنه الدم الخارج من الفرج على عادة الحيض من غير علة ولا نفاس (5) .
وعرفها الشافعية: بأنه دم يرخيه رحم المرأة بعد بلوغها في أوقات معتادة (6) .
وعرفه الحنابلة: بأنه دم طبيعي يخرج مع الصحة من غير ولادة من قعر الرحم يعتاد أنثى إذا بلغت في أوقات معلومة (7) .
وبناء على ما تقدم فالحيض هو الدم الخارج من أقصى رحم المرأة في حال صحتها وبلوغها من غير ولادة ولا مرض، ولونه عادة أسود ذو رائحة كريهة.
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (128) ، سنن أبو داود كتاب الطهارة (287) ، سنن ابن ماجه كتاب الطهارة وسننها (627) ، مسند أحمد بن حنبل (6/439) .
(2) الصحاح للجوهري 3 \ 1073.
(3) انظر المجموع شرح المهذب 2 \ 34.
(4) بدائع الصنائع 1 \ 39.
(5) مقدمات ابن رشد المطبوع مع المدونة الكبرى للإمام مالك 1 \ 49.
(6) انظر المجموع للنووي 2 \ 342.
(7) كشاف القناع 1 \ 196.(42/214)
المطلب الثالث: حكم الطلاق في الحيض:
الطلاق في الحيض طلاق بدعي مخالف للسنة، وقد أجمع العلماء - رحمهم الله - على ذلك.
قال ابن المنذر ما نصه: (وأجمعوا على أن الطلاق السنة: أن يطلقها طاهرا في قبل عدتها (1) بل قد ذكر النووي وابن قدامة الإجماع على تحريمه) .
قال - رحمه الله - في شرح صحيح مسلم ما نصه: (أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض الحائل بغير رضاها فلو طلقها أثم) .
وقال ابن قدامة في المغني (وأما المحضور) فالطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه أجمع العلماء في جميع الأمصار وكل الأعصار على تحريمه ويسمى طلاق البدعة (2) .
الأدلة على تحريم الطلاق في الحيض:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (3) .
__________
(1) الإجماع لابن المنذر ص 79.
(2) المغني لابن قدامة 7 \ 97.
(3) سورة الطلاق الآية 1(42/215)
قال ابن جرير في تفسيره حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن إدريس قال سمعت الأعمش عن مالك بن الحارث، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله قال: الطلاق للعدة طاهرا من غير جماع. وروى ابن جرير أيضا بسنده عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يرى طلاق السنة طاهرا من غير جماع وفي كل طهر، وهي العدة التي أمر الله بها.
وروى بسنده أيضا عن مجاهد في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (1) قال طاهرا من غير جماع، وروى بسنده أيضا عن الحسن في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) قال: طاهرا من غير حيض، أو حاملا قد استبان حملها.
وعن ابن سيرين نحوه، وروي أيضا عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (3) قال: إذا طهرت من الحيض في غير جماع، قلت كيف؟ قال إذا طهرت فطلقها من قبل أن تمسها، فإن بدا لك أن تطلقها أخرى، تركتها حتى تحيض حيضة أخرى، ثم طلقها إذا طهرت الثانية، فإذا أردت طلاقها الثالثة، أمهلتها حتى تحيض، فإذا طهرت طلقها الثالثة، ثم تعتد حيضة واحدة، ثم تنكح إن شاءت.
هذا، وقد ذكر ابن جرير بسند عن الضحاك والسدي نحوا مما تقدم (4) .
وقد روى الدارقطني بسنده عن ابن عباس قال: (الطلاق على أربعة وجوه: وجهان حلال، ووجهان حرام، فأما الحلال فإنه يطلقها طاهرا من غير جماع، وأن يطلقها حاملا مستبينا، وأما الحرام فأن يطلقها وهي حائض، أو يطلقها حين يجامعها، لا تدري اشتمل الرحم على ولد أو لا (5) .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 1
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة الطلاق الآية 1
(4) جامع البيان للطبري 14 \ 129 وما بعدها.
(5) سنن الدارقطني 4 \ 5.(42/216)
ومن الأدلة على تحريم الطلاق في الحيض ما جاء في الصحيحين وغيرهم عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: «أنه طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال له: مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء (1) » .
وفي رواية لمسلم في قصة طلاق ابن عمر لزوجته: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليراجعها فردها وقال: إذا طهرت فليطلق أو يمسك. قال ابن عمر: وقرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن (2) » وفي راوية لمسلم أيضا عن سالم بن عبد الله، «أن عبد الله بن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال مره فليرجعها حتى تحيض حيضة أخرى مستقبلة سوى حيضتها التي طلقها فيها، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا من حيضتها قبل أن يمسها، (3) » فذلك الطلاق لعدة كما أمر الله، وكان عبد الله طلقها تطليقة واحدة فحسبت من طلاقها، وراجعها عبد الله كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فهذه الأدلة واضحة الدلالة على تحريم الطلاق في الحيض، ولهذا تغيظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطلاق ابن عمر في الحيض ولا يغضب - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا كان حراما، ويدل على الحرمة أيضا الأمر بإمساكها بعد المراجعة، ثم يطلقها في الطهر.
هذا وليعلم أن تحريم الطلاق في الحيض خاص بالمدخول بها، أما من لم
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 3 \ 458، 480، ومسلم في صحيحه 4 \ 180 وأبو داود في سننه رقم 1279 ورقم 2180، والنسائي 2 \ 94 والدارقطني 4 \ 6.
(2) صحيح مسلم 4 \ 183.
(3) صحيح مسلم ص180.(42/217)
يدخل بها فيجوز طلاقها حائضا وطاهرا، قال ابن القيم - رحمه الله - ما نصه: وأما من لم يدخل بها فيجوز طلاقها حائضا وطاهرا، كما قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (1) .
وقال تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (2) .
وهذه لا عدة لها، وبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء (3) » ولولا هاتان الآيتان اللتان فيهما إباحة الطلاق قبل الدخول لمنع من طلاق من لا عدة له عليها (4) .
هذا وقد قال ابن حجر في فتح الباري، إنه يستثنى من تحريم طلاق الحائض صور:
منها ما لو كانت حاملا، ورأت الدم، وقلنا الحامل تحيض فلا يكون طلاقا بدعيا، ولا سيما إن وقع بقرب الولادة، ومنها إذا طلق الحاكم على المولى، واتفق وقوع ذلك في الحيض، وكذا في صورة الحكمين إذا تعين ذلك طريقا لرفع الشقاق، وكذا الخلع (5) .
قال المرداوي في الإنصاف: اختلف الأصحاب في الطلاق في الحيض، هل هو محرم لحق الله، فلا يباح، وإن سألته إياه أو لحقها فيباح بسؤالها؟ فيه وجهان:
قال الزركشي: والأول ظاهر إطلاق الكتاب والسنة. قلت: وهو ظاهر كلام المصنف هنا وغيره (6) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 236
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) صحيح البخاري الطلاق (5252) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) .
(4) زاد المعاد 4 \ 43، الطبعة المصرية، الطبعة الثانية 1392هـ.
(5) فتح الباري شرح صحيح البخاري 9 \ 346 وما بعدها.
(6) الإنصاف للمرداوي 8 \ 449.(42/218)
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن، قال علماؤنا: طلاق السنة ما جمع سبعة شروط، وهي أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض، طاهرا لم يمسها في ذلك الطهر، ولا تقدمه طلاق في حيض، ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وطلاق عن العوض. انتهى (1) .
وهذه الشروط كلها مستنبطة من حديث ابن عمر المتقدم في قصة طلاق زوجته.
ومن صور طلاق السنة أيضا أن يطلقها وهي حامل، فقد جاء في بعض روايات حديث ابن عمر «أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا (2) » . رواه مسلم.
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 4 \ 264.
(2) صحيح مسلم 4 \ 181.(42/219)
المبحث الثاني
حكمة المنع من الطلاق في الحيض
وحكم المراجعة منه ووقت الطلاق بعده
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: حكمة المنع من الطلاق في الحيض:
اختلف العلماء - رحمهم الله - في حكمة المنع من الطلاق في الحيض على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
أن المنع من الطلاق في الحيض لكونه حال النفرة والزهد في الوطء، فلا يطلقها إلا في حال الرغبة في الوطء، وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية، وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة، فقد جاء في تبيين الحقائق(42/219)
للزيلعي ما نصه: (وليس له أن يطلقها في حالة الحيض؛ لأنها زمان النفرة، فلعله يندم في زمان الطهر عند توقان النفس إلى الجماع، فلا يملك تفويت ما جعل الشرع نظرا له ولا يقال إنما كره في حالة الحيض لأجل تطويل العدة لأنا نقول لو طلقها في حالة الحيض بعدما طلقها في طهر لم يجامعها فيه، كان مكروها، وليس فيه تطويل العدة (1) .
وجاء في الإنصاف ما نصه: " أكد الأصحاب على أن العلة في منع الطلاق في الحيض هي تطويل العدة، وخالفهم أبو الخطاب فقال: لكونه في زمن رغبة عنها.
القول الثاني:
أن الحكمة هي تطويل العدة، وهذا هو مذهب جمهور العلماء إذ هو المشهور من مذهب مالك والشافعي، وقول أكثر أصحاب أحمد، وهو قول في مذهب الحنفية، قال ابن رشد في مقدماته ما نصه: " وإنما نهى المطلق أن يطلق في الحيض؛ لأنه إذا طلق فيه طول عليها العدة، وأضر بها؛ لأن ما بقي من تلك الحيضة لا تعتد به في أقرائها، فتكون في تلك المدة كالمعلقة لا معتدة ولا ذات زوج ولا فارغة من زوج، وقد نهى الله عن إضرار المرأة بتطويل العدة عليها بقوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} (2) ، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يطلق المرأة ثم يمهلها، فإذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ولا حاجة له بها، ثم طلقها فأمهلها حتى شارفت انقضاء عدتها راجعها لتطول العدة عليها، فنهى الله عن ذلك بهذه الآية (3) .
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 2 \ 190.
(2) سورة البقرة الآية 231
(3) مقدمات ابن رشد مطبوع مع المدونه الكبرى لمالك 2 \ 74 وما بعدها.(42/220)
وقال النووي في روضة الطالبين ما نصه: " فصل الآيسة والصغيرة والتي ظهر حملها وغير الممسوسة لا بدعة في طلاقهن ولا سنة، إذ ليس فيه تطويل عدة ولا ندم بسبب ولد. انتهى. قلت ومقتضى كلامه بدعية الطلاق في الحيض؛ لأن فيه تطويل العدة (1) .
وجاء في المجموع شرح المهذب ما نصه: " ولأنه إذا طلقها حال الحيض أضر بها في تطويل العدة " (2) .
وجاء في الإنصاف للمرداوي الحنبلي ما نصه: " أكثر الأصحاب على أن العلة في منع الطلاق من الحيض هي تطويل العدة ".
وقال الكاساني: في بدائع الصنائع حول الطلاق في الحيض ما نصه: ولأن فيه - أي الطلاق في الحيض - تطويل العدة عليها؛ لأن الحيضة التي صادفها الطلاق فيه محسوبة من العدة، فتطول العدة عليها، وذلك إضرار بها (3) .
القول الثالث:
أن منع الطلاق في الحيض تعبدي لا يعقل معناه، وهذا القول ذكره ابن تيمية - رحمه الله - عن بعض المالكية، حيث قال ما نصه: وتنازعوا في علة منع طلاق الحائض: هل هو تطويل العدة كما يقوله أصحاب مالك والشافعي وأكثر أصحاب أحمد، أو لكونه حال الزهد في وطئها فلا تطلق إلا في حال رغبة الوطء؛ لكون الطلاق ممنوعا لا يباح إلا لحاجة كما يقوله أصحاب أبي حنيفة وأبو الخطاب من أصحاب أحمد، أو هو تعبد لا يعقل معناه كما يقوله بعض المالكية على ثلاثة أقوال. انتهى كلامه.
__________
(1) روضة الطالبين 8 \ 7 وما بعدها.
(2) انظر تكملة المجموع الثانية 17 \ 77.
(3) بدائع الصنائع 3 \ 94.(42/221)
وفي نظري أن الحكمة في المنع من الطلاق في الحيض تتضمن كل ما تقدم، فالإسلام نهى عن ذلك لحكمة عظيمة، ومصلحة شرعية لها مكانتها، تلك هي المحافظة على الأسرة ومراعاة جانب المرأة وحمايتها، أما المحافظة على الأسرة:
فلأن الطهر زمان رغبة الرجل في المرأة لا سيما في الطهر الذي لم يجامعها فيه؛ لأن الطلاق أيضا في الطهر المجامع فيه غير مشروع، وإذا كانت المرأة في حال طهر لم تجامع فيه كان الزوج على حال كمال في الرغبة بها، والرجل لا يطلق امرأته في زمان كمال الرغبة إلا لشدة الحاجة إلى الطلاق فيكون الطلاق واقعا للحاجة، ومثل هذا المطلق لا يلحقه الندم ولا يكون طلاق ضررا بخلاف زمان الحيض، فإن الطبيعة تنفر فيه عن المرأة، كذلك الأمر بالنسبة لما بعد الجماع فإن الرجل تضعف رغبته في زوجته، فقد يتسرع إلى إيقاع الطلاق دون حاجة حقيقية لإيقاعه.
وأما مراعاة جانب المرأة فإنها لو طلقت حائضا لطالت عدتها، فتعاني مزيدا من الانتظار والتربص، فتكون في تلك المدة كالمعلقة لا مطلقة ولا ذات زوج ولا فارغة من زوج، وقد نهى الشارع عن الإضرار بالمرأة قال تعالى {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (1) وهكذا نجد أن الإسلام قد منع من الطلاق في الحيض لما يترتب عليه من الضرر والإضرار، ولما يترتب على المنع منه من مصلحة ظاهرة للزوجين بل للأسرة جميعا، فلله الحمد على ذلك وله الحكمة البالغة في أمره ونهيه وقضائه وحكمه، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 231
(2) سورة المائدة الآية 50(42/222)
المطلب الثاني: في حكم المراجعة من الطلاق في الحيض وحكمتها وحكم الإجبار على الرجعة:
وفيه ثلاثة فروع:
الفرع الأول: حكم المراجعة من الطلاق في الحيض:
اختلف الفقهاء - رحمهم الله - في حكم المراجعة من الطلاق في الحيض على قولين:
القول الأول: وجوب المراجعة، وهو مذهب مالك، وقول في مذهب أبي حنيفة، وذكر ابن عابدين أنه الأصح، وهو رواية عند الحنابلة، وإليك بعض نصوص من ذكرت:
جاء في المدونة الكبرى للإمام مالك - (قلت) أرأيت الرجل يطلق امرأته وهي حائض أو نفساء أيجبره مالك قبل أن يراجعها (قال) قال مالك: من طلق امرأته وهي نفساء أو حائض أجبر على رجعتها إلا أن تكون غير مدخول بها، فلا بأس بطلاقها، وإن كانت حائضا أو نفساء (1) .
وجاء في حاشية رد المحتار لابن عابدين ما نصه: (وتجب رجعتها) - أي المطلقة في الحيض - على الصحيح (فيه) أي الحيض رفعا للمعصية، فإذا طهرت طلقها إن شاء أو أمسكها (2) .
وجاء في المغني لابن قدامة ما نصه: (وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أن الرجعة تجب واختارها، وهو قول مالك وداود (3) .
__________
(1) المدونة الكبرى للإمام مالك 2 \ 70 وانظر بداية المجتهد 2 \ 48.
(2) حاشية رد المختار لابن عابدين 3 \ 246.
(3) المغني لابن قدامة 7 \ 100.(42/223)
القول الثاني:
استحباب الرجعة وهو قول في مذهب الحنفية، وقول الشافعي، والمشهور في مذهب الحنابلة، وإليك بعض نصوص من ذكرت:
جاء في بدائع الصنائع ما نصه: " وإذا طلقها في حالة الحيض فالأفضل أن يراجعها؛ لما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - لما طلق امرأته في حالة الحيض أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها، ولأنه إذا راجعها أمكنه أن يطلقها للسنة فتبين منه بطلاق غير مكروه فكانت الرجعة أولى، ولو امتنع عن الرجعة لا يجبر عليها " (1) .
وجاء في روضة الطالبين للنووي ما نصه: فرع إذا طلق في الحيض طلاقا محرما استحب له أن يراجعها (2) .
وجاء في المغني لابن قدامة ما نصه: ويستحب أن يراجعها لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمراجعتها، وأقل أحوال الأمر الاستحباب ولأنه بالرجعة يزيل المعنى الذي حرم الطلاق، ولا يجب ذلك في ظاهر المذهب (3) .
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدل الموجبون للرجعة بقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر - رضي الله عنه - في قصة
__________
(1) بدائع الصناع للكاساني 3 \ 94.
(2) روضة الطالبين للنووي 8 \ 4.
(3) المغني لابن قدامة 7 \ 100.(42/224)
طلاق ابنه في الحيض المتقدمة: مره فليراجعها - قالوا والأمر يقتضي الوجوب، قالوا ولأن الرجعة تجري مجرى استبقاء النكاح، واستبقاؤه هاهنا واجب بدليل تحريم الطلاق؛ ولأن الرجعة إمساك للزوجة بدليل قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} (1) فوجب ذلك كإمساكها قبل الطلاق، ولما تتضمنه من رفع المعصية التي وقع فيها المطلق بالحيض.
__________
(1) سورة البقرة الآية 231(42/225)
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون باستحباب الرجعة بما يأتي:
قال ابن قدامة في المغني: ولنا أنه طلاق لا يرتفع بالرجعة فلم تجب عليه الرجعة فيه كالطلاق في طهر مسها فيه، فإنهم أجمعوا على أن الرجعة لا تجب، حكاه ابن عبد البر عن جميع العلماء، وما ذكروه من المعنى ينتقض بهذه الصورة، وأما الأمر بالرجعة فمحمول على الاستحباب كما ذكرنا انتهى (1) .
الترجيح والمناقشة:
قلت والذي يترجح لي هو القول بوجوب الرجعة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بها، والأمر يقتضي الوجوب إلا لصارف ولم يوجد، ودعوى تعذر ارتفاع الطلاق بالرجعة - على القول بوقوع الطلاق - لا يصح أن يكون صارفا للصيغة عن الوجوب؛ لجواز إيجاب رفع أثرها، وهو العدة وتطويلها، إذ بقاء الشيء بقاء ما هو أثره من وجه فلا تترك الحقيقة.
أما الاستدلال على عدم وجوب الرجعة من الطلاق في الحيض، بالقياس على عدم وجوبها من الطلاق في الطهر المجامع فيه، حيث هو مجمع عليه، كما ذكره ابن عبد البر فعنه جوابان:
الأول: عدم التسليم بدعوى الإجماع على عدم وجوب الرجعة من الطلاق في الطهر المجامع فيه، قال ابن القيم في شرح لسنن أبي داود ما نصه: " وقوله - صلى الله عليه وسلم - ثم ليطلقها طاهرا قبل أن يمس، دليل على أن طلاقها في الطهر الذي مس فيه ممنوع فيه، وهو طلاق بدعة، وهذا متفق عليه فلو طلق فيه قالوا لم يجب عليه رجعتها.
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 \ 101.(42/226)
قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن الرجعة لا تجب في هذه الصورة، وليس هذا الإجماع ثابتا وإن كان قد حكاه صاحب المغني أيضا، فإن أحد الوجهين في مذهب أحمد وجوب الرجعة فيه كما تجب في زمن الحيض (1) الجواب الثاني
لو سلمنا جدلا بدعوى الإجماع فإن قياس الرجعة من الطلاق في الحيض على الرجعة من الطلاق في الطهر المجامع فيه قياس مع الفارق لعدة وجوه:
الوجه الأول: أن الأمر بالارتجاع من الطلاق في الحيض جاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يأت من الطلاق في الطهر المجامع فيه، نعم قد جاء النهي عن إيقاع الطلاق في كل منهما، وكل منهما مخالف للسنة، وطلاق بدعة باتفاق العلماء كما تقدم، لكن الأمر بالمراجعة لم يأت إلا من الطلاق في الحيض.
الوجه الثاني: أن كثيرا من العلماء - رحمهم الله - قد فرقوا بينهما في الحكم، فقد جاء في المدونة الكبرى لمالك ما نصه: (قلت أرأيت إن طلقها في طهر جامعها فيه هل يأمره مالك بمراجعتها كما يأمره بمراجعتها في الحيض (قال) لا يؤمر بمراجعتها وهو قرء واحد وإنما الصواب أن يطلق في طهر لم يجامع فيه (2) .
وقال ابن حجر في فتح الباري بعد ذكره بالمراجعة من الطلاق في الحيض ما نصه: واتفقوا على أنها إذا انقضت عدتها أن لا رجعة وأنه لو طلق في طهر مسها فيه لا يؤمر بمراجعتها، كذا نقله ابن بطال وغيره لكن الخلاف فيه ثابت قد حكاه الحناطي من الشافعية وجها (3) .
__________
(1) شرح سنن أبي داود لابن القيم المطبوع مع عون المعبود 6 \ 248.
(2) المدونة الكبرى لمالك 2 \ 70.
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري 9 \ 349.(42/227)
وقال ابن رشد في بداية المجتهد: وكل من اشترط في طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه لم ير الأمر بالمراجعة إذا طلقها في طهر مسها فيه (1) .
الوجه الثالث: ما ذكره ابن القيم - رحمه الله - بقوله: (ولمن فرق بينهما أن يقول: زمن الطهر وقت للوطء وللطلاق، وزمن الحيض ليس وقتا لواحد منها، فظهر الفرق بينهما، فلا يلزم من الأمر بالرجعة في غير زمن الطلاق الأمر بها في زمنه، ولكن هذا الفرق ضعيف جدا فإن زمن الطهر متى اتصل به المسيس صار كزمن الحيض في تحريم الطلاق سواء ولا فرق بينهما.
الوجه الرابع: ذكره ابن القيم أيضا حيث قال: الفرق المؤثر عند الناس أن المعنى الذي وجب لأجله الرجعة إذا طلقها حائضا منتف في صورة الطلاق في الطهر الذي مسها فيه، فإنها إنما حرم طلاقها في زمن الحيض لتطويل العدة عليها، فإنها لا تحتسب ببقية الحيض قرءا اتفاقا فتحتاج إلى استئناف ثلاثة قروء كوامل، وأما الطهر فإنها تعتد بما بقي قرءا ولو كان لحظة فلا حاجة بها إلى أن يراجعها، فإن من قال الأقراء الأطهار كانت أول عدتها عنده عقب طلاقها، ومن قال هي الحيض استأنف بعد الطهر، وهو لو راجعها ثم أراد أن يطلقها لم يطلقها إلا في طهر، فلا فائدة في الرجعة، هذا هو الفرق المؤثر بين الصورتين (2)
__________
(1) بداية المجتهد 2 \ 49.
(2) شرح سنن أبي داود لابن القيم مطبوع مع عون المعبود 6 \ 248.(42/228)
الفرع الثاني: حكمة الأمر بالرجعة من الطلاق في الحيض:
قال ابن القيم - رحمه الله - في شرحه لسنن أبي داود: ثم اختلف الموجبون للرجعة في علة ذلك:
فقالت طائفة: إنما أمره برجعتها ليقع الطلاق الذي أراده الله في زمن(42/228)
الإباحة، وهو الطهر الذي لم يمسها فيه، فلو لم يرتجعها لكان الطلاق الذي ترتبت عليه الأحكام هو الطلاق المحرم، والشارع لا يرتب الأحكام على طلاق محرم، فأمره برجعتها ليطلق طلاقا مباحا، يترتب عليه أحكام الطلاق.
وقالت طائفة: بل أمره برجعتها عقوبة له على طلاقها في زمن الحيض فعاقبه بنقيض قصده وأمره بارتجاعها عكس مقصوده.
وقالت طائفة: بل العلة في ذلك أن تحريم الطلاق في زمن الحيض معلل بتطويل العدة، فأمره برجعتها ليزول المعنى الذي حرم الطلاق في الحيض لأجله (1)
__________
(1) شرح سنن أبي داود لابن القيم مطبوع مع عون المعبود 6 \ 242.(42/229)
الفرع الثالث: حكم الإجبار على الرجعة:
إذا قلنا بوجوب الرجعة، فإنه يجبر عليها في حال امتناعه، وقد صرح المالكية بذلك، فقد جاء في المدونة: قال مالك: من طلق امرأته وهي نفساء أو حائض أجبر على رجعتها إلا أن تكون غير مدخول بها فلا بأس بطلاقها، وإن كانت حائضا أو نفساء (1) زمن الإجبار ".
الذين أوجبوا الإجبار اختلفوا فيما بينهم في الزمن الذي يقع فيه الإجبار.
قال ابن رشد في بداية المجتهد: والذين قالوا يؤمر بالرجعة افترقوا فرقتين: فقوم رأوا أن ذلك واجب، وأنه يجبر على ذلك، وبه قال مالك وأصحابه. وقالت فرقة بل يندب إلى ذلك ولا يجبر، وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة، والثوري، وأحمد، والذين أوجبوا الإجبار اختلفوا في الزمان الذي يقع فيه الإجبار، فقال مالك وأكثر أصحاب ابن القاسم وغيره: يجبر ما لم تنقض عدتهم، وقال أشهب: لا يجبر إلا في الحيضة الأولى (2)
__________
(1) المدونة الكبرى للإمام مالك 2 \ 70.
(2) بداية المجتهد 2 \ 48.(42/229)
قلت: ومما تقدم يتضح اتفاقهم على أن العدة إذا انقضت أن لا رجعة، وقال ابن القيم - رحمه الله -: وقال بعض الموجبين إن أبى رجعتها أجبر عليها، فإن امتنع ضرب وحبس، فإن أصر حكم عليه برجعتها، وأشهد أنه ردها عليه فتكون امرأته؛ يتوارثان، ويلزمه جميع حقوقها حتى يفارقها فراقا ثانيا، قاله أصبغ وغيره من المالكية.
ثم اختلفوا، فقال مالك: يجبر على الرجعة إن طهرت ما دامت في العدة؛ لأنه وقت الرجعة، وقال أشهب إذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت لم تجب رجعتها في هذه الحال، وإن كانت في العدة؛ لأنه لا يجب عليه إمساكها في هذه الحال لجواز طلاقها فيه، فلا يجب عليه رجعتها فيه؛ إذ لو وجبت الرجعة في هذه الوقت لحرم الطلاق فيه (1)
__________
(1) شرح سنن أبي داود لابن القيم المطبوع مع عون المعبود 6 \ 244.(42/230)
المطلب الثالث: وقت الطلاق بعد الطلاق في الحيض وحكمة تأخيره إلى الطهر وبيان المراد بالطهر:
وفيه ثلاثة فروع:
الفرع الأول: وقت الطلاق لمريده بعد الطلاق في الحيض:
إذا طلق الرجل زوجته في الحيض فإنه يؤمر بالرجعة كما تقدم، لكن متى يجوز له أن يطلق إن رغب في الطلاق على قولين:
القول الأول:
أن عليه تأخير الطلاق إلى الطهر بعد الطهر الذي يلي حيضة الطلاق، ثم إيقاع الطلاق في الطهر إن أراده، وهذا هو قول أبي حنيفة في ظاهر الرواية عنه، وهو قول مالك، والأصح في مذهب الشافعي، والمشهور في مذهب الحنابلة، وإليك نصوص من ذكرت.(42/230)
جاء في حاشية ابن عابدين الحنفي ما نصه: ظاهر الرواية كما في الكافي، وظاهر المذهب، وقول الكل كما في فتح القدير: أنه إذا راجعها في الحيض أمسك عن طلاقها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فيطلقها ثانية، ولا يطلقها في الطهر الذي يطلقها في حيضه لأنه بدعي كذا في البحر والمنح وعبارة المصنف تحتمله. انتهت (1) .
وجاء في المدونة الكبرى لمالك ما نصه: (قلت) متى يطلقها إن أراد أن يطلقها بعدما أجبرته على رجعتها (قال) يمهلها حتى تمضي حيضتها التي طلقها فيها، ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها إن أراد. . قلت: وهذا قول مالك؟ قال: نعم (2) .
وجاء في روضة الطالبين للنووي ما نصه: إذا طلق الحيض طلاقا محرما استحب له أن يراجعها، فإن راجع فهل له تطليقها في الطهر التالي لتلك الحيضة؟ وجهان: أصحهما المنع (3) .
وجاء في الإنصاف للمرداوي ما نصه: الثانية طلاقها في الطهر المتعقب للرجعة بدعة في ظاهر المذهب، واختاره الأكثر، قاله الشيخ تقي الدين - رحمه الله - وقد قدمه في الفروع وصححه في الرعاية والقواعد وغيرهما.
القول الثاني:
أنه يجوز له أن يطلق في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق، وهو رواية لأبي حنيفة، ووجه في مذهب الشافعي، إلا أن الأصح عنه المنع وهو رواية عن أحمد وإليك بعض نصوص من ذكرت.
جاء في حاشية ابن عابدين ما نصه: قوله (فإذا طهرت طلقها إن شاء)
__________
(1) حاشية رد المختار لابن عابدين 3 \ 246.
(2) المدونة الكبرى لمالك 2 \ 70، وانظر بداية المجتهد 2 \ 48.
(3) روضة الطالبين للنووي 8 \ 4.(42/231)
ظاهر عبارته أن يطلقها في الطهر الذي طلقها في حيضه، وهو موافق لما ذكره الطحاوي، وهو رواية عن الإمام (1) .
وجاء في روضة الطالبين للنووي ما نصه: إذا طلق في الحيض. فإن راجع فهل له تطليقها في الطهر التالي لتلك الحيضة؟ وجهان أصحهما المنع (2) .
وجاء في الإنصاف للمرداوي: طلاقها في الطهر المتعقب للرجعة بدعة في ظاهر المذهب. وعنه يجوز، زاد في الترغيب: ويلزمه وطؤها (3) .
الأدلة:
أدلة القول الأول؛ والذي مفاده تأخير الطلاق إلى طهر بعد الطهر الذي يلي حيضة الطلاق:
استدلوا بما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر من رواية نافع عنه، ومن رواية ابنه سالم عنه: «أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر بن الخطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء (4) »
وفي رواية لمسلم عن نافع عن عبد الله: «أنه طلق امرأة له وهي حائض تطليقة واحدة، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض عنده حيضة أخرى، ثم يمهلها حتى تطهر من حيضتها، فإن أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء (5) »
__________
(1) حاشية رد المحتار لابن عابدين 3 \ 246.
(2) روضة الطالبين للنووي 8 \ 4.
(3) الإنصاف للمرداوي 8 \ 451.
(4) صحيح البخاري 7 \ 36 بكتاب الطلاق، وصحيح مسلم 4 \ 179.
(5) صحيح البخاري 7 \ 36 بكتاب الطلاق وصحيح مسلم 4 \ 179.(42/232)
وقد ذكر مسلم عدة روايات كلها تدل بأنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أذن في طلاقها بعد أن تطهر من تلك الحيضة ثم تحيض ثم تطهر.
أدلة القول الثاني؛ والذي مفاده جواز الطلاق في الطهر الذي يلي الحيضة التي فيها الطلاق:
استدلوا بما رواه مسلم في صحيحه عن قتادة قال سمعت يونس بن جبير قال سمعت ابن عمر يقول: «طلقت امرأتي وهي حائض، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليراجعها فإذا طهرت فإن شاء فليطلقها، (1) » وروى مسلم أيضا عن طريق عبد الملك عن أنس بن سيرين قال: «سألت ابن عمر عن امرأته التي طلق فقال: طلقتها وهي حائض، فذكر ذلك لعمر، فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: مره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها لطهرها، قال فراجعتها ثم طلقتها لطهرها، (2) » وروى مسلم أيضا عن طريق شعبة عن أنس بن سيرين أنه سمع ابن عمر قال: «طلقت امرأتي وهي حائض، فأتى عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال: مره فليراجعها ثم إذا طهرت فليطلقها (3) » .
فهذه الروايات تدل على جواز الطلاق في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق.
واستدلوا أيضا بأن التحريم إنما كان لأجل الحيض، فإذا طهرت زال موجب التحريم، فجاز طلاقها في هذا الطهر، كما يجوز في الطهر الذي بعده، وكما يجوز أيضا طلاقها فيه لو لم يتقدم طلاق في الحيض.
ومما يستدل به لهذا القول أيضا ما جاء في صحيح مسلم في بعض روايات حديث ابن عمر «مره فليراجعها ثم يطلقها طاهرا أو حاملا (4) » وفي لفظ: «ثم ليطلقها طاهرا من غير جماع (5) » .
__________
(1) صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن النسائي الطلاق (3555) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (2/130) .
(2) صحيح البخاري الطلاق (5252) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن الترمذي الطلاق (1176) ، سنن النسائي الطلاق (3390) ، سنن أبو داود الطلاق (2179) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2263) .
(3) صحيح مسلم 4 \ 182.
(4) صحيح مسلم 4 \ 181 وما بعدها.
(5) صحيح مسلم 4 \ 181 وما بعدها.(42/233)
الترجيح والمناقشة:
قلت وما تقدم من الأحاديث في قصة طلاق ابن عمر وأمره - صلى الله عليه وسلم - بالمراجعة والطلاق إن شاء في الطهر يتضمن مجموعتين:
المجموعة الأولى: وهي ما استدل بها الطرف الأول من أمره - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر بإمساكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك أو طلق.
المجموعة الثانية: وهي ما استدل بها الطرف الثاني والتي تدل على جواز الطلاق في الطهر الذي يلي الحيضة التي وقع فيها الطلاق، والأحاديث كلها صحيحة فما الجواب عن هذا؟ قلت: ساق أبو داود أكثر الروايات في سننه وقال بعد ذلك:
قال أبو داود: روى هذا الحديث عن ابن عمر يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم وأبو الزبير ومنصور عن أبي وائل، معناهم كلهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، وكذلك رواه محمد بن عبد الرحمن عن سالم عن ابن عمر، وأما رواية الزهري عن سالم ونافع عن ابن عمر: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، (1) » وروي عن عطاء الخراساني (2) عن الحسن عن ابن عمر نحو رواية نافع والزهري والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير. انتهى (3) .
وقال ابن القيم في شرحه لسنن أبي داود ما نصه: وأكثر الروايات في حديث ابن عمر مصرحة بأنه إنما أذن في طلاقها بعد أن تطهر من تلك الحيضة ثم تحيض ثم تطهر، هكذا أخرجاه في الصحيحين من رواية نافع عنه ومن رواية ابنه سالم عنه، وفي لفظ متفق عليه: «ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضها (4) » ومن لفظ آخر
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5252) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن الترمذي الطلاق (1175) ، سنن النسائي الطلاق (3390) ، سنن أبو داود الطلاق (2179) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) .
(2) صحيح مسلم 4 \ 181، وما بعدها.
(3) سنن أبي داود 2 \ 256.
(4) صحيح البخاري الطلاق (5252) .(42/234)
متفق عليه: «مره فليراجعها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التي طلق فيها (1) » ففي تعدد الحيض والطهر ثلاثة ألفاظ محفوظة متفق عليها من رواية ابنه سالم، ومولاه نافع، وعبد الله بن دينار وغيرهم، والذين زادوا قد حفظوا ما لم يحفظه هؤلاء، ولو قدر التعارض فالزائدون أكثر وأثبت في ابن عمر وأخص به فرواياتهم أولى؛ لأن نافعا مولاه أعلم الناس بحديثه، وسالم ابنه كذلك، وعبد الله بن دينار من أثبت الناس فيه، وأرواهم عنه، فكيف يقدم اختصار أبي الزبير ويونس بن جبير على هؤلاء (2) .
