تكره معاملته لشبهة ماله قال: يتصدق بالثمن، وخالفه ابن المبارك، وقال: يتصدق بالربح خاصة. وقال أحمد: يتصدق بالربح، وكذا قال فيمن ورث مالا من أبيه، وكان أبوه يبيع ممن يكره معاملته: أنه يتصدق منه بمقدار الربح ويأخذ الباقي. وقد روي عن طائفة من الصحابة نحو ذلك، منهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعبد الله بن يزيد الأنصاري - رضي الله عنه -، والمشهور عن الشافعي - رحمه الله - في الأموال الحرام أنها تحفظ ولا يتصدق بها حتى يظهر مستحقها. وكان الفضيل بن عياض يرى أن من عنده مال حرام لا يعرف أربابه أنه يتلفه ويلقيه في البحر ولا يتصدق به، وقال: لا يتقرب إلى الله إلا بالطيب، والصحيح الصدقة به؛ لأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه، وإرصاده أبدا تعريض له للإتلاف واستيلاء الظلمة عليه، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقربا منه بالخبيث، وإنما هي صدقة عن مالكه؛ ليكون نفعه له في الآخرة حيث يتعذر عليه الانتفاع به في الدنيا (1) .
__________
(1) جامع العلوم والحكم 85، 86-90.(39/36)
ثالثا: النقول عن الفقهاء:
1 - قال محمد بن أحمد بن رشد:
(فصل) فإن فات البيع فليس له إلا رأس ماله، قبض الربا أو لم يقبضه، فإن كان قبضه رده إلى صاحبه، وكذلك من أربى ثم تاب فليس له إلا رأس ماله، وما قبض من الربا وجب عليه أن يرده إلى من قبضه منه فإن لم يعلمه تصدق به عنه؛ لقول الله - عز وجل -: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1) الآية، وأما من أسلم وله ربا فإن كان قبضه فهو له لقول الله - عز وجل -: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (2) ولقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أسلم على شيء فهو له» وأما إن كان الربا لم يقبضه فلا
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 275(39/36)
يحل له أن يأخذه، وهو موضوع عن الذي هو عليه، ولا خلاف في هذا أعلمه؛ لقول الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) ، نزلت هذه الآية في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم، وكانوا قد اقتضوا بعضه منهم وبقي بعضه، فعفا الله لهم عما كانوا اقتضوه وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه، وقيل: نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا يسلفان في الربا، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله الآية بتحريم اقتضاء ما كان لهما من الربا. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: «ألا إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب (2) » (3) .
2 - " قال الغزالي: إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه ويئس من معرفته فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة، كالقناطر والربط والمساجد، ومصالح طريق مكة ونحو ذلك مما يشترك فيه المسلمون، وإلا فليتصدق به على فقير أو فقراء. وينبغي أن يتولى ذلك القاضي إن كان عفيفا، فإن لم يكن عفيفا لم يجز التسليم إليه، فإن سلمه إليه صار المسلم ضامنا، بل ينبغي أن يحكم رجلا من أهل البلد دينا عالما، فإن التحكيم أولى من الانفراد، فإن عجز عن ذلك تولاه بنفسه، فإن المقصود هو الصرف إلى هذه الجهة، وإذا دفعه إلى الفقير لا يكون حراما على الفقير، بل يكون حلالا طيبا، وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .
(3) المقدمات، لابن رشد 3 \ 23.(39/37)
فقيرا؛ لأن عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم، بل هم أولى من يتصدق عليه، وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته؛ لأنه أيضا فقير.
وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب، وهو كما قالوه، ونقله الغزالي أيضا عن معاوية بن أبي سفيان، وغيره من السلف عن أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي، وغيرهما من أهل الورع؛ لأنه لا يجوز إتلاف هذا المال ورميه في البحر، فلم يبق إلا صرفه في مصالح المسلمين، والله سبحانه وتعالى أعلم.
3 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بعد كلام سبق في بيان حكم الربا: وهذا المربي لا يستحق في ذمم الناس إلا ما أعطاهم أو نظيره، فأما الزيادات فلا يستحق شيئا منها، لكن ما قبضه قبل ذلك بتأويل فإنه يعفى عنه، وأما ما بقي له في الذمم فهو ساقط؛ لقوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (1) " (2) .
وقال أيضا: قول القائل لغيره: أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا، حرام، وكذا إذا حل الدين عليه وكان معسرا فإنه يجب إنظاره، ولا يجوز إلزامه بالقلب عليه، باتفاق المسلمين، وبكل حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل هي معاملة فاسدة ربوية.
والواجب رد المال المقبوض فيها إن كان باقيا، وإن كان فانيا رد مثله، ولا يستحق الدافع أكثر من ذلك، وعلى ولي الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية وعقوبة من يفعلها، ورد الناس فيها إلى رءوس أموالهم دون
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) مجموع الفتاوى 29 \ 437.(39/38)
الزيادات فإن هذا من الربا الذي حرمه الله ورسوله، وقد قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) إلى قوله: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) (4) .
4 - وسئل - رحمه الله -: عن رجل مراب خلف مالا وولدا وهو يعلم بحاله، فهل يكون المال حلالا للولد بالميراث. أم لا؟
فأجاب: أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه، إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن، وإلا تصدق به، والباقي لا يحرم عليه، لكن القدر المشتبه يستحب له تركه إذا لم يجب صرفه في قضاء دين أو نفقة عيال، وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء جاز للوارث الانتفاع به، وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما جعل ذلك نصفين.
5 - وسئل: عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام؟
فأجاب: يخرج قدر الحرام بالميزان فيدفعه إلى صاحبه، وقدر الحلال له، وإن لم يعرفه وتعذرت معرفته تصدق به عنه.
6 - وسئل رحمه الله: عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالا كثيرا، وقد تابت وحجت إلى بيت الله تعالى، وهي محافظة على طاعة الله، فهل المال الذي اكتسبته من حل وغيره، إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه؟
فأجاب المال المكسوب إن كانت عين، أو منفعة مباحة في نفسها وإنما
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة البقرة الآية 280
(4) مجموع الفتاوى 29 \ 437-438.(39/39)
حرمت بالقصد، مثل: من يبيع عنبا لمن يتخذه خمرا أو من يستأجر لعصر الخمر، أو حملها، فهذا يفعله بالعوض، لكن لا يطيب له أكله.
وأما إن كانت العين أو المنفعة محرمة كمهر البغي، وثمن الخمر، فهنا لا يقضى له به قبل القبض، ولو أعطاه أيام لم يحكم برده، فإن هذا معونة لهم على المعاصي إذا جمع لهم بين العوض والمعوض. ولا يحل هذا المال للبغي والخمار ونحوهما، لكن يصرف في مصالح المسلمين، فإن تابت هذه البغي وهذا الخمار، وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسج، والغزل أعطي ما يكون له رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به، ولم يردوا (1) عوض القرض كان أحسن.
وأما إذا تصدق به لاعتقاده أنه يحل عليه أن يتصدق به، فهذا يثاب على ذلك، وأما إن تصدق به كما يتصدق المالك بملكه، فهذا لا يقبله الله - إن الله لا يقبل إلا الطيب - فهذا خبيث، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مهر البغي خبيث (2) » .
وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله - عن الأموال التي يجهل مستحقها مطلقا أو مبهما:
فإن هذه عامة النفع؛ لأن الناس قد يحصل في أيديهم أموال يعلمون أنها محرمة لحق الغير، إما لكونها قبضت ظلما، كالغصب وأنواعه من الجنايات، والسرقة، والغلول. وإما لكونها قبضت بعقد فاسد من ربا، أو ميسر، ولا يعلم عين المستحق لها، وقد يعلم أن المستحق أحد رجلين ولا يعلم عينه، كالميراث الذي يعلم أنه لإحدى الزوجين الباقية دون
__________
(1) قوله (ولم يردوا) لكذا في الأصل ولعل (لم) زائدة.
(2) مجموع الفتاوى \ 29 \ 307-309.(39/40)
المطلقة، والعين التي يتداعاها اثنان فيقربها ذو اليد لأحدهما.
فمذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ومالك وعامة السلف إعطاء هذه الأموال لأولى الناس بها، ومذهب الشافعي أنها تحفظ مطلقا، ولا تنفق بحال، فيقول فيما جهل مالكه من المغصوب، والعواري، والودائع أنها تحفظ حتى يظهر أصحابها، كسائر الأموال الضائعة. ويقول في العين التي عرفت لأحد رجلين: يوقف الأمر حتى يصطلحا.
ومذهب أحمد وأبي حنيفة فيما جهل مالكه أنه يصرف عن أصحابه في المصالح: كالصدقة على الفقراء، وفيما استبهم مالكه القرعة عند أحمد، والقسمة عند أبي حنيفة، ويتفرع على هذه القاعدة ألف من المسائل النافعة الواقعة.
وبهذا يحصل الجواب عما فرضه أبو المعالي في كتابه "الغياثي" وتبعه من تبعه إذا طبق الحرام الأرض ولم يبق سبيل إلى الحلال، فإنه يباح للناس قدر الحاجة من المطاعم، والملابس، والمساكن، والحاجة أوسع من الضرورة، وذلك أن ذلك يتصور إذا استولت الظلمة من الملوك على الأموال بغير حق، وبثتها في الناس، وإن زمانه قريب من هذا التقدير، فكيف بما بعده من الأزمان.
وهذا الذي قاله فرض محال، لا يتصور، لما ذكرته من هذه " القاعدة الشرعية " فإن المحرمات قسمان: محرم لعينه، كالنجاسات: من الدم والميتة، ومحرم لحق الغير، وهم ما جنسه مباح من المطاعم، والمساكن، والملابس، والمراكب، والنقود، وغير ذلك.
وتحريم هذه جميعها يعود إلى الظلم، فإنها إنما تحرم لسببين: (أحدهما) قبضها بغير طيب نفس صاحبها، ولا إذن الشارع. وهذا هو الظلم المحض، كالسرقة والخيانة، والغصب الظاهر، وهذا أشهر الأنواع بالتحريم.(39/41)
(الثاني) قبضها بغير إذن الشارع، وإن أذن صاحبها، وهي العقود والقبوض المحرمة، كالربا، والميسر ونحو ذلك. والواجب على من حصلت بيده ردها إلى مستحقها، فإذا تعذر ذلك فالمجهول كالمعدوم، وقد دل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في اللقطة: «فإن وجدت صاحبها فارددها إليه، وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء (1) » ، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اللقطة التي عرف أنها ملك لمعصوم، وقد خرجت عنه بلا رضاه، إذا لم يوجد فقد آتاها الله لمن سلطه عليها بالالتقاط الشرعي.
وكذلك اتفق المسلمون على أنه من مات ولا وارث له معلوم فماله يصرف في مصالح المسلمين، مع أنه لا بد في غالب الخلق أن يكون له عصبة بعيد، لكن جهلت عينيه، ولم ترج معرفته، فجعل كالمعدوم وهذا ظاهر. وله دليلان قياسيان قطعيان، كما ذكرنا من السنة والإجماع، فإن ما لا يعلم بحال، أو لا يقدر عليه بحال، هو في حقنا بمنزلة المعدوم، فلا نكلف إلا بما نعلمه ونقدر عليه.
وكما أنه لا فرق في حقنا بين فعل لم نؤمر به، وبين فعل أمرنا به جملة عند فوت العلم أو القدرة - كما في حق المجنون والعاجز - كذلك لا فرق في حقنا بين مال لا مالك له، أمرنا بإيصاله إليه، وبين ما أمرنا بإيصاله إلى مالكه جملة، إذا فات العلم به أو القدرة عليه. والأموال كالأعمال سواء.
وهذا النوع إنما حرم لتعلق حق الغير به، فإذا كان الغير معدوما أو مجهولا بالكلية، أو معجوزا عنه بالكلية؛ سقط حق تعلقه به مطلقا، كما يسقط تعلق حقه به إذا رجي العلم به، أو القدرة عليه، إلى حين العلم والقدرة، كما في اللقطة سواء، كما نبه عليه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «فإن جاء صاحبها وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء (2) » فإنه لو عدم المالك انتقل الملك عنه
__________
(1) سنن أبو داود اللقطة (1709) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2505) ، مسند أحمد بن حنبل (4/162) .
(2) سنن أبو داود اللقطة (1709) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2505) ، مسند أحمد بن حنبل (4/267) .(39/42)
بالاتفاق، فكذلك إذا عدم العلم به إعداما مستقرا، وإذا عجز عن الإيصال إليه إعجازا مستقرا. فالإعدام ظاهر والإعجاز مثل الأموال التي قبضها الملوك - كالمكوس وغيرها - من أصحابها، وقد تيقن أنه لا يمكننا إعادتها إلى أصحابها، فإنفاقها في مصالح أصحابها من الجهاد عنهم أولى من بقائها بأيدي الظلمة يأكلونها، وإذا أنفقت كانت لمن يأخذها بالحق مباحة، كما أنها على من يأكلها بالباطل محرمة.
والدليل الثاني " القياس ": مع ما ذكرناه من السنة والإجماع أن هذه الأموال لا تخلو إما أن تحبس، وإما أن تتلف، وإما أن تنفق.
فأما إتلافها فإفساد لها {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (1) وهو إضاعة لها والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن إضاعة المال، وإن كان في مذهب أحمد ومالك تجويز العقوبات المالية: تارة بالأخذ، وتارة بالإتلاف، كما يقوله أحمد في متاع الغال، وكما يقوله أحمد ومن يقوله من المالكية في أوعية الخمر ومحل الخمار، وغير ذلك.
فإن العقوبة بإتلاف بعض الأموال أحيانا، كالعقوبة بإتلاف بعض النفوس أحيانا، وهذا يجوز إذا كان فيه من التنكيل على الجريمة من المصلحة ما شرع له ذلك، كما في إتلاف النفس والطرف، وكما أن قتل النفس يحرم إلا بنفس أو فساد، كما قال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} (2) .
وقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (3) ، فكذلك إتلاف المال إنما يباح قصاصا أو لإفساد مالكه، كما أبحنا من إتلاف البناء والغراس لأهل الحرب مثل ما يفعلون بنا بغير خلاف، وجوزنا لإفساد مالكه ما جوزنا.
__________
(1) سورة البقرة الآية 205
(2) سورة المائدة الآية 32
(3) سورة البقرة الآية 30(39/43)
ولهذا لم أعلم أحدا من الناس قال: إن الأموال المحترمة المجهولة المالك تتلف، وإنما يحكى ذلك عن بعض الغالطين من المتورعة: أنه ألقى شيئا من ماله في البحر، أو أنه تركه في البر ونحو ذلك. فهؤلاء تجد منهم حسن القصد وصدق الورع، لا صواب العمل.
وأما حبسها دائما أبدا إلى غير غاية منتظرة، بل مع العلم أنه لا يرجى معرفة صاحبها، ولا القدرة على إيصالها إليه، فهذا مثل إتلافها، فإن الإتلاف إنما حرم لتعطيلها عن انتفاع الآدميين بها، وهذا تعطيل أيضا بل هو أشد منه من الوجهين:
(أحدهما) أنه تعذيب للنفوس بإبقاء ما يحتاجون إليه من غير انتفاع به.
(الثاني) أن العادة جارية بأن مثل هذه الأمور لا بد أن يستولي عليها أحد من الظلمة بعد هذا إذا لم ينفقها أهل العدل والحق، فيكون حبسها إعانة للظلمة، وتسليما في الحقيقة إلى الظلمة، فيكون: منعها أهل الحق، وأعطاها أهل الباطل، ولا فرق بين القصد وعدمه في هذا، فإن من وضع إنسانا بمسبعة فقد قتله، ومن ألقى اللحم بين السباع فقد أكله، ومن حبس الأموال العظيمة لمن يستولي عليها من الظلمة فقد أعطاهموها، فإذا كان إتلافها حراما، وحبسها أشد من إتلافها - تعين إنفاقها، وليس لها مصرف معين، فتصرف في جميع جهات البر والقرب التي يتقرب بها إلى الله، لأن الله خلق الخلق لعبادته، وخلق لهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته، فتصرف في سبيل الله، والله أعلم.
8 - وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله - عن رجل له حق في بيت المال، إما لمنفعة في الجهاد أو لولايته، فأحيل ببعض حقه على بعض المظالم؟
فأجاب: لا تستخرج أنت هذا، ولا تعن على استخراجه، فإن ذلك ظلم، لكن اطلب حقك من المال المحصل عندهم، وإن كان مجموعا(39/44)
من هذه الجهة وغيرها، ولأن ما اجتمع في بيت المال ولم يرد إلى أصحابه فصرفه في مصالح أصحابه والمسلمين أولى من صرفه فيما لا ينفع أصحابه أو فيما يضره - وقد كتبت نظير هذه المسألة في غير هذا الموضع - وأيضا فإنه يصير مختلطا، فلا يبقى محكوما بتحريمه بعينه مع كون الصرف إلى مثل هذا واجبا على المسلمين.
فإن الولاة يظلمون تارة في استخراج الأموال، وتارة في صرفها، فلا تحل إعانتهم على الظلم في الاستخراج، ولا أخذ الإنسان ما لا يستحقه.
وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد من الاستخراج والصرف فلمسائل الاجتهاد، وأما ما لا يسوغ فيه اجتهاد من الأخذ والإعطاء فلا يعاونون.
لكن إذا كان المصروف إليه مستحقا بمقدار المأخوذ، جاز أخذه من كل مال يجوز صرفه كالمال المجهول مالكه إذا وجب صرفه، فإن امتنعوا من إعادته إلى مستحقه فهل الأولى إقراره بأيدي الظلمة، أو السعي في صرفه في مصالح أصحابه والمسلمين، وإذا كان الساعي في ذلك ممن يكره أصل أخذه، ولم يعن على أخذه، بل سعى في منع أخذه؟ فهذه مسألة حسنة ينبغي التفطن لها، وإلا دخل الإنسان في فعل المحرمات، أو في ترك الواجبات، فإن الإعانة على الظلم من فعل المحرمات.
وإذا لم تمكن الواجبات إلا بالصرف المذكور، كان تركه من ترك الواجبات، وإذا لم يمكن إلا إقراره بيد الظالم أو صرفه في المصالح، كان النهي عن صرفه في المصالح إعانة على زيادة الظلم التي هي إقراره بيد الظالم، فكما يجب إزالة الظلم يجب تقليله عند العجز عن إزالته بالكلية، فهذا أصل عظيم والله أعلم.
وأصل آخر وهو أن الشبهات ينبغي صرفها في الأبعد عن المنفعة فالأبعد كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في كسب الحجام بأن يطعمه الرقيق، والناضح، فالأقرب ما دخل في الطعام والشراب ونحوه،(39/45)
ثم ما ولي الظاهر من اللباس، ثم ما ستر مع الانفصال من البناء، ثم ما عرض من الركوب ونحوه. فهكذا ترتيب الانتفاع بالرزق، وكذلك أصحابنا يفعلون (1) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 28 \ 592-599.(39/46)
9 - قال ابن القيم:
فإن قيل: فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته، ثم تابت: هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه، أم يطيب لها، أم تتصدق به؟
قلنا: هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهي: أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضا صاحبه، ولا استوفى عوضه: رد عليه، فإن تعذر رده عليه، قضى به دينا يعلمه عليه. فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته.
فإن تعذر ذلك تصدق به عنه، فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة كان له، وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض استوفى منه نظير ماله، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها، كما ثبت عن الصحابة، وإن كان المقبوض برضا الدافع، وقد استوفى عوضه المحرم، كمن عاوض على خمر، أو خنزير، أو على زنى، أو فاحشة: فهذا لا يجب رد العوض على الدافع، لأنه أخرجه باختياره، واستوفى عوضه المحرم.
فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض عنه: فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسيرا لأصحاب المعاصي، وماذا يريد الزاني وصاحب الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله؟ فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغ القول به، وهو يتضمن الجمع بين الظلم، والفاحشة، والغدر، ومن أقبح القبح: أن يستوفي عوضه من المزني بها، ثم يرجع فيما أعطاها قهرا، وقبح هذا مستقر في فطر جميع(39/46)
العقلاء، فلا تأتي به الشريعة، ولكن لا يطيب للقابض أكله، بل هو خبيث، كما حكم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن خبثه لخبث مكسبه، لا لظلم من أخذ منه، فطريق التخلص منه وتمام التوبة: بالصدقة به، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي، فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه، عينا كان أو منفعة، ولا يلزم الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم بخبث كسب الحجام، ولا يجب رده على دافعه.
فإن قيل: فالدافع ماله في مقابلة العوض المحرم دفع ما لا يجوز دفعه، بل حجر عليه فيه الشارع، فلم يقع قبضه موقعه، بل وجود هذا القبض كعدمه، فيجب رده على مالكه، كما لو تبرع المريض لوارثه بشيء، أو لأجنبي بزيادة على الثلث، أو تبرع المحجور عليه بفلس أو سفه، أو تبرع المضطر إلى قوته بذلك، ونحو ذلك. وسر المسألة أنه محجور عليه شرعا في هذا الدفع فيجب رده.
قيل: هذا قياس فاسد، لأن الدفع في هذه الصور تبرع محض لم يعاوض عليه، والشارع قد منعه منه لتعلق حق غيره به، أو حق نفسه المقدمة على غيره، وأما فيما نحن فيه: فهو قد عاوض بماله على استيفاء منفعة أو استهلاك عين محرمة، فقد قبض عوضا محرما، وأقبض مالا محرما، فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه، وبذل فيه ما لا يجوز بذله، فالقابض قبض مالا محرما وقضية العدل تراد العوضين لكن قد تعذر رد أحدهما، فلا يوجب رد الآخر من غير رجوع عوضه، نعم لو كان الخمر قائما بعينه لم يستهلكه، أو دفع إليها المال ولم يفجر بها: وجب رد المال في الصورتين قطعا، كما في سائر العقود الباطلة، إذا لم يتصل بها القبض.(39/47)
فإن قيل: وأي تأثير لهذا القبض المحرم، حتى جعل له حرمة، ومعلوم أنه قبض ما لا يجوز قبضه بمنزلة عدمه، إذ الممنوع شرعا كالممنوع حسا، فقابض المال قبضه بغير حق، فعليه أن يرده إلى دافعه؟
قيل: والدافع قبض العين واستوفى المنفعة بغير حق، كلاهما قد اشتركا في دفع ما ليس لهما دفعه وقبض ما ليس لهما قبضه، وكلاهما عاص لله، فكيف يخص أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوض عنه، ويفوت على الآخر العوض والمعوض؟
فإن قيل: هو فوت المنفعة على نفسه باختياره؟
قيل: والآخر فوت العوض على نفسه باختياره، فلا فرق بينهما، وهذا واضح بحمد الله.
وقد توقف شيخنا في وجوب رد عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله والصدقة به، في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) وقال: الزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم، فاستوفوا العوض المحرم، والتحريم الذي فيه ليس لحقهم، وإنما هو لحق الله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين رد الآخر، فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال، وهذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته وأخذ عوضها جميعا منه، بخلاف ما إذا كان العوض خمرا أو ميتة، فإن تلك لا ضرر عليه في فواتها، فإنها لو كانت باقية لأتلفناها عليه، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه، بحيث يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر، أعني من صرف القوة التي عمل بها.(39/48)
ثم أورد شيخنا على نفسه سؤالا، فقال: فيقال على هذا: فينبغي أن يقضى لهم بها إذا طالبوا بقبضها؟ وأجاب عنه بأنه قال: قيل نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها، كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم القبض، ولو أسلموا بعد القبض لم يحكم بالرد، ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة؛ لأنه كان معتقدا لتحريمها، بخلاف الكافر، وذلك لأنه إذا طلب الأجرة فقلنا له: أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل يحرم، فلا يقضى لك بالأجرة، فإذا قبضها وقال الدافع: هذا المال اقضوا لي برده، فإنه اقتضاه عن منفعة محرمة. قلنا له: دفعته معاوضة رضيت بها، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ فاردد إليه ما أخذت، إذا كان له في بقائه معه منفعة، فهذا محتمل، قال: وإن كان ظاهر القياس ردها لأنها مقبوضة بعقد فاسد، انتهى.
وقد نص أحمد في رواية أبي النضر فيمن حمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصراني: أكره أكل كرائه، ولكن يقضي للحمال بالكراء، وإذا كان لمسلم فهو أشد كراهة.
فاختلف أصحابه في هذا النص على ثلاث طرق.
أحدها: إجراؤه على ظاهره، وأن المسألة رواية واحدة، قال ابن أبي موسى: وكره أحمد أن يؤاجر المسلم نفسه لحمل ميتة، أو خنزير لنصراني، فإن فعل قضى له بالكراء، وهل يطيب له أم لا؟ على وجهين: أوجههما: أنه لا يطيب له ويتصدق به، وكذا ذكر أبو الحسن الآمدي، قال: إذا أجر نفسه من رجل في حمل خمر أو خنزير أو ميتة كره، نص عليه، وهذه كراهة تحريم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن حاملها. إذا ثبت ذلك فيقضى له بالكراء، وغير ممتنع أن يقضي له بالكراء وإن كان محرما، كإجارة الحجام. انتهى.
فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع(39/49)
كونها محرمة عليه على الصحيح.
الطريقة الثانية: تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها، وجعل المسألة رواية واحدة؛ وهي: أن هذه الإجارة لا تصح. وهذه طريقة القاضي في المجرد، وهي طريقة ضعيفة، وقد رجع عنها في كتبه المتأخرة، فإنه صنف المجرد قديما.
الطريقة الثالثة: تخرج هذه المسألة على روايتين: إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحة، يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة. والثانية: لا تصح الإجارة، ولا يستحق بها أجرة، وإن عمل. وهذا على قياس قوله في الخمر: " لا يجوز إمساكها، وتجب إراقتها " قال في رواية أبي طالب: إذا أسلم وله خمر أو خنازير تصب الخمر، وتسرح الخنازير، قد حرما عليه، وإن قتلها فلا بأس، فقد نص أحمد أنه لا يجوز إمساكها؛ لأنه قد نص في رواية ابن منصور: أنه يكره أن يؤجر نفسه لنظارة كرم لنصراني؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنه بياع لغير الخمر، فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر، وهذه طريقة القاضي في تعليقه، وعليها أكثر أصحابه، والمنصور عندهم الرواية المخرجة، وهي عدم الصحة، وأنه لا يستحق له أجرة، ولا يقضى له بها، وهي مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد، وهذا إذا استأجره لحملها إلى بيته للشرب، أو لأكل الخنزير، أو مطلقا، فأما إذا استأجره لحملها ليريقها، أو لينقل الميتة إلى الصحراء لئلا يتأذى بها: فإن الإجارة تجوز حينئذ، لأنه عمل مباح، لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة: لم تصح، واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه: رده على صاحبه، هذا قول شيخنا، وهو مذهب مالك، والظاهر: أنه مذهب الشافعي.
وأما أبو حنيفة فمذهبه كالرواية الأولى: أنه تصح(39/50)
الإجارة، ويقضى له بالأجرة، ومأخذه في ذلك: أن الحمل إن كان مطلقا لم يكن المستحق نفس حمل الخمر، فذكره وعدم ذكره سواء. وله أن يحمل شيئا آخر غيره، كخل وزيت، وهكذا قال فيما لو أجره داره أو حانوته ليتخذها كنيسة، أو ليبيع فيها الخمر، قال أبو بكر الرازي: لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيها الخمر أو لا يشترط، وهو يعلم أنه يبيع فيه الخمر، أن الإجارة تصح، لأنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء، وإن شرط ذلك؛ لأن له أن لا يبيع فيه الخمر ذلك، ولا يتخذ الدار كنيسة، ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة، فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وتركها سواء. كما لو اكترى دارا لينام فيها أو يسكنها، فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك، وكذا يقول فيما إذا استأجر رجلا ليحمل خمرا أو ميتة أو خنزيرا: أنه يصح؛ لأنه لا يتعين حمل الخمر، بل لو حمل بدله عصيرا استحق الأجرة.
فهذا التقييد عندهم لغو، بمنزلة الإجارة المطلقة، والمطلقة عنده جائزة، وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها، كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا، ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة، قال: لأن السلاح معمول للقتال، لا يصلح لغيره.
وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى، وقالوا: ليس المقيد كالمطلق، بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة، فتكون هي المقابلة بالعوض وهي منفعة محرمة، وإن كان للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها، وألزموه فيما لو اكترى دارا ليتخذها مسجدا، فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة، بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة، وهي لا تستحق بعقد إجارة، ونازعه أصحاب أحمد ومالك في المقدمة الثانية وقالوا: إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم،(39/51)
حرمت الإجارة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لعن عاصر الخمر ومعتصرها (1) » ، والعاصر إنما يعصر عصيرا، لكن لما علم أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا فيعصره له: استحق اللعنة، قالوا: وأيضا فإن في هذا معاونة على نفس ما يسخط الله ويغضبه، ويلعن فاعله، فأصول الشرع وقواعده تقتضي تحريمه، وبطلان العقد عليه، وسيأتي مزيد تقرير هذا عند الكلام على حكمه - صلى الله عليه وسلم - بتحريم الفتنة وما يترتب من العقوبة.
قال شيخنا: والأشبه طريقة ابن أبي موسى، يعني أنه يقضى له بالأجرة، وإن كانت المنفعة محرمة، ولكن لا يطيب له أكلها. قال: فإنها أقرب إلى مقصود أحمد، وأقرب إلى القياس؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لعن عاصر الخمر ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه " فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضا، وهي ليست محرمة في نفسها، وإنما حرمت بقصد المعتصر والمستحمل، فهو كما لو باع عنبا وعصيرا لمن يتخذه خمرا، وفات العصير والخمر في يد المشتري، فإن مال البائع لا يذهب مجانا، بل يقضى له بعوضه. كذلك هاهنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانا، بل يعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر لا من جهة المؤجر، فإنه لو حملها للإراقة أو لإخراجها إلى الصحراء خشية التأذي بها، جاز
ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشتري، بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة فإن نفس هذا العمل محرم لأجل قصد المستأجر، فهو كما لو باع ميتة أو خمرا فإنه لا يقضى له بثمنها؛ لأن نفس هذه العين محرمة، وكذلك لا يقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة.
قال شيخنا: ومثل هذه الإجارة الجعالة - يعني: الإجارة على حمل الخمر، والميتة لا توصف بالصحة مطلقا ولا بالفساد مطلقا، بل
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1295) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3381) .(39/52)
يقال: صحيحة بالنسبة إلى المستأجر، بمعنى أنه يجب عليه العوض، وفاسدة بالنسبة إلى الأجير بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة، ولهذا في الشريعة نظائر، قال: ولا ينافي هذا نص أحمد على كراهة نظارة كرم النصراني، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه، ثم نقضي له بكرائه، قال: ولو لم يفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية فقد حصلوا غرضهم منه، فإذا لم يعطوه شيئا ووجب أن يرد عليهم ما أخذه منهم: كان ذلك أعظم العون لهم، وليسوا بأهل أن يعاونوا على ذلك، بخلاف من أسلم إليهم عملا لا قيمة له بحال، يعني كالزانية والمغني، والنائحة، فإن هؤلاء لا يقضى لهم بأجرة، ولو قبضوا منهم المال، فهل يلزمهم رده عليهم، أم يتصدقون به؟ فقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك، وبينا أن الصواب أنه لا يلزمهم رده، ولا يطيب لهم أكله، والله الموفق للصواب (1) .
10 - وجاء في فتاوى المنار: -
أخذ الربا من المصارف الأجنبية.
جـ1: إن الربا المحرم قطعا لا يحل إلا لضرورة يضطر صاحبها إليه اضطرارا كالاضطرار إلى أكل الميتة ولحم الخنزير، فهل الربح المسئول عنه كله من الربا القطعي؟ وهل دفع الضرائب الإجبارية من الضرورات الاضطرارية التي تبيحه؟
المشهور أن الربح الذي تعطيه المصارف لأصحاب الأموال هو حصص من الربح العام الذي تستغله منها. وهو أنواع: أقلها ما هو من الربا، الذي عرفه الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف.
__________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 4 \ 251 وما بعدها.(39/53)
وقد سئل عن الربا الذي لا شك فيه، فقال: هو أنه كأن يكون للرجل على الرجل دين مؤجل، فإذا جاء الأجل ولم يكن عنده ما يقضي به زاده في المال وزاده صاحبه في الأجل، وهذا بعض ربح المصارف المالية، وليس منه ما تأخذه ولا ما تعطيه لأصحاب سهامها، ولا للمودعين لأموالهم فيها، وأما كونه بعض مالها المحرم في الإسلام فمثله كثير من أموال الناس، وللعبرة في مثله بصفة أخذه لا بأصله، ولا سيما في هذا العصر قلما يوجد فيه كسب يلتزم فيه الشرع في بلاد الإسلام، فما القول في بلاد الإفرنج ومستعمراتهم؟
فمن اعتقد مع هذا كله أنه من الربا المحرم لا يجوز له أخذه لأجل أن يدفعه في الضرائب المحرمة من باب دفع الفاسد بالفاسد، لأنه ليس ثمة ضرورة تبيح له ذلك، ومن اعتقد أنه من غير الربا الشرعي قطعيا لم يحرم عليه، فإن التحريم هو حكم الله المقتضي للترك اقتضاء جازما، واشترط الحنفية وجمهور السلف أن يكون بنص قطعي، بل قال أبو يوسف: إنه لا يقال في شيء أنه حرام إلا إذا كان بينا في كتاب الله بغير تفسير. ومن كان عنده شبهة فيه دون التحريم كان دفعه في ضرائب الظلم الإجبارية أولى من دفع الأموال التي لا شبهة فيها. وقد بينا حكم الشبهات من قبل في مباحث الربا والمعاملات المالية التي تصدر في كتاب مستقل.
11 - وجاء أيضا أخذ الربا من البنوك لإنفاقه على الفقراء.
جـ2: من المعلوم بالدين بالضرورة أن الربا القطعي لا يجوز أخذه لأجل التصدق به، لأن التقرب إلى الله بما حرمه الله، فإن هذا تناقض بديهي البطلان، ولكن لاستغلال المال في الشركات المالية من المصارف وغيرها أعمالا ليست من الحرام القطعي قد بيناها من قبل، وسيكون(39/54)
كتابنا الذي وعدنا بإكماله خير مفصل لها إن شاء الله تعالى.
12 - وجاء في فتاوى المنار:
أكل الحرام كالربا والقمار وإرثه والعقاب عليه:
ومنه رجل جمع مالا من طرق غير مشروعة كربا، وقمار، ولعب بالبورصة (ما يسمونها بالكونتراتات) وغير ذلك هل يجوز الأكل عنده؟ وإذا مات وترك أولادا يعلمون بحال أشغاله فهل يكون المال حلالا للأولاد بالميراث أم لا؟ وإذا مات رجل وعليه ديون ومظالم لأناس ولم تسامحه أربابها في الحياة الدنيا فما حكمه يوم القيامة؟ وهل يعذب في قبره بسبب ذلك أم عذابه في الآخرة؟ وإذا سامحه أرباب الديون والمظالم في الدنيا فهل يرفع عنه العذاب؟ وهل يجوز مسامحته في ذلك يوم القيامة أم لا؟ تفضلوا بالجواب ولكم من الله عظيم الأجر والثواب.
ج - من علم أن مال زيد من الناس حرام كله لم يجز له أن يأكل من طعامه ولا أن يعامله بهذا المال، ولكن قلما يوجد أحد جميع ماله من حرام.
ومن ترك لأولاده مالا يعلمون أنه مغصوب أو مسروق مثلا ويعرفون أصحابه، فالواجب عليهم رده إليهم، وأما ما لا يعرف له مالك والمأخوذ بالعقود الفاسدة شرعا كالربا والمضاربات فيملكونه، وإن كان في الفقهاء من يقول بأنه لا تفيد الملك للمتعاقدين بها، فهذا لا يسري إلى من تنتقل إليه منهم بسبب شرعي صحيح كالإرث، ولا سيما إذا كان مختلطا بغيره غير متميز، فعلى هذا لا يأثم ورثة هذا الميت بأخذ ما تركه لهم إذا لم يقتدوا به في أكل الحرام، والله تعالى يأخذ من حسنات من مات وعليه حقوق للناس أو يحمله من سيئاتهم يوم القيامة إلا أن يحلوه منها، وتقدم في تفسير هذا الجزء حديث صحيح في ذلك، وإذا عفى أصحاب الحقوق عنه فعفو الله تعالى عن حقه بمخالفة شرعه أرجى، فهو مرجو(39/55)
غير مقطوع به، ويجوز أن يعذبه عليها في الآخرة ولم ير أنها سبب لعذاب القبر (1) .
__________
(1) فتاوى المنار 4 \ 591(39/56)
13 - وجاء في فتاوى المنار:
رجل من تجار المسلمين القاطنين بكلكته تأتي له حوالات نقدية من الجهات على البنك، وأصحاب البنك المذكور قوم من النصارى الإرباويين، فيبقيها في البنك ويأخذ منها بقدر الحاجة فقط بلا شرط بينه وبين أصحاب البنك، فإذا مضى على النقدية أو بعضها ستة أشهر يحسبون له زيادة عن الأصل روبيتين في المائة في السنة، فيكون في الستة أشهر روبية في المائة، وذلك لأنهم - أي أصحاب البنك - ينتفعون ببقاء الدراهم عندهم نحو اثنتي عشرة روبية أو أكثر في المائة سنويا، وللعملة في البنك عادة على الرجل المذكور في السنة يأخذونها منه بقشيشا، فهل والحالة هذه يباح للرجل المذكور ما يأخذه من أرباب البنك باختيارهم من غير شرط معهم كما تقدم، أم لا؟ أفيدونا سيدي، فإن المسألة واقعة حال لازلتم (1) .
ج - من أعطى إنسانا باختياره مالا أو عرضا لا يستحقه عليه فأخذه كان حلالا بإجماع، ما لم يكن هناك غش أو نحوه من الأمور التي تنافي أن يكون المعطي قد أعطى برضاه واختياره، ومن هذه الأمور ما قد يكون معروفا للآخذ، ومنها ما يكون شبهة، ومن ذلك موضوع السؤال، فإنه لم يسأل عنه إلا وهو عند أصحاب الواقعة محل الشبهة، هل هو من الربا أم لا؟ ولو جزموا بأحد الوجهين لم يسألوا.
أما الربا فقد عرفه الحنفية الذين يقلدهم أكثر أهل الهند بأنه: الفضل الخالي عن العوض المشروط في البيع، كما في حواشي فتح القدير وغيرها.
__________
(1) فتاوى المنار 2 \ 594(39/56)
فقولهم المشروط في البيع يخرج منه واقعة الحال المسئولة عنها، إذ لا شرط فيها، وفي شرح المنهاج للشمس الرملي الشافعي أن الربا شرعا: عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما، وقوله: "أو مع تأخير" معناه أو عقد مع تأخير كما في حاشية الشبراملي عليه، ولا عقد في الواقعة المسئول عنها، ويشبه مسألة الحوالة مسألة الوديعة التي تقع كثيرا، فإن بعض البنوك قد تزيد للمودع شيئا على ماله المودع فيها، وما قد يقع منه بلا شرط فهو يشبه الواقعة إلا أن يقال أن الوديعة أشبه بالقرض أو الدين منها بالأمانة لأن أهل البنك يتصرفون بالمال ويردون غيره والعرف يقوم مقام العقد في ذلك، وقد صرح غير واحد من الفقهاء بأن كل قرض جر نفعا للمقرض فهو ربا، ورووا في ذلك حديثا، وأقول إن ما جرى عليه العرف في معاملة البنوك على ما نعلم أن ما يوضع فيها أمانة يجوز لصاحبه أن يسترده كله أو بعضه متى شاء، وما يؤخذ على أنه دين ليس لصاحبه أن يسترده إلا بعد انتهاء الأجل، أو يأخذ ما يطلب من المال بربا أكثر من الربا الذي يأخذه هو من البنك، وإن كان ما طلبه جزءا من ماله.
مثال ذلك أن من أعطى البنك ألفا على أن له في المائة ثلاثا في السنة، ثم طلب قبل انقضاء السنة خمسمائة فإن البنك يعطيه إياها على أنه له ستا في المائة أو أكثر أو أقل قليلا، وكل ذلك يجري بعقود مكتوبة، أما الودائع فيعطي البنك بها وصلا للمودع ومنها ما لا يزيده على ما أودع شيئا، فيبقى وجه الشبهة في الواقعة المسئول عنها وفيما يشبهها أنها من قبيل القرض الذي جر نفعا، وهي ضعيفة في الحوالة قوية في الوديعة. على أن الفقهاء لا سيما الحنفية قد شددوا في ذلك ويعدون كل ما يؤخذ بلا مقابل ربا، فمن اعتقد ذلك حرم عليه الأخذ.(39/57)
وإذا رجعنا إلى الدليل رأينا أن حديث: «كل دين جر نفعا» الخ ضعيف كما سيأتي عن نيل الأوطار، بل قال الفيروز أبادي إنه موضوع، ولكن في الباب أحاديث أخرى وآثارا تفيد في إنارة المسألة. قال في منتقى الأخبار: -
عن أبي هريرة قال: «كان لرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سن من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال: "أعطوه"، فطلبوا سنه، فلم يجدوا إلا سنا فوقها، فقال: "أعطوه" فقال: أوفيتني أوفاك الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن خيركم أحسنكم قضاء (1) » ، وعن جابر قال: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان لي عليه دين فقضاني وزادني (2) » . متفق عليهما.
وعن أنس وسئل: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدي إليه، أو حمله على دابة فلا يركبها، ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه ذلك (3) » رواه ابن ماجه.
وعن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أقرض فلا يأخذ هدية (4) » رواه البخاري في تاريخه.
وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام، فقال لي: (إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت (القت بالفتح وهو الجاف من النبات المعروف وهو رطب بالفصفصه بكسر الفائين وهي القضب) فلا تأخذه فإنه ربا) . رواه البخاري في صحيحه.
أقول: أثر عبد الله بن سلام لا يحتج بمثله الجمهور الذين يحصرون أدلة الشرع في الكتاب السنة والإجماع والقياس. ومن الغريب قوله بفشو الربا في المدينة، والظاهر أنه قال بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخراج اليهود منها، وقال الشوكاني في شرح هذه الأحاديث ما نصه: حديث أنس في إسناده يحيى بن أبي إسحاق الهنائي وهو مجهول، وفي إسناده أيضا عتبة
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2305) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) ، سنن الترمذي البيوع (1316) ، سنن النسائي البيوع (4618) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2423) ، مسند أحمد بن حنبل (2/393) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (443) .
(3) سنن ابن ماجه الأحكام (2432) .
(4) سنن ابن ماجه الأحكام (2432) .(39/58)
بن حميد الضبي وقد ضعفه أحمد، والرواي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف. قوله: سن: أي جمل له سن معين.
وفي حديث أبي هريرة دليل على جواز المطالبة بالدين إذا حل أجله، وفيه أيضا دليل على حسن خلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وتواضعه وإنصافه.
وقد وقع في بعض ألفاظ الصحيح أن الرجل أغلظ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهم به أصحابه، فقال: «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا (1) » كما تقدم، وفيه دليل على جواز قرض الحيوان، وقد تقدم الخلاف في ذلك، وفيه جواز رد ما هو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد، وبه قال الجمهور، وعن المالكية: إن كانت الزيادة بالعدد لم يجز، وإن كانت بالوصف جازت، ويرد عليهم حديث جابر المذكور في الباب، فإنه صرح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - زاده، والظاهر أن الزيادة كانت في العدد، وقد ثبت في رواية للبخاري أن الزيادة كانت قيراطا.
وأما إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد فتحرم اتفاقا، ولا يلزم من جواز الزيادة في القضاء على مقدار الدين جواز الهدية ونحوها قبل القضاء؛ لأنها بمنزلة الرشوة فلا تحل، كما يدل على ذلك حديثا أنس المذكوران في الباب، وأثر عبد الله بن سلام (قد علمت أن حديث أنس ضعيف، وأثر ابن سلام لا يحتج به الجمهور إلا أن يقال له أن له حكم المرفوع، وفيه نظر على أن النهي فيه قد يكون للورع) . والحاصل أن الهدية والعارية ونحوهما إذا كانت لأجل التنفيس في أجل الدين أو لأجل رشوة صاحب الدين أو لأجل أن يكون لصاحب الدين منفعة في مقابل دينه فذلك محرم؛ لأنه إما نوع من الربا أو رشوة، وإن كان ذلك لأجل عادة جارية بين المقرض والمستقرض قبل التداين فلا بأس، وإن لم يكن ذلك لغرض أصلا: فالظاهر المنع؛ لإطلاق النهي عن ذلك، وأما الزيادة على مقدار الدين عند القضاء بغير شرط ولا إضمار: فالظاهر الجواز من غير فرق بين
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2306) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) ، مسند أحمد بن حنبل (2/456) .(39/59)
الزيادة في الصفة والمقدار والقليل والكثير؛ لحديث أبي هريرة وأبي رافع والعرباض وجابر، بل هو مستحب، قال المحاملي وغيره من الشافعية: يستحب للمستقرض أن يرد أجود مما أخذ للحديث الصحيح في ذلك؛ يعني قوله: «إن خيركم أحسنكم قضاء (1) » .
ومما يدل على عدم حل القرض الذي يجر إلى المقرض نفعا ما أخرجه البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ: «كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا» ورواه في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم، ورواه الحارث بن أبي أسامة من حديث علي - عليه السلام - بلفظ: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قرض جر منفعة» وفي رواية: «كل قرض جر منفعة فهو ربا» وفي إسناده سوار بن معصب وهو متروك، قال عمر بن زيد في المغني: لم يصح فيه شيء، ووهم إمام الحرمين والغزالي فقالا: إنه صح، ولا خبرة لهما بهذا الفن اهـ. المراد منه، ومعظمه منقول من فتح الباري.
وأما الربا الذي نهى عنه الكتاب العزيز بالنص الصريح فهو ربا النسيئة المضاعف. وقد ذكرنا كيفيته، وبينا حكمته بالتفصيل في تفسير آياته من أواخر سورة البقرة. وتحريمه ليس تعبديا كما يقول من يرى ذلك من الفقهاء، بل هو معلل بقوله - عز وجل -: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) وبقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} (3) بعد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (4) فإن هذا من القسوة ومنع المعروف عند الحاجة المنافي للتقوى. والمراد بهذا الربا المعروف ما كان عليه الناس في الجاهلية، وهو كما قال الإمامان مالك وأحمد وغيرهما: أن يكون للرجل على الرجل دين مؤجل من قرض أو ثمن، فيقول له عند الأجل: إما أن تقضي وإما أن تربي، فيزيد له لحاجته كما طلب. وليس منه في شيء ما
__________
(1) صحيح البخاري الوكالة (2306) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) ، سنن الترمذي البيوع (1316) ، سنن النسائي البيوع (4618) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2423) ، مسند أحمد بن حنبل (2/456) .
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) سورة آل عمران الآية 200
(4) سورة آل عمران الآية 130(39/60)
تقدم في السؤال وهو أن يستعمل إنسان مال آخر مودعا عنده برضاه، ثم يعطيه برضاه عند القضاء في آخر السنة جزءا مما ربح برضاه واختياره من غير شرط ولا عقد.
هذا ما عن لنا في هذه المسألة، مع صرف النظر عن حكم دار الحرب وما أحلوه فيها من العقود الفاسدة ونحوها، وأطالت الخوض فيه الجرائد الهندية من زمن ليس بعيد، ولا تنس في هذا المقام ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في العقود الفاسدة في المعاملات، وأن ما اشترط في صحتها إنما اشترط لأجل أن يكون العقد لازما ونافذا عند الحاكم لا لأجل التقرب إلى الله تعالى، فالعقد الذي لا يجيزه الشرع كعقد الربا لا ينفذه الحاكم الشرعي ولا يلزم الوفاء به، بل ولا يحل اشتراطه وجعله حقا يطالب به، وهذا لا يمنع الناس منعا دينيا أن يتصرفوا في أموالهم برضاهم في غير الفواحش والمنكرات المحرمة لذاتها، وعندي أن ما زاده النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب الدين على دينه من هذا القبيل، وقد سبق لنا في المنار كلام في هذا المبحث " (1) .
رابعا: أقوال الفقهاء في حكم جريان الربا بين المسلم والحربي: -
قال ابن عابدين: وأما شرائط جريان الربا (فمنها) أن يكون البدلان معصومين، فإن كان أحدهما غير معصوم لا يتحقق الربا عندنا، وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط ويتحقق الربا، وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل مسلم دار الحرب تاجرا فباع حربيا درهما بدرهمين أو غير ذلك من سائر البيوع الفاسدة في حكم الإسلام أنه يجوز عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف لا يجوز، وعلى هذا الخلاف: المسلم الأسير في دار الحرب أو الحربي الذي أسلم هناك ولم يهاجر إلينا فبايع أحدا من أهل الحرب
__________
(1) فتاوى المنار 2 \ 596.(39/61)
(وجه) قال أبو يوسف: إن حرمة الربا كما هي ثابتة في حق المسلمين فهي ثابتة في حق الكفار، لأنهم مخاطبون بالحرمات في الصحيح من الأقوال، فاشتراطه في البيع يوجب فساده، كما إذا بايع المسلم الحربي المستأمن في دار الإسلام، (ولهما) أن مال الحربي ليس بمعصوم بل هو مباح في نفسه، إلا أن المسلم المستأمن منع من تملكه من غير رضاه، لما فيه من الغدر والخيانة، فإذا بدله باختياره ورضاه فقد زال هذا المعنى، فكان الأخذ استيلاء على مال مباح غير مملوك وأنه مشروع مفيد للملك، كالاستيلاء على الحطب والحشيش، وبه تبين أن العقد هنا ليس بتملك، بل هو تحصيل شرط التملك وهو الرضا؛ لأن ملك الحربي لا يزول بدونه، وما لم يزل ملكه لا يقع الأخذ تملكا لكنه إذا زال، فالملك للمسلم يثبت بالأخذ والاستيلاء لا بالعقد، فلا يتحقق الربا، لأن الربا اسم لفضل يستفاد بالعقد خلاف المسلم إذا باع حربيا دخل الإسلام بأمان؛ لأنه استفاد العصمة بدخوله دار الإسلام بأمان، والمال المعصوم لا يكون محلا للاستيلاء، فتعين التملك فيه بالعقد، وشرط الربا في العقد مفسد، وكذلك الذمي إذا دخل دار الحرب فباع حربيا درهما بدرهمين أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في الإسلام فهو على هذا الخلاف الذي ذكرناه، لأن ما جاز من بيوع المسلمين جاز من بيوع أهل الذمة، وما يبطل أو يفسد من بيوع المسلمين يبطل أو يفسد من بيوعهم إلا الخمر والخنزير.
إلى أن قال: وأما إسلام المتبايعين فليس بشرط لجريان الربا، فيجري الربا بين أهل الذمة وبين المسلم والذمي؛ لأن حرمة الربا ثابتة في حقهم؛ لأن الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات إن لم يكونوا مخاطبين بشرائع هي عبادات عندنا، قال الله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (1) وروي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - «كتب إلى مجوس
__________
(1) سورة النساء الآية 161(39/62)
هجر: " إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله» ، وهذا في نهاية الوعيد، فيدل على نهاية الحرمة (1) .
قال محمد بن أحمد بن رشد: -
2 - (فصل) وفي هذا يدل على إجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب، على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف؛ لأن مكة كانت دار حرب وكان بها العباس بن عبد المطلب مسلما، أما من قبل بدر على ما ذكره أبو إسحاق من أنه اعتذر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أسر يوم بدر وأمره أن يفتدي، فقال له: إني كنت مسلما ولم أخرج لقتالكم إلا كرها، فقال له النبي - عليه الصلاة والسلام -: «أما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك (2) » . أو من قبل فتح خيبر إن لم يصح ما ذكره أبو إسحاق على ما دل عليه حديث الحجاج بن علاط من إقراره للنبي - عليه الصلاة والسلام - بالرسالة وتصديقه ما وعده الله به، وقد كان الربا يوم فتح خيبر محرما على ما روي «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بقلادة وهو بخيبر من غنائمها فيها ذهب وخرز، فأمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وبيع وحده، وقال: الذهب بالذهب وزنا بوزن (3) » ، فلما لم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان من رباه بعد إسلامه إما من قبل بدر وإما من قبل فتح خيبر إلى أن ذهبت الجاهلية بفتح مكة، وإنما وضع منه ما كان قائما بما لم يقبض دل ذلك على إجازته إذا حكم له بحكم ما كان من الربا قبل تحريمه، وبحكم الربا بين أهل الذمة والحربيين إذا أسلموا، وبحديث الحجاج بن علاط الذي دل على أن العباس كان مسلما حين فتح خيبر، وهو ما روى أنس بن مالك أنه قال للنبي - عليه الصلاة والسلام - حين فتح خيبر: إن لي بمكة أهلا وقد أردت أن أتيمم، فإن أذنت لي أن أقول فعلت، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك،
__________
(1) بدائع الصنائع 5 \ 192-193
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/353) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1591) ، سنن أبو داود البيوع (3351) ، مسند أحمد بن حنبل (6/19) .(39/63)
وأتى مكة وأشاع بها أن أصحاب محمد قد استبيحوا، وأني جئت لآخذ مالي فابتاع من غنائمهم، ففرح بذلك المشركون واختفى من كان بها من المسلمين، فأرسل العباس بن عبد المطلب غلامه إلى الحجاج يقول له: ويحك ما جئت به فما وعد الله به رسوله خير مما جئت به، فقال له: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له: ليخل لي بيتا، فإن الخبر على ما يسره، فلما أتاه الغلام بذلك قام إليه فقبل ما بين عينيه، ثم أتاه الحجاج بن علاط فخلى به في بعض بيوته، وأخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد فتحت عليه خيبر وجزت فيه سهام المسلمين، واصطفى رسول الله منها صفية لنفسه، وإن رسول الله أباح له أن يقول ما شاء ليستخرج ماله، وسأله أن يكتم ذلك عليه ثلاثا حتى يخرج، ففعل، فلما أخبر بذلك بعد خروجه فرح المسلمون ورجع ما كان بهم من المقت على المشركين، والحمد لله رب العالمين. نقلت الحديث بالمعنى واختصرت منه الحديث لطوله وبالله التوفيق.
واحتج الطحاوي لإجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب بحديث النبي - عليه السلام -: «أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية (1) » . . . الحديث، وإنما اختلف أهل العلم فيمن أسلم وله ثمن خمر أو خنزير لم يقبضه، فقال أشهب المخزومي: هو له حلال، بمنزلة ما لو كان قبضه. وقال ابن دينار وابن أبي حازم: يسقط الثمن عن الذي هو عليه كالربا. وأكثر قول أصحابنا على قول أشهب المخزومي. (2) .
3 - جاء في المجموع شرح المهذب: (فرع) الربا يجري في دار الحرب جريانه في دار الإسلام، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وعن أبي حنيفة أن الربا في دار الحرب إنما يجري بين المسلمين المهاجرين، فأما بين الحربين وبين المسلمين لم يهاجرا أو أحدهما فلا ربا،
__________
(1) موطأ مالك الأقضية (1465) .
(2) المقدمات لابن رشد 3 \ 28 وما بعدها.(39/64)
وقال: إن الذميين إذا تعاقدا عقد الربا في دار الإسلام فسخ عليهما، فالاعتبار عنده بالدار، وعندنا بالاعتبار بالعاقد، فإذا أربى الذي في بلاد الإسلام مع الذمي لم يفسخ، كذا قال القفال في شرح التلخيص، قال: وهكذا سائر البياعات الفاسدة، والله أعلم.
واحتج أبو حنيفة - رضي الله عنه - بحديث مكحول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب» ، وبأن أموال أهل الحرب مباحة للمسلم بغير عقد، فالعقد أولى، ودليلنا عموم الأدلة المحرمة للربا، فلأن كل ما كان حراما في دار الإسلام كان حراما في دار الشرك، كسائر الفواحش والمعاصي، ولأنه عقد فاسد فلا تستباح به العقود عليه كالنكاح.
(قلت) وهذا الاستدلال إن كان أبو حنيفة يوافق على فساده في دار الحرب فلا دليل عنده، وأما حديث مكحول فمرسل إن صح الإسناد إلى محكول، ثم هو محتمل لأن يكون نهيا فيكون المقصود به تحريم الربا بين المسلم والحربي كما بين المسلمين، واعتضد هذا الاحتمال بالعمومين، وأما استباحة أموالهم إذا دخل إليهم بأمان فممنوعة، فكذا بعقد فاسد، ولو فرض ارتفاع الأمان لم يصح الاستدلال؛ لأن الحربي إذا دخل دار الإسلام يستباح ماله بغير عقد ولا يستباح بعقد فاسد، ثم ليس كل ما استبيح بغير عقد استبيح بعقد فاسد، كالفروج تستباح بالسبي، ولا تستباح بالعقد الفاسد.
ومما استدلوا به على أنه لا ربا في دار الحرب أن العباس بن عبد المطلب كان مسلما قبل فتح مكة، فإن الحجاج بن علاط لما قدم مكة عند فتح خيبر واجتمع به في القصة الطويلة المشهورة دل كلام العباس على أنه مسلم حينئذ، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الفتح: «وأول ربا أضعه ربا(39/65)
العباس بن عبد المطلب (1) » ، فدخل في ذلك الربا الذي من بعد إسلامه إلى فتح مكة، فلو كان الربا الذين بين المسلم والحربي موضوعا لكان ربا العباس موضوعا يوم أسلم.
(والجواب) أن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه، فيكفي حمل اللفظ عليه، وليس ثم دليل على أنه بعد إسلامه استمر على الربا، ولو سلم استمراره عليه؛ لأنه قد لا يكون عالما بتحريمه، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ. (2) .
4 - قال ابن قدامة:
(فصل) ويحرم الربا في دار الحرب كتحريمه في دار الإسلام. وبه قال مالك والأوزاعي وأبو يوسف والشافعي وإسحاق، وقال أبو حنيفة: لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب، وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب: لا ربا بينهما. لما روى مكحول عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب (3) » ولأن أموالهم مباحة وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام، فما لم يكن كذلك كان مباحا.
ولنا: قول الله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (4) وقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (5) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (6) وعموم الأخبار
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/73) ، سنن الدارمي البيوع (2534) .
(2) شرح المهذب 11 \ 158.
(3) الحديث مرسل غريب، وهو يحتج بمرسل الثقة. والأصل في هذا عنده أن المال الحربي مباح الأصل، فالوسيلة لأخذه برضاه لا تخرجه عن أصل، بخلاف مال المستأمن والذمي. قالوا: ولذلك أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - للصديق أكل القادر من بعض مشركي مكة لما راهنه على غلب الروم للفرس. وصرح بعضهم بأن المباح: أن يأخذ المسلم مال الحربي دون العكس.
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 275
(6) سورة البقرة الآية 278(39/66)
يقتضي تحريم التفاضل، وقوله: «من زاد أو ازداد فقد أربى (1) » عام، وكذلك سائر الأحاديث، ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار الحرب، كالربا بين المسلمين، وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة، وانقعد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول، لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به، وهو مع ذلك مرسل محتمل.
ويحتمل أن المراد بقوله: " لا ربا " النهي عن الربا (2) كقوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (3) ، وما ذكروه من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام فإن ماله مباح إلا فيما حظره الأمان، ويمكن حمله بين المسلمين على هبة التفاضل، وهو محرم بالإجماع فكذا هاهنا (4) .
5 - جاء في فتاوى المنار:
أموال أهل الحرب:
من صاحب الإمضاء مدير جريدة الوفاق بيتبزرغ - جاوا: محمد بن محمد سعيد الفتة.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده. ما قول السيد البار بالمسلمين والرشيد الحريص على أحكام رب العالمين في فتوى بعض العلماء: بحل أموال أهل الحرب فيما عدا السرقة والخيانة ونحوهما مما كان برضاهم وعقودهم، فهل هو حل لنا مهما يكن أصله حتى الربا الصريح؟
أليست هذه الفتوى وأمثالها الضربة القاضية على جميع ما حرمه الله، والتعدي على الحدود، التي لم يستثن منها اضطرارا ولا عذرا لفاعل؟
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) ممنوع خبر '' لا '' في الحديث.
(3) سورة البقرة الآية 197
(4) المغني 4 \ 45، 46. وقد ذكر ابن حزم كلاما مختصرا في ذلك: 8 \ 514.(39/67)
كالشرك والكفر بغير إكراه والقتل العمد وفي القصاص (كذا) والسرقة والربا ونحو ذلك، لا كالخمر والميتة والدم ونحوها للمضطر، وتأجيل بعض العبادات لعذر كما بينه الشارع مع بقاء الحرمة والحكم والقضاء والكفارة إلا في الخطأ والنسيان، عدا ما استثناه منهما كما هو الحق المنصوص به في كتاب الله والمؤيد بالتواتر والحق المهيمن بالإجماع والتواطئ. .؟ أفتونا بما أمر الله به أن يوصل.
جـ - أصل الشريعة الإسلامية أن أموال الحرب مباحة لمن غلب عليها وأحرزها بأي صفة كان الإحراز، إلا أن الفقهاء خصصوا هذا العموم بما ورد في الشريعة من التشديد في تحريم الخيانة، فقالوا: إن المسلم لا يكون خائنا في حال من الأحوال، فإذا ائتمنه أي إنسان وإن كان حربيا على مال وجب عليه حفظ الأمانة وحرمت عليه الخيانة، فإذا كان الأصل في مال الحربي أنه غنيمة لمن غنمه بالقهر أو بالحيلة أو بكل وسيلة ما عدا الخيانة، أفلا يكون حله أولى إذا أخذه المسلم برضاه، ولو بصورة العقود الباطلة في دار الإسلام بين المسلمين والخاضعين لحكمهم من غيرهم؟ إنه لم يظهر له أدنى وجه لقياس حل سائر المحرمات كالكفر والخمر والميتة وهي من المحرمات لذاتها في دار الإسلام ودار الحرب على مال الحربيين المباح في أصل الشريعة، إذ الأصل في القياس أن يلحق الشيء بمثله في علة الحكم لا بضده، هذا وإن الربا الذي حرمه الله تعالى في دار الإسلام وكذا في دار الحرب بين المسلمين إن وجدوا فيها هو نوع من أنواع أكل المال المحترم بالباطل، وأخذ المال من صاحبه برضاه واختياره: ليس من أكله بالباطل، والمضطر إلى أخذ المال بالربا لا يعطى الزيادة برضاه واختياره، والشرع لم يجعل له حقا بأخذها فكانت حراما؛ لأنها من قبيل الغصب على كونها بدون مقابل. ولذلك عللت في نص القرآن بأنها(39/68)
ظلم إذ قال الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1) وظلم الحربي غير محرم لأنه جزاء على ظلمه، فإنه لا يكون إلا أشد ظلما من المسلم؛ لأنه يخون والمسلم لا يخون، ولأن المسلم يمنعه دينه من أعمال في الحرب ومع أهل الحرب لا يمنع الكافر دينه منها، كقتل غير المقاتلين، والتمثيل بالقتلى وغير ذلك مما هو معروف في الإسلام، ونرى غير المسلمين يرتكبونه حتى في البلاد التي جعلوها تحت حكمهم لا المحاربة لهم فقط، والمسلمون يساوون غيرهم ممن يدخل تحت حكمهم بأنفسهم على أن المسلم في دار الإسلام يجوز له أن يقضي دائنه دينه بأفضل مما أخذ منه، إذا كان بمحض اختياره، وقد قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان اقترض منه بعيرا بسن فوق سن بعيره، كما في الصحيحين، ولو كان ذلك مشروطا لكان ربا. قال أبو هريرة - كما في البخاري -: «إن رجلا تقاضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال: " دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا، واشتروا له بعيرا فأعطوه إياه " فقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه. فقال: " اشتروه فأعطوه إياه فإن خيركم أحسنكم قضاء (2) » .
وما رواه الحارث عن علي: «كل قرض جر منفعة فهو ربا» فسنده ضعيف، بل قالوا: إنه ساقط؛ فإن راويه سوار بن مصعب متروك، يروي المنكرات، بل اتهم برواية الموضوعات.
لولا كتاب خاص شرح لنا فيه صديقنا السائل سبب سؤاله لما فهمنا قوله فيه أن تلك الفتوى ضربة قاضية على جميع ما حرمه الله تعالى. فقد كتب إلينا أن بعض المستمسكين بحبل الدين في جاوه قد استنكروا الفتوى المسئول عنها؛ لأنهم فهموا منها أن استحلال الربا في دار الحرب يفضي إلى استحلال سائر المعاصي كالزنا واللواط والقتل وغير ذلك فيها
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2390) ، صحيح مسلم المساقاة (1601) ، سنن الترمذي البيوع (1316) ، سنن النسائي البيوع (4618) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2423) ، مسند أحمد بن حنبل (2/456) .(39/69)
أو مطلقا. وهذا سوء فهم منهم، فإن الفتوى ليست في استحلال الربا مطلقا كما تقدم. ولا يخفى على أحد منهم أن حرمة سفك الدم بغير حق أشد من حرمة أخذ المال بغير حق، فهل يقيسون إذا إباحة قتل المحارب على إباحة قتل المسالم من مسلم وذمي ومعاهد؟ ولدار الحرب أحكام أخرى تخالف أحكام دار الإسلام منها: عدم إقامة الحدود فيها.
ونقول لهم من جهة أخرى: إذا أقام المسلم في غير دار الإسلام، فهل يدعون أن الله تعالى يأمره بأن يدفع إلى أهلها كل ما يوجبه عليه قانون حكومتها من مال الربا وغيره، ولا مندوحة له عن ذلك، ويحرم عليه أن يأخذ منهم ما يعطونه إياه بحكم ذلك القانون من ربا وغيره برضاهم واختيارهم؟ أعني هل يعتقدون أن الله تعالى يوجب على المسلم أن يكون عليه الغرم من حيث يكون لغيره الغنم، أي يوجب عليه أن يكون مظلوما مغبونا؟
إن تحريم الربا من الأحكام المعلولة المعنى لا من التعبديات، وما حرم الله تعالى شيئا إلا لضرورة على عباده الخاضعين لشرعه، وقد علل تحريم الربا في نص القرآن بأنه ظلم من حيث إنه استغلال لضرورة الفقير الذي لا يجد قوته أو ضرورته إلا بالاقتراض، والقرآن إنما حرم الربا الذي كان معهودا بين الناس في الجاهلية، وهو الربا المضاعف كما تراه في تفسير ابن جرير وغيره من كتب التفسير المأثور، ومنه قول ابن زيد (زيد أحد علماء الصحابة الأعلام، وابنه من رواة التفسير المأثور) : إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن، يكون للرجل على الرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول: تقضيني أو تزيدني، فإذا كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض (أي في السنة الثانية) يجعلها ابنة لبون (أي في السنة الثالثة) ثم حقة(39/70)
(أي ابنة السنة الرابعة) ثم جذعة (في الخامسة) ثم رباعيا (وهو ما ألقى رباعيته ويكون في السنة السادسة) ، ثم هكذا إلى فوق، وفي العين (أي الذهب والفضة) يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه. أهـ من تفسير آية آل عمران. وضرر هذا عظيم، وهو قسوة تحرمها الآن جميع القوانين، ثم أوجب القرآن على التائب منه أخذ رأس المال فقط.
وذكر ابن حجر المكي في الزواجر أن ربا الجاهلية كان الإنساء فيه بالشهور، وهو الذي يسمى في عرف المحدثين بربا النسيئة، وفيه ورد حديث «لا ربا إلا في النسيئة (1) » رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أسامة بن زيد مرفوعا، ورواه مسلم عن ابن عباس عنه بلفظ «إنما الربا في النسيئة (2) » ، وما صح من النهي عن ربا الفضل في الحديث فلسد الذريعة، كما نص عليه المحققون، وإننا قد فصلنا القول في مسألة الربا في التفسير وغيره من قبل، فلا نعود إليها هنا، وإنما غرضنا بيان أن تلك الفتوى ليس فيها خطر على التوحيد، ولا تقتضي تحليل شيء من المحرمات، ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها فلا يعملن بها (3) .
6 - وجاء في فتاوى محمد رشيد: س (1) : إن الربا انتشر في أرض جاوا في هذه الأيام انتشارا لا عهد لنا به، حتى أن بعض الأساتذة الذين كانوا في مقدمة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمقاومين للربا خرجوا من المدارس وأصبحوا اليوم في مقدمة المرابين، فإذا سألناهم عن الدافع إلى هذا أجابوا بلسان واحد، بأن صاحب المنار أفتى بجواز الربا على الإفرنج، وإذا رأينا أحدا يرابي على الوطنيين أجابنا بأن موظفي
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي البيوع (4580) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/209) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(3) فتاوى محمد رشيد جـ6 ص1974-1978.(39/71)
الحكومة لا دينيين، وأننا في دار حرب، وقد أفتى صاحب المنار بجواز الربا في دار الحرب، فهل لما أشيع عن مناركم من صحة؟ إذا قلتم: نعم فستقفل الحوانيت ويقف دولاب تجارة العرب بجاوا، ويتوجهون إلى الربا اعتمادا على فتواكم. فما رأي فضيلتكم؟ أرجو الجواب في أول عدد من مناركم ليحق الحق ويزهق الباطل و"إن الباطل كان زهوقا".
أخذ الربا من الإفرنج في دار الحرب:
جـ - إن ما تعنونه من إفتائي بحل أخذ الربا على الإفرنج في دار الحرب ليس كما ذكرتم أو نقلتم، وإنما هو جواب عن سؤال ورد على المنار من مدير جريدة الوفاق (بيتبرزغ - جاوه) ونشر في ج8 مجلد 28 الذي صدر في ربيع الآخر سنة 1346هـ في فتوى بعض العلماء بحل أموال الحرب فيما عدا السرقة والخيانة ونحوهما، مما كان برضاهم وعقودهم، فهل هو حل لنا مهما يكن أصله حتى الربا الصريح؟ .
هذا موضوع الاستفتاء، والمستفتي فيه منكر له أشد الإنكار، كما هو مبين بنص كلامه في السؤال، إذ جعل هذه الفتوى خطرا على التوحيد ومقتضية لتحليل جميع المحرمات، وقد بينا في جوابه أصل الشريعة في إباحة أموال الحرب بإجماع المسلمين، وما قيد العلماء به عموما، ولم يخالفنا أحد في ذلك. فراجعوا فتوانا في ص575 من مجلد المنار 28) فإن بقى في أنفسكم شبهة فبينوه لنا. وقد كتبنا في آخره أن تلك الفتوى لا خطر فيها على التوحيد، ولا تقتضي تحريم شيء من المحرمات. ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها فلا يعملن بها. أهـ.
وجملة القول أنني ما أفتيت في شيء انفردت به في هذا الموضوع، وأن الذين ذكرتم أنهم يستحلون أخذ الربا من المسلمين بدعوى أنهم لا دينيين - أي كفار - تعطيل وإباحة، لا يمكنهم أن يدعوا أن صاحب المنار أفتى(39/72)
بتكفيرهم ولا بأخذ الربا منهم، ولا جعله حرفة للمسلمين، وإنما يتبعون أهواءهم. على أننا سنصدر إن شاء الله تعالى في هذا العام كتابنا في مباحث الربا والمعاملات المالية العصرية التي نشرناها في مجلدات المنار بعد تلك الفتوى، فانتظروا، فالمسألة ليست من البداهة بحيث يحررها المرابون والتجار وخطر الاستدانة من الإفرنج بالربا أضعاف ما تتصورون من عكسه بل الذي جعل المسلمين أفقر الشعوب. (1) .
مما تقدم يتبين ما يلي: -
أولا: من المعلوم أن الربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وأنه لا يجوز للمسلم أن يقدم عليه وهو يعلم أنه ربا، وأن الربا المتحصل له وهو لا يعلم الحكم بل أقدم على التعامل ظنا منه أنه يجوز ثم قبض الربا واستهلكه أنه لا إثم عليه، ولا يجب عليه بذله. وأما الربا الذي قبضه وهو يعلم أنه ربا فهو آثم، عليه أن يرده لصاحبه إن عرفه؛ لعموم قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) وإن كان لا يعلم صاحبه، أو يعلمه ولكن تعذر عليه حصوله وحصول من يقوم مقامه شرعا - فإنه يتصدق به، أو يصرفه في المصالح العامة، ومن أخذه من المتصدق به فهو حلال له (3) .
ثانيا: الفوائد الربوية التي لم تقبض بل هي باقية في البنوك يتولى الإمام قبضها وصرفها في المصالح العامة؛ لأنه إما أن يقال بإبقائها لأصحاب البنوك أو بإحراقها أو بأخذها وصرفها في المصالح العامة، والأول لا يصح؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، وأن الثاني لا يصح لأنه إفساد، والله لا يحب الفساد، وتعين الثالث (4) .
__________
(1) فتاوى محمد رضا 6 \ 2583-2585
(2) سورة البقرة الآية 278
(3) انظر النقول 2-9 وما بعدها.
(4) انظر النقول 13 وما بعدها.(39/73)
ثالثا: اختلف في حكم جريان الربا بين المسلم والحربي، فذهب أبو حنيفة ومن وافقه إلى جوازه؛ لقصة العباس وحديث مكحول: «لا ربا بين مسلم وحربي» وحديث: «أي دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية (1) » ، ولأن مال الحربي مباح للمسلم بدون عقد فبالعقود أولى.
ونوقشت قصة العباس بأن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه، فيكفي حمل اللفظ عليه بتحريمه، فأراد - صلى الله عليه وسلم - إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ.
ونوقش حديث مكحول بأنه مرسل.
وحديث كهذا لا ينبغي أن يكون معارضا للقرآن والسنة والإجماع.
ولو قدرت صحته فيحتمل أن المراد بقوله: " لا ربا " النهي عن الربا، كقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (2)
ونوقش القياس بالمنع، ولو فرض ارتفاع الأمان لم يصح الاستدلال؛ لأن الحربي إذا دخل دار الإسلام يستباح ماله بغير عقد ولا يستباح بعقد فاسد. ثم ليس كل ما يستباح بغير عقد استبيح بعقد فاسد، كالفروج تستباح بالسبي ولا تستباح بالعقد الفاسد.
وذهب مالك والإمام أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والأوزاعي والشافعي وإسحاق ومن وافقهم من الفقهاء إلى أن حكم الربا بين المسلم والحربي كحكمه بين المسلم والمسلم.
ومن الحجة لذلك قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) وقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (4) إلى غير ذلك من الأدلة.
ولعموم الأخبار المقتضية لتحريم التفاضل، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من زاد أو ازداد فقد أربى (5) » ، ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار الحرب،
__________
(1) موطأ مالك الأقضية (1465) .
(2) سورة البقرة الآية 197
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .(39/74)
كالربا بين المسلمين (1) .
وبالله التوفيق. . وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،،
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) انظر النقول من 27-34.(39/75)
صفحة فارغة(39/76)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية(39/77)
(1) المهدي
فتوى رقم 2844
س: أرجو أن تفتوني عن صحة وجود المهدي - الذي يقال عنه - في الأرض، وهل وردت أحاديث نبوية صحيحة عنه؟ أثابكم الله.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: الأحاديث التي دلت على خروج المهدي كثيرة، وردت من طرق متعددة، ورواها عدد من أئمة الحديث، وذكر جماعة من أهل العلم أنها متواترة معنويا منهم أبو الحسن الآجري - من علماء المائة الرابعة -، والعلامة السفاريني في كتابه "لوامع الأنوار البهية"، والعلامة الشوكاني في رسالة سماها "التوضيح في تواتر أحاديث المهدي والدجال والمسيح" وله علامات مشهورة مذكورة في الأحاديث وأهمها أنه «يملأ الأرض عدلا وقسطا بعد ما ملئت جورا وظلما (1) » ، ولا يجوز لأحد أن يجزم بأن فلان بن فلان هو المهدي حتى تتوافر العلامات التي بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة، وأهمها ما ذكرنا، وهو كونه «يملأ الأرض عدلا وقسطا (2) » . . . الحديث.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن أبو داود المهدي (4285) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/17) .(39/78)
السؤال الأول من الفتوى رقم 7664
س: من المهدي، وما هي أشراط الساعة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: -
ج: رجل من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، يأتي قبل نزول عيسى، يدعو إلى الإسلام، ويقيم الله به الحجة، ويهدي به كثيرا من الناس، وإن شئت التوسع في ذلك فاقرأ ما كتبه عنه ابن كثير رحمه الله في كتابه "النهاية".
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/79)
(2) المسيح الدجال
فتوى رقم 1758
س: سمعنا سابقا عن قصة فتنة الدجال أنه يأمر السماء تمطر ويأمر الأرض أن تنبت أو تحمل، ويطلع الكنوز من الأرض، وأنه يقتل رجلا ويحيا بعد، ويقول من يدرسوننا: ما هو صحيح فعل الدجال، قمرة يقمر بها أعين الناس، فأفيدونا عن الصحيح؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: -
ج: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المسيح الدجال سيظهر آخر الزمان، وأنه يقول للسماء: أمطري، فتمطر، ويقول للأرض: أنبتي، فتنبت، وأنه يقتل(39/79)
رجلا مؤمنا ثم يقول له: قم، فيقوم، ويقول له: (أنا ربك) . فيقول له: كذبت بل أنت الأعور الكذاب الذي حدثنا عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله ما ازددت فيك إلا بصيرة. وأنه يريد قتله بعد ذلك، فلا يسلط عليه، وأنه يدعي الإلهية، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - له ثلاث علامات، تدل على كذبه في دعوة الإلهية:
الأولى: أنه أعور العين اليمنى، والله تعالى ليس بأعور. الثانية: أنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ. والثالثة: أنه يرى في الدنيا والله تعالى لا يراه أحد حتى يموت.
يدل على ذلك ما جاء في حديث النواس بن سمعان - رضي الله عنه - عند مسلم في باب ذكر فتنة الدجال من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت (1) » إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - عنه: «ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك (2) » .
وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس - أو: من خير الناس - فيقول له: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه. فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحييه: والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الآن، قال: فلا يسلط عليه (3) » ، وعند مسلم أيضا: «أن مع الدجال ماء ونارا فناره ماء بارد وماؤه نار فلا تهلكوا (4) » ، وهذا الأخير يقال فيه: أنه تخييل (قمرة) وما عداه مما ذكر من أحداثه ليست تخييلا بل حقيقة واقعة أجراها الله على
__________
(1) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240) ، سنن أبو داود الملاحم (4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) .
(2) صحيح مسلم ج 8 ص 197، وابن منده في كتاب الإيمان برقم 1027.
(3) صحيح مسلم 8 \ 199.
(4) صحيح البخاري الفتن (7130) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2934) .(39/80)
يده، لتكون فتنة يتميز بها الطيب من الخبيث مع إقامة الحجة على كذبه فيما يدعيه من الإلهية، قال مسلم - رحمه الله -: حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب، ثنا الوليد بن مسلم، ثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص، ثني عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي، أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي.
وحدثني محمد بن مهران الرازي بالسند نفسه في حديث النواس: «فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به، ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعا وأمده خواصر، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم (1) » . . .
وفيه: «ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك (2) » . . إلخ.
وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي سعيد الخدري: فيخرج إليه يومئذ رجل هو خير الناس، أو من خير الناس فيقول له: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، قال: فيقتله ثم يحييه، فيقول حين يحييه: والله ما كنت قبل قط أشد بصيرة مني الآن، قال: فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه أهـ. من باب ذكر الدجال من كتاب الفتن ج18.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240) ، سنن أبو داود الملاحم (4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) .
(2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2937) ، سنن الترمذي الفتن (2240) ، سنن أبو داود الملاحم (4321) ، سنن ابن ماجه الفتن (4075) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) .(39/81)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 3381
س: هل خروج المسيح الدجال كما صدرت فيه الأحاديث النبوية، وهل هذه الأحاديث صحيحة أو حسنة أو ضعيفة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: دلت الأحاديث الصحيحة المتواترة على خروج المسيح الدجال، وخروجه من أشراط الساعة، فعليك بمراجعة كتب الحديث في ذلك، الصحيحين وجامع الأصول وغيرها من كتب الحديث المعتمدة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/82)
الفتوى رقم 4957
س: هل سيظهر المسيح الدجال الذي أثبت ظهوره طائفة ونفته أخرى بما قرأت؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: نعم سيظهر المسيح الدجال، وأحاديث ظهوره صحيحة وصريحة ومتواترة، وقد بوب الإمام البخاري - رحمه الله - في الصحيح لذلك بقوله: باب ذكر الدجال، وساق عشرة أحاديث، وأوضح الحافظ ابن حجر - رحمه الله - شرحها في كتابه (فتح الباري) ، وبإمكانك الرجوع إليه أو إلى غيره من كتب السنة التي ذكرت ذلك.(39/82)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/83)
السؤال الثالث من الفتوى رقم 7114
س: جاء في أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - حديث الدجال، وما معنى الدجال، هل هو موجود الآن أم لا؟ وأين وطنه؟ وما معنى عوره الذي حدث به النبي - صلى الله عليه وسلم -، أعوره حقيقي أم مجازي؟ اكشف لنا حقيقة ما عندك من العلم جعل الله جنة الفردوس مثواك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: الدجال مأخوذ من دجل دجلا إذا كذب وأخرق؛ لأنه يدعي الربوبية، وهذا من أعظم الكذب، وهو موجود، وأما عوره فحقيقي؛ لأن الأصل في الكلام الحقيقة، وخروج المسيح الدجال مما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة المتواترة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/83)
السؤال التاسع من الفتوى رقم 8097
س: هل المسيح الدجال يظهر على جميع الخلق، بمعنى هل الأموات يبعثون ثانية أم يكون ظهوره على الأحياء في وقت ظهوره؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: إنما يخرج على الأحياء خاصة، أما الأموات فلا يبعثون إلا بعد(39/83)
القيامة، لقول الله سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (1) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (2) (المؤمنون: 15 - 16) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 15
(2) سورة المؤمنون الآية 16(39/84)
(3) يأجوج ومأجوج
السؤال الثالث من الفتوى رقم 845
س: من هم يأجوج ومأجوج؟ وفي أي قارة يمكن وجودهم؟ وهل هم على سطح الأرض؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: يأجوج ومأجوج من بني آدم - عليه السلام - من ولد يافث بن نوح - عليه السلام -، وكانوا يسكنون قارة آسيا شمال الصين منها، وهم على سطح الأرض كسائر بني آدم، وهم أولو بطش وبأس شديد، وقد عثوا فسادا في الأرض، قال الله تعالى في وصف رحلة ذي القرنين إلى المشرق الأقصى، وما قام به من الإصلاح في هذه الرحلة: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} (1) {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} (2) {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} (3) {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} (4) {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} (5) {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} (6) {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} (7) {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} (8) {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} (9) {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} (10)
__________
(1) سورة الكهف الآية 90
(2) سورة الكهف الآية 91
(3) سورة الكهف الآية 92
(4) سورة الكهف الآية 93
(5) سورة الكهف الآية 94
(6) سورة الكهف الآية 95
(7) سورة الكهف الآية 96
(8) سورة الكهف الآية 97
(9) سورة الكهف الآية 98
(10) سورة الكهف الآية 99(39/84)
السدين: جبلان بينهما واد، ومعنى خرجا: أجرا، وزبر الحديد: قطع الحديد، والصدفين: جبلان بينهما واد، ومعنى أن يظهروه: أن يعلوه ويتجاوزوه إلى الجانب الآخر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(39/85)
فتوى رقم 11109
س: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} (1) أي تنزه وتقدس الله العظيم الجليل وكثرت خيراته وفاضت بركاته، سؤالي هنا هو اسم الرب هو الله، وهنا كلمة الله اسم علم للذات المقدسة (ذات الله) وهنا المفسرون فسروا اسم الرب بذات الله (الذات المقدسة) وهذا خطأ كبير وكفر، أرجو الجواب الصحيح (سورة الرحمن 78) ؟
س2: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (2) أي فنزه يا محمد ربك عما أضاف إليه المشركون من صفات العجز والنقص. . . الخ، سؤالي هنا أيضا هو نفس سؤال رقم (1) (سورة الواقعة 74) ؟
__________
(1) سورة الرحمن الآية 78
(2) سورة الواقعة الآية 74(39/85)
س3: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) أي نزه يا محمد ربك العلي الكبير عن صفات النقص وعما يقوله الظالمون مما لا يكيف به سبحانه وتعالى من النقائص والقبائح. سؤالي هنا أيضا هو نفس سؤال رقم واحد واثنين. (سورة الأعلى) ؟
س4: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (2) أي اقرأ يا محمد القرآن مبتدئا ومستعينا باسم ربك الجليل الذي خلق جميع المخلوقات. . الخ، سؤالي هنا أيضا يقرأ باسم الرب، ثم كيف يستعين باسم الرب هو اسم علم للذات المقدسة يجب أن يستعين بالرب لا باسمه الذي هو الله، أرجو الجواب الصحيح؟
س5: (قال الله) إعراب كلمة الله فقط، إني تعلمت في المدرسة أن إعراب كلمة الله فلفظ الجلالة فاعل مرفوع بالضمة، لماذا؟ لأن لفظ الجلالة غير ذات الله (الذات المقدسة) ؟
س6: أضاف النصرة إلى اسم الله {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (3) {بِنَصْرِ اللَّهِ} (4) (سورة الروم) سؤالي هنا شرح أو معنى اسم الله، ولماذا إضافة كلمة نصر إلى كلمة الله فأصبح نصر الله؟ أرجو الجواب الصحيح.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج1: الاسم الذي هو (الألف والسين والميم) من قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} (5) دال على لفظ الجلالة (الله) ونحوه من أسماء الله الحسنى التي سمى الله بها نفسه أو سماه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والمقصود من لفظ الجلالة وما في معناه من أسمائه تعالى: المسمى وهو ذات الرب بصفاته العليا، فتبارك لفظ الجلالة وسائر أسمائه الحسنى تعظيم لمسمياتها، وهي ذات الرب المتصفة بصفات الكمال، وليس تعظيما
__________
(1) سورة الأعلى الآية 1
(2) سورة العلق الآية 1
(3) سورة الروم الآية 4
(4) سورة الروم الآية 5
(5) سورة الرحمن الآية 78(39/86)
للاسم الذي هو (الألف والسين والميم) بل تعظيم وتنزيه للفظ الجلالة، ومدلوله المقصود منه، وهو ذات الرب بصفاتها، وكذا سائر أسمائه الثابتة له بالكتاب والسنة، وليست هذه الأسماء عين ذاته ولكنها دالة عليها، وعلى هذا يكون التنزيه لذات الرب أصالة، وللدال عليها من لفظ الجلالة ونحوه تبعا.
ج2: وكذا القول في تفسير قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (1) فالتسبيح ليس للاسم الذي هو (ألف وسين وميم) وإنما هو لذات الرب أصالة، وما دل عليها تبعا، وهو لفظ الرب العظيم، وليست كلمة الاسم ولا كلمة الرب عين ذات الرب سبحانه وتعالى.
ج3: وكذا القول في تفسير قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (2) التسبيح لذات الرب أصالة ولكلمة الرب تبعا، باعتبارها دالة على ذات الرب سبحانه.
ج4: وكذا القول في تفسير آية {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (3) فليست الاستعانة بالاسم الذي هو (الألف والسين والميم) وإنما هي بلفظ الرب باعتبار المقصود منه وهو ذات الرب العلي الأعلى، فالابتداء بالقراءة والاستعانة فيها إنما هي بالرب نفسه سبحانه أصالة، وبما دل عليه وهو كلمة الرب تبعا.
ج5: ولفظ الجلالة يعرب، لأن الإعراب مما ينطق به أو يكتب، أما مدلوله فلا يعرب؛ لأنه ليس بلفظ، بل هو الرب نفسه، وهو المستعان به في القراءة وغيرها، وهو الذي خلق كل شيء، وخلق الإنسان، وعلم بالقلم، وعلم الإنسان ما لم يعلم، دون الاسم بحروفه، ودون الجلالة فإنه لم يخلق شيئا، ولم يعلم الإنسان ما لم يعلم فالاسم بحروفه، ولفظة الجلالة
__________
(1) سورة الواقعة الآية 74
(2) سورة الأعلى الآية 1
(3) سورة العلق الآية 1(39/87)
وكملة الرب غير المسمى؛ لأن المسمى ذات الرب بصفاته العليا.
ج6: أضاف النصر إلى لفظ الجلالة وهو الله؛ لأنه علم على مسماه، وهو الذات المقدسة مع صفاتها، وهي المقصود بلفظ الجلالة ومنها النصر، لا من الاسم وإنما عبر عنها بلفظ الجلالة لدلالته عليها لا لأنه عينها.
ومما تقدم يتبين أن الصلاة وسائر العبادات لمسمى الرب لا لكلمة اسم ولا لكلمة الرب ولا للفظ الله، وإنما يذكر لفظ الرب ولفظ الجلالة ليتوصل بذلك إلى المقصود، وهو ذات الرب المقدسة، ومسمى لفظ الجلالة، فأسماء الله الحسنى لا تراد لنفسها، وإنما يعبر بها عن المقصود منها، وهو مسماها فهو المعبود حقا أصالة عن طريق ذكر أسمائه الحسنى وهو الذي يجزي كل نفس بما كسبت.
وننصحك بقراءة ما كتبه العلامة الشيخ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية في مبحث: الاسم والمسمى، فإنه رحمه الله وفى المقام حقه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/88)
السؤال الرابع من الفتوى رقم 8942
س: ما الفرق بين أسماء الله وصفاته؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أسماء الله كل ما دل على ذات الله مع صفات الكمال القائمة به، مثل القادر، العليم، الحكيم، السميع، البصير، فإن هذه الأسماء(39/88)
دلت على ذات الله وعلى ما قام بها من العلم والحكمة والسمع والبصر، أما الصفات فهي نعوت الكمال القائمة بالذات، كالعلم والحكمة والسمع والبصر، فالاسم دل على أمرين، والصفة دلت على أمر واحد، ويقال الاسم متضمن للصفة، والصفة مستلزمة للاسم، ويجب الإيمان بكل ما ثبت منهما عن الله تعالى أو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على الوجه اللائق بالله سبحانه، مع الإيمان بأنه سبحانه لا يشبه خلقه في شيء من صفاته، كما أنه سبحانه لا يشبههم في ذاته؛ لقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) وقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة الشورى الآية 11(39/89)
فتوى رقم 8911
س: يسعدني أن أتحدث في رسالتي المتواضعة إلى سماحتكم، فأنا أتحدث إلى واحد من أشهر الشخصيات الإسلامية في عالمنا الإسلامي وغيره، وأرجو أن يتسع صدركم الكبير لقراءة هذه السطور، ولكم من الله جزيل الشكر والعرفان، وجزاكم الله خيرا عنا.
(ذو الجلال والإكرام) اسم من أسماء الله الحسنى، وهو تعظيم لله عن كل شيء وتنزيه له، وقد قرأت لسماحتكم رسالة مرسلة إلى العاهل السعودي وكنتم قد بدأتموها بقولكم: (جلالة الملك) ، ألستم معي في أن الجلالة لله وحده، وأن الملك من أسمائه الحسنى لا يجوز تسمية(39/89)
شخص بها أيا كانت صفته وشخصيته، فنرجو إيضاح ذلك من سماحتكم حتى لا يقع المسلمون في إثم من جراء تنزيه الأشخاص بهذه الصفات التي اختصها الله لنفسه دون غيره الله إلا (رءوف رحيم) صفة لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وفي نفس الوقت تصادفت تحت يدي وأنا أتصفح في المجلة العربية في العدد (89) منها رسالة شكر من الأستاذ \ محمد النويصر رئيس المكتب الخاص للعاهل السعودي إلى القائمين على إخراج المجلة، وهو يبدأ رسالته بقوله: (لقد تسلم جلالة مولاي حفظه الله خطابكم المرسل وبه أعداد المجلة. .) .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: إن كثيرا من الأسماء مشتركة بين الله تعالى وبين غيره من مخلوقاته في اللفظ والمعنى الكلي الذهني، فتطلق على الله بمعنى يخصه تعالى ويليق بجلاله سبحانه، وتطلق على المخلوق بمعنى يخصه ويليق به، فيقال - مثلا -: الله حليم، وإبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام - حليم، وليس حلم إبراهيم كحلم الله، والله رءوف رحيم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - رءوف رحيم، وليس رأفة محمد - صلى الله عليه وسلم - ورحمته كرأفة الله بخلقه ورحمته، والله تعالى جليل كريم ذو الجلال والإكرام على وجه الإطلاق، وكل نبي كريم جليل، وليست جلالة كل نبي وكرمه كجلالة غيره من الأنبياء وكرمه، ولا مثل جلال الله وكرمه، بل لكل من الجلالة والكرم ما يخصه، والله تعالى حي، وكثير من مخلوقاته حي، وليست حياتهم كحياة الله تعالى، والله سبحانه مولى رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وجبريل وصالح المؤمنين، وليس ما لجبريل وصالح المؤمنين عن ذلك مثل ما لله من الولاية والنصر لرسوله - صلى الله عليه وسلم -(39/90)
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة المذكورة في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه، ولا يلزم من ذلك تشبيه المخلوق بالخالق في الاسم أو الصفة وأسلوب الكلام، وما احتف به من القرائن يدل على الفرق بين ما لله من الكمال في أسمائه وصفاته وما للمخلوقات مما يخصهم من ذلك على وجه محدود يليق بهم.
واقرأ ذلك في القرآن وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع التدبر وإمعان النظر يتضح لك الأمر، ويذهب عنك الإشكال بحول الله وقوته، ثم ارجع إلى ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في أول رسالة (التدمرية) فإنه وفى المقام حقه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/91)
فتوى رقم 8115
س: أريد أن أقدم إليكم سؤالا قد اختلف العلماء فيه عندنا، وهو مما علمنا من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن صفات الله تبارك وتعالى توقيفية، فنثبت ما أثبتها الله تعالى، وننفي ما نفى الله تعالى، ونسكت عما سكت عنه الله تعالى إما في كتابه أو بلسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فهل يجوز أن يسمي الله أحدا بغير اسمه مثل (خدا) بالفارسية (خداي) بالبشتو أو (كاد) بالانجليزية وغيرها من الأسماء. وهل يكون من ذكر الله بغير اسمه الثابت في الكتاب والسنة ملحدا كما قال تبارك وتعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} (1) أو لا، ومن العلماء من يقول: يجوز هذه الأسماء، ويستدلون بجبرائيل
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180(39/91)
ويقولون (إيل) اسم الله بالعبرانية، فإذا جاز بالعبرانية تغيير الاسم فيجوز أيضا بلغة أخرى، فهل يصح هذا التأويل أم لا؟ وهل يجوز تغيير أسماء الله بلغة أخرى غير العربية أم لا؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: تجوز ترجمة أسماء الله لمن لا يعرف اللغة العربية بلغتهم إذا كان المترجم بصيرا باللغتين كما يجوز أن تترجم لهم معاني الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لتفهيمهم الدين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/92)
السؤال الأول من الفتوى رقم 5957
س: كما هو معروف لديكم الخلاف الواقع بين السلف والخلف في مسألة التأويل، ونحن إن شاء الله مع السلف فيما ذهبوا إليه، ولكن ورد علي سؤال حول الحديث الذي ذكره الشيخ ناصر الدين الألباني عند قيامه بتحقيق (الجامع الصغير وزيادته) للحافظ السيوطي، ونص الحديث كما ورد: «أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد، هل تدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا، فوضع يده بين كتفي، حتى وجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماوات وما في الأرض (1) » ، الحديث رواه الترمذي وأحمد عن ابن عباس، والسؤال كيف يفسر هذا الإتيان؟ هل يفسر على حقيقته بأنه إتيان يليق بجلاله؟ أم يئول كما يفعله الأشاعرة عندنا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد:
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3233) .(39/92)
ج: يفسر الإتيان في الحديث بإتيان حقيقي يليق بجلاله تعالى، لا يشبه إتيان المخلوق ولا نتأوله على إتيان رحمته أو ملك من ملائكته، بل نثبته كما أثبته السلف في تفسير قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} (1) أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} (3) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (4) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 158
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) سورة الإخلاص الآية 2
(4) سورة الإخلاص الآية 3
(5) سورة الإخلاص الآية 4(39/93)
السؤال التاسع من الفتوى رقم 4476
س: علمنا أن العبادة من الإرادة، لولا الإرادة لما قدر العابد عبادته، وكذلك العصاة من الإرادة، لولا الإرادة لما قدر العاصي عصيانه، ولم يجازي الله العابد ومع أن عبادته من الإرادة لولاها لما قدر العبادة، ولم يعذب الله العاصي بعصيانه مع أن العصاة من الإرادة لولاها لما قدر العصاة؟ ومع أنه تعالى ليس بظلام للعبيد؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: الأصل في هذا الباب أن الله جل وعلا هو المتصرف في خلقه، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو جل وعلا له الخلق والأمر، والعبد له إرادة ومشيئة، ولكن مشيئته مرتبطة بمشيئة الله، قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (1) وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) والله جل وعلا بين طريق الخير وأمر به، وبين طريق الشر ونهى عنه، وجعل في العبد اختيارا وعقلا يميز به بين الخير والشر، والعبد هو
__________
(1) سورة التكوير الآية 28
(2) سورة التكوير الآية 29(39/93)
الذي يختار لنفسه ما يشاء من الطريقين، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (1) وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (2) والخير الذي يصيب العبد من الله، والسيئة التي تصيب العبد من نفسه، قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (3)
ومما تقدم تعلم أن العبادة التي تقع من العبد ويثيبه الله عليها من فضل الله على العبد، وهي حاصلة بإرادته واختياره، وأن المعصية التي تقع من العبد هي واقعة من نفس العبد وبإرادته واختياره، وعقوبة الله للعبد على هذه المعصية هي واقعة بسبب من العبد؛ لأنه باشرها، وقد عامله الله بعدله في ذلك، وكلتاهما وقعتا من العبد بمشيئة الله وقدره السابق، وله في ذلك الحكمة البالغة، وقد أوضح ذلك سبحانه بقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (4) الآية.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الإنسان الآية 3
(2) سورة البلد الآية 10
(3) سورة النساء الآية 79
(4) سورة النساء الآية 78(39/94)
فتوى رقم 8841
س: أرجو من فضيلتكم المحترمة أن تبينوا لنا هذه الكلمات التي قرأناها في كتاب (فتح المجيد) الصفحة 15 من أو ل الكتاب: (قال الشارح: فبين الإرادة الشرعية والدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص مطلقا. . . إلخ) فما معنى ذلك؟ وجزاكم الله عنا وعن الإسلام والمسلمين(39/94)
خيرا.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: إن الإرادة الكونية القدرية أعم مطلقا، فتشمل الإرادة الدينية والإرادة القدرية.
وأما الإرادة الدينية الشرعية فهي أخص مطلقا، فكل مطيع قد اجتمعت فيه إرادتان: الشرعية والقدرية. أما الكافر والعاصي فقد انتفت منه الإرادة الشرعية في أعماله المخالفة للشرع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/95)
السؤال الأول والثاني من الفتوى رقم 6872
س1: هل يمكن لأمة مهما بلغت أن تدمر أحدا ما لم يشأ الله ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: لا تستطيع أمة مهما بلغت من القوة أن تدمر أحدا إلا إذا شاء الله ذلك، فلا يقع شيء في الكون إلا بإذنه وإرادته تعالى، كما قال في محكم التنزيل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (1) وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) .
س2: هل يأثم إنسان إذا نسب إلى إنسان آخر كبير أو صغير صفة من الصفات الخاصة بالله تعالى؟
ج2: ليس لأحد أن يصف المخلوق بصفة لا تليق إلا بالله كالخلاق والرزاق والفعال لما يريد ونحو ذلك، أما الصفات المشتركة بين الله وخلقه كالسميع والبصير والعزيز والقدير فلا بأس بذلك، مع الإيمان بأن صفة
__________
(1) سورة الإنسان الآية 30
(2) سورة التكوير الآية 29(39/95)
الله - جل وعلا - لا تشابه صفات المخلوقين في الحقيقة والمعنى، وإن اشتركا في اللفظ، وأصل المعنى في الذهن، وقد أجمع أهل السنة والجماعة - وهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم بإحسان - على أن القول في الصفات كالقول في الذات، فكما أن ذات الله سبحانه حق لا تشبه الذوات، فهكذا صفاته ثابتة له على الوجه اللائق به ولا تشبه صفات المخلوقين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/96)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 1643
س: جرى بيني وبين أحد المثقفين في علومهم الحديثة من مدرسي الجامعة أبيدجان ساحل العاج حيث يقول: «إن ربكم ينزل إلى السماء الدنيا في آخر كل ليلة (1) » . قلت له: بلا شك، وقرأت الحديث له، وقال: إن ثبت ذلك معناه أن ربكم لم يستقر على العرش كما هو في القرآن {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) ؛ لأن آخر الليل لم تزل على بقعة من الأرض من بقعاتها حسب دورانها حول نفسه بقدرة الله تعالى حتى تقوم الساعة فتوقفت وسكت؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: لا تعارض بين نزوله تعالى إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من كل ليلة - مع اختلاف الأقطار - وبين استوائه عز وجل على العرش؛ لأنه سبحانه لا يشبه خلقه في شيء من صفاته، ففي الإمكان أن ينزل كما
__________
(1) حديث النزول أخرجه الإمام أحمد 2 \ 419و 504، والبخاري برقم 1145، ومسلم برقم 758، وأبو داود برقم 4733، 3493، وابن ماجه برقم 1366، والدارمي في السنن برقم 1491.
(2) سورة طه الآية 5(39/96)
يشاء نزولا يليق بجلاله في ثلث الليل الأخير بالنسبة إلى كل قطر، ولا ينافي ذلك علوه واستواءه على العرش، لأننا في ذلك لا نعلم كيفية النزول ولا كيفية الاستواء، بل ذلك مختص به سبحانه، بخلاف المخلوق فإنه يستحيل في حقه أن ينزل في مكان ويوجد بمكان آخر في تلك اللحظة كما هو معلوم، إلا الله - عز وجل - فهو على كل شيء قدير، ولا يقاس ولا يمثل بهم؛ لقوله عز وجل: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} (1) وقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) ومما ذكرناه يتضح لك أنه لا تعارض بين نزوله واستوائه، وأن اختلاف الأقطار لا يؤثر في ذلك، وفقنا الله وإياك لما فيه رضاه، وفقهنا في دينه وبصرنا بالحق إنه مجيب الدعاء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النحل الآية 74
(2) سورة الشورى الآية 11(39/97)
السؤال الرابع من الفتوى رقم 6915
س: سؤالي في خطابي السابق عن كلمة " الموجود " لم يكن استفهاما عن وجود الله، فأنا أعلم علم اليقين أن الله هو واجب الوجود بذاته، ووجود الله قبل والآن وبعد؛ ثابت بالنقل وبالعقل ولا يماري في ذلك إلا ملحد دهري، لذلك تعجبت عندما وجدت أن الرد على سؤالي انصبت أدلته جمعاء على إثبات وجود الله، ففهمت أن السؤال أخذ على غير مراده، لذلك رأيت أن أتوسع قليلا في طريقة عرض السؤال هذه المرة حتى يتضح بإذن الله تعالى. . من المعلوم أنه لا يصف الله أعلم بالله من الله {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (1) ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (2) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3)
__________
(1) سورة البقرة الآية 140
(2) سورة النجم الآية 3
(3) سورة النجم الآية 4(39/97)
فيجب على كل مؤمن أن لا يصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولو نظرنا إلى أسماء الله وصفاته لوجدنا لفظ "الواجد"، فإذا ما بحثنا في كلمة (الموجود) لم نجدها في الأسماء والصفات، وإنما جرى استخدامها للتعبير عن وجود الله عز وجل، لكن التعبير عن وجود الله ليس بقاصر على استخدام لفظ الموجود بل يمكن التعبير عن وجود الله بأي اسم من أسمائه الثابتة في الحديث الشريف، فساعة أن أؤمن وأنطق بأن الله حي، أو بأنه هو الأول والآخر، فهذا إقرار مني باستمرارية وجود الله من أزل الآزال إلى أبد الآباد، ولكنك قلت بالنص في الخطاب السابق ردا على سؤالي: (الوجود نوعان: الأول: وجود ذاتي، وهو ما كان وجوده ثابتا له في نفسه لا مكسوبا له من غيره، وهذا هو وجود الله سبحانه) أ. هـ.
وعندما نظرت في الرد وجدت أنك قسمت لي الوجود نوعين، ولكن لم تقل الموجود نوعان، على الرغم من أن سؤالي كان يدور حول لفظ " الموجود " لا عن كلمة " الوجود "، ثم انتقلت بعد ذلك إلى قولك: (وعلى هذا يوصف الله تعالى بأنه " موجود " ويخبر بذلك في الكلام، فيقال: الله موجود، وليس اسما بل صفة. . وهذا هو محل سؤالي، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف الله تعالى بأنه الواجد في حديثه الشريف، ولم يصفه بأنه الموجود، فلا بد أن كلمة الموجود ليست بضرورية للتعبير عن وجود الله (دليل نقلي) كما سنجد في أسماء الله وصفاته كلمة الخالق التي تكاد تتطابق مع كلمة الواجد وهما من أسماء الله تعالى وصفاته، وكلمة الموجود أو المخلوق على وزن مفعول، ولا بد أن يكون لكل مفعول فاعل، ولكل مخلوق خالق، ولك موجود واجد، فهل بعد ذلك يصح لي أن أعبر عن وجود الله باستخدام لفظ (الموجود) الذي إن دل على شيء(39/98)
فإنما يدل على الحدوث بعد العدم، وهذا لا يحق إلا في حق المخلوقين؟ أفتونا مأجورين.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: أولا: الواجد ليس اسما من أسماء الله ولا صفة من صفاته، والحديث الذي ورد فيه تسميته بذلك ليس بصحيح.
ثانيا: إنما قسمنا الوجود إلى قسمين لأنك قلت في سؤالك: (إن كلمة " الموجود " على وزن مفعول، ولا بد لكل موجود من موجد كما أن لكل مفعول فاعلا) ، وهذا غير صحيح، بل الموجود قسمان: موجود لذاته لا يحتاج إلى من يوجده وليس مثل المخلوق، وموجود حادث يحتاج في وجوده إلى غيره يخرجه من العدم، فقسمنا الوجود إلى نوعين لتعرف من ذلك أن الموجود المشتق منه نوعان، وأن الذي يحتاج منهما إلى موجد إنما هو الموجود الحادث. وبذلك تعرف أننا فهمنا السؤال، وأجبناك عليه، لكنك لم تفهم الجواب. ونسأل الله لنا ولك التوفيق لفهم الصواب.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/99)
من الفتوى رقم 6932
س: هل لله صفة الهرولة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: نعم صفة الهرولة على نحو ما جاء في الحديث القدسي الشريف على ما يليق به، «قال تعالى: إذا تقرب إلي العبد شبرا تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت منه باعا، وإذا أتاني ماشيا أتيته هرولة (1) » ، رواه
__________
(1) الإمام أحمد 2 \ 251و413 و480 و483 و500 و509 و535 و 3 \ 40 و122 و127 و138 و272 و283 و5 \ 153 و169، والبخاري برقم 7405 و7505 و7537، ومسلم 2675، والترمذي برقم 3598، وابن ماجه برقم 3822.(39/99)
البخاري ومسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/100)
السؤال الأول من الفتوى رقم 3207
س: هل من وصف الله تعالى بالعقل المدبر للتقريب إلى أفهام العامة يكفر أو لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: إذا كان الواقع كما ذكر من وصفه الله بالعقل المدبر للتقريب إلى العامة فقد أساء بإطلاق ذلك على الله تعالى؛ لأن أسماء الله وصفاته توقيفية، ولم يطلق الله ذلك على نفسه اسما أو وصفا، ولم يطلقه عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكنه لا يكفر لعدم سوء قصده، ويكفيه في الإيضاح للعامة وغيرهم وصفه تعالى بكمال العلم وإحاطته، والحكمة البالغة في تقديره وتدبيره، في تشريعه وخلقه وتصريفه لجميع شئون عباده، فذلك يغنيه عن تسميته أو وصفه بما لم يسم ولم يصف به نفسه، مع ما في إطلاق العقل المدبر عليه سبحانه من مشابهة الفلاسفة في قولهم بالعقول العشرة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/100)
السؤال الأول من الفتوى رقم 3535 (1) .
س: ما حكم الصلاة خلف رجل يقول: إن الله في السماء والأرض، يحل الله في الأرض خوفا من تحديد مكانه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى في العلو فوق جميع خلقه، وأنه قد استوى على عرشه استواء يليق بجلاله، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (3) وقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (4) وقوله في حق عيسى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (5) وهو جل وعلا في السماء إله وفي الأرض إله، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (6) وهو مع خلقه بعلمه كما قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (7) فمن اعتقد أن الله - جل وعلا - بذاته في الأرض فهذا مخالف للكتاب والسنة والإجماع، وهو مذهب الحلولية الذي يقولون: إن الله حال في كل مكان، فمن قال بذلك عن جهل بين له الحكم، فإن أصر أو كان يقول ذلك لا عن جهل فهو كافر بالله، فلا تصح الصلاة خلفه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) انظر باب التوسل الفتوى 5441.