قلت: ومما تقدم من كلام أبي داود وابن القيم يترجح القول الأول المتضمن تأخير الطلاق إلى طهر بعد الطهر الذي يلي حيضة الطلاق، لما ذكراه من وجوه الترجيح، والله أعلم.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/130) .
(2) شرح ابن القيم لسنن أبي داود والمطبوع مع عون المعبود 6 \ 244.(42/235)
الفرع الثاني: حكمة تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني:
قال ابن القيم - رحمه الله -: وأما أصحاب القول الثاني - يعني الذين يرون تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني فاحتجوا بما تقدم من أمره - صلى الله عليه وسلم - بإمساكها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر وقد تقدم، قالوا: وحكمة ذلك من وجوه:
أحدها: أنه لو طلقها عقب تلك الحيضة كان قد راجعها ليطلقها، وهذا عكس مقصود الرجعة، فإن الله سبحانه إنما شرع الرجعة لإمساك المرأة وإيوائها، ولم شعث النكاح، وقطع سبب الفرقة، ولهذا سماه إمساكا، فأمره الشارع أن يمسكها في ذلك الطهر، وأن لا يطلق فيه حتى تحيض حيضة أخرى، ثم تطهر لتكون الرجعة للإمساك لا للطلاق.
قالوا: وقد أكد الشارع هذا المعنى حتى إنه أمر في بعض طرق هذا الحديث بأن يمسها في الطهر المتعقب لتلك الحيضة فإذا حاضت بعده(42/235)
وطهرت، فإن شاء طلقها قبل أن يمسها فإنه قال: «مره فليراجعها، فإذا طهرت مسها حتى إذا طهرت أخرى فإن شاء طلقها وإن شاء أمسكها (1) » ذكره ابن عبد البر وقال: الرجعة لا تكاد تعلم صحتها إلا بالوطء؛ لأنه المبتغى من النكاح، ولا يحصل الوطء إلا في طهر، فإذا وطئها حرم طلاقها فيه حتى تحيض ثم تطهر، فاعتبرنا مظنة الوطء محله، ولم يجعله محلا للطلاق.
الثاني: أن الطلاق حرم في الحيض لتطويل العدة عليها، فلو طلقها عقب الرجعة من غير وطء لم تكن قد استفادت بالرجعة فائدة، فإن تلك الحيضة التي طلقت فيها لم تكن تحتسب عليها من العدة، وإنما تستقبل العدة من الطهر الذي يليها، أو من الحيضة الأخرى على الاختلاف في الأقراء، فإذا طلقها عقب تلك كانت في معنى من طلقت ثم راجعها ولم يمسها حتى طلقها فإنها تبنى على عدتها في أحد القولين؛ لأنها لم تنقطع بوطء، فالمعنى المقصود إعدامه من تطويل العدة موجود بعينه، هنا لم يزل بطلاقها عقب الحيضة، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع حكم الطلاق جملة بالوطء فاعتبر الطهر الذي هو موضع الوطء، فإذا وطئ حرم طلاقها حتى تحيض ثم تطهر.
ومنها: أنها ربما كانت حاملا، وهو لا يشعر، فإن الحامل قد ترى الدم بلا ريب، وهل حكمه حكم الحيض، أو دم فساد؟ على الخلاف فيه فأراد الشارع أن يستبرئها بعد تلك الحيضة بطهر تام، ثم بحيض تام، فحينئذ تعلم هل هي حامل أو حائل؟ فإنه ربما يمسكها إذا علم أنها حامل فيه، وربما تكف هي عن الرغبة في الطلاق إذا علمت أنها حامل، وربما يزول الشر الموجب للطلاق بظهور الحمل، فأراد الشارع تحقيق علمها بذلك نظرا للزوجين، ومراعاة لمصلحتها، وحسما لباب الندم، وهذا من أحسن محاسن الشريعة.
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5332) ، صحيح مسلم الطلاق (1471) ، سنن الترمذي الطلاق (1175) ، سنن النسائي الطلاق (3396) ، سنن أبو داود الطلاق (2185) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (2/102) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) .(42/236)
وقيل: الحكمة فيه أنه عاقبه بأمره بتأخير الطلاق جزاء له على ما فعله من إيقاعه على الوجه المحرم.
ورد هذا بأن ابن عمر لم يكن يعلم التحريم.
وأجيب عنه: بأن هذا حكم شامل له ولغيره من الأمة، وكونه - رضي الله عنه - لم يكن عالما بالتحريم، يفيد نفي الإثم لا عدم ترتب هذه المصلحة على الطلاق المحرم في نفسه.
وقيل: حكمته أن الطهر الذي بعد تلك الحيضة هو من تحريم تلك الحيضة فهما كالقرء الواحد، فلو شرع الطلاق فيه لصار كموضع طلقتين في قرء واحد، وليس هذا بطلاق السنة.
وقيل: حكمته أنه نهى عن الطلاق في الطهر ليطول مقامه معها، ولعله تدعوه نفسه إلى وطئها وذهاب ما في نفسه من الكراهة لها، فيكون ذلك حرصا على ارتفاع الطلاق البغيض إلى الله المحبوب إلى الشيطان، وحضا على بقاء النكاح ودوام المودة والرحمة (1) .
وقال النووي - رحمه الله - في شرحه لصحيح مسلم ما نصه: فإن قيل ففي حديث ابن عمر هذا أنه أمر بالرجعة، ثم بتأخير الطلاق إلى طهر بعد الطهر الذي يلي هذا الحيض فما فائدة التأخير؟ فالجواب من أربعة وجوه:
أحدها: لئلا تصير الرجعة لغرض الطلاق، فوجب أن يمسكها زمانا كان يحل له فيه الطلاق، وإنما أمسكها لتظهر فائدة الرجعة، وهذا جواب أصحابنا.
والثاني: عقوبة له وتوبة من معصية باستدراك جنايته.
__________
(1) شرح ابن القيم لسنن أبي داود المطبوع مع عون المعبود 6 \ 246.(42/237)
والثالث: أن الطهر الأول مع الحيض الذي يليه وهو الذي طلق فيه كقرء واحد، فلو طلقها في أول الطهر لكان كمن طلق في الحيض.
والرابع: أنه نهى عن طلاقها في الطهر ليطول مقامه معها، فلعله يجامعها فيذهب ما في نفسه من سبب طلاقها فيمسكها (1) .
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 10 \ 60.(42/238)
الفرع الثالث: في بيان المراد بالطهر في قوله - صلى الله عليه وسلم: «ثم ليطلقها طاهرا (1) » اختلف العلماء - رحمهم الله - في المراد بالطهر في قوله - صلى الله عليه وسلم - «ثم ليطلقها طاهرا (2) » وفي لفظ «فإذا طهرت فليطلقها إن شاء (3) » هل المراد به انقطاع الدم، أو التطهير بالغسل أو ما يقوم مقامه من التيمم؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن المراد به انقطاع الدم، وهو قول الشافعي والمشهور من مذهب أحمد وبناء عليه يجوز طلاقها بانقطاع الدم مباشرة ولو لم تغتسل.
القول الثاني: التفصيل وهو قول الحنفية، ومفاده أنها إن طهرت لأكثر الحيض حل طلاقها بانقطاع الدم، وإن طهرت لدون أكثر الحيض لم يحل طلاقها حتى تصير في حكم الطاهرات بأحد ثلاثة أشياء: إما أن تغتسل، وإما أن تتيمم عند العجز وتصلي، وإما أن يخرج عنها وقت صلاة. قالوا: لأنه متى وجد أحد هذه الأشياء حكمنا بانقطاع الدم، وأقل مدة الحيض عند أبي حنيفة في المشهور عنه ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام (4) .
القول الثالث: أن المراد به التطهر بالغسل وهذا قول المالكية وهو
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3395) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2021) .
(2) سنن النسائي الطلاق (3395) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2021) .
(3) سنن النسائي الطلاق (3555) ، سنن أبو داود الطلاق (2179) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (2/102) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) .
(4) انظر بدائع الصنائع للكاساني 1 \ 40.(42/238)
قول في مذهب أحمد، هذه هي أقوال الفقهاء - رحمهم الله - في المراد بالطهر الذي يحل به الطلاق، وإليك بعض نصوص من ذكرت:
- جاء في روضة الطالبين مسائل: الأولى: قال لحائض أو نفساء: أنت طالق للبدعة طلقت في الحال، وإن قال للسنة لم تطلق حتى تشرع في الطهر ولا يتوقف على الاغتسال (1) .
- وجاء في تكملة المجموع شرح المهذب (فصل) وإن قال لها وهي حائض: إذا طهرت فأنت طالق طلقت بانقطاع الدم لوجود الصفة.
- وجاء في المغني ما نصه: (فصل) إذا انقطع الدم من الحيض فقد دخل زمان السنة، ويقع عليها طلاق السنة، وإن لم تغتسل كذلك قال أحمد، وهو ظاهر كلام الخرقي، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن طهرت لأكثر الحيض مثل ذلك، وإن انقطع الدم لدون أكثره، ولم يقع حتى تغتسل، أو تتيمم عند عدم الماء وتصلي، أو يخرج عنها وقت الصلاة، لأنه متى لم يوجد فما حكمنا بانقطاع حيضها.
هذا وبخصوص القول الثاني للحنابلة وهو اشتراط الغسل، فقد قال ابن قدامة في الكافي: وإن قال لها: إذا طهرت فأنت طالق، طلقت بانقطاع الدم نص عليه. . . وذكر أبو بكر قولا آخر: أنها لا تطلق حتى تغتسل؛ لأن بعض أحكام الحيض باقية (2) .
- وجاء في المدونة للإمام مالك ما نصه: (قلت) : أرأيت المرأة طهرت من حيضتها ولم تغتسل بعد، ألزوجها أن يطلقها قبل أن تغتسل أم حتى تغتسل في قول مالك؟ (قال) : لا يطلقها حتى تغتسل، وإن رأت القصة البيضاء (3) .
__________
(1) روضة الطالبين 8 \ 9.
(2) الكافي لابن قدامة 3 \ 195.
(3) المدونة الكبرى لمالك 2 \ 70.(42/239)
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول والذين يرون جواز الطلاق بمجرد انقطاع الدم: بأن انقطاع دم الحيض دليل على الطهر، ولو لم تغتسل فهي في حكم الطاهرات، فيصح منها الصوم، ولو لم تغتسل وتجب الصلاة في ذمتها، قالوا: والدليل على أنها طاهرة أنها تؤمر بالغسل ويلزمها ذلك ويصح منها، وتؤمر بالصلاة وتصح صلاتها، ولأن في حديث ابن عمر «فإذا طهرت طلقها إن شاء (1) » وقد طهرت بانقطاع الدم.
أدلة القول الثاني:
وهم الذين فرقوا بين ما إذا طهرت لأكثر الحيض أو لأقله: بأنها إذا طهرت لأكثر الحيض فيحكم بانقطاعه، فيصح الطلاق ويقع، ولو لم يغتسل، بخلاف ما إذا طهرت لدون أكثره، قالوا فإننا لا نحكم بانقطاعه فلا يقع الطلاق حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء، وتصلي أو يخرج عنها وقت الصلاة (2) .
أدلة القول الثالث:
استدلوا بما رواه النسائي في سننه من حديث المعتمر بن سليمان قال سمعت عبيد الله عن نافع عن عبد الله: «أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة، فانطلق عمر فأخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مر عبد الله فليراجعها، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها، فإن شاء أن يمسكها فليمسكها، فإنها العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء (3) » .
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3389) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2019) ، مسند أحمد بن حنبل (2/102) ، موطأ مالك الطلاق (1220) ، سنن الدارمي الطلاق (2262) .
(2) انظر المغني 7 \ 106
(3) سنن النسائي 6 \ 140 في باب ما يفعل إذا طلق تطليقة وهي حائض.(42/240)
قال ابن القيم عن هذا الحديث: وهذا على شرط الصحيحين وهو مفسر لقوله: فإذا طهرت فيجب حمله عليه (1) .
الترجيح والمناقشة:
قلت: والراجح، والله أعلم، هو القول الثالث والذي مضمونه أن قوله - صلى الله عليه وسلم - «ثم ليطلقها طاهرا (2) » يراد به التطهر بالغسل؛ لدلالة الحديث الذي رواه النسائي بسنده عن عبد الله بن عمر في قصة طلاقه لزوجته والذي فيه قوله - صلى الله عليه وسلم - «مره فليراجعها فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها (3) » . الحديث فهو مفسر لقوله - صلى الله عليه وسلم - «ثم ليطلقها طاهرا (4) » وقد تقدم قول ابن القيم - رحمه الله - بأن هذا الحديث على شرط الصحيحين. وقال ابن القيم لمناقشته للأقوال في هذه المسألة ما نصه: وسر المسألة أن الأحكام المترتبة على الحيض نوعان: منها ما يزول بنفس انقطاعه كصحة الغسل والصوم ووجوب الصلاة في ذمتها.
ومنها ما لا يزول إلا بالغسل كحل الوطء، وصحة الصلاة، وجواز اللبث في المسجد، وصحة الطواف، وقراءة القرآن على أحد الأقوال، فهل يقال الطلاق من النوع الأول أو الثاني؟
ولمن رجح إباحته قبل الغسل أن يقول: الحائض إذا انقطع دمها كالجنب يحرم عليها ما يحرم عليه، ويصح منها ما يصح منه، ومعلوم أن المرأة الجنب لا يحرم طلاقها، ولمن رجح الثاني أن يجيب عن هذا بأنها لو كانت كالجنب لحل وطؤها ويحتج بما رواه النسائي. . ثم ذكر - رحمه الله - الحديث السابق الذي ذكرته دليلا للقول الثالث، والذي فيه: «فإذا اغتسلت من
__________
(1) شرح سنن أبي داود لابن القيم المطبوع مع عون المعبود 6 \ 247.
(2) سنن النسائي الطلاق (3395) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2021) .
(3) سنن النسائي الطلاق (3396) .
(4) سنن النسائي الطلاق (3395) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2021) .(42/241)
حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها (1) » قال وهذا على شرط الصحيحين وهو مفسر لقوله «إذا طهرت» فيجب حمله عليه (2) .
هذا وقد رجح أيضا ابن حجر في الفتح هذا القول حيث قال: واختلف الفقهاء في المراد بقوله: طاهرا هل المراد به انقطاع الدم أم التطهر بالغسل؟ على قولين وهما روايتان عن أحمد والراجح الثاني. ثم استدل بالحديث المتقدم الذي رواه النسائي وقال: إنه مفسر لقوله «إذا طهرت» فليحمل عليه.
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3396) .
(2) شرح سنن أبي داود لابن القيم المطبوع مع عون المعبود 6 \ 247.(42/242)
قلت: وهذه المسألة مرتبطة بمسألتين أخريين:
إحداهما: هل تنقضي العدة بانقطاع الدم من الحيضة الثالثة وتنقطع الرجعة أم لا تنقطع الرجعة إلا بالغسل؟ خلاف بين أهل العلم، والراجح أنها لا تنقطع إلا بالغسل، وهو قول عدد من الصحابة، قال ابن قدامة في المغني (فصل) : إذا انقطع حيض المرأة في المرة الثالثة ولم تغتسل فهل تنقضي عدتها بطهرها؟ فيه روايتان ذكرهما ابن حامد إحداهما: لا تنقضي عدتها حتى تغتسل، ولزوجها رجعتها في ذلك، وهذا ظاهر كلام الخرقي فإنه قال في العدة: فإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة أبيحت بلا زواج، وهذا قول كثير من أصحابنا، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وسعيد بن المسيب والثوري وأبي عبيد، وروي نحوه عن أبي بكر الصديق وأبي موسى وعبادة وأبي الدرداء، وروي عن شريك: له الرجعة وإن فرطت في الغسل عشرين سنة، ووجه هذا قول من سمينا من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فيكون إجماعا، ولأن أكثر أحكام الحيض لا تزول إلا بالغسل وكذلك هذا.
قلت: ثم ذكر الرواية الثانية ومن قال بها، وهي أن العدة تنقضي بمجرد الطهر قبل الغسل، انتهى محل الغرض منه (1) .
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 \ 280 وما بعدها.(42/242)
ويدل على أن الرجعة لا تنقطع إلا بالغسل أيضا ما رواه البيهقي والطبري (1) بسنديهما عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنت جالسا عند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فجاء رجل وامرأته فقال: امرأتي طلقتها ثم راجعتها، فقالت المرأة: طلقني ثم تركني حتى إذا كان آخر ثلاث حيض، وانقطع عني الدم، ووضعت غسلي ونزعت ثيابي فقرع الباب وقال: قد راجعتك فتركت غسلي ولبست ثيابي، فقال عمر ما تقول فيها يا بن مسعود؟ فقال: أرى أنه أحق بها دون أن تحل لها الصلاة، وفي رواية ما لم تغتسل، فقال عمر: نعم ما رأيت وأنا أرى ذلك. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
__________
(1) انظر جامع البيان للطبري 2 \ 439 وما بعدها.(42/243)
المسألة الثانية:
هل يباح وطء الحائض بمجرد انقطاع الدم ولو لم تغتسل، أم لا بد من الاغتسال؟ على قولين للعلماء، والراجح أنه لا يباح الوطء إلا بعد الاغتسال، وهو قول جماهير أهل العلم؛ لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (1) .
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} (2) يعني اغتسلن، ولأن الله تعالى قد أثنى على المتطهرين، فدل على أنه فعل منهم أثنى عليهم من أجله، والفعل هذا هو الاغتسال دون انقطاع الدم، ثم إن الآية شرطت لإباحة الوطء شرطين: انقطاع الدم، والاغتسال، فلا يباح إلا بهما. وقد ذكر ابن قدامة عن ابن المنذر أنه كالإجماع، حيث قال - رحمه الله - في
__________
(1) سورة البقرة الآية 222
(2) سورة البقرة الآية 222(42/243)
المغني على قول الخرقي: (فإن انقطع دمها فلا توطأ حتى تغتسل) قال: وجملته: أن وطء الحائض قبل الغسل حرام، وإن انقطع دمها في قول أكثر أهل العلم، قال ابن المنذر: هذا كالإجماع منهم، وقال أحمد بن محمد المروزي لا أعلم في هذا خلافا. وقال أبو حنيفة: إن انقطع الدم لأكثر الحيض حل وطؤها، وإن انقطع لدون ذلك لم يبح حتى تغتسل، أو تتيمم أو يمضي عليها وقت صلاة؛ لأن وجوب الغسل لا يمنع من الوطء بالجنابة.
ولنا قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (1) يعني إذا اغتسلن، هكذا فسره ابن عباس؛ ولأن الله تعالى قال في الآية {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} (2) فأثنى عليهم، فيدل على أنه فعل منهم أثنى عليهم به، وفعلهم هو الاغتسال دون انقطاع الدم فشرط لإباحة الوطء شرطين: انقطاع الدم والاغتسال فلا يباح إلا بهما لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (3) لما اشترط لدفع المال إليهم بلوغ النكاح والرشد لم يبح إلا بهما، كذا هاهنا.
ولأنها ممنوعة من الصلاة لحدث الحيض فلم يبح وطؤها كما لو انقطع لأقل الحيض، وما ذكروه من المعنى منقوض بما إذا انقطع لأقل الحيض، ولأن حدث الحيض آكد من حدث الجنابة فلا يصح قياسه عليه (4) .
وقد قال ابن جرير الطبري في معنى قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} (5) الآية. قال: فتأويل الآية إذا: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا جماع نسائكم في وقت حيضهن ولا تقربوهن حتى يغتسلن فيتطهرن من حيضهن بعد انقطاعه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 222
(2) سورة البقرة الآية 222
(3) سورة النساء الآية 6
(4) المغني لابن قدامة 1 \ 338.
(5) سورة البقرة الآية 222(42/244)
ثم قال واختلف أهل التأويل في قوله {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} (1) فقال بعضهم: معنى ذلك: فإذا اغتسلن، وذكر أنه قول ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسفيان، وعثمان بن الأسود، والحسن وغيرهم. ثم قال: وقال آخرون: معنى ذلك فإذا تطهرن للصلاة، وذكر بسنده عن طاوس ومجاهد أنهما قالا: إذا طهرت المرأة من الدم فشاء زوجها أن يأمرها بالوضوء قبل أن تغتسل إذا أدركه الشبق فليصب، ثم قال: وأولى التأويلين بتأويل الآية قول من قال معنى قوله {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} (2) فإذا اغتسلن لإجماع الجميع على أنها لا تصير بالوضوء بالماء طاهرا الطهر الذي يحل لها الصلاة. . . وفي إجماع الجميع من الأمة على أن الصلاة لا تحل لها إلا بالاغتسال، أوضح الدلالة على صحة ما قلنا من أن غشيانها حرام إلا بعد الاغتسال وأن معنى قوله {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} (3) فإذا اغتسلن فصرن طواهر الطهر الذي يجزيهن به الصلاة (4) .
هذا ولم أفصل أقوال العلماء وأدلتهم في تلك المسألتين؛ لأنهما ليستا من موضوع البحث الذي هو الطلاق في الحيض، وقد أشرت إليهما لما لهما من صلة بموضوع قوله - صلى الله عليه وسلم - «ثم ليطلقها طاهرا (5) » وقد تحقق لنا من مجموع ما تقدم أن المراد به التطهر بالغسل. والله أعلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 222
(2) سورة البقرة الآية 222
(3) سورة البقرة الآية 222
(4) جامع البيان في تأويل آي القرآن للطبري 2 \ 386 وما بعدها.
(5) سنن النسائي الطلاق (3395) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2021) .(42/245)
خاتمة البحث: تتضمن أهم نتائجه:
لقد تبين لنا بعد هذا العرض الفقهي المفصل لموضوع الطلاق في الحيض ما يلي:
1 - إجماع عامة العلماء على تحريم طلاق الحائض المدخول بها، وأنه طلاق بدعة مخالف للسنة، ولهذا تغيظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من وقوعه في قصة طلاق ابن عمر.
2 - أن حكمة الشرع في المنع من طلاق الحائض لا تقتصر على مراعاة تطويل العدة عليها، بل تتضمن ذلك، وأيضا لأن مدة الحيض زمان النفرة والزهد في المرأة، ولهذا لم يأذن الشرع في الطلاق، إلا أن يكون في طهر لم يجامع فيه؛ لأجل أن يكون في حال الرغبة فيها، فلا يقدم الزوج على الطلاق إلا عند الحاجة إليه، وفي هذا كله مصلحة للزوجين معا وللأسرة جميعا.
3 - أن حكم المراجعة بعد الطلاق في الحيض محل خلاف بين أهل العلم: بين الوجوب والاستحباب. وقد تبين لنا أن القول الراجح هو الوجوب لأمره - صلى الله عليه وسلم - بذلك والأمر يقتضي الوجوب إلا لصارف، ولم يرد ما يصرفه عن الوجوب.
4 - أن الشارع إنما أمر بالرجعة من الطلاق في الحيض لحكم عظيمة وأسرار جسيمة.
5 - تبين لنا أن وقت الطلاق لمريده بعد الطلاق في الحيض هو الطهر الثاني لا الطهر الذي يلي الطلاق في الحيض كما قاله بعض أهل العلم وذلك لأن أكثر الروايات عن ابن عمر عليه.
6 - أن الشارع أمر بتأخير الطلاق إلى الطهر الثاني لحكم عظيمة.
7 - أن المراد بالطهر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثم ليطلقها طاهرا (1) » هو الاغتسال.
__________
(1) سنن النسائي الطلاق (3395) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2021) .(42/246)
بحث في حكم زكاة المال الحرام
الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع (1)
القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة
وعضو هيئة كبار العلماء
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
الزكاة عبادة مالية، فرضت في السنة الثانية من الهجرة، وقيل في السنة الرابعة، وهي إحدى دعائم الإسلام الخمس، جاءت النصوص الكثيرة من كتاب الله، ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشروعيتها، وغالبها مقرون بالصلاة وبالجهاد وبالصبر، دفعها مظهر لشكر الله تعالى على كرمه وتكرمه وفضله وتفضله. دافعها حري بمرضاة الله ورحمته ومغفرته، ومنعها سبب من أقوى الأسباب لغضب الله ومحق المال.
الزكاة في اللغة من زكا يزكو إذا نما، قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (2) وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (3) وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (4) وقال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} (5) فهي بما ذكر تدل على معان مشتركة هي: الطهارة والنماء والبركة والمدح.
__________
(1) ورد للكاتب ترجمة في العدد السابع من المجلة.
(2) سورة الروم الآية 39
(3) سورة التوبة الآية 103
(4) سورة الشمس الآية 9
(5) سورة النجم الآية 32(42/247)
فهي تزكية للمال بنمائه بإخراجها منه، وتطهير لدافعها من الآثام وسوء الأخلاق، من شح وبخل وحسد واستعلاء وطغيان. وفيها إغناء للفقراء والمساكين عن مذلة الفاقة والمسكنة والمتربة وتكفف الناس.
قال في شرح المنتهى في ذكر معاني دفعها: لأنها تطهر مؤديها من الإثم، أي تنزهه عنه، وتنمي أجره، أو تنمي المال أو الفقراء (1) ومعناها في الاصطلاح الشرعي: حق واجب في مال مخصوص لطائفة مخصوصة في وقت مخصوص، وهذه القيود في هذا التعريف مقصودة لإخراج ما قد يظن دخوله فيها باعتبار الزكاة حقا واجبا وأنها ليست تفضلا وتكرما من دافعها، وإنما هي حق تعلقت ملكيته بغير من هي بيده من ملاك الأموال الزكوية، فمنعها منع حق يلزم أداؤه لمستحقه.
وكون الزكاة واجبة في مال مخصوص يعني أن بعض الأموال لا تجب فيها الزكاة فهل المال الحرام من هذه الأموال غير الزكوية؟ .
مما تقدم يتضح أن للزكاة أهدافا أهمها:
1 - تطهير دافعها من الآثام وسوء الأخلاق.
2 - تنمية المال وازدياده بالعناية بإخراجها منه ودفعها إلى مستحقيها.
3 - إغناء الفقراء والمساكين عن العوز والحاجة ومذلة السؤال، وذلك بأدائها لهم على سبيل الاستحقاق.
وقد اشترط أهل العلم لوجوبها أن تكون في مال مملوك لصاحبه ملكا تاما مستقرا، فلا زكاة في وقف، ولا زكاة على سيد مكاتب في دين كتابة لعدم استقراره، ولا في صداق قبل الدخول، ولا في حصة مضارب من الربح قبل القسمة.
__________
(1) شرح المنتهى ج1 ص363.(42/248)
كما اشترطوا أن يكون المالك مسلما لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث معاذ بن جبل: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم (1) » فقد جعل وجوب الزكاة عليهم بعد استجابتهم إلى الشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله.
ونظرا إلى أن موضوع البحث حكم الزكاة في المال الحرام، فإن الوصول إلى حكم ذلك قد لا يتيسر قبل النظر في الاعتبارات التالية:
1 - حكم وجوب الزكاة في مال المسلم مطلقا سواء أكان هذا المال حلالا أو حراما.
2 - النظر في وجه حرمة المال الحرام حيث إن التحريم إما أن يكون متعلقا بذات المال نفسه كالخمور والمخدرات والخنازير وآلات اللهو، وإما أن تكون الحرمة متعلقة بصفة عالقة بذلك المال يمكن التخلص منها وتعود للمال إباحته، وفي حال بقائها فإن تلك الصفة لا تعود على المال نفسه بالتحريم تحريما ذاتيا كحرمة الخمر والخنزير، فهل لهذا التفريق أثر في وجوب الزكاة في هذا المال أو سقوطها. .؟
3 - هل لتخلف بعض أهداف إخراج الزكاة أثر في سقوط وجوبها أو بقاء الوجوب؟
4 - التفريق بين مال حرام لوصفه تاب مالكه من الاستمرار في اكتسابه توبة نصوحا، ولا يزال هذا المال في يده وبين من بيده المال الحرام ولا يزال مصرا ومستمرا في ممارسة اكتسابه.
هذه الاعتبارات يمكن اعتبارها مباحث أربعة يقتضي كل مبحث منها إفراده ببحث مستقل به، والله المستعان.
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4347) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2522) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .(42/249)
المبحث الأول
حكم وجوب الزكاة في مال المسلم مطلقا
من المعلوم بالضرورة أن الزكاة أحد أركان الإسلام الخمسة، فرضها الله تعالى في كتابه العزيز، وأكد فرضيتها في آيات كريمة من كتابه الكريم، مقرونة تارة بالصلاة، وتارة بالتقوى، وتارة بالإيمان، وتارات بمجموعة من وجوه البر والإحسان، وقرن تركها بالشرك بالله والكفر بالمعاد، قال تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (1) {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (2) {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (3) {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} (4) {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} (5) {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} (6) .
وأكد فرضيتها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجموعة من الأحاديث الصحيحة ومنها حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا (7) » ومنها حديث جبريل الطويل في صحيح مسلم وفيه: «أخبرني عن الإسلام (8) » فذكر الإسلام بأركانه الخمسة، ومنها إيتاء الزكاة. ومنها حديث معاذ بن جبل في الصحيحين وفيه: «فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم (9) » . أجمع الصحابة على مشروعية قتال مانعها، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر بعده، وكفر من كفر من العرب، قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها عصم مني
__________
(1) سورة المدثر الآية 42
(2) سورة المدثر الآية 43
(3) سورة المدثر الآية 44
(4) سورة المدثر الآية 45
(5) سورة المدثر الآية 46
(6) سورة المدثر الآية 47
(7) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/93) .
(8) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .
(9) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .(42/250)
ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله، (1) » فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها، فقال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر - رضي الله عنه - فعرفت أنه الحق.
فالزكاة واجبة في مال كل مسلم بشرطه، وقد اشترط العلماء - رحمهم الله - لوجوب الزكاة في المال أن يكون مملوكا لمن هو بيده ملكا تاما، وقد ذكر الشيخ منصور البهوتي: أن معنى تمام الملك ألا يتعلق به حق غيره، بحيث يكون له حق التصرف فيه حسب اختياره وفوائده عائدة عليه، وذكر أن الزكاة في مقابلة تمام النعمة والملك الناقص ليس بنعمة تامة (2) .
ومما تقدم يتضح أن المسلم يجب عليه أن يخرج زكاة ما عنده من مال له حق التصرف فيه التصرف المطلق. أما إذا كان المال الذي بيده متعلقا بحق غيره كأن يكون مغصوبا أو مسروقا أو منهوبا أو وديعة عنده أو دينا في ذمته، فهذا زكاته على مالكه لا على من هو بيده.
وإذا كان المال الحرام نتيجة تعامل ربوي مثلا بحيث لا يعرف من كان متعاملا معه بالربا فإن هذا المال بيده يتصرف فيه، وله فوائده ونماؤه، فهل يعتبر هذا المال ملكا تاما بيد مسلم تجب عليه الزكاة فيه؟ .
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1400) ، صحيح مسلم الإيمان (20) ، سنن الترمذي الإيمان (2607) ، سنن النسائي الجهاد (3092) ، سنن أبو داود الزكاة (1556) ، مسند أحمد بن حنبل (1/19) .
(2) شرح منتهى الإرادات جـ1 ص 367.(42/251)
المبحث الثاني
في معرفة وجه حرمة المال وأثر ذلك على التملك
قد تكون حرمة المال في ذات المال نفسه كالخمور والمخدرات والخنازير والأصنام والأوثان وآلات اللهو المحرمة، وقد تكون حرمة المال لمعنى تعلق(42/251)
بالمال نفسه لأخذه بلا عهد ولا عقد ولا عوض كالأعيان المغصوبة والمسروقة والمنهوبة والمصادرة بغير حق. وقد تكون حرمة المال لوصف علق به وأصله مباح، كالمعاملات الربوية في قضايا الصرف والربا، فالزيادة في ذلك ربا فضل، والتأجيل في الاستيفاء لأحد العوضين ربا نسيئة، فلو خلصت المعاملة من الزيادة والتأجيل لزالت الصفة الموجبة للتحريم.
لقد فرق بعض العلماء في الأحكام بين ما كان حراما في ذاته وأصله، وما كان حراما لوصف تعلق به مع إباحة أصله.
فاختلفوا في صحة الصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب أو المصنوع من حرير، فذهب بعضهم إلى صحة الصلاة مع إثم المصلي في ذلك.
قال في المقنع وحاشيته:
ولا تصح الصلاة. . . والموضع المغصوب وعنه تصح مع التحريم. اهـ (1) .
وقال في الحاشية:
ولا تصح الصلاة في الموضع المغصوب في أظهر الروايتين وأحد قولي الشافعي، والرواية الثانية تصح، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، والقول الثاني للشافعي؛ لأن النهي لا يعود إلى الصلاة فلم يمنع صحتها. اهـ (2) .
وقال في المقنع وحاشيته:
ومن صلى في ثوب من حرير أو غصب لم تصح صلاته وعنه تصح مع التحريم. اهـ (3) .
__________
(1) جـ1 ص 127.
(2) جـ1 ص127، ص128.
(3) جـ1 ص116.(42/252)
قال في الحاشية:
وعنه تصح مع التحريم، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي؛ لأن النهي لا يعود إلى الصلاة اهـ (1) .
وقد قالوا بإباحة ما يأخذه الأجير على إجارة مباحة ممن لا يتورع من أكل الربا، وغيره من الأموال الحرام، إذا لم تكن الأجرة محرمة في ذاتها كالخمر والخنزير، فقد ثبت «أن امرأة يهودية استأجرت علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على سقي بستان لها بتمرات، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقره على ذلك» .
ومن وجبت له نفقة على من لا يتورع عن أكل المال الحرام فله أخذها منه إذا لم يكن من مال حرام بذاته، فإن ابن مسعود - رضي الله عنه - سئل عن رجل يعامل بالربا إذا أضاف غيره فقال ابن مسعود: كل فإن مهناه لك وحسابه عليه. اهـ (2) .
ومن كان وارثا فله حقه الإرثي من مورثه من غير نظر إلى وسائل كسب هذا المال من المورث إلا أن يكون في المال الموروث مالا حراما بذاته كالخمور والخنازير وغيرها، فلا يجوز أخذها بل يجب إتلافها.
وقد اتجه جمهور أهل العلم إلى وجوب الزكاة في الحلي المحرم وإن كان معدا للاستعمال كالأواني الذهبية والفضية والحلي المحرم على الرجال، فلم يكن التحريم موجبا لسقوط الزكاة، لأن التحريم لم يتعلق بذات المحرم بل تعلق بوصف صار سبب تحريمه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
وأما ما يحرم كالأواني ففيه الزكاة. . وأما حلية الفرس كالسرج
__________
(1) جـ1 ص117.
(2) مجموع الفتاوى جـ29 ص 247.(42/253)
واللجام والبرذون فهذا فيه الزكاة عند جمهور العلماء، وقد منع من اتخاذه مالك والشافعي وأحمد، وكذلك الدواة والمكحلة ونحو ذلك فيه الزكاة عند الجمهور، سواء كان فضة أو ذهبا. اهـ (1) .
وقال في شرح المنتهى:
وتجب الزكاة في حلي محرم، وآنية ذهب، أو فضة؛ لأن الصناعة المحرمة كالعدم. اهـ (2) .
كما اتجهوا إلى تصحيح حج من حج على راحلة مسروقة أو مغصوبة مع قيام الإثم على من حج عليها. وكذلك تصحيح حج امرأة سافرت بلا محرم مع قيام الإثم عليها لحجها بدون محرم.