(2) سورة طه الآية 5
(3) سورة البقرة الآية 255
(4) سورة الأنعام الآية 18
(5) سورة النساء الآية 158
(6) سورة الزخرف الآية 84
(7) سورة الحديد الآية 4(39/101)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 5275
س: إثبات العلو لله تعالى (حديث الجارية) هل هذا الحديث صحيح واضح، الحديث (أن الله في السماء) علما أن الإمام الغزالي يقول:(39/101)
إن الله كائن حيث كان قبل أن يخلق الزمان والمكان، فالمرجو توضيح هذا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: حديث الجارية الذي فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سألها «أين الله) فقالت: في السماء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لسيدها: (اعتقها فإنها مؤمنة) (1) » حديث صحيح، وفيه دليل على إثبات العلو لله تعالى، وأنه فوق عباده بائن من خلقه كما دل على إثبات ذلك الكتاب والأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - وأئمة السلف - رحمهم الله - قبل أن يكون الشيخ الغزالي، فلا يعتبر رأيه ولا رأي من وافقه من العلماء، بل يجب اعتقاد ما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأئمة السلف، وننصحك بقراءة (العقيدة الواسطية) لابن تيمية، وكتاب (اجتماع الجيوش الإسلامية) لابن القيم، وكتاب (العلو للعلي الغفار) للذهبي، ففيها بيان الحق بأدلته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) ، مسند أحمد بن حنبل (5/447) ، موطأ مالك كتاب العتق والولاء (1511) .(39/102)
السؤال الثالث من الفتوى رقم 7405
س: قيل إن الله فوق عرشه، والعرش فوق كرسي فوق السماوات السبع والسماوات فوق الأرض، ونحن في الأرض، قيل: إنه أقرب إلينا من حبل الوريد، كيف يعبد الإنسان ربه حتى يجد الجنة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: يجب اعتقاد أن الله تعالى فوق عرشه؛ لقوله تعالى:(39/102)
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (2) وذلك بعلمه وبملائكته، وهو سبحانه فوق عرشه منزه عن مخالطة خلقه.
ثانيا: عبادة العبد ربه تكون صحيحة مقبولة يرضى بها الله عن العابد ويدخله بها الجنة بفضله تعالى إذا كانت خالصة لله ابتغي بها وجهه، ووافقت في ظاهرها ما شرعه في كتابه وبينه رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة ق الآية 16(39/103)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 6648
س: أين كانا العرش والكرسي فوق الأرض أم تحتها أم عليها؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: قول أهل السنة والجماعة أن العرش والكرسي فوق السماوات، والسماوات فوق الأرض محيطة بها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/103)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 5733
س: ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يضحك الله من رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة (1) » ؟ متفق عليه؟
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2826) ، صحيح مسلم الإمارة (1890) ، سنن النسائي الجهاد (3166) ، سنن ابن ماجه المقدمة (191) ، مسند أحمد بن حنبل (2/318) ، موطأ مالك الجهاد (1000) .(39/103)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: لفظ الحديث: «يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد (1) » انتهى، وهو يدل على إثبات صفة الضحك لله تعالى كما يليق بجلاله وعظمته، لا يشابه خلقه في شيء كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الإمام البخاري برقم 2826، ومسلم برقم 1890، وابن خزيمة في التوحيد برقم 331 و335، ورقم 336.
(2) سورة الشورى الآية 11(39/104)
فتوى رقم 4106
س: لقد سمعت من إمام أحد المساجد حديثا في هذا الشهر عن فضل القرآن، وكان من ضمن حديثه قوله: إن القرآن صنعة الله. هذا ما قاله الشيخ، ومن خلال دراستي للتوحيد في المراحل الدراسية تعلمت بأن المعتزلة هم الذين قالوا بخلق القرآن، وأهل السنة والجماعة أبطلوا ودحضوا حجتهم، حيث إن مذهب أهل السنة والجماعة بالنسبة للقرآن أنه ليس بمخلوق، بل هو كلامه تعالى حقيقة، نزله من عنده على محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأنا لا أدري هل كان للشيخ مقصد آخر يرنو إليه عندما قال مقالته أما ماذا؟ فما رأيكم بذلك القول الذي قاله إمام ذلك المسجد، أرجو توضيح ذلك؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:(39/104)
ج: إذا كان الواقع كما ذكرت من أنك تعتقد أن القرآن كلام الله تكلم به حقيقة، ونزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن إمام المسجد قال: إن القرآن صنعه الله. فعقيدتك في كلام الله صحيحة، وهي موافقة لما قاله أهل السنة والجماعة، وأما قول إمام المسجد: إن القرآن صنعه الله، فغير صواب، لمخالفته لنصوص الكتاب والسنة وطريقة السلف في فهمهما، ولعلك تتصل به وتنبهه، فقد يكون ذلك منه خطأ لسانيا غير مقصود له، فيصلح قوله ويعدل لفظه فإن تبين بحديثك معه أنه يعتقد أن القرآن مخلوق وأصر على ذلك فأرشده إلى الحق إن استطعت، وإلا فأعطه كتاب (العقيدة الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، وكتاب (التدمرية) ، له أيضا وكتاب (شرح الطحاوية) للشيخ ابن أبي العز - رحمه الله -، أو أرشده إليها ليقرأها ويتعرف منها العقيدة الصحيحة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/105)
السؤال الثالث من الفتوى رقم 6525
س: كيف نزول القرآن، أهو كلام الله حقا، أم هو منزل في صورة وحي إلى الرسول، والرسول يقوم بدوره بإعطائه الألفاظ المناسبة، وإذا كان القرآن كلام الله حقا فهو يتكلم مثل الإنسان إذا، وإذا كان يتكلم مثل الإنسان فإننا أصبحنا نعبد شيئا يتكلم مثلنا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: القرآن كلام الله حقا لفظه ومعناه، تكلم به رب العالمين، وسمعه منه جبريل - عليه الصلاة والسلام -، وبلغه جبريل إلى محمد - عليهما الصلاة(39/105)
والسلام -، دون تغيير ولا تبديل، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (2) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (3) {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (4)
وقد تكفل الله تعالى بحفظه، وجمعه في قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - وبيانه له، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (5) وقال: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} (6) {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (7) {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (8) {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (9)
وليس كلامه مثل كلام الإنس أو الجن أو الملائكة، بل بصفة وكيفية مختصة به تعالى، لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه، ولا يشابه فيها خلقه كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (10) وكما أن ذاته تعالى لا تشبه الذوات فصفاته لا تشبه صفات أحد من المخلوقات، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الشعراء الآية 192
(2) سورة الشعراء الآية 193
(3) سورة الشعراء الآية 194
(4) سورة الشعراء الآية 195
(5) سورة الحجر الآية 9
(6) سورة القيامة الآية 16
(7) سورة القيامة الآية 17
(8) سورة القيامة الآية 18
(9) سورة القيامة الآية 19
(10) سورة الشورى الآية 11(39/106)
من الفتوى رقم 7635
س: يوجد هنا بعض الشباب يحلفون ويقسمون بالكلمات التالية (سبحان الذي عينه لا تنام) ، فهل هذا القسم جائز أم لا؟ حيث إن هؤلاء الأشخاص يربطون صفة النوم بالعين للخالق عز وجل، وسبحانه لم يخبرنا بذلك، والذي ورد في القرآن قوله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (1) .
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: قول: (سبحان الذي عينه لا تنام) أو (والله الذي عينه لا تنام)
__________
(1) سورة البقرة الآية 255(39/106)
جائز، فهو وصف كمال، وقد ورد في القرآن في سورة طه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (1) وهو سبحانه لا تأخذه سنة ولا نوم بنص القرآن، وقد جاء في السنة الصحيحة أنه «لا ينام ولا ينبغي له أن ينام (2) » مع العلم بأن هذه الجملة وهي (سبحان الذي عينه لا تنام) ليست بقسم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة طه الآية 39
(2) الإمام أحمد 4 \ 395 و401 و405، ومسلم برقم 179، وابن ماجه برقم 183، وابن خزيمة في كتاب التوحيد برقم 28 و31 و100 و101.(39/107)
فتوى رقم 4715
س: ما معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها (1) » ؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إذا أدى المسلم ما فرض عليه، ثم اجتهد في التقرب إلى الله تعالى بنوافل الطاعات واستمر على ذلك وسعه أحبه الله تعالى، وكان عونا له في كل ما يأتي ويذر، فإذا سمع كان مسددا من الله في سمعه فلا يسمع إلا الخير، ولا يقبل إلا الحق، وينزاح عنه الباطل، وإذا أبصر بعينه أو قلبه أبصر بنور من الله فكان في ذلك على هدى من الله وبصيرة نافذة بتأييد الله
__________
(1) الإمام البخاري برقم 6502، وأحمد مختصرا 6 \ 656، وعبد الرزاق في المصنف برقم 20301 مرسلا عن الحسن، وابن أبي شيبة برقم 17330 عن حسان بن عطية مرسلا، وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الأولياء، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر في تاريخه من حديث أنس بن مالك ما في الدر المنثور ص9 ج 6.(39/107)
وتوفيقه، فيرى الحق حقا والباطل باطلا، وإذا بطش بشيء بطش بقوة من الله فكان بطشه من بطش الله نصرة للحق، وإذا مشى كان مشيه في طاعة الله طلبا للعمل وجهادا في سبيل الله، وبالجملة كان عمله بجوارحه الظاهرة والباطنة بهداية من الله وقوة منه سبحانه.
وبهذا يتبين أنه ليس في الحديث دليل على حلول الله في خلقه أو اتحاده بأحد منهم، ويرشد إلى ذلك ما جاء في آخر الحديث من قوله تعالى: «ولئن استعاذ بي لأعيذنه (1) » ، وما جاء في بعض الروايات من قوله: «فبي يسمع وبي يبصر (2) » . . الخ، فإن ذلك إرشاد إلى المراد في أول الحديث نظير الحديث القدسي الآخر يقول الله تعالى: «عبدي مرضت فلم تعدني (3) » . . إلخ فكل منهما يشرح آخره أوله، لكن أرباب الهوى يتبعون ما تشابه من النصوص ويعرضون عن المحكم منها فضلوا سواء السبيل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6502) .
(2) صحيح البخاري الرقاق (6502) .
(3) مسلم برقم 2569، والبيهقي في الأسماء والصفات كما في الدر المنثور 5 \ 135.(39/108)
السؤال الأول من الفتوى رقم 5213
س: كيف الرد على القائلين: بأن (الله في كل مكان) - تعالى الله عن ذلك -؟ وما حكم قائلها؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: أولا: عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه بذاته، وهو ليس داخل العالم بل منفصل وبائن عنه، وهو مطلع على كل شيء لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (1)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54(39/108)
الآية، وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) وقال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} (2) وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} (3) الآية، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} (4) ومما يدل على علوه على خلقه نزول القرآن من عنده، والنزول لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (5) الآية، وقال تعالى: {حم} (6) {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (7) وقال تعالى: {حم} (8) {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (9) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على علو الله سبحانه وتعالى، وفي حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: «كانت لي جارية ترعى غنما لي بين أحد والجوانية فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، فصككتها صكة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله، أفلا أعتقها؟ قال: " ائتني بها" فأتيته بها، فقال لها: "أين الله؟ " قالت: في السماء، قال: "من أنا؟ " قالت: رسول الله. قال: "اعتقها فإنها مؤمنة (10) » أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم.
وفي الصحيحين حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحا ومساء (11) »
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة الفرقان الآية 59
(3) سورة السجدة الآية 4
(4) سورة هود الآية 7
(5) سورة المائدة الآية 48
(6) سورة غافر الآية 1
(7) سورة غافر الآية 2
(8) سورة فصلت الآية 1
(9) سورة فصلت الآية 2
(10) الإمام أحمد 5 \ 447، ومالك في الموطأ كتاب العتاقة 666، ومسلم برقم 537، وأبو داود برقم 3282، والنسائي في المجتبى 3 \ 15، وابن خزيمة في التوحيد برقم 178 و179 و180، وأورده ابن أبي عاصم في السنة 1 \ 215، واللالكائي في أصول أهل السنة 3 \ 392، والذهبي في العلو 81.
(11) أحمد 43 و73، والبخاري برقم 3344 و4351، ومسلم برقم 1064، وأبو داود 4764، والنسائي في المجتبى 8795.(39/109)
ثانيا: من اعتقد أن الله في كل مكان فهو من الحلولية، ويرد عليه بما تقدم من الأدلة على أن الله في جهة العلو، وأنه مستو على عرشه بائن من خلقه، فإن انقاد لما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع وإلا فهو كافر مرتد عن الإسلام.
وأما قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (1) فمعناه عند أهل السنة والجماعة أنه معهم بعلمه واطلاعه على أحوالهم، وأما قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} (2) فمعناه أنه سبحانه معبود أهل السماوات ومعبود أهل الأرض، وأما قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} (3) فمعناه أنه سبحانه إله أهل السماوات وإله أهل الأرض لا يعبد بحق سواه، وهذا هو الجمع بين الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب عند أهل الحق.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة الأنعام الآية 3
(3) سورة الزخرف الآية 84(39/110)
السؤال السابع من الفتوى رقم 6606
س: ما حكم من مات على التوحيد الأشعري قبل بلوغ توحيد الأسماء والصفات إليه ولم يسمعه من أحد ولا فهمه، وقد أقر بتوحيد الربوبية والألوهية، ولم ينبه عليه أحد فينكره، هل له عذر أم لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: أمره إلى الله سبحانه وتعالى؛ لأن الأشاعرة ليسوا كفارا وإنما أخطئوا في تأويلهم بعض الصفات.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(39/110)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/111)
السؤال الثالث من الفتوى رقم 10909
س: أنكر بعض الناس صلة كتاب (الإبانة) لأبي الحسن الأشعري وقال: إنه ليس من مصنفاته، فهل قال أحد من علماء المسلمين بمثل هذا القول؟ وما هي الأدلة للرد عليه؟ وأخيرا أرجو من فضيلتكم أن تزودونا ببعض الكتب المناسبة لتيسر لنا الدعوة إلى الله على هدى ونور من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: اشتهر بين العلماء قديما وحديثا نسبة كتاب " الإبانة " لأبي الحسن الأشعري، وقلده فيما فيه أتباعه، وخالفه جماعة من العلماء في بعض ما ذكره في الإبانة، ونقدوه ولم ينكروا نسبته إليه، والأصل البقاء على ما اشتهر من نسبة الكتاب إليه، فإذا كان لدى من نفى ذلك حجة فليذكرها لينظر فيها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/111)
السؤال الثاني عشر من الفتوى رقم 4264
س: بالنسبة للإمام النووي بعض الإخوة يقول: إنه أشعري في الأسماء والصفات، فهل يصح هذا؟ وما الدليل؟ وهل يصح التكلم في حق العلماء بهذه الصورة؟ ومنهم من قال: إن له كتابا يسمى (بستان(39/111)
العارفين) وهو صوفي فيه، فهل يصح هذا الكلام؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: له أغلاط في الصفات سلك فيها مسلك المؤولين وأخطأ في ذلك، فلا يقتدى به في ذلك، بل الواجب التمسك بقول أهل السنة وهو إثبات الأسماء والصفات الواردة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة المطهرة، والإيمان بذلك على الوجه اللائق بالله - جل وعلا - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل عملا بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) وما جاء في معناها من الآيات.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الشورى الآية 11(39/112)
فتوى رقم 6911
س: إني فتى عمري يقارب 16 عاما، كل الناس الذين يعيشون حولي مبهورين بشخصيتي، فقد كان لدي علم غزير في الدين وعلوم الدنيا، وكنت متدينا فجرفني التيار إلى جماعة من الصوفية يتزعمها شيخ صوفي يسمى محمد عيد الحسيني، في غضون شهر جعلني من طلابه لا أقول من طلابه بل أقول من خدامه؛ لأني كنت أمسح بيده على وجهي وأقبل يده وألبسه النعال، وكنت أتسابق مع الآخرين في من يلبس الشيخ النعال هذه الليلة، وفي نفس الفترة ازداد حبي للاطلاع على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، لأني كثيرا ما أسمع الشيخ يسبه ويكفره، ويقول: إنه من المشبهة، وعندما كنت أقرأ تلك الكتب لم أكن أصدق نفسي أن الكلام هناك مناقض لكلام سيدي الشيخ - رضي الله عنه وأرضاه -، إلا أني أحاول(39/112)
أن أقنع نفسي بأن الكتب مغشوشة كما يقول الشيخ، وكما أنه يقول: إن الوهابية جماعة خارجة عن الإسلام مثل المشبهة والخوارج والمعتزلة، وأيضا في تلك الفترة كنت أذهب لجماعة السلفية وأتناظر معهم وأستدل بأحاديث يأتي بها الشيخ تتضح لي بعد ذلك أنها موضوعة، وكانوا دائما يفحموني ويخبروني بأني قريبا سأترك الشيخ إذا الله أراني طريق الحق، وبقيت مع هذا الشيخ ما يقرب 6 أشهر قضيتها في حياة صوفية مشركة بالله والعياذ بالله، وفي كل درس كان يخبرنا عن أسياده، وعن كرامات الأولياء، وبعض كرامات منها علمه بالكشف، طبعا هو لا يتكلم عنها مباشرة إنما بطريق ملتوي، إلا أن اللبيب من الإشارة يفهم، وكنت مصدقه في كل ما يقول، حتى إن أصدقائي يحضرون لي أحاديث صحيحة مناقضة لكلامه، إلا أني أرفض وأخبرهم بأن الشيخ أعلم منهم.
ومرت الأيام، وفي إحدى الليالي وهي بالتحديد ليلة 15 شعبان 1401 هـ قال: يجب على كل واحد منكم أن يقلد الشيخ إذا كان واثقا به دون الاعتراض، والذي يريد الدليل فقد كان الصحابة ينفذون ما أمرهم به الله والرسول دون اعتراض، سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
فعندما سمعت هذا القول منه فأثلج صدري وجسمي، مع أني كنت أفصد عرقا في تلك الليلة الحارة، ومنذ ذلك الحين ابتدأ الشك يساورني في حقيقة هذا الشيخ، وبعد هذا بيومين أي 17 شعبان 1401 هـ سافرت إلى المدينة، وبعدها إلى مكة المكرمة معتمرا، وهناك تعرفت على شاب سعودي يسمى عبد العزيز الصالح الطويان من بريدة فأخبرته عن حقيقتي وعن الشيخ، وبعدها أحضر لي كتبا لكتاب ردوا على الصوفية، وكذلك أحضر لي كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، فازداد شكي بالشيخ إلى أن تركته بعد أن(39/113)
أعماني عن الحق، عماه الله عن الحق، سامحه الله، علما بأن هناك طلابا من عنده، أنا قد عرفتهم على الشيخ، وعندما صارحتهم بالحقيقة رفضوا وقال: بأني قد تجننت، والآن في كل يوم أتناظر مع أحد طلابهم بدون علم الشيخ طبعا، ومعي طالب عزيز علي أريد أن أرد عليه في عدة أمور أفحمني فيها إلا أنها قليلة في جانب ما أفحمته فيه، وهي:
1 - في الحديث يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أحد يسلم علي حتى يرد علي الله روحي فأرد عليه (1) » ، أرجو توضيح ذلك تفصيليا.
2 - يقول وهو كاذب - أي الطالب - نقلا عن شيخه وأنا أعلم هذا: بأن ابن تيمية جسم الله عز وجل، أرجو توضيح هذا أيضا لو تكرمتم.
3 - عن الأولياء، وعندي علم ولله الحمد بهذا كثير، إلا أنه قليل بجانب علمكم أدامكم الله وأبقاكم حماة للإسلام والمسلمين.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إن ما ذكره الطالب المناظر لك من أن شيخ الإسلام ابن تيمية مجسم بهتان على الشيخ - رحمه الله - وكذب عليه، وعقيدة الشيخ عقيدة سلف هذه الأمة؛ الإيمان بالله وبأسمائه وصفاته، ووصف الله بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وهذا واضح في رسائله ومؤلفاته كالعقيدة الواسطية والرسالة التدمرية وغيرهما، ولكن أهل البدع كالجهمية والمعتزلة يرمون من أثبت الصفات لله على الوجه اللائق به ويسمونه مجسما ومشبها، وهكذا الأشاعرة يرمون من خالفهم فيما تأولوه من الصفات بأنه مجسم، ونظرا إلى أن التجسيم لم يرد في النصوص نفيه ولا إثباته فلا يجوز للمسلم نفيه ولا إثباته، لأن الصفات توقيفية.
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (2041) ، مسند أحمد بن حنبل (2/527) .(39/114)
وأما حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند أبي داود: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام (1) » فسبق منا فتوى في معنى هذا الحديث رقم 4383 هذا نصها:
(س: في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - حيا في قبره الشريف بإعادة الروح في الجسد والبدن (العنصرية) بحياة دنيوية حسية أو حيا في أعلى عليين بحياة أخروية برزخية بلا تكليف، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين حضره الموت: «اللهم بالرفيق الأعلى (2) » ، وجسده المنور الآن كما وضع في قبر بلا روح، والروح في أعلى عليين، واتصال الروح بالبدن والجسد المعطر عند يوم القيامة كما قال الله تعالى: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} (3)
ج: إن نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره حياة برزخية يحصل بها التنعم في قبره بما أعده الله له من النعيم جزاء له على أعماله العظيمة الطيبة التي قام بها في دنياه - عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام -، ولم تعد إليه روحه ليصير حيا كما كان في دنياه، ولم تتصل به وهو في قبره اتصالا يجعله حيا كحياته يوم القيامة، بل هي حياة برزخية وسط بين حياته في الدنيا وحياته في الآخرة، وبذلك يعلم أنه قد مات كما مات غيره ممن سبقه من الأنبياء وغيرهم، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (4) وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (5) {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (6) وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (7) إلى أمثال ذلك من الآيات الدالة على أن الله قد توفاه إليه؛ ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - قد غسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه، ولو كان حيا حياته الدنيوية ما فعلوا به ما يفعل بغيره من الأموات.
ولأن فاطمة - رضي الله عنها - قد طلبت إرثها من أبيها - صلى الله عليه وسلم - لاعتقادها
__________
(1) سنن أبو داود المناسك (2041) ، مسند أحمد بن حنبل (2/527) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4437) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2444) ، سنن الترمذي الدعوات (3496) ، مسند أحمد بن حنبل (6/231) ، موطأ مالك الجنائز (562) .
(3) سورة التكوير الآية 7
(4) سورة الأنبياء الآية 34
(5) سورة الرحمن الآية 26
(6) سورة الرحمن الآية 27
(7) سورة الزمر الآية 30(39/115)
بموته ولم يخالفها في ذلك الاعتقاد أحد من الصحابة، بل أجابها أبو بكر - رضي الله عنه - بأن الأنبياء لا يورثون.
ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - قد اجتمعوا لاختيار خليفة للمسلمين يخلفه، وتم ذلك بعقد الخلافة لأبي بكر - رضي الله عنه -، ولو كان حيا كحياته في دنياه لما فعلوا ذلك، فهو إجماع منهم على موته.
ولأن الفتن والمشاكل لما كثرت في عهد عثمان وعلي - رضي الله عنهما - وقبل ذلك وبعده لم يذهبوا إلى قبره لاستشارته أو سؤاله في المخرج من تلك الفتن والمشاكل وطريقة حلها، ولو كان حيا كحياته في دنياه لما أهملوا ذلك وهم في ضرورة إلى من ينقذهم مما أحاط بهم من البلاء.
أما روحه فهي في أعلى عليين لكونه أفضل الخلق، وأعطاه الله الوسيلة وهي أعلى منزلة في الجنة - عليه الصلاة والسلام -.
س: هل يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - كل دعاء ونداء عند قبره الشريف أو صلوات خاصة حين يصلى عليه، كما في الحديث: «من صلى علي عند قبري سمعته» . . إلى آخر الحديث، أهذا الحديث صحيح أو ضعيف أو موضوع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
ج: الأصل أن الأموات عموما لا يسمعون نداء الأحياء من بني آدم ولا دعاءهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (1) ولم يثبت في الكتاب ولا في السنة الصحيحة ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع كل دعاء أو نداء من البشر حتى يكون ذلك خصوصية له، وإنما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه يبلغه صلاة وسلام من يصلي ويسلم عليه فقط سواء كان من يصلي عليه عند قبره أو بعيدا عنه كلاهما سواء في ذلك، لما ثبت عن علي بن الحسين بن علي - رضي الله عنهم - أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت
__________
(1) سورة فاطر الآية 22(39/116)
عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أخبركم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن تسليمكم علي يبلغني أينما كنتم (1) » .
أما حديث: «من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي بعيدا بلغته» ، فهو حديث ضعيف عند أهل العلم، وأما ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام (2) » ، فليس بصريح أنه يسمع سلام المسلم، بل يحتمل أنه يرد عليه إذا بلغته الملائكة ذلك، ولو فرضنا سماعه سلام المسلم لم يلزم منه أن يلحق به غيره من الدعاء والنداء.
س: نداء ودعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل حاجة، والاستعانة به في المصائب والنوائب من قريب - أعني عند قبره الشريف - أو من بعيد أشرك قبيح أم لا؟ ج: دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ونداؤه والاستعانة به بعد موته في قضاء الحاجات وكشف الكربات شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام، سواء كان ذلك عند قبره أم بعيدا عنه، كأن يقول: يا رسول الله اشفني، أو رد غائبي، أو نحو ذلك؛ لعموم قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) وقوله عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (4) وقوله عز وجل {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (5) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (6)
س: أي صلوات أفضل عند قبره الشريف أعني الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، أو اللهم صل على محمد وعلى آل محمد بصيغة الطلب،
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (780) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2877) ، سنن أبو داود المناسك (2042) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) .
(2) سنن أبو داود المناسك (2041) ، مسند أحمد بن حنبل (2/527) .
(3) سورة الجن الآية 18
(4) سورة المؤمنون الآية 117
(5) سورة فاطر الآية 13
(6) سورة فاطر الآية 14(39/117)
وهل ينظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرجل الذي يصلي عليه عند قبره الشريف، وهل أخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يده من قبره الشريف لأحد من الصحابة العظام أو الأولياء الكرام لجواب السلام؟ ج: (أ) - لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما نعلم صيغة معينة في الصلاة والسلام عليه عند قبره، فيجوز أن يقال عند زيارته: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله، فإن معناه الطلب والإنشاء، وإن كان اللفظ خبرا، ويجوز أن يصلي عليه بالصلاة الإبراهيمية فيقول: اللهم صل على محمد، والأفضل أن يسلم عليه بصيغة الخبر كما يسلم على بقية القبور؛ ولأن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان إذا زاره يقول: (السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه) ، ثم ينصرف.
(ب) - لم يثبت في كتاب ولا سنة صحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى من زار قبره، والأصل عدم الرؤية حتى يثبت ذلك بدليل من الكتاب أو السنة.
(جـ) - الأصل في الميت نبيا أو غيره أنه لا يتحرك في قبره بمد يد أو غيرها، فما قيل من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخرج يده لبعض من سلم عليه غير صحيح، بل هو وهم وخيال لا أساس له من الصحة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/118)
السؤال الأول من الفتوى رقم 5082
س: تعلمنا في المدارس أن مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته هو الإيمان بها من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وأن لا نصرف النصوص الواردة فيها عن ظواهرها، ولكننا بعد ذلك(39/118)
التقينا بأناس زعموا لنا أن هناك مدرستين في مذهب أهل السنة والجماعة، المدرسة الأولى مدرسة ابن تيمية وتلاميذه (رحمهم الله) .
والمدرسة الثانية: مدرسة الأشاعرة، والذي تعلمناه هو ما ذكره ابن تيمية وتلاميذه، أما بقية أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم فإنهم يرون أن لا مانع من تأويل صفات الله وأسمائه، إذا لم يتعارض هذا التأويل مع نص شرعي، ويحتجون لذلك بما قاله ابن الجوزي - رحمه الله - وغيره في هذا الباب، بل إن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل قد أول في بعض الصفات مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن (1) » ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» ، وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) وغير ذلك، والسؤال الآن: هل تقسيم أهل السنة والجماعة إلى طائفتين بهذا الشكل صحيح؟ وما هو رأيكم فيما ذكروه من جواز التأويل إذا لم يتعارض مع نص شرعي، وما هو موقفنا من العلماء الذين أولوا في الصفات، مثل ابن حجر والنووي وابن الجوزي وغيرهم، هل نعتبرهم من أئمة أهل السنة والجماعة أم ماذا؟ وهل نقول: إنهم أخطئوا في تأويلاتهم أم كانوا ضالين في ذلك؟ ومن المعروف أن الأشاعرة يؤولون جميع الصفات ما عدا صفات المعاني السبعة، فإذا وجد أحد العلماء يؤول صفتين أو ثلاثة هل يعتبر أشعريا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: دعوى أن الإمام أحمد أول بعض الصفات كحديث «قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن (3) » . .، وحديث «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» . . الخ. دعوى غير صحيحة، قال الإمام أحمد بن تيمية: " وأما ما حكاه أبو حامد الغزالي عن بعض الحنبلية أن أحمد
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2654) ، مسند أحمد بن حنبل (2/168) .
(2) سورة الحديد الآية 4
(3) مسند أحمد بن حنبل (6/251) .(39/119)
لم يتأول إلا ثلاثة أشياء: الحجر الأسود يمين الله في الأرض وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن وإني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن فهذه حكاية كذب على أحمد لم ينقلها أحد عنه بإسناد، ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه، وهذا الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لا يعرف لا علمه بما قال ولا صدقه فيما قال) أهـ. من ص398 من ج5 من مجموع الفتاوى.
وبيان ذلك أن للتأويل ثلاثة معان:
الأول: مآل الشيء وحقيقته التي يئول إليها كما في قوله تعالى عن يوسف - عليه السلام -: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} (1) أي حقيقتها التي آلت إليها وقوعا، وليس هذا مقصودا في النصوص المذكورة في السؤال.
الثاني: التأويل بمعنى صرف الكلام عن معناه الظاهر المتبادر منه إلى معنى خفي بعيد لقرينة، وهذا المعنى هو المصطلح عليه عند علماء الكلام وأصول الفقه، وليس متحققا في النصوص المذكورة في السؤال، فإن ظاهرها مراد لم تصرف عنه؛ لأنه حق، كما سيأتي شرحه في المعنى الأخير للتأويل.
الثالث: التأويل بمعنى التفسير، وهو شرح معنى الكلام بما يدل عليه ظاهره ويبادر إلى ذهن سامعه الخبير بلغة العرب وهو المقصود هنا، فإن جملة «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» ليس ظاهرها أن الحجر صفة لله، وأنه يمينه حتى يصرف عنه، بل معناه الظاهر منه أنه كيمينه، بدليل بقية الأثر وهو جملة: «فمن صافحه فكأنما صافح الله، ومن قبله فكأنما قبل يمين الله» ، فمن ضم أول الأثر إلى آخره تبين له أن ظاهره مراد لم يصرف عنه وأنه حق، وهذا ما يقوله أئمة السلف كالإمام أحمد وغيره
__________
(1) سورة يوسف الآية 100(39/120)
منهم، وهو تأويل بمعنى التفسير، لا بمعنى صرف الكلام عن ظاهره، كما زعمه المتأخرون، علما بأن ما ذكر لم يصح حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هو أثر عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وكذا القول في حديث: «قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن (1) » ، فإن ظاهره لا يدل على مماسة ولا مداخلة، وإنما يدل ظاهرها على إثبات أصابع للرحمن حقيقة، وقلوب للعباد حقيقة، ويدل إسناد أحد ركني الجملة إلى الآخر على كمال قدرة الرحمن وكمال تصريفه لعباده، كما يقال: فلان وقف بين يدي الملك، أو في قبضة يد الملك. فإن ذلك لا يقتضي مماسة ولا مداخلة، وإنما يدل ظاهره على وجود شخص وملك له يدان، ويدل ما في الكلام من إسناد على حضور شخص عند الملك، وعلى تمكن الملك من تصريفه دون مماسة أو مداخلة، وكذا في قوله تعالى: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (2) وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (3) وأمثال ذلك.
ثانيا: تقسيم أهل السنة والجماعة إلى طائفتين بهذا الشكل غير صحيح، وبيانه: أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا أمة واحدة عقيدة وسياسة، حتى إذا كانت خلافة عثمان - رضي الله عنه - بدرت بوادر الاختلاف في السياسة دون العقيدة، فلما قتل وبايع عليا جماعة، وبايع معاوية آخرون - رضي الله عنهم -، وكان ما بينهم من حروب سياسية، خرجت عليهم طائفة فسميت الخوارج، ولم يختلفوا مع المسلمين في أصول الإيمان الستة، ولا في الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام، وإنما اختلفوا معهم في عقد الخلافة والتكفير بكبائر الذنوب والمسح على الرجلين في الوضوء وأمثال ذلك، ثم غلت طائفة من أصحاب علي فيه، حتى عبده منهم من عبده فسموا الشيعة، ثم افترق كل من الخوارج
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (6/251) .
(2) سورة الملك الآية 1
(3) سورة القمر الآية 14(39/121)
والشيعة فرقا، ثم أنكر جماعة القدر، وكان ذلك آخر عصر الصحابة - رضي الله عنهم - فسموا القدرية، ثم كان الجعد بن درهم، فكان أول من أنكر صفات الله وتأول ما جاء فيها من نصوص الآيات والأحاديث على غير معانيها، فقتله خالد القسري، وتبعه في إنكار ذلك وتأويله تلميذه الجهم بن صفوان، واشتهر بذلك، فنسبت إليه هذه المقالة الشنيعة، وعرف من قالوا بها بالجهمية، ثم ظهرت المعتزلة فتعبوا الجهمية في تأويل نصوص الصفات، وسموه تنزيها، وتبعوا القدرية في إنكار القدر، وسموه عدلا، وتبعوا الخوارج في الخروج على الولاة، وسموه الأمر بالمعروف. . . إلى غير ذلك من مقالاتهم.
وقد نشأ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري على مذهبهم، واعتقد مبادئهم ثم هداه الله إلى الحق فتاب من الاعتزال، ولزم طريق أهل السنة والجماعة، واجتهد في الرد على من خالفهم في أصول الإسلام رحمه الله، لكن بقيت فيه شوائب من مذهب المعتزلة كتأويل نصوص صفات الأفعال، وتأثر بقول جهم بن صفوان في أفعال العباد فقال بالجبر وسماه كسبا، وأمورا أخرى تتبين لمن قرأ كتابه (الإبانة) الذي ألفه آخر حياته، كما يتبين مما كتبه عنه أصحابه الذين هم أعرف به من غيرهم، وما كتبه عنه ابن تيمية في مؤلفاته - رحمهم الله -.
مما تقدم يتبين أن أهل السنة والجماعة حقا هم الذين اعتصموا بكتاب الله تعالى وسنة نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - في عقائدهم وسائر أصول دينهم، ولم يعارضوا نصوصهما بالعقل أو الهوى، وتمسكوا بما كان عليه الصحابة - رضي الله عنهم - من دعائم الإيمان وأركان الإسلام، فكانوا أئمة الهدى ومنار الحق ودعاة الخير والفلاح، كالحسن البصري وسعيد بن المسيب ومجاهد وأبي حنيفة ومالك والشافعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق والبخاري، ومن(39/122)
سلك سبيلهم والتزم نهجهم عقيدة واستدلالا.
أما هؤلاء الذين خرجوا عنهم في مسائل من أصول الدين ففيهم من السنة بقدر ما بقي لديهم مما وافقوا فيه الصحابة - رضي الله عنهم - وأئمة الهدى من مسائل أصول الإسلام، وفيهم من البدع والخطأ بقدر ما خالفوهم فيه من ذلك، قليلا كان أو كثيرا، وأقربهم إلى أهل السنة والجماعة أبو الحسن الأشعري، ومن تبعه عقيدة واستدلالا.
وبهذا يعرف أنه ليس لأهل السنة والجماعة مدرستان، إنما هي مدرسة واحدة يقوم بنصرتها والدعوة إليها من سلك طريقهم، وابن تيمية ممن قام بذلك ووقف حياته عليه، وليس هو الذي أنشأ هذه الطريقة، بل هو متبع لما كان عليه أئمة الهدى من الصحابة ومن تبعهم من علماء القرون الثلاثة التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخير، وكذلك مناظروه، إنما قاموا بنصر مذهب من قلدوه ممن انتسب إلى أهل السنة والجماعة كأبي الحسن الأشعري وأصحابه بعد أن رجع عن الاعتزال وسلك طريق أهل السنة إلا في قليل من المسائل، ولذا كان أقرب إلى طريقة أهل السنة والجماعة من سائر الطوائف.
ثالثا: من تأول من الأشعرية ونحوهم نصوص الأسماء والصفات إنما تأولها لمنافاتها الأدلة العقلية وبعض النصوص الشرعية في زعمه، وليس الأمر كذلك، فإنها ليس فيها ما ينافي العقل الصريح، وليس فيها ما ينافي النصوص، فإن نصوص الشرع في أسماء الله وصفاته يصدق بعضها بعضا، مع كثرتها في إثبات أسماء الله وصفاته على الحقيقة وتنزيهه سبحانه عن مشابهة خلقه.
رابعا: موقفنا من أبي بكر الباقلاني والبيهقي وأبي الفرج ابن الجوزي(39/123)
وأبي زكريا النووي وابن حجر وأمثالهم ممن تأول بعض صفات الله تعالى أو فوضوا في أصل معناه، أنهم في نظرنا من كبار علماء المسلمين الذين نفع الله الأمة بعلمهم، فرحمهم الله رحمة واسعة، وجزاهم عنا خير الجزاء، وأنهم من أهل السنة فيما وافقوا فيه الصحابة - رضي الله عنهم - وأئمة السلف في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخير، وأنهم أخطئوا فيما تأولوه من نصوص الصفات، وخالفوا فيه سلف الأمة وأئمة السنة - رحمهم الله -، سواء تأولوا الصفات الذاتية وصفات الأفعال أم بعض ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/124)
السؤال الأول من الفتوى رقم 7034
س: إنني متحير في العقيدة الإسلامية من ناحية الأسماء والصفات، لما أجده في المجتمع من الخصومات بين الشيخين (الفوزان - الصابوني) من الردود والرد عليها، فجزاكم الله خيرا أريد أن أعرف الأسماء والصفات، وما هو الخلاف؟ وكذلك ما هو طريقة أهل السنة والجماعة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: اقرأ كتب السلف في توحيد الأسماء والصفات، لتعرف منها أسماء الله تعالى وصفاته، وكل ما يجب اعتقاده من أمور التوحيد مثل: (مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) ، وكتاب (اجتماع الجيوش الإسلامية) كلاهما لابن القيم، وكتاب (العقيدة الواسطية) ، وكتاب (السنة) لعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، فإن السلف أعلم بالدين ممن بعدهم، وأقوى دليلا، وأهدى سبيلا، مع وضوح العبارة والبعد عن(39/124)
تحريف الكلم عن مواضعه، وأسأل الله أن يبصرك بالحق ويهديك سواء السبيل مع الإخلاص في القول والعمل، والزم طاعة الله وطاعة رسوله فذلك مع الدراسة والتعلم أقوى سبب في الوصول إلى الصواب والاطمئنان إليه، وزوال الحيرة ودحض الباطل، وأكثر من قراءة القرآن فإنه الأصل، والسنة بيان.
ثانيا: الخلاف في مسائل الأسماء والصفات بين السلف ومن تبعهم في قولهم وبين الخلف، فالسلف ومن تبعهم لا يؤولون نصوص الكتاب والسنة الدالة على أسماء الله، ولا يصرفونها عن حقيقتها اللائقة بجلال الله سبحانه وتعالى، بل يثبتون لله ما دلت عليه حقيقة، من غير تكييف ولا تشبيه له تعالى بخلقه، ومن غير تأويل ولا تعطيل، أما الخلف فإنهم يؤولون نصوص الكتاب والسنة المتعلقة بأسماء الله وصفاته، أو يؤولون بعضها، فمثلا قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (1) يفسره السلف بأن الله تعالى ارتفع وعلا بنفسه، فهو فوق العرش على ما يليق بجلاله تعالى، ويفوضون في كيفية استوائه عليه، أما الخلف فيؤولون الاستواء بالاستيلاء على العرش وما يحويه، والتسلط على ذلك، وينفون علوه على العرش حقيقة، فليس الله تعالى - في رأيهم - فوق العالم ولا تحته ولا في أي جهة من جهات العالم، بل هو في زعمهم في كل مكان، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وكذلك قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} (2) يثبت بها السلف أن لله يدين حقيقة على ما يليق به، ويثبتون كمال الكرم والسخاء من الخبر عنهما بأنهما مبسوطتان، ويقول الخلف: إن المراد بهما الكرم والسخاء والإنعام والإعطاء فليس لله يدان - في زعمهم -.
ولا شك أن الحق مع السلف ومن تبعهم في إثبات معاني النصوص
__________
(1) سورة طه الآية 5
(2) سورة المائدة الآية 64(39/125)
حقيقة، من غير تكييف ولا تمثيل له بخلقه ولا تأويل ولا تعطيل؛ لأن الأصل الحقيقة، ولا دليل على العدول عنها، فكان السلف بذلك أسعد بالدليل.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/126)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 7916 س: ما حكم التأويل حسب هوى النفس؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: حرام وقد يكون كفرا وقد يكون معصية.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/126)
السؤال الخامس من الفتوى رقم 7503
س: ما الذي يجب على المسلم علمه من العقيدة حتى يكون مسلما حقا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد
جـ: المسلمون يتفاوتون في مقدرتهم العقلية، وفي فراغهم ومشاغلهم الحيوية، وفي تيسر طرق التعلم وصعوبتها، فيجب على مسلم ما لا يجب على الآخر، وأقل ما يجب من ذلك على كل مكلف الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره، وفهم(39/126)
معنى ذلك إجمالا، والنطق بشهادة أن لا إلا الله وأن محمدا رسول الله، وفهم معناها ولو إجمالا، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة بالنسبة للأغنياء، وصوم رمضان وحج البيت الحرام لمن استطاع إليه سبيلا، ثم معرفة حكم ما يبتلى به من النوازل؛ ليقدم على ما يجوز منها ويجتنب ما لا يجوز منها، مع الحذر من كل ما حرم الله على عباده، وأكثر من تلاوة القرآن الكريم مع قراءة بعض الكتب السلفية: (شرح الطحاوية) لابن أبي العز، و (زاد المعاد) لابن القيم، ونحوها لتزداد علما في ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/127)
السؤال الأول من الفتوى رقم 8008
س: قضية الألوهية وما يعنى بشهادة لا إله إلا الله، فالمطلع على كتب بعض الأئمة من سلفنا الصالح مثل كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، مجموعة التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، ومعارج القبول في شرح سلم الوصول للشيخ حافظ حكمي، وغيرهم - يجد الآتي: أولا: في فتح المجيد قال الشيخ - رحمه الله - في معنى لا إله إلا الله نقلا عن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: أنه لم يجعل التلفظ بها وحده كافيا، بل لا بد من العلم، بل لا بد من التلفظ والعلم والعمل، ولم يجعل ذلك كافيا، بل لا بد من الكفر بما يعبد من دون الله، وذلك عند شرحه لحديث مسلم رحمه الله: «من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله(39/127)
ودمه (1) » . رواه مسلم. وذلك في الحين الذي نجد في كتاب (دعاة لا قضاة) أن الرجل يركز على مفهوم الشهادة باللفظ دون ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وغيره، وكذا المطلع على أقوال سلفنا الصالح من أن الإيمان قول وعمل يحتار عندما يجد في أقوال معاصرينا أنه القول دون العمل.
وعندما قال السلف في عناصر الإيمان الثلاثة: قول باللسان، وعمل بالأركان، وتصديق بالجنان، يجد في ذلك أيضا حيرة، أفتونا في الحق من هذا بعدما علمتهم ما سقناه.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الصواب في ذلك: قول أهل السنة والجماعة، أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وتصديق بالجنان، ولا يكتفى في ذلك بالنطق باللسان إلا في إجراء أحكام الدنيا من تغسيله إذا مات وتكفينه ودفنه في مقابر المسلمين، ونحو ذلك من أحكام الدنيا إذا لم يعلم منه ما يقتضي كفره، وأما شهادة أن لا إله إلا الله فمعناها (لا معبود حق إلا الله) ولا يكفي مجرد القول، بل لا بد من الإيمان بالمعنى والعمل بالمقتضى، كما قال الله سبحانه في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (2) وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) انظر فتح المجيد ص9 (مكتبة الرياض الحديثة)
(2) سورة الحج الآية 62
(3) سورة البينة الآية 5(39/128)
السؤال الثاني والرابع من الفتوى رقم 8943
س2: ما أنواع العقائد المطلوب من المسلم الإيمان بها؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: هي أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومره، على ما بينه الله في كتابه، وبينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته، مع الالتزام بأركان الإسلام الخمسة والإيمان بها، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا ر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والإيمان بأن الله سبحانه هو المستحق للعبادة دون سواه، وهذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله، معناها: لا معبود حق إلا الله، كما قال تعالى في سورة الحج: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1) مع الإيمان بأسماء الله سبحانه وصفاته الواردة في القرآن العظيم والسنة الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإثباتها لله سبحانه على الوجه اللائق به، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2)
__________
(1) سورة الحج الآية 62
(2) سورة الشورى الآية 11(39/129)
س4: ما هو أفضل كتاب يبحث في التوحيد والعقائد الإسلامية وكيف الحصول على ذلك؟
جـ: أعظم كتاب وأفضل كتاب يوضح العقيدة الصحيحة هو كتاب الله عز وجل، ثم أحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن أحسن الكتب في ذلك كتاب (فتح المجيد) ، وكتاب (العقيدة الواسطية) ، وكتاب (العلو للعلي الغفار) ، وكتاب (التوسل والوسيلة) ، وكتاب (مختصر الصواعق المرسلة) ، وكتاب (تطهير الاعتقاد) ، و (شرح الطحاوية) .(39/129)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/130)
فتوى رقم 4323
س: أولا: أبدأ بسؤالي أن تنصحوني لأستفيد منكم والمثل هنا (العلم يأتي من أفواه الرجال) ، فمثلا أريد بأن يقوى إيماني.
ثانيا: أريد أن أتعلم ولكن الكتب في الجزائر مهجورة، إلا بعض الإخوان جزاهم الله خيرا بتعلمهم.
ثالثا: إني أعمل بناء، والناس الذين في المعمل ليس لهم عقيدة، وكلامهم سخيف، وليس كلامهم إلا فاحشة.
رابعا: أنا أمشي مع أخ ولكن عقيدته فاسدة، وليس كلامه إلا في إخواننا المؤمنين الصالحين، وأنا مهلك منه، وأرجو أن تعطوني دواء لهذا الداء.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: ننصحك بأن تقرأ القرآن كثيرا وتكثر من الاستماع لتلاوته وتتدبر معاني ما تقرأ وما تسمع منه بقدر استطاعتك، وما أشكل عليك فهمه فاسأل عنه أهل العلم ببلدك، أو مكاتبة غيرهم من أهل العلم من علماء السنة، وننصحك أيضا بالإكثار من ذكر الله بما ورد من الأذكار في الأحاديث الصحيحة، مثل: لا إله إلا الله، ومثل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ونحو ذلك، وارجع في ذلك إلى كتاب (الكلم الطيب) لابن تيمية، وكتاب (الوابل الصيب) لابن القيم،(39/130)
وكتاب (رياض الصالحين) ، وكتاب (الأذكار النووية) للنووي وأمثالها.
فإن ذكر الله يزداد به الإيمان وتطمئن به القلوب، قال الله تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1) وحافظ على الصلاة والصيام وسائر أركان الإسلام، مع رجاء رحمة الله والتوكل عليه في كل أمورك، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (2) {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (3) {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (4)
ثانيا: الكتب الإسلامية موجودة في كل دولة إسلامية بكثرة بالمكتبات الحكومية العامة، وللبيع بمكتبات الأهالي التجارية، ومن طلبها وجدها.
ونوصيك بمراجعة أهل العلم الشرعي عندك، لمعرفة ما يصلح لك من الكتب لتقرأ فيه بالمكتبات الحكومية، أو تستعيره للقراءة، أو تشتري ما تحتاجه من المكتبات التجارية، وتسأل أهل العلم عما أشكل، وليس لدينا مانع من إجابتك عما تسأل عنه من مسائل الشرع المطهر، ونسأل الله الثبات على الحق والله المستعان.
ثالثا ورابعا: عليك بمصاحبة الأخيار وبمجالسة الصالحين؛ لتستفيد منهم علما وخلقا، ويكونوا عونا لك على الطاعة، وإياك وقرناء السوء ومجالسة الأشرار، خشية أن يؤثروا عليك في أخلاقك أو يفتروا همتك ويضعفوا عزيمتك في أداء شعائر دينك والقيام بواجب أسرتك، أو يسيئوا سمعتك، وقد نصح النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بمجالسة الأخيار، وحذرهم من مجالسة الأشرار، وضرب المثل الكريم في ذلك فقال: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما أن تشتري منه أو يحذيك أو تجد ريحا طيبة، وكير
__________
(1) سورة الرعد الآية 28
(2) سورة الأنفال الآية 2
(3) سورة الأنفال الآية 3
(4) سورة الأنفال الآية 4(39/131)
الحداد يحرق ثيابك أو تجد منه ريحا خبيثة (1) » رواه البخاري عن أبي موسى - رضي الله عنه -.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 4 \ 204، و205، و 408، والبخاري برقم 5534، 2101، مسلم برقم 2628، وأبو داود برقم 2829، 4830، 4831.(39/132)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من ليس له شيخ
س: شائع لدى بعض الناس أن الذي ليس له شيخ شيخه الشيطان، فبماذا توجهونهم سماحة الشيخ؟
جـ: هذا غلط عامي وجهل من بعض الصوفية؛ ليرغبوا الناس في الاتصال بهم وتقليدهم في بدعهم وضلالاتهم، فإن الإنسان إذا تفقه في دينه بحضور الحلقات العلمية والدينية، أو بتدبر القرآن أو السنة، واستفاد من ذلك فلا يقال قد اجتهد في طلب العلم، بل يقال: حصل له خير كثير، وينبغي لطالب العلم الاتصال بالعلماء المعروفين بحسن العقيدة والسيرة يسألهم عما أشكل عليه؛ لأنه إذا كان لا يسأل أهل العلم قد يغلط كثيرا وتلتبس عليه الأمور، أما إذا حضر الحلقات العلمية وسمع الوعظ من أهل العلم فإنه بذلك يحصل له خير كثير وفوائد جمة وإن لم يكن له شيخ معين.
ولا شك أن الذي يحضر حلقات العلم ويسمع خطب الجمعة وخطب الأعياد والمحاضرات التي تعرض في المساجد - شيوخه كثيرون، وإن لم ينتسب إلى واحد معين يقلده ويتبع رأيه.(39/133)
الخوارج ليسوا أنصار علي
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الأستاذ ع. ع وفقه الله.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . وبعد:
فقد وصلني كتابك المتضمن إفادتك عن كتاب لأحد الشيوخ الإباضيين في الجزائر بعنوان (الخوارج هم أنصار علي كرم الله وجهه) بما جعلك تشك في كثير من الحقائق التي كنت تؤمن بها من قبل.
وعليه أفيدك بأن الخوارج ليسوا أنصار علي بل هم خصماؤه، وقد قاتلهم وقتل منهم جما غفيرا، وقد كفروه واستحلوا دمه - رضي الله عنه - حتى قتله ابن ملجم وهو منهم. . والخوارج طائفة خبيثة يكفرون المسلم بالمعصية، ويرون خلود العصاة من المسلمين في النار، وأنهم لا يخرجون منها كالكفار، وقد حذر منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبر أنهم «يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية (1) » .
أما أبو هريرة - رضي الله عنه - فهو عدل ثقة عند أهل السنة والجماعة كبقية الصحابة - رضي الله عنهم -، وهو من أحفظ الصحابة لأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكذبه عمر ولا غيره من الصحابة بل احتجوا بأحاديثه وعملوا بها، ومن ذلك تعلم أن صاحب الكتاب المذكور قد أخطأ خطأ عظيما وكذب على الصحابة - رضي الله عنهم - فلا يعول عليه ولا يعتمد على كتابه، بل يجب إتلافه إذا كان الواقع كما قلت أنت. أما فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد فهو ثقة معروف لدينا، وهو من علماء أهل السنة والجماعة.
__________
(1) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6932) .(39/134)
وأسأل الله سبحانه أن يوفق الجميع لما يرضيه، إنه سميع مجيب. .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(39/135)
الكافر ليس أخا للمسلم
س: يقول يسكن معي واحد مسيحي ويقول لي: أخي ونحن أخوة، ويأكل معنا ويشرب. هل يجوز هذا العمل أم لا؟
ج: الكافر ليس أخا للمسلم والله سبحانه يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (1) ، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم أخو المسلم (2) » ، فليس الكافر - يهوديا أو نصرانيا أو وثنيا أو مجوسيا أو شيوعيا أو غيرهم - أخا للمسلم، ولا يجوز اتخاذه صاحبا وصديقا، لكن إذا أكل معه بعض الأحيان من غير أن يتخذه صاحبا أو صديقا، إنما يقع ذلك في وليمة عامة أو وليمة عارضة فلا حرج في ذلك، أما اتخاذه صاحبا وجليسا وأكيلا فلا يجوز؛ لأن الله قطع بين المسلمين وبين الكفار الموالاة والمحبة، قال سبحانه في كتابه العظيم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (3) ، قال سبحانه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} (4) الآية، فالواجب على المسلم البراءة من أهل الشرك وبغضهم في الله، ولكن لا يؤذيهم ولا يضرهم ولا يتعدى عليهم بغير حق إذا لم يكونوا حربا لنا، لكن لا يتخذهم أصحابا ولا
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/68) .
(3) سورة الممتحنة الآية 4
(4) سورة المجادلة الآية 22(39/135)
إخوانا، ومتى صادف أنه أكل معهم في وليمة عامة أو طعام عارض من غير صحبة ولا موالاة ولا مودة فلا بأس. ويجب على المسلم أن يعامل الكفار إذا لم يكونوا حربا للمسلمين معاملة إسلامية بأداء الأمانة وعدم الغش والخيانة والكذب، وإذا جرى بينه وبينهم نزاع جادلهم بالتي هي أحسن وأنصفهم في الخصومة عملا بقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (1) ويشرع للمسلم دعوتهم إلى الخير ونصيحتهم والصبر على ذلك مع حسن الجوار وطيب الكلام؛ لقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) ، وقوله سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (3) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (4) » ، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. .
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 46
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة البقرة الآية 83
(4) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(39/136)
شاب يتوب ثم يعود إلى المعاصي فكيف العمل؟
س: أنا شاب في التاسعة عشرة من عمري، وقد أسرفت على نفسي في المعاصي كثيرا حتى أنني لا أصلي في المسجد، ولم أصم رمضان كاملا في حياتي، وأعمل أعمالا قبيحة أخرى، وكثيرا ما عاهدت نفسي على التوبة ولكني أعود للمعصية، وأنا أصاحب شبابا في حارتنا ليسوا مستقيمين تماما، كما أن أصدقاء إخواني كثيرا ما يأتوننا في البيت وهم أيضا ليسوا صالحين، ويعلم الله أنني أسرفت على نفسي كثيرا في المعاصي وعملت أعمالا شنيعة، ولكنني كلما عزمت على التوبة أعود مرة ثانية كما كنت. .(39/136)
أرجو أن تدلوني على طريق يقربني إلى ربي، ويبعدني عن هذه الأعمال السيئة.
ج: يقول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) أجمع العلماء أن هذه الآية الكريمة نزلت في شأن التائبين، فمن تاب من ذنوبه توبة نصوحا غفر الله له ذنوبه جميعا لهذه الآية الكريمة، ولقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (2) ، فعلق سبحانه تكفير السيئات ودخول الجنات في هذه الآية بالتوبة النصوح، وهي التي اشتملت على ترك الذنوب، والحذر منها، والندم على ما سلف منها، والعزم الصادق ألا يعود فيها، تعظيما لله سبحانه ورغبة في ثوابه وحذرا من عقابه. .
ومن شرائط التوبة النصوح: رد المظالم إلى أهلها أو تحللهم منها إذا كانت المعصية مظلمة في دم أو مال أو عرض، وإذا لم يتيسر استحلال أخيه من عرضه دعا له كثيرا، وذكره بأحسن أعماله التي يعلمها عنه في المواضع التي اغتابه فيها، فإن الحسنات تكفر السيئات، وقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) فعلق عز وجل في هذه الآية الفلاح بالتوبة، فدل ذلك على أن التائب مفلح سعيد، وإذا اتبع التائب توبته بالإيمان والعمل الصالح محا الله سيئاته وأبدلها حسنات، كما قال سبحانه في سورة الفرقان لما ذكر الشرك والقتل بغير حق والزنا: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (4) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (5) {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (6) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 53
(2) سورة التحريم الآية 8
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة الفرقان الآية 68
(5) سورة الفرقان الآية 69
(6) سورة الفرقان الآية 70(39/137)
ومن أسباب التوبة الضراعة إلى الله سبحانه وسؤاله الهداية والتوفيق، وأن يمن عليك بالتوبة وهو القائل سبحانه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) ، وهو القائل عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (2) الآية، ومن أسباب التوبة أيضا والاستقامة عليها صحبة الأخيار، والتأسي بهم في أعمالهم الصالحة، والبعد عن صحبة الأشرار، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل (3) » ، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «مثل الجليس الصالح كصاحب المسك؛ إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ومثل الجليس السوء كنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا خبيثة (4) » .
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة البقرة الآية 186
(3) سنن الترمذي الزهد (2378) ، سنن أبو داود الأدب (4833) ، مسند أحمد بن حنبل (2/334) .
(4) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5534) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2628) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .(39/138)
حكم أخذ العلاج عند المتصوفة
س: بعض الناس يصيبهم الجنون ويذهب بهم إلى شيوخ المتصوفة ويعالجونهم بالبخور والمحو والحجاب، وبعد ذلك يصيرون بحالة متحسنة فما رأي الشرع في ذلك؟
ج: من أصابه جنون لا يذهب به إلى الخرافين، بل يذهب به إلى أهل الخير من القراء الطيبين والعارفين بعلاج هذه الأشياء ليقرءوا عليه وينفثوا عليه، ويستعملوا في القراءة ما يرجى من الله سبحانه أن يكون سببا في خروج الجن منه، والله جعل لكل شيء سببا، ولكل داء دواء، والغالب(39/138)
أن المؤمن التقي والعالم المعروف بالاستقامة وحسن العقيدة إذا قرأ عليه ونفث عليه وتعاهده بالقراءة والوعيد للجني وتحذيره فإنه يخرج بإذن الله، وبكل حال فليس للمسلم أن يذهب إلى الصوفية المخرفين المعروفين ببدعهم وضلالهم وخرافاتهم، ليس له أن يذهب إليهم ولا يتعالج عندهم؛ لئلا يضروه ويجروه إلى البدع والخرافات، فإن الصوفية في الغالب طريقتهم هي البدع والخرافات، وكثير منهم يعبد شيخه من دون الله، ويستغيث به، وينذر له، ويطلب منه المدد حيا وميتا، وأحوالهم خطيرة، والناجي منهم قليل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله لنا ولهم الهداية والبصيرة والتوفيق للطريقة السليمة التي هي طريقة اتباع الكتاب والسنة، وهم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - واتباعهم بإحسان، وهي الصراط المستقيم، وهي دين الله الذي بعث به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يجوز أيضا أن يعالج مجنون أو غيره من المرضى عند السحرة والمشعوذين والكهنة الذين يدعون علم الغيب ويعبدون غير الله سبحانه ويعالجون المرضى بغير ما أباح الله سبحانه وتعالى.(39/139)
حكم نقل حجارة مسجد إلى البيت
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ح. م. ر. وفقه الله لكل خير.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . بعده:
كتابكم الكريم المؤرخ 17 \ 10 \ 1392 وصل - وصلكم الله بهداه - وما تضمنه من السؤال عن حكم نقل حجارة مسجد قديم جدا، ومع استمرار الزمان قد كبسته السيول، ويحتمل أن يكون فيه قبر، فهل يصح(39/139)
لأحد من المسلمين نقل حجارته إلى بيته ويتخذها ملكا؟ انتهى السؤال.
الجواب: إذا خرب المسجد ونحوه بأسباب سيل أو غيره شرع لأهل المحلة التي فيها المسجد أن يعمروه ويقيموا الصلاة فيه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة (1) » ، ولقول عائشة - رضي الله عنها -: «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب (2) » أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه بإسناد حسن، والمراد بالدور القبائل والحارات ونحوها.
والأحاديث في فضل تعمير المساجد كثيرة، فإن كان في المحلة مسجد يغني عنه صرفت حجارته وأنقاضه في مسجد آخر في محلة أخرى أو بلدة أخرى محتاجة إلى ذلك، وعلى ولي الأمر في البلد التي فيها المسجد المذكور من قاض أو أمير أو شيخ قبيلة ونحوهم العناية بذلك، ونقل هذه الأنقاض إلى تعمير المساجد المحتاجة إليها، أو بيعها وصرفها في مصالح المسلمين، وليس لأحد من أهل البلد أن يأخذ شيئا منها إلا بإذن ولي الأمر، وإذا كان في المسجد قبر وجب أن ينبش وينقل ما فيه من عظام إن وجدت إلى مقبرة البلد، فيحفر لها وتدفن في المقبرة؛ لأنه لا يجوز شرعا وضع قبور في المساجد، ولا بناء المساجد عليها، لأن ذلك من وسائل الشرك والفتنة بالقبور، كما قد وقع ذلك في أكثر بلاد المسلمين من أزمان طويلة بأسباب الغلو في أصحاب القبور، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بنبش القبور التي كانت في محل مسجده - عليه الصلاة والسلام -، وثبت في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) » ، وفي صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها (4) » ، وفي
__________
(1) سنن الترمذي الصلاة (319) .
(2) سنن الترمذي الجمعة (594) ، سنن أبو داود الصلاة (455) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (759) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(4) صحيح مسلم الجنائز (972) ، سنن الترمذي الجنائز (1050) ، سنن النسائي القبلة (760) ، سنن أبو داود الجنائز (3229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/135) .(39/140)
صحيح مسلم أيضا عن جندب بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (1) » .
وفي الصحيحين عن أم سلمة وأم حبيبة - رضي الله عنها - أنهما ذكرتا للنبي - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتاها في الحبشة وما فيها من الصور فقال: «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، أو صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله (2) » ، وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه (3) » زاد الترمذي - رحمه الله - في روايته بإسناد صحيح: «وأن يكتب عليه (4) » . فهذه الأحاديث وما جاء في معناها كلها تدل على تحريم البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها، والصلاة فيها وإليها، وتجصيصها ونحو ذلك من أسباب الشرك بأربابها، ويلحق بذلك وضع الستور عليها، والكتابة عليها، وإراقة الأطياب عليها، وتبخيرها، ووضع الزهور عليها؛ لأن هذا كله من وسائل الغلو فيها والشرك بأهلها، فالواجب على جميع المسلمين الحذر من ذلك، والتحذير منه، ولا سيما ولاة الأمر، فإن الواجب عليهم أكبر، ومسئوليتهم أعظم؛ لأنهم أقدر من غيرهم على إزالة هذه المنكرات وغيرها، وبسبب تساهلهم وسكوت الكثيرين من المنسوبين إلى العلم كثرت هذه الشرور وانتشرت في أغلب البلاد الإسلامية، ووقع بسببها الشرك، والوقوع فيما وقعت فيه أهل الجاهلية الذين عبدوا اللات والعزى ومناة وغيرها، وقالوا كما ذكر الله عنهم في كتابه العظيم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (5) {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (6)
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (427) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .
(3) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(4) سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) .
(5) سورة يونس الآية 18
(6) سورة الزمر الآية 3(39/141)
وذكر أهل العلم أن القبر إذا وضع في مسجد وجب نبشه وإبعاده عن المسجد، وإن كان المسجد هو الذي حدث أخيرا بعد وجود القبر وجب هدم المسجد وإزالته؛ لأنه هو الذي حصل ببنائه المنكر، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حذر من بناء المساجد على القبور ولعن اليهود والنصارى على ذلك، ونهى أمته عن مشابهتهم، وقال لعلي - رضي الله عنه -: «لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته (1) » ، والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعا، ويمنحهم الفقه في دينه، ويصلح قادتهم ويجمع كلمتهم على التقوى، ويوفقهم للحكم بشريعته والحذر مما خالفها إنه جواد كريم. . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه ومن سلك سبيله إلى يوم الدين.
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/96) .(39/142)
حكم ذبح الأبقار أو الأغنام عند انتهاء بناء المسجد
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الابن المكرم أ. ب. ج. وفقه الله لكل خير آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . . أما بعد:
فقد اطلعت على كتابكم الكريم، وفهمت ما تضمنه من الأسئلة الواردة إليكم من أحد أصدقائكم في - سيراليون - وطلبكم الإجابة عليها، وإليكم نصها وجوابها:
الأول: أنه إذا انتهى بناء المسجد يزعم بعض الناس أنه لا يجوز إلقاء خطبة الجمعة ولا الصلاة المفروضة فيه حتى يشترى أبقار أو أغنام ثم يدعى الناس وتذبح ويطعم المجتمعون، وبدون هذا يزعمون أن إمام(39/142)
المسجد يموت قبل أجله إذا صلى فيه.
الجواب: هذا كله لا أصل له، واعتقاد خطأ محض، وينبغي الإنكار على من يعتقد ذلك أو يفعله؛ لأن هذا بدعة في الدين، وكل بدعة ضلالة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
السؤال الثاني: عن جواز ترجمة خطبة الجمعة بغير العربية.
الجواب: لا بأس بذلك وقد كتبنا جوابا لمن سأل مثل هذا السؤال أوضحنا فيه الأدلة على ذلك.
السؤال الثالث: عن الأشخاص الذي يجتمعون عند الصدقة التي يراد تفريقها عليهم ويضعون أيديهم عليها، ويدعو أحدهم للمتصدق، ويؤمن الباقون بأصوات مرتفعة.
والجواب: لا تنبغي هذه الكيفية لأنها بدعة، أما الدعاء للمتصدق من غير وضع الأيدي على المال المتصدق به، ومن دون اجتماع على رفع الأصوات على الكيفية المذكورة فهو مشروع؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه (2) » رواه أبو داود، والنسائي بإسناد صحيح.
وأسأل الله أن يمنح الجميع الفقه في دينه، والثبات عليه، واجتناب ما خالفه إنه جواد كريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) سنن النسائي الزكاة (2567) ، سنن أبو داود الزكاة (1672) ، مسند أحمد بن حنبل (2/99) .(39/143)
طريقة السمانية الصوفية وضم الذكر بضرب الدف وغيره
س: عندنا في السودان شيخ له أتباع كثيرون يتفانون في خدمته وطاعته والسفر إليه معتقدين أنه من أولياء الله، فيأخذون منه الطريقة السمانية(39/143)
الصوفية، وتوجد فيه قبة كبيرة لوالده يتبرك بها هؤلاء الأتباع، ويضعون فيها ما تجود به أنفسهم من النذور، ويضمون الذكر بضرب الدفوف والطبول والأشعار، وفي هذا العام أمرهم شيخهم بزيارة قبر شيخ آخر، فسافروا رجالا ونساء في مائة سيارة فكيف توجهونهم؟
ج: هذا منكر عظيم وشر كبير، فإن السفر إلى زيارة القبور منكر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1) » ، ثم إن التقرب لأصحاب القبور بالنذور أو الذبائح أو الصلوات أو بالدعاء والاستغاثة بهم كله شرك بالله - عز وجل -، فلا يجوز لمسلم أن يدعو صاحب قبر ولو كان عظيما كالرسل عليهم الصلاة والسلام، ولا يجوز أن يستغاث بهم كما لا يجوز أن يستغاث بالأصنام ولا بالأشجار ولا بالكواكب، أما لعبهم بالدفوف والطبول وتقربهم بذلك إلى الله سبحانه فهو من البدع المنكرة، وكثير من الصوفية يتعبدون بذلك فكله منكر وبدعة، وليس مما شرعه الله، وإنما يشرع الدف للنساء في العرس خاصة؛ إظهارا للنكاح وليعلم أنه نكاح وليس بسفاح، كذلك من البدع ووسائل الشرك البناء على القبور واتخاذها مساجد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تجصيص القبور والبناء عليها والقعود عليها، كما روى الإمام مسلم في الصحيح عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (2) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) » ، فيجب أن تكون القبور مكشوفة ليس عليها بناء، ولا يجوز التبرك بها ولا التمسح بها كما لا يجوز دعاء أهلها والاستغاثة
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189) ، صحيح مسلم الحج (1397) ، سنن النسائي المساجد (700) ، سنن أبو داود المناسك (2033) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) ، مسند أحمد بن حنبل (2/234) ، سنن الدارمي الصلاة (1421) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(39/144)
بهم، ولا النذر لهم، ولا الذبح لهم، فكل هذا من عمل الجاهلية، فالواجب على أهل الإسلام الحذر من ذلك، والواجب على أهل العلم أن ينصحوا هذا الشيخ، وأن يعلموه أن هذا العمل عمل باطل ومنكر، وأن ترغيبه للناس في الاستعانة بالأموات ودعوتهم من دون الله إن هذا من الشرك الأكبر والعياذ بالله، ويجب على المسلمين أن لا يقلدوه ولا يتبعوه ولا يغتروا به، فالعبادة حق الله وحده، وهو الذي يدعى ويرجى قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (2) ، فسماهم كفرة بدعوتهم غير الله من الجن والملائكة وأصحاب القبور والكواكب أو الأصنام، كل هؤلاء دعوتهم مع الله شرك أكبر، يقول الله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (3) يعني المشركين، وعلى جميع من يستطيع إنكار هذا المنكر أن يساهم في ذلك، وعلى الدولة إن كانت مسلمة أن تمنع ذلك، وأن تعلم الناس ما شرع الله لهم وأوجبه عليهم من أمر الدين حتى يزول هذا الشرك وهذا المنكر، نسأل الله الهداية للجميع.
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) سورة المؤمنون الآية 117
(3) سورة يونس الآية 106(39/145)
الطريقة التيجانية
س: عندنا ناس كثيرون متمسكون بالطريقة التيجانية، وأنا سمعت في برنامجكم نور على الدرب أن هذه الطريقة مبتدعة، ولا يجوز اتباعها، لكن أهلي عندهم ورد الشيخ أحمد التيجاني، وهي صلاة الفاتح؛(39/145)
ويقولون: إن صلاة الفاتح هي الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهل صلاة الفاتح هذه هي الصلاة على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ حيث يقولون إن من كان يقرأ صلاة الفاتح وتركها يعتبر كافرا، ويقولون: إذا ما كنت تتحمل هذا وتركتها فما عليك شيء، وإذا تحملتها وتركتها تعتبر كافرا، وقد قلت لوالدي: إن هذا لا يجوز. فقالا لي: أنت وهابي وشتماني، فنرجو التوجيه؟
الجواب: الطريقة التيجانية لا شك أنها طريقة مبتدعة، ولا يجوز لأهل الإسلام أن يتبعوا الطرق المبتدعة، لا التيجانية ولا غيرها، بل الواجب الاتباع والتمسك بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1) يعني قل يا محمد للناس إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم، ويقول - عز وجل -: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (2) ، ويقول تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) ويقول تبارك وتعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (4) والسبل: هي الطرق المحدثة من البدع والأهواء والشبهات والشهوات المحرمة، فالله أوجب علينا أن نتبع صراطه المستقيم، وهو ما دل عليه القرآن الكريم، وما دلت عليه سنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - الصحيحة الثابتة، هذا هو الطريق الذي يجب اتباعه.
أما الطريقة التيجانية أو الشاذلية أو القادرية أو غيرها من الطرق التي أحدثها الناس فلا يجوز اتباعها، إلا ما وافق شرع الله منها أو غيرها فيعمل به؛ لأنه وافق الشرع المطهر لا لأنه من الطريقة الفلانية أو
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة الأعراف الآية 3
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) سورة الأنعام الآية 153(39/146)
غيرها، للآيات السابقة، ولقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) ، وقوله - عز وجل -: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) ولقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » ، متفق على صحته من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » ، أخرجه مسلم في صحيحه، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الجمعة: «أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة (5) » ، أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وصلاة الفاتح هي الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكروا، ولكن صيغة لفظها لم ترو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قالوا فيها: " اللهم صل وسلم على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، والناصر الحق بالحق ". وهذا اللفظ لم ترد به الإجابة الصحيحة التي يبين فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - صفة الصلاة عليه لما سأله الصحابة عن ذلك، فالمشروع للأمة الإسلامية أن يصلوا عليه - عليه الصلاة والسلام - بالصيغة التي شرعها لهم وعلمهم إياها دون ما أحدثوه، من ذلك ما ثبت في الصحيحين عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أن الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا: «يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) سورة التوبة الآية 100
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(5) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(39/147)
كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد (1) » .
ومن ذلك ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم أيضا من حديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى أزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد (2) » . وفي حديث ثالث رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد (3) » .
فهذه الأحاديث وما جاء في معناها قد أوضحت صفة الصلاة عليه التي رضيها لأمته وأمرهم بها، أما صلاة الفاتح وإن صح معناها في الجملة فلا ينبغي الأخذ بها والعدول عما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيان صحة الصلاة عليه المأمور بها، مع أن كلمة: (الفاتح لما أغلق) فيها إجمال قد يفسر من بعض أهل الأهواء بمعنى غير صحيح والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (405) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3220) ، سنن النسائي السهو (1285) ، سنن أبو داود الصلاة (979) ، مسند أحمد بن حنبل (4/119) ، موطأ مالك النداء للصلاة (398) ، سنن الدارمي الصلاة (1343) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3369) ، صحيح مسلم الصلاة (407) ، سنن النسائي السهو (1294) ، سنن أبو داود الصلاة (979) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (905) ، مسند أحمد بن حنبل (5/424) ، موطأ مالك النداء للصلاة (397) .
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3370) ، صحيح مسلم الصلاة (406) ، سنن الترمذي الصلاة (483) ، سنن النسائي السهو (1288) ، سنن أبو داود الصلاة (976) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (904) ، مسند أحمد بن حنبل (4/244) ، سنن الدارمي الصلاة (1342) .(39/148)
حكم السلام على المتحدث بالهاتف إذا كان لا يعرف هل هو مسلم أم كافر
س: ما حكم إلقاء السلام على الشخص بالهاتف إذا كان لا يعرف هل هو مسلم أم لا؟ (1)
__________
(1) نشرت بالمجلة العربية في باب فاسألوا أهل الذكر.(39/148)
ج: حكمه حكم اللقاء؛ إذا عرفت أنه كافر فلا تبدأه بالسلام، أما إذا كنت لا تعرف فليس في ذلك محظور وبالله التوفيق.(39/149)
سؤال عائشة - رضي الله عنها - لدخول الكعبة والجواب عنه
س: لعل سماحتكم يذكر المسلمين بما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة في شأن الكعبة.
ج: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعائشة - رضي الله عنها -: «لولا أن قومك حديثوا عهد بكفر لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين: بابا للدخول، وبابا للخروج (1) » . فترك - صلى الله عليه وسلم - نقض الكعبة وإدخال حجر إسماعيل فيها خشية الفتنة، وهذا يدل على وجوب مراعاة المصالح العامة وتقديم المصلحة العليا - وهي تأليف القلوب وتثبيتها على الإسلام - على المصلحة التي هي أدنى منها وهي إعادة الكعبة على قواعد إبراهيم.
وثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال لعائشة - رضي الله عنها - لما طلبت دخول الكعبة: «صلي في الحجر فإنه من البيت (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1586) ، صحيح مسلم الحج (1333) ، سنن الترمذي الحج (875) ، سنن النسائي مناسك الحج (2902) ، سنن ابن ماجه المناسك (2955) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) ، موطأ مالك الحج (813) ، سنن الدارمي المناسك (1869) .
(2) سنن النسائي مناسك الحج (2911) .(39/149)
هذا منكر عظيم
س: قال شيخ لمريده الذي يريد أن يدرس في أوروبا وهو يودعه: يا بني، إذا سولت لك نفسك بالمعصية هناك فتذكر شيخك يصرف الله عنك هذا السوء وهذه الفاحشة، فهل هذا شرك بالله؟
ج: هذا منكر عظيم وشرك بالله - جل وعلا -، لأنه فزع إلى الشيخ لينقذه من هذا الشيء، والواجب أن يقول: فاذكر الله واسأل ربك العون(39/149)
والتوفيق واعتصم به، وأما أن يوصيه بأن يذكر شيخه فهذا من أخطاء غلاة الصوفية يوجهون مريديهم وتلاميذهم إلى أن يعبدوهم من دون الله، ويلجئوا إليهم، ويتوكلوا عليهم في قضاء الحاجات وتفريج الكروب، وهذا من الشرك الأكبر نعوذ بالله من ذلك.
فالواجب على هذا الشخص أن يتقي الله وأن يفزع إليه سبحانه فيما يهمه، ويسأله العون والتوفيق، لا إلى شيخه الذي علمه أن يفزع إليه، والله المستعان.(39/150)
تفصيل المقال على حديث كل أمر ذي بال
بقلم د. عبد الغفور بن عبد الحق بن حسين البلوشي
الحمد لله رب العالمين، الممتن علينا ببعثة خاتم الأنبياء والمرسلين، والمنزل عليه في أول آية من القرآن الكريم بأن يقرأ باسم ربه الذي خلق الخلق أجمعين، وأكد ذلك بافتتاح كتابه ببسم الله الرحمن الرحيم، ثم بالثناء بقوله: الحمد لله رب العالمين، وتأسى به أكثر المصنفين والمعلمين، وفي مقدمتهم رسول رب العالمين عليه أفضل الصلاة والسلام، وعلى آله وصحبه أجمعين.(39/151)
أما بعد:
فلما رأيت أن حديث: «كل أمر ذي بال لا يفتتح بحمد الله فهو أقطع (1) » الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - وكعب بن مالك - رضي الله عنه - من الأحاديث المهمة المشهورة، يذكره أكثر العلماء في كتبهم، سواء كتب الفقه، أو الأصول، أو الحديث، أو التفسير، حتى كتب اللغة، ويستشهدون به، ويفتتحون كتبهم بالبسملة والحمدلة أو بأحدهما، مستندين إلى هذا الحديث، راجين حصول البركة، وخائفين من بتر البركة وقلتها عند إهمالهما أو أحدهما.
ورأيت العمل الفعلي بالحديث واحتجاجهم به مستمرا من قديم الزمان، بجانب الاختلاف في حكمه بين العلماء، حيث صححه بعضهم، وحسنه بعضهم، وضعفه بعض آخر، كما اختلف الرواة في سياقه، وألفاظه، وفي وصله وإرساله، فمنهم: من رجح المرسل، ومنهم من رجح المسند، وحاول بعضهم الجمع والتوفيق بين ألفاظه المختلفة، وقام بعضهم بجمع طرقه ودراسته.
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) .(39/152)
اعتناء العلماء بهذا الحديث
ولأهمية هذا الحديث اعتنى بعض الحفاظ به، وأفردوه بالتأليف، فجمعوا طرقه وألفاظه، وتكلموا عليها في رسائل مفردة.
فممن أفرده في جزء مستقل: الإمام الحافظ شمس الدين أبو الخير محمد بن عبد الرحمن السخاوي المتوفى بالمدينة سنة 902هـ وسماه: "تحرير المقال على حديث كل أمر ذي بال "، وذكر ذلك السخاوي نفسه في كتابه: (الضوء اللامع) (1) . وفي (المقاصد الحسنة) (2) .
وكذا الحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911هـ في رسالة له.
كما أفرده محمد بن جعفر الكتاني في تأليف مستقل ركز على لفظ الابتداء بالبسملة وسماه: (الأقاويل المفصلة لبيان حديث الابتداء بالبسملة) (3) .
وكذا أحمد بن محمد بن الصديق الغماري في رسالة سماها: (الاستعاذة والحسبلة فيمن صحح حديث البسملة) (4) .
__________
(1) انظر 8 \ 18.
(2) انظر 322.
(3) من مطبوعات المطبعة العلمية بالمدينة المنورة عام 1339هـ.
(4) طبع في دار البصائر.(39/153)
وذكر في الرسالة المذكورة فقال: (كنت أفردت لحديث البسملة جزءا حكمت فيه بأنه من قسم الواهي. . . وسميته: (الصواعق المنزلة على من صحح حديث البسملة) .
وممن توسع في دراسته الحافظ أبو محمد عبد القادر - أو عبد القاهر- بن عبد الله الرهاوي الحنبلي في أول كتاب "الأربعين البلدانية المتباينة الأسانيد" (1) .
وتاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن تقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي الأنصاري السبكي المتوفى سنة 771هـ في طبقات الشافعية الكبرى (2) .
وقد فصل الكلام على الحديث رواية ودراية، وبذل قصارى جهده في تصحيح الحديث، والتوفيق بين ألفاظه المختلفة، وإزالة الاضطراب، والحقيقة أنه ليس هناك اضطراب حقيقي حسب اصطلاح أهل الفن، لا في المتن ولا في الإسناد كما سيأتي توضيحه.
وكنت في بادئ الأمر أبحث عن كتاب السخاوي المذكور لأحققه وأستفيد منه، ولكني لم أقف عليه، ثم سألت بعض العلماء عمن درس هذا الحديث دراسة تفصيلية فلم أصل إلى نتيجة حتمية، فمن هنا عزمت وتوكلت على الله في دراسة الحديث رواية ودراية، فجمعت طرقه بألفاظه المختلفة، وانتهيت منها حسب التصور الذي رسمت لدراستها.
__________
(1) انظر الطبقات الكبرى للسبكي (1 \ 3-19) .
(2) انظر الطبقات الكبرى للسبكي (1 \ 3-19) .(39/154)
وإذا بي في يوم من الأيام سألت في الحرم النبوي الشريف أحد العلماء الأفاضل بأني قمت بدراسة هذا الحديث، فأفادني بأن " الكتاني " ألف في هذا الموضوع كتابا، وقد طبع الكتاب قديما، وعندي المصور من المطبوع، فتفضل بالكتاب لأصور منه نسخة -جزاه الله خيرا- فصورت منه، وبدأت القراءة فيه، فرأيت بعض الفوائد والتحليلات من المؤلف، فنقلت ما رأيته مهما، وتبين لي من خلال قراءتي أني أضفت بعض الطرق وبعض الأقوال في حكم الحديث لم يقف عليها، ونهج منهج المتقدمين في الإحالة إلى المصادر بذكر المؤلف وكتابه بدون تحديد الجزء والصفحة.
كما أنه لم يرتب كما أردت ترتيبه، ولكل مؤلف منهجه الخاص، وكذا وقفت على كتاب الغماري بعد انتهائي من دراسة الحديث، ورأيت عنده الإيجاز.
علما بأن تركيز الكتابين على حديث البدء بالبسملة، وكان تركيزي على رواية الحمدلة، بجانب حرصي في الوصول إلى معرفة درجة الحديث، من خلال أقوال الأئمة، ومن واقع دراسة رجال الأسانيد، ومعرفة أحوالهم من قريب، ومن ثم إعطاء الحكم المقرب إلى الصواب، نتيجة لذلك.
كما أنني ذكرت جملة من الأحاديث التي تحث على ذكر اسم الله، أو حمد الله، في مواضع من أمور الحياة.
هذا وسأعرض بعد تخريج الحديث بألفاظه المختلفة أقوال الأئمة في درجته، مع دراسة رواته واختيار الراجح حسب(39/155)
ما توصلت إليه إن شاء الله تعالى، وأتبعه بعد الانتهاء من تخريجه بذكر بعض المؤلفين الذين استندوا إلى هذا الحديث، فافتتحوا كتبهم امتثالا له، واستحبوا البدء به، كذا أشير إلى خطبة الحاجة لما يستأنس بها أيضا في تقوية الحديث، وقد ذكر البغوي حديثنا المذكور في آخر باب خطبة النكاح وخطبة الحاجة؛ لما بينهما من الربط الوثيق (1)) .
كما سأذكر جملة من الروايات التي تحدثت على ذكر اسم الله، أو تأمر بالحمد، ومواضع ذكرهما، والآثار المترتبة على ذلك لمن يلتزم بهما إن شاء الله تعالى، ويمكن أن يستأنس بها في تقوية الحديث ولو بمعناه إن شاء الله تعالى.
وإلا لو فكرنا كيف ترجى البركة في أمر مهم ذي شأن لم يذكر اسم الله ولا الثناء عليه بالحمد، ولا افتتح بذكر الله أصلا؟ فالعمل الذي لا يفتتح بذكر الله، جدير ببتر البركة وذهابها عنه وحرمانه منها، إلا نسيانا.
فمن هنا نرى اهتمام علمائنا بالعمل به، وهذا يعطينا نوعا من الاستئناس في درجة الحديث؛ لأنه لا يمكن أن يستندوا على حديث لا يصلح الاحتجاج به أصلا ولا سيما المحدثون.
فالذي يظهر لي من خلال تعاملهم بالحديث، وأقوالهم في حكمه، أنه لا يقل عن درجة الحسن بلفظه المذكور، كما حسنه
__________
(1) انظر شرح السنة له (9 \ 49-51(39/156)
عدد من العلماء، بل وصححه بعضهم، ولا شك أنه صحيح بمعناه، حيث وردت أحاديث كثيرة تأمر بذكر اسم الله تعالى، أو بذكر الحمد والثناء عليه في مواطن كثيرة، نذكر أهمها ليتضح أنه لا غنى لنا عن اسم الله وذكر الثناء عليه في أمور حياتنا المهمة.
وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد، ومنه أستمد العون والثبات.(39/157)
ألفاظ الحديث كما ورد في طرقه كلها
وتدور ألفاظ الحديث الأساسية في أمور أربعة، أوردها حسب الترتيب الآتي:
1 - «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة علي فهو أبتر ممحوق من كل بركة» ، وفي رواية: «مسحوق من كل بركة» .
رواه الخليلي في الإرشاد، ومن طريقه الرهاوي، ومن طريق الرهاوي السبكي في طبقاته عن أبي هريرة رضي الله عنه به.
2 - «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ: بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر» .
رواه الخطيب في الجامع، ومن طريقه الرهاوي في الأربعين، والسبكي في طبقاته أيضا، عن أبي هريرة رضي الله عنه به.
3 - «كل كلام أو أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أبتر» رواه معمر في جامعه.
ولفظ إسحاق بن راهويه: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله عز وجل فهو أقطع» .
ورواه النسائي في عمل اليوم والليلة بلفظ: «كل كلام لا يبدأ في أوله بذكر الله عز وجل فهو أبتر» كلها عن أبي هريرة.
4 - «كل كلام لا يبدأ فيه بـ: الحمد لله، فهو أجذم (1) » وهذا لفظ أبي داود، وفي نسخة منه: «لا يبدأ فيه بحمد الله» .
وفي لفظ آخر: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4840) ، مسند أحمد بن حنبل (2/359) .(39/158)
أقطع» . هذا لفظ النسائي.
ولفظ ابن ماجه والبيهقي مثل لفظ النسائي، سوى قوله: "بحمد الله"، حيث جاء عنده "بالحمد"، و"أقطع" بدون "فهو" أقطع.
ولفظ البزار مثل لفظ ابن ماجه تماما.
ولفظ ابن حبان: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع» .
ومثله لفظ الدارقطني.
ولفظ إسحاق بن راهويه: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله أكتع» .
كلهم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ولفظ كعب بن مالك رضي الله عنه: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع أو أجذم» رواه الطبراني عنه، ومن طريقه الرهاوي في الأربعين، ومن طريق الرهاوي السبكي في الطبقات (1) .
فهذه هي الألفاظ الواردة في هذا الحديث، ويظهر لنا مما سقناه بعض المغايرات والفروق في بعض الكلمات والجمل، فتلاحظ أنه جاء: "كل أمر" و"كل كلام" و"كل حديث"، وورد "لم يبدأ"، و"لا يبدأ"
__________
(1) سيأتي تخريجها مفصلا قريبا إن شاء الله تعالى.(39/159)
و"يفتتح"، وورد "بحمد الله" أو "بالحمد" و "بذكر الله" و"بـ: بسم الله الرحمن الرحيم"، وجاء: "فهو أقطع"، و"فهو أبتر" و"فهو أجذم" و"فهو أكتع" بالكاف.
قلت: وأشار النووي إلى معظم هذه الألفاظ وقال: روينا هذه الألفاظ كلها في كتاب (الأربعين) للحافظ عبد القادر الرهاوي (1) .
قبل أن أدخل في تخريج الحديث وبيان درجته بألفاظه المختلفة، أقدم للقارئ الكريم شرح معاني الكلمات الغريبة؛ ليتبين لنا من خلال ذلك عدم التضاد، وعدم الاضطراب في هذه الكلمات، واتحاد معانيها، ولا يضر اختلاف مبانيها، فهي متقاربة المعنى، وإليك ذلك:
شرح الكلمات:
قال الخطابي: قوله: "أجذم" معناه: المنقطع الأبتر الذي لا نظام له، وفسره أبو عبيد فقال: الأجذم: مقطوع اليد، وقال ابن قتيبة: الأجذم بمعنى المجذوم. . انتهى كلام الخطابي (2) .
وقال النووي: "فهو أجذم"، وروي: " أقطع " وهما بمعنى: قليل البركة (3) .
وقال ابن الأثير: "وهو أجذم" أي: مقطوع اليد، من
__________
(1) انظر المجموع شرح المهذب 1 \ 73، والأذكار له أيضا \ 103.
(2) انظر شرح الخطابي على سنن أبي داود 5 \ 172.
(3) انظر الأذكار \ 103، 249(39/160)
الجذم: القطع. . . ومنه الحديث: «كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء (1) » أي: المقطوعة.
وقال أيضا: "فهو أبتر" أي: أقطع، والبتر: القطع (2) ، وفي القاموس (3) والصحاح (4) : الأبتر: مقطوع الذنب والذي لا عقب له، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر، وقال بقية بن الوليد: والأكتع: الذي ذهبت أصابعه وبقي كفه (5) .
وقال المناوي: الأبتر لغة ما كان من ذوات الذنب ولا ذنب له، والأقطع: ما قطعت يداه أو إحداهما، والأجذم: ما ذهبت أصابع كفيه.
أطلق كل منهما في الحديث على ما فقد البركة؛ تشبيها لها بما فقد ذنبه الذي به تكمل خلقته، أو بمن فقد يديه اللتين يعتمدهما في البطش ومحاولة التحصيل، أو بمن فقد أصابعه التي يتوصل بها إلى تحصيل ما يروم تحصيله (6) .
وكذا " لا يبدأ "، و" لا يفتتح " بمعنى واحد.
فتبين من تفسير الكلمات المذكورة أنها متقاربة المعنى إن لم
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1106) ، سنن أبو داود الأدب (4841) ، مسند أحمد بن حنبل (2/343) .
(2) انظر النهاية لابن الأثير 1 \ 93
(3) انظر 1 \ 366.
(4) انظر 2 \ 584.
(5) انظر تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي حديث رقم 1 ص10 بتحقيق د \ صالح الرفاعي.
(6) انظر الفتح السماوي في تخريج أحاديث البيضاوي 10 \ 99(39/161)
تكن متحدة المعنى تماما، وأن لا تعارض بينها ولا اضطراب؛ لإمكان الجمع بينها كما عرفت، ولعدم تعادل الطرق كما سيأتي، فقول الشيخ الألباني: (ومما يدلك على ضعفه - زيادة على ما تقدم - اضطرابه في متن الحديث، فهو تارة يقول: " أقطع "، وتارة: " أبتر "، وتارة: " أجذم "، وتارة بذكر: " الحمد " وآخر يقول: " بذكر الله ") (1) .
لعله لا يقصد الاضطراب الاصطلاحي عند المحدثين - والله أعلم - لأنه لا ينطبق على هذا الحديث - كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى - حقيقة حسب فهمي، وكذا قوله: (وجملة القول: أن الحديث ضعيف؛ لاضطراب الرواة فيه على الزهري، وكل من رواه عنه موصولا ضعيف، أو السند إليه ضعيف، والصحيح عنه مرسلا كما تقدم عن الدارقطني وغيره، والله أعلم) اهـ (2) .
قبل أن أدخل في تفصيل حكم الحديث وبيان أقوال العلماء في درجته أوضح مفهوم الاضطراب عند المحدثين: قال الحافظ ابن حجر: (ثم المخالفة إن كانت بزيادة راو فالمزيد في متصل الأسانيد، أو بإبداله ولا مرجح، فالمضطرب، أي بإبدال الراوي، ولا مرجح لإحدى الروايتين على الأخرى، فهذا هو المضطرب، وهو يقع في الإسناد غالبا، وقد يقع في المتن لكن قل
__________
(1) انظر إرواء الغليل 1 \ 13.
(2) انظر إرواء الغليل 1 \ 32.(39/162)
أن يحكم المحدث على الحديث بالاضطراب بالنسبة إلى الاختلاف في المتن دون الإسناد) (1) .
وقال أيضا: (زيادة راويهما - أي الصحيح والحسن - مقبولة ما لم تقع منافية لرواية من هو أوثق ممن لم يذكر تلك الزيادة؛ لأن الزيادة إما أن تكون لا تنافي بينها وبين رواية من لم يذكرها، فهذه تقبل مطلقا؛ لأنها في حكم المستقل الذي ينفرد به الثقة، ولا يرويه عن شيخه غيره، وإما أن تكون منافية بحيث يلزم من قبولها رد الرواية الأخرى، فهذه التي يقع الترجيح بينها وبين معارضها، فيقبل الراجح ويرد المرجوح) (2) .
وقال النووي: (إذا روى بعض الثقات الضابطين الحديث مرسلا وبعضهم متصلا، أو بعضهم موقوفا وبعضهم مرفوعا، أو وصله هو أو رفعه في وقت وأرسله أو وقفه في وقت، فالصحيح أن الحكم لمن وصله أو رفعه، سواء كان المخالف له مثله أو أكثر) (3) ، وهذا الذي ذهب إليه النووي فقد سبقه الخطيب والبزار إلى ترجيحه، وكذلك رجحه العراقي والسخاوي (4) .
ويتلخص لنا مما ذكر أن الاضطراب في الإسناد لا يتحقق إلا عند تعادل الروايتين اللتين لا يمكن ترجيح إحداهما على
__________
(1) انظر نزهة النظر شرح نخبة الفكر. \ 147
(2) نزهة النظر شرح نخبة الفكر \ 36، وقواعد التحديث القاسمي \ 110.
(3) انظر تقريب النووي مع شرحه تدريب الراوي (1 \ 221، 222) .
(4) انظر تقريب النووي مع شرحه تدريب الراوي، والكفاية \ 411، وفتح المغيث (1 \ 164) .(39/163)
الأخرى، ولا يمكن الجمع بينهما أيضا للتنافي بينهما، بحيث يلزم من قبول إحداهما رد الأخرى، وأن الاضطراب في المتن دون الإسناد قلما يحكم المحدثون عليه، وكما تبين لنا أن الوصل من أحد الرواة والإرسال من آخر ليس بينهما تناف، ولذا الحكم للوصل.
فلو ألقينا النظر على الحديث المذكور لنرى أنه يمكن الجمع بين ألفاظه كما تقدم شرح بعضها، وإليك تتمة الجمع لبقية الحديث على تقدير صحتها كلها، والحقيقة أنها لا تصح كلها، ونقل الحافظ ابن حجر عن النووي أنه قال: (ويحمل قوله في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع (1) » أي: بذكر الله كما جاء في رواية أخرى؛ فإنه روي على أوجه: بذكر الله، ببسم الله، بحمد الله. . .) (2) .
وقال الحافظ ابن حجر: (لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة: البسملة والشهادة والحمد؛ ذكر الله، وقد حصل بها - أي بالبسملة -عند افتتاح البخاري بها في أول الصحيح) (3) .
وقال المناوي: (إن المراد بالحمد ما هو أعم من لفظه، فلا
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) .
(2) انظر فتح الباري (8 \ 220) .
(3) فتح الباري (1 \ 8) .(39/164)
تعارض بين رواية أحمد والبسملة) (1) وكذا ذكر ابن علان في شرحه على الأذكار النووية (2) ، والشيخ زكريا الأنصاري في فتح الباقي شرحه على ألفية العراقي بنحوه (3) .
وجاء في رواية أحمد بذكر (أو) هكذا: «كل كلام أو أمر ذي بال (4) » ، مما يدل على المراد بأن كل أمر ذي شرف وشأن، أو كل حديث وكلام مهم؛ فالأمر أعم من الكلام؛ لأنه قد يكون فعلا، فلذا آثر روايته، قال ابن السبكي:
(والحق أن بينهما عموما وخصوصا من وجه الكلام، فالكلام قد يكون أمرا، وقد يكون نهيا، وقد يكون خبرا، والأمر قد يكون فعلا وقد يكون قولا) (5) .
فالمراد أن كل قول أو فعل ذي شأن ينبغي أن يبدأ بذكر الله تعالى الذي يتمثل بالحمد وغيره؛ لأن ذكر الله أعم من الحمد والبسملة، وجاء هذا اللفظ عند أحمد والدارقطني وإسحاق، وقال السخاوي: بل يقال أيضا هذا الحديث روي أيضا: " ببسم الله بدل بحمد الله، فكأنه أريد بالحمدلة والبسملة ما هو أعم منهما، وهو ذكر الله والثناء عليه على الجملة بصيغة الحمد أو غيرها) (6) .
__________
(1) انظر فيض القدير (5 \ 13) .
(2) انظر الفتوحات الربانية له (3 \ 288) .
(3) انظر (1 \ 6) .
(4) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) ، مسند أحمد بن حنبل (2/359) .
(5) انظر فيض القدير للمناوي (5 \ 13) .
(6) انظر فتح المغيث (1 \ 10)(39/165)
هذا على تقدير ثبوت هذه الألفاظ التي ذكرت، ولكن لم تثبت هذه الألفاظ كلها حتى نلجأ إلى الجمع، وإنما الثابت رواية الحمدلة أو ذكر الله، ولا تعارض بينهما كما تقدم، فرواية البدء بالبسملة رواية ضعيفة جدا وواهية ولا حاجة إلى محاولة الجمع بينها وبين رواية البدء بالحمدلة، وكما أن رواية زيادة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع الحمد لم تثبت، بل هي ضعيفة جدا، فلا تعارض رواية البدء بذكر الله أو بالحمد لله التي حسنها بعض العلماء، أو صححها بعض آخر كما سيأتي.
وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى هذا، بعد أن نقل عن النووي قوله: (فإنه روي -أي الحديث المذكور- على أوجه: بذكر الله، ببسم الله، بحمد الله) فقال: (وعلى تقدير صحته -أي: كما صححه أبو عوانة، وابن حبان كما نقله عنهما- فالرواية المشهورة فيه لفظ: حمد الله، وما عدا ذلك من الألفاظ التي ذكرها النووي وردت في بعض طرق الحديث بأسانيد واهية) (1) .
قلت: نعم وردت في بعض طرقها كما قال، وليس في جميعها - كما سيأتي في التخريج - بهذه الألفاظ، ومنها رواية: بذكر الله، ومن هنا رجح الخليلي رواية: بحمد الله، على رواية ببسم الله، فقال: (وحديث الأوزاعي عن قرة مشهور، رواه الكبار عن الأوزاعي: الوليد بن مسلم وأبو المغيرة وعبيد الله
__________
(1) انظر فتح الباري (8 \ 220) .(39/166)
بن موسى، وابن المبارك عن الأوزاعي، والمعول عليه، ولا يعتمد على رواية إسماعيل عن يونس) يعني التي فيها: " بسم الله". . . (1)
فإليك الآن تخريج الحديث بألفاظه المذكورة حسب الترتيب السابق.
تخريج: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة علي فهو أبتر، ممحوق من كل بركة» .
قال الخليلي: (وفي رواية: «مسحوق من كل بركة» .
ورواه شيخ ضعيف عن يونس بن يزيد عن الزهري، وهو: إسماعيل بن أبي زياد الشامي صاحب التفسير، سكن بغداد في خدمة المهدي) (2) .
ثم ساقه بإسناده من طريقه، فقال: (حدثنا محمد بن عمر بن خزر بن الفضل بن الموفق الزاهد بهمذان، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن الطيان الأصبهاني، حدثنا الحسين بن القاسم الزاهد الأصبهاني، حدثنا إسماعيل بن أبي زياد الشامي، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كل أمر لم يبدأ فيه بحمد الله والصلاة علي فهو أقطع أبتر ممحوق من كل بركة (3) » .
وحدثنا محمد بن إسحاق الكيساني وجماعة قالوا: حدثنا أبو
__________
(1) انظر الإرشاد له (1 \ 449) .
(2) انظر الإرشاد له (1 \ 448، 449) .
(3) انظر الإرشاد له (1 \ 449) .(39/167)
الحسن أحمد بن محمد بن ميمون الكاتب، قال: وجدت في كتاب جدي ميمون بن عون الكاتب: عن إسماعيل بن أبي زياد، عن يونس بن يزيد، عن الزهري مثله سواء.
قال الخليلي: (وحديث الأوزاعي عن قرة مشهور، رواه الكبار عن الأوزاعي: الوليد بن مسلم وأبو المغيرة وعبيد الله بن موسى وابن المبارك عن الأوزاعي، والمعول عليه، ولا يعتمد على رواية إسماعيل عن يونس) (1) .
وكذا أخرجه السبكي في طبقاته الكبرى (2) وقال السبكي: (لا يثبت) (3) .
وقال الشيخ الألباني: (موضوع، رواه السبكي في طبقات الشافعية الكبرى من طريق إسماعيل بن أبي زياد الشامي، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعا، وقال: لا يثبت) ثم عقب عليه الشيخ الألباني بقوله:
(قلت: بل هو موضوع بهذا السياق، وآفته إسماعيل هذا، قال الدارقطني: (متروك الحديث) (4) وقد روي الحديث من طريق أخرى عن الزهري بدون ذكر الصلاة، ودون قوله: "أبتر"، وهو ضعيف الإسناد كما حققته من الإرواء رقم 1، 2) (5) .
قلت: لا شك أن الحديث ضعيف جدا وواه بهذا السياق،
__________
(1) انظر الإرشاد له (1 \ 449) .
(2) انظر (1 \ 8) .
(3) انظر (1 \ 10) من الطبقات له
(4) انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة (2 \ 303) رقم (902) .
(5) انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة (2 \ 303) رقم (902) .(39/168)
وشدد الشيخ في قوله موضوع فيما يبدو لي والله أعلم، ولذا قال الخليلي: رواه شيخ ضعيف عن يونس بن يزيد عن الزهري، كما تقدم، وحديث الأوزاعي عن قرة مشهور. . . والمعول عليه، ولا يعتمد على رواية إسماعيل بن يونس (1) .
وقال الحافظ الرهاوي بعد أن أخرجه بهذه الزيادة: (غريب تفرد بذكر "الصلاة" فيه إسماعيل بن أبي زياد، وهو ضعيف جدا لا يعتبر بروايته ولا بزيادته) ، كذا نقله عنه المناوي في فيض القدير، (2) والزبيدي في الإتحاف، (3) ، والكتاني في الأقاويل المفصلة (4) ثم قال المناوي: (ومن ثم قال التاج السبكي: حديث غير ثابت، وقال القسطلاني: في إسناده ضعفاء ومجاهيل) (5) .
قلت: حكم الشيخ الألباني حفظه الله نفسه على هذا السياق في ضعيف الجامع الصغير بالضعف المجرد، حيث قال: (ضعيف) (6) .
بل العجب في كلام السخاوي رحمه الله، وهذا نصه: (وكذا أتى بها -أي الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم- المصنف مع الحمد، عملا بقوله في بعض طرق الحديث الماضي- أي:
__________
(1) انظر الإرشاد له (1 \ 448، 449) .
(2) انظر (5 \ 14) .
(3) انظر إتحاف السادة المتقين (3 \ 466-467) .
(4) انظر \ 30.
(5) انظر فيض القدير له (5 \ 14) .
(6) انظر (4 \ 148) حديث رقم (4223) .(39/169)
«كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة علي فهو أبتر مسحوق من كل بركة» ، وإن كان سنده ضعيفا؛ لأنه في الفضائل) (1) .
وتبعه في ذلك الشهاب الخفاجي في (نسيم الرياض شرح شفاء القاضي عياض) ، ونقل كلام السخاوي، وكذا تبعه عليه أيضا ابن حجر الهيتمي في شرحه للأربعين النووية قائلا -بعد ذكره الحديث- وهذا نصه: (وسنده ضعيف، ولكنه في الفضائل، وهي يعمل فيها بالضعيف) اهـ.
ورده محش المدابغي وقال: إطلاقه العمل به فيها ممنوع، بل شرطه أن لا يشتد ضعفه، وهذا الحديث في إسناده إسماعيل بن أبي زياد، وقد نقل الحافظ ابن حجر - كالذهبي والدارقطني - أنه متروك يضع الحديث. اهـ.
وكذا قول الحطاب: اتفق العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال.
أقول: هو مقيد بشروط كما هو معلوم عند أهله.
قلت: الراوي هنا ليس ضعيفا فقط، بل واه جدا، فحديثه إن لم يكن موضوعا كما حكم عليه الشيخ الألباني، فمثله لا يجوز العمل به بالاتفاق، ولا يجيز أحد من الأئمة بمثله العمل أبدا.
__________
(1) انظر فتح المغيث (1 \ 11) .(39/170)
إن الذين أجازوا العمل بالحديث الضعيف إنما أجازوه بشروط معروفة، منها: أن لا يكون الضعف شديدا، وقد فقد هذا الشرط في الحديث المذكور، حيث إن الضعف فيه شديد في جميع طرقه بهذا السياق.
وقال المناوي: (رواه ابن المديني وابن منده وغيرهما بأسانيد كلها مشحونة بالضعفاء والمجاهيل، وقال أيضا: الراوي عن إسماعيل بن أبي زياد مجهول) (1) والراوي عنه هو حسين الزاهد الأصبهاني، قال في الميزان: (2) (لين) .
وكذا الراوي عن حسين الزاهد، وهو إبراهيم بن محمد بن الحسن الطيان الأصبهاني: جاء في اللسان، وكذا في أصله الميزان: (أنه حدث بهمدان فأنكروا عليه واتهموه وأخرج، وقال ابن الجوزي في الموضوعات: قال بعض الحفاظ: لا تجوز الرواية عنه) (3) ، وهذا السياق مما أشار إليه الحافظ ابن حجر أنه روي بأسانيد واهية كما تقدم (4) .
وكذا أخرجه الديلمي في مسنده فقال: أخبرنا أحمد بن نصر الحافظ، أنا إبراهيم بن الصباح، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر، ثنا إبراهيم بن محمد الطيان، ثنا الحسين بن القاسم، فذكره بمثل
__________
(1) انظر فيض القدير (5 \ 14) .
(2) انظر (1 \ 546) .
(3) انظر لسان الميزان (1 \ 101) ، وأصله الميزان (1 \ 62) .
(4) انظر الفتح (8 \ 220) .(39/171)
إسناده المذكور عند الخليلي (1) .
وقال المناوي في التيسير: إسناده ضعيف (2) .
فالحديث بهذا السياق ضعيف جدا كما تقدم من أحوال الرواة، ولا يصلح العمل به، وهذا حاله حتى في الفضائل، لما عرفت من شدة ضعفه.
نعم يمكن أن نقول بأن العمل على هذا مبني على أدلة أخرى، وهي معروفة مشهورة، وليس هنا محل ذكرها كما أشار إلى ذلك الكتاني (3) ، وليس على هذا الحديث فحسب والله أعلم.
__________
(1) انظر الأقاويل المفصلة للكتاني \ 28) .
(2) انظر (2 \ 211) .
(3) انظر الأقاويل المفصلة \ 31.(39/172)
تخريج: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع» .
عزاه السيوطي في الجامع الصغير (1) للرهاوي أنه أخرجه في الأربعين، وعزاه صاحب منار السبيل (2) للخطيب وللحافظ عبد القادر الرهاوي أيضا.
وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (3) : (تنبيه: عزا المصنف الحديث للخطيب، وكذا فعل المناوي في الفيض، وزاد أنه في (تاريخه) ولم أره في
__________
(1) انظر الجامع الصغير (4 \ 147) .
(2) انظر (1 \ 5) .
(3) انظر (1 \ 30) .(39/172)
فهرسه) (1) قلت: زيادة المناوي (في تاريخه) اجتهاد منه، والحديث قد رواه الخطيب، كما عزاه مؤلف منار السبيل إليه في كتابه: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، باللفظ المذكور، وبلفظ آخر أيضا فيه، وفي كتابه الفقيه والمتفقه، وسيأتي تخريجه منه إن شاء الله تعالى.
وعزاه الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف (2) لأبي داود، والنسائي في عمل اليوم والليلة، ولابن ماجه بلفظ: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بسم الله فهو أبتر» ، قلت: ولعل هذا سهو منه؛ لأن لفظهم جميعا: «لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع (3) » كما سيأتي تخريجه، وكما تقدم في ذكر ألفاظ الحديث مفصلا.
وقال الحافظ ابن حجر: "لم أره بهذا اللفظ، والمشهور فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه وإليك تخريجه باللفظ المذكور.
قال الخطيب: -تحت العنوان الآتي- (ينصت المستملي الناس إن سمع منهم لغطا، فإذا أنصت الناس قال: بسم
__________
(1) انظر (1 \ 30) .
(2) انظر تخريج أحاديث الكشاف حديث رقم 1، تحقيق صالح الرفاعي.
(3) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) .(39/173)
الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وإنما استحببت له ذلك لما روي عن النبي أنه قال: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع» ، وروي «لم يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع» ) .