وقالوا - رحمهم الله - ببطلان صلاة من صلى في ثوب نجس، أو بدن فيه نجاسة، أو بقعه نجسة، وقالوا بحرمة أخذ الأجرة من مال حرام بذاته كالخمر والخنزير وآلات اللهو ونحوها، وقالوا بحرمة أخذ المال الحرام من الذمي جزية إذا كان المال حراما بذاته كالخمر والخنزير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
قال عمر بن الخطاب: ولو هم بيعها وخذوا أثمانها. وهذا كان سببه أن بعض عماله أخذ خمرا في الجزية، وباع الخمر لأهل الذمة، فبلغ ذلك عمر فأنكر ذلك وقال: ولو هم بيعها وخذوا أثمانها. اهـ (3) .
وقالوا: يحرم شراء سلعة يعرف الراغب في شرائها أن عارضها للبيع
__________
(1) مجموع الفتاوى جـ25 ص 17.
(2) شرح المنتهى جـ1 ص404.
(3) مجموع الفتاوى جـ29 ص 265.(42/254)
لا يملكها، وأنها بيده على سبيل الغصب أو النهب أو السرقة، وأن مالكها. . . . . . . . . .
هذه الأمثلة تدل على التفريق في الحكم بين ما كان حلالا بأصله وذاته ولكن تعلق به وصف أوجب حرمته، وبين ما كان حراما بأصله كالخمر والخنزير، فهل لهذا التفريق في وجوب الزكاة في المال الحرام لوصف تعلق به دون ذاته أثر؟ وهل يعتبر المال الحرام لوصفه دون ذاته مملوكا إلى من هو بيده؟ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وأما المقبوض بعقد فاسد كالربا والميسر ونحوهما فهل يفيد الملك على ثلاثة أقوال للفقهاء:
أحدها: أنه يفيد الملك وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: لا يفيده وهو مذهب الشافعي، وأحمد في المعروف من مذهبه.
والثالث: أنه إن فات أفاد الملك وإن أمكن رده إلى مالكه ولم يتغير في وصف ولا سعر لم يفد الملك وهو المحكي عن مذهب مالك. اهـ (1) .
فتلخص من هذا المبحث أن المال الحرام نوعان:
أحدهما: حرام لذاته كالخمر والخنزير، أو حرام على من هو بيده لأخذه بغير حق كالغصوب والمسروقات والودائع المجحودة، فهذا لا يجوز أن تنسب ملكيته لمن هو بيده، ولا يجوز المعاوضة به، ولا التصرف فيه تصرف المالك في ملكه المباح، ويلزم من هو بيده من المسلمين التخلص منه بإتلاف ما لا يجوز تملكه لحرمة ذاته، وبرد الغصوب والودائع والمسروقات إلى أهلها، وليس في هذا النوع زكاة على من هو بيده.
__________
(1) مجموع الفتاوى جـ29 ص 327، ص328.(42/255)
الثاني: حرام لوصفه كالربا والميسر، فهذا للعلماء في اعتبار ملكيته لمن هو بيده ثلاثة أقوال تقدم ذكرها، ولعل الثالث منها أقربها إلى الصواب، والله أعلم، فهذا النوع إخراج الزكاة منه أدنى حد للتخلص منه.(42/256)
المبحث الثالث
في أثر تخلف بعض أهداف الزكاة على وجوبها
تقدم لنا أن للزكاة أهدافا عدة، أهمها تطهير دافعها من الآثام وسوء الأخلاق وتنمية المال بدفعها واستقرار حق أهل الزكاة فيها.
لا شك أن من بيده مال حرام، فدفع الزكاة منه، قد لا يطهره مما اكتسب من هذا المال الحرام، كما أن الزكاة لا تنمي مالا حراما؛ حيث إن الزكاة في مقابلة تمام النعمة والمال الحرام ليس بنعمة، ولكن نظرا إلى أن هذا المال بيد مسلم وهو لبنة اجتماعية في الكيان الإسلامي المكون من فئات من الناس ما بين غني وفقير وتقي وفاسق، وقد استقرت حقوق الفقراء في أموال الأغنياء يدفعونها لهم طوعا أو كرها، والمال الحرام إذا كان حراما لوصفه ووسيلة اكتسابه كالمال الربوي والحلي المحرم، تعتبر يد من يضعها عليه يد تمليك على القول المختار، فهل لبقاء هذا الهدف - حق الفقراء في المال - أثر في بقاء وجوب الزكاة في هذا المال؟ .
يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الزكاة واجبة في الأموال التي بيد المتناهبين من الأعراب إذا لم يعرف لها مالك معين فقال - رحمه الله -: والأموال التي بأيدي هؤلاء الأعراب المتناهبين إذا لم يعرف لها مالك معين فإنه يخرج زكاتها فإنها إن كانت ملكا لمن هي في يده كانت زكاتها عليه، وإن لم تكن ملكا له ومالكها مجهول لا يعرف فإنه يتصدق بها كلها فإذا(42/256)
تصدق بقدر زكاتها كان خيرا من أن لا يتصدق بشيء منها فإخراج قدر الزكاة منها أحسن من ترك ذلك على كل تقدير - وقال في موضع آخر - وإن كان لا يعرف لها أعيان المملوك ولا مقدار ما أخذه هؤلاء من هؤلاء، ولا هؤلاء من هؤلاء بل يجوز أن يكون مع الواحد أقل من حقه وأكثر ففي مثل هذا يقر كل واحد على ما في يده إذا تاب من التعاون على الإثم والعدوان، فإن المجهول كالمعدوم يسقط التكليف به ويزكي ذلك المال كما يزكيه المالك. اهـ (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى حـ30 ص 325، ص327(42/257)
المبحث الرابع
التفريق بين مال حرام بيد تائب عن تكسبه
ومال حرام بيد من هو مستمر على الاستزادة منه
أجمع العلماء على أن من بيده أموال حرام من مكاسب خبيثة متعددة وكان كافرا فأسلم فإنه يقر على ما بيده من أموال إذا لم تكن أموالا حراما لذاتها كالخمور والخنازير؛ لأن الإسلام يجب ما قبله.
وذكر مجموعة من المحققين من أهل العلم أن نهائب الأعراب إذا تابوا وجهل أصحاب هذه النهائب أن الأعراب التائبين يقرون على ما بيدهم من أموال حرام إذا كانوا فقراء لا سيما إذا كانت هذه النهائب مجهولا أصحابها.
وقد تقدم النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الجزء الثلاثين من مجموع الفتاوى ص 325 - 327.
وفي الدرر السنية ما نصه:
جاء في إجابة للشيخ عبد الله العنقري قال: ذكر الشيخ عبد الله أبابطين(42/257)
وغيره من مشائخ هذه الدعوة أن البدوي إذا عرف ماله عند حضري قد اشتراه من بدوي آخر ليس له انتزاعه منه إذا كان كل من البدويين ينهب من الآخر، ومثل البدو اليوم الذي أرى أنه إن كان المال الذي عرفه عند أخيه المسلم قد أخذه منه قبل أن يتوب عن حاله الأولى فالظاهر أنه ما ينزعه من أخيه المسلم لأنه أخذه منه وهو في حال كل منهما يأخذ مال صاحبه، وإن كان المال أخذ بعد التوبة فهو يأخذه ممن وجده عنده بغير بذل ثمن. اهـ (1) .
وقال الشيخ عبد الله العنقري في جواب له عن العدائل المجهول صاحبها وهي المنائح: العلماء - رحمهم الله - قد ذكروا أن المال المجهول صاحبه يتصدق به صاحبه مضمونا أو يدفعه إلى الحاكم، وقد أفتى الشيخ تقي الدين أن الغاصب إذا تاب جاز له الأكل مما بيده من المال المغصوب مع معرفة المالك وعدمها، وقد يؤخذ منه أن المسئول عنه أولى بجواز أكل ما بيده من المذكور إذا كان فقيرا. اهـ (2) .
وذكر بعض أهل العلم ومحققيهم أن من بيده أموال محرمة بوصفها لا بأصلها كالأموال الربوية مما ليس لها أفراد معينون، وهي مختلطة بماله الحلال وبثمن مجهوده في الاكتساب بها، فإذا تاب من بيده هذه الأموال توبة نصوحا مستكملة شروط التوبة إلى الله تعالى فإنه يقر على ما بيده وتوبته النصوح تجب ما قبلها ويعتبر ما بيده ملكا له يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} (3) . وذكروا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وأن الموعظة أعم من أن تحصر في
__________
(1) الدرر السنية جـ5 ص 214.
(2) الدرر السنية جـ5 ص217.
(3) سورة البقرة الآية 275(42/258)
انشراح صدر الكافر إلى الإسلام، وقالوا في توجيه هذا القول: إن الأخذ بهذا يدعو أهل الفسوق إلى التوبة إلى الله، وأن القول بغير هذا وذلك بحرمانه مما بيده قد يسد عليه باب التوبة إلى الله ويعين الشيطان عليه في الاستمرار على أخذ المال الحرام والتعاون على الإثم والعدوان.
وأجابوا عن الآية الكريمة: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1) بأن هذه الآية خاصة بالأموال الذممية المشتملة على الفوائد الربوية، فمن كان له في ذمة أحد الناس مبلغ من المال بعضه ربا، فالتوبة تقتضي أن يتقاضى رأس ماله فقط، ويسقط ما زاد عنه من فائدة ربوية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في معرض كلامه عن المقبوض بعقد فاسد يعتقد صاحبه صحته ثم ظهرت له عدم الصحة ما نصه: وأما إذا تحاكم المتعاقدان إلى من يعلم بطلانها قبل القبض أو استفتياه إذا تبين لهما الخطأ، فرجع عن الرأي الأول، فما كان قد قبض بالاعتقاد الأول أمضي، وإذا كان قد بقي في الذمة رأس المال وزيادة ربوية أسقطت الزيادة، ورجع إلى رأس المال، ولم يجب على القابض رد ما قبضه قبل ذلك بالاعتقاد الأول اهـ (2) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله -: أقول: اختار الشيخ تقي الدين أن المقبوض بعقد فاسد غير مضمون، وأنه يصح التصرف فيه؛ لأن الله تعالى لم يأمر برد المقبوض بعقد الربا بعد التوبة، وإنما رد الذي لم يقبض؛ ولأنه قبض برضى مالكه فلا يشبه المغصوب
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) مجموع الفتاوى جـ29 ص413.(42/259)
ولأن فيه من التسهيل والترغيب في التوبة ما ليس في القول بتوقيف توبته على رد التصرفات الماضية مهما كثرت وشقت، والله أعلم. اهـ (1) .
أما إذا كانت الأموال المحرمة لأفراد معروفين فمن شروط التوبة إرجاعها إليهم، وإذا كانت محرمة بأصلها كالخمور والخنازير، فمن تمام التوبة التخلص منها بإراقة الخمور وإتلاف أنواعها من مخدرات ونحوها.
والمال الحرام إذا كان حراما لوصفه لا لذاته فهو مال منسوب لمن هو بيده لا سيما إذا كان صاحبه مجهولا، وتقدم النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية في خلاف العلماء في تملكه على ثلاثة أقوال أقربها إلى الصواب أنه إن فات أفاد الملك وإن أمكن رده إلى مالكه ولم يتغير بوصف ولا سعر لم يفد الملك (2) . كما تقدم النقل عن شيخ الإسلام في إخراج الزكاة منه (3) .
ومما تقدم يتضح أن المال الحرام إما أن يكون حراما لذاته كالخمر والخنزير فهذا لا يعتبر مالا زكويا، ويجب على من بيده هذا المال التخلص منه بإتلافه، والإمساك عليه إثم وعصيان. وإما أن يكون المال الحرام غصوبا أو سرقات أو منهوبات أو ودائع مجحودة، فإن كان أصحابها معلومين فيتعين إعادتها إليهم، ويقومون هم بإخراج زكاتها بعد قبضها ممن هي بيده. وإن كانوا مجهولين تعين إخراج زكاتها على من هي بيده ثم التصدق بها عنهم، وقد تقدم النص على إخراج زكاتها.
وإن كان المال حراما بوصفه لا بأصله كالأموال الربوية، فيده عليه يد تملك، فيجب عليه إخراج زكاته؛ لأنه مال منسوب إلى مسلم متعبد بجميع أحكام الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج وغيرها، فإذا وجد منه تجاوز
__________
(1) الفتاوى السعدية ص321.
(2) مجموع الفتاوى جـ29 ص327، ص328.
(3) مجموع الفتاوى جـ 30 ص 325، ص 327(42/260)
وتعد في التقيد ببعض المقتضيات الشرعية أمرا أو نهيا، فإذا لم يكن تعديه موجبا لخروجه من ملة الإسلام، فإن تجاوزه وتعديه لا يعفيه من القيام بالفرائض الأخرى، وعليه إثم تجاوزه وتقصيره وتعديه، فهو مؤمن بإيمانه فاسق بعصيانه.
فجمهور أهل العلم قالوا بتأثيم من يمتلك حليا محرما كالأواني الذهبية والفضية، ومع ذلك قالوا بوجوب الزكاة فيها، وإن كانت معدة للقنية، وإذا كان من أهداف الزكاة تطهير دافعها من الإثم وسوء الأخلاق، وتنمية المال بإخراجها منه، فالمصر على التمسك بالمال الحرام والاستمرار في الاستزادة منه ليس أهلا لتطهيره من الآثام، وليس ماله الحرام أهلا ليسير نمائه وزيادته.
إذا كان من أهداف الزكاة التطهير والنماء وليس ذلك متحققا في المال الحرام فإن من أهداف الزكاة تعلق حقوق الفقراء في الأموال الزكوية مما بيد إخوانهم المسلمين، وهذا الهدف قد يكفي وحده باستقرار وجوب الزكاة في هذا المال، ولو كان حراما بوصفه، حيث إن جمهور العلماء يقولون بالتخلص من هذا المال الحرام بإنفاقه في وجوه الخير، فإخراج الزكاة منه يعتبر أدنى وجوه التخلص، والله أعلم، وقد قال بإخراج الزكاة منه من المعاصرين فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه "فقه الزكاة" حيث قال:
أما السندات فيقول الشيخ " السند صك بمديونية البنك أو الشركة أو الحكومة لحامله بمبلغ محدود بفائدة معينة - إلى أن قال - وهذا القول يتعين الأخذ به للسندات خاصة؛ لأنها ديون لها خصوصية تميزها عن الديون التي عرفها الفقهاء؛ لأنها تنمي وتجلب للدائن فائدة، وإن كانت محظورة فإن حظر هذه الفائدة لا يكون سببا لإعفاء صاحب السند من الزكاة؛ لأن ارتكاب(42/261)
الحرام لا يعطي صاحبه مزية على غيره، ولهذا أجمع الفقهاء على وجوب الزكاة في الحلي المحرم على حين اختلفوا في المباح اهـ (1) .
وقال الدكتور عبد الله الطيار في كتابه " الزكاة وتطبيقاتها المعاصرة ":
المال الحرام لا زكاة فيه، وذلك مثل المال الذي يحصل عليه الإنسان عن طريق الغصب والسرقة أو التزوير والرشوة والاحتكار والربا والغش ونحوها، من طرق أخذ المال بالباطل، إذ يجب على آخذه أن يعيد إلى أربابه، أو إلى ورثتهم، فإن لم يعلموا فيعطيه الفقراء برمته، ولا يأخذ منه شيئا، ويستغفر ويتوب إلى الله، فإن أصر وبقي في ملكيته وحال عليه الحول، وجب فيه الزكاة. . اهـ (2) .
وللهيئة الشرعية العالمية للزكاة مجموعة من التساؤلات أسهم بقدر المستطاع في الإجابة عليها:
السؤال الأول: أثر الكسب الحرام أو حيازته على وجوب الزكاة فيه حيث إن الفقهاء اشترطوا لوجوبها في المال أن يكون مملوكا لمن هو بيده ملكا تاما؟
والإجابة على هذا قد تستخلص فيما تقدم من أن المال الحرام قد يكون حراما بأصله كالخمور والخنازير، فهذا المال ليس مالا زكويا، وإنما هو مال خبيث بذاته يتعين على من هو بيده التخلص منه بإتلافه، ولا يجوز التصرف فيه ببيع ولا شراء ولا هبة ولا وقف، ولا أي نوع من التصرفات المباحة في الأصل، وهذا النوع لا تجوز الزكاة فيه ولا منه ويجب التخلص منه.
وقد يكون المال الحرام حراما بوصفه حلالا بأصله كالحلي المحرم
__________
(1) فقه الزكاة جـ1 ص527.
(2) الزكاة وتطبيقاتها المعاصرة ص68.(42/262)
والأموال الربوية، فعلى القول الراجح من أن المال الحرام بوصفه إذا فات ففواته يفيد الملك، ولتعلق حق الفقراء بأموال أغنياء المسلمين في الجملة، ولما اتجه إليه جمهور أهل العلم ومحققوهم من أن المال الحرام ينبغي التخلص منه إما بإتلافه إن كان حراما بذاته، أو برده إلى أهله إن كان غصوبا أو سرقات أو نحو ذلك، أو بإنفاقه في وجوه البر إن لم يعلم أهله، فإذا أخرج من هذا المال قدر الزكاة كان خيرا من ألا يخرج منه شيء في سبيل البر، وبهذا يظهر أن القول بوجوب الزكاة في هذا المال الحرام بوصفه: قول وجيه، وإن كانت ملكيته غير مستقرة، وقد تقدم نقل النص عن شيخ الإسلام ابن تيمية في إخراج الزكاة من هذه الأموال الحرام، وأن هذا أدنى قدر يؤخذ به (1) .
السؤال الثاني: مدى اعتبار ملكية المال الحرام ملكية ناقصة، وما يترتب على ذلك من أحكام؟ .
الإجابة عن ذلك: أن ملكية هذا المال الحرام وإن كانت غير مستقرة إلا أن القول بإخراج الزكاة منه قول يتقتضيه أحد أهداف الزكاة وهو تعلق حقوق الفقراء بالأموال الزكوية المباحة بأصلها، وعلى من علق بها وصفا موجبا لحرمتها بذلك الوصف إثم ما اكتسبه فيها من عدوان، وفي النص المتقدم ذكره عن شيخ الإسلام ابن تيمية تبرير وجيه للقول بإخراج الزكاة فيها على سبيل التخلص الجزئي منها.
السؤال الثالث: أثر اختلاط المال الحرام بغيره على وجوب الزكاة من حيث تقسيم المال إلى حلال وحرام ما يغلب فيه الحلال على الحرام أو الحرام على الحلال، وما يتساوى فيه الأمران؟ .
إن الإجابة على هذا السؤال تتضح مما تقدم من أن المال الحرام إما أن
__________
(1) مجموع الفتاوى جـ30 ص325، ص327.(42/263)
يكون حراما بأصله، كالخمور والخنازير، فهذه الأموال خبيثة بذواتها، وليست أموالا زكوية فلا زكاة، ويجب التخلص منها بإتلافها، وإما أن يكون المال الحرام لأفراد معينين، فالزكاة فيها على أصحابها بعد قبضهم إياها، وإما أن تكون أموالا محرمة لوصفها مختلطة بالمال الحلال، فسواء كانت هذه الأموال غالبة أو قليلة أو متساوية، فإن القول الراجح إخراج الزكاة منها؛ لأن المتعين على من هي بيده التخلص منها بالتصدق بها وإخراج الزكاة فيها أدنى قدر للتخلص منها، وقد تقدم ذكر النص في ذلك من شيخ الإسلام ابن تيمية توجيها لذلك القول، والله أعلم.
السؤال الرابع: إذا أوجب ولي الأمر الزكاة في المال الحرام بناء على اجتهاد رآه؟
الإجابة على ذلك: إذا كان المال الحرام حراما لوصفه لا لذاته فالذي يظهر ما تقدم أنه ينبغي إخراج الزكاة من هذا المال الحرام، وإذا أوجبها ولي الأمر فيه بناء على اجتهاد رآه فإن ذلك من ولي الأمر مؤكد لوجوب الزكاة في هذا المال الحرام، حيث إن إيجاب الزكاة في هذا المال محل نظر بين العلماء، وأرجح الأقوال القول بإخراج الزكاة منه، فإذا أمر ولي الأمر بذلك فإن أمره بمثابة حكم حاكم في مسألة خلافية، وحكم الحاكم يرفع الخلاف، أما إذا كان المال حراما بأصله كالخمر والخنزير فليس مالا زكويا ويجب التخلص منه بإتلافه، وإذا أمر ولي الأمر بإخراج الزكاة منه فأمره غير معتبر لأنه يستلزم جواز إبقاء هذا المال في يد من هو بحيازته، وهذا باطل فلا زكاة فيه ويجب إتلافه.
السؤال الخامس: زكاة المال المكتسب من عقود مختلف في مشروعيتها؟(42/264)
الإجابة عن ذلك: الذي عليه محققو أهل العلم أن المال المكتسب من عقود مختلف في مشروعيتها - من قبضه بمثل هذه العقود فقبضه قبض تملك له حق التصرف فيه كتصرفه في ملكه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: وهكذا من كان قد عامل معاملات ربوية يعتقد جوازها ثم تبين له أنها لا تجوز، وكانت من المعاملات التي تنازع فيها المسلمون، فإنه لا يحرم عليه ما قبضه بتلك المعاملة على الصحيح اهـ (1) .
وأصل هذا القول مبني على قاعدة المقبوض بعقد فاسد حيث ذكر - رحمه الله - القاعدة، وإن الأمر لا يخلو إما أن يكون القابض بهذا العقد معتقدا فساده وقت التعاقد، فهذا فيه خلاف بين العلماء، هل يملكه القابض بالقبض بعد العقد، أو لا يملكه لاعتقاده فساده، وإما أن يكون القابض قبض المقبوض بالعقد الفاسد، لكن يعتقد صحته بتأويل مبني على اجتهاد أو تقليد، فما قبض بهذا العقد يعتبر قبضا صحيحا لا يجوز التعرض له بحكم ولا رجوع عن ذلك الاجتهاد.
ولتمام الفائدة وتوثيق هذا القول أتجه إلى نقل قول الشيخ - رحمه الله -: قاعدة في المقبوض بعقد فاسد، وذلك أنه لا يخلو إما أن يكون العاقد يعتقد الفساد أو لا يعتقد الفساد.
فالأول يكون بمنزلة الغاصب حيث قبض ما يعلم أنه لا يملكه، لكنه يشبه العقد وكون القبض عن التراضي، هل يملكه بالقبض أو لا يملكه؟ أو يفرق بين أن يتصرف فيه أو لا يتصرف هذا فيه خلاف مشهور في الملك هل يحصل بالقبض في العاقد الفاسد.
__________
(1) مجموع الفتاوى جـ29، ص267.(42/265)
وأما إن كان العاقد يعتقد صحة العقد مثل أهل الذمة فيما يتعاقدون بينهم من العقود المحرمة في دين الإسلام، مثل بيع الخمر والربا والخنزير، فإن هذه العقود إذا اتصل بها القبض قبل الإسلام والتحاكم إلينا أمضيت لهم ويملكون ما قبضوه بلا نزاع لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) فأمر بترك ما بقي. . . - إلى أن قال - وهكذا كل عقد اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقليد مثل المعاملات الربوية التي يبيحها مجوزو الحيل، ومثل بيع النبيذ المتنازع فيه عند من يعتقد صحته، ومثل بيوع الغرر المنهي عنها عند من يجوز بعضها، فإن هذه العقود إذا حصل فيها التقابض مع اعتقاد الصحة لم تنقض بعد ذلك لا بحكم ولا برجوع عن ذلك الاجتهاد، وأما إذا تحاكم المتعاقدان إلى من يعلم بطلانها قبل التقابض أو استفتياه إذا تبين لهما الخطأ فرجع عن الرأي الأول فما كان قد قبض بالاعتقاد الأول أمضي، وإذا كان قد بقي في الذمة رأس المال وزيادة ربوية أسقطت الزيادة ورجع إلى رأس المال ولم يجب على القابض رد ما قبضه قبل ذلك بالاعتقاد الأول. اهـ (2) .
ومما تقدم يتضح وجوب الزكاة في المال المكتسب من عقود مختلف في مشروعيتها.
السؤال السادس: علاقة زكاة المال الحرام بما يجب أصلا فيه من رده إلى أصحابه أو إخراجه من الملك؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تتضح مما تقدم من أن من المال الحرام ما لا يملك بالقبض كالغصوب والسرقات والودائع والعواري المجحودة فهذه
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) مجموع الفتاوى جـ29. ص411، ص413.(42/266)
الأموال إن كان أصحابها معروفين معينين فزكاتها واجبة عليهم، إذا ردت إليهم فقبضوها على خلاف بين العلماء، هل تكون الزكاة عن كامل مدة حيازتها عند غيرهم ممن وضع يده عليها بدون حق أو لسنة واحدة، وفي المذهب المالكي قول في إلزام من هي بيده بلا حق بزكاتها ثم يزكيها مالكها بعد ردها إليه مرة ثانية. قال في حاشية الدسوقي ما نصه:
واعلم أن العين المغصوبة يجب على الغاصب أن يزكيها كل سنة من ماله في المدة التي هي فيها عنده، حيث كان ما يجعله في مقابلة تلك العين المغصوبة وهذه غير زكاة ربها لها إذا قبضها فتحصل أنها تزكى زكاتين إحداهما من ربها إذا أخذها لعام واحد مما مضى، والثانية زكاة الغاصب لها كل عام، ولا يرجع الغاصب على المالك بما دفعه زكاة عنها. اهـ (1) .
وأما إن كان أصحابها مجهولين فيجب التخلص منها بالتصدق بها بنية التصدق بها لأصحابها مضمونة لهم في حال ظهورهم وعدم إجازتهم التصدق بها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
والأموال التي بأيدى هؤلاء الأعراب المتناهبين إذا لم يعرف لها مالك معين فإنها إن كانت ملكا لمن هي بيده كانت زكاتها عليه، وإن لم تكن ملكا له ومالكها مجهول لا يعرف، فإنه يتصدق بها كلها، فإذا تصدق بقدر زكاتها كان خيرا من أن لا يتصدق بشيء منها، فإخراج قدر الزكاة منها أحسن من ترك ذلك على كل تقدير. اهـ (2) .
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي جـ 1 ص 456 - 457 بواسطة الدكتور يوسف القرضاوي من كتابه فقه الزكاة.
(2) مجموع الفتاوى ج30. ص325.(42/267)
وخلاصة البحث
أن المال الحرام إما أن يكون حراما بأصله وبذاته كالخمر والخنزير فهذا لا يملك بالقبض والحيازة وليس مالا زكويا فلا زكاة فيه(42/267)
ويجب التخلص منه بإتلافه كما أمر - صلى الله عليه وسلم - بإراقة دنان الخمر بعد تحريمها، وإما أن يكون المال الحرام حراما بوصفه لا بذاته لكنه مقبوض بغير حق ولا عقد، وإنما كان قبضه على سبيل التعدي كالأموال المغصوبة والمسروقة والودائع والعواري المجحودة فهذا النوع من الأموال الحرام لا تخلو الحال فيه من أمرين:
إما أن يكون أهله معروفين معينين فيجب رده إليهم، ولا تبرأ الذمة بغير ذلك، ويقوم أهله بإخراج زكاته لعام واحد على القول الراجح، وهل يزكيه من هو بيده على سبيل الغصب والمتعدي خلاف بين العلماء في ذلك وقد تقدمت الإشارة إليه.
وإما أن يكون أهله مجهولين فيجب التصدق به على نية أنه عن أصحابه، فإن ظهروا بعد ذلك خيروا بين إمضاء التصدق به، أو ضمانه لهم ممن أخذه بغير حق، وإخراج الزكاة منه أدنى قدر مما يجب على من بيده هذا المال.
وإذا كان المال حراما بوصفه لكنه مقبوض بعقد فاسد كالبيوع الربوية إلا أن قابضه يعتقد جوازه، فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
من كان قد عامل معاملات ربوية يعتقد جوازها ثم تبين له أنها لا تجوز، وكانت من المعاملات التي تنازع فيها المسلمون، فإنه لا يحرم عليه ما قبضه بتلك المعاملة على الصحيح. اهـ. وعليه فتجب الزكاة في هذا المال.
هذا ما تسير إعداده، وبالله التوفيق.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(42/268)
الشيخ عبد الله القرعاوي
مجدد الدعوة في الجنوب
1315 هـ - 1389هـ
الدكتور: محمد بن سعد الشويعر (1)
الحمد لله القائل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (2) والمؤدب لرسوله الكريم بقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (3) والصلاة والسلام على معلم البشرية وقدوة الدعاة إلى الله، الموجه لأمته بقوله: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه (4) » . وعلى آله وأصحابه حملة الرسالة في الآفاق، دعوة وجهادا وتعليما. . أما بعد:
فقد كنت زرت منطقة جازان منذ عشرين عاما، وبحكم عملي السابق في التعليم، فقد تنقلت في قرى المنطقة، وقد وجدت للشيخ عبد الله بن محمد القرعاوي - رحمه الله - المتوفى في جمادى الأولى من عام 1389هـ بالرياض، ذكرا على كل لسان، وحديثا شهيا في كل مجلس، وهذا ما شوقني لاقتناص بعض أخباره، والتتبع لمسيرته في العمل، دعوة إلى الله، وتعليما لأبناء المنطقة، وبذلا في سبيل ذلك بالنفس والجهد والمال،
__________
(1) وردت ترجمة للكاتب في العدد (9) من مجلة البحوث الإسلامية ص (289) .
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة آل عمران الآية 159
(4) سنن أبو داود كتاب الجهاد (2478) ، مسند أحمد بن حنبل (6/206) .(42/269)
وأمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، بأساليب متميزة، وتواضع جم، مع الاهتمام باجتثاث جذور متفشية في المجتمع، نتيجة الجهل، تعطي صورة قاتمة للبيئة التي تستشري فيها.
وقد ساعده على هذا - بعد توفيق الله له - وجود قلوب متفتحة، وأفئدة متعطشة إلى العلم، ونفوس صافية وحريصة على حسن المأخذ.
فالتقى السالب بالموجب، كما يقال في المجال الصناعي، ذلك أن قاسما يجمع بين الحالين: حال الباذل، وهو الشيخ عبد الله. وحال الآخذ، وهم الطلاب الذين توافدوا من أنحاء متعددة.
ذلك القاسم المشترك: هو الإخلاص، والصدق في النية.
وقد نتج عن ذلك مصلحة كبيرة، وفائدة فاقت جميع التوقعات، رغم ما اعترض جهود وأعمال الشيخ - رحمه الله - من عقبات، كادت توقف المسيرة: صغيرة وكبيرة، فردية وأكبر من الفردية.
وقد أشار الشيخ محمد بن عثمان القاضي في كتابه (روضة الناظرين) إلى شيء من ذلك، عندما ترجم لحياة الشيخ عبد الله القرعاوي (1) .
فالشيخ - رحمه الله - قد وجد أرضا خصبة، قابلة للعطاء والإفادة، فكان غيثا ساقه الله بعد محل، وكان كالوابل الصيب، الذي تتحرك به البذور الكامنة، وكان واحدا كالألف، كما قال أبو بكر في رسالة لأبي عبيدة وهو في الشام، عندما طلب المدد بعد تكاثر الروم عليه، فبعث إليه بخالد بن الوليد، وقال: إنه واحد كالألف، وإنه سيف من سيوف الله، وبعضهم ينسب ذلك القول لعمر عندما بعث القعقاع بن عمرو مددا للمثنى بن حارثة.
__________
(1) انظر (ص43- 44 من الجزء 2) من هذا الكتاب.(42/270)
وعلى العموم فالشيخ القرعاوي أدى دورا لا يقوم به إلا أعداد كبيرة من الرجال، وأعانه الله بالصبر والاحتساب، وعمل جهدا في فترة زمنية قصيرة لا ينفذه إلا المهتمون بالتخطيط، والقادرون بالسبل المادية والاجتماعية، على توفير ما يغطي تلك المسيرة، بناء للمساجد والمدارس، وتنقلا في المناطق للتعلم والدعوة، وعلاقات اجتماعية بأبناء المنطقة على اختلاف مستوياتهم تأليفا للقلوب، وترغيبا للصغار، وحرصا على إزالة الجهل، وما يتنافى مع حقيقة التوحيد، لدى الذكور والإناث. .
كل هذا لا يتم إلا بتوفيق الله والإخلاص في النية، حيث صاحبه بذل مستمر من نفس الشيخ وماله وراحته.
لقد كان الحديث الذي كنت أتلقفه من أبناء المنطقة في ربوع جازان، ثم في منطقة عسير: أبها وما حولها، قد وقر في نفسي منه، أن الشيخ القرعاوي قد ترك أثرا بارزا في كل قرية، مما جعل الكل يتذكر مواقفه، ويروي جانبا من سيرته، ويختلف ما علق بذهن هذا عما يروي ذاك، مما يعطي جانبا مهما في التأثر والأثر، وطابعا عن الدروب التي حرص على إنتاجها في الولوج إلى قلوب الناس، والأسلوب الذي تقرب به إلى الأفئدة. مع الحلم ونكران الذات، والقدرة على التحمل والصبر في سبيل الهدف الذي قام من أجله، وهو تعليم أبناء المنطقة؛ لأن بالتعليم يتم إنكار ما هو سائد لديهم من أمور تخالف جوهر الدين وصفاء العقيدة.
وقد أصل هذا المفهوم عزم أكيد باجتثاث ذلك، ونية صادقة بتصفية النفوس من الأدران إذ كان الهدف الأساسي هو طلب الأجر والمثوبة عند الله، ومن كان هدفه ما عند الله هان عليه كل ما يبذل في سبيله، وقد ترسخ هذا في قلوب طلابه، فساروا معه بخطى حثيثة، وهمة متوقدة. ولما كنت أسمع قصصا وحكايات تنبئ عن مكانة الشيخ عبد الله - رحمه الله - في(42/271)
قلوب الناس هناك مع أنه قد مضى على وفاته أثناء مروره بالمنطقة عدة سنوات، سواء لدى المتعلمين منهم أو العامة، وسواء منهم من درس عليه، أو لم يدرس عليه، فالكل يتحدث عن مكانته، والكل يترحم عليه، والكل يروي وقائع مشوقة، ونماذج تدعو للتتبع والاستطلاع.
ورغم أنني لم أسمع قبل ذلك الوقت عن الشيخ إلا النزر اليسير، ولم يسبق لي أن قابلته، إلا أن ما استفاض على ألسنة الناس هناك، وما كان يتصدر أحاديثهم، يجعل الإنسان يتشوق إلى المزيد، ويجعل أسئلة كثيرة تطرح، عل بعضها يجد صدى، ينتج عنه رصد لحياة هذا الشيخ الذي أحيا الله به السنة في تلك المناطق، وأوجد الله به حماسة في الدعوة بدأت من سامطة، ثم أخذت في الامتداد، كما يمتد أثر الحجر عندما يلقى في الماء.
وكان من ضمن ما طرح من أسئلة: ألم يؤلف الشيخ كتبا؟ ألم يكتب عنه أحد من تلاميذه؟ . . ولكن الجواب كان بالنفي في الحالين، رغم أنه - يرحمه الله - يعتبر مدرسة أيقظت جيلا، وكالغمامة التي أنبت الله بها الكلأ والعشب.
إلا أن جوابا من بعضهم جعل بارقة من أمل، فقد نقل أن الشيخ كتب عن نفسه، وعن أثره في المنطقة الجنوبية في مجلة المنهل عام 1367هـ وأن ابنه محمدا، قد استحث أكثر من مائة وعشرين طالب علم في المنطقة ممن تتلمذ على الشيخ، بالكتابة عن شيخهم، ورصد الجوانب التي يعرفها كل شخص؛ لأنها اليوم متوفرة في الذاكرة، وعالقة في الأذهان، وغدا تنسى بموت من عرفها، كما نسي الكثير من تاريخ هذه البلاد، ومواقف الرجال فيها، إذ لم يرصد المطلوب، ويوثق بالكتابة والمصدر كما يقال:
العلم صيد والكتابة قيده ... قيد صيودك بالحبال الموثقة(42/272)
وأيقنت مع تلك الحماسة والاهتمام أن ذلك سيحدث له أثر، وأن سيرة هذا الرجل الذاتية وأعماله، لا بد من حفظها - إن شاء الله - وإن طال الزمن؛ لأنه لا يضيع حق وراءه مطالب، ومكانة الشيخ حق على تلاميذه، وعارفي فضله، وطلبة العلم بعدهم، يطالب بهذا؛ لأنه ترك أثرا لا ينسى في منطقة لا يربطه بأهلها سبب أو نسب، اللهم إلا وشيجة هي أقوى من النسب والمصالح المختلفة: تلك هي رابطة العقيدة، وأمانة تبليغ العلم الذي أمر الله بتبليغه قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
فمسئولية هذا الدين عظيمة، ورسالته ثقيلة، يجب الاهتمام بها وتأديتها على الوجه الذي أمر الله به، ألم يقل سبحانه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (2) .
وبتوفيق من الله، فقد ظهرت بعد تلك الفترة جهود ومساهمات في إبراز مكانة هذا الشيخ، تجلى بعضها ولا زال في الأفق أمور نرجو تحققها، ما دام بعض تلاميذه وخواصهم على قيد الحياة، وبما يقدم مدعوما بالوقائع والوثائق يكتمل العقد، ويوفي الشيخ ما يستحقه من الدراسة والتحليل لكل جانب من أعماله، حيث يحتاج إلى وقفات ودراسات.
ويبقى للأول فضل السبق برصده واهتمامه، وللاحق فضل الإجادة والإضافة. . كما قال الجاحظ؛ إذ كل تأليف لا بد له من تكميل، ولكل من الذين كتبوا حتى الآن عن الشيخ القرعاوي، جوانب يتميز بها من حيث الإضافة أو الاطلاع والمعاصرة، على ما لم يتح لغيره.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 63
(2) سورة الزخرف الآية 44(42/273)
وهذا ما لمسته في الكتيبات التي وقع عليها نظري عن الشيخ القرعاوي، وقد يكون هناك غيرها مما لم يتهيأ لي الوقوف عليه، فأستميح أصحابها العذر في التنويه بها؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، حيث نلقي نظرة عما صدر عن الشيخ:
1 - في نظري أن أول من نوه بالشيخ عبد الله القرعاوي، وكتب عنه (مجلة المنهل) ، ثم الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام في كتابه (علماء نجد خلال ستة قرون) ، حيث أورد له ترجمة في الجزء الثاني تحت الرقم 219 أخذت من كتابه حيزا مقداره ثلاث صفحات وستة أسطر. والمؤلف من بلد الشيخ القرعاوي عنيزة، وقد طبع هذا الكتاب في عام 1398هـ الطبعة الأولى بمكة.
2 - ثم يليه الشيخ محمد بن عثمان بن صالح القاضي، الذي هو الآخر من بلدة عنيزة، كما تربطه بالشيخ القرعاوي قرابة أسرية، حيث ترجم لحياته، ونسب إليه أشياء أخذها منه مشافهة، وهذه ميزة ينفرد بها، وقد أورد الترجمة في الجزء الثاني من كتابه: (روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين) وكانت الترجمة برقم 171 في خمس صفحات ونصف، وقد خرجت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في عام 1400 هـ بالقاهرة.
3 - الدكتور حمد السلوم في كتابه عن التعليم بالمملكة في تاريخ الحركة التعليمية بالمملكة الذي خرجت طبعته الأولى سنة 1409 هـ ولم يتعرض فيه عن السيرة الذاتية للشيخ، وإنما اهتم بالجانب التربوي والتعليمي، وبما توفر لدى وزارة المعارف من معلومات وإحصائيات عن مدارس القرعاوي في الجنوب، بعد اعتمادها من الحكومة إلى أن انضمت إلى الحكومة. . ضمن وزارة المعارف.(42/274)
4 - الشيخ الدكتور: علي بن قاسم الفيفي عضو التمييز، وهو واحد من تلاميذ الشيخ والعارفين به عن كثب، ورشحه الشيخ للقضاء مبكرا، وقد ألف عنه كتابه الذي سماه: " السمط الحاوي لأسلوب الداعية الشيخ القرعاوي " في نشر التعليم بجنوب المملكة، والدعوة في جبال فيفا، وما أورده من مكاتبات بهذا الصدد، صدرت الطبعة الأولى منه عام 1411هـ وقد جعل المؤلف كتابه من شقين: الأول ينتهي في صـ95 عن الشيخ القرعاوي، والثاني عن الشيخ: حافظ حكمي أنجب تلاميذ الشيخ ينتهي ص 126، وفي ص 127 حتى نهايته ص 139 صور للرسائل المتعلقة بالتعليم في فيفاء للشيخين: عبد الله القرعاوي، وحافظ حكمي.
5 - الشيخ موسى بن حاسر السهلي، وهو واحد من أخص تلاميذ الشيخ القرعاوي، وقد ألف كتابا عن الشيخ ودعوته في جنوب المملكة العربية السعودية. . خرجت الطبعة الأولى منه عام 1413هـ، وقد صدر بفهارسه في 111 صفحة، وألحق به ثلاث عشرة صفحة عن إجازة الشيخ القرعاوي لتلاميذه، وفق ما أجازه شيخه أحمد الله بن أمير القرشي الدهلوي، عندما كان يدرس عنده في الهند بالمدرسة الرحمانية، وهذه من انفرادات الشيخ موسى في مؤلفه هذا.
6 - الشيخ عمر بن أحمد جردي مدخلي، وهو من تلاميذ الشيخ القرعاوي - رحمه الله - الملازمين له، وذلك في مخطوطة لم يسمها بعد، حيث أشار فيها إلى دافع التأليف وهو الطلب من أكبر أبناء الشيخ: محمد بن عبد الله القرعاوي برسالته الموجهة إليه في(42/275)
10 \ 9 \ 1389هـ، وبخطابين من حفيد الشيخ (1) الدكتور أحمد بن حافظ الحكمي بالكتابة عن الشيخ - رحمه الله - إلا أن الشيخ عمر بقي مترددا لأسباب أوضحها. . ثم قرر أخيرا الاستجابة والكتابة عن الشيخ ودعوته وسيرته ومشاريعه الخيرية، ويقع هذا المخطوط في 85 صفحة، وقد قسمه إلى قسمين: الأول حتى نهاية صـ 76 عن الشيخ القرعاوي، والباقي عن الشيخ حافظ حكمي، وقد سار فيه بعد الترجمة على طريقة المؤرخين بالسنوات، كما هي طريقة الشيخ القرعاوي في المنهل التي سميت: الرسالة القرعاوية.
وللشيخ عمر منهج تميز به، وذلك بالحديث عن أثر الشيخ في اليمن، ودور تلاميذه اليمانيين في هذا بعدما عادوا لبلادهم؛ لأن الشيخ عمر قد أرسله القرعاوي لهذا الغرض أكثر من مرة للإشراف على المدارس هناك.
7 - هذا بالإضافة إلى كلمات وأحاديث قيلت عنه بعد وفاته، وذكريات ومواقف لدى كثيرين ممن عرفوه وقابلوه قبل وفاته - رحمه الله - وعلق بأذهانهم عنه الشيء الكثير، حيث يرددون ذلك ذكريات وأصداء ذات مغزى في منهج الشيخ القرعاوي، وأثره في المنطقة، كما حصل عند الأستاذ أحمد العقيلي في كتابه المخلاف السليماني.
وما كان لمثلي أن يشارك مع هؤلاء في سيرة الشيخ القرعاوي - رحمه الله - لأن ما سأورده عالة عليهم، ولأن استيفاء هذا الشيخ حقه يحتاج إلى حيز أكبر، حيث يقتضي ذلك منهج البحث والمقارنة، ولكنها استجابة لرغبة كريمة، تعني المشاركة في التعريف بالشيخ القرعاوي لمن لم يتح له الاطلاع على المشاركات المنوه عنها، ليكون في هذا تعريف بمعرفة.
__________
(1) لعل الأصح أن يقول سبط الشيخ؛ لأن الحفيد ابن الابن، والسبط ابن البنت.(42/276)
كما قد يدفع هذا بعضا من تلاميذه إلى الحماسة بإضافة شيء جديد، أو ليصحح ما ورد حسبما عرف من ملازمته لشيخه؛ لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ.
وإلا فإن سيرة الشيخ وأعماله في المنطقة تحتاج إلى دراسات متأنية وتحليلية لمسيرته في العمل والدعوة في المنطقة، منذ عام 1358هـ حتى وفاته. . في أمور كثيرة منها:
- تركيزه على سلامة العقيدة، وحرصه على تربية العقول علميا.
- أسلوبه في الدعوة، وأثره في البيئة: صدقا وإخلاصا ومثابرة وتأليفا.
- طريقته في استمالة الناس، والدخول إلى قلوبهم، مع عرض نماذج لمواقف حية من ذلك.
- منهجه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقدوته بالسلف في التحمل والصبر.
- حماسته في التعليم ومنهجه في ذلك، وبيان أثره لدى الخاصة والعامة.
- دوره التربوي في السيطرة على العقول: عمليا بالرحلات، واجتماعيا ببناء المساجد والمدارس، وقوليا بالخطب ومتابعة الدروس الثابتة والمتنقلة.
وأستميح القارئ عذرا في قصوري بما أقدم بين يديه؛ لأن سمة البشر القصور، وحسبي في هذا المشاركة والتنويه بمن يجب أن يقتدى به: منهجا وسلوكا، وصدقا وإخلاصا كما يقول الشاعر:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح(42/277)
العالم الداعي:
ما أكثر العلماء في كل مكان على وجه الأرض، وفي كل زمن من(42/277)
الأزمنة، وما أقل المؤثرين بعلمهم، المحتسبين فيما أعطاهم الله، ذلك أن العلم علمان: علم دنيوي وعلم ديني: والعلم الديني: هو المعين في عقيدتنا الإسلامية. وهو الآخر يمكن تقسيمه إلى نوعين: علم نافع، وغير نافع. . فما كان نافعا هو ما يكون ذا أثر في صاحبه تطبيقا وعملا، ووقارا يتزيا به، وحلية يتجمل بها، ولا نعني ما يتخذ للمفاخرة، أو يستغل للمنافع الذاتية، فذلك ما تحذر منه نصوص الشريعة؛ لأنه قد جاء في دلالة الحديث أن: «أول من تسعر به النار عالم أخذ العلم للمفاخرة والمباهاة وليقال هو عالم. . . وقد قيل (1) »
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار (2) » .
__________
(1) ينظر باب الرياء عند مسلم - رحمه الله.
(2) صحيح مسلم بشرح النووي جـ 13- الطبعة الثانية 1392هـ - دار الفكر- بيروت - لبنان (ص 50 \ 51) كتاب الإمارة - باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار.(42/278)
وقد وضح دلالة هذا الحديث الإمام الشافعي - رحمه الله - في قوله:
وعالم بعلمه لم يعلمن ... معذب من قبل عابد الوثن
كذاك من بغير علم يعمل ... أعماله مردودة لا تقبل
لكن العلماء الربانيين، هم من أخذ العلم بحقه، وأدى حقه عليه، وحق العلم: الإخلاص والصدق في الأخذ، والنية المخلصة، والحرص على أدائه عملا بعد الفهم، وبذله نصحا وتعليما بعد الاحتساب، والاهتمام به توجيها وإرشادا بعد إدراك حاجة الناس، وتلمس مداخله في المجتمع. وما ذلك إلا أن العالم الناصح كالطبيب المخلص في عمله، كل منها ديدنه نفع الناس، وبذل ما وهبه الله لإفادتهم. . ويرفع من قدر كل منهما الصدق مع الله وطلب الأجر والعون منه سبحانه.
وكل من العالم الشرعي، والطبيب البشري، له هدف وغاية محسوسة وظاهرة، ويترقب أجرا من الله مدخرا، بصدقه وبذله، وبنيته الخالصة لله سبحانه.(42/279)
العالم الشرعي: ينقذ الناس، بعد توفيق الله من الضلالات والشركيات، ويبعدهم عما يتنافى مع دين الله الحق، ليجدوا لذة في قلوبهم، وراحة في نفوسهم.
والطبيب البشري: مثله في الهدف والغاية إذا صدقت النية، وأخلص في أمانته.
وهذا مصداق حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى. . (1) » الحديث متفق عليه.
فالعالم الصادق مع الله في نيته هو: العالم النافع لنفسه، والمؤثر في
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(42/279)
غيره، وليس من الضروري أن يكون العالم متبحرا في معارفه، إذا تقوى الله - جل وعلا - ومراقبته في السر والعلن هي خير زاد يدفع العالم للعمل، ويجعل لعلمه ثمرة، وقبولا في قلوب الناس، بحيث تبرز النتائج فيمن حوله، ألم يقل سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
وللعلم ثمرة هي العمل والقدوة الحسنة، وله صدقة يجب أن تؤدى، وذلك ببذره في الناس، ونفع الآخرين به، ولذلك وسيلة يؤدى بها، وهي مطية الإخلاص والصبر، والتحمل في سبيله، ونتيجة مرتقبة هي: الأجر من الله - جل وعلا، وظهور الآثار فيمن قدم لها هذا العلم.
وعلمنا الذي نترجم لحياته في هذه العجالة، ونستلهم التعريف به من النبذ التي كتبت عنه، مع قلة علمه كما يقول محمد بن عثمان القاضي في كتابه روضة الناظرين: والقرعاوي وإن لم تكن معلوماته واسعة، فقد خطا خطوات لا يبلغها فحول العلماء ممن نفعهم قاصر (2) ، فقد نفع الله به، وبقي أثره بارزا، وذكره متجددا. . وسوف نقف عند مقولة القاضيهذه في مكان آخر.
وما ذلك إلا أن الدارس لحياة كثير من العلماء المؤثرين في تاريخ الإسلام، يراهم مع قلتهم بالنسبة لاتساع رقعة الإسلام، وامتداد العصر الزمني، أفذاذا في أعمالهم، محتسبين لله في جهودهم، مؤثرين في بيئاتهم، متواضعين في عطائهم وتعاملهم.
وتاريخ بلادنا - بحمد الله - منذ بدأت اليقظة الإسلامية التصحيحية للعقيدة، قد رسم منهج الدعوة فيها على درب سلف الأمة، منذ تصافحت
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) روضة الناظرين (2: 43) .(42/280)
يدا الإمامين: محمد بن سعود، ومحمد بن عبد الوهاب في عام 1158هـ (1) وحتى الآن، وحفل برجال حرصوا على أداء رسالة العلم، والتفاني في سبيل الدعوة لدين الله بعلم وبصيرة، وتحملوا في السبيل الشيء الكثير: نكرانا للذات، وتواضعا في العمل، وبذلا من الجهد: ماديا وذهنيا وبدنيا.
والشيخ عبد الله القرعاوي غصن من تلك الدوحة، ويمثل في جهده وعمله، نماذج علماء السلف في تاريخ الدولة السعودية الحديثة: حبا للخير، وزهدا في المال، وإخلاصا في العمل والتعليم، وقدوة في العلم، ورغبة في الدعوة وإنكار المنكرات: بالرفق واللين، كما بان في آثاره وكما نقله عنه تلاميذه.
__________
(1) انظر تاريخ ابن بشر: عنوان المجد (ج1 حوادث عام 1158هـ) .(42/281)
مولده ونشأته:
(أ) المدخل: نستقي المعلومات عن مبدأ حياة الشيخ، من ثلاثة مصادر:
1 - مجلة المنهل التي فيها لقاء مع الشيخ عبد الله القرعاوي - رحمه الله - تحت عنوان: (ساعة مع مؤسس مدارس الجنوب) ، تبع ذلك رسالة ترجم فيها الشيخ القرعاوي لنفسه، وقد سمى المحرر ذلك بالرسالة القرعاوية.
وفي نظري أن هذا أصدق مصدر يعتمد عليه؛ لأنه تعريف بالسيرة الذاتية للشخص بقلمه هو، وفي فترة هي بداية ظهور ثمار(42/281)
العمل الذي قام به منذ عام 1358هـ. . وقد نشر ذلك في المنهل عام 1367هـ (1) .
2 - كتاب " علماء نجد في ستة قرون " للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام، رئيس محكمة التمييز بالمنطقة الغربية، وهو كما أسلفنا من بلد المترجم له، حيث جاءت ترجمة حياة الشيخ في الجزء الثاني برقم 219، وقد حرص على إيفائه حقه (2) .
3 - كتاب " روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين " للشيخ محمد بن عثمان القاضي، أمين المكتبة الصالحية بعنيزة، حيث ترجم للشيخ في الجزء الثاني تحت رقم 171، والمؤلف من بلد المترجم له أيضا (3) _ ويلاحظ أن لدى البسام والقاضي إضافات في ترجمة الشيخ القرعاوي، زيادة عما جاء في المنهل، ولعل هذا جاء من حكم إلمامهما بشيء من سيرته التي لم ينوه عنها في المنهل، خاصة وأن القرعاوي ركز فيما أعطى من معلومات بعد النسب، على جهوده في الجنوب وفتح المدارس.
- قد صدر بعد ذلك كتابان عن سيرة الشيخ القرعاوي، وهما:
- الشيخ القرعاوي ودعوته في جنوب المملكة العربية السعودية لموسى بن حاسر السهلي طبع عام 1413هـ.
- السمط الحاوي لأسلوب الداعية الشيخ القرعاوي في نشر التعليم بجنوب المملكة للشيخ الدكتور علي بن قاسم الفيفي وطبعته عام 1411هـ وقد سبق التنويه عنهما.
__________
(1) انظر مجلة المنهل (8) عدد (5) لجمادى الأولى عام 1367هـ (ص185 - 196) .
(2) انظر ترجمته في علماء نجد خلال ستة قرون (2: 630 - 633) .
(3) انظر ترجمته في روضة الناظرين (2: 40 - 45) .(42/282)
وهذان يأخذان في السيرة الذاتية والنسب عن مجلة المنهل أولا، ثم يضيفان ما يريان أهميته من ترجمة الشيخ عبد الله البسام في كتابه علماء نجد للشيخ القرعاوي.
- ومثلهما ما سطره الشيخ عمر بن أحمد جردي مدخلي في مخطوطته التي مر ذكرها.
(ب) نسبه:
لقد بدأ - رحمه الله - رسالته القرعاوية بالمنهل بتوضيح نسبه عندما قال: أقول وأنا كاتب الأحرف: عبد الله بن محمد بن حمد بن عثمان بن علي بن محمد بن نجيد، فإن جدي محمد بن نجيد، كان في عنيزة، بالجناح، ثم باع أملاكه بعنيزة، واشترى بدلها أملاكا في القرعاء، وجاور أهلها، وكان يسمى فيها ابن نجيد، كذلك أولاده وأولاد أولاده، حتى جدي الأدنى: حمد المحمد بن نجيد، ثم انتقل جدي الأدنى هذا إلى عنيزة، وكان لا يعرف فيها إلا باسم (ابن نجيد) ، وكذلك في مكاتباته وأسانيده، لا يكتب إلا: حمد المحمد بن نجيد، فلما بنى بيوته في عنيزة، وغرس نخله المشهور بالقرعاوية، لقب بالقرعاوي، لقبا بلفظ النسب، ولكن في المكاتبات والأسانيد كان يكتب (ابن نجيد) ، فلما وقعت حرب عنيزة، قلع الأشجار والنخل، وباع الأرض والبئر، وانتقل إلى جنوب بريدة، وغرس نخله المشهور الآن بالفيضة، وهي ملكنا حتى الآن، وبقيت بيوته وأولاده في عنيزة.
وهناك فروع لآل نجيد غيرنا كثيرون، في عنيزة وبريدة، والبكيرية والخبراء والبدائع، وفي بغداد والشام؛ لأن أجدادي كانوا دائما يسافرون إلى بغداد، وإلى الشام وحلب، جمالين، ويحملون البضائع من هناك، ولم(42/283)
يشتهر أحد منهم بالقرعاوي، إلا جدي حمد المحمد بن نجيد، كما ذكرت آنفا.
وفي عنيزة حمد العلي القرعاوي، وأخواه صالح وعبد الله وذريتهم، أهل بيت كل واحد منهم يقال له: القرعاوي، ويطلق عليه هذا اللقب حتى الآن، وهم مشهورون بهذا اللقب مثلنا، وهم أيضا منتقلون أيضا من القرعاء، ولكنهم ليسوا من آل نجيد، بل يرجعون إلى آل مطوع، فهم آل مطوع، ونحن آل نجيد.
كان جدي حمد أولا فلاحا بالقرعاء، ثم جمالا ببغداد، ثم في حلب ثم فلاحا بعنيزة، ثم فلاحا بالجنوب، ثم توفي في شهر رمضان سنة 1315هـ بعد أن مرض بالفالج، وبقي على فراش المرض أربع سنين بمرض الفالج، وفي تلك السنة في شوال توفي أبي، وفيها ولدت في 11 ذي الحجة بعد وفاة أبي بشهرين.
هذه حقيقة نسبي القريب، وأما النسب البعيد فليس عندي منه حتى الآن شيء، ولم أطلبه بعمري قط، وليس يهمني ذلك، وإنما يهمني ما أنا الآن بصدده، وسبق الكلام من أجله (1) .
أما محمد القاضي في روضة الناظرين، وهو كما أسلفنا من أبناء بلدة عنيزة، ومن العارفين به وبأسرته فيقول عنه: هو العالم الجليل، والمرشد المصلح النبيل الصادع بكلمة الحق، الورع الزاهد، الشيخ عبد الله بن محمد بن حمد بن محمد بن عثمان القرعاوي، من ذرية محمد بن نجيد من المصاليخ بطن من قبيلة عنزة، العدنانية، سكن جدهم القرعا بشمالي القصيم، ثم نزح منها معظمهم إلى عنيزة، فنسبوا إليها، ويلتحق بالنجادا غير
__________
(1) مجلة المنهل عدد 5 م 8 جمادى الأولى سنة 1367هـ (ص 187 - 188) .(42/284)
القراوعة، منهم آل رميح وآل أبا الخيل، وآل الصقير وآل الشعيبي، ومنهم الشاعر الشعبي المعاصر الشريف بركات، والذي مدحه بقصيدته القرنفلية، ومنهم الشقير والمطر، والجلالي والسعوي في بريدة، والدغيثر في الرياض وضرما (1) .
ومع ما يلاحظ في هذا من زيادة من حيث تحديد القبيلة التي ينتمي إليها، ومن يلحق بأسرته نسبا من الأسر المعروفة بالقصيم، فإننا نجد ابن بسام في كتابه: "علماء نجد خلال ستة قرون" يقول بمثل قوله إلا أنه زاد عليه إيضاحا بقوله: كانت مساكن ابن نجيد - الجد الأعلى للمترجم له - في النبهانية إحدى قرى القصيم الغربية، وذلك في القرن العاشر الهجري، واستوطنها هو وذريته من بعده، ومنها تفرقوا في قرى القصيم، وجد المترجم له - محمد بن نجيد - المذكور في عمود النسب غرس نخيلا، واتخذ له عقارات، واستوطن القرعاء هو وذريته، ثم انتقل جد أبي المترجم له من القرعاء إلى عنيزة، واسمه محمد بن نجيد فسمي القرعاوي، فتوفي في عام 1315هـ، كما توفي والد المترجم له في نفس العام المذكور (2) .
(جـ) ولادته:
يقول عن نفسه ولدت في 11 من شهر ذي الحجة عام 1315هـ بعد
__________
(1) انظر روضة الناظرين (2: 40) .
(2) انظر علماء نجد خلال ستة قرون (2: 630) .(42/285)
وفاة أبي بشهرين. كما مر بنا آنفا (1) ولم يحدد مكان ولادته، وهذه السنة أيضا هي التي مات فيها جده في شهر رمضان، ووالده في شهر شوال من تلك السنة، وهي متقاربة. . ولم يأت ذكر لانتقال والدته قبل ولادته إلى عنيزة.
أما الشيخ عبد الله بن بسام فيقول عنه: ولد المترجم له بالسنة التي مات فيها جده وأبوه، وهي عام 1315هـ في بلدة عنيزة، ونشأ فيها وربي في كفالة والدته ورعاية عمه - عبد العزيز بن حمد القرعاوي - ولقد أدركت عمه من وجهاء عنيزة وأعيانها، ولعمه ثلاثة أبناء: عبد الرحمن موظف في إمارة مكة، وعبد الله يقيم بالمنطقة الشرقية، ومحمد يقيم في المنطقة الشرقية أيضا (2) ومثله يقول الشيخ محمد القاضي: ولد هذا العالم في مدينة عنيزة سنة 1315هـ وهي سنة وفاة محمد بن عبد الله بن رشيد، وتوفي أبوه قبل ولادته بشهرين، فخرجت أمه بولادتها إياه من عدة وفاته، وفي أول نفس سنة 1315هـ توفي جده حمد بن محمد بن عثمان بن علي (3) فنشأ يتيما، وقام بتربيته ورعايته عمه عبد العزيز الحمد القرعاوي، وكان من أعيان عنيزة، اشتهر بالفضل والكرم، ومن جيراننا - ونعم الجار - رحمه الله، ولقد خلف أبناء من خيرة زماننا دينا وخلقا، ومن خلف ما مات، كما كانت أمه تحن عليه، وتأيمت بعد أبيه، وقامت مع عمه برعايته على أكمل وجه (4) .
__________
(1) مجلة المنهل جمادى الأولى عام 1367هـ (ص188) .
(2) انظر علماء نجد (2: 630 - 631) .
(3) صوابه في شهر رمضان من هذا العام كما ذكر القرعاوي نفسه في مجلة المنهل.
(4) انظر روضة الناظرين (2: 40) .(42/286)
وعن هذه الأم ودورها في رعايته، وأثرها في تكوين شخصيته كما يقول الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عوده أبوه
يقول الشيخ موسى السهلي في كتابه عن الشيخ القرعاوي ودعوته في الجنوب: ولد الشيخ القرعاوي، وخرج إلى هذه الدنيا يتيم الأب، وكفلته أمه حيث كانت امرأة صالحة، تحرص على مجالس الذكر، وحضور صلاة الجماعة في المساجد، في الأماكن المخصصة للنساء، فحرصت على تنشئته تنشئة صالحة بالدين والخلق، وقد شب وترعرع في حجرها، بإشراف أعمامه، وأشهرهم عبد العزيز بن حمد القرعاوي من وجهاء مدينة عنيزة (1) .
لكنني أستنتج أن ولادته في الخبوب التي جنوب بريدة حيث الإقامة والمزرعة التي غرسها جده، وأن الانتقال لعنيزة عند أعمامه تم بعد ذلك وهذا الترجيح مبني على:
- أن جده ترك عنيزة لظروف معينة قلع الشجر والنخل من مزرعته ثم باع الأرض والبئر.
- أننا لم نجد نصا يدل على انتقال أبيه أو أمه لعنيزة قبل ولادته.
- أن الناحية الشرعية تلزم المحادة بالبقاء حيث توفي الزوج ولا تخرج إلا للضرورة، ولعلها لم تنتقل لعنيزة إلا بعد الولادة وخروجها من العدة.
__________
(1) انظر كتابه (الشيخ القرعاوي ودعوته) (ص15) .(42/287)
اشتغاله بالتجارة:
شأن الشيخ القرعاوي، شأن أضرابه من الشباب في زمانه، في(42/287)
البحث عن مسارب الرزق؛ لعدم القدرة على التفرغ لطلب العلم، وما ذلك إلا لمشقة الحياة، وقلة الموارد التي تريح الإنسان، وتجعله قادرا على تهيئة النفس، وتفريغ الذهن بطلب العلم، ناهيك بالجهد الذي يبذله الإنسان في هذا السبيل في مثل بيئة المترجم له؛ إذ لا موارد تغطي حاجة السكان، ولا استقرار في التجارة ولا أمان في السبل، إلا بعد أن هيأ الله للبلاد الملك المظفر عبد العزيز آل سعود، وبذل جهدا كبيرا في توحيد البلاد واستقرارها، ولم يستتب الأمن إلا بعد سنوات طويلة من السعي والمواصلة - فرحمه الله - وجعل في عقبه خير خلف لخير سلف، وكما يقال: رأس المال جبان لا يتحرك وينمو إلا في جو آمن.
ولذا كانت سبل التجارة محفوفة بالمخاطر، وشاقة مع قلة مواردها، ولكنها الحاجة التي دعت لذلك، ومع اهتمام الشيخ القرعاوي بطلب العلم، إلا أنه بدأ كما يبدأ أترابه في زمنه، بالبحث عن لقمة العيش، وما تحوج إليه من تحمل، فامتطى من الأمور ما يصقل شخصيته، ويعطيه دروسا في الحياة، تتفتح عنها مواهبه، ويكتسب بها خبرة وقدرة على الصبر والثبات، أمام معضلات الأمور كما قال الأول:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى ... فما انقادت الآمال إلا لصابر
ومن هذا المسلك نرى الشيخ محمد القاضي يرى أن القرعاوي اشتغل في عام 1328هـ مع عمه بالتجارة في التغريب للشام، فسافر معه في جلب الإبل والملابس، وعاد إلى عنيزة، فصار يوالي نشاطه التربوي والتأديبي، وفتح دكانا للبيع والشراء، وكان صدوقا في المعاملة، وفي الصباح والليل يلازم مشايخه (1) .
__________
(1) روضة الناظرين (2: 41) .(42/288)
ثم يقول: وقبيل وفاته وصل إلى عنيزة، وعزم على أن يفلح ملكهم الواقع بالخبوب بالبصر - الفيضية - وكلم أناسا للاستدانة إلى أجل، وهذا مما يدلنا على فراغ يده، ونزاهته مما لفق الأعداء عليه من تهم، ولكن حمد المحمد الصالحي نصحه قائلا: يا شيخ ما بقي بالعمر مثل ما مضى، ولم يزل به حتى ثنى عزمه، فرجع إلى الرياض، وألم به المرض الذي كان يعتاده وأقعده على الفراش (1) .
وهذا يدل على أنه دخل التجربة في التجارة، ولما يبلغ الحلم، إذ عمره ثلاثة عشر عاما، وهي تجربة لم تستمر ولم تكن مثمرة، حتى تغريه بالاستمرار فيها، حيث صرفه عنها شغفه بالعلم كما يقول الشيخ عبد الله بن بسام في كتابه: (علماء نجد) نشأ المترجم له في مدينة عنيزة وصار يتعاطى التجارة من حداثته، وعمه يوجهه ويرشده، وكانت تجارتهما في الإبل، ثم صار له ميل إلى طلب العلم (2) .
وقد أكد هذا الجانب، وأعطاه توضيحا أكثر، تلميذه الشيخ موسى السهلي، ولعله أخذ ذلك مشافهة من الشيخ القرعاوي بحكم ملازمته الطويلة له، فقال: منذ أيام الصبا بدت على عبد الله القرعاوي ملامح النجابة والذكاء، وقد رأى عمه عبد العزيز أن يعرض عليه بعد مشورة والدته القيام بعمل التجارة، حيث اشترى له بضاعة باسمه وسافر به ومعه بضاعته إلى بلاد الشام لمزاولة التجارة وتدريبه على البيع والشراء، وقد تكرر سفره بصحبة عمه حتى تمرس على الحركة والبيع والشراء، وعرف كثيرا من خبرات عمه، إلى أن أصبح يزاول التجارة بمفرده، وبقي على هذا الحال مدة حتى حسن وضعه وتزوج، وبعد ذلك أوقف التجارة وانصرف
__________
(1) روضة الناظرين (2: 45) .
(2) انظر علماء نجد خلال ستة قرون (2: 631) .(42/289)
لمزاولة الفلاحة، إلا أنه لم يجد في الفلاحة ما يغطي حاجته، فاضطر لفتح دكان يسانده بجانب الزراعة، ومع ذلك لم يستفد كثيرا؛ لأن ما يحصل عليه من كسب الدكان ينفقه في الزراعة، فضاق ذرعا بالزراعة، وتوقف عنها، ثم رغب في العودة مرة أخرى لمزاولة التجارة من جديد، فطلب الإذن من والدته لحرصه على برها، فأذنت له، وعاد لممارسة البيع والشراء، وبدأ يأخذ بضاعة ويذهب بها إلى الجهات المجاورة كعادته سابقا، واستمر الحال كذلك حتى ترك التجارة، وانصرف إلى طلب العلم (1) .
ومن هذا يلاحظ أن التجارة، والرغبة في امتهانها قد تغلغلت محبتها في قلبه، وقد رأى فيها مطيته للمهمة التي تهيأت نفسه لها؛ لأن التجارة مدخل من المداخل التي تأنس بها الأفئدة، وتتقارب القلوب من حيث حسن التعامل، والمساعدة بالبذل للمحتاج، والإحسان إلى الضعيف والصغير، حيث سمى الاقتصاديون المال عصب الحياة.
ومن هنا ندرك أن امتهان الشيخ القرعاوي للتجارة، أسلوب من أساليب الذكاء، يستطيع به التقرب إلى الناس، والإحسان إليهم، حتى يقبلوا الدعوة، وهذه من المداخل التي يحاول بها المبشرون التغلغل للقلوب، لكنه - رحمه الله - سلك طريقا أمكن في أسر القلوب من طرائقهم، وأدعى لقبول الدعوة من أساليبهم، إنها طريقة الإسلام، ومنهجه بالبذل والعطاء في النفس والمال، طمعا لما عند الله من أجر مدخر. . ونراه يقول في رسالته التي نشرت في المنهل: وفي اليوم العشرين من صفر عام 1358هـ توجهت لجازان، وأخذت منه بضاعة، وتوجهت لسامطة، ثم تجولت
__________
(1) انظر كتابه (عبد الله القرعاوي ودعوته في الجنوب) (ص15) .(42/290)
بجهات سامطة، ونزلت دكانا في نفس سامطة، ووضعت فيه البضاعة التي معي، وأول أمر بدأت به وأنا في الدكان تعليم القرآن وثلاثة الأصول، والأربعين والتجويد والفرائض، وآداب المشي إلى الصلاة، وكان ذلك في 21 ربيع الأول 1358هـ. . فكان هذا الدكان أول مدرسة فتحتها في تهامة اليمن (1) لكن الشيخ عمر أحمد جردي، وهو من خواص طلاب القرعاوي، ذكر عن اشتغاله بالتجارة زيادة عما ذكر المشايخ، فقال: إنه لما ملك رشده كان يذهب جمالا إلى العراق، مع عمه يشتغل بالتجارة، في الإبل إلى الشام وفلسطين ومصر، وحمص وحماة ولبنان، وديار بكر والأكراد، يشتري الإبل من الأحساء والقصيم، والكويت وعنيزة والرولة، ثم يبيعها هناك (2) .
والشيخ عمر شبيه بالشيخ موسى في الأخذ مشافهة من الشيخ بحكم ملازمتهما للشيخ والتلمذة عليه، والسفر معه في التجول بالمنطقة، مما يتيح لهما بين وقت وآخر اقتناص المعلومات منه مباشرة.
__________
(1) انظر المنهل المجلد (8) العدد (5) ص189 عام 1367هـ.