وقال الخطيب عقبه: (إذا استعمل الخبرين حاز الفضلين) ، ثم ساقه بإسناده الآتي فقال:
أنا محمد بن علي بن مخلد الوراق، ومحمد بن عبد العزيز بن جعفر البرذعي، قالا: أنا أحمد بن محمد بن عمران، نا محمد بن صالح البصري بها، نا عبيد بن عبد الواحد بن شريك، نا يعقوب بن كعب الأنطاكي، نا مبشر بن إسماعيل، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره (1) بلفظ.
«كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أقطع» وأخرجه السبكي من طريق الحافظ الرهاوي بسنده عن أحمد بن محمد بن عمران به (2) .
قلت: صنيع الخطيب في العنوان المذكور وقوله: وإنما استحببت له. . . يدل على صلاحية الحديث للعمل عنده، أو على أن ضعف الحديث ليس بشديد عنده، وإلا لما استحب ذلك، وإن كان استعماله صيغة التمريض يرجح الثاني، ويلمح بضعفه
__________
(1) انظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 2 (\ 69) تحقيق د. محمود الطحان.
(2) انظر طبقات الشافعية الكبرى (1 \ 6) .(39/174)
والله أعلم.
وقال الشيخ الألباني: (ضعيف جدا، وذلك بعد أن ساقه عن السبكي عن الحافظ الرهاوي بسنده، عن أحمد بن محمد بن عمران -كما تقدم- ثم قال: وهذا سند ضعيف جدا، آفته ابن عمران هذا، ويعرف بابن الجندي، وترجم له الخطيب في تاريخه (5 \ 77) وقال: كان يضعف في روايته، ويطعن عليه في مذهبه (يعني: التشيع) ، قال الأزهري: ليس بشيء) .
وقال الحافظ في اللسان: (1) (وأورد ابن الجوزي في الموضوعات في فضل علي حديثا بسند رجاله ثقات إلا الجندي، فقال: هذا موضوع، ولا يتعدى الجندي) اهـ.
قلت: والسبب في رد ابن الجوزي روايته ظاهر؛ لأن الرجل مطعون في مذهبه بالتشيع، والحديث الذي رواه يتعلق بمذهبه، فمثله يرد ولا يقبل على مذهب المحدثين الذين يقبلون رواية أهل البدع بشروط، وهو الراجح عندهم.
وإلا لم يتهم ابن عمران أحد من العلماء سوى ما ذكر عن ابن الجوزي في الحديث المتعلق بفضل علي، -وهو في تأييد مذهبه- أنه لا يتعدى ابن الجندي.
قلت: ونقل الخطيب عن العتيقي أنه قال في ابن عمران: (وكان يرمى بالتشيع، وكانت له أصول حسان) (2) .
__________
(1) انظر (1 \ 288) .
(2) انظر تاريخ بغداد (5 \ 78)(39/175)
ويؤيد ذلك استدلال الخطيب نفسه باستحبابية الافتتاح بالبسملة ثم الحمدلة؛ عملا بالحديثين كما تقدم، وكذا تليين الشيخ الألباني في حكمه على هذا السياق في ضعيف الجامع الصغير، (1) حيث قال: (ضعيف) فقط، وأحال إلى الإرواء، بينما قال الشيخ في الإرواء (2) ما نصه: (ومما سبق يتبين أن الحديث بهذا اللفظ ضعيف جدا، فلا تغتر بمن حسنه مع الذي بعده، فإنه خطأ بين، ولئن كان اللفظ الآتي يحتمل التحسين، فهذا ليس كذلك، ولما في سنده من الضعف الشديد كما رأيت) (3) .
قال الحافظ ابن حجر - كما نقله عنه ابن علان -: (في سنده ضعف وسقط بعض رواته) ، (4) وكذا نقل ابن علان عن الحافظ السخاوي أنه قال: (هذا حديث غريب أخرجه الخطيب هكذا في كتابه الجامع، ومن طريقه أخرجه الرهاوي في خطبة الأربعين له) (5) .
ورمز السيوطي بضعف حديث: البدء بالبسملة (6) .
وذكر الغماري في كتابه: " الاستعاذة والحسبلة ممن صحح حديث البسملة " (7) أنه: أفرد لحديث البسملة جزءا حكم فيه
__________
(1) انظر (4 \ 147) برقم 4222.
(2) انظر (1 \ 30) .
(3) انظر (1 \ 30) .
(4) انظر الفتوحات الربانية لابن علان (3 \ 290) .
(5) انظر الفتوحات الربانية لابن علان (3 \ 290) .
(6) انظر الجامع الصغير مع شرحه فيض القدير (5 \ 13)
(7) انظر ص7.(39/176)
بأنه من قسم الواهي تبعا لما حكم به الحافظ ابن حجر في الفتح والمحدث المفيد أبو العلاء العراقي الفاسي، وولده المحدث أبو زيد عبد الرحمن بن إدريس العراقي فيما كتباه على هذا الحديث: (وسميته: " الصواعق المنزلة على من صحح حديث البسملة ") ، ثم بعد ذلك جزمت بأن الحديث من قسم الموضوع المكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفردت هذا الجزء (1) لبيان ذلك حتى لا يغتر بكلام المتأخرين أصحاب الشروح والحواشي الجازم بعضهم بتواتره، وبعضهم بشهرته، وبعضهم بحسنه، وبعضهم بصحته مطلق الصحة أو على شرط البخاري (2) .
قلت: أما كونه ضعيفا واهيا فلا شك فيه، لما علمت من أن ابن عمران متهم، فالمقرر في علم المصطلح أن مثله لا يصلح للاعتبار، ولا يجوز العمل بحديث مثله في فضائل الأعمال أيضا، يبقى الإشكال هنا أن كثيرا من العلماء عزوا تحسين الحديث المذكور إلى ابن الصلاح والنووي والسبكي، فكيف ذلك منهم؟! (3) .
قلت: الجواب أن هذا العزو غير صحيح عنهم، فإن هؤلاء لم يحسنوا حديث البسملة، إنما الثابت عنهم تحسين حديث (الحمدلة) كما سيأتي، وقد وضح الغماري سبب وهم من عزا
__________
(1) يعني كتابه المذكور (الاستعاذة والحسبلة) .
(2) انظر ص7.
(3) انظر كتابه (الاستعاذة والحسبلة) 15 - 17، وانظر (الأقاويل المفصلة) للكتاني \ 41 - 42.(39/177)
التحسين إليهم ومنشأ الخطأ (1) .
أما تحسين السيوطي في (نواهد الأبكار) وهي حاشية على (تفسير البيضاوي) بعد ذكره حديث البسملة بإسناد الرهاوي والخطيب بقوله: (إسناده حسن) (2) ، فلعله يقصد أصل الحديث ليس خصوص لفظ البسملة، وهذا هو الذي يظهر لي؛ لأنه تقدم عنه تضعيفه لحديث البسملة، وإلا فهو تساهل منه، وكذلك قول المناوي في (التيسير شرح الجامع الصغير) : (3) (إسناده حسن) تساهل منه، أو أنه قلد من سبقه في هذا الحكم بدون التحقيق، بل ذكر الكتاني أن من بعض المتأخرين من جازف وحكم عليها بأنها متواترة، رأيت ذلك في عبارة له، وهو مقطوع بمجازفته، وقريب منه من قال: إنه حديث مشهور كاد من شهرته أن يبلغ حد التواتر، فإنه من المجازفة البينة أيضا، ويعلم ذلك من الاطلاع على طرق الحديث وكلام أهل الفن.
ومنهم من حكم بأنها صحيحة كالعلامة المحرر المحقق أبي العباس أحمد بن حجر الهيتمي المكي في شرحه للأربعين النووية، وللهمزية (4) .
فهذه الأقوال المذكورة في مرتبة الحديث بلفظه المذكور مخالف لما عليه منهج المحدثين، ولا تتفق بحال مع حقيقة اصطلاح
__________
(1) انظر (الاستعاذة والحسبلة) \ 15 - 17، وانظر (الأقاويل المفصلة) للكتاني \ 41 - 42.
(2) الاستعاذة والحسبلة \ 17.
(3) انظر (2 \ 211) .
(4) انظر الأقاويل المفصلة لبيان حال حديث الابتداء بالبسملة \ 40.(39/178)
أهل الفن؛ لأن مدار الحديث على ابن عمران، وقد تقدم بيان حاله بأنه متهم.
ومما يثير الإشكال أيضا استناد بعض الحفاظ وغيرهم على الحديث بلفظه المذكور، وذكره صريحا للبدء ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنهم الحافظ ابن كثير في تفسيره، وقبله الخطيب البغدادي، وبعده الحافظ ابن حجر نقلا عن النووي، والشيخ زكريا في شرحه: "فتح الباقي على ألفية العراقي " (1) وغيرهم كما سيأتي بيان ذلك في مبحث استناد الأئمة عليه في العمل به، فهو تساهل منهم، أو لعلهم اعتمدوا على تحسين العلماء لأصل الحديث، ولا سيما رواية "بذكر الله" حيث تشمل الجميع، فنظروا إلى دخوله في معنى الحديث السابق بذلك، رأوا ترقيته إلى رتبة الضعيف الذي يجوز العمل به في الفضائل في نظرهم بجانب الأدلة الأخرى، ويمكن أن يقال - كما ذكر الكتاني والغماري - بأن ابتداء المصنفين بالبسملة وعملهم بها - عند التعمق - ليس لمجرد هذه الرواية، بل للاقتداء بالكتب المنزلة عموما، وبالقرآن خصوصا؛ لأن الجميع مبدوء بها بإجماع العلماء، وللتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإن كتبه عليه الصلاة والسلام ورسائله إلى الملوك وغيرهم كانت مبدوءة بها كما ذكر الحافظ وغير واحد، وللعمل بما حكاه الله تعالى في القرآن عن سيدنا سليمان عليه السلام، وبالإجماع المنعقد من الأمة على ذلك، وذكر المتأخرين لرواية البسملة
__________
(1) انظر (1 \ 6) .(39/179)
وتوجيههم للابتداء الواقع من مصنفيهم بها إنما هو بحسب التبع لذلك لا بطريق الاستقلال، حتى يقال: إن العمل لم يقع إلا بها، وذلك لأنهم رأوها صحيحة المعنى، مخرجة في بعض كتب الأئمة دالة على العمل بما ليس من باب الأحكام، وإنما هو فضيلة من الفضائل، فتساهلوا في أمرها، بينما وجدوا في كلام بعض الحفاظ ما يوهم تحسينها حتى صرح بذلك جماعة من المتأخرين (1) .
وسيأتي ذكرها في آخر البحث إن شاء الله تعالى.
تخريج الحديث بلفظ "ذكر الله" حيث ورد: «كل حديث ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أبتر» .
أخرجه بهذا اللفظ معمر في جامعه، قال عبد الرزاق: قال معمر: أخبرني رجل من الأنصار رفع الحديث، قال: فذكر الحديث مثله (2) .
في إسناده رجل مبهم بجانب الإرسال أو الإعضال، ولكنه يتقوى بغيره، ويؤيده اللفظ الآتي عند أحمد وغيره، جاء عنده وعند غيره: "كل كلام. . . لم يبدأ بذكر الله. . . "، كما سيأتي تخريجه إن شاء الله تعالى.
وصرح ملا علي القاري في شرح المشكاة فقال: (جاء الابتداء بذكر الله في حديث رواه الرهاوي في أربعينه، وحسنه ابن الصلاح) (3) .
__________
(1) انظر الأقاويل المفصلة \ 73 - 74 ببعض تصرف، والاستعاذة والحسبلة له \ 20.
(2) انظر الجامع لمعمر في آخر المصنف لعبد الرزاق (11 \ 163) باب تشقيق الكلام.
(3) المرقاة شرح المشكاة، وكذا نقله عنه الكتاني في الأقاويل المفصلة \ 23(39/180)
تخريجه بلفظ: «كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر. أو قال: أقطع (1) » .
أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في مسنده قال: (حدثنا يحيى بن آدم، ثنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره به (2) .
وكذا أخرجه السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (3) بإسناده إلى أحمد به مثله، وعزاه الزيلعي إلى الإمام إسحاق بن راهويه، فقال: رواه في مسنده، ولفظه: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع» ، ولم يذكر إسناده (4) .
رجال الإسناد عند أحمد كلهم ثقات سوى قرة بن عبد الرحمن صدوق له مناكير، كما قال الحافظ ابن حجر (5) ، وهذا لعله في غير الزهري، وأما في الزهري فصدوق إن لم يكن ثقة، وقرة روى له مسلم في الشواهد، وصحح حديثه ابن حبان، والحاكم، وترجم له ابن حبان في الثقات (6) فقال: (أصله من المدينة سكن مصر) ، ثم ساق بإسناده عن أبي مسهر قال: سمعت يزيد بن السمط يقول: (أعلم الناس بالزهري قرة بن عبد الرحمن بن
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) ، مسند أحمد بن حنبل (2/359) .
(2) انظر (2 \ 359)
(3) انظر (1 \ 15-16) .
(4) انظر تخريج أحاديث الكشاف حديث رقم 1 منه.
(5) انظر التقريب \ 282.
(6) انظر (7 \ 342-343) .(39/181)
حيوئيل) .
قال أبو حاتم ابن حبان: (هذا الذي قاله يزيد بن السمط ليس بشيء يحكم به على الإطلاق، وكيف يكون قرة بن عبد الرحمن أعلم الناس بالزهري، وكل شيء روى عنه لا يكون ستين حديثا، بل أتقن الناس في الزهري مالك ومعمر والزبيدي ويونس وعقيل وابن عيينة، هؤلاء الستة أهل الحفظ والإتقان والضبط والمذاكرة، وبهم يعتبر حديث الزهري إذا خالف بعض أصحاب الزهري بعضا) (1) .
قلت: إنما نفى ابن حبان أن يكون قرة أتقن الناس في الزهري على الإطلاق، ولذا استدرك على قول يزيد بن السمط: بل أتقن الناس في الزهري مالك ومعمر. . . فلا شك أن هؤلاء الستة أتقن وأحفظ من قرة، وكذا ذكر السبكي أرجحية هؤلاء على قرة في الزهري، وقال: ولكن لا على الإطلاق، فقد يكون لقرة خصوصية زائدة بالزهري، وإلا فهذا الأوزاعي إمام أهل الشام كلامه يؤيد كلام يزيد بن السمط، ثم أنا لا أدعي أنه أرجح منهم في الزهري، وإنما أقول: إنه عارف بالزهري غير متهم فيه، وليس في كلام أبي حاتم ما يدرأ ذلك، بل ذكره إياه في كتاب الثقات مع ما حكاه - مما يدل على تبجيله، وإن لم يوافق عليه على الإطلاق- دليل على ما أدعيه. ا. هـ (2) .
__________
(1) انظر الثقات لابن حبان (7 \ 342-343)
(2) انظر طبقات الشافعية الكبرى (1 \ 10) .(39/182)
وقال الأوزاعي كما ذكر السبكي: ما أحد أعلم بالزهري من قرة بن عبد الرحمن.
وقال ابن عدي: (روى الأوزاعي عن قرة عن الزهري بضعة عشر حديثا. . . وأرجو أنه لا بأس به) (1) .
وقال أيضا: (ولقرة أحاديث صالحة يرويها عنه رشدين وسويد بن عبد العزيز وابن وهب والأوزاعي، وغيرهم، وجملة حديثه عند هؤلاء، ولم أر في حديثه حديثا منكرا جدا فأذكره) (2) .
وذكره الذهبي في: (الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد) (3) فقال: (صويلح الحديث، روى له مسلم في الشواهد، وضعف) (4) يعني عده ممن لا يرد حديثه ويحتج به، وقال في المغني: (5) (مشهور) .
وذكره ابن شاهين في (تاريخ أسماء الثقات) ، (6) فقال: (وقرة بن عبد الرحمن؛ قال يحيى: وليس به بأس عندي) ، (7)
__________
(1) انظر الكامل لابن عدي (6 \ 2077) ، والميزان الذهبي (3 \ 388)
(2) انظر الكامل لابن عدي (6 \ 2077)
(3) انظر \ 161.
(4) انظر \ 161
(5) انظر (2 \ 524) .
(6) انظر \ 192 برقم 1163.
(7) انظر \ 192 برقم 1163.(39/183)
فهو بذلك حسن الحديث عن الزهري - إن شاء الله تعالى - إن لم يكن ثقة كما ذكر السبكي وغيره.
وذكره الخليلي فقال: (يروي عن الزهري، قديم، لم يتفقوا عليه، روى عنه الأوزاعي أحاديث) (1) يعني أنه مختلف فيه، ولم يجمع على توثيقه، فمثله يحسن حديثه عند العلماء (2) على أقل الأحوال.
وذكره السبكي في طبقاته فقال: (هو عندي في الزهري ثقة ثبت) (3) ثم قال: (فإن قلت: فقد قال ابن معين: إنه ضعيف، وقال أحمد: منكر الحديث جدا، وقال أبو زرعة: الأحاديث التي يرويها مناكير، وقال أبو حاتم والنسائي: ليس بقوي، وقال أبو داود: في أحاديثه نكارة) (4) قلت: وقال ابن معين في رواية يزيد بن الهيثم بن طهمان: (مصري ليس بقوي الحديث) (5) .
ثم قال السبكي: (هذا الجرح إن قبل فلا أقبله في حديث الزهري، ولئن قبلته فلا أقبله في هذا الحديث منه، فلحديث قرة عندي درجات، أدناها حديثه عن غير الزهري كحديثه عن
__________
(1) انظر الإرشاد في معرفة علماء الحديث (1 \ 200) .
(2) انظر (1 \ 9) من الطبقات الكبرى.
(3) انظر (1 \ 9) من الطبقات الكبرى.
(4) انظر الطبقات الكبرى (1 \ 10) ، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (7 \ 132) حيث أسند هذه الأقوال.
(5) انظر: من كلام أبي زكريا يحيى بن معين في الرجال (برقم 179) ص68.(39/184)
عطاء بن أبي رباح، ومنصور بن المعتمر، وحديثه عن حبيب بن أبي ثابت.
وأعلى منها حديثه عن الزهري؛ لما عرفت من خصوصيته به، لا سيما ما حدث به عنه الأئمة مثل الأوزاعي إمام أهل الشام، والليث بن سعد إمام أهل مصر، وأعلى منها هذا الحديث بخصوصه، فهو من أثبت أحاديثه عن الزهري؛ لأنه انضم إلى تحديث الأوزاعي به عنه، وقبوله إياه منه أنه - أعني الأوزاعي - حدث به أيضا عن شيخه الزهري، وأن قرة توبع عليه) (1) .
قال السخاوي بعد كلام ساقه: فهؤلاء سبعة أنفس من رجال الصحيحين إلا عبد الحميد كاتب الأوزاعي فلم يخرجا له، وثقه أحمد، وأبو زرعة في آخرين، وتكلم فيه بكلام يسير، كل هؤلاء رواه عن الأوزاعي بإثبات قرة، ورواه مبشر وخارجة ومحمد بن كثير بإسقاط قرة، ويمكن الجمع بأن الأوزاعي رواه عن الزهري من صحيفته مناولة، وسمعه من قرة عنه سماعا. انتهى) (2) ولكن لعله يدفع ذلك منهج الأوزاعي، حيث إنه كان يرى بالمناولة ولم يكن يحدث بها (3) .
الخلاصة: لم يذكر الأئمة حديثه المذكور بأنه منكر، بل ذكر له ابن عدي عددا من الأحاديث، وقال: لقرة أحاديث صالحة. . . ولم أر في حديثه حديثا منكرا جدا فأذكره، ولم يذكر حديثه
__________
(1) انظر طبقات الشافعية الكبرى (1 \ 10، 11) .
(2) انظر الفتوحات الربانية لابن علان (3 \ 287) .
(3) انظر تاريخ ابن معين (4 \ 460) لذلك، وتاريخ أبي زرعة الدمشقي (2 \ 723) ، والمحدث الفاضل \ 437)(39/185)
المذكور عندنا فيما ذكره من الأحاديث في الكامل.
وكذا الحافظ الذهبي ذكره في الرواة المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد كما تقدم، ووثقه يحيى في رواية، وتقدم كلام الأوزاعي ويزيد بن السمط - تلاميذه - فيه، وهم أقرب الناس إليه، وذكره ابن حبان في الثقات وصحح حديثه، وكذا الحاكم، وقال السبكي: (هو عندي ثقة ثبت في الزهري) ، وقال الذهبي: (صويلح الحديث) ، وقال في المغني كما تقدم: (مشهور) ، وذكره ابن شاهين في الثقات.
فمن هنا صحح حديثه المذكور بعض العلماء، وحسنه آخرون، ورجح بعضهم الإرسال على الاتصال، وسيأتي بيان ذلك بعد الانتهاء من التخريج إن شاء الله تعالى.
وذكر الكتاني رواية "بذكر الله" وقال: وهي تلي في الحسن رواية "بحمد الله" (1) .
وذكر الغماري: أن رواية "بذكر الله" غير مخالفة لرواية " بحمد الله "؛ لأن ذكر الله شامل لحمد الله فهي من الرواية بالمعنى. . . (2)
وأخرجه الدارقطني فقال:
(حدثني أبو طالب الحافظ أحمد بن نصر، ثنا هلال بن العلاء، ثنا عمرو بن عثمان، نا موسى بن أعين، عن الأوزاعي به
__________
(1) انظر الأقاويل المفصلة \ 7.
(2) انظر الاستعاذة والحسبلة له \ 19.(39/186)
مرفوعا بلفظ: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله أقطع (1) » .
وهذا الإسناد رجاله بين ثقة وصدوق سوى عمرو بن عثمان وهو ضعيف كما في التقريب (2) ولكنه تابعه غير واحد - كما تقدم وسيأتي - فيتقوى بهم.
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عدي: (له أحاديث صالحة عن زهير وغيره، وهو ممن يكتب حديثه) (3) أي للاعتبار.
وهلال بن العلاء الرقي صدوق، ذكره ابن أبي حاتم وغيره، ونقل عن أبيه أنه صدوق (4) .
وكذا أخرجه النسائي قال: أخبرنا علي بن حجر، حدثنا الحسن - يعني ابن عمر - عن الزهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل كلام لا يبدأ في أوله بذكر الله فهو أبتر (5) » .
تخريج رواية: "بحمد الله - أو بالحمد لله - أقطع"
أخرجه ابن أبي شيبة في باب ما قالوا فيما يستحب أن يبدأ به الكلام. فقال: (حدثنا عبيد الله بن موسى، عن الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل كلام ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو
__________
(1) انظر سنن الدارقطني (1 \ 229) في أول كتاب الصلاة.
(2) انظر ص261.
(3) انظر تهذيب التهذيب (8 \ 76-77) .
(4) انظر الجرح والتعديل (9 \ 79) ، والتهذيب (11 \ 83)
(5) انظر عمل اليوم والليلة \ 346.(39/187)
أقطع (1) » .، ورجاله ثقات كلهم سوى قرة، وقد تقدم فيه الكلام بما يشبع، ولا يقل عن درجة الحسن كما تقدم على أقل الأحوال إن شاء الله تعالى.
وقال أبو داود: (حدثنا أبو توبة، قال: زعم الوليد، عن الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم (2) » ، ورجال الإسناد ثقات سوى قرة، تقدم الكلام حوله، وأبو توبة هو الربيع بن نافع الحلبي من رجال الشيخين، ثقة حجة عابد (3) . والوليد هو ابن مسلم القرشي، من رجال الجماعة، ثقة إلا أنه معروف بالتدليس (4) ، وقد عنعن هنا، ولكنه كان عالما بحديث الأوزاعي، وتابعه غير واحد عن الأوزاعي كما تقدم عند ابن أبي شيبة، وسيأتي عند غيره،، وصرح بالتحديث عند أبي أحمد العسكري، وسيأتي تخريجه من عنده.
وقال أبو داود عقبه: (رواه يونس وعقيل وشعيب وسعيد بن عبد العزيز عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا) (5) ، ويشير بذلك إلى اختلاف الرواة عن الزهري بالوصل والإرسال، وقد رجح الدارقطني المرسل كما سيأتي بيانه.
__________
(1) انظر مصنف ابن أبي شيبة (9 \ 116) كتاب الأدب منه.
(2) انظر سنن أبي داود (5 \ 172) الأدب باب الهدي في الكلام.
(3) انظر التقريب 1 \ 101 ط باكستان.
(4) انظر ترجمته في التهذيب (11 \ 152-155) .
(5) انظر سنن أبي داود (5 \ 172) .(39/188)
ومن طريق أبي داود رواه أبو أحمد العسكري الحسن بن عبد الله في كتابه الأمثال فقال: حدثنا اللؤلئي، قال: ثنا أبو داود، فذكره بمثل ما تقدم عنده، ثم قال أبو أحمد: قد روى هذا الحديث يونس وعقيل وشعيب بن أبي حمزة وسعيد بن عبد العزيز عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وإنما رواه موصولا قرة بن عبد الرحمن. ا. هـ (1) .
وأخرجه الإمام إسحاق بن راهويه في مسنده فقال: (حدثنا بقية بن الوليد، ثنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله أكتع (2) » ، هكذا رواه (أكتع) بالكاف، قال بقية الراوي للحديث: والأكتع الذي ذهبت أصابعه وبقي كفه، هكذا نقله الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف وقال: (وهذا معضل) (3) .
قلت: مع إعضاله رجاله ثقات، وبقية وإن كان مدلسا إلا أنه صرح بالتحديث هنا.
قال ابن ماجه: (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن يحيى ومحمد بن خلف العسقلاني قالوا: ثنا عبيد الله بن موسى، عن الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لا يبدأ
__________
(1) انظر الأقاويل المفصلة للكتاني \ 8 وعقبه بأن الحصر المذكور غير مسلم
(2) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) ، مسند أحمد بن حنبل (2/359) .
(3) انظر حديث رقم 1 من تخريج أحاديث الكشاف ص8 تحقيق د \ صالح الرفاعي.(39/189)
فيه بالحمد أقطع (1) » .
رجال الإسناد ثقات كلهم سوى قرة، وقد تقدم الكلام حوله مفصلا.
قال النسائي: (أخبرنا محمود بن خالد، حدثنا الوليد (2) قال: قال أبو عمرو: أخبرني قرة، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله إلا أنه قال: " بحمد الله " بدل الحمد، و"فهو أقطع " بدل أقطع) (3) .
وكذا ساقه عن محمود بن خالد، حدثنا الوليد، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري رفعه مثله (4) وصرح الوليد بالتحديث هنا، ولكن اختلف شيخه ولا يضر ذلك.
قال النسائي: أخبرنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، مرسل.
وسعيد بن عبد العزيز هو: التنوخي، الدمشقي ثقة، إمام، سواه أحمد بالأوزاعي، وقدمه أبو مسهر، ولكن اختلط في آخر عمره، وقال أبو عبد الله الحاكم: هو لأهل الشام كمالك لأهل المدينة في التقدم والفقه والأمانة، وقال حمزة الكناني: إنه
__________
(1) انظر سنن ابن ماجه (1 \ 610) النكاح باب خطبة النكاح.
(2) ابن مسلم القرشي.
(3) انظر عمل اليوم والليلة \ 345-346 حديث رقم (494-497) تحقيق د \ فاروق حماده.
(4) انظر عمل اليوم والليلة \ 345-346 حديث رقم (494-497) تحقيق د \ فاروق حماده.(39/190)
تغير (1) .
وأخرجه أبو عوانة في مسنده المستخرج على صحيح مسلم في أول الكتاب فقال: (حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد، وسعيد بن محمد قالا: ثنا هشام بن عمار، ثنا عبد الحميد بن أبي العشرين، عن الأوزاعي، عن قرة به مرفوعا، ولفظه مثل لفظ ابن ماجه) (2) . وعن يوسف بن سعيد بن مسلم، وأبي أمية الطرسوسي، وأبي العباس الغزي، وعباس بن محمد كلهم عن عبيد الله بن موسى، عن عبد الحميد به مرفوعا (3) .
وأخرجه ابن الأعرابي فقال: أخبرنا محمد (4) نا عبيد الله، (5) نا الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل، عن الزهري به مرفوعا بمثل لفظ ابن ماجه (6) أيضا.
ومحمد شيخ ابن الأعرابي تابعه عدد عن عبيد الله كما تقدم عند أبي عوانة وغيره، وكذا هو عند ابن الأعرابي أيضا حيث ساقه بإسناد آخر فقال: حدثنا عباس بن عبد الله الترقفي، ثنا أبو
__________
(1) انظر التقريب 1 \ 134، والتهذيب (4 \ 60) ، والكواكب النيرات \ 218، 219.
(2) انظر إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة لأطراف العشرة (ن284 \ ب \ ج6) لابن حجر.
(3) انظر إتحاف المهرة بالفوائد المبتكرة لأطراف العشرة (ل284 \ ب \ ج6) لابن حجر.
(4) هو محمد بن عبيد بن هارون النواء، لم أقف على ترجمته، وجاء تعيينه في المعجم نفسه.
(5) هو ابن موسى المذكور عند أبي عوانة وغيره وهو ثقة.
(6) انظر معجم ابن الأعرابي حديث رقم 361 وترجمة رقم 45 رسالة دكتوراه، تحقيق أحمد ميرين البلوشي.(39/191)
المغيرة، حدثنا الأوزاعي، حدثنا قرة بن عبد الرحمن به، ومن طريقه أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (1) وسيأتي تخريجه قريبا منه، وهذا الإسناد رجاله بين ثقة وصدوق.
وأخرجه البزار في مسنده (2) من طريق عبيد الله بن موسى، عن الأوزاعي به مرفوعا بلفظ: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع (3) » ، وقال البزار: (وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد) ا. هـ.
قال ابن حبان: (ذكر الأخبار عما يجب على المرء من ابتداء الحمد لله جل وعلا في أوائل كلامه عند بغية مقاصده.
قال: أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان، قال: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا عبد الحميد بن أبي العشرين، قال: حدثنا الأوزاعي، عن قرة، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع (4) » .
ثم قال: (ذكر الأمر للمرء أن تكون فواتح أسبابه بحمد الله جل وعلا لئلا تكون أسبابه بترا) .
لم يظهر لي لماذا غير العنوان ولفظ الحديث واحد في النسخة المطبوعة والله أعلم.
__________
(1) انظر الأقاويل المفصلة \ 8، والسنن الكبرى للبيهقي (3 \ 209) .
(2) انظر (ق63 \ ب) .
(3) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) .
(4) انظر الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان لابن بلبان (1 \ 103) باب ما جاء في الابتداء بحمد الله، وموارد الظمآن في زوائد صحيح ابن حبان \ 152 برقم (578) الجمعة باب الخطبة.(39/192)
ثم ساق الحديث فقال: أخبرنا الحسين بن عبد الله بن يزيد القطان أبو علي بالرقة، قال: حدثنا هشام بن عمار، حدثنا شعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، فذكره بمثل ما تقدم دون كلمة "فهو" (1) . وقال السبكي: فكأن هشام بن عمار حدث به مرتين: مرة عن ابن أبي العشرين، ومرة عن شعيب بن إسحاق، وكلاهما حدثه به عن الأوزاعي.
قلت: ما ذكره محتمل، وهو حاصل في كثير من الطرق، وهشام بن عمار ثقة من الثقات، وبقية رجال ابن حبان بين ثقة وصدوق.
وأخرجه أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي فقال: (حدثنا داود بن رشيد الخوارزمي، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا الأوزاعي، عن قرة به مرفوعا بلفظ: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع (2) » وكذا من طريقه أخرجه الدارقطني في سننه (3) فقال: قرئ على أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز وأنا أسمع: حدثكم داود بن رشيد. فذكره بمثل ما تقدم.
__________
(1) انظر موارد الظمآن \ 488 كتاب الأدب باب الابتداء بالحمد في الأمور برقم (1993) .
(2) انظر الأقاويل المفصلة للكتاني \ 12 حديث ذكره بإسناده
(3) انظر (1 \ 229) في أول كتاب الصلاة.(39/193)
وكذا أخرجه من طريقه الديلمي في أول (1) الفردوس فقال: (أخبرنا الشيخ الإمام أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن أحمد بن الحسين الجري الأنماطي رحمه الله بقراءتي عليه في داره بمدينة السلام، قال: أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن بن العباس المخلص ببغداد، قال: حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، قال: ثنا أبو الفضل داود بن رشيد بمثل ما تقدم، وعنده في نسخة "بالحمد لله فهو أقطع" بدل المذكور (2) وقال الديلمي عقب إخراجه له ما نصه: (هذا حديث محفوظ من حديث الأوزاعي عن قرة، رواه الخلق الكثير والجم الغفير عنه، منهم: عبد الله بن المبارك، وعبيد الله بن موسى، والمعافى بن عمران، وأبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، والوليد بن مسلم، وبقية بن الوليد، و [أبو سعيد] موسى بن أعين، وعبد الحميد بن [حبيب] بن أبي العشرين وغير ذلك.
وقد ذكرنا طرقه في كتاب التبيان في فضائل القرآن) (3) .
قلت: وكذا ذكر الغماري هذا العدد من الرواة عن الأوزاعي (4) .
وقال الدارقطني عقب إخراجه الحديث: (تفرد به قرة عن
__________
(1) انظر فردوس الأخبار (1 \ 33-39) .
(2) انظر فردوس الأخبار (1 \ 33-39) .
(3) انظر أول فردوس الأخبار (1 \ 37-38) .
(4) انظر الاستعاذة والحسبلة له \ 9.(39/194)
الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأرسله غيره عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقرة ليس بقوي في الحديث. . . والمرسل هو الصواب) (1) .
وسيأتي الكلام في بيان وصل الحديث وإرساله وما رجحه العلماء في مثله.
قال الخليلي: (حدثنا أحمد بن محمد بن الحسين الحافظ، حدثنا عصمة بن محمود بن إدريس البيكندي ببخارى، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن عمار، وعلي بن الحسين البخاريان، قالا: حدثنا إسحاق بن حمزة، حدثنا عيسى بن موسى غنجار، عن خارجة بن مصعب، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن أبي سلمة،، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل كلام لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع (2) » ) (3) .
قال الخليلي: (هذا لم يسمعه الأوزاعي عن الزهري، وإنما سمعه من قرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل.
هكذا رواه عن الأوزاعي ابن المبارك وأبو المغيرة وابن أبي العشرين وعبيد الله بن موسى، ولم يروه عن خارجة إلا غنجار، وخارجة فيه لين، وقال في موضع آخر: ليس بشيء) (4) فعلى قول الخليلي المذكور لا تعتبر رواية الأوزاعي هذه متابعة لقرة كما اعتبرها السبكي وغيره متابعة له.
__________
(1) انظر سنن الدارقطني (1 \ 229) في أول كتاب الصلاة.
(2) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) .
(3) انظر الإرشاد (3 \ 1966) طبع مكتبة الرشد.
(4) انظر الإرشاد (3 \ 953، 966) .(39/195)
وقال أيضا: (حدثنا محمد بن الحسن بن الفتح الصوفي، حدثنا محمد بن حزيم الدمشقي بدمشق، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين، حدثنا الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن بن حيوئيل، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع (1) » ، ثم قال الخليلي: (هذا حديث لم يروه عن الزهري إلا قرة، وهذا ليس عند عقيل ولا غيره من المكثرين من أصحاب الزهري) . قلت: يعني أنه ليس عندهم موصولا وإلا هو عندهم.
قال البيهقي: (باب ما يستدل على وجوب التحميد في خطبة الجمعة، قال: في الحديث الثابت عن جابر بن عبد الله قال: «كانت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة: يحمد الله ويثني عليه. (2) » وذكر باقي الحديث) .
ثم قال: (أخبرنا أبو محمد بن يوسف، أنبأنا أبو سعيد بن الأعرابي، ثنا عباس بن عبد الله الترقفي، ثنا أبو المغيرة (3) ثنا الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري به مرفوعا بلفظ: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أقطع (4) » .
وقال: (أسنده قرة، وتبع أبا داود فيما قاله حيث قال: ورواه
__________
(1) انظر الإرشاد (1 \ 448) .
(2) انظر السنن الكبرى (3 \ 208) ، والحديث في صحيح مسلم.
(3) هو عبد القدوس بن الحجاج الخولاني، ثقة.
(4) انظر السنن الكبرى (3 \ 209) .(39/196)
يونس بن يزيد، وعقيل بن خالد، وشعيب بن أبي حمزة، وسعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا) .
قال ابن التركماني في الجوهر النقي (1) : (على تقدير ثبوته لو دل على وجوب التحميد لدل على وجوبه في كل أمر ذي بال، ولا نعلم أحدا يقول بذلك) .
وقال البيهقي أيضا: (أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، نا علي بن حمشاذ، نا محمد بن المغيرة السكري، نا عبيد الله بن موسى، نا الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري به مثله) (2) . فرجال الإسنادين بين ثقة وصدوق.
وأخرجه الشيرازي الحافظ أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن في كتاب الألقاب له، فقال: (حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن مفلح، حدثنا أبو يوسف محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن المهنى المصيصي، حدثنا عبد الله بن الحسين بن جابر البزار، حدثنا ابن كثير - يعني محمدا المصيصي - عن الأوزاعي، عن يحيى، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع (3) » ، ومن طريقه ساقه السبكي في طبقاته) (4) .
واختلف في يحيى الراوي عن الزهري من هو؛ لأنه وصله كما
__________
(1) انظر السنن الكبرى (3 \ 209) .
(2) انظر شعب الإيمان له (4 \ 90) حديث رقم 4372، ولم أجده في المستدرك فيما بحثت.
(3) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) .
(4) انظر (1 \ 6) ، وأيضا انظر الأقاويل المفصلة \ 19 حيث ساقه بإسناد الشيرازي كما ذكرته.(39/197)
وصله قرة، فإذا كان هو يحيى بن أبي كثير كما رجحه السخاوي (1) ، وهو أحد الأئمة ومن شيوخ الأوزاعي، فعندئذ هذه متابعة تامة لقرة، ولكن قال السبكي وغيره بأن يحيى اسم لقرة، وقرة لقبه - كما ذكر ابن حبان - فعندئذ هو هو ولكن لم يصح ما ذكره ابن حبان والله أعلم.
ولكن في إسناده محمد بن كثير، وهو محمد بن كثير بن أبي عطاء المصيصي، صدوق كثير الخطأ كما في التقريب، وله مناكير أيضا، ولا يضر ذلك لأنه توبع عليه، ولم يتفرد عن الأوزاعي عن قرة إذا اعتبرنا يحيى اسما لقرة، وإلا يعتبر إبدال الراوي مكان راو مخالفة، وهو صدوق كثير الخطأ، فالمحفوظ رواية قرة كما تقدم حيث رواه عن الأوزاعي عدد كثير من الأثبات - كما تقدم - عن قرة.
وقال الخطيب أيضا: (أنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدي البزار، نا عثمان بن أحمد الدقاق، أملانا الحسن بن سلام السواق، وأخبرني أبو الحسن علي بن أحمد بن إبراهيم البصري بها، نا الحسن بن محمد بن عثمان الفسوي، نا يعقوب بن سفيان، قالا: نا عبيد الله بن موسى، أنا الأوزاعي، عن قرة، زاد يعقوب: (ابن عبد الرحمن) ، ثم اتفقا عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر لا يبدأ- وقال يعقوب: لم يبدأ - فيه بالحمد لله
__________
(1) انظر الاستعاذة والحسبلة \ 11-12(39/198)
أقطع (1) » .
وقال أيضا: (وليكن أول ما يفتتح به الكلام بعد التسمية " الحمد لله "، ثم ساق الحديث المذكور بإسناده، فقال: فقد أخبرنا علي بن محمد المعدل، أخبرنا عثمان بن أحمد بن عبد الله الدقاق، نا الحسن بن سلام السواق، نا عبيد الله بن موسى، أخبرنا الأوزاعي، عن قرة بن عبد الرحمن، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أقطع (2) » ) (3) .
رجال الإسنادين ثقات، أما أبو عمر عبد الواحد بن محمد؛ فقال الخطيب فيه: وكان ثقة أمينا (4) .
وأما عثمان الدقاق؛ فقال عنه: كان ثقة ثبتا (5) ، وقال عن الحسن السواق: ثقة صدوق (6) . وقال الذهبي عنه: الإمام الثقة المحدث (7) .
والطريق الثاني عن يعقوب الفسوي وهو مشهور، وعلي بن محمد المعدل تابعه في شيخه أبو عمر عبد الواحد، وهو ثقة، وقرة تقدم الكلام عليه، فإسناد الخطيب لا يقل عن درجة الحسن لما عرفت.
__________
(1) انظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2 \ 69)
(2) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) .
(3) انظر الفقيه والمتفقه له (2 \ 123) .
(4) انظر تاريخ بغداد (11 \ 13) .
(5) انظر تاريخ بغداد (11 \ 303) ، وسير النبلاء (15 \ 445) .
(6) انظر تاريخ بغداد (7 \ 326) .
(7) انظر سير أعلام النبلاء (13 \ 192)(39/199)
والحديث أخرجه ابن عساكر في تاريخه (1) بإسناده من طريق قرة، به، والديلمي في مسنده "فردوس الأخبار بمأثور الخطاب المخرج على كتاب الشهاب" (2) ومعه "تسديد القوس" للحافظ ابن حجر برقم: (4760) ، ولم يذكر إسناده، وقد ساقه بإسناده في أول مسنده، وتقدم عندنا في تخريج طرق الحديث قريبا.
وأخرجه الحافظ ابن حجر في المجمع المؤسس (3) بإسناده من طريق قرة، به.
وساقه السبكي في طبقات الشافعية الكبرى (4) بإسناده عن عدد من المصنفين، منهم: الرهاوي، وابن حبان، وأبو يعلى الخليلي، والشيرازي، وغيرهم، وعزاه للحاكم في المستدرك، ولم أقف عليه فيما بحثت في فهارسه، والفهارس المستقلة له، ولعله سقط من النسخة والله أعلم.
وذكره السخاوي في المقاصد الحسنة (5) ، والعجلوني في كشف الخفاء (6) ، والبيضاوي في تفسيره، وخرجه المناوي في الفتح السماوي في تخريج أحاديث البيضاوي (7) .
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه شاهد يصلح للاعتبار والتقوية في نظري، لما سيأتي في ترجمة الراوي المتكلم فيه إن شاء
__________
(1) انظر (2 \ 217) .
(2) انظر (3 \ 297) .
(3) انظر (ق132 \ ب) .
(4) انظر (1 \ 5-7) .
(5) انظر \ 322.
(6) انظر (2 \ 199)
(7) انظر حديث رقم 4 منه، بتحقيق محمد مجتبى.(39/200)
الله تعالى، وإليك الآن الكلام على الحديث في وصله وإرساله وحكمه:(39/201)
الحديث بين الوصل والإرسال وحكم الأئمة عليه
تقدم تخريج الحديث موصولا ومرسلا عند النسائي حيث أخرجه من طريق عقيل، والحسن بن عمر -مفرقا- عن الزهري مرسلا، وعن قرة عن الزهري موصولا، وعن سعيد بن عبد العزيز عن الزهري رفعه مثله - يعني مثل حديث قرة - وقوله: رفعه، يحتمل أنه رفعه بالإسناد السابق، أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
وقال المنذري: (وأخرجه النسائي مسندا ومرسلا) (1) .
وقال الخليلي: (هذا حديث لم يروه عن الزهري إلا قرة، وهذا ليس عند عقيل ولا غيره من المكثرين من أصحاب الزهري) (2) .
قلت: ولعله يقصد من قوله: (هذا الحديث ليس عند عقيل ولا غيره من المكثرين من أصحاب الزهري) أي: ليس عندهم مسندا، وإلا فقد رواه النسائي عن عقيل والحسن بن عمر وسعيد بن عبد العزيز عن الزهري مرسلا، وهم من مكثري أصحابه، وإسحاق عن شعيب بن أبي حمزة كما تقدم.
وقال أبو داود: (رواه يونس بن يزيد وعقيل وشعيب وسعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا) (3) .
__________
(1) انظر مختصر سنن أبي داود له (7 \ 179) .
(2) انظر الإرشاد (10 \ 448) .
(3) انظر سنن أبي داود (5 \ 172) الأدب باب الهدي في الكلام.(39/201)
وقال البيهقي: (أسنده قرة، ثم تبع أبا داود فقال: ورواه يونس. . . فذكر مثل قوله السابق) (1) .
وقال الزيلعي: (وقال النسائي: والمرسل أولى بالصواب) (2) .
قال الحافظ ابن حجر: (واختلف في وصله وإرساله، فرجح النسائي والدارقطني الإرسال) (3) .
قلت: لم أقف على ترجيح النسائي صريحا في النسخة المطبوعة من عمل اليوم والليلة، ولا في تحفة الأشراف، وأما الدارقطني فصرح بأن المرسل هو الصواب عنده، وكذا أشار أبو داود إلى هذا الاختلاف كما تقدم ولم يرجح، وقد صحح الخطيب أن الحكم لمن وصل عند الاختلاف في الوصل والإرسال، كما نقل السخاوي عنه، ونقله عنه ابن علان، ونقل ابن الصلاح تصحيحه عن أهل الفقه وأصوله، وعزاه النووي أيضا للمحققين من أصحابه، وتعقب ذلك ابن دقيق العيد بأنه ليس قانونا مطردا، قال: وبمراجعة أحكامهم الجزئية تعرف صواب ما نقول، وكذا قال ابن سيد الناس، وبه جزم العلائي فقال: (كلام المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي، بل علمهم في
__________
(1) انظر السنن الكبرى له (3 \ 209) .
(2) انظر تخريج أحاديث الكشاف حديث رقم 1 ص10 تحقيق د \ صالح الرفاعي.
(3) انظر تلخيص الحبير (3 \ 174) .(39/202)
ذلك دائر مع التخريج بالسنة إلى ما يقوى عندهم في كل حديث) (1) . وكذا أشار الزيلعي إلى اختلاف الوصل والإرسال وسكت، وهذا نصه: (وهذا الحديث أعل من وجهين:
الأول: أنه قد روي مرسلا، أخرجه كذلك أبو داود والنسائي عن أبي سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه أبو هريرة رضي الله عنه، وقال النسائي: والمرسل هو الصواب) .
قلت: تقدم أن بينت أني لم أقف على قول النسائي المذكور عند ذكره الحديث في عمل اليوم والليلة ولا في تحفة الأشراف، وكذلك ليس عنده ولا عند أبي داود ذكر لأبي سلمة، ولا لأبي هريرة، بينما عندهما: قال الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وكذا هو عند الإمام إسحاق، عن الزهري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، فلعله وهم من المؤلف، والله أعلم.
والثاني: في إسناده قرة. . . وفيه مقال، قال الحاكم في مستدركه في أواخر الصلاة: وقد استشهد مسلم رحمه الله بقرة بن عبد الرحمن في موضعين من صحيحه) انتهى (2) .
قلت: لم أقف على كلام الحاكم المذكور، فيما بحثت لعله سقط من النسخة، ولم يذكر قرة في فهرس المستدرك، عمل د \ يوسف المرعشلي.
__________
(1) انظر الفتوحات الربانية لابن علان (3 \ تفصيل 191) .
(2) انظر تخريج أحاديث الكشاف \ 10 حديث رقم 1.(39/203)
وقال العيني: (الحديث صحيح. . . وقد تابع سعيد بن عبد العزيز قرة، كما أخرجه النسائي) (1) .
وقال الكتاني: (على أنه لم ينفرد به قرة، فإن النسائي في عمل اليوم والليلة رواه عن محمود بن خالد أيضا، عن الوليد عن سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري به كذلك، فأفاد أن سعيد بن عبد العزيز تابع قرة على وصله، وسعيد ثقة إمام) (2) .
قلت: تقدم تخريجه عند النسائي، وجاء عنده في الموضع الثاني عن الزهري رفعه مثله، فهذا يحتمل ما ذكره العيني والكتاني، ولكن لا يجزم به في مثله لو قال: به مثله، أو رفعه به مثله، فكان صريحا ومجزوما به، ثم وقفت على كلام للغماري هذا نصه: (وممن رواه عنه موصولا سعيد بن عبد العزيز، أخرجه النسائي في اليوم والليلة عن محمود بن خالد، عن الوليد، عن سعيد بن عبد العزيز، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة به. ورواه عنه أيضا مرسلا، كذلك أخرجه النسائي. فلعله سمعه منه مرتين: مرة موصولا، ومرة مرسلا (3) .
قلت: لم أقف في عمل اليوم والليلة على ما ذكره الغماري من النسخة المطبوعة، وهو صريح في الوصل إن ثبت، وغالب ظني أنه اعتمد على ما تقدم من قوله: رفعه مثله، وكمل الإسناد باجتهاد منه والله أعلم.
__________
(1) انظر عمدة القاري شرح صحيح البخاري (1 \ 13) ، وكذا نقله عنه الكتاني في الأقاويل المفصلة \ 23.
(2) انظر الأقاويل المفصلة للكتاني \ 23.
(3) انظر الاستعاذة والحسبلة.(39/204)
ورجح النووي الموصول حيث قال: (وروي موصولا ومرسلا، ورواية الموصول إسنادها جيد) (1) ، وجاء في الأذكار: (2) (وهو حديث حسن، وقد روي موصولا كما ذكرنا، وروي مرسلا، ورواية الموصول جيدة الإسناد.
وإذا روي الحديث موصولا ومرسلا، فالحكم للاتصال عند جمهور العلماء لأنها زيادة ثقة، وهي مقبولة عند الجماهير) (3) .
وكذا السبكي حيث قال: (فإن قلت: هل يحكم للحديث بالرفع؟ مع أن الأثبات البذل عن الزهري، وهم: يونس بن يزيد، وعقيل بن خالد، وشعيب بن أبي حمزة، وسعيد بن عبد العزيز إنما رووه عن الزهري مرسلا، ولو أن واحدا من هؤلاء الأربعة عارض قرة لحكم له على قرة، فما ظنك باجتماعهم؟!
ومن أجل ذلك قال جهبذ العلل والحافظ الجبل أبو الحسن الدارقطني: إن الصحيح عن الزهري المرسل.
قلت (السبكي) : لو أن بين الإسناد والإرسال معارضة لقضيت لهؤلاء على قرة، ولكن لا تنافي بينهما ولا معارضة، والحديث إذا أسند مرة، وأرسل أخرى فالحكم للإسناد) (4) .
ثم قال مستدلا بذلك ومؤيدا قوله: (ولذلك حكم
__________
(1) انظر المجموع شرح المهذب (1 \ 73) .
(2) انظر الأذكار \ 103.
(3) انظر الأذكار \ 103.
(4) انظر طبقات الشافعية الكبرى (1 \ 19) .(39/205)
إمام الصناعة ومقدم الجماعة أبو عبد الله البخاري لإسناد إسرائيل بن يونس، عن جده أبي إسحاق السبيعي، عن أبي بردة، عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث: «لا نكاح إلا بولي (1) » على إرسال سفيان وشعبة، وهما من هما في الحفظ والإتقان وعلو الشأن، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وأقسم بمن فاوت بين مقدارهم لنسبة إسرائيل إليهما أبعد من نسبة قرة إلى الأربعة) (2) .
قلت: في ذلك نظر، لأن إسرائيل من أحفظ الناس في أبي إسحاق كما ذكر في ترجمته، فالتفاوت موجود مع بقاء الاستدلال، ثم قال السبكي: (كيف وقرة فيما ذكر أعلم الناس بالزهري، وقد توبع في هذا الحديث، وشيخه الزهري كان كثير الإرسال، ثم كان يفصح بالإسناد بعد الإرسال، بل ربما أرسل ثم أفصح بإسناد لا يقبل. . . وإنما رد إرساله عند الإطلاق، ولاحتمال أن يكون طوى ذكر من لو أفصح به لرددناه، كما فعل في حديث الضحك، فإنه طوى ذكر سليمان وهو ضعيف) (3) .
وأما إذا بين برواية قرة أن المطوي ذكره أبو سلمة وهو ثقة من الثقات، فلئن أرسله الحافظ الجبل فلقد أسنده الإمام الأجل، أعني محمد بن إسماعيل.
وأقول (السبكي) أيضا: (إن الأخذ بالإسناد هنا أولى منه في
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1101) ، سنن أبو داود النكاح (2085) ، سنن ابن ماجه النكاح (1881) ، مسند أحمد بن حنبل (4/418) ، سنن الدارمي النكاح (2182) .
(2) انظر طبقات الشافعية الكبرى (1 \ 20 - 21) .
(3) انظر طبقات الشافعية الكبرى (1 \ 20 - 21) .(39/206)
حديث: «لا نكاح إلا بولي (1) » من وجهين: حديثي وفقهي:
أما الحديثي: فإن راوي الإسناد عن قرة إمام كبير وهو الأوزاعي، فالأكثر في الرواية عنه الإسناد، ورواية الإرسال عنه قليلة.
وأما الفقهي: فإن الحمد حديث في فضائل الأعمال، فكان قبوله أقرب من حديث: «لا نكاح إلا بولي (2) » لما يتعين من مزيد الاحتياط في ذلك.
هذا منتهى الكلام على الحديث، ولا ريب في أنه بعد ثبوت صحته ورفعه مسندا غير بالغ مبلغ الأحاديث المتفق على أنها مسندة صحيحة ولكن للصحيح مراتب) (3) .
وقال محمد بن جعفر الكتاني، بعد أن نقل ترجيح النسائي والدارقطني للإرسال: (هذا مسلم لو تفردا -أي قرة وصدقة - بوصله، وكان بين الوصل والإرسال معارضة، ولكن لا نسلم كلا منهما، فإن سعيد بن عبد العزيز وصله عن الزهري أيضا عند النسائي كما تقدم، وكذا الأوزاعي، وهما ثقتان، وإنما يصار إلى الترجيح عند التعارض، ولا تعارض بين الإسناد والإرسال؛ فالزهري معروف أنه كثيرا ما يرسل ثم يصرح بالرفع لكونه لا منافاة بينهما) (4) .
وقال الغماري: (ورواه عن الزهري جماعة من الحفاظ
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1101) ، سنن أبو داود النكاح (2085) ، سنن ابن ماجه النكاح (1881) ، مسند أحمد بن حنبل (4/418) ، سنن الدارمي النكاح (2182) .
(2) سنن الترمذي النكاح (1101) ، سنن أبو داود النكاح (2085) ، سنن ابن ماجه النكاح (1881) ، مسند أحمد بن حنبل (4/418) ، سنن الدارمي النكاح (2182) .
(3) انظر طبقات الشافعية الكبرى (1 \ 20 -21) .
(4) انظر الأقاويل المفصلة له \ 15.(39/207)
الثقات: الأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز، ويونس بن يزيد، وعقيل بن خالد، وشعيب بن أبي حمزة، وقرة بن عبد الرحمن وغيرهم، إلا أن الزهري كان يوصله مرة ويرسله أخرى على عادته المعروفة في ذلك؛ فإنه كان كثيرا ما يرسل الأحاديث الموصولة عنده في الأوقات التي يحصل له فيها نشاط لذكر الإسناد كما نص عليه ابن عبد البر وغيره) (1) .