(2) انظر مخطوطته عن الشيخ القرعاوي (ص6 - 7) .(42/291)
بعض صفاته:
لكل إنسان صفات خلقية وخلقية تميزه عن غيره، وتنعكس على شخصيته وأعماله، والشيخ عبد الله القرعاوي - رحمه الله - بانت عليه صفات عديدة تميزه عن غيره، فمحرر مجلة المنهل عندما قابله لإجراء الحديث عن مدارس الجنوب التي أسس بعد انتقاله إلى هناك. وكان اللقاء مع المجلة ضحوة يوم الجمعة الموافق 17 \ 4 \ 1367 هـ، وصفه قائلا: هو رجل متواضع، بشوش، ربعة، أصفر اللون، مستطيل الوجه، أقنى(42/291)
الأنف، ناتئ الجبهة، أزج الحواجب، أقرنهما غير واسع العينين، في أوائل العقد السابع من العمر، وقد خط الشيب فوديه ولحيته، وهو دائب الحركة، خفيف نشط، وتبدو في ملامحه أمارات الرضا والغبطة.
وعن تواضعه قال: وقد تحدث إلينا فقال: إنه مع شيبته كان لا يستنكف في تلقي دروس الحساب والخط مع صغار التلاميذ في مدرسة الأستاذ إبراهيم حلواني في مكة المشرفة. (1) .
ومثلما ارتسمت ملامحه لدى محرر مجلة المنهل، فكذلك نجد جوانب أخرى من صفاته لدى الكاتبين عنه، وكلهم ممن عرفه عن كثب. .
فالشيخ عبد الله البسام قد أجمل صفاته بقوله: وكان آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، يصدع بالحق ولا تأخذه في الله لومة لائم، وكان يتجول في أسواق عنيزة وشوارعها لهذه الغاية، فلا يرى متخلفا عن الجماعة في المسجد، أو امرأة لابسة شيئا من زينتها، إلا علاه بعصاه، وزجره بلسانه، حتى صار له هيبة وسطوة، يحذره منها الكسالى والمتهاونون، وفي عدة مرات يفتح مكتبا لتعليم الأطفال القرآن الكريم، والكتابة والحساب مجانا لوجه الله تعالى، كما يوجه الكبار منهم إلى مبادئ العلوم، وأنا كنت من الأطفال الصغار الذين دخلوا في كتابه - رحمه الله تعالى - فكان لا يأذن لنا بالخروج حتى نؤدي الصلاة في أوقاتها، وهو يلاحظنا عن اللعب في الصلاة، ثم يخرج بعد ذلك لأداء الصلاة في المسجد. (2) .
أما الشيخ محمد القاضي في ترجمته لحياته، فقد وصفه بصفات عديدة، منها قوله: العالم الجليل، والمرشد المصلح النبيل، الصادع بكلمة الحق، الورع الزاهد.
__________
(1) مجلة المنهل: انظر مخطوطته عن الشيخ القرعاوي (ص185 - 186) .
(2) انظر كتابه: علماء نجد خلال ستة قرون (2: 631 - 632) .(42/292)
كما وصفه برخامة الصوت، والتجويد لكتاب الله، والبر بوالدته، وحب الإصلاح بين الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي عام 1386هـ فقد بصره، وضعفت قواه، وأرهقته الشيخوخة (1) .
ولعل أوسع من تناول صفات الشيخ عبد الله القرعاوي بالتفصيل تلميذه موسى السهلي، فقد تحدث في مؤلفه عنه أكثر مما تحدث من ألف قبله، حيث جمع بين النقل عن المصادر التي اطلع عليها، والمعاصرة للشيخ باعتباره من أخص تلاميذه الأوائل الملازمين له، فكان له مع مخالطة الشيخ عن كثب ومعرفة الشيء الكثير عن طبيعة نفسه، مجال للأخذ منه مشافهة، مع الاطلاع على أمور دقيقة، من حركاته وسكناته، ولكون الشيخ موسى من خواص أوائل طلاب الشيخ القرعاوي، الذين يصاحبهم في التنقل في المنطقة: دعوة وتدريسا، ومعلوم أن السفر من الأوضاع التي تبرز فيها بواطن النفس، وخصائص الأعمال؛ لأن الإنسان ينطلق على سجيته، ولذا نرى الشيخ موسى، قد وزع ملامح الشيخ القرعاوي وسماته إلى ثلاث حالات، حيث قال:
صفاته الخلقية: رحم الله الشيخ القرعاوي، فقد جمع الله له من الصفات الخلقية، ما جعله أهلا للدعوة إلى الله، والقيام بالتعليم في هذه البلاد وفي غيرها. فقد كان - رحمه الله - ربعة بين الرجال، عريض المنكين، قوي البنية، أصفر اللون، مستطيل الوجه، أقنى الأنف، كث اللحية، خفيف العارضين، ناتئ الجبهة، أزج الحاجبين أقرنهما، ضيق العينين، ولم يكن حاد البصر، لرمد أصابة وأحدث في عينيه بياضا، جهوري الصوت، وقورا، له هيبة
__________
(1) راجع روضة الناظرين ضمن ترجمة الشيخ (2: 40 - 42) .(42/293)
في المجالس، دؤوبا على عمله، يتمتع بمكانة سامقة بين طلابه وذويه، وكان - رحمه الله - ذكيا، حاضر البديهة، بعيد النظر، له فراسة قوية، كثير المبادرة إلى سبل الخير، يغضب للحق، ويعيش من أجله، إذا ذكرته بالله، ارتعدت فرائصه، شديد الغيرة على محارم الله - عز وجل، وكان أبي النفس، لا يقبل الضيم، وفي الوقت نفسه كان حليما، لين الجانب، يحب الصغار، ويعطف على المساكين والعجزة من القوم، لا يفتأ يذكر الله في السر والعلن، في الفرح والحزن، كان يتأسى كثيرا بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم - الذي جعله الله أسوة حسنة لكل مسلم.
2 - تواضعه: حقا كان شيخنا - رحمه الله - يتسم بالحلم والوقار، والتواضع الجم، وقد حدثنا عن نفسه: أنه كان مع شيبته لا يستنكف من تلقي دروس الحساب والخط مع صغار التلاميذ في مدرسة الأستاذ إبراهيم حلواني بمكة المشرفة، وذلك غاية النبل، وقمة التواضع، عندما يجلس هذا العالم ليتزود بما ليس لديه من العلم النافع على يد أربابه.
3 - حرصه على العبادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: منذ فترة باكرة، وهذا الرجل يحب أمور الخير، يقول الشيخ عبد الله البسام. . . ثم ذكر بعضا من صفاته التي ذكرناها هنا عن ابن بسام، وبعد ذلك أردف قائلا: ناهيك عما قام به من أعمال في الجنوب، مما سنتحدث عنه بتوسع - إن شاء الله - وقد جعل الشيخ موسى القسمين الرابع(42/294)
والخامس من ص22 إلى ص55 لعمل الشيخ في الدعوة بالجنوب التهامي وعسير وما حولها.
وقد زودني الأخ الشيخ محمد القرعاوي - ابن الشيخ المترجم له - بنسخة مصورة عن مخطوطة من إعداد الشيخ عمر أحمد جردي مدخلي عن سيرة الشيخ القرعاوي وعمله في المنطقة، بدأها منذ طلب منه في عام 1389هـ أن يكتب عن الشيخ ثم بعد التأكيد في عام 1392هـ، ويظهر مما وصلني أنه لم ينته من التأليف بعد. . ومما جاء في هذا المخطوط من صفات الشيخ القرعاوي قوله:
مربوع القامة، أبيض اللون، يميل إلى الحمرة، قوي البنية، نشيط في جسمه، قوي في بدنه، لا يستطيع أحد من طلابه في ذلك الوقت أن يقوم بما يقوم به من نشاط علمي وعملي، كث اللحية، أعطاه الله من الذكاء والفراسة ما لم يعط أحدا في زمانه (1) .
داعيا إلى الله بالحكمة واللين والرفق، عالما ورعا، زاهدا مخلصا، صابرا محتسبا في دعوته إلى الله تعالى، وكان - رحمه الله - سلفي العقيدة: عقيدة أهل السنة والجماعة، أما الفروع فلا يتقيد فيها بمذهب من المذاهب الأربعة فقد كان مذهبه مذهب السلف الصالح، إذا صح الحديث فهو مذهبه، وكان يقوم الليل مع كثرة متاعبه طيلة النهار بالتدريس، وجزء من الليل، وكان ينام مرة على الحصير بالمسجد، ومرة عند القاضي الشيخ: إبراهيم المحمد العمود من أهل عنيزة، وكان يحب المساكين ويكرمهم، وكان
__________
(1) هذه مبالغة وليته قال قدرا كبيرا من الذكاء والفراسة.(42/295)
يعطف على الأرامل والأيتام ويواسيهم، وكان يحب طلبة العلم حبا لله، وفي الله، وقد لقي من المتاعب والمكائد والحسد ما الله به عليم، لكنه - رحمه الله - قابله بالصبر والاحتساب (1) .
وفي مواصلته الحديث عن الشيخ القرعاوي، حسب معرفته الشخصية يقول: وفي الأعوام الأخيرة قام ببناء المساجد في جهات متعددة من جوامع وغيرها كثير، لا أستطيع حصرها، ولقد حفر آبارا كثيرة للشرب، وقد بذل جهدا كبيرا بالشفاعة عند الحكومة لتوظيف بعض الطلبة، ومشايخ القبائل، فاجتمعت في هذه المنطقة بفضل الله ثم بأسبابه نعمة الدين والدنيا معا، وكان محسنا كبيرا كريما، ويحب أهل الكرم، وقد أوصى بثلث ماله عند موته في المشاريع الخيرية، في بناء المساجد، وحفر الآبار، وغيرها من أعمال الخير، والحمد لله قد نفذ من الثلث الشيء الكثير، وذلك من حسن نيته - رحمه الله - وحسن تدبير وصيه ولده الأكبر الشيخ محمد - حفظه الله، وكثر أمثاله من الأولاد الأبرار الأتقياء (2)
__________
(1) المخطوطة المذكورة والتي لم يسمها المؤلف بعد (ص4) .
(2) المخطوطة المذكورة والتي لم يسمها المؤلف بعد (ص 5) .(42/296)
رحلاته في طلب العلم:
كابد الشيخ القرعاوي مشاغل الحياة، جريا وراء لقمة العيش، ولم يتفرغ لطلب العلم إلا على كبر، فكان من القلة الذين جعل الله في علمهم بركة، وفي إخلاصهم وصدقهم مع الله نتيجة، وذلك بتفتح السبل، وتذليل الصعاب، وسرعة النتائج، حيث دأب - رحمه الله - على الإخلاص والنصح والدعوة، منذ كان شابا في عنيزة، ومع تلاميذه في أول مدرسة افتتح في مسقط رأسه للتعليم: قراءة وكتابة كما نوه عن ذلك كل من الشيخين(42/296)
عبد الله بن بسام (1) ومحمد القاضي (2) وهما ممن عرفا مدرسته إبان طفولتهما، وسبرا أخباره عن كثب. وهو - رحمه الله - وإن لم يتحدث في رسالته التي نشرتها المنهل عام 1367 هـ عن رحلته في العلم: طلبا واهتماما ومتابعة، إلا أنه أعطى لمحة عابرة تنبئ عن الجهد المبذول في طلب العلم، والانتجاع من أجله، عندما قال: وذلك أني لما رجعت من الهند في 22 رمضان سنة 1357 هـ، وقدمت الرياض، أقمت عند شيخي الفاضل العلامة: محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، أقرأ عليه للمرة الثالثة، وأما الرابعة فكنت مستمعا، وأما الخامسة فلم أجده لأنه كان بمكة يومئذ، وقد ذهبت إلى الأحساء عند فضيلة الشيخ عبد العزيز بن بشر، وإلى قطر عند فضيلة الشيخ محمد بن مانع، فقرأت عليهما كليهما في الحديث (3) .
ولكن محرر هذه المجلة، أوضح في مقدمة اللقاء معلومات أكثر فقال: وقد تحدث إلينا القرعاوي فقال: إنه مع شيبته كان لا يستنكف من تلقي دروس الحساب والخط مع صغار التلاميذ، في مدرسة إبراهيم الحلواني في مكة المشرفة، وأنه ارتحل إلى الهند وهو كبير السن لاستكمال الدراسة، وقد كرر الدراسة مرارا في نجد على شيخه العلامة: الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن سليم، والشيخ عمر بن سليم في بريدة، وأنه يطبق على نفسه المبدأ القائل: " اطلب العلم من المهد إلى اللحد ". وأنه كان يستعد بذلك كله لهذا العمل الذي قام به في الأخير. (4) .
__________
(1) انظر كتابه (علماء نجد خلال ستة قرون) (2: 630 - 631) .
(2) انظر كتابه (روضة الناظرين عن مآثر علماء نجد وحوادث السنين) (2: 40 - 45) .
(3) مجلة المنهل م8 عدد 5 سنة 1367 هـ ص188 - 189.
(4) مجلة المنهل م8 عدد 5 سنة 1367 هـ (ص 189) .(42/297)
ويزيد الشيخ عبد الله البسام الأمر وضوحا عندما قال عن طلب الشيخ للعمل إجمالا: نشأ المترجم له في مدينة عنيزة، وصار يتعاطى التجارة من حداثته، وعمه يوجهه ويرشده، ثم صار له ميل إلى طلب العلم، فأخذ عن الشيخ عبد الله بن محمد آل مانع، كما رحل إلى بريدة فلتقاه عن الشيخ عبد الله بن سليم، وعمر بن سليم، وترك التجارة وانصرف إلى طلب العلم، فرحل إلى الهند للتزود من العلم، وذلك عام 1334 هـ، والتحق بالمدرسة الرحمانية بدلهي، وتلقى علم الحديث عن علماء السنة في الهند، فلما جاءه خبر مرض والدته بعد سنة من وصوله، عاد إلى عنيزة ولكن توفيت قبل وصوله، ثم جد في طلب العلم، وصار يقوم برحلات إلى العلماء الكبار في أوطانهم وأمكنة عملهم، وفي خلالها يعود إلى بلده عنيزة، فرحل إلى بريدة، للأخذ عن علمائها، كما رحل إلى الرياض، وأخذ عن سماحة الشيخ: محمد بن إبراهيم، كما رحل إلى الأحساء وأخذ عن قاضيه الشيخ عبد العزيز بن بشر، كما رحل إلى قطر فتلقى العلم عن العلامة: الشيخ محمد بن مانع، ثم رحل إلى المجمعة فقرأ على الشيخ عبد الله العنقري، ثم عاد إلى الهند لإكمال دراسته، فتلقى علم الحديث عن الشيخ عبد الله بن أمير القرشي الدهلوي، وأجازه إجازة مطولة، ورحلته الأخيرة عام 1355 هـ، ثم عاد عام 1357 هـ. .
أما الشيخ محمد القاضي فقد أورد أن الشيخ القرعاوي ذكر له عن طلبه العلم، وهو معه في المسجد الحرام، كما أملى عليه رحلاته فقال باستطراد: قرأ القرآن، وشرع في طلب العلم بهمة ونشاط ومثابرة، فقرأ على علماء عنيزة، ومن أبرز مشايخه: الجد صالح بن عثمان، والخال عبد الله بن مانع،(42/298)
وسليمان العمري، قاضي الاحساء. . هكذا ذكر لي، وأنا معه في المسجد الحرام، وأملى علي رحلاته وسأذكرها: فتح مدرسة للتعليم لكتاب الله والخط والحساب ومبادئ العلوم، وكان مجودا وله صوت رخيم، واستمر يدرس تبرعا لوجه الله، والتف إليه طلبة كثيرون، وإذا حان وقت الصلاة ساقهم إلى المسجد ومعه عصاه، ومتى رأيناه مقبلا ونحن في طفولتنا ينذر بعضنا البعض: جاءكم القرعاوي، فنهرب ويرسل علينا عصاه، وهذا دأبه طول بقائه بعنيزة، داعية خير ورشد، وتخرج عليه قراء مهرة، وإذا قيل له: اكفف عن الضرب لتسلم من أذيتهم يجيب بأنني قادر على الإنكار باليد، وفي الصحيح: «من رأى منكم منكرا فلغيره بيده (1) » وكان إذا طلع الفجر، يقوم فيقرع بيوت جيرانه: قوموا إلى الصلاة. . الصلاة خير من النوم. بصوت عال، ويقرع الأبواب حتى يستيقظوا، ويظهر إلى خارج البلد، فمن رآه ساقه إلى المسجد بالعصا، كما يسوق الراعي غنمه، ومتى لم يمتثلوا ضربهم، أو رفع بهم إلى الحاكم (2) .
وقد استمر في إبانة ما يهم الناس في أمور دينهم، بصلابته في الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. . إلى أن قال: وبعد عودته من التجارة في الشام إلى عنيزة، صار يوالي نشاطه التربوي والتأديبي، وفتح دكانا للبيع والشراء، وكان صدوقا في المعاملة، وفي الصباح والليل يلازم مشائخه، ورحل إلى بريدة فقرأ على علمائها، ومنهم عبد الله بن سليم، وعمر بن سليم، وفي عام 1344هـ سافر إلى الهند، فقرأ على علماء الحديث في دلهي حوالي سنة، فبلغه مرض أمه، وطلبها لحضوره، عند ذلك أزمع السفر إلى عنيزة، وماتت - رحمها الله - قبل وصوله، فبقي عشرة
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه الفتن (4013) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(2) روضة الناظرين (2: 40 - 41) .(42/299)
أيام، وغادر عنيزة للاحساء فقرأ على قاضيها، الشيخ عبد العزيز بن بشر ولازمه، ثم إلى قطر والساحل، وقرأ على محمد بن عبد العزيز المانع، وعاد إلى الرياض فلازم علماءه، ومن أبرزهم سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وسافر إلى المجمعة فقرأ على قاضيها عبد الله بن عبد العزيز العنقري، ثم عاد إلى الرياض فقرأ على مشايخه، ثم رحل إلى الهند للمرة الثانية عام 1355هـ، فقرأ على علماء الحديث في الهند، ولازم حمد الله القرشي الدهلوي (1) وأجازه بسند متصل، وبقي سنتين، ثم عاد إلى عنيزة، وكان يتجول في الأسواق، فمتى رأى امرأة متبرجة ضربها بسوطه، وإذا سمع بأخوين متصارمين، سعى للإصلاح بينهما ما أمكنه، واشتهر بالإصلاح لذات البين، وسافر في عام 1358م (2) للرياض، ولازم سماحة الشيخ محمد، وحج معه، وبعد أداء المناسك، طلب الملك عبد العزيز - رحمه الله - من سماحته أن يوجه إلى الجنوب مرشدا ومعلما، لأمور الدين، فوجه المترجم له: القرعاوي إليه ووصاه بالإخلاص في دعوته، وبتقوى الله في السر والعلن، فسافر في 25 من ذي الحجة من مكة عام 1358هـ (3) ووصل سامطة (4) .
أما الشيخ عمر أحمد في مخطوطته عن الشيخ القرعاوي، فإنه قد ذكر هذه الرحلة العلمية للشيخ، ولكن مع اختلاف عما جاء عند الشيخين عبد الله البسام، ومحمد القاضي، ولعل هذا من تغير الرواية، أو اختلاف
__________
(1) صحة الاسم أحمد الله بن أمير القرشي، كما هو خاتمه في الإجازة.
(2) لعل صحتها عام 1357 هـ.
(3) صحة ذلك يوم 20 من صفر عام 1358هـ كما ذكر القرعاوي في مجلة المنهل عام 1367هـ.
(4) روضة الناظرين (2: 42) .(42/300)
النقل، وذلك عندما: ذكر - رحمه الله - أنه أول ما سافر إلى الهند لطلب العلم عام 1345 هـ، ودرس بمدرسة الرحمانية بدلهي للمرة الأولى، وأقام بها عشرة أشهر، ثم ذكر أن أمه أرسلت إليه خطابا تطلب فيه حضوره فسافر - رحمه الله - حال وصول الخطاب حسب طلب أمه، ولما وصل عنيزة، فإذا هي قد ماتت قبل وصوله بثمانية أيام - رحمهما الله رحمة الأبرار.
وفي طلبه العلم بنجد: ذكر - رحمه الله - أنه جلس بعنيزة سبعة أيام ثم سافر إلى بريدة، وجلس عند الشيخ: عبد الله بن سليم، وعمر بن سليم، ثم سافر إلى مكة، وطلبوا منه الموافقة على تعيينه قاضيا، أو مطوعا فسافر إلى مصر هاربا من الوظيفة، ولقصد طلب العلم، ولما وصل إلى مصر وجد بعض الأساتذة مخالفين للسنة في بعض أمورهم، فجلس ما شاء الله، ثم سافر إلى فلسطين، زاعما أنه يجد في نابلس علماء، فحصلت له قصة مع عالم من علمائها، رواها لي أحد تلامذته، الشيخ أحمد يحيى النجمي، وهي: لما وصل إلى مدينة نابلس، جلس عند شيخ عنده حلقة علم، يعلم الناس وهو جالس وسط الحلقة، فلما سأله من أين جاء؟ فأخبره أنه من نجد، فقال ذلك الشيخ: من العرب الذين يأكلون الشعير؟ قال: نعم. ثم قال له الشيخ عبد الله - رحمه الله -: تسمح لي يا شيخ؟ قال: نعم. قال: أتعرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل الشعير؟ قال: نعم. قال له: فكيف تعيرنا بالشعير، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أكله. ثم قال له: أتعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الجلوس وسط الحلقة. قال: نعم. قال له: فكيف تجلس في وسط الحلقة وأنت تعرف هذا النهي. وبالجملة فقد أفحمه ثم سافر من عنده.
ثم سافر - رحمه الله - إلى الشام لطلب العلم عن طريق حيفا وعكا(42/301)
وبيروت، فلم يجد مطلوبه، فسافر إلى عمان ثم إلى معان، ثم رجع إلى القصيم، ثم سافر إلى الرياض، والتقى بابن سليم وابن بليهد (1) .
ثم ذكر عن طلبه العلم للمرة الثانية بنجد فقال: ذكر- رحمه الله - أنه سافر إلى الرياض فلم يجد الشيخ محمد بن إبراهيم، فسافر إلى الأحساء، وجلس يقرأ على الشيخ ابن بشر، هو وابن دهيش، وذكر - رحمه الله - أنه كان يدرس على الشيخ ابن بشر، ويبيع ويشتري، وكان جلوسه هذا بعد أن طاف على العراق والكويت، والزبير، فلم يجد أحدا يدرس عليه، ثم مر على عمان وقطر، فوجد لدعوته أثرا طيبا في تلك الجهة، ولكن لم يطل مقامه لعدم المشارك في طلب العلم لديه، والشيخ مشغول بالقضاء، كذلك جلس برأس الخيمة أحد عشر يوما، ثم رجع إلى عنيزة (2) .
وعن طلبه العلم بنجد للمرة الثالثة قال: ذكر - رحمه الله - أنه جلس يقرأ على الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وبعد مدة تشاور مع الشيخ محمد: هل يكمل دراسته بالحجاز، أو الهند، فأشار عليه بالسفر إلى عنيزة بلده.
وأخيرا طلب العلم بالهند، وحصل على الإجازة من شيخه أحمد - وأورد جزءا من نص الإجازة - ثم قال: وقد تحصل ولله الحمد على العلم النافع، وصار عالما بارعا بالتفسير والحديث، والتوحيد والفقه، والمصطلح والفرائض وأصول الفقه والتجويد، وفي النحو والصرف، والمعاني والبيان، والبديع والتاريخ، والسيرة والإنشاء، والإملاء والخط والحساب.
__________
(1) انظر مخطوطته هذه (ص 6، 7) .
(2) انظر مخطوطته هذه (ص8)(42/302)
فكان - رحمه الله - عالما بهذه الفنون، عاملا بما علم، ويحفظ كتاب الله عن ظهر قلب، وبعد مضي سنتين بالهند رجع إلى الرياض، في شهر رمضان عام 1357هـ (1) .
أما الشيخ موسى السهلي، فقد أفاض في مؤلفه: عن طلب الشيخ القرعاوي للعلم، بحيث استغرق منه قرابة خمس صفحات، لم يخرج ما فيها عما جاء عند الشيخين: عبد الله البسام ومحمد القاضي، إلا أنه زاد في شيوخه تاسعا؛ هو الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ بالرياض، وأورد إجازة الشيخ أحمد الله بن أمير القرشي مدير المدرسة الرحمانية السلفية بدلهي، التي بين فيها أهلية القرعاوي العلمية، وفضله ومكانته بين العلماء، وذكر فيها أسماء الكتب التي درسها عليه، وأجازه بتدريسها (2) .
كما عرض عليه المسئول بالمدرسة الإقامة عندهم، ليكون مديرا في مدرسة هناك، ويلقي ثلاثة دروس عربية، فوافق مبدئيا إلا أنه ما لبث أن اختلف معهم في الرأى، فاستسمح منهم وعاد إلى نجد، ونزل مدينة الرياض (3) .
ومن هذا الاستعراض لمن كتب عن طلب العلم للشيخ القرعاوي ندرك أن رواياتهم تباينت، وأن لدى بعضهم ما يغاير الآخر في الرصد التاريخي، وعن أماكن طلب العلم، وعن عدد شيوخه: اسما ومكانا، ومدة المكث في بعض الجهات لطلب العلم. . إلى غير ذلك.
كما يبرز سبب تطوافه البلدان، في حرصه على طلب العلم الشرعي، واهتمامه بالعقيدة السليمة؛ لأنه يبحث عن بغية رسمها لنفسه بنيه صادقة، ومع هذا فلم يعزب عن باله المهمة الأساسية التي صوب جهده نحوها، منذ
__________
(1) انظر مخطوطته هذه (ص 10- 11) .
(2) راجع نص هذه الإجازة مع صورتها في ملحق كتابه عن الشيخ القرعاوي ودعوته.
(3) راجع نص هذه الإجازة مع صورتها في ملحق كتابه عن الشيخ القرعاوي ودعوته (ص 16 - 21) .(42/303)
حداثة سنه، حرصا على حسن المأخذ، واهتماما بالهدف الذي قصده، ومواصلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء لواجب العلم في الدعوة والتعليم.
ومن هذا الهدف بدأ بفتح مدرسة في عنيزة، وحرص على تعليم طلابه الصلاة، وحثهم عليها، ومتابعتهم، كما اهتم بالأمر بالمعروف، وإيقاظ الناس للصلاة، ومتابعة النساء عن التبرج، ثم لما أنيطت به مهمة الدعوة في جنوب المملكة، وجد ما يشفي غليله، ويستوعب جهده في التعليم بفتح المدارس، وبناء المساجد، وحفر الآبار، وفي الدعوة بالتجوال، وإنكار المنكرات المتفشية في المنطقة من سحر وتعلق بالموتى وغير ذلك.(42/304)
زهده في الوظائف:
للشيخ القرعاوي - رحمه الله - نظرة خاصة حول الوظيفة، إذ يراها قيدا تحول دون تحقيق ما يصبو إليه في التعليم والدعوة، والتنقل في سبيل ذلك، وقد يكون زهده فيها ورعا وتأثما، ولذا نراه في أخذه العلم كالطائر المحلق، يقع على أي شجرة يريد، ويحط بأي أرض تحلو له، وفي حرصه على التعلم كالنحلة التي لا تأخذ إلا من أطايب الثمر، وأزكى الأشجار، حيث ينعكس أثر ذلك على عطائه، وما يبذله نحو طلابه. فكانت له هيبة لدى الخاص والعام، وقابلية عند الجميع، هذا إلى جانب كثرة عبادته، وما جبلت عليه نفسه من حب للخير منذ نشأته، ورغبة في مساعدة الناس.
ويظهر من تتبع سيرة الشيخ القرعاوي، أن لدية نية صادقة، وذكاء وقادا، واحتسابا في كل عمل يقوم به.(42/304)
فهو إن فتح مدرسة لتعليم القرآن الكريم، والكتابة والحساب، فلوجه الله تعالى، يدرس فيها بالمجان ويبذل من ماله ما يشجع الدارسين، ففي أول مدرسة فتح في عنيزة عام 1347هـ كان يعمل لطلابه ندوة من أجل تنشيطهم أسبوعيا، ويختبرهم في دروسهم، والفائز يعطيه جائزة، فأعطى أحدهم ساعة جيب تسمى (راس كوب) وغير هذا من حوافز مالية ومادية.
ومن حبه للتعليم لوجه الله فقد عاود في عام 1349هـ فتح المدرسة بعد رجوعه إلى عنيزة تحقيقا لرغبة أهالي البلد، احتسابا لله، واجتمع لديه عدد جيد من الطلاب، ولكنهم تفرقوا لطلب المعيشة (1) .
وأثناء دراسته في الهند طلب منه بعد التخرج أن يكون مديرا للمدرسة الرحمانية، وهي التي درس فيها، ونال من كبير مشايخها الإجازة، وأن يلقي ثلاثة دروس عربية، فتعذر وتوجه إلى نجد.
وبعد عودته من الهند في عام 1357هـ، عرض عليه بعض المسئولين في الدولة عام 1358هـ إدارة مدرسة المجمعة، أو إدارة مدرسة بريدة، أو يكون مدرسا في عنيزة، أو في دار الحديث بمكة المكرمة (2) وهذه المدارس جميعها حديثة الإنشاء. .
أو مطوعا بإحدى المناطق ليصلي بهم ويرشدهم ويحل أمورهم التي يسألون عنها في الدين، فلم يرغب شيئا من ذلك.
__________
(1) المخطوطة (ص 8) .
(2) المخطوط (ص 11)(42/305)
كما أنه بعد وفاة والدته وعودته من الهند، سافر إلى بريدة، وجلس عند الشيخين: عبد الله بن سليم وعمر بن سليم، ثم سافر إلى مكة وطلب منه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ الموافقة على تعيينه قاضيا أو مطوعا، فسافر إلى مصر هربا من الوظيفة (1) .
__________
(1) المخطوط (ص6) .(42/306)
إجازته العلمية:
في عام 1357هـ أجازه كبير مشايخ المدرسة الرحمانية بدلهي الشيخ: أحمد الله بن أمير القرشي كعادة علماء السلف أن يجيز أنجب تلاميذه، موضحا في هذه الإجازة المكانة العلمية التي وصل إليها التلميذ، وهذه الإجازة هي بمثابة ما يعرف اليوم بالشهادة العليا: ماجستير. . ودكتوراه. . إلا أن الشهادات العليا اليوم لها تنظيم وتقنين غربي، وفي فرع من فروع الدنيوية بوجه خاص، أما الإجازة: فهي تقدير من الشيخ لمكانة وعلم تلميذه، وهي في العلوم الشرعية.
وفي نظري أن الإجازة أدق من التنظيم الحديث للرسائل العلمية، على المنهج الغربي الذي أصبح في العالم بأسره، ومن بينهم المسلمون والعرب.
والإجازة ذات مكانة للطالب؛ لأنها شهادة علمية، تخصص الجانب الذي برز فيه، والتقدير من شيخه له بما وصل إليه من علم، مع التزكية له بالمكانة التي تؤهله لمنح الإجازة لغيره ولمن هو أهل لها، مع الوصية له بأن يتقي الله في علمه.
والإجازة تنتقل من الأعلى للأدنى، تسلسلا وتتابعا، وتبين مكانة الإجازة من نص المجيز، وإبانته عما وصل إليه الطالب.(42/306)
فالشيخ أحمد الله، قد أجاز الشيخ القرعاوي، وبخط يده، وذيلها بخاتمه وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، وبين كتابه لعباده الإنس والجن عربا وعجما، وشيد معالم العروة الوثقى إلى يوم التناد بالأسانيد العلى، الذين خلصوا بأعلام التقى، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تقدس بذاته وصفاته عن وصمة التشبيه والتعطيل، لا ضد له ولا مثيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه، والأئمة المحدثين الحافظين شريعة الله ورسوله صلاة وسلاما إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنه ورد إلينا في بلدة دلهي، الطالب النجيب الأمجد، الصالح الأرشد، العالم الجليل والفاضل النبيل، عبد الله بن محمد القرعاوي النجدي، من أهل عنيزة غفر الله لهما، وقرأ علي بلوغ المرام، والمشكاة والمنتقى، وشيئا من التفسير، وشيئا من العربية في مجيئه الأول، وبعد مجيئه الثاني قرأ علي وسمع من الصحاح الست، والموطأ والبيضاوي مع الطلب، وطلب مني بعد الفراغ من القراءة والسماع الإجازة في ذلك، ووصل سنده بسند أهل الجد والاتباع، فأسعفته بذلك تحقيقا لظنه ومطلوبه؛ لأنه أهل لذلك، فإن كنت لست أهلا لذلك، ولكن تشبها بالأئمة الأعلام، السابقين الكرام: شعرا:
وإذا أجزت مع القصور فإنني ... أرجو التشبه بالذين أجازوا
السابقين إلى الحقيقة منهجا ... سبقوا إلى غرف الجنان ففازوا
فأقول وبالله التوفيق: إني قد أجزت الطالب المذكور، كما أخذت قراءة وسماعا وإجازة عن مشايخ أجلاء، وأعلام وأساتذه كرام، من أجلهم شيخنا الشريف، الإمام الهمام، المحقق سيدنا نذير حسين الدهلوي - رحمه(42/307)
الله - عن الأورع الأتقى، المشهور في الآفاق مولانا محمد إسحاق - رحمه الله - عن الشيخ الشهير، العالم الجليل، شاه عبد العزيز - رحمه الله - عن الشيخ الأجل الأكمل شاه ولي الله - رحمه الله، وسنده مثبت في عجالة النافعة، للشيخ الشاه عبد العزيز ح، وشيخنا الأكرم سند المحدثين، رئيس المحققين، حسين بن محسن الأنصاري الخزرجي السعدي اليماني، عن العالم الفاضل محمد بن ناصر الحسيني الحازمي، والقاضي العلامة أحمد بن القاضي، الحافظ الرباني، محمد بن علي الشوكاني الصنعاني، كلاهما عن والد الثاني، أعني به القاضي العلامة، الحافظ الرباني، محمد بن علي الشوكاني، عن شيخه السيد العلامة عبد القادر بن أحمد الكوكباني، عن شيخه السيد العلامة: سليمان بن يحيى بن عمر بن مقبول الأهدل - رحمه الله - ح وبرواية الشريف محمد بن ناصر، والقاضي أحمد بن محمد بن علي الشوكاني، عاليا بدرجة، وعن شيخنا السيد العلامة، وجيه الإسلام، ومفتي الأنام، عبد الرحمن بن سليمان بن يحيى بن عمر بن مقبول الأهدل - رحمه الله تعالى، عن شيخه ووالده السيد العلامة: نفيس الدين، وخاتمة المحدثين سليمان بن يحيى بن عمر بن مقبول الأهدل، عن شيخه السيد العلي، أحمد بن محمد شريف الأهدل، عن شيخيه العلامتين: عبد الله بن سالم البصري المكي وأحمد بن محمد النخلي المكي، كلاهما عن المحقق الرباني، الشيخ إبراهيم بن حسن الكردي الكوراني المدني، عن شيخه العلامة: أحمد بن محمد القشاشي، بضم القاف، المدني، عن شيخه العلامة الشمس: محمد بن أحمد الرملي، المصري الشافعي، عن شيخ الإسلام القاضي زكريا بن محمد الأنصاري المصري ح، وبرواية البصري والنخلي الطيار عن الشمس محمد بن علاء الدين البابلي، بكسر الثانية(42/308)
المصري، عن سالم بن محمد السنهوري، عن النجم محمد بن أحمد الفيطي، عن القاضي زكريا بن محمد الأنصاري المصري، عن شيخ الإسلام، وخاتمة المحدثين الأعلام، أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، رحمه الله، فأروى صحيح الإمام الحافظ أمير المؤمنين في حديث سيد المرسلين، أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، بالأسانيد المذكورة إلى الحافظ ابن حجر العسقلاني عن شيخه زين الحفاظ، أبي الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي، عن شيخه الإمام الحجة المسند المعمر أبي العباس، أحمد بن أبي طالب الحجار، عن شيخه الإمام أبي عبد الله الحسين بن المبارك الزبيدي، عن الحافظ أبي الوقت، عبد الأول بن عيسى السجزي، عن الإمام أبي الحسين عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الدؤادي، عن شيخه الحافظ أبي محمد عبد الله بن أحمد حمويه الحموي الرخسي عن الحافظ أبي عبد الله بن يوسف بن مطر الفريري، عن مؤلفه الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن الأحنف، الملقب بردزبه الجعفي مولاهم البخاري رحمه الله تعالى.