فهذا آخر ما توصلت إليه من كلام العلماء حول وصل الحديث وإرساله.
ولا شك أن كل من صحح الحديث أو حسنه فهو يعتبر من مرجحي الوصل على الإرسال، بل ويتقوى المرسل بالمسند كما أن مرسل الزهري يتقوى بمرسل معمر لتعدد المخارج، كما يتقوى بعمل أهل العلم بذلك، وإجماعهم العملي على العمل به.
وبعد أن ثبت أنه لا منافاة بين الإرسال والإسناد؛ لأن الرجل قد يكون نشيطا فيسند الحديث، وقد يكون في مورد المذاكرة فيسأل عن الحديث فيذكره مرسلا، فمن هنا لم أقف على تضعيف الأئمة لهذا الحديث فيما بحثت بلفظه المذكور سوى الشيخ الألباني، والدارقطني لحديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
وإنما حصل الترجيح من بعضهم بين المرسل والمسند، فرجح الإمام الدارقطني المرسل على المسند، ولكنه تبين مما سبق من أقوال الأئمة أن المرسل يؤيد المسند ولا يعارضه، والعكس
__________
(1) انظر الاستعاذة والحسبلة له \ 7.(39/208)
كذلك، فمن هنا نرى عددا من العلماء صححوا الحديث وعددا آخر حسنوه.
فممن صححه ابن حبان، والحاكم، وأبو عوانة، وابن الصلاح في رواية، والسبكي - كما تقدم- والمناوي، والعيني وغيرهم.
ونقل السبكي عن ابن الصلاح أنه قضى بأن الحديث حسن دون الصحيح وفوق الضعيف، محتجا بأن رجاله رجال الصحيحين سوى قرة، قال: فإنه ممن انفرد مسلم عن البخاري بالتخريج له (1) .
وكذا نقل الزبيدي في مقدمة " إتحاف السادة المتقين " عنه أنه قال: (حسن بل صحيح) (2) .
وكذا نقله عنه العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين (حديث رقم 594) (3) والعيني في عمدة القاري (4) .
وقال النووي في الأذكار (5) : (هو حديث حسن) . وقال في المجموع (6) : (ورويناه فيه من رواية كعب بن مالك الصحابي رضي الله عنه، والمشهور رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وحديثه هذا حديث حسن) . وكذا قال في شرحه على صحيح مسلم (7)
__________
(1) انظر طبقات الشافعية الكبرى (1 \ 9) .
(2) انظر \ 7 \ ج، وانظر (3 \ 466) .
(3) انظر تخريج أحاديث إحياء علوم الدين للعراقي وابن السبكي والزبيدي، لأبي عبد الله الحداد (1 \ 536) .
(4) انظر (1 \ 13) .
(5) انظر \ 103.
(6) انظر (1 \ 73) .
(7) انظر (13 \ 185) .(39/209)
للحديث الحسن المشهور بعد أن ذكر حديث أبي هريرة.
ورمز له السيوطي بالحسن، وقال المناوي: (رمز المصنف لحسنه تبعا لابن الصلاح) (1) .
وقال العيني في عمدة القاري - بعد أن ذكر أنه ليس على شرط البخاري؛ لأن في سنده قرة بن عبد الرحمن - ما نصه: (الحديث صحيح صححه ابن حبان، وأبو عوانة، وقد تابع سعيد بن عبد العزيز قرة كما أخرجه النسائي) ا. هـ (2) .
وقال الحافظ ابن حجر -كما نقله عنه ابن علان - بعد تخريجه حديث الباب: (إنه حديث حسن، أخرجه ابن ماجه وأبو عوانة في صحيحه (3) ، وقال السخاوي في جزئه: (وهذا الحديث تبع ابن الصلاح على تحسينه الإمام النووي في أذكاره، وشيخ شيوخنا العراقي، وادعى بعضهم صحته) (4) .
قال ابن علان: (غفل عن ذكر شيخه الحافظ ابن حجر فيمن حسنه) (5) .
وقال السندي في التعليق على سنن ابن ماجه: (الحديث قد حسنه ابن الصلاح والنووي) (6) ونقل عنهما غير واحد هذا الحكم.
__________
(1) انظر فيض القدير (5 \ 13) .
(2) انظر (1 \ 13) ، والأقاويل المفصلة للكتاني \ 523 نقلا عنه.
(3) انظر الفتوحات الربانية لابن علان (3 \ 288) .
(4) انظر الفتوحات الربانية لابن علان (3 \ 288) .
(5) انظر الفتوحات الربانية لابن علان (3 \ 288) .
(6) انظر (1 \ 610) كتاب النكاح باب خطبة النكاح تعليقه على الحديث.(39/210)
ومنهم من عزى لابن الصلاح أنه بعدما حسنه صححه، ويشير لذلك كلام التاج السبكي في الطبقات، وكلام الزبيدي في شرح الإحياء، والعيني حيث نقلوا عنه: (هذا حديث حسن بل صحيح) كما تقدم.
وقال أبو العلاء العراقي: (وصحح له - أي لقرة - الترمذي، وابن حبان وهو من تساهله إذ يسمي الحسن صحيحا كهذا، والصواب ما جزم به ابن الصلاح من أنه حسن على ما هو معلوم في الاصطلاح من أن حديث المختلف فيه حسن، وتبعه الأسيوطي، وممن صححه أيضا أبو عوانة، وقال الحافظ ابن حجر: ليس على شرط البخاري، في إسناده مقال) (1) .
قلت: تقدم استدراك ابن الصلاح على نفسه في الحكم كما ذكرت.
وقد قال في الكوكب المنير للعلقمي في هذا الحديث ما نصه: (بجانبه علامة الصحة) .
وقال المناوي في التيسير: (إسناده صحيح) .
وقال أبو الطيب محمد شمس الحق: (والحديث قد أخرجه البيهقي أيضا بإسناد حسن) (2) .
__________
(1) انظر الأقاويل المفصلة للكتاني \ 22.
(2) انظر التعليق المغني على سنن الدراقطني (1 \ 229) .(39/211)
وذكره العجلوني فقال: (والحديث حسن) وعزاه لأبي داود وابن ماجه (1) .
وقال الدكتور فاروق حماده في تعليقه على هذا الحديث: (حسن هذا الحديث ابن الصلاح والنووي وابن حجر وغير واحد من الحفاظ، وقال ابن الصلاح: إن رجاله رجال الصحيحين سوى قرة بن عبد الرحمن (2) ؛ فإنه لم يخرج له مسلم في الأصول، وقد وثق في الزهري) (3) .
قال الشيخ الألباني بعد أن ساق الحديث بلفظ: " بسم الله الرحمن الرحيم ": (إن الحديث بهذا اللفظ ضعيف جدا. . . ولئن كان اللفظ الآتي - أي في منار السبيل - وهو اللفظ المذكور عندنا هنا يحتمل التحسين، فهذا ليس كذلك لما في سنده من الضعف الشديد كما رأيت) (4) .
قلت: حكم الشيخ الألباني عليه بالضعف مع بيان احتمال التحسين عنده أيضا كما تقدم، وقال الكتاني: (وحاصل هذا أنه بالنظر لطريق قرة بانفرادها حسن، وبالنظر لما احتف به من المتابعات والشواهد، وهذا ما تشد عليه الأيدي في هذه الرواية) (5) .
والذي يظهر لي أن الحديث بلفظ: "بحمد الله" أو: "بذكر الله" لا يقل عن درجة الحسن لذاته، ومن حكم عليه بالصحة
__________
(1) انظر كشف الخفاء (2 \ 119) .
(2) جاء عنده سهوا (قرة بن خالد) والصواب ما ذكرته.
(3) انظر تعليقه على حديث رقم 494 من عمل اليوم والليلة للنسائي \ 345
(4) انظر إرواء الغليل (1 \ 30) .
(5) انظر الأقاويل المفصلة له \ 23.(39/212)
فالمراد بها الصحيح لغيره، لأن الحديث الحسن لذاته يتقوى بالشواهد والمتابعات إلى الصحيح لغيره والله أعلم.
قال الحافظ ابن حجر: (وقد اعترض على المصنف -أي البخاري - لكونه لم يفتتح الكتاب بخطبة تنبئ عن مقصوده بالحمد والشهادة امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله أقطع (1) » ، وقوله: «كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء (2) » أخرجهما أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والجواب عن الثاني: أن الحديثين ليسا على شرطه، بل في كل منهما مقال) ثم قال: (سلمنا صلاحيتهما للحجة، لكن ليس فيهما أن ذلك يتعين بالنطق والكتابة معا، فلعله حمد وتشهد نطقا عند وضع الكتاب، ولم يكتب ذلك اقتصارا على البسملة؛ لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة ذكر الله، وقد حصل بها، ويؤيده أن أول شيء نزل من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (3) فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها) (4) .
ويؤيده أيضا وقوع كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وكتبه في القضايا مفتتحة بالتسمية دون حمدلة وغيرها، مما سيأتي في حديث أبي سفيان في قصة هرقل، وكما سيأتي في حديث البراء في قصة سهيل بن عمرو في صلح الحديبية، وغير ذلك من الأحاديث) (5) .
ثم قال الحافظ ابن حجر: (وهكذا كان يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) .
(2) سيأتي تخريجه بعد قليل إن شاء الله تعالى.
(3) سورة العلق الآية 1
(4) انظر فتح الباري (1 \ 8) .
(5) انظر فتح الباري (1 \ 8) .(39/213)
إلى الملوك بـ: (بسم الله الرحمن الرحيم) ، كما جاء في صحيح البخاري (1) - كتاب التفسير - حيث جاء فيه قال: " ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. . .) (2) .
قال النووي: (فيه استحباب تصدير الكتب بـ: بسم الله الرحمن الرحيم، وإن كان المبعوث إليه كافرا، وأن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم (3) » يحمل على ذكر الله كما جاء في رواية أخرى: «بذكر الله تعالى» ، وهذا الكتاب كان ذا بال، بل من المهمات العظام، وبدأ فيه بالتسمية دون الحمد) (4) .
ثم قال الحافظ ابن حجر بعد أن نقل كلام النووي السابق الذكر: (والحديث الذي أشار إليه أخرجه أبو عوانة في صحيحه، وصححه ابن حبان أيضا، وفي إسناده مقال، وعلى تقدير صحته فالرواية المشهورة فيه بلفظ: "حمد الله"، وما عدا ذلك من الألفاظ التي ذكرها النووي وردت في بعض طرق الحديث بأسانيد واهية) (5) قلت: نعم ورد في بعضها بأسانيد واهية كما تقدم في متن الحديث، وليس كلها كما سبق في التخريج.
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه شاهد من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه أيضا.
ولذا قال الشوكاني بعد أن ذكر حديث أبي هريرة رضي الله
__________
(1) (8 \ 215) مع الفتح.
(2) انظر فتح الباري (8 \ 220) .
(3) سنن أبو داود الأدب (4840) ، مسند أحمد بن حنبل (2/359) .
(4) انظر شرح النووي على صحيح مسلم (12 \ 107 - 108) .
(5) انظر فتح الباري (8 \ 220) .(39/214)
عنه: (وفي الباب عن كعب بن مالك عند الطبراني والرهاوي) (1) .
قال الطبراني: (حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي، ثنا عبد الله بن يزيد الدمشقي، ثنا صدقة بن عبد الله، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد أقطع أو أجذم (2) » .
ومن طريقه عبد القادر الرهاوي في الأربعين قال: (أخبرني عمر بن محمد بن أبي بكر المؤدب، أخبرنا السيد أبو الحسن علي بن هشام العلوي، أخبرنا أبو بكر - هو ابن زبيدة - أخبرنا أبو القاسم - هو الطبراني الحافظ - فذكره بمثل إسناده المذكور، وكذا ساقه السبكي من طريقه) .
قال الهيثمي: (رواه الطبراني في الكبير، وفيه صدقة بن عبد الله ضعفه أحمد، والبخاري، ومسلم وغيرهم، ووثقه أبو حاتم ودحيم في رواية) (3) .
__________
(1) انظر نيل الأوطار (3 \ 299) .
(2) انظر المعجم الكبير (19 \ 72) ، ومن طريقه رواه السبكي في طبقاته (1 \ 14) ، وذكره الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف \ 11 (حديث رقم 1) بإسناد الطبراني.
(3) انظر مجمع الزوائد (2 \ 188) .(39/215)
وقال الشيخ الألباني: (وهذا سند ضعيف، صدقة هذا ضعيف كما قال الحافظ في التقريب) (1) .
قلت: مثله يعتبر به، وإنما ضعفه من ضعفه من قبل حفظه، وكذا من جهة البدعة، ولذا قال أبو زرعة: كان قدريا لينا، وقال أبو حاتم: محله الصدق أنكر عليه القدر فقط، وقال أيضا: نظرت في مصنفات صدقة بن عبد الله السمين عند عبد الله بن يزيد بن راشد المقرئ، وقلت لدحيم عنه، فقال: محله الصدق، غير أنه كان يشوبه القدر، وكتب عن الأوزاعي ألفا وخمسمائة حديث، وكان صاحب حديث، كتب إليه الأوزاعي في رسالة القدر يعظه فيها (2) . قلت: وهذا يدل على ملازمته وقربه من الأوزاعي حيث إنه أكثر عنه، قال سعيد بن عبد العزيز: (جاءني الأوزاعي فقال لي: من حدثك بذاك الحديث؟ قلت: الثقة عندي وعندك، صدقة بن عبد الله) (3) ، فتلاميذ صدقة أدرى به من غيره، فهذا سعيد بن عبد العزيز يخاطب الأوزاعي بقوله: صدقة الثقة عندي وعندك، وأقره الأوزاعي.
قال ابن عدي: (أكثر أحاديثه مما لا يتابع عليه وهو إلى الضعف أقرب) (4) .
__________
(1) انظر إرواء الغليل تخريج أحاديث منار السبيل (1 \ 32) .
(2) انظر الميزان (2 \ 310 - 311) .
(3) انظر الميزان (2 \ 311) .
(4) انظر الميزان (2 \ 311) .(39/216)
وضعفه أحمد والبخاري وابن نمير ويحيى والنسائي والدارقطني (1) .
قلت: ضعفه ناتج عن سوء حفظه أو عند بدعته كما تقدم، فمثله يصلح للاعتبار والتقوية.
وقال الدارقطني: (ورواه صدقة عن محمد بن سعيد، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح الحديث، وصدقة ومحمد بن سعيد ضعيفان، والمرسل هو الصواب) (2) .
قلت: ليس في إسناد الطبراني محمد بن سعيد، إنما عنده محمد بن الوليد الزبيدي، وهو من رجال الصحيحين، ثقة، وقد تابع محمد بن سعيد عن الزهري متابعة تامة، وأما صدقة فقد تقدم الكلام عليه.
ومن هنا لم يتعرض له الهيثمي كما تقدم في رجال الطبراني، ولم يذكر إلا صدقة فقط أنه مختلف فيه، فهذا يشهد لحديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولم يعلل الدارقطني الحديث بمخالفة صدقة قرة في إسناده، وإنما علله بضعف صدقة ومحمد، وأن المرسل هو الصواب، فقول الشيخ الألباني: فلا يصح أن تجعل هذه المخالفة سندا في تقوية الحديث كما فعل السبكي؛ ففيه نظر.
قلت: لأن الاحتمال الذي ذكره السبكي وارد بأن يكون الزهري
__________
(1) انظر الميزان (2 \ 310) .
(2) انظر سنن الدارقطني (1 \ 229) في أول كتاب الصلاة.(39/217)
سمع الحديث من أبي سلمة عن أبي هريرة، ومن ابن كعب، عن أبيه، وعندئذ هي تؤيد الرواية الأولى وتعضدها، ويكون بذلك روى الحديث عنه صحابيان: كعب، وأبو هريرة رضي الله عنهما كما ذكر السبكي (1) ، ولا مانع فيه، وله نظائر عند المحدثين.
وبمناسبة تقارب الموضوع إليك تخريج حديث: «كل خطبة ليست فيها تشهد فهي كاليد الجذماء (2) » .
قال أبو داود: (حدثنا مسدد، وموسى بن إسماعيل قالا: حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عاصم بن كليب، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. . .) الحديث (3) .
رجاله ثقات كلهم سوى عاصم بن كليب بن شهاب الجرمي ووالده، فهم صدوقان، وأخرجه الترمذي في سننه (4) فقال: (حدثنا أبو هشام الرفاعي حدثنا محمد بن فضيل عن عاصم به مثله وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب) (5) .
وذكره المنذري في مختصر سنن أبي داود (6) ، ونقل عن الترمذي أنه قال: حسن غريب.
وأخرجه ابن حبان فقال: (أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أنبانا
__________
(1) انظر طبقات الشافعية الكبرى (1 \ 16) .
(2) سنن الترمذي النكاح (1106) ، سنن أبو داود الأدب (4841) .
(3) انظر سنن أبي داود (5 \ 173) كتاب الأدب في الخطبة.
(4) انظر (3 \ 405) كتاب النكاح باب ما جاء في خطبة النكاح.
(5) انظر (3 \ 405) كتاب النكاح باب ما جاء في خطبة النكاح.
(6) انظر (7 \ 190) الأدب باب في الخطبة(39/218)
المخزومي المغيرة بن سلمة، حدثنا عبد الواحد بن زياد به مثله) (1) .
وذكره الشيخ الألباني في صحيح الجامع الصغير (2) فقال: صحيح، وأحال إلى الأجوبة النافعة (ص48) .
وكذلك يستأنس في الموضوع بالأحاديث الواردة في خطبة الحاجة وأولها: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله (3) » ، ورواها ستة من الصحابة أخرجها الشيخ الألباني كلها من طريقهم جميعا.
والأحاديث الواردة في ذكر الحمد والبسملة واستحباب ذكرهما كذلك تؤيد معنى الحديث، كما أن استناد الأئمة على هذا الحديث في بناء حكم الاستحباب بذكر الحمد والبسملة والبدء بهما يؤيد ذلك ويقويه.
إليك بعض من ذكر الحديث، وبنى عليه استحباب البدء بالحمد مستندا إليه أو بالبسملة: ممن استند على الحديث
__________
(1) انظر موارد الظمآن في زوائد صحيح ابن حبان \ 152.
(2) انظر (4 \ 172) ، برقم (4396) .
(3) صحيح مسلم الجمعة (868) ، سنن النسائي النكاح (3278) ، سنن ابن ماجه النكاح (1893) ، مسند أحمد بن حنبل (1/350) .(39/219)
المذكور ووضع له عنوانا: ابن أبي شبية في مصنفه (1) كتاب الأدب فقال: (باب ما قالوا فيما يستحب أن يبدأ به الكلام) ثم ساق الحديث، وابن حبان في صحيحه (2) ، حيث قال في موضع: (ذكر الأخبار عما يجب على المرء من ابتداء الحمد لله جل وعلا في أوائل كلامه عند بغية مقاصده) ، ثم ساق الحديث، ثم عنون في موضع آخر فقال: (ذكر الأمر للمرء أن تكون فواتح أسبابه بحمد الله جل وعلا لئلا تكون أسبابه بترا) (3) .
وكذا ذكره أبو عوانة في خطبة كتابه الصحيح المستخرج على صحيح مسلم مستندا به.
وأخرجه الرهاوي في خطبة الأربعين له، كما نقله عنه السخاوي، وعن السخاوي نقله ابن علان (4) ، مما يدل على الامتثال به.
وقال الخطيب في كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: (وينصت المستملي الناس إن سمع منهم لغطا، فإذا أنصت الناس قال: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وإنما استحببت له ذلك؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
__________
(1) انظر (9 \ 116) له.
(2) انظر الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان (1 \ 103) ، وكذا هو في الموارد برقم (1993) .
(3) انظر الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان (1 \ 103) ، وكذا هو في الموارد برقم (1993) .
(4) انظر الفتوحات الربانية (3 \ 290) .(39/220)
قال، فذكر حديث البدء بالبسملة والحمدلة (1) وقد تقدم تخريجه، فاستناده على الحديث واستحبابه ذكر ذلك يدل على صلاحية الحديث للاحتجاج عنده، ولو في فضائل الأعمال، وعقبه بعد ذكر الحديث بقوله: (وإذا استعمل الخبرين حاز الفضلين) .
وقال أيضا في كتابه الفقيه والمتفقه (2) : (وليكن أول ما يفتتح به الكلام بعد التسمية " الحمد لله ") .
وذكره البيهقي تحت باب ما يستدل به على وجوب التحميد في خطبة الجمعة (3) ، مع غيره من الأحاديث التي ذكرها في هذا الموضوع.
وذكره النووي في شرحه على صحيح مسلم قبيل باب آداب الطعام فقال: (قال أصحابنا: يستحب أن يذكر اسم الله تعالى على كل أمر ذي بال، وكذلك يحمد الله في أول كل أمر ذي بال للحديث الحسن المشهور فيه) (4) .
وفي المجموع شرح المهذب (5) عند بدء المصنف الشيخ أبو إسحاق بـ "الحمد لله" فقال: (بدأ - رحمه الله - بالحمد لله للحديث المشهور عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) فذكر الحديث بألفاظه الواردة كلها، وقال: (ورينا كل هذه
__________
(1) انظر (2 \ 69) .
(2) انظر (2 \ 123) .
(3) انظر السنن الكبرى للبيهقي (3 \ 208) .
(4) انظر (13 \ 185) .
(5) انظر (1 \ 73) .(39/221)
الألفاظ في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي. . .) (1) .
ثم قال: (قال العلماء رحمهم الله: يستحب البداءة بالحمد لكل مصنف ودارس ومدرس، وخطيب وخاطب، ومزوج ومتزوج، وبين يدي سائر الأمور المهمة. قال الشافعي رحمه الله: أحب أن يقدم المرء بين يدي خطبته وكل أمر طلبه حمدا لله تعالى، والثناء عليه سبحانه، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
ثم عقد النووي فصلا في الأذكار (3) فقال: (اعلم أن الحمد مستحب في ابتداء كل أمر ذي بال كما سبق، ويستحب بعد الفراغ من الطعام والشراب والعطاس، وعند خطبة المرأة - وهو طلب زواجها - وكذا عند عقد النكاح، وبعد الخروج من الخلاء) (4) ، ويستحب في ابتداء الكتب المصنفة كما سبق.
وحمد الله ركن في خطبة الجمعة، لا يصح شيء منها إلا به، ويستحب أن يختم دعاءه بالحمد لله رب العالمين، كذلك يبتدئه به، ويستحب حمد الله تعالى عند حصول نعمة أو اندفاع مكروه سواء حصل ذلك له أو لصاحبه أو للمسلمين؛
__________
(1) انظر (1 \ 73) .
(2) المجموع (1 \ 73) ، والأذكار للنووي \ 103.
(3) انظر (103 - 104) .
(4) وانظر لذلك أيضا تفسير ابن كثير (1 \ 18) حيث ذكر أكثر هذه المواضع وزاد.(39/222)
وذلك لما ورد في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي ليلة أسري به بقدحين من خمر ولبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن، فقال له جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: الحمد لله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك (1) » . .
وقد تقدم كلام الحافظ ابن حجر في إجابته على الاعتراض الذي وجه للبخاري في عدم افتتاحه كتابه بخطبة تنبئ عن مقصوده بالحمد والشهادة امتثالا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم. فذكر الحديث المذكور، وحديث: " كل خطبة ليس فيها شهادة. . . ".
ثم قال الحافظ ابن حجر: (ثم اللفظ وإن كان عاما لكن أريد به الخصوص وهي الأمور التي تحتاج إلى تقدم الخطبة، أما المراسلات فلم تجر العادة الشرعية ولا العرفية بابتدائها بذلك، فالابتداء بالحمد واشتراط التشهد خاص بالخطبة، بخلاف بقية الأمور المهمة، فبعضها يبدأ فيه بالبسملة تامة كالمراسلات، وبعضها ببسم الله فقط كما في أول الجماع والذبيحة - (قلت: وعند الأكل) - وبعضها بلفظ من الذكر مخصوص كالتكبير، وقد جمعت كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وغيرهم فلم يقع في واحد منها البداءة بالحمد بل بالبسملة وهو يؤيد ما قررته) ا. هـ (2) .
__________
(1) الحديث المشار إليه أخرجه البخاري في صحيحه (5 \ 224) كتاب التفسير، باب قوله: أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام، ومسلم في صحيحه (1 \ 154) الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) انظر فتح الباري (8 \ 220) .(39/223)
قلت: كلامه يؤيد كلام السبكي من أن المراد من الحمد أو البسملة ما هو أعم، وهو ذكر الله؛ لأن غالب الأعمال الشرعية غير مفتتحة بالحمد كاملا، فإنها مفتتحة بالتكبير كما في الصلاة، أو بغيره كما في الحج وغير ذلك (1) .
قلت: بل اجتمعت في افتتاح الصلاة بالجميع بذكر الله المتمثلة في التكبير والبسملة والحمد لله.
فالمهم أن تفتتح بذكر الله تعالى سواء بلفظ الحمد، أو بسم الله، أو بالتكبير ونحوها؛ لأن كلها داخلة في ذكر الله تعالى، ورواية " ذكر الله " حسنة كما تقدم.
وكذا استند على الحديث الزمخشري في تفسيره الكشاف (2) كدليل على تقديم اسم الله فقال: (إن المؤمن لما اعتقد أن فعله لا يجيء معتدا به في الشرع واقعا على السنة حتى يصدر بذكر اسم الله؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله (3) » . . . الحديث.
وكذا استند الحافظ ابن كثير إليه في استحبابية التسمية في أول كل قول وعمل، حيث قال: ولهذا تستحب - أي التسمية - في أول كل عمل وقول، فتستحب في أول الخطبة؛ لما جاء: «كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أجذم (4) » ، وتستحب في أول الوضوء؛ لما ورد في مسند الإمام أحمد: «لا وضوء لمن لم يذكر الله (5) »
__________
(1) انظر طبقات الشافعية الكبرى له (1 \ 18) .
(2) انظر (1 \ 31) .
(3) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) .
(4) سنن أبو داود الأدب (4840) ، مسند أحمد بن حنبل (2/359) .
(5) سنن الترمذي الطهارة (25) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (398) .(39/224)
وهو حديث حسن (1) .
وقال المناوي: وفيه - أي: في الحديث الذي ذكره بلفظ «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة علي (2) » . . . " - كالذي قبله - أي بدون هذه الزيادة- تعليم حسن وتوقيف على أدب جميل، وبعث على التيمن بالذكرين، والتبرك بهما، والاستظهار بمكانهما. . . وقد توارث العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا الله وصلوا على نبيه أمام كل علم مفاد، وقبل كل عظة وتذكرة، وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المترسلون فأجروا عليه أوائل كتبهم من الفتوح والتهاني، وغير ذلك من الحوادث التي لها شأن (3) .
وقال الشوكاني: (افتتح المؤلف - أي أبو البركات - الكتاب - أي المنتقى- بحمد الله سبحانه وتعالى أداء لحق شيء مما يجب عليه من شكر النعمة التي من آثارها تأليف هذا الكتاب، وعملا بالأحاديث الواردة في الابتداء به، ثم ساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه المذكور (4) .
كما ذكره الشيخ زكريا الأنصاري في افتتاح المؤلف بحمد الله في شرحه: فتح الباقي، كمستند للمؤلف ببدئه بذلك، وقال: فالمراد بعد ذكر الله ليشمل البسملة والحمدلة، وكل منهما ذكر
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير (1 \ 18) .
(2) سنن أبو داود الأدب (4840) ، سنن ابن ماجه النكاح (1894) .
(3) انظر فيض القدير (5 \ 14) .
(4) انظر نيل الأوطار للشوكاني (1 \ 14) .(39/225)
الله، فيكون قد ابتدأ بهما اقتداء بالكتاب العزيز، وعملا بخبر: "كل أمر ذي بال لم يبدأ ببسم الله"، وفي رواية: "بحمد الله"، ببعض تصرف (1) .
وقال السخاوي: عقب قول المصنف من بعد حمد الله عملا بحديث: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع (2) » .
وليس الغرض استقراء من استند على الحديث في بناء حكم استحباب الافتتاح بالحمد لله أو بسم الله، بل صنيع كل من صنف أو ألف أكبر برهان على التمسك بهذا الحديث والعمل به عند سلف هذه الأمة، وعند المتأخرين بالتواتر سواء استنادا على هذا الحديث أو غيره من الأحاديث.
وبعد هذا العرض المختصر لبعض كبار العلماء في الاستناد على الحديث المذكور، تكملة للبحث إليك بعض المواضع التي تذكر فيها البسملة أو الحمدلة.
__________
(1) انظر فتح الباقي في شرح ألفية العراقي (1 \ 6)
(2) انظر فتح المغيث في شرح ألفية الحديث (1 \ 9) تحقيق عبد الرحمن محمد.(39/226)
بيان أهم المواضع التي تذكر فيها البسملة والحمدلة استحبابا أو وجوبا
لا شك أن القرآن الكريم أعظم الكتب المنزلة وأفضلها، وهو ذو شأن عظيم، ومن هنا نرى أنه افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم(39/226)
والحمد لله رب العالمين، جاء الأمر في أول آية نزلت في القرآن لرسوله بأن يقرأ باسمه تعالى قال الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (1) ، قال الحافظ في الفتح: (ويؤيده -أي البخاري في افتتاحه ببسم الله- أن أول شيء نزل من القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} (2) فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها) .
وقال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (3) [هود: 41] .
ولا شك أن البسملة لها فضل كبير، بها يدحر الشيطان ويذل ويصغر كما في الحديث الصحيح أن رجلا قال: «كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، فعثرت دابته، فقلت: تعس الشيطان، فقال: لا تقل تعس؛ فإنك إذا قلت ذلك تعاظم حتى يكون مثل البيت ويقول: بقوتي [صنعته] (4) » - وفي مسند أحمد: «بقوتي صرعته - قل: بسم الله، فإنك إذا قلت ذلك تصاغر حتى يكون مثل الذباب (5) » .
وأيضا ثبت عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله سيخلص رجلا من أمتي على
__________
(1) سورة العلق الآية 1
(2) سورة العلق الآية 1
(3) سورة هود الآية 41
(4) ما بين المعكوفين من عمل اليوم والليلة للنسائي.
(5) أخرجه أبو داود في سننه (5 \ 260) كتاب الأدب باب: 85، واللفظ له، ورجاله ثقات كلهم، والنسائي في عمل اليوم والليلة \ 373 برقم (554 و 555) ، وعبد الرزاق في مصنفه: (11 \ 24) ، وأحمد في مسنده: (5 \ 59) و 71 و 265) ، والحاكم في المستدرك (4 \ 292) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.(39/227)
رؤوس الخلائق (1) » فذكر الحديث بطوله، وفي آخره: «ولا يثقل مع اسم الله شيء (2) » .
فكيف يغفل العبد عن ذكر اسم الله تعالى في المهمات وفي صباحه ومسائه؟ وقد ورد في الحديث الصحيح: أن من يذكر اسم الله في الصباح أو في المساء يكون في حفظ الله تعالى من أن يضره شيء. عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، إلا لم يضره شيء (3) » .
ومما ورد: ذكر التسمية عند الأكل؛ كما ثبت عن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: «كنت غلاما في حجر رسول الله، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2639) ، سنن ابن ماجه الزهد (4300) ، مسند أحمد بن حنبل (2/213) .
(2) أخرجه الترمذي في سننه (4 \ 133 - 134) كتاب الإيمان باب: فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله واللفظ له وقال: حسن غريب، وأخرجه أحمد في مسنده (2 \ 212) ، وابن حبان في صحيحه، كما في موارد الظمآن \ 625، والحاكم في المستدرك (1 \ 6) ، وصححه، ووافقه الذهبي، ولفظ أحمد: ''لا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم''.
(3) أخرجه الطيالسي في مسنده (1 \ 251) بترتيب الساعاتي واللفظ له، والترمذي في سننه (5 \ 133) كتاب الدعوات باب: ما جاء في الدعاء إذا أصبح أو أمسى، وقال: حديث حسن غريب صحيح، وابن ماجه في سننه (2 \ 1272) كتاب الدعاء باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح أو أمسى، وأحمد في مسنده (1 \ 62 و66) ، والبخاري في الأدب المفرد \ 225، والحاكم في المستدرك (1 \ 514) ، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه كما في الموارد (585) ، والطبراني في الدعاء حديث (317) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة حديث (17 و18) ، وابن أبي شيبة في المصنف (10 \ 228) ، وقال ابن حجر في نتائج الأفكار (2 \ 347، 348) : هذا حديث حسن صحيح.(39/228)
غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك. فما زالت تلك طعمتي بعد (1) » ، متفق عليه.
وإن الشيطان ليلهي العبد وينسيه ذكر اسم الله لكي يجد له منفذا ليشاركه في أكله وشربه، ويستحل طعامه بذلك، ويبيت عنده بالليل، وإذا ذكر اسم الله لم يحصل له ذلك.
روى حذيفة رضي الله عنه قال: «كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم طعاما لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرة طعاما فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع، فأخذ بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان ليستحل الطعام أن لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها، فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به، فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها (2) » رواه مسلم.
وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان جنح الليل، أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم؛ فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فحلوهم
__________
(1) البخاري في صحيحه (6 \ 196) كتاب الأطعمة باب التسمية على الطعام، ومسلم في صحيحه (2 \ 1599) كتاب الأشربة باب آداب الطعام والشراب.
(2) مسلم في صحيحه (2 \ 1597) كتاب الأشربة باب آداب الطعام، وأبو داود في سننه (2 \ 139) الأطعمة باب التسمية على الطعام، وأحمد في مسنده (5 \ 282 - 283) .(39/229)
وأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم، واذكروا اسم الله (2) » متفق عليه.
كما أنه ينبغي للعبد المؤمن أن ينام بسم الله، ويقوم من نومه بالثناء عليه والحمد له تعالى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفض فراشه بداخلة إزاره؛ فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين (3) » ، متفق عليه.
وجاء في رواية حذيفة بن اليمان وأبي ذر الغفاري رضي الله عنهما بلفظ قالا: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: باسمك أموت وأحيا، وإذا قام قال: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور (4) » رواه البخاري.
كما أن دخول العبد البيت يكون بسم الله تعالى، كذا ينبغي أن يفتتح خروجه بذكر اسم الله تعالى، وأيضا ركوبه به.
فعن أم سلمة رضي الله عنها، «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من بيته قال: بسم الله، توكلت على الله، اللهم إنا نعوذ بك من
__________
(1) البخاري في صحيحه (6 \ 249، 250) كتاب الأشربة باب تغطية الإناء، ومسلم في صحيحه (3 \ 1595) كتاب الأشربة باب الأمر بتغطية الإناء وإيكاء السقاء.
(2) خمروا آنيتكم أي غطوها. (1)
(3) البخاري في صحيحه (7 \ 149) كتاب الدعوات باب 13، ومسلم في صحيحه (4 \ 2084) كتاب الذكر والدعاء باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع.
(4) في صحيحه (7 \ 147) الدعوات باب ما يقول إذا نام، وفي (7 \ 150) باب ما يقول إذا أصبح، وكذا في كتاب التوحيد باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها (8 \ 169) .(39/230)
أن نزل أو أن نضل، أو نظلم أو نظلم، أو نجهل أو يجهل علينا (1) » قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وروى أبو لاس الخزاعي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من بعير لنا إلا وفي ذروته شيطان، فاذكروا اسم الله عليها إذا ركبتموها كما أمرتكم (2) » الحديث، حديث حسن، وصححه ابن خزيمة والحاكم ووافقه الذهبي.
وينبغي للعبد المؤمن أن يلتزم بذكر اسم الله تعالى في سائر أمور حياته، حتى عند الوقاع والجماع، حرزا من ضر الشيطان إذا قدر له ولد، وعند الغزو ومواجهة العدو.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا. فقضي بينهما ولد، لم يضره (3) » متفق
__________
(1) الترمذي في سننه (5 \ 154 - 155) أبواب الدعوات باب 35 وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن أبي شيبة في مصنفه (10 \ 211) ، وأحمد في مسنده (6 \ 218) ، والطبراني في الدعاء حديث رقم (411) ، والحاكم في المستدرك (1 \ 519) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث أنس رضي الله عنه عند أبي داود والنسائي في عمل اليوم والليلة، وعند ابن حبان وغيرهم.
(2) رواه أحمد في مسنده (4 \ 221) بإسناد حسن، وابن خزيمة في صحيحه (4 \ 73) ، والطبراني في المعجم الكبير (22 \ 334) ، والحاكم في المستدرك (1 \ 444) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وله شاهد صحيح، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10 \ 131) : رواه أحمد والطبراني بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح غير محمد بن إسحاق، وقد صرح بالسماع في أحدها.
(3) البخاري 10 \ 44-45 كتاب الطهارة باب التسمية على كل حال وعند الوقاع، وكذا في الدعوات باب ما يقول إذا أتى أهله 7 \ 162، وكذا في التوحيد (8 \ 169 -170) ، ومسلم في (2 \ 1057) كتاب النكاح باب ما يستحب أن يقول عند الجماع.(39/231)
عليه.
ومن وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم وصيته أمراء الجيوش مع من معهم من المسلمين بتقوى الله تعالى، وأن يبدأ الغزو ببسم الله.
روى بريدة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: اغزوا بسم الله، قاتلوا من كفر بالله. (1) » . . . . . الحديث رواه مسلم.
وقد ثبت أن جبريل رقى النبي صلى الله عليه وسلم بسم الله، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه أيضا أنه رقي ببسم الله وعلم غيره الرقية ببسم الله.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه «أن جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أشتكيت؟ فقال: نعم. قال: بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك، بسم الله أرقيك (2) » رواه مسلم.
وجاء في الحديث المتفق عليه عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للمرضى في الرقية: بسم الله
__________
(1) في صحيحه (3 \ 1356) كتاب الجهاد باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث.
(2) مسلم في صحيحه (4 \ 1718-1719) كتاب السلام باب الطب والمرض والرقى.(39/232)
تربة أرضنا، وبريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا (1) » .
وكذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تعليمه الرقية بسم الله لمن يشكو ألما في جسده، فعن «عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر (2) » رواه مسلم في صحيحه.
وإذا فارق العبد المؤمن هذه الحياة ينبغي أن يدفن ويذكر اسم الله عند وضعه في القبر، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهما: عنه: «أنه كان إذا وضع الميت في القبر قال: بسم الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) » .
هذه أهم المواضع التي يذكر اسم الله تعالى فيها، وينبغي للعبد أن يلازم ذكر اسم الله تعالى في أمور حياته كلها.
وهناك مواضع أخرى؛ مثل: ذكر اسم الله عند الذبيحة، وعند إرسال الكلب المعلم وغيرهما، تركتها خشية التطويل؛
__________
(1) البخاري في 7 \ 24 كتاب الطب باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم في (4 \ 1724) كتاب السلام باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة.
(2) انظر (4 \ 1728) كتاب السلام باب استحباب وضع اليد على موضع الألم مع الدعاء.
(3) رواه أبو داود بإسناد رجاله ثقات كلهم، انظر (3 \ 546) كتاب الجنائز باب الدعاء للميت إذا وضع في قبره، والترمذي في سننه (2 \ 255) الجنائز باب ما يقول إذا دخل الميت قبره، وابن ماجه في سننه (1 \ 494-495) وقال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه، ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه (3 \ 329) و (10 \ 432) ، والحاكم في المستدرك (1 \ 366) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهو كما قاله.(39/233)
لأن الغرض بيان أهمية ذكر اسم الله تعالى في المهمات؛ وأنه لا ينبغي أن يغفل العبد المؤمن عن ذكر اسم الله تعالى في جميع أمور حياته المهمة رجاء حصول البركة بذكر اسم الله تعالى، وحفاظا من الشيطان الرجيم، وتجنبا منه، ولطرده به، كذلك فاسم الله تعالى حصنه الحصين.
وإليك بعض الروايات المهمة في ذكر الحمد ومواضعه:(39/234)
وجاء في القرآن الكريم آيات تصرح بالأمر بالحمد لله
ومن ذلك قول الله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} (1) وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} (2) وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} (3) وقال تعالى - في تحية أهل الجنة وفي آخر دعواهم: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) [يونس: 10] وقال تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (5) [غافر: 65] .
فهذه جملة من الآيات تحث على حمد الله وتأمر به وفي بعضها إثبات الحمد لله تعالى جل وعلا.
وجاء في الحديث الصحيح عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن - أو تملأ - ما بين السماوات والأرض (6) » رواه مسلم.
__________
(1) سورة النمل الآية 59
(2) سورة النمل الآية 93
(3) سورة الإسراء الآية 111
(4) سورة يونس الآية 10
(5) سورة غافر الآية 65
(6) مسلم في صحيحه (1 \ 202) الطهارة باب فضل الوضوء.(39/234)
وجاء في رواية البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا قال: «لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شيء أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه (1) » رواه البخاري.
وفي الحديث المتفق عليه: «ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة (2) » .
وعن الأسود بن سريع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس شيء أحب إليه من الحمد الله تعالى، ولذلك أثنى على نفسه فقال: (4) » ، ويتقوى هذا الحديث بالحديثين السابقين.
وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله (5) » وفي رواية: «أفضل الشكر الحمد لله (6) » وهو
__________
(1) في صحيحه (5 \ 194) التفسير: سورة الأنعام باب '' ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ''.
(2) البخاري (8 \ 174) كتاب التوحيد باب قوله صلى الله عليه وسلم: '' لا شخص أغير من الله ''، ومسلم (2 \ 1136) كتاب اللعان حديث رقم (1499) .
(3) رواه أحمد في مسنده (2 \ 435) ، والنسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف (1 \ 70) ، والبخاري في الأدب المفرد (1 \ 435) مع شرحه فضل الله الصمد، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (ق 125) ، وابن جرير في تفسيره (1 \ 9137) ، وصحح حديث الحسن عن الأسود الشيخ أحمد شاكر لثبوت سماعه منه لديه، وكذا صححه الحاكم ووافقه الذهبي انظر المستدرك (3 \ 614) .
(4) سورة الفاتحة الآية 2 (3) {الْحَمْدُ لِلَّهِ}
(5) سنن الترمذي الدعوات (3383) ، سنن ابن ماجه الأدب (3800) .
(6) الترمذي في سننه (5 \ 9130) أبواب الدعوات وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث موسى بن إبراهيم، ورواه ابن ماجه في سننه (831) ، وابن حبان في صحيحه كما في الموارد \ 578، والخرائطي في فضيلة الشكر حديث 7، وابن أبي الدنيا في كتاب الشكر \ 113، والحاكم في المستدرك (1 \ 498) وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي بقوله: (صحيح) ، وحسنه البغوي في شرح السنة (5 \ 49) .(39/235)
حديث حسن.
وتقدم ما يقوله المرء عند قيامه من النوم في ذكر اسم الله عند النوم.
وروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «عطس رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فشمت أحدهما ولم يشمت الآخر، فقيل له، فقال: هذا حمد الله، وهذا لم يحمد الله (1) » متفق عليه.
وذلك أن العاطس إذا عطس فمن الآداب الإسلامية أن يقول: الحمد لله. وحقه على الذي يسمع أن يشمته فيقول له: يرحمكم الله (2) .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع مائدته يحمد الله تعالى بعد الأكل شكرا لنعمه.
روى أبو أمامة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي، ولا مودع، ولا مستغنى عنه ربنا (3) » رواه البخاري في صحيحه.
وورد بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل أو شرب قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وجعلنا من مسلمين (4) » ، وفي رواية أبي داود:
__________
(1) البخاري (7 \ 124) كتاب الأدب باب الحمد للعاطس، وباب لا يشمت العاطس إذا لم يحمد الله، ومسلم (4 \ 2292) الزهد والرقائق باب تشميت العاطس.
(2) الحديث متفق عليه، وانظر عمل اليوم والليلة \ 235 - 243 بطرق كثيرة.
(3) (6 \ 214) كتاب الأطعمة باب ما يقول إذا فرغ من طعامه.
(4) سنن الترمذي الدعوات (3457) ، سنن ابن ماجه الأطعمة (3283) .(39/236)
«كان إذا فرغ من طعامه قال: (1) » . . . . الحديث.
وورد أيضا أنه «من لبس ثوبا فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (2) » رواه أبو داود.
فهذه جملة من الأحاديث تعلمنا الآداب، توجهنا بأن نعيش في أمور حياتنا ذاكرين الله تعالى وشاكرين له في كل نعمة له تستجد علينا، ولا نغفل عن المدح والثناء عليه في كل لحظة من حياتنا، ولا سيما فيما أمرنا الشارع بذلك، واستحب لنا ذكر اسم الله أو حمد الله والثناء عليه، لما يترتب من جراء ذلك فوائد مهمة وبركات عظيمة، وخيرات كثيرة، فيها مصالحنا في دنيانا وأخرانا.
وهذا آخر ما أردت إيراده في هذا البحث المفيد إن شاء الله تعالى، وأسأله سبحانه وتعالى أن ينفع به، ويعم نفعه، وأن يرزقنا الإخلاص وحسن النية في جميع الأعمال، إنه نعم المولى ونعم المجيب.
وصل الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم أجمعين. آمين.
__________
(1) رواه الترمذي (برقم 3453) كتاب الدعوات باب ما يقول إذا فرغ من الطعام، وأبو داود (برقم 3850) في الأطعمة باب ما يقول الرجل إذا طعم، وابن ماجه (برقم 3283) ، وحسنه الحافظ بن حجر في نتائج الأفكار، وانظر جامع الأصول (4 \ 306) تعليق (رقم 1) .
(2) السنن رقم (4023) في أول كتاب اللباس، وحسنه الحافظ في النتائج كما في الفتوحات الربانية لابن علان (1 \ 304) ، وانظر جامع الأصول (4 \ 309 حاشية 1)(39/237)
صفحة فارغة(39/238)
أوراق النقود ونصاب الورق النقدي
بقلم: محمد بن علي بن حسين الحريري
الباب الأول
معرفة المقادير واجب شرعي.
لقد حدثنا القرآن الكريم عن قوم شعيب أنهم كانوا يخسرون المكيال والميزان، فأرسل الله سبحانه نبيه شعيبا صلى الله عليه وسلم ليعيد تلك الأمة إلى جادة العدل، وينهاهم عن الإفساد في الأرض، قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (1) .
وما أروع لفتة الإمام القشيري في تفسيره أن المراد بالآية الكريمة -والله أعلم-: عدم إنقاص حجم المكيال عن المعهود والمتعارف، فالصنجات (الأوزان) يجب أن تكون وافية مضبوطة، وليس المراد إيفاء ما يكال أو يوزن، فذلك مضمون قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) .
فالأمر بإيفاء الكيل غير الأمر بإيفاء المكيال، فالآيات تقرر بوضوح ضرورة تحقق العدل في المكيل وآلة الكيل، وفي الموزون وآلة الوزن (3) .
ولا يقال هنا أن آية قوم شعيب شرع لمن قبلنا، فالراجح أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد ما ينسخه فكيف إذا جاءت شريعتنا تؤكد هذا المعنى وتدعمه، فالعدل أمرت به كل الشرائع السابقة ولهذا كانت الأوزان
__________
(1) سورة هود الآية 85
(2) سورة الإسراء الآية 35
(3) الإيضاح والتبيان، ص (46) ، تحقيق د. محمد فاروق(39/239)
والأكيال ضرورية لقيام العدل بين الناس، وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل الكيل والميزان: إنكم قد وليتم أمرين هلكت فيهما الأمم السالفة قبلكم (1) » قال عنه الترمذي: حديث حسن صحيح (2) .
وقد عرف المسلمون في صدر الإسلام عددا من المكاييل والموازين منها ما يختص بهم ومنها ما أخذوه من الأمم المجاورة، ومن أشهر الأوزان المتعارفة بينهم الدرهم والدينار، فقد كانا معروفين في العصر النبوي يتعامل بهما الناس، بدليل ذكرهما في القرآن الكريم، ولا يعقل أن يخاطب الشارع الأمة بما لا تعقله ولا تدرك معناه أو تعرفه، فمن ذلك قوله تعالى متحدثا عن أهل الكتاب:. . . . . {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (3) ، وقوله تعالى في سورة يوسف: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} (4) كما ذكرت الأحاديث النبوية الدرهم والدينار في أحاديث متعددة ومن أشهرها الحديث النبوي:. . . «منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشام مدها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم (5) » وقد فهم المستشرق - ولها وزن - من الحديث عكس معناه تماما عندما ظن أن الحديث يعني استحالة توحيد العملة الإسلامية، وعودة أقطار الإسلام إلى انفصالها القديم، بينما الراجح في معنى الحديث والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما لم يكن وهو في علم الله كائن بأن هذه البلاد ستدخل في الإسلام فتمنع بإسلامها ما يوظف عليها من الخراج والجزية (6) .
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1217) .
(2) الإيضاح والتبيان، ص (46) ، تحقيق د. محمد فاروق
(3) سورة آل عمران الآية 75
(4) سورة يوسف الآية 20
(5) رواه مسلم وأبو داود.
(6) النظم الإسلامية، ص410، د. صبحي الصالح.(39/240)
ولا يفهم من مجمل النصوص أن الحجاز عرفت سكة خاصة لضرب هذه النقود، بل كانت النقود المتداولة من ضرب الفرس والرومان، فكان الدرهم فارسي الضرب، بينما كان الدينار من بلاد الروم.
وكان العرب يتعاملون بهذه النقود وزنا لا عددا، وكأنها تبر غير مضروب نظرا لاختلاف القطع النقدية حجما ووزنا، وهناك ما يدل على أن أهل المدينة تعاملوا بالدراهم عددا وقت قدوم النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل النووي على ذلك في المجموع (1) بقول عائشة رضي الله عنها في قصة شرائها بريرة: (إن شاء أهلك أن أعدها لهم عدة واحدة فعلت) فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوزن وجعل عيار صنج الوزن بما يعرفه أهل مكة.
ما هو الدرهم؟
قال أبو عبيد: إن الدراهم التي كانت نقد الناس على وجه الدهر لم تزل نوعين: هذه السود الوافية، وهذه الطبرية العتق، فجاء الإسلام وهي كذلك (2) والدراهم السود المذكورة هي المعروفة بالدراهم البغلية، وزنها ثمانية دوانق - الدانق سدس الدرهم بعد الإصلاح النقدي - ولذا سميت وافية، وتنسب إلى ملك يدعى رأس بغل من الفرس، أما الطبرية: فهي أربعة دوانق وتنسب إلى طبرية بالشام - فلسطين - كما في المصباح المنير، ونسبها محقق الأموال إلى طبرستان وهو الصحيح؛ لأن العرب ما عرفوا الدراهم إلا من الفرس، أما الشام فعملتها الدينار الروماني. وعرف العرب الدراهم المغربية ووزنها: ثلاثة دوانق، ودرهم اليمن ووزنه: دانق واحد (3) .
__________
(1) المجموع 6 \ 14، والأموال ص467.
(2) الأموال ص467.
(3) الخراج والنظم المالية للريس ص 342.(39/241)
وقال في دائرة المعارف الإسلامية: الدرهم: اسم للمضروب من الفضة، وهو ستة دوانق أو: (نصف الدينار وخمسه) 7 \ 10 أي: سبعة أعشار الدينار، وكانت مختلفة الوزن في الجاهلية، فمنها الطبرية الخفيفة، والبغلية الثقيلة (1) وهو عند اللغويين بكسر الدال وفتح الهاء وكسرها، وأصل الكلمة عند المؤرخين مشتق من لفظ (دراخمة) اليونانية، وكانت العملة السائدة في الأقاليم الشرقية من العالم الإسلامي، لأن منطقة فارس كانت منطقة فضة، وقد اضطرب وزنه عبر التاريخ حتى أخذ وزنه الشرعي ستة دوانيق ونسبته إلى المثقال 7 \ 10 وهي النسبة الشرعية التي وحدت وزن الدرهم في العالم الإسلامي (2) وقبل أن يتحدد الدرهم بالنسبة الشرعية كان المسلمون يزكون أموالهم بشطرين من الكبار والصغار كما نقله عبد الحق ابن عطية عن صاحب الأموال (3) .
أنواع الدراهم عند الفقهاء: إذا أطلق الدرهم فيراد به درهم الفضة الجيد الخالص، وللفقهاء في أنواع الدراهم بحسب الغش الذي تتعرض له اصطلاحات لا بد من معرفتها لمن يمارس كتبهم، فمن ذلك:
الجياد: وهي من الفضة الخالصة، وتدرج في التجارات، وتوضع في بيت المال.
الزيوف: وهي المغشوشة، وما يرده بيت المال للزيف، ولكن يتعامل بها التجار، ويجوز الشراء بها بشرط بيان عيبها، وأول من ضربها عبيد الله بن زياد.
النهرجة: ما يرده التجار ويضرب في غير دار السك التابعة للسلطان.
الستوقة: أو الستوق بوزن تنور وهو صفر مموه بالفضة (4) وقد يكون
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية 9 \ 227، شنتناوي.
(2) النقود للمقريزي \ كتاب الكرمللي ص24.
(3) التراتيب الإدارية للكتاني 1 \ 413.
(4) حاشية ابن عابدين رد المحتار 5 \ 233.(39/242)
الطاق الأعلى والأسفل فضة وبينهما صفر وليس لها حكم الدراهم.
أما الدراهم الجياد فقد انتشرت في التعامل بين أهل مكة والمدينة، وفي الحديث عن علي رضي الله عنه قال: «زوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة على 480 درهما وزن ستة (1) » .
ما هو الدينار؟
مشتق من كلمة لاتينية يونانية - ديناريوس - وهو الوحدة الرئيسية من وحدات العملة الذهبية المتداولة في الإسلام وكثيرا ما يشبه بالشمس، كما يشبه الدرهم بالبدر كقول الشاعر:
ويظلم وجه الأرض في أعين الورى ... بلا شمس دينار ولا درهم
والأشهر فيه أنه لم يختلف وزنه في جاهلية ولا إسلام، وأن وزنه بدقة كما سنرى في الصفحات القادمة هو:
4. 25 غرام، وهو 66 حبة بحسب الوزن الذي ضربه عبد الملك بن مروان، ومن ذلك الوزن كان مصدر التقديرات الشرعية عموما، وهذا الوزن هو نفس وزن: (الصوليدوس) البيزنطي المعاصر لعبد الملك (2) ، ولكن التقدير بـ 66 حبة لم يقل به أحد، فهناك شبه اتفاق على أن الدينار 72 حبة، وقد ضرب عبد الملك الدينار الإسلامي أول مرة عام 76هـ - 696م في دمشق، ثم ضرب في القاهرة، وقرطبة بعد المائة الأولى.
وصار بعد عام 212 هـ يضرب في أكثر الحواضر الإسلامية، ولم يجر على الدينار أي تعديل في وزنه إلا في اليمن حيث ضرب دينار ذهبي بوزن
__________
(1) الأموال ص468 والحديث عند أبي داود والنسائي عن ابن عباس، وفي سنده: أصبغ بن نباتة المجاشعي قيل عنه: فيه لين، ضعيف متروك لين الحديث.