أما صحيح الإمام الحافظ مسلم بن الحجاج القشيري، فأرويه بالأسانيد السابقة إلى الحافظ ابن حجر العسقلاني عن الصلاح بن أبي عمر المقدسي، عن أبي الحسن علي بن أحمد المعروف بابن البخاري، عن المؤيد محمد الطوسي، عن فقيه الحرم أبي عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الغزاوي عن أبي الحسن عبد الغافر بن محمد الفارسي، عن أبي أحمد بن عيسى الجلودي، بضم الجيم، نسبة إلى سكة الجلوديين بنيسابور الدراسة، وقيل بفتحها نسبة للجلود، قرية كذا في ثبت الأمير محمد بن محمد بن أحمد بن عبد القادر المصري، عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مؤلفه: الإمام الحافظ: مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، رحمه الله(42/309)
تعالى، إلا ثلاثة فرأيته في ثلاثة مواضع لم يسمها: إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن شيخه الإمام مسلم، فروايته لها عن مسلم بالإجازة أو بالوجادة، وقد غفل أكثر الرواة عن تبيين ذلك وتحقيقه في إجازاتهم وفهارسهم، بل يقولون في جميع الكتاب: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان قال: أخبرنا مسلم بن الحجاج، وهو خطأ نبه على ذلك الحافظ ابن الصلاح، كما حكاه عنه النووي، في مقدمة شرح مسلم، رحمه الله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما سنن الإمام الحافظ أبي داود: سليمان بن الأشعث السجستاني رحمه الله، فبالأسانيد السابقة إلى الحافظ ابن حجر العسقلاني، عن أبي علي المطرزي، عن يوسف بن علي الحنفي، عن الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري، عن أبي حفص عمر بن محمد بن معمر بن طبرزد البغدادي، عن إبراهيم بن أبي عمر القاسم ابن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، عن أبي علي بن محمد بن أحمد اللؤلؤي، عن مؤلفه: أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، رحمه الله تعالى آمين.
وأما سنن الإمام الحافظ أبي عيسى، محمد بن سورة الترمذي، رحمه الله تعالى، فبالأسانيد السابقة إلى شيخ الإسلام: القاضي زكريا بن محمد الأنصاري المصري، عن العز عبد الرحيم بن محمد المعروف بابن الفرات، عن الشيخ أبي حفص عمر بن الحسن المراغي، عن الفخر علي بن أحمد بن عبد الواحد، المعروف بابن البخاري، عن عمر بن محمد بن معمر بن طبرزد، عن أبي الفتح عبد الملك سهل الكروخي، بفتح الكاف وضم الراء، عن القاضي أبي عامر محمود بن القاسم الأزدي، عن أبي محمد عبد الجبار بن محمد بن عبد الله الجراح المروزي، عن الشيخ الثقة الأمين أبي(42/310)
العباس محمد بن أحمد بن محبوب المحبوبي المروزي، عن مؤلفه: الحافظ أبي عيسى بن سورة الترمذي، رحمه الله.
وأما سنن الحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر بن سنان النسائي رحمه الله تعالى، فبالأسانيد السابقة إلى الحافظ ابن حجر العسقلاني، عن إبراهيم بن أحمد التنوخي، عن الإمام أحمد بن أبي طالب الحجار، عن عبد اللطيف بن محمد بن علي القبيطي، عن أبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، عن أبي محمد عبد الرحمن بن أحمد الدوني، بضم الدال وسكون الواو وكسر النون، بعدها ياء النسبة إلى دون، قرية من قرى دينور، عن القاضي أبي نصر أحمد بن الحسين الكسار، عن أبي بكر أحمد بن محمد بن إسحاق الدينوري، المعروف بابن السني عن مؤلفه: الإمام الحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي بن بحر بن سنان النسائي رحمه الله تعالى.
وأما سنن الحافظ الإمام: محمد بن يزيد بن ماجه، بسكون الهاء، القزويني، فبالأسانيد السابقة إلى الحافظ ابن حجر العسقلاني، عن أبي الحسن علي بن أبي المحبة الدمشقي، عن أبي العباس أحمد بن أبي طالب الحجار، عن أنجب بن أبي السعادات، عن أبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، عن الفقيه أبي منصور محمد بن الحسين بن أحمد المقومي القزويني، عن أبي طلحة القاسم بن أبي المنذر الخطيب، عن أبي الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة القطان، عن مؤلفه الإمام الحافظ: أبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، رحمه الله تعالى.
فاعلم أن لعبد الله بن محمد المذكور، أن يروي عني جميع ما في هذه الكراسة، من الكتب المذكورة بأسانيدها، إلى مصنفيها المذكورين، وأوصيته بمراجعة الكتب المؤلفة في أسماء الرجال، والكتب المصنفة في(42/311)
ضبط الألفاظ المشكلة، في متون الأحاديث، وإيضاح معانيها، وكتب مصطلح الحديث كألفية الحافظ العراقي، والحافظ السيوطي، وشرحهما والنخبة وشرحها للحافظ ابن حجر وحواشيها وشروح الأمهات الست خصوصا فتح الباري للحافظ ابن حجر فإنه بحر تيار، وعباب زخار وتأمل معاني الأحاديث، والتعبير عن كل لفظ بمدلوله العربي.
وأوصيته بتقوى الله في السر والعلن، والمراقبة لله تعالى فيما ظهر وما بطن، ومتابعة السنن والحياء من الله وحسن الظن بالله وبعباد الله، وأن لا يفضل عن ذكر الله المطلق، وتلاوة كتابه، وتدبر معانيه، والمجاهدة في الله بحسب الطاقة فيما يقربه إلى الله عز وجل، وألا ينساني من صالح دعواته، في خلواته وجلواته، في حياتي وبعد مماتي، ووالدي وأولادي ومشايخي.
وفقنا الله وإياه لما يرضاه، وسلك بنا وبه طرق النجاة، والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأنا المجيز العاجز المسكين، أحمد الله بن أمير القرشي، الدهلوي مسكنا، هندي والأبادي مستوطنا غفر الله لهما، وستر عيوبهما وجعلهما من ورثة جنة النعيم، للعام المذكور في يوم الأحد، وقد مضت ثلاث وعشرون من شعبان سنة ألف وثلاثمائة وسبعة وخمسين من هجرة النبي الأمين الشافع في يوم الحشر. . صلى الله عليه وعلى أهله وأصحابه وأحزابه إلى يوم المحشر، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
خاتمه الرسمي
بخط يده(42/312)
وقد ذيلها الشيخ القرعاوي بالإجازة أيضا لتلميذه، وزوج ابنته: حافظ بن أحمد الحكمي بخط يده أيضا فقال: أقول وأنا كاتب الأحرف عبد الله بن محمد القرعاوي، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وآله وصحبه أجمعين:
أما بعد: فقد أجزت الأخ حافظ بن أحمد علي حكمي، بما أجازني به شيخي أحمد الله بن أمير القرشي الدهلوي بسنده المذكور، وأوصيته ونفسي بتقوى الله، ثم بما أوصاني به شيخي، وأن يداوم على التعليم، ويحافظ على المتعلمين، وخاصة الغرباء والمنقطعين منهم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
غرة رجب عام 1364 هـ.
ويتضح من نص الإجازة أنها تتعلق بأمهات كتب الحديث، رواية ودراية، وهذا مما ينبئ عن مكانة الشيخ عبد الله القرعاوي، وما وصل إليه في فترة زمنية قصيرة، كما نوهت الإجازة إلى ما تحصل عليه رحمه الله في مجيئه الأول. . وهو علم انعكس أثره في طلابه، ووصايا طبقها رحمه الله في دعوته وتعليمه في منطقة هي في أمس الحاجة إليه وإلى جهوده المخلصة، إذا بانت الآثار، وبرزت النتائج.(42/313)
دعوته في الجنوب:
إن بغية الشيخ القرعاوي، وهدفه الذي كان يقصد إليه تحقق، عندما استقر في جنوب المملكة، منطقة جازان وما حولها، حيث وجد نفوسا(42/313)
متعطشة، وأفئدة متهيئة، فكان داعية لله مخلصا، وصادقا في جهده تعليما وأمرا ونهيا وترغيبا وحبا للخير.
وقد عرف الله نيته، فهيأ له قلوبا حريصة، ونيات خالصة كالأرض التي صادفها الوابل بعد انقطاع، أو كالمريض الذي هيأ الله له طبيبا يعينه في تلمس العلاج للعلة التي ألمت به.
فالعالم الشرعي، والطبيب البشري، لكل منهما هدف وغاية، محسوسة وظاهرة، ويترقب من الله أجرا مدخرا، - إن صدق النية مع الله-، ويتطلع لنتيجة في العمل الذي يقوم به، بصدقه وبذله.
والعالم الشرعي، ينقذ الناس - بعد توفيق الله - من الضلالات والشركيات، ويبعدهم عما يتنافى مع دين الله الذي ارتضاه سبحانه لعباده، ليجدوا بذلك لذة في قلوبهم، وراحة في نفوسهم.
والطبيب الشرعي مثله في الهدف والغاية، إذا صدقت نيته، وأخلص في أمانته، وهذا مصداق الحديث الشريف: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (1) »
العالم الصادق في نيته مع الله، هو العالم النافع لنفسه، والمؤثر في غيره، وليس من الضروري بأن يكون العالم متبحرا في معارفه، إذ تقوى الله جل وعلا، ومراقبته في السر والعلن، هي خير زاد يدفع العالم للعمل، ويجعل لعمله ثمرة بارزة فيمن حوله، وقبولا لدى الناس، ألم يقل سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) .
أما ثمرة العلم: فهي العمل، كما أنه له صدقة، يجب أن تؤدى،
__________
(1) جزء من حديث متفق عليه رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
(2) سورة البقرة الآية 282(42/314)
وذلك ببذره في الناس، ونفع الآخرين به، ولذلك وسيلة يؤدى بها، وهي الإخلاص والصبر، والتحمل في سبيله، كما أن له نتيجة مرتقبة، هي احتساب الأجر عند الله، وبروز الأثر فيمن يقدم له العلم.
وعلمنا الذي نترجم له قد خطا خطوات لا يبلغها فحول العلماء، ونفع الله به، حيث بقي أثره خالدا في المنطقة التي اتجه إليها وخارجها، كما ظهرت آثاره جلية في تلاميذه الذين تزايد عددهم في جازان وغيرها.
أما قول القاضي: والقرعاوي وإن لم تكن معلوماته واسعة، فقد خطا خطوات لا يبلغها فحول العلماء، ممن نفعهم قاصر (1) فيقال حياله:
- إن الفترة الزمنية القصيرة في طلب العلم بالهند، أهلته لأخذ أمهات كتب الحديث وغيرها.
- وإن ما برز في تلميذه الشيخ حافظ حكمي الذي لم يجلس لطلب العلم عند أحد غير الشيخ القرعاوي، ومع هذا يعتبر نابغة الجنوب وعالمها، وظهر أثر هذا في مؤلفاته في العقيدة والأصول والحديث والفقه وغيرها.
- وإن ما عرف عن المكانة العلمية لكثير من طلاب الشيخ القرعاوي الذين عملوا في القضاء وفي التدريس وفي الدعوة. ممن توفي أو بقي على قيد الحياة.
- وإن كثرة شيوخه رحمه الله وحرصه على التنقل للأخذ من العلماء البارزين في داخل المملكة وخارجها. كل هذا وغيره يدل على أن معلومات الشيخ القرعاوي واسعة، وليست قاصرة كما قيل.
ذلك أن الشيخ القرعاوي امتداد لعمل الأفذاذ من علماء الإسلام قديما وحديثا، وهو من القلة الذين جعل الله في علمهم بركة، وفي إخلاصهم
__________
(1) روضة الناظرين (2: 43) .(42/315)
وصدقهم نتيجة، وذلك بتفتح السبل، وتذليل الصعاب، وسرعة النتائج، مع القبول في قلوب الناس في منطقة واسعة امتدت من مكة وجدة، حتى وسط اليمن وجنوبه، من الجهة الجنوبية: سهولا وجبالا.
وقد كان دأبه في كل مكان طوف به: مسقط رأسه عنيزة وغيرها، حب التعليم، والحرص على إزالة المنكرات، دعوة لله وترغيبا في الخير، وإنكارا للمنكر بصدق وإخلاص، ولم يثن عزمه الفقر أو قلة ما في اليد.
إلا أن أفق الدعوة اتسع أمامه مع مطلع 1358 هـ عندما أبلغ شيخه: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، برغبته في الدعوة إلى الله في المنطقة الجنوبية، وطلب منه النصح والتوجيه، بعدما سمع عما في أهلها من جهل، وما هم واقعون فيه من شرك، وتبرك بالأولياء وقبور الصالحين لعدم وجود الداعية المخلص الموحد، فوقع في قلب الشيخ القرعاوي حب الدعوة إلى الله في تلك المنطقة، ومكن ذلك تلك الرؤيا التي حفزته للإسراع بالمهمة، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو يشير بيده الشريفة عليه، بأن يتوجه إلى الجنوب (1) ، فاتجه من يومه إلى جدة ومنها بحرا إلى جازان.
وندعه يتحدث عن ذلك فيقول: وفي اليوم العشرين من صفر توجهت لجازان، وأخذت منه بضاعة، وتوجهت لسامطة، ثم تجولت بجهات سامطة، ونزلت دكانا في نفس سامطة، ووضعت فيه البضاعة التي معي، وأول أمر بدأت به وأنا في الدكان تعليم القرآن الكريم، وثلاثة الأصول، والأربعين النووية، والتجويد والفرائض وآداب المشي إلى الصلاة، كان ذلك في 21 ربيع الأول عام 1358هـ فكان هذا الدكان
__________
(1) انظر كتاب: (الشيخ القرعاوي ودعوته في الجنوب) للشيخ موسى السهلي (ص 20-21) .(42/316)
أول مدرسة فتحتها في تهامة اليمن، وفي آخر جمادى الأولى من هذه السنة، توجهت إلى فرسان، وفتحت فيه مدرسة، ومنه توجهت إلى مزهر قرية الحكميين " الحكامية " ففتحت فيها مدرسة، في أول رجب وأصلحت مسجدها، وهو أول مسجد أصلحت بتهامة وفي غرة شعبان توجهت إلى سامطة، ففتحت المدرسة بها ثانيا، في بيت ناصر خلوفه؛ لأنه لا يستطيع المشي وهو من خيار الطلبة وأكبرهم، فأردت أن لا يتكلف، وفيها استقريت حتى الآن(42/317)
رعاية الحكومة:
رغم ما كابده الشيخ القرعاوي رحمه الله من مشكلات سببها نفثات الحاسدين، وتلبيس المغرضين، فإن الحكومة وفقها الله أرسلت لجانا عديدة للوقوف على الحقيقة، فكتبت تقارير تنبئ عن إعجابها بالمدارس وتدعو لتشجيعها ومساندة الشيخ القرعاوي في عمله لصدقه وإخلاصه وسلامة مقصده، وكان يرأس إحداها الشيخ محمد البيز رحمه الله، فكان لذلك أثر حسن لدى المسئولين في الدولة. .
فالملك عبد العزيز - رحمه الله - ارتاح لعمل القرعاوي وأمر له بمكافأة تعينه على مسيرة العمل عام 1367 هـ (1) .
والملك سعود - رحمه الله- ولي العهد يومئذ في عام 1363هـ تفضل ببعث إعانة كبيرة للشيخ جعلها عادة سنوية وأوصى به أمراء الجهات وقضاتها (2) .
__________
(1) انظر السمط الحاوي (ص39) ، ومخطوطة عمر جردي (ص42) .
(2) المنهل، جمادى الأولى عام 1367هـ (ص 163) .(42/317)
والأمير خالد السديري في عام 1362هـ وقبل أن ينتقل من إمارة جازان قد توسط عند الحكومة بطلب إعانة للطلبة فجاء الأمر بصرف ثلاثمائة ريال 300 شهريا. . فكانت تصرف من مالية سامطة لثلاثين طالبا.
كما تبرع الأمير خالد بقيمة الدفاتر والأدوات المدرسية على حسابه، وحول الشيخ القرعاوي على صاحب دكان في جازان بذلك (1) .
والأمير محمد بن أحمد السديري لما جاء لجازان عام 1364هـ سلك مسلك أخيه خالد بالمساعدة والتأكيد على القضاة وأمراء المقاطعة بمساعدة الشيخ القرعاوي (2) .
ثم فيما بعد عين الشيخ عبد الله القرعاوي معتمدا للمعارف بمنطقة جازان 1373 هـ ولكنه استقال في نفس السنة، واستمر في مدارسه (3) .
وهكذا استمرت رعاية الحكومة لمدارس القرعاوي، التي شملت منطقة كبيرة من البلاد، حيث أمر الملك سعود - رحمه الله- بأن يكون لها ميزانية مستقلة عام 1374هـ، وأن يسند إشرافها إلى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - لكنه اعتذر بمشاغله الكثيرة، فقال الملك سعود رحمه الله، عند زيارته لأبها في مجلس عام: مدارس القرعاوي أنا المشرف عليها. . كما ذكر الشيخ أحمد جردي في مخطوطته، وقد اتخذ القرعاوي لها مقرا في مكة، لتكون الإدارة قريبة من وزارة المالية والجهات
__________
(1) مخطوط عمر أحمد جردي (ص 33) ، وفي صفحات أخرى.
(2) مجلة المنهل الرسالة القرعاوية (ص 184) .
(3) مخطوط عمر أحمد جردي (ص 56) .(42/318)
الحكومية ذات العلاقة، حيث كلفت وزارة المالية ممثلا ماليا ينظم صرفها على الطلاب والمدرسين والموظفين (1) .
وفي عام 1371هـ أمر ولي العهد- رحمه الله - بصرف تكاليف بناء المدرسة والجامع القديم بسامطة، على مالية جازان (2) .
كما كانت وزارة المعارف بتوجيه أول وزير لها عام 1373 هـ سمو الأمير فهد - آنذاك - تولي مدارس القرعاوي عناية خاصة بالاهتمام والمتابعة وتحديد المستوى.
وقد بلغت ميزانية المدارس التي أمرت بها الحكومة لمدارس القرعاوي ذلك الوقت خمسة ملايين من الريالات (3) .
نظرا لأن أعمال الشيخ القرعاوي توسعت، وجهوده تواصلت في منطقة كبيرة وواسعة من بلادنا الغالية، كما امتد أثرها في اليمن حيث أسس طلابه اليمنيون مدارس في قراهم بجهودهم الذاتية كما عمل شيخهم.
__________
(1) انظر (الشيخ القرعاوي ودعوته) لموسى السهلي (ص 67 - 68) .
(2) مخطوطة عمر أحمد جردي (ص51) ، ويروي تبعية المدارس وأمر الملك سعود بشأنها ومقابلته مع الشيخ القرعاوي.
(3) السمط الحاوي (ص80) .(42/319)
حصيلة الجهد:
ويمكن إجمال المدارس التي فتحها الشيخ القرعاوي في أنحاء المملكة وفقا للإحصائيات الواردة في الكتابات عن حياة الشيخ القرعاوي وأعماله في المنطقة. . كما يلي:
1 - يقول الشيخ موسى السهلي في كتابه عن القرعاوي، ودعوته في(42/319)
جنوب المملكة: وقد بلغ عدد المدارس حسب علمي- في أوج توسع العمل فيها، وحسبما ذكره سماحة شيخنا: ألف وثلاثمائة وعشر مدارس (1) .
2 - أما الشيخ علي بن قاسم الفيفي في كتابه: السمط الحاوي لأسلوب القرعاوي، في نشر التعليم في جنوب المملكة، فقد أورد رأيين:
الأول: نسبه إلى الشيخ أحمد بن يحيى النجمي: بأن المدارس بلغت في عام 1376هـ مائتان وألف مدرسة " 1200 " بها نحو مائة ألف طالب، وكان يكافئ الطالب المبتدئ بريالين وخاتم القرآن بعشرة أريل شهريا.
الثاني: نسبه إلى الشيخ إبراهيم بن عبد الله زكري، وهو من معاوني الشيخ المقربين إليه، حيث أخبره أنه بلغ عدد المدارس في أوج ازدهارها في عام 75 \ 1376هـ ثمانمائة وألفي مدرسة (2800) ولكنه انخفض العدد بعد ذلك.
ثم أردف قائلا: وفي رسالة بعث بها إلي الشيخ بتاريخ 16 \ 7 \ 1375هـ ذكر فيها أنه رتب في أبها والقنفذه والطائف وتوابعها تسعمائة مدرسة (2) .
3 - والشيخ عمر أحمد جردي يرى أن المدارس في عام 1376هـ، وهو أول عام فتحت فيه المدارس في نجران بأمر من الملك سعود، قد بلغت ألفين ومائتي مدرسة، فيها خمسون ألف طالب، وفيها خمسة عشر ألف طالبة. بثلاثة آلاف مدرس ومدرسة (3) .
4 - وفي موطن آخر ينقل عن الشيخ القرعاوي بأن اللجنة التي جاءت عام
__________
(1) (ص 68) .
(2) (ص 79) .
(3) انظر مخطوطته (ص67-68) .(42/320)
1376 هـ لتفقد المدارس، لم يقف أعضاؤها في تجوالهم، إلا على ألف وخمسمائة مدرسة، وبقي منها سبعمائة وخمسون مدرسة لم يتجولوا عليها ولم يشاهدوها، حيث سافروا من سامطة يوم 17 \ 8 \ 1376هـ (1) ، والمدارس التي لم يتجولوا فيها، أوضح تفاصيلها الشيخ القرعاوي. وفي إيراد ذلك بيان عن المناطق التي شملها نشاط الشيخ القرعاوي في تعليمه ودعوته- رحمه الله - وهي:
1 - جازان 220 مدرسة غالبها في الجبال.
2 - منطقة عسير وتهامة 200 مدرسة.
3 - منطقة القنفذه 140 مدرسة.
4 - منطقة تهامة غامد وزهران 95 مدرسة.
5 - منطقة الليث 50 مدرسة.
6 - مدينة جدة 30 مدرسة غالبها ليليات.
7 - مكة المكرمة 10 مدارس.
8 - جهة القصيم عنيزة وبريدة 25 مدرسة غالبها نسائية.
9 - المجموع 770 مدرسة.
10 - ومجموع التلاميذ للأولاد والبنات 75000 طالب وطالبة؛ منهم عشرة آلاف تلميذ وتلميذة بالمدارس العلمية (2) .
5 - أما في اليمن فإن تلاميذه حرصوا على نشر العلم في بلادهم، وكان أولها في عام 1373 هـ عشرين مدرسة بمدينة حرض وما حولها، وبلغت في
__________
(1) السمط الحاوي (ص 72) .
(2) السمط الحاوي السابق (ص 72 -73) .(42/321)
أنحاء اليمن عام 1375 هـ 86 ستا وثمانين مدرسة، منها خمس مدارس للبنات (1) .
ومن هذا العرض الموجز، ندرك أن الشيخ عبد الله القرعاوي يعتبر رائد التعليم والدعوة في جازان وما حولها في مناطق الجنوب، ويعترف كثير من طلبة العلم هناك بفضله وأعماله، وإيقاظه للمنطقة، وانتشال أهلها من براثن الجهل، ومهاوي البدع والمنكرات.
كما يعتبر رحمه الله، رائدا في تعليم المرأة هناك، ورائدا في توفير المكتبات، والترغيب في المطالعة والتأليف، ورائدا في توفير السكن الداخلي للطلاب الغرباء، ليدخر جهدهم للعلم، حيث أخذ الفكرة من مدارس الهند التي تعلم فيها، أو زارها كالمدرسة الرحمانية بدلهي.
وهو نموذج للتواضع، فريد في البذل والحرص والمتابعة، مع الحلم، حيث احتذى بعض طلابه منهجه، وهان عليهم السفر لأي مكان في سبيل العلم: أخذا وعطاء، وتحملا من أجله.
كما يعتبر أستاذ جيل، وداعية مجددا بالرفق واللين والحكمة والصبر، وهذه سمات العلماء وأخلاقهم، في حبهم للخير والمساعدة، وفي حرصهم على الدعوة إلى الله سبحانه، واهتمامهم بتعليم الناس أمور دينهم.
__________
(1) السمط الحاوي (ص 62) وقد سمى المدارس بأماكنها.(42/322)
وفاته:
أمضى الشيخ القرعاوي واحدا وثلاثين عاما في منطقة الجنوب، كلها حركة دائبة: في التعليم والدعوة. ترك خلالها آثارا جليلة، حيث أيقظ الله به خلقا كثيرا من نومة الجهل، وغمامة الأهواء، فالمنطقة كانت تغط في(42/322)
سبات عميق، وتتخبط في ظلمات داكنة من الشرك والبدع، وبعض أبنائها إن لم يكن جلهم يتعلقون بأصحاب القبور والسحرة، وما يتبع هذا من المعاصي والآثام.
وقد عانى الشيخ في هذا السبيل ما الله به عليم، فصبر وصابر، وهذب نفوس وطباع من حوله، من طلاب وجلساء، حتى برزت الثمار، وظهرت النتائج في الغرس: طلابا نجباء، ومدرسين وقضاة، ودعاة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وغير هذا من ثمار يانعة يلمس أثرها في ذلك اليوم وحتى الآن.
وفي اليوم السابع والعشرين من شهر صفر عام 1389 هـ مرض الشيخ القرعاوي وهو في منطقة جازان الموافق ليوم الخميس، وقد نقل على أثره للرياض، وأدخل المستشفى المركزي بالشميسي، فعلم به العلماء وطلاب العلم بالرياض، وبعض المسئولين، وجاءوا لزيارته والدعاء له بالشفاء.
وقد وافاه الأجل المحتوم في يوم الثلاثاء الثامن من شهر جمادى الأولى عام 1389 هـ عن عمر يناهز الرابعة والسبعين عاما، وقد صلي عليه في مغرب ذلك اليوم بالجامع الكبير بالرياض، ودفن بمقبرة العود، وقد رثاه بعض تلاميذه بقصائد وكلمات (1) .
وفي مرض موته أوصى بثلث تركته في وجوه الخير والبر، وقد أشاد به وبأسلوبه في الدعوة إلى الله الأستاذ: محمد بن أحمد العقيلي في كتابه المخلاف السليماني (2) .
ويرى الشيخ محمد القاضي أنه في عام 1386 هـ فقد الشيخ القرعاوي
__________
(1) انظر كتاب (الشيخ القرعاوي ودعوته في الجنوب) للشيخ السهلي (ص72 - 76) .
(2) انظر كتاب السمط الحاوي للشيخ علي الفيفي (ص86) .(42/323)
بصره، وضعفت قواه، وأرهقته الشيخوخة فطلب الإحالة على التقاعد المعاشي، وعاد إلى الرياض عام 1387 هـ ومعه عائلته وجعل يرتاد عنيزة، والحجاز للحج والعمرة، وقبل وفاته وصل إلى عنيزة وعزم على أن يفلح ملكهم الواقع بالجنوب بالبصر الفيضية، وكلم أناسا للاستدانة إلى أجل لفراغ يده. . مما يدل على نزاهته، وثنى عزمه حمد الصالحي. . فرجع إلى الرياض، وألم به مرض كان يعتاده، وأقعده على الفراش، فدخل المستشفى المركزي بالشميسي وتوفي في 2 من شهر جمادى الأولى عام 1389 هـ ودفن بالرياض قبل وفاة الشيخ محمد بن إبراهيم بحوالي خمسة أشهر. وقد صلي عليه بالجامع الكبير (1) .
ولم نقف لدى من كتب عنه أن له كتبا ولا رسائل أو كراريس. . ولعله انشغل عن ذلك بالتعليم ونشره، وبمتابعة الدعوة وتغيير المنكرات في تلك المناطق الشاسعة.
__________
(1) روضة الناظرين (2: 45)(42/324)
وبعد:
فهذه نبذة عن حياة علم من أعلام الدعوة في بلادنا، تركت أثرا بارزا في التعليم والدعوة والرجال، لا يكفيها مرور عابر كهذا، إذ يحتاج الأمر إلى وقفات متأنية، ودراسات مستفيضة، علاوة على ما بذله نفر من طلابه الأوفياء بجهد مشكور يتمثل في السرد التاريخي لأعماله وحياته، وإبراز جوانب سيرته ورغبته في أعمال الخير والدعوة إلى الله، ومن حيث بدأت في الحديث عن الشيخ القرعاوي، فإن هذه الجوانب التي تعتبر موضوعات مستقلة بذاتها تظهر في:
1 - إخلاصه وصبره وحلمه في الدعوة.(42/324)
2 - اهتمامه بالتعليم وحرصه على إنقاذ الناس من براثن الجهل.
3 - منهجه المتميز في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. . لين من غير ضعف، وشدة من غير عنف.
4 - حبه للخير والصدقات واهتمامه بأحوال الفقراء وخاصة طلاب العلم، وتفقده لأحوال المحتاجين.
5 - بذله في بناء المساجد وحفر الآبار: من نفسه وجهده وماله وجاهه.
وغير هذا من الجوانب المشرقة في حياته، فقد كان سجلا تاريخيا يسير على الأرض حتى توفاه الله، وشعلة متوقدة من الحماسة تتنقل بين القرى. . فرحم الله الشيخ عبد الله القرعاوي وجازاه عن جهوده وأعماله المتواصلة، خير الجزاء، وأسكنه فسيح جناته منازل الأبرار والصادقين والله ولي التوفيق.(42/325)
صفحة فارغة(42/326)
مصطلحات الحنابلة
مصطلحات الإمام أحمد رحمه الله تعالى
إعداد
الدكتور \ الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان
تمهيد:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد.
لم يؤلف الإمام أحمد كتابا في الفقه كما ألف من قبله من الفقهاء، بل كان يكره ذلك ويتبرم منه أشد التبرم.
يقول - وقد ذكر وضع الكتب-: أكرهها. هذا أبو حنيفة وضع كتابا، فجاء أبو يوسف فوضع كتابا، وجاء محمد بن الحسن فوضع كتابا. فهذا لا انقضاء له، كلما جاء رجل وضع كتابا. وهذا مالك وضع كتابا، وجاء الشافعي أيضا وجاء هذا، يعني: أبا ثور!
وهذه الكتب وضعها بدعة؛ كلما جاء رجل وضع كتابا وترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه (1) .
وذلك أن غالب ما ألف في عصره ينحى منحى الرأي، ويتجه إليه اتجاها صارخا. وقد اصطدم بأولئك المتعجلين، المأخوذين بهوس العقل المحموم. الذين يقولون في أحكام الله تعالى بالظنون والهوى والتخرص، مع التقصير البالغ في البحث عن النصوص الشرعية، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، ورد الفروع والنوازل بعضها على بعض دون أصولها (2) .
__________
(1) رواية عبد الله (المسائل) رقم (1821) .
(2) ينظر: ابن عبد البر، (جامع بيان العلم) (2 \ 139) وابن القيم، (إعلام الموقعين) (1 \ 83) .(42/327)
فكان الإمام أحمد يحارب هذا المسلك الشائن المهزوم محاربة شعواء، وينابذه ويطارده في كل مكان.
يقول: تركنا أصحاب الرأي، وكان عندهم حديث كثير. فلم نكتب عنهم؛ لأنهم معاندون للحديث، لا يفلح منهم أحد (1) .
وحين قال له رجل: أكتب كتب الرأي. قال: لا تفعل، عليك بالآثار والحديث. فقال له السائل: إن عبد الله بن المبارك قد كتبها. قال له: ابن المبارك لم ينزل من السماء، إنما أمرنا أن نأخذ العلم من فوق (2) .
وهذا هو منهج السلف الصالح وخيار الأمة، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن. أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا (3) .
وإلى جانب ذلك: فإنه كان يخشى الخطأ في الأحكام، وانصراف الناس عن حفظ السنن، كما يؤثر الابتعاد عن أسباب الشهرة وارتفاع الصيت (4) .
بل بلغ به شدة التوقي من غوائله أنه كان ينهى تلاميذه حتى عن كتابة رأيه وفتاويه، ولما أحس يوما بإنسان يكتب ومعه ألواح في كمه، قال له: لا تكتب رأيي؛ لعلي أقول الساعة مسألة ثم أرجع غدا عنها (5) .
وهذه طريقة سار عليها المتقدمون من أئمة السنة، لا يرون كتابة المسائل ولا الكلام، إنما كانوا يحفظون السنن والآثار، ويجمعون الأخبار
__________
(1) رواية ابن هانئ (المسائل) 2 \ 168، 236) .
(2) رواية المستملي، ابن أبي يعلى في '' طبقات الحنابلة '' (1 \ 329) .
(3) أخرجه الخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه) (1 \ 180) ، وابن حزم في الأحكام) (2 \ 1019) .
(4) ينظر: صالح بن أحمد بن حنبل، (المسائل) (1 \ 141) .
(5) رواية أحمد بن حسان بن أبي يعلى (طبقات الحنابلة) (1 \ 39) .(42/328)
ويفتون بها. فمن نقل عنهم العلم والفقه، كان رواية يتلقاها عنهم، ودراية يتفهمها منهم (1) فلم يحولوا بين الناس وبين مصادر الشرع، ولم يقفوا أمام الأخذ منها مباشرة ولم يصرفوا قط أحدا عنها أو يغروه بغيرها، أو يمارسوا جبروتا مذهبيا. حتى لا تتزعزع الثقة به، وحتى لا يفقد الفقه انتماءه الأصيل، ولا ينخفت بريقه ولا ينعطف عن قصده، ولا تنقطع صلته بأصله، ويتحول إلى قوانين جامدة ونظم معزولة عن مصدرها الرباني. وهذا من شأنه أن يحفظ قوتها، ويذكر الناس بمشرعها، ويدفعهم إلى الالتزام بها والحرص عليها ويشعرهم بأهميتها وصلتها المتينة بالدين.
غير أنه وقد قطع الإمام أحمد شوطا ممدودا في الاجتهاد، واطمأن إلى ثبوت تلك الحقائق ورسوخها في نفوس طلابه. ورأى من أصحابه وتلاميذه الإلحاح الشديد في كتابة مسائله وفتاواه وحاجة الناس إلى ذلك فقد أذن على كره واستجاب لهم على مضض.
يقول الميموني سألت أبا عبد الله عن مسائل فكتبتها، فقال إيش تكتب يا أبا الحسن! . فلولا الحياء منك ما تركتك تكتبها، وإنه علي لشديد والحديث أحب إلي منها. فقلت: إنما تطيب نفسي في الحمل عنك، وإنك تعلم منذ مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لزم أصحابه قوم، ثم لم يزل يكون للرجل أصحاب يلزمونه ويكتبون. قال: من كتب؟ قلت: أبو هريرة قال: وكان عبد الله بن عمرو يكتب ولم أكتب. فحفظ وضيعت! فقال لي: هذا الحديث. فقلت له: فما المسائل إلا حديث، ومن الحديث تشتق، قال لي: أعلم أن الحديث نفسه لم يكتبه القوم.
__________
(1) ينظر ابن سعد (الطبقات الكبرى) (2 \ 361، 6 \ 271) ، وابن أبي يعلى (طبقات الحنابلة) (1 \ 6) .(42/329)
قلت: لم لا؛ يكتبون، قال: لا، إنما كانوا يحفظون ويكتبون السنن، إلا الواحد بعد الواحد الشيء اليسير منه.
فأما هذه المسائل تدون وتكتب في ديوان الدفاتر، فلست أعرف منها شيئا. وإنما هو رأي، لعله قد يدعه غدا أو ينتقل عنه إلى غيره. ثم قال لي: انظر إلى سفيان ومالك، حين أخرجا ووضعا الكتب والمسائل. كم فيها من الخطأ. وإنما هو رأي، يرى اليوم شيئا وينتقل عنه غدا، والرأي قد يخطئ.
كما كان رحمه الله تعالى من جهة أخرى: لا يقبل افتراض المسائل التي لم تقع، ولا يسمح لوقته أن يضيع في بحثها أو استقصاء حكمها.
سأله أحد تلاميذه يوما عن مسألة خيالية. فغضب، وقال: خذ ويحك فيما تنتفع به، وإياك وهذه المسائل المحدثة. خذ ما فيه حديث (1) وقال لآخر: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام (2) .
ولا غرو، فإنها طريقة السلف الصالح أيضا؛ وقد كان زيد بن ثابت رضي الله عنه إذا سئل عن الأمر. يقول: أكان هذا؟ . فإن قالوا: نعم؛ حدث فيه بالذي يعلم. وإن قالوا: لم يكن. قال: فذروه حتى يكون (3) .
قال ابن رجب الحنبلي: وهذا هو طريق الإمام أحمد، ومن وافقه من علماء الحديث الربانيين. وفي معرفة هذا شغل شاغل عن التشاغل بما
__________
(1) رواية مهنا، الفتوحي (شرح الكوكب المنير) (4 \ 584) .
(2) رواية الميموني، ابن الجوزي (المناقب) (231) .
(3) الذهبي (سير النبلاء) (2 \ 438)(42/330)
أحدث من الرأي، ما لا ينتفع به ولا يقع. وإنما يورث التجادل فيه وكثرة الخصومات، والجدال وكثرة القيل والقال (1) !
ولما كان غالب مذهب أحمد إنما أخذ من فتاويه وأجوبته المختلفة، فإن الحاجة ماسة إلى تتبع طريقته، واستقراء منهجه، وفهم مصطلحاته الكثيرة وما يريده من جميع ما نقل عنه. حتى يمكن الوصول إلى رأيه واختياره، وخوض غمار مسائله، والركون فيها إلى أصل وثيق.
وقد اجتهد نفر من علماء المذهب في ذلك، بالتتبع والاستقراء حسب الطاقة، سواء ضمن كتبهم في الفقه والأصول، أو في ما أفردوه له خاصة، ككتاب (تهذيب الأجوبة) (2) لأبي عبد الله، الحسن بن حامد (ت 403) هـ وكتاب (صفة الفتوى) لأحمد بن حمدان (ت 695 هـ) (3) .
ولا زال الأمر بعد بحاجة إلى مزيد من الجمع والاستيفاء، والبيان والتوضيح، وقد جعلت هذا البحث، في تمهيد وفصلين وخاتمة.
تحدثت في التمهيد: عن موقف الإمام أحمد من كتابة الفقه وتدوينه، ومسائله وأهمية الموضوع. أما الفصل الأول: فخصصته لمصطلحاته فيما لم يصرح فيه برأي.
والفصل الثاني: فيما صرح فيه من الأجوبة برأيه، والخاتمة: عن أهم نتائج البحث.
أسأل الله أن ينفع به، وأن يبارك في هذا الجهد وأن يضاعفه أضعافا كثيرة بمنه.
__________
(1) ابن رجب (جامع العلوم والحكم) (66) .
(2) مطبوع، ويحققه الشيخ عبد العزيز القائدي في أطروحته (للدكتوراه) بكلية الشريعة في الجامعة الإسلامية.
(3) مطبوع بتخريج الشيخ، محمد ناصر الدين الألباني عام 1380 هـ.(42/331)
الفصل الأول
مصطلحات الإمام أحمد في الأجوبة والفتاوى التي لم يصرح فيها برأي
وردت بعض المسائل عن الإمام أحمد دون الإشارة صراحة إلى الحكم المقصود، أو الإعلان عنه بصورة واضحة. مما دفع علماء المذهب الحنبلي إلى الاجتهاد في تفسير قصده، وبيان مراده وتلمس رأيه حسب مقتضيات الأحوال وطبيعة السؤال. ويمكن تقسيم هذه المسائل إلى خمسة عشر نوعا، وهي كما يلي:
النوع الأول: أن يسأل عن شيء فيجيب: بتلاوة آية أو حديث، أو ذكر إجماع أو قول صحابي. فما تضمن من حكم فهو مذهبه؛ لأنه اعتقد ما ذكره دليلا، حيث أجاب به، وأفتى بحكمه، ولو كان غير ذلك لبين مراده (1) .
قال ابن حامد: والمذهب أنه إذا سئل عن مسألة فأجاب بتلاوة آية يقرؤها، وينسب إليه ذلك مفسرا. وما سئل عنه فيجيب بالحديث أو يفتي ويستدل فيه بالحديث، أو يسأل عنه، فيروي فيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: فكل ذلك مذهب له صريح، بمثابة ما يفتي به من قبله سواء، وأنه يراعى فيه ظاهر الحديث الذي احتج به، فيكون ظاهر موجب الخبر.
__________
(1) ينظر: أبو الخطاب الكلوذاني، '' الانتصار '' (213) ، وابن حمدان، '' صفة الفتوى '' (97) .(42/332)
وهذا مذهب أصحابنا كافة، لا أعلم بينهم فيه خلافا (1) .
مثال: سئل عن النذر، فقال: قال الله عز وجل: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (2) (الإنسان: 7) (3) .
وسئل عن الصلاة على الغال، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على الغال (4)
__________
(1) ابن حامد، '' تهذيب الأجوبة '' (19، 22) .
(2) سورة الإنسان الآية 7
(3) رواية ابن هانئ، '' المسائل '' رقم (1499) .
(4) رواية الميموني، '' تهذيب الأجوبة '' (21) .(42/333)
النوع الثاني: أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرا أو يروي قول صحابي، دون أن يتقدم سؤال من أحد. وسواء حكم بثبوته، أو سكت عنه ولم يرده.
والراجح: أن مقتضى ذلك هو مذهبه؛ لأن من أصله أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ به. فلا يظن به أنه يفتي بخلافه، والأصل عدم المعارض حتى يتبين (1) .
قال ابن حامد: كل ما بينه إمامنا رضي الله عنه من الأثر، وصح به السند عن الصحابة له نقل من غير رد ولا نكير. فذلك بأسره عندي ثابت في مذهبه بمثابة جوابه نطقا، وهذه طريقة عامة شيوخنا (2) .
مثال: ما ذكره في كتبه الحديثة، (كالمسند) و (فضائل الصحابة) وكتاب (الزهد) ، وما رواه تلاميذه من طريقه في كتبهم.
__________
(1) ينظر: ابن حمدان '' صفة الفتوى '' (98) .
(2) ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (27) .(42/333)
النوع الثالث: عزوه أحد الأقوال إلى الصحابة والآخر إلى السنة، فإن كان قول النبي صلى الله عليه وسلم أخص أو أحوط تعين مطلقا.
وإن كان أعم، فالراجح أن مذهبه ما استند إلى السنة (1) .
قال ابن حامد: وكل ما كان من جوابه، بأن يقول: اختلف فيها، فقال فيها عمر كذا وقال عثمان كذا، والسنة كذا، أو لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بكذا. وكل ذلك مستحق فيه الأخذ بما يستند إلى السنة ويدع الآخر، ويقطع على أن ذلك خارج عن مذهبه. هذا في كل مكان يكون بينة الجواب بنظير هذا الأصل، من غير تفسير ولا بيان (2) .
مثال: قيل لأحمد: العرب يسترقون؟ قال: فيه اختلاف، ولكن عمر خطب، قال: لا يسترقون. وذكر حديث عائشة (3)
__________
(1) ينظر: ابن حمدان '' صفة الفتوى '' (99) .
(2) ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (63) .
(3) رواية ابن مشيش، ابن حامد: '' تهذيب الأجوبة '' (63) .(42/334)
النوع الرابع: نقله الخلاف عن الصحابة في جوابه، دون ترجيح. ومذهبه أقرب الأقوال إلى الدليل من الكتاب والسنة، (1) حيث قال: إذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز للرجل أن يأخذ بقول بعضهم على غير اختيار، ينظر أقرب القول إلى الكتاب والسنة.
__________
(1) ينظر ابن حمدان، '' صفة الفتوى '' (98) .(42/334)
وهو مفترض، فإن أبا عبد الله كما يقول ابن حامد: لا يكاد تجد عنه مسألة فيها قولان، إلا وتجده حيث يقتضي السؤال جوابا بالبيان عن الإصابة إلا ويقطع ويبين، ويحتج ويرجح (1) .
مثال: قيل لأحمد: المرأة إذا ماتت يرى زوجها محاسنها، ويدخلها القبر. فقال: الناس مختلفون في ذلك. قد روي عن عمر، أنه قال لأوليائها: أنتم أحق بها وعن أبي بكرة، أنه واثب إخوة امرأته على دفنها (2)
__________
(1) ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (61) .
(2) رواية صالح، ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (56) .(42/335)
النوع الخامس: نقله الخلاف في جوابه بين صحابي وتابعي، دون ترجيح.
فإن كان من الصحابي دليل أقوى مما هو مع التابعي أو مثله، فقول الصحابي مقدم. وإن كان مع التابعي دليل أقوى، فقوله أولى (1) .
مثال: قال صالح: سألت أبي عن القنفذ، فحدثني وحدثني. فذكر حديثين: مجاهد بالحل (2) وأبو هريرة حرام (3)
__________
(1) ينظر: ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (71، 76) .
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في '' المصنف '' (8 \ 328) .
(3) أخرجه أحمد في '' المسند '' (2 \ 381) ، وأبو داود في '' السنن '' رقم (3799) .(42/335)
النوع السادس: الجواب بذكر الخلاف بين العلماء، دون ترجيح. فالمذهب: الأشبه منها بالكتاب أو السنة أو الأثر، على القول(42/335)
الراجح (1) وهذا شيء مفترض أيضا، إذ لا تجد عنه جوابا بالاختلاف في مكان ولا يفصل إلا وجدت عنه في غيره بيانا منكشفا (2) .
مثال: سئل عن العتق قبل الملك، قال: لا أقول فيها شيئا، قد اختلفوا فيه
__________
(1) ينظر: ابن حمدان '' صفة الفتوى '' (100) .
(2) ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (87، 97) .(42/336)
النوع السابع: الجواب بحكاية عن غيره، بأن يقول: قد رخص فيه بعض الناس، أو احتج بعض الناس، أو قال بعض الناس فيها كذا. والراجح أن ذلك مذهب له، ينسب إليه.
مثال: قيل لأبي عبد الله: رجل يحل السحر، فقال: قد رخص فيه بعض الناس(42/336)
النوع الثامن: الجواب بالإرشاد إلى ترك السؤال. ولا ينسب إليه من ذلك رأي معين.
قال ابن حامد: وظاهر جوابه بهذا يؤخذ بأنه يتوقف عن القطع في الحال، وغالب ما عنه بهذا قد يكون في مكان ويثبته في مكان ثان. فإذا لم يكن فيه جواب حتم، كان جوابه بنظير هذا يوقفنا عن نسبة شيء في ذلك إليه، فلا يقطع عليه بشيء فيه، لأنه غير قاطع (1) .
مثال: قال ابن منصور، قلت: قال سفيان: لا تكون المحاربة بالكوفة حتى تكون خارجا منها: قال أحمد: دعه، قلت: ما شأنك سألتك عنه غير مرة. قال: إذا لم يصح لي فيه، كيف أقول
__________
(1) ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (108) .(42/337)
النوع التاسع: الجواب عن السؤال برده إلى مشيئة السائل.
والراجح: أنه أذن بالمسامحة والتوسعة، قال ابن حامد: وذلك عندي توسعة على السائل، وترك الضيق عليه. فإن فعله أو تركه لم يكن حرجا (1) .
مثال: قال صالح: قلت لأبي: هل يرش على القبر الماء، قال: إن شاء، وفعلوه (2)
__________
(1) ابن حامد، '' تهذيب الأجوبة '' (129) .
(2) رواية صالح، ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (129) .(42/337)
النوع العاشر: الجواب عن السؤال بلا أعرف، وما سمعت. وهو دال على التوقف قال ابن حامد: إذا صدر الجواب من أبي عبد الله بما(42/337)
سمعت ولا أعرف، فذلك لا يكسب قطعا بتحريم ولا تحليل ولا إبطال. بل مقتضى ذلك الوقف لا غير، وكل ما نقل من ذلك فالبيان عنه فيه منكشف. (1)
مثال: قيل لأحمد: يكتب القرآن في شيء ثم يغسل، فيغسل به.
قال: ما سمعت فيه بشيء
__________
(1) ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (143، 145) .(42/338)
النوع الحادي عشر: الجواب عن السؤال بلا أدري. وهو دال على التوقف، على الراجح. قال ابن حامد: المأخوذ به أنه يتوقف في حاله، لا غير ذلك. وهو شيء مفترض، يقول ابن حامد: إذا تأمل المريد لذلك، وجده واقعا على أتم بيان وأوضح برهان (1) .
مثال: سئل أحمد عن السلحفاة، فقال: لا أدري
__________
(1) ينظر ابن حامد، '' تهذيب الأجوبة '' (159، 160) .(42/338)
النوع الثاني عشر: الجواب بالسكوت عند المعارضة.(42/338)
والراجح أن ذلك يكون رجوعا (1) قال ابن حامد: فالمذهب عندي: أنه إذا سكت عند المعارضة في جوابه، أو لزوم على أصل استدلاله أنه ينسب إليه من ذلك (2) .
مثال: قال الميموني: قلت: للمدبر بهبة، قال: إذا باعه أنفع من العتق. قال الميموني: إما أن يكون سكت عني، أو قال لي: إن تأول متأول فما أصنع به! (3)
__________
(1) ينظر: ابن حمدان '' صفة الفتوى '' (95) وقال المرداوي في '' الإنصاف '' (12 \ 251) : ليس له برجوع.
(2) ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (51) .
(3) رواية الميموني، ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (51) .(42/339)
النوع الثالث عشر: أفعاله في خاصة نفسه. والراجح أنه مذهبه.
قال ابن حامد: وكل ما نقل عن أبي عبد الله أنه فعله في نفسه وارتضاه لتأدية عنايته، وكل ذلك ينسب إليه بمثابة جوابه وفتواه.
مثال: ما روي عنه في طهارته، أنه غسل لحيته حتى وصل الماء إلى أصول شعره (1)
__________
(1) رواية المروذي، ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (45) .(42/339)
النوع الرابع عشر: ما لم يقل فيه شيئا، ولكن عزاه إليه أصحابه في تفسيرهم وبيانهم. والراجح أنه مذهبه (1) أيضا.
__________
(1) انظر ابن حمدان '' صفة الفتوى '' (96) والمرداوي '' الإنصاف '' (12 \ 254) .(42/339)
قال ابن حامد: كل ما نقل عنه في مسألة أو بيان حد في السؤال، كان ذلك بمثابة نصه في كل الأحوال. وقال: وما نقلوه وفسروه، أو تأولوه وعزوه إليه لا تجوز مخالفتهم فيه (1) .
مثال: قول أحمد بن القاسم (2) : اختيار أبي عبد الله المتعة؛ لأنها آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)
__________
(1) ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (43) .
(2) ينظر ترجمته في '' طبقات الحنابلة '' (1 \ 55) .
(3) رواية ابن القاسم، ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (42) . والمقصود: متعة الحج.(42/340)
النوع الخامس عشر: ما لم يقل فيه شيئا، ولكنه من قياس مذهبه والراجح: التفريق بين ما كان جاريا على أصل له، وبين ما لا شبه له في أصوله.
قال ابن حامد: والمأخوذ به، أن نفصل: فما كان من جواب له في أصل يحتوي مسائل خرج جوابه عن بعضها (1) فإنه جائز أن ينسب إليه بقية مسائل ذلك الأصل من حيث القياس. فأما أن يعتدي بالقياس في المذهب مسائل لا شبه (2) لها في أصوله، ولا يوجد عنه منصوص بنى عليه. فذلك غير جائز. قال: ولو كنا لا نجيب في حادثة بالقياس على أصل أبي عبد الله رحمه الله، لأدى إلى ترك كثير من مسائل الحوادث في الطهارة والصلاة وغيرها.
__________
(1) في المطبوعة: بعضنا. تحريف.
(2) في المطبوعة: الأشبه. تحريف.(42/340)
مثال: جواب أحمد في المسكر أنه حرام، فينسب إليه جميع أنواعه (1)
__________
(1) ابن حامد '' تهذيب الأجوبة '' (37) .(42/341)
الفصل الثاني
مصطلحات الإمام أحمد في الأجوبة التي صرح فيها باختياره
تتفاوت الألفاظ الواردة عن الإمام أحمد في الأجوبة والفتاوى والمسائل، التي أعلن فيها اختياره في الدلالة على المقصود بها والمراد منها بوضوح.
فمنها الصريح الذي لا يحتمل غيره، ومنها الظاهر مع الاحتمال، ومنها ما يحتمل أكثر من معنى وبناء على ما توفر من مسائل أحمد وأجوبته وفتاويه، وبتتبع ما نقل عنه، فإنه يمكن تقسيم ذلك إلى أربعة أنواع، هي: المنع، والإباحة، والطلب، والتسوية.(42/341)
النوع الأول: المنع، ولا يخلو بحسب الاحتمالات السابقة من ثلاثة أضرب:
1 - الصريح في التحريم، وهو لفظ: لا يجوز، ويحرم، ولا يحل ونحوها.
مثال: سئل أبو عبد الله، عن الرجل يوقف داره على ولده وولد ولده(42/341)
فترى أنت أن يبيعوها، فإن قوما فعلوا ذلك. قال لا يجوز أن يبيعوها (1) .
2 - ما كان للتحريم مع احتماله كراهة التنزيه، وهو لفظ: لا ينبغي، ولا يصلح، وأستقبحه، وهو قبيح، ولا أراه، ولا يفعل (2) .
مثال: سئل أحمد عن السفتجة، قال: إذا كان على وجه المعروف، تريد أن تصطنع إلى صاحبها معروفا فلا بأس. وإذا كان يريد أن ينتفع بالدراهم، أو يؤخر دفعها أو يأخذ وقاية به فلا يصلح (3) .
3 - ما يحتمل التحريم والتنزيه على حد سواء، وهو لفظ: أكرهه (4) ، ولا يعجبني، ولا أستحسنه، ولا يجزئ، وهذا شنع عند الناس، وإني لأستوحش منه، ولا أجترئ عليه.
مثال: سئل أحمد عن كبس المسجد بتراب ليس بنظيف، قال: لا يعجبني (5)
__________
(1) رواية المروذي، الخلال '' الوقوف '' (1 \ 231) .
(2) ينظر: ابن حامد '' صفة الفتوى '' (90) .
(3) رواية أبي داود '' المسائل '' (192) .
(4) ويرى ابن القيم أن لفظ: أكرهه ولا ينبغي، من الضرب الأول. '' إعلام الموقعين '' (1 \ 41، 45) .
(5) رواية صالح '' المسائل '' (2 \ 335) .(42/342)
النوع الثاني: الإباحة:
وهو بحسب الاحتمالات السابقة، على ثلاثة أضرب:
1 - ما كان صريحا في الإباحة، وهو لفظ: لا بأس، وهذا جائز أو مباح وليس بشيء، ونحو ذلك.
مثال: سئل عن دخول المسجد الحرام من غير باب بني شيبة، وعن الخروج إلى السعي من غير باب الصفا، فقال: لا بأس (1) .
2 - ما كان للإباحة مع احتمال كراهة التنزيه، وهو لفظ: أرجو، وأرجو أن لا بأس، ويصلح، ويجزئ، ونحو ذلك (2) .
مثال: سئل عن الرجل يأخذ من شعره، هل عليه وضوء؟ . فقال أرجو أن لا يجب عليه (3) .
3 - ما يحتمل الإباحة وغيرها على حد سواء، وهو لفظ: أخشى أن يكون
__________
(1) رواية صالح '' المسائل '' (2 \ 20) .
(2) انظر: ابن حمدان '' صفة الفتوى '' (91) والمرداوي '' الإنصاف '' (12 \ 249) .
(3) رواية عبد الله '' المسائل '' (22) .(42/343)
كذا، أو أخاف أن يكون كذا، وأتوقاه، وأجبن عنه، وأحب السلامة، ونحو ذلك.
مثال: سئل أحمد عن الرجل يأتي أهله في رمضان ناسيا، قال: أجبن عنه(42/344)
النوع الثالث: الطلب
وهو بحسب الاحتمالات السابقة، على ثلاثة أضرب:
1 - الصريح في الوجوب، وهو لفظ: يجب كذا، أو يلزم كذا، ولا بد من كذا، وهذا واجب ونحوها.
مثال: سئل أحمد عن رجل استدان دينا على أن يؤديه، فتلف المال بين يديه. فأصابه حوادث الدنيا، فصار معدما لا شيء له. هل يرجى له بذلك عذر عند الله تعالى وخلاص من دينه على عدمه، ولم يقض دينه الذي عليه.
فقال: هذا أسهل عندي من الذي احتال، وإن مات على عدمه فهذا واجب عليه.(42/344)
2 - ما كان للندب ويحتمل الوجوب، وهو لفظ: أحب كذا، وهو أحب إلي، ويعجبني كذا (1) وهذا أحسن ونحو ذلك.
مثال: قال أحمد: إذا قبل لشهوة، فأحب أن يتوضأ.
3 - ما يحتمل الندب والوجوب على حد سواء، وهو لفظ: يفعل كذا، وينبغي كذا، واختار كذا.
مثال: سئل عن رجل أهل بيت لا يقيمون الصلوات، ولا يعرفون السنن والفرائض. وفي جيرانه قوم يقيمون الصلاة، والفرائض والسنن.
__________
(1) يرى ابن حامد، أن لفظ: أحب إلي ويعجبني، للوجوب. ابن حمدان '' صفة الفتوى '' (92) .(42/345)
أيضع زكاة ماله في جيرانه هؤلاء، أو في أهل بيته، قال: ينبغي له أن يعلمهم الفرائض والسنن، وزكاته هم أولى بها حينئذ (1)
__________
(1) رواية صالح '' المسائل '' (1 \ 281) .(42/346)
النوع الرابع: التسوية: وهو لفظ: أهون، وأشد، وأشنع، وأدون، وأيسر، وأسهل ونحوها. وجميعها تقتضي من حيث الأصل التسوية في الحكم، ولا يمنع أن تتفاوت وأن يكون بعضها آكد من بعض.
مثال: سئل أحمد عن تطيين القبور وتجصيصها، فقال: أما التجصيص فمكروه، والتطيين أسهل(42/346)
خاتمة
وبعد: فلم يكن الإمام أحمد رحمه الله ممن يتطلع إلى شهرة زائفة، أو يتهالك على منصب موهوم. وإنما يترجم بسيرته وسلوكه ما وعاه من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح من بعده.
وكان حريصا كل الحرص أن ينقل ذلك إلى طلابه ومن يخالطه؛ لتترسخ هذه المبادئ والمثل الكريمة النادرة في النفوس، وتبقى حية متقدة.
وهو حينما يكره الرأي وأهل الرأي، ولا يطيق جدالهم ولا رؤية تآليفهم، لما يشاهد من آثارهم التي بلبلت الأفكار وأقضت المضاجع.
وفي فقهه النموذج الجاد لما كان عليه السلف الصالح، من الإعراض عما لا يفيد وعن تكثير المسائل وافتراضها، مع جودة الفهم وبعد النظر ودقة الاستنباط. وما كان من مصطلحاته فيما نقل من مسائله وفتاويه، إلا لما تحلى به من الورع والتوقي، والحرص الشديد على اتباع السلف في أحوالهم وأقوالهم.
أسأل الله تعالى أن ينفعنا جميعا بما نقول ونسمع ونقرأ.
والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.(42/347)
صفحة فارغة(42/348)
شركة الأبدان
د. صالح بن عبد الرحمن الأطرم
مقدمة:
الحمد لله الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث، وصلى الله وسلم على نبينا محمد النبي الأمي الذي أمر أمته بالمعروف ونهاهم عن المنكر وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وعلى آله وأصحابه ومن اتبعهم بإحسان ممن تلقى سنة نبيه وعلمها كما سمعها وتلقاها.
أما بعد: فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (1) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (2) وسبيل المؤمنين فيما يغذون به أرواحهم وأبدانهم ويقوون به أجسامهم من الحر والبرد سبيل الرسل، والرسل أمروا بالعمل الصالح والأكل من الطيبات قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (3) ففرض الله عليهم هذا السبيل وأعلمهم بعلمه لهم إن
__________
(1) سورة البقرة الآية 168
(2) سورة البقرة الآية 172
(3) سورة المؤمنون الآية 51(42/349)
خالفوه بأعمالهم فقال: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (1) وأخبر أن هذا دين الرسل وأتباعهم، والآخذ به هو المتقي قال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (2) وأخبر سبحانه عن مدى التفرق في الدين وذم التحزب فيه قال تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (3) وهذا الذم يشمل من تقطع أمرهم عن المعتقد الصحيح وعن طريق الكسب الحلال، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أسباب قبول الأعمال وإجابة الدعاء هو الكسب الحلال لما يحتاج إليه الإنسان في هذه الدنيا وأن الكسب الخبيث وتناوله سبب للرد، واستبعد عليه الصلاة والسلام استجابة دعاء صاحب الكسب الخبيث «فذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له (4) » فاشتمل هذا الحديث على ذكر أسباب إجابة الدعاء وموانع قبوله والاستبعاد لقبوله مع وجود موانعه، والخبيث يعم ما خبث بنفسه كالنجاسات وما حرم أكله من الحيوان وغيره مما به ضرر على الأجسام والعقول، ويعم ما خبث طرق اكتسابه بمخالفته لشرع الله كطريق السرقة والغصب والرشوة، والتحدث عن هذا الجانب تفيض به الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
فأسأل الله سبحانه أن يوفقني لأن أكون عند حسن ظن الجميع وأكتب فيما ظهر لي حول هذا الموضوع، وأسأله الإعانة والتوفيق للصواب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 51
(2) سورة المؤمنون الآية 52
(3) سورة المؤمنون الآية 53
(4) رواه مسلم (1015) والترمذي (4074) والدارمي (2720) وأحمد 2 \ 328.(42/350)
معنى الشركة لغة:
ضبطت " الشركة " بكسر الشين وإسكان الراء " شركة " على وزن " فعلة " وبفتح الشين وكسر الراء " شركة " على وزن " فعلة " قاله في(42/350)
اللسان (1) وهذا اللفظ اللغوي يشمل جميع أنواع الشركات الاصطلاحية عند الفقهاء، وما فيه اختلاط من دلالة اللغة العربية حقا كان أو باطلا، والاسم من الشركة " شرك " وهو عنصر المادة وأساسها ومنطلق كل مشتقاتها، ومنه إطلاق الشرك على عبادة غير الله، قال تعالى في قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2) .
والشركة في اصطلاح الفقهاء:
نوع من أنواع التعاون على عمارة هذه الحياة الدنيا مما يعود على تقويم الأبدان وسد حاجياتها حيث لا يستغني أحد عن أحد، فهذا يستطيع أمرا وهذا لا يستطيع، وهذا يعرف شيئا وهذا يعرف غيره، فاشترك الناس في عمارة هذه الحياة الدنيا شاءوا أم أبوا، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (3) .
فعمر الله الكون بأن سلك كل فرد سبيلا من سبل عمارته بحيث ينفع غيره وينتفع بعمل غيره، منطلقا المسلم من تعاليم دينه فيما يملكه من الطرق وغيره لا يبالي فيما سلك، ويصور الشاعر هذا المعنى بقوله:
الناس للناس من بدو وحاضرة ... بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
وقدرات الإنسان الفردية محدودة لا تفي بغرضه فجاءت مشروعية الشركة بانضمامه لغيره في طرق اكتسابه وتنمية ماله فأفرد الفقهاء بابا مستقلا في أحكام المعاملات ذكروا فيه أنواع الشركات الشرعية المتفق عليها
__________
(1) اللسان مادة '' شرك '' 10 \ 448 دار صادر.
(2) سورة لقمان الآية 13
(3) سورة الزخرف الآية 32(42/351)
في الجملة والتي لا يزال وجودها في كل قرن ومجتمع ولو تغيرت مسمياتها عما في كتب الفقه، وهذا المعنى ينطبق على الشركات المنشأة وهي شركة العقود، وقد تطلق الشركة على المستحقات في الأملاك المشاعة، ومن هنا نجد الفقهاء يقسمون الشركة بادئ ذي بدء إلى قسمين: (شركة أملاك وشركة عقود) فجاءت تعريفاتهم مختلفة حسب هذا الاعتبار، فمن تعاريفهم ما شملت شركة الأملاك والعقود، ومن التعاريف ما أريد بها شركة العقود فقط.
فمن التعاريف التي شملت النوعين تعريف الحنابلة حيث قالوا: هي اجتماع في استحقاق أو تصرف، (1) فقولهم: الاجتماع في الاستحقاق، أرادوا به شركة الأملاك كاشتراك في تركة، وقولهم: أو تصرف أرادوا به شركة العقود بأنواعها وهي شركة العنان وشركة المضاربة وشركة المفاوضة وشركة الوجوه وشركة الأبدان.
وجاء عند الشافعية للشركة تعريفان:
أحدهما يخص شركة الأملاك والاستحقاقات والثاني يضم النوعين (الاستحقاق والعقود) .
فالتعريف الأول: في مغني المحتاج (2) حيث قال بعدما عرفها لغة: " وشرعا " ثبوت الحق في شيء لاثنين وأكثر على جهة الشيوع " ومثل هذا التعريف في روضة الطالبين " (3) .
والتعريف الثاني: " للشافعية في نهاية المحتاج (4) حيث قال: هي ثبوت الحق شائعا في شيء واحد أو عقد يقتضي ذلك ".
__________
(1) المغني 5 \ 3 وكشاف القناع 3 \ 496 والمطلع للبعلي ص260.
(2) 2 \ 212.
(3) 4 \ 275.
(4) 5 \ 3.(42/352)
وأما تعريف المالكية والحنفية فيقع على شركة العقود، جاء في مختصر خليل (1) " الشركة إذن في التصرف لهما مع أنفسهما " وجاء في الدر المختار شرح تنوير الأبصار (2) أنها " عبارة عن عقد بين المتشاركين في الأصل والربح ".
__________
(1) مختصر خليل مع شرحه جواهر الإكليل 2 \ 115.
(2) 2 \ 4 \ 299.(42/353)
حكم الشركة بأنواعها:
تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على مشروعية شركة العقود بأنواعها، فمن الكتاب قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} (1) وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} (2) والخلطاء هم الشركاء.
ومن السنة حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال.
«إن الله يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما (3) » وحديث السائب بن أبي السائب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك لا تداريني ولا تماريني (4) » وحديث أبي المنهال «أن زيد بن أرقم والبراء بن عازب كانا شريكين فاشتريا فضة نقدا بنقد ونسيئة فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهما أن ما كان
__________
(1) سورة النساء الآية 12
(2) سورة ص الآية 24
(3) أخرجه أبو داود في سننه (3383) والبيهقي في السنن الكبرى 6 \ 78.
(4) أخرجه أبو داود في سننه (ح 4836) وابن ماجه في سننه (ح 2287) والبيهقي في السنن الكبرى 6 \ 78.(42/353)
بنقد فأجيزوه وما كان بنسيئة فردوه (1) » وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع (2) » وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة (3) » .
أما الإجماع فقد انعقد على مشروعية الشركة في الجملة، فقد ورد في المغني (4) : " وأجمع المسلمون على جواز الشركة في الجملة " وقال صاحب كشاف القناع (5) : " وهي جائزة بالإجماع " وقال صاحب مغني المحتاج (6) : " والأصل فيها قبل الإجماع " كقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} (7) وجاء في شرح منح الجليل: " ودليلها الإجماع في بعض صورها "، وجاء في العناية: " والشركة جائزة لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث والناس يتعاملون بها فقررهم عليها، وتعاملها الناس من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير منكر ".
__________
(1) رواه أحمد والبخاري بمعناه انظر المنتقى من أخبار المصطفى من 374 \ 2ط ونشر رئاسة البحوث العلمية والإفتاء 1403.
(2) أخرجه البخاري بمعناه (ح 2499 وح2331) ومسلم انظر شرح النووي على مسلم 10 \ 208.
(3) أخرجه البخاري بمعناه (ح2496) ومسلم بمعناه انظر شرح النووي على مسلم 11 \ 46.
(4) 5 \ 3.
(5) 3 \ 495.
(6) 2 \ 211.
(7) سورة الأنفال الآية 41(42/354)
الحكمة من مشروعية الشركة:
فهذه الأدلة من الآيات والأحاديث والإجماع دليل على مشروعية(42/354)
الشركة قهرا أو إجبارا وابتداء، ولا يخفى ما للمشاركات من فوائد في تنمية الاقتصاد وتقوية المجتمع من تنشيط الحركة في شتى مجالات الأعمال، قال صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن (1) » . ولما في الشركات من التعاون الذي أمر الله به، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) ومعلوم تفاوت أفراد الناس بالعقلية والذكاء وحسن التدبير والحنكة والحذق، فهذا أقوى ببدنه وهذا أقوى بعقله وهذا حسن التصرف، فالمسلمون أغنياء بتعاليم إسلامهم فيما ينشط اقتصادهم ويرفع معنوياتهم في دنياهم من دون مساس في دينهم وأخلاقهم.
__________
(1) أخرجه مسلم (ح 2664) وابن ماجه (ح179) وأحمد في السنن 2 \ 366-370
(2) سورة المائدة الآية 2(42/355)
تعريف شركة الأبدان:
القول بشركة الأبدان موجود عند ثلاثة من المذاهب الأربعة، واختلفوا في تطبيق جزئياتها وفي التصريح بها أو إدخالها ضمنا، والمقصود لا يخلو مذهب من القول بها غير الشافعية، وسيتضح هذا إن شاء الله مما أسوقه من تعاريفهم.
جاء عند الحنابلة " وشركة الأبدان هي أن يشترك اثنان فأكثر فيما يكتسبونه بأيديهم كالصناع يشتركون على أن يعملوا في صناعتهم فما رزق الله تعالى فهو بينهم " (1) .
وعرفها ابن مفلح في الفروع " بأن يشتركا فيما يتقبلان في ذممهما من عمل " (2) .
وعرفها في المبدع بقوله: " وهي أن يشتركا أي اثنان فأكثر فيما
__________
(1) المغني لابن قدامة 5 \ 5.
(2) الفروع 4 \ 400.(42/355)
يكتسبان بأبدانهما أي يشتركون فيما يكتسبون بأيديهم وصنائعهم فما رزق الله فهو بينهم " (1) .
وعرفها الفتوحي في المنتهى: " أن يشتركا فيما يتملكان بأبدانهما من مباح كاحتشاش واصطياد وتلصص على دار الحرب ونحوه " (2) .
وعرفها الشافعية بقولهم: " أن يشترك الدلالان أو الحمالان أو غيرهما من أهل الحرف على ما يكسبان ليكون بينهما متساويا أو متفاضلا " (3) وبعبارة أخرى كما عند الشربيني هي: " الاشتراك بين محترفين على أن كسبهما بينهما متساويا أو متفاوتا مع اتفاق الصنعة أو اختلافها " (4) .