(2) دائرة المعارف الإسلامية 9 \ 327، والنقود العربية للكرمللي ص25.(39/243)
2. 97 غ، أي: بوزن الدرهم تماما.
وضرب آخر دينار في بغداد بعيد سقوط الدولة العباسية، واختفت كلمة دينار حوالي عام (661هـ - 1262م) (1) بعد الاجتياح المغولي.
وهذا الدينار كان معروفا لقريش في الجاهلية، فقد ذكر البلاذري في فتوح البلدان: (كانت لقريش أوزان في الجاهلية، فدخل الإسلام، فأقرت كما كانت عليه، فقد كانت قريش: تزن الفضة بوزن تسميه درهما، وتزن الذهب بوزن تسميه دينارا، ولهم وزن الشعيرة أو الحبة: 1 \ 60 من وزن الدرهم، وكانت لهم الأوقية وزن أربعين درهما) ، كما أورد البلاذري رواية أخرى قال: (كانت دنانير هرقل ترد إلى أهل مكة في الجاهلية، وترد عليهم دراهم الفرس البغلية - العبدية - فكانوا لا يتبايعون إلا على أنها تبر وزنا لا عددا، وكان المثقال عندهم معروف الوزن: اثنان وعشرون قيراطا إلا كسرا، ووزن العشرة دراهم سبعة مثاقيل، فكان الرطل اثنتي عشرة أوقية، وكل أوقية أربعين درهما، فأقر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون الأربعة، ومعاوية رضي الله عنهم أجمعين) (2) .
وهذا الدينار الذي كان يحمل من بلاد الروم هو: الذي ضربه عبد الملك عام 76هـ، وسأل عندها عن أوزان الجاهلية فأخبروه أن المثقال: اثنان وعشرون قيراطا إلا حبة بالشامي، وأن عشرة من الدراهم تعادل سبعة مثاقيل، فضربها كذلك، واستقر الأمر عليه فيما بعد (3) .
المثقال والدينار:
المثقال: من أوزان الكيل، أما الدينار فهو من أوزان النقد، وهذا
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية 9 \ 327.
(2) فتوح البلدان للبلاذري ص572، نشر د. صلاح الدين المنجد.
(3) قطع المجادلة للسيوطي ينقل عن الخطابي في معالم السنن والماوردي في الأحكام السلطانية(39/244)
الأمر أحد أسباب الاشتباه بين الوزنين، وهما في الحقيقة كمية واحدة وهو الراجح عند الفقهاء.
فالدينار عند الزيلعي من الحنفية هو المثقال، وقال ابن الهمام في فتح القدير: والظاهر أن المثقال: اسم للمقدار المقدر به، والدينار اسم للمقدر به بقيد ذهبيته (1) .
وكذلك الأمر عند ابن الرفعة من الشافعية الذي يعتبر درهم الكيل ودرهم وزن النقد واحدا (2) فكذلك الأمر في المثقال والدينار، ويرجح الدكتور صبحي الصالح أن المثقال والدينار شيء واحد باتفاق الفقهاء (3) .
ولكن الدكتور ضياء الدين الريس يميل إلى وجود اختلاف بين الدينار والمثقال، وهو ممن يهتم برأيه في هذا المجال، وبخاصة إذا علمنا أن علي مبارك في " الميزان في الأقيسة والأوزان " يرى نفس الرأي، ولكن الدكتور الريس يجزم أن الدينار الإسلامي الذي ضربه عبد الملك هو المثقال المكي بلا خلاف، ومن هنا نشأ القول بأن المثقال والدينار شيء واحد أي بميزان مكة.
ويمكنني أن أضيف إلى ما سبق: أن الآثار الواردة في نصاب الذهب كانت تعبر بالمثقال حينا وبالدينار حينا آخر، ففي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة» .
وفي حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار (4) »
ومهما قيل في ضعف هذه الأحاديث فهي تقوي بعضها بعضا ويعرف
__________
(1) رد المحتار لابن عابدين 2 \ 292.
(2) الإيضاح والتبيان ص59، 60.
(3) النظم الإسلامية ينقل عن مقدمة ابن خلدون، د. صبحي الصالح ص425
(4) سنن ابن ماجه الزكاة (1791) .(39/245)
رواتها ألا فرق بين المثقال والدينار (1) .
النسبة الشرعية تتعلق بالوزن لا بالقيمة
لقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد المكاييل والموازين للدولة المسلمة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن مكة (2) » ، وهذا يدل على أن وزن الدرهم والدينار (المثقال) كان معروفا لأهل مكة بشكل جيد، ولولا معرفتهم به لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاعتماد عليه في تقدير فروض الزكاة والأنكحة والديات وأروش الجنايات، ومن المعروف تاريخيا أن الدرهم يساوي: [2. 975] غرام، وأن الدينار (المثقال) يساوي: [4. 25] غرام، وهو ما انتهى إليه الباحثون من الفقهاء والمؤرخين بعد تجارب متعددة أجراها العلماء على وزن الحبوب، فكان مثقال الذهب: [72 حبة] ، وكان الدرهم: [2 \ 5 50] خمسون حبة وخمسا حبة.
وتكون نسبة الدرهم إلى الدينار: 7 \ 10 أي أن الدرهم يساوي سبعة أعشار المثقال (3) ، وهذه النسبة 7: 10 تعرف بالنسبة الشرعية، أو وزن بيت المال، فهي الصفة المميزة لنقود الدولة الإسلامية منذ تعارفها تجار مكة حتى ضربها عبد الملك بن مروان عام 76هـ، ويفهم من الحديث النبوي السالف الذكر أن هذه النسبة الشرعية تكاد تكون حكما شرعيا بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لها تبعا لإقرار موازين مكة.
وقد شاع استعمال هذه النسبة في جميع أوزان المسلمين كما ذكر الدكتور
__________
(1) فقه الزكاة للقرضاوي 1 \ 248 - يراجع تخريج الأحاديث.
(2) أخرجه أبو داود في البيوع، عون المعبود 3 \ 249، والنسائي في الزكاة، وصححه ابن حبان كما في شرح السنة للبغوي. وقال ابن حجر في التلخيص صححه ابن حبان والدارقطني والنووي، انظر الفتح الرباني 8 \ 244.
(3) الخراج والنظم المالية، د. ضياء الدين الريس ص346.(39/246)
عبد الرحمن فهمي في موسوعته عن النقود الإسلامية، حتى أن صناعة الموازين تأثرت بهذه النسبة، فقد ذكر إيليا المطران المتوفى 1406م في ذلك: (اتخذ ميزانا يكون عموده مستقيما صحيحا، وقسم عموده هذا إلى سبعة عشر قسما متساوية، وجعل علاقته - وسطه - على بعد سبعة أقسام من أحد طرفيه، وعلى بعد عشرة أقسام من الطرف الآخر، وركب عليه الكفتين وصححه، وإذا أردت أن تستخرج صنج المثاقيل من الدراهم فخذ سنجة الدرهم وضعها في الكفة التي تلي العشرة أقسام، وضع في الكفة الأخرى السنجة المجهول، فإذا صححته فذلك وزن المثقال) (1) .
وأما عن سبب اتخاذ هذه النسبة 7 \ 10 بين الدرهم والمثقال فقد اختلف الباحثون حولها إلى فريقين نعرضهما فيما يلي:
المذهب الأول: أن هذه النسبة هي العلاقة القائمة بين كثافة الذهب وكثافة الفضة، وهو تطبيق لقانون الوزن النوعي المعاصر في الكيمياء.
المذهب الثاني: أن هذه النسبة تمثل القيمة التبادلية لسعر صرف النقدين ببعضهما في الأسواق.
المذهب الأول:
يتزعم هذا القول الفقيه الشافعي ابن الرفعة في كتابه: الإيضاح والتبيان في المكيال والميزان، حيث قال في كتابه ينقل كلام القمولي الشافعي 727 هـ من كتابه البحر المحيط شرح الوسيط: (وإنما جعلت كل عشرة دراهم بوزن سبعة مثاقيل من الذهب؛ لأن الذهب أوزن من الفضة، فكأنهم جربوا حبة من الفضة ومثلها من الذهب ووزنوهما، فزاد وزن الذهب على الفضة مثل ثلاثة أسباعه، فلذلك جعلوا كل عشرة دراهم
__________
(1) مجلة البحث العلمي عدد 4، جامعة أم القرى العدد 4، مقال د. خاروف عن الموازين ص435.(39/247)
بوزن سبعة مثاقيل، فإذا أضيف للدراهم ثلاثة أسباعه صار وزن المثقال) (1) وهذا الكلام صحيح حسابيا كما يلي:
(وزن الدرهم) 2. 97 [2. 97 × 3 \ 7] = 4. 25 غرام (وزن الدينار) .
ولكنه إن صح حسابيا فلا يصح فيزيائيا؛ فكثافة الفضة [10. 5] وكثافة الذهب [19. 26] ، وهذه الأرقام لا تمثل تلك النسبة الشرعية. وقد تابع ابن الرفعة على قوله هذا الذهبي من متأخري الشافعية في رسالته عن النقود وكذلك المقريزي، وكلاهما مثبت في كتاب النقود العربية، وعلم النميات الذي أصدره: ماري انستاس الكرمللي (2) ، وقد افترض العلماء مسبقا أن تكون نسبة حبة الدرهم إلى حبة الدينار 7 \ 10، حيث جعلوا سنجة حبة الدينار منذ إنشائها تعادل 100 حبة خردل بري بينما تكون حبة الدرهم [70] خردلة برية، ويستقيم ذلك بوزن الغرام كما يلي:
الدينار 4. 25 × 7 = 29. 75
الدرهم 2. 975 × 10 = 29. 75، وتكون الحبة لكل منهما بحب الخردل هو غير الحبة التي تشكل 1 \ 60 من كل من الدرهم والدينار، وتبقى حقيقة النسبة الشرعية اصطلاحا للمجتمع أكثر منها واقعا علميا ولا علاقة لذلك بالكثافة أو الوزن النوعي للذهب والفضة.
__________
(1) الإيضاح والتبيان لابن الرفعة، ص58، تحقيق د. خاروف - نشر المركز العلمي لجامعة أم القرى.
(2) النقود العربية للكرمللي، ص41، 76، وانظر الوجيز للغزالي بحاشية المجموع 6 \ 6.(39/248)
المذهب الثاني:
ذهب فريق آخر إلى تعليل هذه النسبة الشرعية بأنها تمثل آخر رمز أو(39/248)
قيمة حسابية وصلت إليها علاقة الذهب بالفضة في سلم علاقات هذين المعدنين في التجارة الدولية منذ أقدم العصور، فالنسبة تعبر عن القيمة التبادلية لسعر صرف أحد المعدنين بالآخر، فمنطقتنا هذه - الشرق الأوسط - كانت منذ أقدم العصور تنقسم إلى منطقتين تجاريتين:
الأولى: بلاد ما بين النهرين وما يتبعهما من أقاليم فارس، وكانت تعتمد على الفضة في نقدها ومبادلاتها بمعنى أن الفضة هي قاعدتها النقدية.
الثانية: بلاد الشام ومصر وأوربا وهي التي تتبع الرومان اقتصاديا، وكانت قاعدتها النقدية هي الذهب، وكانت كل منطقة من هذه المناطق تدعم نقدها خلال تعاملها مع المنطقة الأخرى، وكان سعر صرف أحد النقدين بالنسبة للآخر يختلف متأثرا بموازين التجارة العالمية، ففي مرحلة ما كانت النسبة بين النقدين 1 \ 10 ثم صارت 2-3-4 \ 10 حتى وصلت إلى النسبة 7 \ 10، وشاعت هذه النسبة في بلاد العرب بعد أن انتشرت عندهم البطالة (1) ، وظلت كذلك حتى ظهر الإسلام فأقرها في أوزان سك النقود حيث كانت عرفا لتجار مكة.
وهذا التعليل الثاني يقبله المنطق الاقتصادي أكثر من سابقه، وإذا صح التعليل بأن النسبة كانت سعر صرف أحد النقدين بالآخر، فهل تعتبر هذه النسبة الشرعية حكما لا محيد عنه في المستقبل، والذي يبدو لي والله أعلم أن الحديث لا يلزمنا بهذه النسبة كحكم شرعي، وإنما هي واقع عاشه مجتمع المسلمين الأول، ويمكن سك النقود المستقبلية بحسب اختلاف سعر الصرف، ولنا على ذلك دليلان:
الدليل الأول: أن عمر رضي الله عنه ضرب الدراهم بوزن ستة دوانق
__________
(1) مقال د. خاروف، مجلة البحث العلمي لجامعة أم القرى ص438، العدد الرابع.(39/249)
لا سبعة، فقد قال زياد لمعاوية رضي الله عنه: (يا أمير المؤمنين إن العبد الصالح عمر بن الخطاب صغر الدرهم - وزن ستة بدلا من سبعة، وكبر القفيز، وصارت تؤخذ عليه ضريبة أرزاق الجند، وترزق على الذرية طلبا للإحسان إلى الرعية) (1) .
فتصرف عمر رضي الله عنه كان منوطا بمصلحة الأمة حيث اضطرته ظروف اقتصادية إلى تخفيف عيار الدرهم (الفضة) ، وهو اجتهاد منه، ولو كانت النسبة الشرعية حكما شرعيا لما أقره الصحابة، ولما اجتهد رضي الله عنه في ذلك.
صحيح أن روايات المؤرخين اضطربت في صحة ذلك؛ فقد ذكر ابن الأخوة في: "معالم القربة في أحكام الحسبة" أن عمر ضرب وزن سبعة إلى عشرة ورواية ابن الأخوة مخالفة لجمهور المؤرخين، وقد وفق بعضهم أن عمر رضي الله عنه ضرب وزن ستة دوانق أي: وزن سبعة مثاقيل (2) ، والراجح أن عمر لم يضرب الدراهم، وإنما ضربت له في فارس على نقش الدراهم الكسروية، وإذا صح أنها بوزن ستة فهي اجتهاد لضرورة تقدر بقدرها.
الدليل الثاني: اختلاف سعر الصرف بين الفضة والذهب عن النسبة الشرعية منذ عصر النبوة إلى العصور التالية، وبالرغم من أن الفقهاء يحبذون ثبات أسعار صرف العملات ببعضها، ولكن يبدو من الأحاديث اختلاف هذا السعر عبر العصور.
فقد كان سعر الصرف بين الدرهم والدينار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر هو 1: 10 فالدينار يعادل عشرة دراهم ويتضح ذلك من الأمور
__________
(1) شذور العقود، للمقريزي، من النقود العربية للكرمللي.
(2) مقال الدكتور محمد خاروف، مجلة البحث العلمي ص438، العدد الرابع.(39/250)
التالية:
- نصاب زكاة النقدين 200 درهم فضة = 20 مثقالا من الذهب.
- حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كانت قيمة الدية على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار، أو ثمانية آلاف درهم (1) » فالدينار يعادل عشرة دراهم.
وهذا التقدير هو قيمة الإبل الواجبة في الدية، فلما استخلف عمر رضي الله عنه قام خطيبا فقال: إن الإبل قد غلت، قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا (2) ، وهذا يعني أن الدينار بلغ في عهد عمر 12 درهما.
- جعل عمر رضي الله عنه الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعين درهما على أهل الورق، وروى أبو يوسف عن ابن مسعود أنه قال: (لا يقطع إلا في دينار أو عشرة دراهم) (3) . ويقول أبو عبيد في الأموال: (لأن أصل الدنانير أن يعدل الدينار بعشرة دراهم، فهذا كان سعر الصرف، وقد أخذ هذا السعر يتغير فيما بعد حتى صار في العصر الأموي الدينار يعادل اثني عشر درهما، ووصل في العصر العباسي إلى مساواته لخمسة عشر درهما وأكثر. ونقل علي مبارك عن المقريزي أن الدينار في زمن الفاطمين صار بأربعة وثلاثين درهما) (4) .
الدليل الثالث: روى البخاري في الحدود -السرقة- عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم (5) » ، وهي ربع
__________
(1) سنن أبي داود - باب الدية كم هي.
(2) نيل الأوطار 7 \ 240 - طبعة دار الإفتاء.
(3) فتوح البلدان للبلاذري، والخراج لأبي يوسف.
(4) فقه الزكاة للقرضاوي ج1 ص214.
(5) صحيح البخاري الحدود (6795) ، صحيح مسلم الحدود (1686) ، سنن الترمذي الحدود (1446) ، سنن النسائي قطع السارق (4908) ، سنن أبو داود الحدود (4385) ، سنن ابن ماجه الحدود (2584) ، مسند أحمد بن حنبل (2/64) ، موطأ مالك الحدود (1572) ، سنن الدارمي الحدود (2301) .(39/251)
دينار كما فسرته الأحاديث الأخرى عند البخاري، ولم يقطع النبي صلى الله عليه وسلم في أقل من ثمن المجن (1) فالأحاديث تدل على أن ربع الدينار ثلاثة دراهم وهي أصح من كل الأحاديث التي تدل على أن الدينار يعادل عشرة دراهم.
الدليل الرابع: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، آخذ هذه من هذه، وهذه من هذه، فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة فقلت: رويدك يا رسول الله أسألك -وكرر الحديث- فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء (2) » ، وفي رواية الترمذي "بالقيمة" لمراعاة سعر اليوم الذي يفهم من الحديث تغيره يوميا (3) ، والنتيجة:
أنه يصعب قبول قول من قال بأن نصاب الزكاة من الدراهم والدنانير قيمة واحدة لا تتغير لمجرد أن الدينار كان يعدل عشرة دراهم (20 دينار = 200 درهم) .
فالنسبة الشرعية من قبيل السياسة الشرعية في سك النقود، ولا بأس أن تراعى هذه النسبة في تنظيم إصدار النقود، ولا أثر لها على النصاب، فيبقى نصاب الذهب مستقلا عن نصاب الفضة، فكل منهما نصاب مستقل لا علاقة له بالآخر.
__________
(1) فتح الباري 12 \ 97، نشر دار الإفتاء السعودية.
(2) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .
(3) عون المعبود شرح سنن أبي داود 3 \ 259، وتحفة الأحوذي 2 \ 240.(39/252)
رد اعتراض وتصحيحه:
انتقد الدكتور الريس في الخراج (1) وتابعه الدكتور القرضاوي (2) في فقه الزكاة مؤلفي كتاب الفقه على المذاهب الأربعة عندما قدرا نصاب العملة الورقية بنصاب يختص بالذهب وآخر بالفضة، وهما محقان في ذلك من وجه- كون العملة الورقية جنسا واحدا- يحسب لها نصاب واحد؛ إما بالذهب، وإما بالفضة، فنصاب كل منهما نصاب مستقل يصلح للتقدير به. ولكن الاعتراض على كتاب الفقه على المذاهب الأربعة بأن نصاب الذهب والفضة نصاب واحد غير مقبول في ضوء الأدلة المتقدمة، ونصاب الورق النقدي يحدد كما قررته لجنة مجمع البحوث الإسلامية بأقل النصابين من الذهب والفضة، ولنا مع النقد الورقي جولة مقبلة.
إن النسبة الشرعية (7: 10) هي نسبة تتعلق بسك النقود، بمعنى أن تخرج دار الضرب درهما وزنه سبعة أعشار المثقال، أما سعر صرف الدرهم بالدينار فقد عرفنا أن الدينار يصرف بعشرة دراهم (1: 10) وهي نسبة صرف قد ترتفع وقد تنخفض في المستقبل، فقد بلغت نسبة الصرف بين الدراهم والدينار في عهد المعز الفاطمي (1: 15. 5) حيث كان دينار المعز يصرف بـ:15. 5 درهما، فنسبة الوزن ثابتة ولا علاقة بسعر الصرف المتغير، فالدرهم الذي هو 7 \ 10 المثقال كان يصرف بـ 1 \ 10 من الدرهم.
ومن المعروف أن تحديد النصاب الزكوي في النقدين الثمينين إنما حدده الشارع بالوزن لا بالقيمة، فهو تابع للوزن فقط ولا يتأثر النصاب بتغير
__________
(1) الخراج للريس ص 358.
(2) فقه الزكاة، للقرضاوي، 1 \ 262.(39/253)
سعر الصرف بين الذهب والفضة.
أقول هذا لأن بعض أساتذتنا المعاصرين (1) قال:
إن قيمة العشرين دينارا من الذهب مساوية لقيمة مائتي درهم فضة، وبالعكس فوزن المعدن الذهب في العشرين دينارا يعادل في الحقيقة من الفضة مائتي درهم ما زنته 200 × 7 \ 10 = 140 فإذا تكون النسبة 1: 7 وليس 1: 10، وهذا يصح وزنا ولا يصح قيمة، بدليل:
200 × 2. 97= 595
140 × 4. 25= 595
فالنسبة 1 \ 7 هي نسبة وزن وليست نسبة قيمة إطلاقا، وتبقى نسبة 1 \ 7 نسبة تتعلق بوزن سك النقود، ولا صلة لها بالقيمة، ونصاب الزكاة يقدر بالوزن لا بالقيمة، فلا داعي لربطه بسعر صرف الفضة إلى الذهب حتى يظهر نص جديد تشريعي يأمرنا بذلك، ثم إن هذا الرأي يستلزم كون نظام المعدنين - النقد المزدوج من الذهب والفضة حكما شرعيا يجب اتباعه، وهو تقول على الشارع.
مراحل الاستقرار النقدي في القرن الأول:
المرحلة الأولى: بزغ فجر الإسلام وعرب الجزيرة يتعاملون بالدينار والدرهم على ما في الدرهم من اضطراب تبعا لتعدد أنواعه، ولهذا نجدهم يتعاملون بها وزنا، وجاءت الإشارة الأولى إلى ضرورة توحيد المكاييل والموازين بالحديث النبوي الشريف: «المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة (2) » والسبب في ذلك واضح فأهل مكة تجار يتعاملون
__________
(1) التطبيق المعاصر للزكاة، ص108، د. شوقي إسماعيل شحاته، دار الشروق.
(2) أخرجه أبو داود في البيوع \ عون المعبود: 3 \ 249، والنسائي في الزكاة: باب كم الصاع؟ وفي البيوع: باب الرجحان في الوزن، وصححه ابن حبان، شرح السنة للبغوي ج8 ص تحقيق شعيب الأرناؤوط، وقال ابن حجر في التلخيص: صححه ابن حبان والدارقطني والنووي وأبو الفتح القشيري، وله طريق آخر عن ابن عباس.(39/254)
بالوزن فهم فيه حجة، أما أهل المدينة فمزارعون يتعاملون بالوسق والصاع والمد فهم فيها أدق وأضبط. وكان الحديث توجيها للأمة إلى توحيد مكاييلها وموازينها وسائر المقاييس والمعايير لتستقيم معاملات الناس، وكان المفترض أن تقتدي بلاد الإسلام بقبلتها الأولى (مكة) في موازينها، وأن تكون الأوزان موحدة في كل البلاد الإسلامية، فكان من الواجب أن نحفظ نماذج صحيحة من الصاع والمد والدرهم والدينار، وتبقى محفوظة مختومة يلزم الولاة والقضاة وأهل الحسبة باتخاذها معيارا للتبادل، لكن واقع الأمر أن هذه المعايير اختلفت، فالرطل شامي وبغدادي ومصري ومديني، والدرهم (12-14-15-16) قيراطا، مما جعل بعض فقهاء الحنفية يقولون: (يفتى في كل بلد بوزنهم) ، وهو ما يراه ابن حبيب الأندلسي (أن أهل كل بلد يتعاملون بدراهمهم) (1) .
المرحلة الثانية:
إذا كان الحديث النبوي السابق يرسي الأساس النظري لتوحيد المكاييل والموازين، فإن الخطوة العملية قد اتخذها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والمنطق التاريخي يؤكد أن عمر توصل إلى تحديد الوزن الموحد للدرهم بعد اتساع رقعة الفتح وحاجته إلى تقدير الخراج، وقد رجح ذلك دائرة المعارف الإسلامية والفيومي في المصباح المنير وابن خلدون في المقدمة والماوردي في الأحكام السلطانية والبلاذري في فتوح البلدان. فقد نظر عمر رضي الله عنه في الدراهم الفارسية المختلفة الأوزان، فوجدها كما يلي (20-12-10) قيراط، فمجموع أوزانها 42 قيراطا، وبقسمتها على 3 فالمتوسط 14 قيراطا من قراريط المثقال، ونسبة 14 \ 20 = 7 \ 10، وهي
__________
(1) فقه الزكاة، للقرضاوي 1 \ 255.(39/255)
النسبة الشرعية المعتمدة. فكل 10 دراهم تعادل سبعة مثاقيل، وتعادل 140 قيراطا، هذه رواية عن فعل عمر رضي الله عنه أوردها الدكتور ضياء الدين الريس في الخراج (1) ، وهناك رواية أخرى أن عمر رضي الله عنه: أخذ المتوسط بين الدرهم البغلي - 8 دوانق - والدرهم الطبري - 4 دوانق - فجعل الدرهم نصفها، وهو 6 دوانق، وهو الدرهم الشرعي المعروف بوزن سبعة، أي العشرة منه تساوي سبعة مثاقيل، وهو أيضا ستة دوانق (2) وهذه الرواية تفسر لنا الخلاف الذي ذكره ابن الأخوة في معالم القربة من أن عمر رضي الله عنه أنقص الدرهم فضربه على ستة، والصحيح أنه جعله ستة دوانق بوزن سبعة مثاقيل لكل عشرة دراهم. ثم ذكر النووي أن أهل العصر الأول أجمعوا على التقدير بهذا الوزن وهو أن الدرهم ستة دوانق وكل عشرة منه تعادل سبعة مثاقيل:
ومما يعكر ذلك ما ذكره أبو عبيد في الأموال قال: (فلما كان زمن بني أمية قالوا: إن ضربنا البغلية ظن الناس أنها هي المعتبرة في زكاة الأموال فيضر الفقراء، وإن ضربنا الطبرية تضرر أرباب الأموال (3) فجمعوا الدرهم البغلي والطبري وأخذوا متوسطها 8 + 4 = 12 ÷ 2 = 6 ستة دوانق، ثم ذكر الماوردي بعد أن نسب الفعل إلى عمر رضي الله عنه فقال: (ومتى زدت على الدرهم الواحد ثلاثة أسباعه كان مثقالا، ومتى نقصت من المثقال ثلاثة أعشاره كان درهما، فكل عشرة دراهم بوزن سبعة مثاقيل من الذهب) ، وعلل المسعودي أن هذه النسبة 7: 10 ترجع إلى كون الذهب أرجح من الفضة وزنا (4) بمثل ثلاثة أسباعها، وسنرى عدم صحة هذا
__________
(1) الخراج والنظم المالية، الريس ص346.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي ص154، والمجموع للنووي ج 6 ص 15.
(3) الأموال أبو عبيد ص 467.
(4) الوجيز للغزالي بحاشية المجموع 6 \ 6.(39/256)
القول في الصفحات القادمة.
بقي أن نشير إلى ما ذكره بعض المؤرخين أن عمر رضي الله عنه حاول ضرب الدراهم من جلود الإبل، فقيل له ستهلك الإبل، فأمسك عن ذلك، وجزم الكتاني في التراتيب الإدارية نقلا عن توفيق البكري في شرحه صهاريج اللؤلؤ: أن عمر رضي الله عنه كان يستعمل الورق والجلود كنقود، وأنشد لأبي تمام (1) .
لم ينتدب عمرا للإبل يجعل من ... جلودها النقد حتى عزه الذهب
المرحلة الثالثة:
إذا تجاوزنا كل روايات المؤرخين التي ذكرت ضرب الدراهم والدنانير قبل عبد الملك بن مروان وهي بجملتها روايات يشك في صحتها، فإن إجماع المؤرخين منعقد على أن عبد الملك كان أول من ضرب النقود في الإسلام، فقد ضرب الدنانير المنقوشة عام 74هـ، ثم ضربها له الحجاج عام 75هـ، ثم عممت التجربة عام 76هـ؛ ويعلل المؤرخون هذه الخطوة بسبب استياء العلاقات بين الروم والدولة الأموية بعد حربهم عام 73هـ، حيث صالحهم عبد الملك بسبب مشاكله الداخلية على أن يدفع لهم إتاوة سنوية ثم رفض دفعها، وهاجم الروم ثانية في عهد: جستنيان الثاني (الأخرق) (685 - 695) م، وتوالت انتصارات المسلمين واستعدوا للهجوم على القسطنطينية.
وذكر الطبري في حوادث عام 73هـ وفيها: (غزا محمد بن مروان الصائفة، فهزم الروم، واقترنت هذه الحرب بمسألة خطيرة تعرف بمسألة القراطيس، حيث كانت الروم تستورد الورق من مصر مقابل دنانير الروم
__________
(1) فتوح البلدان، البلاذري ص578 - التراتيب الإدارية للكتاني 1 \ 422.(39/257)
وكان الأقباط يكتبون على القراطيس ما ينسب المسيح إلى الربوبية، فأبدلها عبد الملك بعبارة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) مما ساء ملك الروم، وهدد عبد الملك بأن يكتب على الدنانير ما يسيء إلى نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك سببا لضرب عملة خاصة به بإشارة: خالد بن يزيد بن معاوية، وتوقف التبادل بين الدولتين في الأوراق والدنانير.
وأنشأ عبد الملك دارا للضرب عام 74هـ، وضربت الدنانير الدمشقية (2) ، والحقيقة أن عبد الملك كان يفكر منذ زمن في إيجاد نقد للدولة المترامية الأطراف، ولا يعقل أن تعتمد دولة في نقدها على دولة معادية تهدد علاقتهما حروب مستمرة، وإذا أضفنا إلى ذلك أن دراهم فارس شاع فيها الغش وفسدت فسادا كبيرا، كما أن عدم وجود نقد للدولة يسبب حرجا للرعية في مبادلاتهم، وفي دفع زكاتهم ومختلف معاملاتهم، وهكذا وجه عبد الملك صفعة للقيصر باستقلاله النقدي عن الذهب الروماني، وأصبح للدولة الإسلامية دارا للضرب، وأصبح ضرب العملة في غيرها أمرا محظورا يعاقب عليه النظام، كما يعاقب من يسيء إلى النقد وسلامته ونظامه. وقد أرسل عبد الملك جزءا من نقوده إلى القيصر من الإتاوة التي كان يدفعها، وبأسلوب ساخر متهكم مهذب يخبره بأن الخلافة أصبحت تتمتع بسلطة إصدار النقود، وكان من نكد جستنيان أن تخلى عنه فيلق الصقالبة في وقت لا بد له من مواجهة عبد الملك الذي انتصر على الروم انتصارا ساحقا ورفع على حرابه معاهدة عام (686م) المنقوضة (3) .
وظهر دينار عبد الملك الذي يزن 72 حبة شعير، كما ظهر الدرهم الذي يزن 2 \ 5 50 خمسون حبة وخمسا حبة، روى البلاذري قال: حدثنا
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) فتوح البلدان، البلاذري، والخراج للريس ص209، والطبري في حوادث عام 73.
(3) بحوث في التاريخ الاقتصادي، لعدد من المستشرقين، تعريب توفيق إسكندر ص120(39/258)
وهب بن كيسان أنه قال: رأيت الدنانير والدراهم قبل أن ينقشها عبد الملك، فوجدتها ممسوحة وهي وزن الدنانير التي ضربها عبد الملك. وروى أيضا عن عبد المطلب بن وداعة السهمي أنه أراه وزن المثقال، قال: فوزنته، فوجدته وزن مثقال عبد الملك، ومثقال أبي وداعة كان عنده في الجاهلية (1) . ولم ينكر الصحابة التعامل بها بعد ضربها.
لقد استبدل عبد الملك صورة القيصر بصورته، وأبقى العمود القائم على المدرجات الأربعة، ولكنه حذف شارات الصليب وما يدل عليه، وقد اعترض الصحابة على صورة عبد الملك على نقده الدمشقي وكان هذا رأيا لبعضهم، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تعاملوا بالنقد الروماني وعليه صور ملوكهم، وكان ضرب عبد الملك للدينار الإسلامي سببا لنزاعه مع الروم من جديد، حيث استقل المسلمون بنقدهم المنقوش بعبارات إسلامية: (محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله) ، (بسم الله ضرب في سنة سبع وسبعين) ، وحصر الأمويون دار الضرب في دمشق والفسطاط.
أما وزن هذا الدينار فهو 4. 25 غرام، وهو محفوظ إلى اليوم في متحف بغداد (2) .
وفي عهد عبد الملك تمتعت الدولة الإسلامية بما يعرف بالاستقرار النقدي أو الاستقلال عن النفوذ النقدي لفارس والروم.
هل ضربت نقود إسلامية قبل عبد الملك؟
ذكر المقريزي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب الدراهم على نقش الكسروية بصورها، وزاد عليها عبارة (الحمد لله) ، (محمد رسول الله) ، (لا إله إلا الله وحده) ، وضربها على وزن ستة لظروف اقتصادية
__________
(1) فتوح البلدان، البلاذري ص472.
(2) النقود العربية ماضيها وحاضرها عبد الرحمن فهمي ص45، والدينار الإسلامي في المتحف العراقي للنقشبندي.(39/259)
عند من يرى أن وزن ستة فيه نقص عن التمام، وقد رجحنا أن درهم الستة واف لا نقص فيه. كما ضرب عثمان دراهم نقش عليها (الله أكبر) (1) .
وهناك أقاويل أن خالد بن الوليد ضرب الدنانير الرومية عام 15-16هـ وكتب عليها اسمه، ويرى المرحوم مصطفى الذهبي أن هذا الأمر كان سبب عزل خالد، وهو مردود بأن العزل تم قبل فتح دمشق، بل ذهب بعضهم أن عمر ضرب الدراهم الفارسية ولم يضرب الدنانير الرومية إزعاجا لخالد وإهمالا لرأيه (2) ، وكلها أقاويل لا صحة لها ولا خطام ولا زمام.
وقد نقش عبد الله بن الزبير دراهم مستديرة بمكة، ونقش على استدارتها: (عبد الله) ، وعلى إطارها بالخط الكوفي (بسم الله ربي) (محمد رسول الله) وعلى الوجه الآخر: (أمر الله بالوفاء والعدل) (3) .
وذكر آخرون أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه (41 - 60) قد ضرب دنانير عليها صورته، وما تزال بعض دراهمه محفوظة في المتحف البريطاني، أما الدنانير التي ذكرها المقريزي على أنها من ضرب معاوية، فلم يصلنا منها شيء، وربما استهلكت خلال عملية الإصلاح النقدي لعبد الملك (4) .
وجملة هذه الروايات يرفضها ثقات المؤرخين، ولكن يعكر عليهم رفضهم هذا ما جاء في الأحاديث من النهي عن كسر سكة المسلمين والمحافظة على سلامة النقد في ديار الإسلام بمنع قرضها وتشويهها إذا
__________
(1) المقريزي من كتاب النقود العربية للكرمللي ص32.
(2) الذهبي من كتاب النقود العربية للكرمللي ص91.
(3) النقود العربية للكرمللي ص92، وتاريخ الطبري، ط بيروت 4 \ 416، وفتوح البلدان للبلاذري.
(4) النقود العربية ماضيها وحاضرها، عبد الرحمن فهمي محمد ص29.(39/260)
كانت سكة الإمام، وعقد أبو داود في سننه بابا خاصا للنهي عن كسر سكة المسلمين، واشترط للنهي ثلاثة شروط:
1 - كون النقود رائجة.
2 - كونها من ضرب الإمام.
3 - ألا يكون بها بأس كزيف أو عيب (1) ، ومجيء مثل هذه الأحاديث كالصريح في أنه كان للمسلمين سكة رائجة متداولة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، وقد ادعى جرجي زيدان مثل هذه المقولة، ورد عليه محمد أمين الحلواني منكرا أن أحدا من الخلفاء الراشدين قد ضرب نقدا نحاسيا أو غيره وذلك في كتابه " نشر الهذيان من تاريخ جرجي زيدان "، ولكن جاء في شرح العيني على البخاري أنه نقل عن المرغنياني أن الدراهم كانت شبه النواة، ودورت على عهد عمر رضي الله عنه لما بعث معقل بن يسار وحفر نهره المشهورة، فضرب عمر الدراهم على نقش الكسروية (2) .
وهذه الروايات كلها لا ترفع اتفاق المؤرخين أن النقد الرسمي للدولة الإسلامية إنما أخذ شكله الرسمي على يد عبد الملك بن مروان عام 76هـ.
أما أحاديث النهي عن كسر سكة المسلمين فلا تدل بالضرورة على وجود نقد رسمي متداول ضربه الخلفاء، ويمكن حملها على ما سيكون في المستقبل، أو على العملة نفسها المستوردة من فارس والروم.
وما قاله المؤرخون فيمكن حمله على أنه محاولة فردية، وخاصة إذا عرفنا أن سك النقود كان مهنة للأشخاص وليس من عمل الحكومة، وإن السكة الإسلامية كوظيفة رسمية للسلطان إنما اتخذت إطارها الرسمي في عهد
__________
(1) عون المعبود 3 \ 286.
(2) التراتيب الإدارية للكتاني 1 \ 419.(39/261)
عبد الملك بن مروان.
نستنتج ما يلي:
1 - أن الدرهم الإسلامي المعروف لدى أهل مكة كان معروفا للمسلمين منذ أن وجههم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بأهل مكة في ميزانهم، وهذا الدرهم المعروف بوزن الإسلام الذي هو ستة دوانيق ونستبه إلى المثقال 7 \ 10 هو الذي تؤدى به الواجبات المالية، وتقدر به الديات، وتعقد به الأنكحة والضمانات وأروش الجنايات وغير ذلك، وعرف فيما بعد بوزن بيت المال.
2 - أن ما روي من أن عمر رضي الله عنه هو أول من ضرب الدرهم يمكن حمله على أن ملك الفرس (رأس بغل) كان يضرب له الدراهم ويرسلها إليه بناء على طلبه، وهذا ما يحتمله كلام العيني في شرح البخاري من أن عمر ضربها على نقش الكسروية، فليس فيه ما يدل أن عمر اتخذ دارا للضرب والسكة.
3 - أن مفهوم الدرهم الإسلامي كان يعرفه تجار مكة كلهم معرفة دقيقة، يعرفون وزنه ويتخيلونه، ولا يضيرنا ألا يكون للدولة نقد مطبوع في أرضها حتى عام 76 هـ، ولكن المقادير معروفة معلومة بدليل حديث عائشة عندما اشترت بريرة، فأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الوزن وهو وزن مكة.
وحديث سماك بن حرب «أن مالكا أبا صفوان قال: بعت للنبي صلى الله عليه وسلم سراويل بثلاثة دراهم، فوزن لي فأرجح، وأعطى الوزان أجره (1) » فلو لم يكن الدرهم معلوما في هذه البيع لما صح البيع ولما عرف الرجحان.
4 - بالرغم من تعامل المسلمين بنقد أجنبي فإنهم كانوا يتعاملون بهذه
__________
(1) رواه النسائي في باب البيوع، والترمذي في التجارات، وأحاديث الأمر بالرجحان في الوزن كثيرة في البخاري ومسلم، وفي كتب السنن.(39/262)
النقود وكأنها مادة خام وتبر غير مضروب أو سبائك توزن وزنا بسنج الوزن الشرعية التي قررها الرسول صلى الله عليه وسلم.
5 - أن ضرب النقود الإسلامية رسميا من قبل عبد الملك بن مروان وصنعه السنج الزجاجية على العيار الشرعي الذي قرره النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفت السنج بسنج السكة الإسلامية؛ لم يكن إلا تقريرا لمقادير معروفة مقننة، وكان ضرب السكة الإسلامية يستغني الناس عن الميزان في التعامل بها، وهذا المعنى الذي صرح به النووي في قوله: (فرأوا في زمن عبد الملك صرفها إلى ضرب الإسلام ونقشه، وتصييرها وزنا واحدا لا يختلف، وأعيانا يستغنى بها عن الموازين) (1) فصنيع عبد الملك من موقعه كمسئول أول في الدولة ليس إلا تبنيا لحكم شرعي أقره المشرع، وتعميم هذا الحكم على أرجاء الدولة إحياء للسنة النبوية، وتخليصا للمسلمين من المتاعب، وإرساء لدعائم الدولة باختصاص نقد رسمي خاص بها، ولذا قال المؤرخون: إن سكة عبد الملك عدلت بين الكبار والصغار من الدراهم، وجعل كل عشرة منها سبعة مثاقيل، وأن عمله موافق لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
6 - أن مقدار الدينار لم يحدث حوله أي خلاف كما حصل حول الدرهم.
__________
(1) المجموع - ج 6 ص 15(39/263)
أوزان الكيل فأوزان النقد:
لا يوجد أمة من أمم الأرض إلا ولها مكاييلها وموازينها الخاصة بها، والمتكونة عبر حياة طويلة من العرف الاجتماعي الذي يسود علاقاتها، وهناك أوزان خاصة للنقود ومكاييل خاصة للمكيلات.، والراجح تاريخيا أن وحدات الكيل - الوزن المجرد - هي الأصل الذي تفرع عنه كافة أوزان النقود، وقد أكد الطبري والبلاذري والمقريزي أن سن السكة(39/263)
الإسلامية جاءت متأخرة زمنا عن صناعة سنج المكاييل، فالمقريزي يقول: (إن الدراهم عند المسلمين كانت مجموعات من ضرب فارس والروم، فجمعوا أصغرها وأكبرها وضربوه على وزنهم الكيل) ، فسنج السكة صنعت على غرار أوزان الكيل، حيث كانت تستعمل بحسب ما يتسع حجم المكيال، ثم تستخدم المادة في ثقل الحاجات. وهي عادة قديمة انحدرت إلى المسلمين شأنهم شأن أمم الأرض قاطبة. فهناك إذن تداخل شديد بين أوزان النقد وأوزان الكيل، يتضح من خلال استعراض أسماء المكاييل والموازين، فأسماء النوعين واحدة: قيراط، حبة، دانق، إلخ، وكلها تشكل أجزاء في وحدة القنطار الذي يوجد منه قنطار لوزن النقد الشرعي وآخر لوزن الكيل الشرعي. وهناك تشابه آخر ليس في الأسماء فحسب بل في التقسيم الوزني وتسلسلها في أوزان النقد وأوزان الكيل، وإذا تجاوزنا المكاييل والأوزان العرفية واتجهنا إلى الاعتبار الشرعي فسيتحصل معنا نوعان من المقادير الشرعية: (وحدات وزن النقد) (وحدات كيل) .
وأهم وحدات الكيل هي: الصاع والمد، وقد بين ابن الرفعة صلة هذين المكيالين بالدرهم الشرعي وهو درهم الكيل 2 \ 5، 50 حبة، هذا الدرهم الذي يتكون منه الرطل الشرعي والمد والصاع، ثم يأتي الرطل البغدادي ومضاعفاته من المن حتى القنطار وأجزاؤه من الدرهم والمثقال والدانق والقيراط والذرة.
وجمهور الفقهاء على أن الصاع الشرعية 1 \ 3 5 رطل بالبغدادي، والرطل البغدادي 4 \ 7 128 درهم من الدرهم الذي هو خمسون وخمسا حبة من الشعير المعتدل، فلم يقدر الفقهاء حجم الصاع بالمكعبات، بل اشتفوه من الدرهم الشرعي.(39/264)
وقد صنع لهذه الأوزان جميعا صنجات إسلامية لأول مرة في زمن عبد الملك، وأشير عليه أن يصنعها من الزجاج كيلا تستحيل إلى زيادة أو نقصان (1) .
أما عن وحدات أوزان النقد فيقول المقريزي:
كانوا يتبايعون بأوزان اصطلحوا عليها وهي الرطل = 12 أوقية والأوقية أربعون درهما، فيكون الرطل 480 درهما، والنش: نصف أوقية (حولت صادة شينا) وهو: 20 عشرون درهما، والنواة: خمسة دراهم (2) .
وقال السيوطي: الرطل جمع كل الموزونات فهو: 12 أوقية، والأوقية: إستار وثلثا إستار، والإستار: أربعة مثاقيل، والمثقال: درهم وثلاثة أسباع الدرهم، والدرهم: ثمانية دوانيق، والدانق قيراطان، والقيراط طسوجان، والطسوج حبتان، والحبة: هي حبة الحنطة (3) .
وكانت قريش تزن الذهب بوزن تسميه دينارا، والفضة بوزن تسميه درهما، فكل عشرة من أوزان الدراهم: سبعة أوزان من وزن الدنانير، وكان لهم وزن الشعيرة وهو 1 \ 60 من وزن الدرهم، وكانت لهم الأوقية 40 درهما، والنش: عشرين درهما، والنواة: خمسة دراهم (4) ، وهذه الأوزان كلها مجهولة، ولا يتوصل إليها إلا بعد معرفة الدينار أو المثقال والدرهم، فعندما يحدد وزن الدرهم والدينار سيتحدد بالضرورة وزن كل من هذه الوحدات.
تقدير الدرهم والمثقال (الدينار)
في كيفية التقدير ابتداء يقال: أن الذي اخترع الوزن في الدهر الأول
__________
(1) حاشية محقق الإيضاح والتبيان ص46، قطع المجادلة ص102 نقلا عن التمهيد لابن عبد البر.
(2) المقريزي ص26 من كتاب الكرمللي.
(3) المقريزي ص27 من كتاب الكرمللي.
(4) المقريزي ص27 من كتاب الكرمللي.(39/265)
بدأه بوضع المثقال أولا فجعله: (60) ستين حبة زنة الحبة: (مائة حبة خردل طبيعي بري معتدل) ، ثم جعلها صنجة، وجمع منها زنة المثقال (6000) حبة خردل (1) ، وذكر الذهبي في تحرير الدرهم والمثقال مثل هذا الكلام عن ابن الرفعة في الإيضاح والتبيان، والسروجي في شرح الهداية، والسيوطي في قطع المجادلة - أن اليونان قدروا الدرهم من حب الخردل البري بـ: (4200) حبة، فإذا أضفنا إليه ثلاثة أسباعه: (1800) كان مثقالا (6000) حبة فيكون الدرهم سبعة أعشار المثقال، وسبب التقدير بالخردل لأنه لا يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. ووهم الذهبي في نسبة هذا القول للسيوطي، فرسالته (قطع المجادلة) خالية من هذا الكلام.
ثم إن المتأخرين قدروا بحب الشعير الممتلئ الأغرل المقطوع (ما دق من طرفيه) فكان المثقال 72 شعيرة، والدرهم 2 \ 5 50 حبة شعير (2) فالدرهم سبعة أعشار المثقال.
فالدرهم الإسلامي الشرعي الذي تزن منه العشرة سبعة مثاقيل، والأوقية أربعون درهما فهو على هذا التقدير سبعة أعشار الدينار، متفق عليه بين فقهاء الإسلام، والراجح عند جمهورهم أن المثقال المذكور يعادل 72 حبة شعير بينما يكون الدرهم 2 \ 5 50 حبة شعير، وهي التي ضربها عبد الملك (3) وفقا لتقدير عمر رضي الله عنه، وإعمالا لحديث «الميزان ميزان مكة» .
والتقدير السابق هو قول الشافعية والمالكية والحنابلة - إلا أن الحنابلة
__________
(1) المقريزي ص 29 من كتاب الكرمللي، النقود العربية.
(2) المقريزي ص 76-77 من كتاب الكرمللي، النقود العربية.
(3) الخراج والنظم المالية للريس ص346، الأحكام السلطانية ص154.(39/566)
يرون أن المثقال يختلف عن الدينار، فالدينار عندهم أصغر من المثقال بنسبة يسيرة، وهذه نصوصهم:
قال الخطيب الشربيني الشافعي: (ونصاب الذهب الخالص ولو غير مضروب: عشرون مثقالا، والمثقال لم يتغير جاهلية ولا إسلاما، وهو اثنتان وسبعون حبة، وهي شعيرة معتدلة لم تقشر، وقطع من طرفيها ما دق وطال، ونصاب الورق مائتا درهم تحديدا «ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة (1) » ، والأوقية: أربعون درهما بالنصوص المشهورة والإجماع، قاله في المجموع، والمراد بالدراهم الدراهم الإسلامية التي كل عشرة منها سبعة مثاقيل، وكل عشرة مثاقيل أربعة عشرة درهما وسبعان، ووزن الدرهم ستة دوانق، والدانق ثمان حبات وخمسا حبة، فالدرهم خمسون حبة وخمسا حبة) (2) .
وقال المالكية: وزن كل دينار 72 حبة من مطلق الشعير (3) ، وكل درهم خمسون حبة وخمسا حبة من الشعير المتوسط (4) فتكون المائتا درهم تساوي: 140 مثقالا من مثاقيل الأندلس والمغرب التي كل دينار منها عشرة دراهم، وكل سبعة دنانير أوقية (5) ، وتكون المائتا درهم 185 ونصف وثمن درهم بدراهم مصر لكبرها (6) .
وقال ابن حجر: لم يخالف في أن نصاب الزكاة مائتا درهم يبلغ (مائة
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1459) ، صحيح مسلم الزكاة (979) ، سنن الترمذي الزكاة (626) ، سنن النسائي الزكاة (2484) ، سنن أبو داود الزكاة (1558) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1793) ، مسند أحمد بن حنبل (3/86) ، موطأ مالك الزكاة (576) ، سنن الدارمي الزكاة (1633) .
(2) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع 1 \ 203، ومغني المحتاج 1 \ 389.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 \ 455
(4) القوانين الفقهية، ابن جزيء ص89.
(5) القوانين الفقهية ص89.
(6) الشرح الصغير للدردير 2 \ 140.(39/267)
وأربعين مثقالا) من الفضة الخالصة إلا ابن حبيب الأندلسي، فإنه انفرد بقوله: إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهمهم (1) وذكر ابن عبد البر اختلافا في الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها من دراهم البلاد (2) وكذا فرق المريسي الإجماع باعتبار النصاب بالعدد لا بالوزن.
وخالف الحنفية في تقدير الدرهم، فبعد أن قرروا النصاب مائتي درهم شرعي قالوا: زنة كل درهم 14 قيراط، والقيراط: خمس شعيرات، فيكون الدرهم الشرعي: 70 شعيرة. وفي الذهب قالوا نصاب الذهب: عشرون مثقالا - زنة كل مثقال عشرون قيراطا، فالمثقال الشرعي: مائة شعيرة، فهو: درهم وثلاثة أسباع الدرهم، لأن الدرهم سبعون شعيرة، والمثقال: مائة شعيرة (3) ، وأكدوا على أن النسبة الشرعية 7 \ 10 أمر لا يمكن تجاهله في تقدير النصاب.
وقال ابن حزم وبحثت أنا غاية البحث عند كل من وثقت بتمييزه، فكل اتفق لي على أن دينار الذهب بمكة وزنه: اثنان وثمانون حبة وثلاثة أعشار الحبة بحب الشعير المطلق، والدرهم: سبعة أعشار المثقال، فوزن الدرهم المكي: سبعة وخمسون حبة وستة أعشار الحبة وعشر عشرها، فالرطل: مائة درهم وثمانية وعشرون درهما بالدرهم المذكور (4) ، ونقل النووي نص ابن حزم السابق، وأضاف إلى مقدار الرطل السابق وأربعة أسباع الدرهم (5) ، وقد ذكر ابن خلدون رأي الجمهور المتقدم بأن الدرهم: سبعة أعشار المثقال، وأن الأوقية: أربعون درهما، والمثقال: 72 حبة شعير
__________
(1) فتح الباري ص311 ج 3.
(2) انظر الكافي لابن عبد البر 1 \ 285 تحقيق د. محمد ولد ماديك الموريتاني.
(3) اللباب شرح الكتاب 1 \ 148، وحاشية ابن عابدين 2 \ 296.
(4) المحلى 5 \ 246، نشر دار الآفاق الجديدة.
(5) المجموع شرح المهذب 6 \ 16.(39/268)
والدرهم: خمسون وخمسا حبة، ثم ذكر رأي ابن حزم وقال إنه واهم (1) .
وكما اختلف الفقهاء حول عدد حبات الدرهم والدينار اختلفوا أيضا في تقريطه، ومع هذا الاختلاف في قراريط كل منهما تبقى النسبة الشرعية (الدرهم 7 \ 10 من المثقال) ثابتة عند الفقهاء فهي محل إجماع.
قال البلاذري: قال محمد بن سعد: وزن الدرهم من دراهمنا هذه أربعة عشر قيراطا من مثقالنا الذي جعل عشرين قيراطا، وهو وزن خمسة عشر قيراطا من واحد وعشرين قيراطا وثلاثة أسباع (2) .
وقد اختلف الفقهاء في التقريط، فالحنفية يرون المثقال عشرين قيراطا والدرهم أربعة عشر قيراطا، فيكون القيراط عندهم 3 \ 5 3 الشعيرة (3) .
والجمهور على أن المثقال 22 قيراطا، والدرهم ستة عشر قيراطا.
ويختلف وزن القيراط بحسب البلاد، فهو بمكة ربع سدس الدينار 1 \ 24 وبالعراق نصف عشره كما ذكره في القاموس، وهو حاليا يدل على جزء من الذهب 1 \ 24 قيراطا، ولا يستخدم إلا لوزن الأحجار الثمينة، وقد عرفنا فيما سبق أن المثقال إذا قسم إلى 20 قيراطا فإن أحد الدراهم التي كانت قبل تحديده من عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يساوي ويماثل المثقال في القراريط: (20) قيراطا، وثانيهما: (12) قيراطا، وثالثها: عشر قراريط، ولكن البلاذري ذكر أن المثقال مقسم إلى: 22 قيراطا إلا كسرا، فتختلف قيمة الدراهم، وتبقى النسبة 7: 10 ثابتة بين الدرهم والدينار (4) ففي تقريط المثقال عندنا ثلاثة أقوال: (24، 22،
__________
(1) النقود للكرمللي ص107.
(2) البلاذري كتاب النقود للكرمللي ص10.
(3) كتاب النقود للكرمللي ص77 الذهبي.
(4) الخراج للريس ص341.(39/269)
20) والتقريط بـ (24) خاص بالصاغة ودور السك.
ويتداول الفقهاء رأيين:
أ- الحنفية: الدينار: 20 قيراطا، والدرهم: 14 قيراط.
ب- الجمهور: الدينار: 22 قيراطا إلا كسرا أو تاما، والدرهم: 15، 16 قيراطا.
تقدير الدرهم والدينار بالغرامات
يوجد عدة محاولات لتحويل المقادير الشرعية إلى غرامات، بل ما من مفت وسدت إليه وظيفة الإفتاء إلا وقام بمحاولة تحديد تلك الأوزان بالموازين المعاصرة، ونعرض هنا لبعض هذه المحاولات.