لكن من حيث حكمها لم يقولوا بها، بل اعتبروها باطلة ففي تعريفهم لها تصوير لإبطالها بخلاف الثلاثة فالشافعية وافقوا الثلاثة في التعريف لا في الحكم.
وعرفها المالكية بقولهم: " أن يشترك صانعان فأكثر على أن يعملا معا ويقتسما أجرة عملهما بنسبة العمل بشرط أن تكون الصنعة متحدة كحد أدنى أو أن يتلازم عمل أحدهما مع عمل الآخر وأن يتساويا في العمل أو يتقاربا فيه " (5) .
وعرفها الحنفية بقولهم: " أن يشتركا على عمل من الخياطة أو القصارة أو غيرهما فيقولا اشتركنا على أن نعمل فيه على أن ما رزق الله عز وجل من أجرة فهي بيننا على شرط كذا " (6) .
__________
(1) ابن مفلح المبدع 5 \ 39.
(2) المنتهى مع شرحه 2 \ 339.
(3) روضة الطالبين 4 \ 279.
(4) الغرر البهية شرح البهجة 3 \ 3 \ 170.
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 3 \ 361.
(6) بدائع الصنائع للكاساني 6 \ 57 وانظر فتح القدير لابن الهمام 5 \ 28.(42/356)
وبإمعان النظر في هذه التعاريف نجد بعضها أعم من بعض، فعند الحنابلة تناولت التعاريف أعمال البدن فيما يصنع أو يكسب من المباحات وفيما يتقبل في الذمة ويشترط المالكية اتحاد الصنائع والمكان وتساوي العمل أو تقاربه.
أما تعريف الحنفية فمفهومه تخصيصها في الصنائع دون الذمم وكسب المباحات ويتضح لنا من هذه التعاريف ما يأتي:
1 -شمول بعضها للماهية وهو المطلوب في التعاريف وإضافة الشروط لبعض التعاريف.
2 -اتفاق الفقهاء على تعريف شركة الأبدان في الجملة.
3 -اختلافهم في حكمها.
4 - اختلافهم في اشتراط التساوي في العمل عند من قال بها.
5 - اختلافهم في مسماها، كما سيأتي.
تسمياتها:
تعددت مسميات شركة الأبدان عند الفقهاء فسميت بـ:
1 -شركة الصنائع.
2 -شركة التقبل.
3 -شركة الأعمال.
4 - شركة الأبدان.
5 - شركة التضمين.
وأسباب تعدد مسمياتها ما يلي:
1 - سميت هذه الشركة بـ " شركة الصنائع " لأنها شركة بين أصحاب الحرف والصنائع.
2 -وسميت بـ " شركة التقبل " لأن المشتركين يتقبلون الصنائع والأعمال من الناس.
3 -وسميت بـ " شركة الأعمال " لأن مدارها على العمل.(42/357)
4 - وسميت بـ " شركة الأبدان " لأن العمل بالبدن غالبا.
5 - وسميت بـ " شركة التضمين " لأن كل واحد من الشركاء ضامن لما يتقبله الآخر.(42/358)
مشروعيتها:
شركة الأبدان مشروعة في الجملة بالأدلة - لما فيها من التعاون على المعيشة ومقومات الحياة والتكاتف. .
1 - من الكتاب العزيز:
(أ) قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) فيعم هذا الأمر المصالح الدينية والدنيوية.
(ب) قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (2) .
والولاية تتناول ما فيه نصرة وعون وتشجيع وتأييد في شتى المجالات.
2 - من السنة المطهرة:
(أ) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء " (3) .
(ب) عن رويفع بن ثابت قال: إن كان أحدنا في زمن رسول الله
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) أخرجه أبو داود في كتاب البيوع (ح 3388) وابن ماجه (ح 2288) والبيهقي 6 \ 79.(42/358)
صلى الله عليه وسلم ليأخذ نضو أخيه على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف وإن كان أحدنا ليطير له النصل والريش وللآخر القدح (1) .
وجه الاستدلال: أن مثل هذا لم يكن خافيا على النبي صلى الله عليه وسلم وقد أقرهم. وقال الإمام أحمد أشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم فدل ذلك على مشروعيتها في الجملة.
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (ح36) وأحمد في المسند. انظر الفتح الرباني 14 \ 25.(42/359)
حكم شركة الأبدان
القول بشركة الأبدان أنها جائزة عند الحنابلة والحنفية والمالكية على اختلاف بينهم في بعض الجزئيات.
قال ابن قدامة في المغني (1) مسألة: قال: " وشركة الأبدان جائزة " معنى شركة الأبدان أن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم كالصناع يشتركون على أن يعملوا في صناعاتهم فما رزق الله تعالى فهو بينهم فإن اشتركوا فيما يكتسبون من المباح كالحطب والحشيش والثمار المأخوذة من الجبال والمعادن والتلصص على دار الحرب فهذا جائز نص عليه أحمد في رواية أبي طالب فقال: لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم وليس لهم مال مثل الصيادين والنقالين والحمالين، وقد أشرك النبي صلى الله عليه وسلم بين عمار وسعد وابن مسعود فجاء سعد بأسيرين ولم يجيئا بشيء.
وجاء في كشاف القناع (2) بعد تعريفها وبيان أنواعها " فهي شركة
__________
(1) المغني 5 \ 5.
(2) 3 \ 527.(42/359)
صحيحة روى أبو طالب: لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم وليس لهم مال مثل الصيادين والبقالين والحمالين، وقد أشرك النبي صلى الله عليه وسلم بين عمار وسعد وابن مسعود فجاء سعد بأسيرين ولم يجيئا بشيء ".
وقال السرخسي في المبسوط: (1) " فأما شركة التقبل فهي صحيحة عندنا " ثم وجه ذلك بقوله: " ولكنا نقول جواز الشركة باعتبار الوكالة، وتوكيل كل واحد منهما صاحبه بتقبل العمل صحيح، فكذلك الشركة، والناس تعاملوا بهذه الشركة وشركة الوجوه من لدن رسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير وهو الأصل في جواز الشركة ".
وقال ابن جزى من المالكية في القوانين الفقهية (2) : " وأما شركة الأبدان فهي في الصنائع والأعمال وهي جائزة خلافا للشافعي ".
فاتضح لنا جواز شركة الأبدان في مذهب الحنابلة والحنفية والمالكية في المبدأ، وأما في الجزئيات فالحنابلة يقولون بجوازها مطلقا، سواء اتفقت الصنائع أو اختلفت، اتحد مكان العمل أو اختلف، وسواء كانت في الصنائع أو الأعمال أو التقبل أو في المباحات المكتسبة، والحنفية يستبعدون المباحات ويخرجونها، أما المالكية فيتفقون مع الحنفية سوى أنهم يضيقون مجالها فيشترطون اتحاد الصنائع واتحاد مكان العمل.
والقول الثاني في حكم شركة الأبدان أنها باطلة بأنواعها وجزئياتها وهو قول الشافعية، قال في المهذب (3) .
" فصل ": وأما شركة الأبدان وهي الشركة على ما يكتسبان بأبدانهما فهي باطلة ثم احتج على ذلك بدليل وتعليل فقال: " لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل شرط ليس في
__________
(1) المبسوط 11 \ 154، وانظر بدائع الصنائع 6 \ 57.
(2) القوانين الفقهية لابن جزى ص 187.
(3) المهذب للشيرازي 1 \ 346.(42/360)
كتاب الله فهو باطل (1) » وهذا الشرط ليس في كتاب الله تعالى، فوجب أن يكون باطلا، ولأن عمل كل واحد منهما ملك له يختص به فلم يجز أن يشاركه الآخر في بدله، فإن عملا وكسبا أخذ كل واحد منهما أجرة عمله؛ لأنها بدل عمله فاختص بها ". .
وقالوا أيضا: " إن الشركة إنما تختص بالأموال لا بالأعمال لأن ذلك لا ينضبط فهو غرر عندهم إذ كان عمل كل واحد منهما مجهولا عند صاحبه " (2) .
والراجح قول الجمهور وهو أن شركة الأبدان جائزة في الجملة لما يأتي:
1 - ما يشتمل عليه القول بجوازها من التوسعة على الناس في تعاملهم بدون ضرر يلحقهم.
2 - ولما في مشروعية هذه الشركة من التعاون بين أفراد المجتمع مما يرفع مستوى المعيشة ويقوي المعنوية ويشجع بعضهم بعضا في تحصيل الثروة وسد حاجيات المجتمع والقدرة على توفير متطلبات الحياة، وخصوصا في هذا العصر الذي تنوعت فيه طرق المكاسب من بعيد وقريب.
3 - أن عمل الصحابة صريح في الدلالة ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ويستبعد خفاؤه على النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن أحمد رحمه الله لم يقل ذلك إلا عن علم.
4 - أن الأصل في المعاملات الإباحة ولم يرد ما يحظر هذا ويمنعه كيف وقد جاء ما يعضد هذا الأصل.
__________
(1) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن الترمذي الوصايا (2124) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/213) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) ، سنن الدارمي الطلاق (2289) .
(2) بداية المجتهد 2 \ 255، والإفصاح 2 \ 4-6.(42/361)
5 - أن الاستدلال بما روي عن ابن مسعود قوي، سواء قلنا برفعه أو بإرساله، فالاستدلال بالمراسيل قال به جمهور الفقهاء.
ويجاب عن استدلال الشافعي بحديث عائشة رضي الله عنها وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل (1) » بما يأتي:
(أ) أن معنى الحديث: أن يحل هذا الشرط حراما أو يحرم حلالا والاشتراك في الأعمال ليس من هذا القبيل.
(ب) لو أخذ بظاهره لتناول بطلان كثير من المعاملات المشروعة.
ويجاب عن استدلال الشافعي: بأن شركة الأبدان فيها غرر بما يأتي:
(أ) أن هذا الغرر ليس على واحد دون الآخر، بل كل واحد منهما يحتمل استفادته بما أباح له صاحبه من كسبه فلا يختص الضرر بواحد دون الآخر.
(ب) أن كلا منهما يقوم بعمل متوقع كسبه.
(ج) أن هناك من الغرر ما يغتفر كما في شركة العنان والمضاربة وهما مشروعان عند الجميع.
وإشارة إلى مذهب الظاهرية (2) في هذه المسألة فإنها عندهم غير جائزة، وجعلوها من أكل أموال الناس بالباطل، بناء على أن الأصل عندهم في المعاملات الحظر، ولم يثبت الدليل عندهم على جواز هذه الشركات فلذلك أبطلوها جملة وتفصيلا.
ويجاب عن شبهتهم: أن الأصل في العقود الإباحة إلا ما دل الدليل على حظره، وفي مسألتنا دل الدليل على جوازه كما سبق.
__________
(1) صحيح البخاري العتق (2563) ، صحيح مسلم العتق (1504) ، سنن الترمذي الوصايا (2124) ، سنن النسائي الطلاق (3451) ، سنن أبو داود العتق (3929) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2521) ، مسند أحمد بن حنبل (6/213) ، موطأ مالك العتق والولاء (1519) ، سنن الدارمي الطلاق (2289) .
(2) المحلى لابن حزم 5 \ 142 طبعة مطبعة الإمام.(42/362)
أركان شركة الأبدان
شركة الأبدان عقد كغيرها من العقود فتستوجب أركانا كغيرها، والركن هو ما تقوم عليه الماهية وتعتمد عليه فهو الجانب الأساسي وبعدمه تنعدم الماهية وبوجوده توجد وتثبت، فأركان شركة الأبدان:
1 - عاقدان.
2 - معقود عليه.
3 - الصيغة وهي الإيجاب والقبول من الطرفين، والمعقود عليه ما اختير للمشاركة فيه بعد تحصيله من ناتج صنعة أو عمل أو تملك مباح على اختلاف في بعض المعقود عليه عند من قال بجوازها، فإذا اختل ركن من هذه الأركان اعتبرت باطلة لفقد مسمى المشاركة أو فقد محلها أو ما تنعقد به من إيجاب وقبول.(42/363)
شروط شركة الأبدان
من المعلوم أن لكل عقد شرعي أركانا وشروطا، فشروط شركة الأبدان على قسمين: قسم تشترك فيه مع غيرها وقسم تنفرد به، فما تشترك فيه مع غيرها ما يلي:
1 - أهلية الشريكين للتصرف لأن كل واحد وكيل عن الآخر فيما يعمله ويكتسبه ويتقبله، والوكيل لا بد له من الأهلية، وهي البلوغ والعقل وعدم السفه.
2 - معلومية نصيب كل واحد ومقداره مما يكتسبانه بسبب عملهما(42/363)
وجهد أبدانهما وتحملهما الصنائع والأعمال لأن هذا هو مقصود الشركة لما يترتب عليه من تعاون على البر والتقوى وتكاتف وتساعد على المعيشة الدنيوية فوجب العلم به، والجهالة تحدث ضد ذلك من شقاق ونزاع وما لا تحمد عقباه.
3 - شيوع نصيب كل واحد من الشريكين أو الشركاء كالنصف والربع ونحو ذلك مما يتحصل عليه الجميع، فإن خصص ربح كل واحد من صنعة معينة أو عمل معين أو من كسب مباح معين فلا تصح الشركة وتعتبر باطلا لفوات الغرض منها، فقد يتحصل الواحد ما لا يحصل للآخر.
4 - الشرط الرابع وهو الشرط الشامل لقول من يجيزها في المباحات ويشمل غيرها من باب أولى وهو: أن يكون كل واحد من الشريكين أهلا للتوكيل، قال في بدائع الصنائع ما نصه (1) : " روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه قال: ما تجوز فيه الوكالة تجوز فيه الشركة وما لا تجوز فيه الوكالة لا تجوز فيه الشركة، وعلى هذا تخرج الشركة بالأعمال في المباحات من الصيد والحطب والحشيش في البراري وما يكون في الجبال من الثمار وما يكون في الأرض من المعادن وما أشبه ذلك بأن اشتركا على أن يصيدا أو يحتطبا أو يحتشا أو يستقيا الماء ويبيعانه على أن ما أصابا من ذلك فهو بينهما ".
فما أحسن هذا التقرير من بدائع الصنائع لمن قال بجواز الشركة بالمباحات وإن كان الحنفية لا يرونها، ثم قال في بدائع الصنائع (2) بعد هذا التقرير: " أن هذه الشركة فاسدة لأن الوكالة لا تنعقد على هذا الوجه، ألا
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني 6 \ 63.
(2) المرجع السابق ف 6 \ 63.(42/364)
ترى أنه لو وكل رجلا ليعمل له شيئا من ذلك لا تصح الوكالة كذا الشركة " اهـ. .
والخلاصة: أن الحنفية إنما يجيزون شركة الأبدان إذا كانت على الاشتراك في تقبل الأعمال أما إذا كانت على الاشتراك في تملك المباحات فهي ممنوعة عندهم ويعتبرونها شركة فاسدة ويكون لكل من الشركاء ما اكتسبه دون صاحبه لأن الشركة تتضمن معنى الوكالة، والتوكيل في أخذ المباح باطل.
وأجيب بأن هذا الاحتجاج لا يسلم لهم حيث إنه يجوز الاستئجار على تحصيله فجاز التوكيل بذلك.
وأما شروط شركة الأبدان عند المالكية فهي (1) كما يلي:
1 - اتحاد الصنعة
2 - اتحاد المكان
3 - يشترطون الاشتراك في الآلات التي يعملون بها.
4 - والشرط الرابع عند المالكية أن لكل من الشريكين من الربح بقدر عمله.
ولا يخفى ما في هذا من الضيق والحرج الناتج عن اشتراط المالكية وعدم ظهور الفائدة من الاشتراك حسب شروطهم.
وإذن فالأظهر أن الشروط الواضحة في تحصيل المقصود من شركة الأبدان معلومية مقدار نصيب كل واحد وشيوعه، وبهذا تظهر فائدة القول بجواز شركة الأبدان، ويتضح مدى الاستفادة منها، ولا يقال: إن فيه جهالة إذا التزم كل واحد بما تعاقدا عليه من جدية في العمل وأمانة في التحصيل ونصح للآخر، فلربما صار اجتماعهما سبب خير وبركة في
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة 5 \ 6.(42/365)
العمل، وإن زاد عمل أحدهما على الآخر فبذله تبرعا، إذ الزيادة تحتمل من كل واحد فلا غرر على واحد منهما في المبدأ بحيث يتصور أن أحدهما يأخذ مال الآخر الذي هيأه بل إن كل واحد منهما بذل الوسع في العمل.(42/366)
أحكام شركة الأبدان
1 - بطلانها عند الشافعية.
2 - اتفاق المذاهب الثلاثة الحنفية والمالكية والحنابلة على مبدأ جواز شركة الأبدان.
3 - أوسعها مذهب الحنابلة.
4 - اتفق المجيزون لها على الصنائع، لكن اختلفوا في شروطها فالحنابلة يطلقون الجواز والمالكية يشترطون اتحاد الصنعة والمكان.
5 - اتفق الحنابلة والحنفية على عدم اشتراط الصنعة والمكان.
6 - اتفق الحنفية والحنابلة على جواز شركة الأبدان للتقبل.
7 - انفرد الحنابلة بجواز شركة الأبدان في المباحات كما سيأتي إن شاء الله في ذكر صور من شركة الأبدان.(42/366)
صور من شركة الأبدان
وحيث إن أوسع المذاهب فيها مذهب الحنابلة وسلامة وجهتهم في نظري وتحقيق المصلحة من شركة الأبدان أكثر في مذهب الحنابلة، فسأذكر جملة من صور شركة الأبدان مما تبرز أهميتها وفائدتها، وتبرز أيضا وضوح الرؤية في مصلحة شركة الأبدان، وأن التقعيد لها مواكب وملائم لكل مكان(42/366)
وزمان، وأن الفقهاء قعدوا في الفقه على ضوء ما فهموه من الشريعة الخالدة إلى يوم القيامة ولهذا ما حدث من بعدهم إن لم تجده منصوصا عليه عندهم وجدته ضمن قواعدهم وأمثلتهم، ومن ذلك ما يلي:
1 - استدل الفقهاء على تأصيل شركة الأبدان بما روى أبو داود والأثرم بإسنادهما عن أبي عبيدة بن عبد الله عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " اشتركنا أنا وسعد وعمار يوم بدر، فلم أجئ أنا وعمار بشيء وجاء سعد بأسيرين " ومثل هذا لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقرهم عليه، وقال أحمد: أشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم
2 - وفي هذا الخبر رد على الشافعية الذين أبطلوا شركة الأبدان حيث إن الغنائم إنما جعلت للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن غنموا واختلفوا في الغنائم فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) والشركة كانت قبل ذلك، ويدل على صحة هذا أنها لو كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخل: إما أن يكون قد أباحهم أخذها فصارت كالمباحات أو لم يبحها لهم فكيف يشتركون في شيء لغيرهم.
وفي هذا الخبر حجة على أبي حنيفة القائل بمنع شركة الأبدان في المباحات لأنهم اشتركوا في مباح وفيما ليس بصناعة.
وهذه أمثلة وصور لشركة الأبدان مما ذكره الفقهاء نسوقها ونبينها ليتيسر تصورها ويسهل إلحاق ما جد في أي زمان بما ذكره الفقهاء مبتدئا بتعريفها عند الحنابلة ثم قواعد لا بد منها ثم الصور والأمثلة مما ذكره الفقهاء ومما ينطبق عليه في وقتنا الحاضر، وبيان الصحيح منها والفاسد مع ذكر أسباب الصحة والفساد.
وقد اخترت مذهب الحنابلة في شركة الأبدان لما سأذكره من الأمثلة
__________
(1) سورة الأنفال الآية 1(42/367)
والصور لسعته مع انضباط قواعده ودعاء المصالح إلى هذه الشركة في كل زمان ومكان، وما فيه مصلحة مبناه على التيسير ما لم يعارض نصا شرعيا أو مفسدة أكبر، ولأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولتضمن شركة الأبدان التعاون ما لم يتضح فيها الإثم والعدوان.
وقبل أن أدخل في ذكر صورها وأمثلتها أشير إلى تعريف شركة الأبدان عند الحنابلة الذي اخترته، وربط الصور والأمثلة به، قال في كشاف القناع (1) :
" فصل: القسم الرابع شركة الأبدان أي شركة بالأبدان فحذفت الباء ثم أضيفت لأنهم بذلوا أبدانهم في الأعمال لتحصيل المكاسب، وهي ضربان:
أحدهما: أن يشتركا أي اثنان فأكثر فيما يتقبلان بأبدانهما في ذممهما من العمل فهي شركة صحيحة، روى أبو طالب: لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم وليس لهم مال مثل الصيادين والبقالين والحمالين، وقد أشرك النبي صلى الله عليه وسلم بين عمار وسعد وابن مسعود فجاء سعد بأسيرين ولم يجيئا بشيء. والحديث رواه أبو داود والأثرم، وكان ذلك في غزوة بدر وكانت غنائمها لمن أخذها قبل أن يشرك الله تعالى بين الغانمين، ولهذا نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أخذ شيئا فهو له (2) » فكان ذلك من قبيل المباحات.
الضرب الثاني: ذكره بقوله: ويصح الاشتراك في تملك المباحات من الاحتشاش والاصطياد والتلصص على دار الحرب وسائر المباحات لما تقدم من نص الإمام واحتجاجه ".
__________
(1) كشاف القناع 3 \ 527.
(2) رواه أبو داود والحاكم، التلخيص الحبير 3 \ 103.(42/368)
وأما القواعد التي أشرت إليها فهي ما يلي:
القاعدة الأولى: أن شركة الأبدان عقد جائز يصح لكل شريك فسخها ما لم ينتج عن ذلك ضرر على أحد.
القاعدة الثانية: عدم اشتراط اتفاق الصنعة.
القاعدة الثالثة: ما يتقبله أحدهما من العمل يكون في ضمانهما سواء عمله بنفسه أو أقام غيره مقامه.
القاعدة الرابعة: الاتفاق على أن أحدهما يتقبل والآخر يعمل فهذه شركة صحيحة.
القاعدة الخامسة: أن لكل شريك المطالبة بالأجرة وللمستفيد دفع الأجرة لأي واحد منهما، وبهذا التسليم لأحدهما يبرأ الدافع.
القاعدة السادسة: عدم ضمان الأجرة على أحدهما إذا تلف ما في يده من غير تفريط لأن كلا منهما أمين للآخر فتضيع عليهما.
القاعدة السابعة: تحمل من فرط منهما في تلف العين أو الأجرة نتيجة تفريطه.
القاعدة الثامنة: إقرار أحدهما على ما في يده إقرار عليه وعلى شريكه.
القاعدة التاسعة: عدم قبول إقرار أحدهما على الآخر من عين أو دين لأنه لا يد له عليه.
القاعدة العاشرة: إذا ترك أحد الشريكين العمل بعذر أو بلا عذر فالكسب بينهما على ما شرطاه.
القاعدة الحادية عشر: إذا طالب الشريك شريكه الذي ترك العمل أن يقيم مقامه لزمه وله الفسخ إن امتنع الشريك، كما أن له الفسخ حتى ولو لم يمتنع لأن الشركة عقد جائز كما تقدم.(42/369)
القاعدة الثانية عشرة: موجب العقد المطلق في شركة وجعالة وإجارة التساوي في العمل والأجر لأنه لا مرجح لواحد، ولو عمل واحد أكثر ولم يتبرع بالزيادة طالب بالزيادة ليحصل التساوي.
أما الصور والأمثلة التي ذكرها الفقهاء مع ذكر ما يطابقها من الواقع فهي كما يلي:
1 - لو قال أحدهما: أنا أتقبل وأنت تعمل صحت الشركة لأن تقبل العمل يوجب الضمان على المتقبل ويستحق به الربح فصار كتقبله المال في المضاربة، والعمل يستحق به العامل الربح كعمل المضارب فينزل بمنزلة المضارب (1) ومثل هذه الصورة لو اجتمع جماعة فعقدوا الشركة بما يكسبون وتقاسموا الأعمال فكان منهم من يتقبل العمل ومنهم من يحضر المواد ومنهم من يعمل بيده، مثل مقاولة في البنيان أو خياطة كأن يخيط أحدهم والآخر يفصل والثالث يكوي، ومثل أن يؤجروا سياراتهم فيكون منهم من يؤجر ومنهم من يقود السيارات ومنهم من يحملها ومنهم من يلاحظها فيما تحتاجه من زيوت وإصلاح أعطال أو غير ذلك.
2 - إذا اشترك رجلان لكل واحد منهما دابة على أن يؤجراهما فما رزقهما الله من شيء فهو بينهما صح (2) والمراد بالدواب الصالحة للتأجير كبعيرين أو بغلين، وأما لو كان أحدهما صالحا للتأجير والآخر غير صالح كبعير وبقرة والعقد على التحميل فغير صحيحة لاختلاف المعقود عليه وظهور الغبن على أحدهما دون الآخر، أما
__________
(1) المغني 5 \ 7.
(2) المغني 5 \ 8.(42/370)
وأن يكون العقد على تشغيل الدابتين في المجال الصالح لكل منهما كتأجير البقر للحرث والسقي والإبل للتحميل فأرجو أن لا يكون به بأس.
ومثل ذلك لو اشترك اثنان في تأجير سيارتيهما وما رزق الله فبينهما فصحيحة -إن شاء الله- ما لم تتفاوت السيارتان كأن تكون إحدى السيارتين شاحنة أطنان والأخرى غير صالحة للشحن فلا نسبة بينهما في الأجرة فمثل هذه الشركة غير صحيحة لظهور التفاوت، وشركة الأبدان مبنية على احتمال التساوي في العمل والإنتاج أو رجحان أحدهما في وقت والآخر في وقت آخر، أما وأن يتحقق ظهور كسب أحدهما دون الآخر فهذا لا يعتبر شركة، وإنما قد يدخل في التبرع وحينئذ لا يكون مبناه مبنى الشركة.
3 - إذا تقبلا حمل شيء معلوم إلى مكان معلوم في ذمتهما ثم حملاه على البهيمين أو غيرهم صح (1) ، ومما تلخص عندي أن العاملين إذا تقبلا حمل شيء بذممهما صحت الشركة على أي ناقلة نقلوه والأجرة بينهما على ما اشترطا، سواء اتفقت الناقلات أم اختلفت، أما إن أجرا ناقلاتهما كل واحد بعينها، سواء كانت الناقلة سيارة أو دابة أو سفينة أو طائرة فلكل واحد أجرة ما يخصه ولا تصح الشركة في هذه الصورة لعدم اشتراكهما في العمل.
4 - إن كان لقصار أداة ولآخر بيت فاشتركا على أن يعملا بأداة هذا في بيت هذا والكسب بينهما جاز، والأجرة على ما شرطاه فيه (2) فجازت الشركة في هذه الصورة لوجود العمل من كل من الشريكين
__________
(1) المغني 5 \ 8- 9.
(2) المغني 5 \ 9.(42/371)
ووجود متطلبات الشركة من الشريكين فهذا منه الآلة وهذا منه المكان، والعمل منهما جميعا كأن يكون من أحدهما ماكينة الخياطة ومن الآخر الدكان ومن الآخر الكي، ومثل هذه الصورة.
5 - لو انعقدت الشركة على العمل في بيت أحدهما أو على آلة صحت لوجود العمل منهما (1) وكذا لو انعقدت الشركة بين اثنين فأكثر على أن من بعض الآلات ومن بعضهم العمل صحت الشركة إن شاء الله لما فيها من التعاون؛ ولأنه ليس كل واحد يستطيع أن يعمل بآلته، كأن يكون عند أحدهم آلة حفر أو سيارة نقل لا يستطيع استغلالها أو أرض لا يستطيع استغلالها فيشترك مع من يستغلها على ما يتفقون عليه ولو لم يقع من صاحب الأصل عمل كما اشترطه بعضهم كما في المساقاة والمزارعة والمضاربة ولو لم يشترك صاحب الأصل في العمل.
6 - نقل أبو داود عن أحمد رحمه الله فيمن يعطي فرسه على النصف من الغنيمة أرجو أن لا يكون به بأس قال إسحاق بن إبراهيم قال أبو عبد الله: إذا كان على النصف والربع فهو جائز (2) ومثله لو أعطى سيارته لمن يعمل عليها من حطب أو نقل بضائع وما رزقهما الله فهو بينهما.
7 - نقل أحمد بن سعيد عن أحمد رحمه الله فيمن دفع عبده إلى رجل ليكسب عليه ويكون له ثلث ذلك أو ربعه فجائز (المغني 5 \ 11) ولعل مثل هذه الصورة آلة الصيد من الطيور والكلاب المعلمة والبندقية لو دفعها إلى من يصيد بها بجزء مما يتحصل عليه بسببها.
__________
(1) المغني 5 \ 9.
(2) المغني 5 \ 10-11.(42/372)
8 - إن دفع ثوبه إلى خياط ليفصل قمصانا يبيعها وله نصف ربحها بحق عمله جاز، نص عليه في رواية حرب (المغني 5 \ 11) ولعل مثل هذه الصورة لو دفع أرضا لمن يخططها بجزء معلوم منها جاز، وكذا لو اتفقا على أن يخططها ويبيعها بنسبة من الثمن جاز ذلك.
9 - إن دفع رجل دابته إلى آخر ليعمل عليها وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثا أو كيفما شرطا صح نص عليه في رواية الأثرم ومحمد بن حرب وأحمد بن سعيد (1) ومثله:
10 - لو دفع غزلا إلى رجل ينسجه ثوبا بثلث ثمنه أو ربعه جاز نص عليه (2) ومثله:
11 - لو دفع شبكة إلى صياد ليصيد بها السمك بينهما نصفين صحت الشركة، وما رزق الله بينهما على ما شرطاه (3) ومثله:
12 - لو أعطى رجل لطحان أقفزة معلومة يطحنها بقفيز دقيق منها قياس قول أحمد جوازه (4) .
وهذا مثل لو أعطى حبه لطحان ليطحنه بجزء منه، ومثله لو أعطى دقيقه للخباز ليخبزه بجزء منه فجائز، ومثله لو أعطى جزارا ذبيحة أكل ليذبحها بجزء منها فذلك جائز أيضا، والأمثلة من الواقع على هذا كثيرة.
13 - إذا بذل كل من الشركاء آلة كثروا أو قلوا فهل يشترط أن يكون العمل منهم جميعا أو يكون العامل غيرهم؟ ، فالأظهر من كلام
__________
(1) المغني 5 \ 9-10.
(2) المغني 5 \ 11.
(3) المغني 5 \ 11.
(4) المغني 5 \ 12.(42/373)
العلماء جواز الشركة ولو لم يعملوا كلهم، ومنهم من اشترط وجود العمل من الشركاء حتى تتحقق شركة الأبدان.
14 - لو اشترك شخصان من أحدهما السيارة أو السفينة ومن الآخر البضائع والعمل لبيعها وما رزقا من ربح فبينهما فغير صحيحة لأن الوكالة لا تصح من أحدهما على الآخر فيكون الربح لصاحب البضائع ولصاحب السيارة أو السفينة أجرة المثل ولأنهما لم يشتركا في العمل والغرض يحصل بغير صورة الشركة، وذلك بأن يؤجر السيارة أو السفينة أو الطائرة أو الدابة على من يحمل بضائعه عليها ومن ثم يسير العمل بوضوح وبدون غرر وبمعرفة كل واحد ما يخص الآخر بدون إجحاف على الآخر وتؤمن الخلافات والمنازعات.
15 - تصح الشركة في الاحتشاش؛ لأنه اشتراك في مكسب مباح كالقصارة والاصطياد والتلصص على دار الحرب وسائر المباحات كالحطب والثمار المأخوذة من الجبال والمعادن، وهذا هو الأصح فيهن (المبدع 5 \ 40) ومثله لو اشتركا في جلب تراب أو حصى من البرية أو أي مادة مباح أخذها.
16 - لو جمع الشركاء بين عدد من الشركات الصحيحة جاز ذلك (قال في المبدع (1) وإن جمعا بين شركة العنان والأبدان والوجوه والمضاربة صح لأن كل واحد منها يصح منفردا فصح مع غيره) .
17 - إن اشترك الشهود على أن كل ما حصله كل واحد منهم فهو بينهم بحيث إذا كتب أحدهم وشهد شاركه الآخر وإن لم يعمل فهي شركة الأبدان تجوز حيث تجوز الوكالة (2) (الإنصاف) .
__________
(1) 5 \ 43.
(2) 5 \ 462.(42/374)
ومثل هؤلاء الذين يجلسون عند أبواب الدوائر والمحاكم فيكتبون فلو اشتركوا في ما حصلوا فهو بينهم على ما اتفقوا فجائز.
18 - إن اشتركا ابتداء في النداء على شيء معين أو على ما يأخذانه أو على ما يأخذه أحدهما من متاع الناس أو في بيعه صح والأجرة لهما على ما شرطاه (الإنصاف 5 \ 463) ومثله الدلالون في الأسواق والحراجات.(42/375)
صور معاصرة ممنوعة
1 - أن يستخرج أحد رخصة عمال " الفيزة " والآخر يشتريها منه فيذهب المشتري للتعاقد مع العمال بقدر معلوم على كل عامل يخصه سواء تعجل ما عندهم أو أجله إلى أن يقدموا للعمل فهذه شركة لا تجوز لاشتمالها على كذب من الأول وأخذ نقود من الثاني بدون مقابل أيضا وتحميل ذمم العمال وحمل العمال على المخاطرة؛ لأنهم لا يدرون هل ستتوفر لهم الأعمال أم لا تتوفر.
2 - أن يستقدم من أخرج الرخصة عمالا ثم يضرب عليهم مبلغا معينا من المال شهريا أو سنويا أو حسب الاتفاق ثم يفلت لهم الزمام ليلتمسوا الأعمال، فهذا لا يجوز، سواء سميت بالشركة أو مقابل الكفالة لما يأتي:
(أ) حصول الكذب من مستخرج الرخصة، حيث إنه لم يعط رخصة إلا بناء على أن عنده أعمالا متوقفة على حضور العمال.(42/375)
(ب) المخاطرة على نفسه، حيث إن العمال قد يأخذون عملا باسمه فيثقلونه من حيث لا يشعر، ومن ثم يطالب بتقصيرهم.
(ج) التغرير بصاحب العمل؛ لأن العمال قد لا يحسنون الصنعة والناس يثقون باسم صاحب المؤسسة الذي استقدم العمال.
(د) حصول مثل هذا ينتج عنه تسيب العمال وكثرة البطالة مما يترتب عليه كثير من المفاسد العديدة.
3 - ما يقوم به البعض -سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات أو شركات- بشراء ناقلة ثم بيع نصفها على آخر بشرط قيامه بقيادتها براتب شهري حتى يسدد قيمتها ومن ثم يخرج له نصفها فهذه شركة ممنوعة لما يأتي:
(أ) عدم صحة الوكالة من كل واحد منهما للآخر.
(ب) اجتماع عقدين أو أكثر في عقد واحد.
(ج) إقراضه نصف قيمة السيارة، وهذا ممنوع إذ كل قرض جر نفعا فهو ربا.
(د) ما يشتمل عليه من المخاطرة، وهو أنه قد يعجز القائد في آخر لحظة عن التسديد ومن ثم يخرج بدون أن يتحقق مطلوبه، وهذا شأن المخاطرات.
4 - أن يشتري شخص ناقلة بمال في الذمة فيشترط البائع أن يعمل المشتري بشركة معينة حتى يتم التسديد فبهذه المسألة لا يعتبر شركة لأنها في الحقيقة بيع وحجر في التصرف إذ أن المشتري قد يتحصل على عمل أكثر مكسبا ولأن مقتضى البيع تصرف المشتري في المبيع وليست هذه الصورة من الرهن في شيء لأن الرهن حبس للمبيع عن بيعه لا حجر عن التصرف في أوجه الانتفاع.(42/376)