تقدير المرحوم العلامة الشيخ عبد العزيز عيون السود (1) شيخ قراء الشام، وكان في حياته ينتهي إليه أعلى أسانيد القراءات لكتاب الله الكريم، وكان يشغل وظيفة أمين فتوى مدينة حمص السورية، وقد أعد رسالة خاصة في المقادير الشرعية معادلة بالغرام، واطلع عليها الشيخ أسعد العبجي مفتي الشافعية بحلب، فكتب إليه قائلا: (ثم ظهر لي أن الحق في معادلة الدرهم العرفي بالغرام كان كما قدرتموه لا كما قدرته أنا، والفرق بيننا حبة في كل درهم. وموجز الرسالة فيما يخص بحثنا هو قوله:
المتعارف عليه عند الصاغة:
5 \ 6، 20 مثقالا عرفيا = 100 غرام.
1 \ 4، 31 درهما عرفيا = 100 غرام.
فالدرهم العرفي =3. 20 غرام. كما تعارف الصاغة.
5 قراريط عرفية = 1 غرام.
__________
(1) أثبتها الشيخ عزت عبيد الدعاس رحمه الله في آخر سنن الترمذي ج 9 - الذي طبع بإشرافه.(39/270)
1 قيراط عرفي = 4 حبات.
والدرهم العرفي = 64 حبة.
وبتقسيم الحبات تكون الحبة 3. 20 ÷ 64 =0. 05 غرام.
والدرهم الشرعي درهمان: درهم أخذت به الحنفية وهو 14 قيراطا شرعيا كل قيراط خمس حبات فدرهم الحنفية 70 حبة =3. 5 غرام.
ودرهم أخذت به الأئمة الثلاثة وهو على الصحيح: 2 \ 5، 50 حبة فيساوي2. 52 غرام، فيكون المثقال عند الحنفية (100 × 0. 05 = 5 غرامات، ويكون المثقال عند الجمهور 72 × 0. 05 = 3. 6 غرام) .
وهذا جدول ببعض المقادير المرتبطة بأحكام الفقه كما أثبتها الشيخ رحمه الله:(39/271)
المقادير الشرعية مقدرة بالغرام على المذاهب من رسالة الشيخ / عبد العزيز عيون السود
المقدار ... الحنفية ... المالكية ... الحنابلة والشافعية تخريج النووي ... الشافعي تخريج الرافعي ... ــ
الحبة ... 0.05 ... 0.05 ... 0.05 ... 0.05 ... ــ
الدرهم ... 3.5 ... 2.52 ... 2.52 ... 2.52 ... ــ
المثقال ... 5 ... 3.60 ... 3.60 ... 3.60 ... ــ
الرطل الشرعي ... 455 ... 322.56 ... 324 ... 327.60 ... سبب الوجهين عند الشافعية اختلاف الشيخين النووي والرافعي في الصاع والمد والرطل
المد ... 910 ... 430.08 ... 432 ... 436.80 ... ــ
الصاع ... 3640 ... 1720.32 ... 1728 ... 1747.20 ... ــ
الأوسق الخمسة ... 1092000 ... 516096 ... 518400 ... 524160 ... -
أقل المهر عند الحنفية ... 10 دراهم
35 غرام
3.5 ليرة فضة
... ــ ... ــ ... ــ ... ــ
القلتان ... ــ ... ــ ... 162000 ... 163800 ... ــ
تقدير المرحوم العلامة الشيخ حسن حبنكة الميداني:
قدر شيخنا رحمه الله الدراهم المائتين في نصاب الزكاة بما يعادل 80 ليرة سورية من الليرة الفضية التي كانت متداولة قبل 20 سنة تقريبا ثم سحبت من السوق بسبب ارتفاع سعر الفضة وكانت الليرة السورية المذكورة زنة 10 غرام منها 3.5 غرام غش فيبقى منها 605 غرام من(39/272)
الفضة 80 × 6. 5 = 520 غرام، وهو وزن المائتي درهم، فيكون الدرهم 520 ÷ 200 = 2. 6 غرام.
كما قدر المثاقيل العشرين في نصاب الزكاة بما يعادل 12 ليرة ذهبية (1) ثم فهمت من تلامذة الشيخ الكبار أنه رحمه الله لم يقصد تحديد الدرهم والدينار بدقة، بل وضع مقادير يتيقن المكلف من براءة ذمته خلالها بيقين، فلا داعي لمتابعة الحساب - والجدول التالي يبين النصاب والدية عند المذاهب ببعض العملات
__________
(1) حاشية على نظم الغاية والتقريب للعمريطي، باب الزكاة.(39/273)
تقدير الدردير المالكي ذكر الشيخ الدردير: (أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي حامد العدوي المالكي الأزهري 1127 هـ 1201 هـ) في شرحه الصغير على أقرب المسالك (1) أن نصاب الفضة: (200 درهم) يعادل بدراهم مصر - لكبرها - مائة وخمسة وثمانين ونصف وثمن درهم 5 \ 8، 185 درهما عرفيا بدراهم مصر، وقدرت الكمية في كتاب فقه الزكاة (2) بما يعادل: 579. 15 غراما، فيكون الدرهم الشرعي: 2. 896 غراما وهو تقدير قريب من المعتمد.
ولكن هذا التقدير تبين لي أنه ليس تقدير الدردير، ولا يمكن إجراء الحساب بدراهم عصره، فقد ذكر التتائي (محمد بن إبراهيم التتائي المتوفى 942 هـ) في شرحه نظم مقدمة ابن رشد عند قول الناظم
عشرون دينارا نصاب العين ... من ذهب فرضا بغير مين
ومائتان درهما من ورق ... كلتاهما سكة أهل المشرق (3)
قال التتائي (4) : قال سيدي الشيخ خليل بن إسحاق (المتوفى 767) : النصاب بدراهم مصر الآن مائة وخمسة وثمانون درهما ونصف درهم وثمن درهم، ويمكن الرجوع إلى النقود الأيوبية، ووزن الدرهم الموجود في ذلك العصر ومقارنته بحساب الدردير. وأظن أن الدراهم المصرية المقصودة هي دراهم الظاهر بيبرس التي كانت تحتوي على 70% فضة و 30% نحاس وظلت رائجة حتى فسدت عام 781هـ بدخول الدراهم الحموية التي ضربها المماليك البحرية (5) بمعنى أن 5 \ 8، 185 درهما من دراهم
__________
(1) الشرح الصغير على أقرب المسالك، طبعة الشيخ آل مبارك ج 2 ص 140.
(2) فقه الزكاة القرضاوي 1 \ 259.
(3) كي لا يختلط بحساب ابن عبد البر وأهل المغرب
(4) شرح خطط الرشاد والسداد للتتائي بحاشية الدر الثمين والمورد المعين لميارة علي بن عاشر ص281.
(5) النقود العربية للكرمللي ص61 من كلام المقريزي.(39/275)
الظاهر بيبرس تساوي 200 درهم شرعي، فيبقى أن يعرف وزن الدرهم المذكور لتحديد الدرهم الشرعي الذي قدره الدكتور القرضاوي بـ: (2. 896 غرام) .
تقدير الدكتور شوقي إسماعيل شحاته
قال الدكتور شوقي في كتابه التطبيق المعاصر للزكاة (1) :
من المعلوم أن الدينار الشرعي وزن مثقال، وأن المثقال يزن: 72 حبة شعير، والأوقية تزن: (28) مثقالا، فتكون الأوقية: 2016 حبة شعير. ولما كان كل 80 قمحة تعادل 63 حبة شعير متوسطة، فتكون الأوقية الشرعية: (2560) قمحة.
وبما أن الدرهم المصري 64 قمحة والأوقية المصرية 12 درهما فهي 768 قمحة.
فتكون النسبة بين الأوقية الشرعية والأوقية المصرية 2560 ÷ 768 = 10 \ 3.
ويكون وزن الدينار الشرعي بالأوقية المصرية 1 \ 28 × 10 \ 3 = 5 \ 42 من الأوقية المصرية التي تزن:37. 44 غراما فيكون وزن الدينار الشرعي بالجرام المصري 37. 44 × 5 \ 42 = 4. 45714 غرام.
لقد استطاع الدكتور أن يبين الأوزان المصرية فهو بها حجة، إلا أن النسب المعروفة للأوزان عند الصدر الأول لا يمكن تغييرها بالنسبة للأوقية وأجزائها.
فالأوقية باتفاق الفقهاء والمؤرخين: ستة دنانير، أو ستة مثاقيل، وليست (28) مثقالا، وإذا كانت مثاقيل الأوقية المصرية كذلك فالأوقية الشرعية غيرها.
__________
(1) التطبيق المعاصر للزكاة، ص110 دار الشروق، د. شوقي شحاته(39/276)
صحيح أن الأوقية 12 درهما من دراهم الكيل وحبات كل درهم خمسون وخمسا حبة من حب الشعير المعتدل، ولكنها تعادل 40 درهما من دراهم الكيل.
والأوقية دائما 1 \ 12 من أي رطل عرفي، والرطل المصري كما ذكر الدكتور الريس في الخراج 144 درهما (1) ، وقدر علي مبارك الدرهم المصري: (3. 12) غرام وهذا الرقم فعلا يشكل سبعة أعشار الدينار الذي وزنه:4. 45714 مما يؤكد سلامة حساب الدكتور شحاته ودقتها بدليل الرطل المصري 450 غرام وهو 12 أوقية، فيكون وزن الأوقية 37. 5 غرام، ووزن درهمها 37. 5 ÷ 12 = 3. 12 غرام، ويبدو أنه قريب من وزن درهم الكيل الشرعي الذي سيأتي ذكره، والحقيقة أنني أميل إلى هذا التقدير لولا تقديره بحبات القمح، وضبط نسبة القمح إلى الشعير قد يسيء إلى دقة الحساب، ومع ذلك فالتقدير السابق للدرهم والدينار لا غبار عليه، ولكنه يختص بالكيل لا الوزن النقدي.
والدليل على أن الأوزان التي توصل الدكتور شحاته بالغرام هي أوزان الكيل الشرعية لا أوزان النقد، هي الأدلة التالية:
1 - أن دراسة تاريخ النقود المصرية تدل على أنها تعرضت لتغيرات متعددة منذ عصر المماليك، أما أوزان الكيل فلم تتغير، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال مقارنة الأرقام ببعضها، فمثلا عرفنا أن الدينار الشرعي كما قدره الدكتور شحاته (4. 45714) غرام ولم يتعرض لوزن الدرهم، ويمكن استخراجه بضرب الدينار بـ 7 \ 10 فيكون الدرهم: 4. 45714 × 7 \ 10 =3. 119998 غ، أي: 3. 12 غرام تقريبا.
وهذا الدرهم المذكور هو درهم الكيل الذي لم يتغير منذ عصر خليل
__________
(1) الخراج للدكتور الريس، ص367(39/277)
بن إسحاق المالكي صاحب المختصر، بدليل أن تقدير الدردير المالكي بأن نصاب الفضة من الدراهم المصرية 185. 625 درهما مصريا. وهي تعادل 200 درهم شرعي.
فيكون نصاب الفضة المحسوب بالدراهم المصرية:
185. 625 × 3. 12 = 579. 15 غرام، فدرهم النقد يكون المجهول في 200 × س = 579. 15 غرام.
أي 579. 15 ÷ 200 = 2. 89575 غرام وهو درهم النقد وفق تقدير الدردير وخليل المالكي، ويؤكد ذلك ما ذكره علي مبارك أن درهم الكيل = 9 \ 11 من درهم المعاملة.
2 - قلنا إن الدكتور شحاته قدر الأوقية المصرية 37. 44 غرام فيكون رطلها 37. 44 × 12 = 449. 28 غرام، وهو ما قدره الدكتور الريس بالخراج 450 غرام قائلا: بأن الرطل البغدادي 408 غرام، فهو أقل وزنا من المصري، وهذا يعني أن الدرهم والدينار المقدر عند الدكتور شحاته هي: أوزان الكيل لا أوزان النقد، بل أوزان الكيل المصرية باعتبار درهمها 3. 12 غ، بينما درهم الكيل البغدادي 3. 17 غ.
3 - إن التقدير الصحيح للدرهم يمكن الحصول عليه بشكل احتمالي بافتراض دراهم الدردير التي حسب بها النصاب بدراهم مصر هي الدرهم البغدادي فيكون النصاب 185. 625 × 3. 17 = 588. 43125 غ من الدراهم المصرية المقدرة بدراهم الرطل البغدادي 588. 43 ÷ 200 = 2. 942 غ، وهذا الرقم قريب جدا من الرقم الذي اعتمد مؤخرا 2. 97 غرام وزن درهم النقد الشرعي.(39/278)
تقدير الدكتور يوسف القرضاوي في فقه الزكاة
نقل الدكتور القرضاوي محاولة تقدير الدرهم والدينار بحبة الخروب،(39/278)
وهي تجربة الدكتور عبد الرحمن فهمي -أمين متحف الفن الإسلامي في القاهرة - بكتابه: (صنج السكة في فجر الإسلام) حيث توصل الأخير بعد فحص مجموعة من الصنج الأثرية أن متوسط حبة الخروب هو: 0. 194 غرام، وأن الدرهم يعادله 16 حبة خروب فيكون 16 × 0. 194 = 3. 104 غرام، وانتهى الدكتور القرضاوي أن هذا التقدير غير سليم لعدم انضباط حبة الخروب وللخلاف في دوانق الدرهم. كما رفض التقدير بدرهم (قايتباي) المختوم بخاتمه، وقرر أخيرا ألا سبيل إلى ذلك إلا باستقراء الآثار الإسلامية، وهو صنيع الدكتور ضياء الدين الريس في كتابه (الخراج والنظم المالية في الدولة الإسلامية) (1) .
الدكتور ضياء الدين الريس في كتابه الخراج
عثر علماء الآثار على نقود عديدة من العصور الإسلامية لا تزال محفوظة إلى اليوم في متاحف العالم، وقد تناولها العديد من الباحثين، وبمراجعة جملة الأوزان التي ذكروها عرف بوجه قاطع أن وزن الدينار الذي ضربه عبد الملك هو: 4. 25 غ فهو إذن وزن المثقال المكي كما ذكره علي مبارك في: (الميزان في الأقيسة والأوزان) ، وكما ذكره (زمباور) في دائرة المعارف الإسلامية، مادة دينار، حيث ذكر أن هذا الوزن هو وزن الدينار البيزنطي (السوليدس) ، وبما أن نسبة الدرهم للمثقال معروفة بإجماع الفقهاء والمؤرخين وهي 7 \ 10، فإن الدرهم الذي ضربه عبد الملك يكون وزنه (2. 97غ) وهو الدرهم وزن سبعة، وحيث أمكننا معرفة وزن الدرهم والدينار، فيمكن بسهولة استخراج الأوزان الأخرى (2) .
الحبة: بما أن الرأي المشهور للفقهاء أن المثقال 72 حبة.
__________
(1) فقه الزكاة للقرضاوي 1 \ 256 - 257.
(2) الخراج والنظم المالية للريس ص352.(39/279)
فتكون الحبة 4. 25 ÷ 72 = 0. 059 غرام، وتبقى عدد الحبات اصطلاحا لكل فقيه، فالحنفية يرون المثقال: مائة حبة، والسيوطي: 80 حبة، وابن حزم: 82 حبة، فوزن الحبة عند الحنفية 4. 25 ÷ 100 = 0. 0425غ وهي حبة الدينار الشرعي، أما وزن حبة الدرهم عندهم: 2. 97 ÷ 70 = 0. 0424غ، بينما هي عند الجمهور: 2. 97 ÷ 2 \ 5، 50 = 0. 0589 غ.
القيراط: لقد كان أشد الاختلاف واقعا في التقريط، حيث افترق الفقهاء والمؤرخون على آراء متعددة: (24 - 20 - 22) قيراط، وأعقد التقديرات ما ذكره البلاذري من رواية محمد بن سعد وهي رواية الطبري: أن الدرهم 15 قيراطا من 3 \ 7، 21 وهي نسبة مضبوطة (1) ؛ لأن:
14: 20 = 15: 3 \ 7، 21
14 \ 15 = 20 \ س إذا س = 20 × 14 \ 15 = 300 ÷ 14 = 6 \ 14 21 = 3 \ 7، 21
ويكون القيراط: إذا كانت القراريط 20 - 22 - 24 كما يلي:
4. 25 ÷ 20 = 0. 2125غ
4. 25 ÷ 22 = 0. 193غ
4. 25 ÷ 24 = 0. 177 غ
الدانق: ينقسم الدينار والدرهم إلى 6 دوانق
دانق الدينار وهو سدس الدينار 25 \ 4 ÷ 6 = 0. 708غ من الذهب
دانق الدرهم: 2. 975 ÷ 6 = 0. 495 غ من الفضة.
ودانق درهم الكيل: 3. 17 ÷ 6 = 0. 528غ ودانق مثقال الكيل: 4. 53 ÷ 6 = 0. 755غ
__________
(1) الخراج للريس 349.(39/280)
القيراط، وبما أن الدانق قيراطان فيكون:
قيراط الذهب 0. 708 ÷ 2 = 0. 354 غرام
قيراط الفضة 0. 495 ÷ 2 = 0. 2475 غرام
الطسوج: القيراط: طسوجان 0. 2475 ÷ 2 = 0. 1237 غرام، والطسوج حبتان
الحبة = 0. 06 غ، والحبة: فلسان، كل فلس 0. 03 من الغرام (1) .
وبناء على التقديرات السابقة فقد رجح الدكتور محمد ضياء الدين الريس وتابعه على ذلك الدكتور القرضاوي في فقه الزكاة (2) والدكتور صبحي الصالح في كتابه: النظم الإسلامية.
نصاب الزكاة الأوقية 2. 975 غ × 40 = 119 غرام
النصاب 119 × 5 = 595 غرام
نصاب الذهب 20 × 4. 25 = 85 غرام
وزكاة نصاب الفضة خمسة دراهم (النواة)
النواة 2. 975 × 5 = 14. 875 غرام
وزكاة نصاب الذهب نصف مثقال 4. 25 ÷ 2 = 2. 125غ
وتكون نسبة ثمن الذهب إلى ثمن الفضة: 595 ÷ 85 = 14. 875 ÷ 2. 125 = 7 أي ثمن الذهب سبعة أمثال ثمن الفضة.
تقدير الدكتور محمد أحمد الخاروف في تحقيقه كتاب ابن الرفعة.
أخرج مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي التابع لجامعة أم القرى كتاب: (الإيضاح والتبيان في الأكيال والأوزان) للفقيه الشافعي ابن الرفعة بتحقيق الدكتور محمد الخاروف الذي أكد أن وزن دينار
__________
(1) الخراج للريس \ 354.
(2) الخراج للريس \ 357، وفقه الزكاة للدكتور القرضاوي 260، 261(39/281)
عبد الملك: 4. 25، ولكن الدينار الإسلامي هو: 4. 22 أي بنقص 3% من الغرام، كما أكد وزن الدرهم الشرعي بكونه: 2. 97 بينما المضروب وزنه 2. 95، ولم يذكر كيف توصل إلى معرفة هذه الأوزان، ثم أثبت أوزانا لدرهم ومثقال الكيل - الوزن المجرد على الشكل التالي فقال: إن دار الضرب صنعت مثقال الوزن المجرد - الكيل - وهو 4. 53 غرام وبنفس النسبة الشرعية 7: 10 ضربت درهم الكيل بوزن 3. 17 غرام، ويعضد هذا التقدير ما قاله ابن عبد الرؤوف محتسب الأندلسي أن درهم الكيل يعدل درهما وخمسي درهم من وزن المعاملة كما أشار علي مبارك في (الميزان) أن درهم الكيل يعادل 1 \ 9، 1 من درهم المعاملة (1) .
ودرهم الكيل كان مستعملا في مصر عند الحملة الفرنسية (1800م) وحددته لجنة (1845م) بـ: (3. 0898) غرام، ووزنه القانوني اليوم في استانبول 3. 207 غرام (2) .
فتكون وزن الحبة من مثقال الكيل عند الحنفية:
4. 53 ÷ 100= 0. 045 غ وهو وزن حبة درهم الكيل عندهم وعند الجمهور
4. 53 ÷ 72 = 0. 062 غ وهو وزن حبة درهم الكيل عندهم (3) ؛ وبهذا نستخلص أن الدرهم والدينار كانا يدلان على:
أ- قطعة نقد فضية أو ذهبية ثابتة المقدار في الشريعة هي وزن النقد.
ب- صنجة صغيرة تستخدم في الوزن المجرد ثابتة المقدار في الشريعة
__________
(1) الإيضاح والتبيان حاشية المحقق ص49
(2) دائرة المعارف الإسلامية - شنتناوي 9 \ 227.
(3) حاشية محقق الإيضاح والتبيان ص51.(39/282)
يقدر بها الفقهاء زكاة الزروع، والثمار، وصدقة الفطر، والكفارات وما يتعلق بذلك. وكان ابن الرفعة لا يرى فرقا بين درهم الكيل ودرهم النقد، ولكن الآثار المكتشفة تدل على وجود الدرهم الخاص بوزن النقد إلى جانب درهم الكيل.
وقد اتفق الدكتور خاروف، والدكتور الريس على أن وزن درهم النقد الشرعي 2. 97غ، وبذلك يمكن الاطمئنان إلى تقدير الدينار بالنسبة إليه، ويسلم لنا درهم النقد 2. 97 غرام ودينار عبد الملك النقد 4. 25 غرام، وهو ما يتفق مع أوزان النقود المضروبة في عهد المقتدر (295 - 320هـ) والمكتشفة في الفيوم (1) .
الأوقية: اتفقوا على دنانيرها بأنها ستة، فهي ستة دنانير في أوقية النقد الشرعي، أو ستة مثاقيل في أوقية الكيل الشرعي.
واختلفوا في دراهمها فهي (40) درهما من دراهم النقد الشرعي في أوقية النقد، بينما هي (12) درهم كيل شرعي.
والأوقية دائما 1 \ 12 من أي رطل عرفي (2) .
جاء في الحديث: «ليس فيما دون خمس أواق من الفضة صدقة (3) » ، وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قال: «كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه اثنتي عشرة أوقية (4) » ، وفي رواية " ونشا ".
وقد عرفنا أن الأوقية النقدية = 40 × 2. 975 = 119 غراما من الفضة.
النش: وهو نصف الأوقية حولت صاده شينا فهو 20 درهما من الفضة
__________
(1) فقه الزكاة للقرضاوي ص259
(2) حاشية محقق الإيضاح والتبيان ص55 فما بعدها.
(3) صحيح البخاري الزكاة (1405) ، صحيح مسلم الزكاة (979) ، سنن الترمذي الزكاة (626) ، سنن النسائي الزكاة (2475) ، سنن أبو داود الزكاة (1558) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1793) ، مسند أحمد بن حنبل (3/86) ، موطأ مالك الزكاة (576) ، سنن الدارمي الزكاة (1633) .
(4) صحيح مسلم النكاح (1426) ، سنن النسائي النكاح (3347) ، سنن أبو داود النكاح (2105) ، سنن ابن ماجه النكاح (1886) ، سنن الدارمي النكاح (2199) .(39/283)
20 × 2. 975 = 59. 5 غ
الإستار = 4. 5 مثقال، والمثقال درهم وثلاثة أسباع الدرهم، والدرهم ستة دوانق، والأوقية 2. 1 (إستار) .
الرطل: اشتد الخلاف حول مقدار الرطل بعد اتفاقهم على أن الرطل اثنتا عشرة أوقية بالأكيال العرفية. وقد جاء في الحديث: «السنة في النكاح رطلا» و «السنة في النكاح اثنتا عشرة أوقية ونشا (1) » أي: ما يعادل 480 درهم فضة، ويعدل بالغرامات الرطل النقدي 119 × 12 = 1428 غراما، ولكنه لم يستخدم في وزن النقود، فغالبا ما يستخدم لوزن الكيل أو الأوزان المجردة، ولذا فهو كوزن عرفي فقط يقسم إلى (12) أوقية بشكل اصطلاحي، فأوقيته قد توافق الأوقية المصطلح عليها وقد لا توافق.
وقد اهتمت الشريعة بالرطل البغدادي حيث سيقدر الصاع من خلاله، واشتهر عند الفقهاء إذا أطلق الرطل أنه رطل بغداد (2) ولكنهم اختلفوا في دراهمه، فقيل: 130 درهما بدراهم الإسلام وقيل: 128 درهم، وقيل: 4 \ 7، 128 الدرهم وهي تسعون مثقالا (3) .
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1426) ، سنن النسائي النكاح (3347) ، سنن أبو داود النكاح (2105) ، سنن ابن ماجه النكاح (1886) ، مسند أحمد بن حنبل (6/94) ، سنن الدارمي النكاح (2199) .
(2) الخراج للريس ص367.
(3) المجموع 1 \ 122.(39/284)
تقدير الفقهاء للرطل البغدادي
الشافعية والحنابلة
تحدث فقهاء هاتين المدرستين وبخاصة الإمام النووي عن الرطل البغدادي، ونقلوا اتفاق أكثر الفقهاء على أن الرطل الشرعي 4 \ 7 128 درهما شرعيا كيلا ويعادل 90 مثقال كيل، وهو الدرهم المعتمد في(39/284)
تقدير القلتين من الماء، وفي تحديد الأوسق الخمسة في نصاب الزروع للزكاة.
وهذا القول هو الوجه الذي خرجه النووي من الشافعية وهو الراجح في المذهب، وهناك تخريج آخر يقدر الرطب بـ: 130 درهما ويبدو أنه قول الغزالي في الوجيز (1) وهو الراجح عند الرافعي في فتح العزيز (2) واختاره ابن الرفعة في الإيضاح والتبيان موافقا مذهب الحنفية، وقال: إنه مذهب الشيرازي صاحب المهذب، وسبب ترجيحه كما يقول: هو معايرته صيعانا على صاع النبي صلى الله عليه وسلم (3) .
وقال المالكية: الصاع مائة وثمانية وعشرون درهما - مكيا - كما قيده خليل، كل درهم خمسون وخمسا حبة من مطلق الشعير، فصاعهم 128 درهما بلا أسباع (4) ويعادل أيضا 90 مثقال كيل.
أما الحنفية: فرطلهم الشرعي يبلغ 130 درهما، وسبق قلم الشيخ عبد الغني الغنيمي فذكر أنه 128 درهما. ومنطوق كتبهم أنه 130 درهما (5) ، وقال ابن عابدين: الرطل نصف من، والمن: 260 فالرطل: 130 درهما (6) فيعادل: (91 مثقال كيل) ، ويمكننا الآن معرفة الأوقية من هذه الأرطال فالرطل: 12 أوقية.
فالأوقية عند المالكية 128 ÷ 12 = 66. 10 درهما من دراهم الكيل
__________
(1) الوجيز للغزالي 1 \ 90، دار المعرفة.
(2) فتح العزيز شرح الوجيز بحاشية المجموع 5 \ 559.
(3) الإيضاح والتبيان بتحقيق الدكتور خاروف ص76.
(4) الدر الثمين شرح ميارة علي بن عاشر ص296، والشرح الصغير على أقرب المسالك 2 \ 123.
(5) اللباب شرح الكتاب 1 \ 153 -160.
(6) ابن عابدين، رد المحتار 2 \ 365(39/285)
الشرعي، والأوقية عند الحنفية وابن الرفعة والرافعي والغزالي 130 ÷ 12 = 83. 10 درهم كيل شرعي.
والأوقية عند الشافعية (النووي) ، والحنابلة 128. 57 ÷ 12 = 71. 10 درهم كيل شرعي.
وتعرف مثاقيل هذه الأوقية بتقسيم الرطل على (6) عند جميع المذاهب.
ولتحويل الرطل إلى غرامات نضرب دراهمه بـ: 3. 17 غرام درهم الكيل، فمثلا الرطل البغدادي عند الجمهور 128. 57 × 3. 17 = 407. 6 غرام. وهكذا.
المد: وهو مكيال شائع في عصر النبوة نذكره هنا لصلته بالرطل المذكور سابقا، فهو ربع الصاع باتفاق الفقهاء، ولكنهم اختلفوا في أرطاله على قولين:
جمهور الفقهاء: (الأئمة الثلاثة) على أن المد: 1 \ 3، 1 رطل بغدادي فالصاع يساوي 4 × 1 \ 3، 1 = 1 \ 3، 5 رطل بغدادي، فالمد رطل وثلث عند الجمهور، وهو قول أبي عبيد في الأموال، وقول أبي يوسف رحمه الله عندما ناقشه الإمام مالك بن أنس في ذلك، فرجع عن قول إمامه إلى قول الجمهور عندما أراه مالك صيعان المدينة المنورة المتوارثة من عصر النبوة فوجداها 1 \ 3، 5 رطل.
وذهب الحنفية: أن المد رطلان، وبنوا قولهم هذا على حديث: «أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بمد واغتسل بصاع (1) » (أربعة أمداد) ، وسنعرض له مفصلا في الكلام على الصاع، وممن قال بقول الحنفية - المد رطلان - يحيى بن آدم في الخراج قياسا على القفيز الحجاجي (2) فيكون المد كوحدة كيل:
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (201) ، صحيح مسلم الحيض (325) ، سنن الترمذي الجمعة (609) ، سنن النسائي المياه (345) ، سنن أبو داود الطهارة (95) ، مسند أحمد بن حنبل (3/282) ، سنن الدارمي الطهارة (689) .
(2) الخراج للريس ص312.(39/286)
عند الحنفية: رطلان 130 × 2 = 260 درهم كيل، وهو: المن.
وهو بالغرام 260 × 3. 17 = 824. 20 غرام 1. 043 ليتر.
وعند المذاهب الثلاثة 170. 99 درهم كيل × 3. 17 = 542. 0383 غ 0. 688 ليتر.
وعند ابن الرفعة والرافعي والغزالي 130 × 1 \ 3، 1 = 173. 33 درهم كيل 549. 466 غرام (1) .
والحديث الذي احتج به الحنفية «أنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع (2) » أخرجه أبو داود في سننه عن شريك العبسي، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن جبر، عن أنس - ضعفه الزيلعي ما نقل محقق الإيضاح والتبيان (3) .
الصاع: أربعة أمداد باتفاق المذاهب وإن اختلفوا في أرطال المد - كما تقدم - فمد الحنفية رطلان، ومد الجمهور رطل وثلث رطل - كما تقدم - فيكون الصاع ثمانية أرطال عند الحنفية، وخمسة أرطال وثلث عند غير الحنفية (4) .
فيكون صاع الحنفية بدراهم رطلهم:
130 × 8 = 1040 درهم كيل تعادل 3296. 80 غرام وتساوي 3. 2968 ليترا.
ويكون صاع الجمهور برطلهم
4 \ 7، 128 × 1 \ 3، 5 = 685. 28 درهم كيل = 2175 غرام = 2. 175 ليترا (5)
__________
(1) حاشية الإيضاح والتبيان ص56 لابن الرفعة، تحقيق الدكتور محمد أحمد خاروف.
(2) صحيح البخاري الوضوء (201) ، صحيح مسلم الحيض (325) ، سنن الترمذي الجمعة (609) ، سنن النسائي المياه (345) ، سنن أبو داود الطهارة (95) ، مسند أحمد بن حنبل (3/282) ، سنن الدارمي الطهارة (689) .
(3) الإيضاح والتبيان ص64.
(4) الخراج للريس ص310.
(5) الإيضاح والتبيان حاشية التحقيق ص56.(39/287)
وقد أورد الدكتور الريس محاولة التوفيق بين فقهاء الحجاز والعراق في خلافهم حول أرطال الصاع، فنقل رأي المرحوم علي مبارك في: (الميزان في الأقيسة والأوزان) الذي يقول: والفرق الناتج بين علماء العراق وغيرهم نشأ عن كون العراقيين يعتبرون كمية الماء المظروف في المد والصاع، وغيرهم اعتبر كمية الحب التي يستوعبها هذان الكيلان (المد والصاع) ، فالأرطال الثمانية توافق ما يستوعبه من الماء للغسل، والأرطال الخمسة والثلث توافق ما يستوعب الصاع من الحب، فلا خلاف، وهو تعليل مقبول إذا أثبته العلم، وبخاصة إن الماء للغسل هو جزء من التعليل في الحديث الذي استدل به الحنفية (1) .
ثم يقول علي مبارك: إن الصاع 1 \ 3، 5 رطل بالبغدادي، ولم يذكر العراقيون نوع رطلهم، فيبقى أن أرطالهم بابلية، وبما أن رطلين بابليين هما عين رطل وثلث بالبغدادي فالتقدير متساو بين الجميع.
ومما يؤكد هذا الرأي قول ابن عابدين في حاشية الدر المختار في محاولته التوفيق بين رأي أبي يوسف 1 \ 3، 5 رطل، ورأي الطرفين (أبي حنيفة ومحمد) 8 أرطال قال: لا خلاف؛ لأن الثاني أبا يوسف قدره برطل المدينة وهو: 30 ثلاثون إستارا، والعراقي عشرون، وإذا قابلت ثمانية بالعراقي بخمسة وثلث بالمديني وجدتها سواء وهو الأشبه، لأن محمدا لم يذكر خلاف أبي يوسف ولو كان لذكره (2) .
وكاد تعليل ابن عابدين أن يوهمني بعدم وجود الفارق بين الأرطال الثمانية وبين الخمسة والثلث التي تشكل صاع الجمهور من خلال تعليله رطل المدينة بثلاثين إستارا، ورطل العراقيين عشرين إستارا فقمت بإجراء
__________
(1) الخراج للريس ص314.
(2) رد المحتار ابن عابدين 2 \ 365(39/288)
الحساب التالي:
الإستار 4. 5 مثقال كيل، وهو 4. 53 غرام.
فيكون الإستار 4. 5 × 4. 53 = 20. 385 غرام.
رطل المدينة ثلاثون إستارا 20. 385 × 30 = 611. 55 غرام.
صاع المدينة 1 \ 3، 5 رطل 611. 55 × 5. 33 = 3259. 561 غرام.
الرطل العراقي عشرون إستارا 20. 385 × 20 = 407. 7 غرام.
الصاع العراقي 8 رطل 407. 7 × 8 = 3261. 6 غرام.
فيكون كلام ابن عابدين صحيحا وتعليل علي مبارك مقبولا ولكن ينتقض كل هذه المحاولات التوفيقية إذا عرفنا أن الرطل الذي حسب به الجمهور صاعهم هو رطل بغداد لا رطل المدينة - الرطل البغدادي - بصريح عبارة النووي الذي عرفناه سابقا بما يعادل 10. 71 أوقية و 128. 57 درهما وهو بالغرامات 128. 57 × 3. 17 = 407. 5769 غرام وهو أقل من رطل المدينة المتقدم.
ولهذا فما يزال خلاف الحنفية قائما، وتعليل ابن عابدين رحمه الله ينقضه تصريح النووي بأن رطل الجمهور هو رطل بغدادي.
ولهذا شدد ابن حزم (1) رحمه الله النكير على الحنفية فقال: إن شريكا العبسي راوي حديث الوضوء بالمد والوضوء برطلين - مطروح اشتهر بتدليس المنكرات إلى الثقات، وقد أسقط حديثه عبد الله بن المبارك ويحيى بن سعيد القطان، كما أورد روايات أخرى احتج بها الحنفية وقد اضطربت فيها عدد أرطال إناء الوضوء: ثمانية، وتسعة، وعشرة أرطال، ثم روى ابن حزم ما يثبت أن صاع المدينة خمسة أرطال وثلث، ومدهم رطل ونصف وربع وثلث بحسب رزانة المكيل، فلا محيد إذن عن قول
__________
(1) المحلى 5 \ 241.(39/289)
الجمهور الموافق لأصح الروايات.
الوسق: وهو مما يتعلق بنصاب الزروع في الزكاة، وقدره ستون صاعا، كل صاع أربعة أمداد، وكل مد رطل وثلث بالبغدادي، وكل رطل (128، 3 \ 7ر128، 130 درهما) والمن: رطلان، والرطل: نصف من، وهو: (12) أوقية، والأوقية: عشرة دراهم وأربعة دوانيق، والدرهم: 14 قيراط كل ذلك بالوزن البغدادي (1) وروى صاحب المهذب: «الوسق ستون صاعا (2) » وهي: 1600 رطل بالبغدادي، وهذه المقادير متفق عليها عند العلماء من حيث تسلسلها، ويأتي الخلاف في دراهم الرطل البغدادي. ولهذا من السهل معرفة هذه المقادير بما تقدم من الأوزان، والوسق والصاع كما قال المجد في شرح المنتقى وتبعه في الفروع: كيلان لا صنجتان، ونقل إلى الوزن ليحفظ وينقل (3) ، وذكرهما بين الأوزان إتماما للفائدة.
القنطار: قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ} (4) آل عمران: 14، وقال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (5) آل عمران: 75.
وقد ذكر الرازي في تفسير الآية: أنها نزلت في رجل استودع عبد الله بن سلام رضي الله عنه (1200) أوقية، وهو ما ذكره الزمخشري في الكشاف، والشوكاني في فتح القدير، وابن كثير عند تفسير الآيتين المذكورتين، وقدره ابن عباس رضي الله عنهما بـ (80000) ثمانين ألف درهم، وذكر ثعلب
__________
(1) فتح العزيز بهامش المجموع 5 \ 559، والإقناع، الشافعي 1 \ 205.
(2) المجموع شرح المهذب 5 \ 457، الحديث أخرجه ابن ماجه، والدارقطني وابن حبان، والنسائي -الفتح الرباني 9 \ 6.
(3) الفروع لابن مفلح 2 \ 14، والإنصاف للمرداوي 3 \ 92.
(4) سورة آل عمران الآية 14
(5) سورة آل عمران الآية 75(39/290)
أن المتعارف عليه بين العرب 4000 دينار - وتقديره بـ: (1200) أوقية هو الصواب، فلو قدرنا الأوقية سبعة مثاقيل 1200 × 7 = 8400 دينار، وهو المقدار الذي ذكره قدامة بن جعفر في الخراج (1) وهو 100 رطل، ولا يستعمل إلا في أوزان المكيلات، ولا مكان له في الأوزان النقدية.
النتائج:
1 - كان الدرهم والدينار وسائر المقادير المرتبطة بأحكام شرعية معروفة تماما لدى الصحابة رضوان الله عليهم، وإن كان لبقية أقطار الإسلام مقاديرها العرفية، وكانت هذه المقادير معروفة بشكل نظري، ولم يكن لها صنج، حتى جاء عمر رضي الله عنه فضربت له الدراهم على الأوزان المطلوبة، وجاء عبد الملك بن مروان فأعلن الاستقلال النقدي للدولة الإسلامية.
2 - جمهور الفقهاء والمؤرخين على أن الدينار يعادل 72 حبة شعير والدرهم 2 \ 5، 50 حبة، وهو 7 \ 10 المثقال، وأن المثقال والدينار في أوزان النقد مقدار واحد.
3 - النسبة الشرعية بين الدرهم والدينار 7: 10 هي نسبة وزن تستخدم في سك النقود، ولا علاقة لها بالقيمة التعادلية المتغيرة باستمرار، ولا تشكل جزءا من الحكم الشرعي بعد الجزم بأن نصاب الذهب مستقل عن نصاب الفضة في ظل النظام النقدي المزدوج الذي انتهجته الدولة الإسلامية.
4 - سنج الكيل هي الأساس الذي تفرع عنه أوزان النقد بطريقة استظهارية، ويعتبر الرطل البغدادي هو الأساس الشرعي للأكيال الشرعية.
__________
(1) الخراج للريس ص366.(39/291)
5 - اختلف الفقهاء حول التقريط وعدد حبات الدرهم والدينار، وكان مذهب الحنفية أبعدها عن التقدير الذي التزمه فقهاء الحجاز والشام، وهو رأي الجمهور والحق معهم والله أعلم.
6 - مزج بعض الفقهاء في تقديرهم بين الكيل والوزن، ولهذا اضطربت النتائج لديهم، ومما زاد تقديرهم بعدا عن الصواب لجوءهم إلى الأوزان العرفية، وقد تبين لي أن التقدير بحبات الشعير وغيرها لا يعتبر مجديا إذا كانت أوزان الدرهم والدينار الذي ضربه عبد الملك محفوظة في المتاحف.
7 - أن تقدير الدردير المالكي وتقدير الدكتور شوقي شحاته كان معتمدا على الدرهم المصري وأضعافه، وهو درهم كيل لا درهم نقد، وقد اتفقا في النتيجة مع تقدير أوزان الكيل التي توصل إليها الدكتور الريس، وتابعه عليها معظم الفقهاء المعاصرين.
8 - أن التقدير المعتمد والراجح والله أعلم قد انتهى إلى المقادير التالية:
الدينار الشرعي الذي ضربه عبد الملك 4. 25 غرام
درهم النقد وهو 7 \ 10 الدينار المذكور 2. 975 غرام.
المثقال الشرعي لوزن الكيل 4. 53 غرام.
الدرهم الشرعي لوزن الكيل 3. 171 غرام.
وبناء على هذا التقدير تكون الأوقية الشرعية لوزن الفضة 119 غرام.
ويكون نصاب الفضة خمس أواق 595 غرام.
ويكون نصاب الذهب 20 × 4. 25 = 85 غرام.
أما بقية المقادير فندرجها هنا إتماما للفائدة:
الحبة الشرعية من الدينار الشرعي 4. 25 ÷ 72 = 0. 059 غرام عند الجمهور(39/292)
الحبة الشرعية من درهم النقد 2. 975 ÷ 2 \ 5، 50 = 0. 0589 غرام عند الجمهور.
والحبة عند الحنفية من الدينار 0. 0425 غرام.
ومن الدرهم 0. 0424 غرام.
أما حبة مثقال الكيل عند الجمهور 0. 062 غرام.
وحبة درهم الكيل 0. 062 غرام.
الدانق سدس الدرهم والدينار
دانق دينار النقد 0. 708 غرام.
دانق الدرهم النقدي 0. 495 غرام
دانق مثقال الكيل 0. 755 غرام
دانق درهم الكيل 0. 528 غرام.
الدانق: قيراطان، فيكون القيراط ويحصل عليه: بتنصيف الدوانق السابقة.
الطسوج: نصف قيراط والطسوج حبتان والحبة فلسان.
النواة: خمسة دراهم 2. 975 × 5 = 875. 14 غرام وهو زكاة نصاب الفضة.
نصف المثقال 4. 25 ÷ 2 = 2. 125 غرام زكاة نصاب الذهب
وتكون النسبة الشرعية متحققة.
595 ÷ 85 = 875. 14 ÷ 2. 125 = 7
وزن الدرهم البغلي 3. 776 غرام
وزن الدرهم الطبري 2. 125 غرام وهو وزن نصف المثقال.
الأوقية: ستة دنانير أو مثاقيل وهي 12 درهم كيل شرعي و 40 درهم نقد وهي دائما تساوي 1 \ 12 من أي رطل عرفي فيكون:(39/293)
الأوقية الشرعية لوزن الفضة 119 غرام.
الأوقية الشرعية لوزن الذهب 29. 75 غرام
أوقية وزن الكيل الشرعية 34 غرام وهي أوقية الرطل البغدادي
فالرطل البغدادي 34 × 12 = 408 غرام - كيل
الرطل الشرعي لوزن الفضة = 1428 غرام، وهو السنة في النكاح.
النش نصف أوقية 20 × 2. 975 = 59. 5 غرام
الإستار 4. 5 مثقال 4. 25 × 4. 5 = 19. 125 غرام بوزن النقد.
المد: (ربع صاع، و 1 \ 3، 1 رطل بغدادي) عند الجمهور، ورطلان عند الحنفية.
فيكون المد عند الحنفية 130 × 2 = 260 درهم كيل × 3. 17 = 824. 20 غرام 1. 043 ليتر.
وعند المذاهب الثلاثة 170. 99 درهم كيل × 3. 17 = 542. 0383 غرام 0. 688 ليتر.
وعند ابن الرفعة والرافعي والغزالي 130 × 1 \ 3 1 = 173. 33 درهم كيل × 3. 17 = 549. 466
الصاع عند الحنفية 130 × 8 = 1040 × 3. 17 = 3296. 80 غرام 12074. 30 ليتر.
وعند الجمهور 2175 غرام 2. 75 ليتر.
والوسق ستون صاعا 2175 × 60 = 5. 130 كغ عند الجمهور فنصاب زكاة الزروع 5. 130 × 5 = 652. 5 كغ.
تقدير نصاب النقد مر بمرحلتين:
إن التقديرات السابقة سواء كانت تقديرات الفقهاء أو الاقتصاديين يلاحظ انقسامها إلى قسمين:(39/294)
الأول: تقدير أنصبة الزكاة من النقد المتداول مباشرة كما صنع الشيخ الدردير، ومن قبله خليل صاحب المختصر، والشيخ حسن حبنكة وغيره من علماء الشام، والسبب في ذلك واضح جدا وهو كون النقد المتداول نفسه يحتوي على كمية معدنية من الذهب والفضة، فحسبوا ما تحتويه تلك النقود المتداولة وقدروا على ضوئها نصاب الزكاة.
الثاني: الانصراف إلى تحديد النصاب بالغرامات وهو ما صنعه الدكتور الريس والدكتور القرضاوي وغيرهم، ويجب أن نلاحظ لذلك سببا عبر التطور التاريخي للنقود المتداولة في العالم، فمن المعلوم أن النقود الورقية وغيرها من النقود المعدنية المتداولة كانت تقبل الاستبدال بالذهب والفضة من بنك الإصدار، وكان بعضها يحتوي على نسبة معينة من الذهب والفضة، وما لا يحتوي يمكن استبداله من بنك الإصدار في فترة سادت فيها النقود الاختيارية حتى الحرب العالمية الأولى.
أما بعد الحرب العالمية فقد أخذت دول العالم بمبدأ النقود الإلزامية التي لا يمكن استبدالها بالمعدن الثمين، وأصبح النقد المتداول هو البديل للذهب والفضة، ولا بد من التعامل به ضمن الدولة التي تصدره.
ولإيضاح ذلك نعرض لرأي الفقهاء في المملكة العربية السعودية في مسألة تقدير النصاب، فالنصاب من النقد الفضي بالريال العربي السعودي: (ستة وخمسون ريالا) ، وبالريال الفرنسي ثلاثة وعشرون ريالا وثلث تقريبا.
والنصاب من الذهب بالجنيه السعودي وكذلك بالجنيه الفرنجي (الإنجليزي) (11. 5) جنيه تقريبا، أما النصاب في الأوراق الموجودة، فإذا ملك منها ما يقابل نصابا من الفضة وحال عليها الحول فإنه يخرج منها(39/295)
ربع العشر (1) هكذا قدره الشيخ عبد العزيز السلمان، وهو تقدير الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي مضيفا أن: (56) ريالا عربيا وزنها 140 مثقالا على القول الأول بإهمال الغش المغلوب، وعلى القول الثاني (62) ريالا عربيا (2) .
وإلى نحو هذا ذهب الشيخ صالح البليهي فقال: مقدار الدينار 4 \ 7 جنيه فرنجي، والجنيه مثقالان إلا ربع مثقال فيكون نصاب الذهب (12. 5) جنيه فرنجي أو سعودي على سبيل التقريب ونصاب الفضة بالنقد الحالي (56) ريالا عربيا (3) .
والتقديرات المذكورة هي المرقومة في كتب الفقه المدرسية، واستمع إلى أحد نزلاء المدينة المنورة يلخص المسألة نظما فيقول: (4) .
ريالة السعودي وزنا أربع ... دراهم تنقص ربا فاسمعوا
منها ثلاثة وخمسون ريال ... ودرهم وربعه النصاب حال
وزنة الفرنسي بالدراهم ... فتسعة تنقص ثلث الدرهم
منها ثلاثة وعشرون ريال ... وثلثي الدرهم النصاب حال
وللسعودي جنيه من ذهب ... يزن مثقالا وثلثيه فهب
أقل ما منه الزكاة اثني عشر ... ومثله اجنيه الفرنج المشتهر
حسب ما اخبرينه الصوغة ... في الحرمين عام شخس فاسمعه
فالتقديرات كلها كانت تقدر بالعملة المتداولة لاحتوائها على ذهب
__________
(1) التلخيصات لجل أحكام الزكاة، عبد العزيز المحمد السلمان ص30.
(2) حاشية النجدي على الروض المربع 3 \ 244.
(3) السلسبيل في معرفة الدليل، الشيخ صالح البليهي ـ ج 1 ـ ص 264.
(4) نظم مبحث زكاة الفلوس والكاغد، محمد الحسن الشنقيطي.(39/296)
وفضة ولما يدخل بعد النقد الورقي إلى مجال التداول. وكان النقد المتداول قبل عام 1346هـ، 1926م يتمثل في:
1 - الريال الفرانسة، وهو ريال فضي عيار 5 \ 6، كان الوحدة النقدية لإمبراطورية النمسا الصادر في عهد ماري تيريز 1780 م، وتوقفت النمسا عن التعامل به عام 1858م، ولكن سكان السواحل رغبوا به لشكله ودقة وزنه، ويعرف عندهم بالريال الفرنسة.
2 - الروبية الهندية الفضية الصادرة في الهند 1818 م، وانتقلت إلى التداول في سواحل الخليج لقوة التبادل التجاري مع الهند.
وفي مطلع القرن العشرين دخلت نقود أخرى عثمانية ومصرية وهاشمية، ولم يبلغ التداول بها حجم النقدين السابقين.
ثم ألغى جلالة المغفور له الملك عبد العزيز كل هذه النقود عام 1346هـ 1926م، وأصدر الريال الفضي السعودي باسمه ولقبه: (ملك الحجاز ونجد وملحقاتها) وحددت قيمته بـ 1 \ 10 من الليرة الإنجليزية الذهبية، ثم طرح النقد الذهبي السعودي، واستعمل إلى جانب الليرة الإنكليزية، وحدد سعر الجنيه الذهبي السعودي: 40 ريالا فضيا و11 دولارا أمريكيا.
وفي نيسان 1332هـ \ 1952م شكلت مؤسسة إصدار النقد السعودي، وظهر النقد الورقي السعودي، ولا حاجة لمناقشة الأوزان المذكورة في زكاة النقود الذهبية والفضية فهي ثابتة المقدار إلى يومنا هذا، ويبقى النقد الورقي الذي اتفق الفقهاء من خلال فتوى مجمع الفقه الإسلامي على أن يحسب نصابه بأقل نصابي الذهب والفضة.
وسنعرض له في فصل قادم، والله أعلم.(39/297)
الباب الثاني
الفلوس وما يتعلق بها من أحكام
الفلس: لغة بسكون اللام: القشرة على ظهر السمكة.
وفي الاصطلاح هي: عملة مضروبة من غير الذهب والفضة كانت تقدر في الماضي بسدس الدرهم، وهي اليوم 1 \ 1000 من الدينار في الدول التي تعتمد الدينار وحدتها النقدية كالعراق والأردن (1) ، وتعادل القرش السوري، والهللة السعودية، فهي أصغر وحدات النقد، وقال الكرمللي: الفلوس جمع فلس وهي نقد يوناني كان يساوي سدس الدرهم الأتيكي، ويعادل الآن ثلاثة مليمات مصرية، ووزنه 72 سنتيغرام، ويعني عند اليونان قشرة جلد الحشرات الزاحفة (2) وقال في الصحاح: الفلس يجمع على أفلس وفلوس، وقد أفلس الرجل صار مفلسا، كأنما صارت دراهمه زيوفا أو فلوسا، ويجوز أن يراد به أنه صار إلى حال يقال فيها: ليس معه فلس (3) .
ووجود أصل لغوي للكلمة يدل على وجودها ومعرفة العرب لها، وأن التعامل بها قديم، ويمكن الاستدلال على ذلك بما يلي:
1 - قال سعيد بن منصور في سننه عن إبراهيم النخعي قال: (لا بأس بالسلف في الفلوس) ، وقد أخرجه الشافعي في الأم والبيهقي في سننه استدلالا على عدم ربوية الفلوس، كما أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن مجاهد قال: (لا بأس بالفلس بالفلسين يدا بيد) ، وأخرج الزهري أنه سئل عن الرجل يشتري الفلوس بالدراهم فقال: هو صرف لا تفارقه حتى تستوفيه. وفي هذا دليل على وجودها في التعامل من العصر الأول (4) .
__________
(1) المعجم الوسيط 2 \ 707.
(2) النقود العربية وعلم النميات ص67.
(3) صحاح الجوهري فلس.
(4) قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي في الحاوي ص104.(39/298)
2 - مر معنا أن من الدراهم نوعا يسمى الزيوف، وهي مصنوعة من النحاس، وقد كانت تعرف بالفلوس أحيانا، كما أن أجزاء الدراهم الصغيرة كانت تصنع من النحاس كما مر سابقا.
3 - لقد عرفت البشرية خلال تطورها النقدي التعامل بالأرز والودع ولحاء الشجر وغيرها مما يعرفه مؤرخو النقود، وكانت الفلوس النحاسية المضروبة مرحلة متقدمة في مجال النقود الاصطلاحية، ولكن المعروف تاريخيا أنها تستخدم فقط في شراء التوافه والحاجات ذات الثمن القليل، وهو المعنى الذي يؤكده المقريزي في تعليله ضرب الفلوس بمصر أيام الكامل الأيوبي بعد أن لم تكن موجودة؛ أن امرأة تعرضت لخطيب الجامع (أبو الطاهر المحلي) تستفتيه: أيحل شرب الماء أم لا؟ فقال: يا أمة الله وما يمنع من شرب الماء؟ فقالت: إن السلطان منع شرب الماء -ضرب هذه الدراهم، وإني أشتري القربة بنصف درهم منها، ومعي درهم فيرد على الساقي نصف درهم ورقا فكأني اشتريت منه ماء ونصف درهم بدرهم، فأنكر أبو الطاهر ذلك، وتكلم مع السلطان، فأمر بضرب الفلوس (1) وهي لا تعني بالضرورة عملة نحاسية، ولو أن الشائع أنها كذلك؛ حيث تدل على السكة النحاسية التي استعارها العرب من البيزنطيين وتساوي (40) نميا، وقدر وزنه بالصنج الزجاجية المقدر بالخروب بوزن الخروبة 0. 194 والعلاقة بين الفلس والدرهم 1 \ 48 منذ أوائل العصر الإسلامي (2) .
ويتفق الفقهاء والمؤرخون على أنها أدنى ما يتعامل به من المال، ولهذا قال الشيخ محمد بخيت المطيعي: ويسمى في الشام قرشا، وفي العراق فلسا، وفي مصر والسودان مليما، وفي الحجاز هللة، وفي اليمن بقشة،
__________
(1) النقود في الإسلام د. رفيق المصري.
(2) الموسوعة العربية الميسرة، فلوس، وفي كلامها نظر.(39/299)
وفي المغرب والجزائر بيزا أو بسيطة، وفي اليونان دراخما، وفي اليابان ين، وفي إنجلترا وأمريكا بنسا، ثم أحال الشيخ المطيعي القارئ إلى كتابه: تاريخ النقود الإسلامية (1) .
الفلوس في النقود الإسلامية:
وجدت الفلوس إلى جانب الدراهم والدنانير حيث كانت الفلوس تصنع من البرونز والنحاس، وغالبا ما كانت الفلوس البيزنطية برونزية المعدن (2) ، وأشار الدكتور عبد الرحمن فهمي محمد أن الفلوس كان يكتب عليها اسم الوالي وعامل الخراج، وقد كشفت كمية من الفلوس في حفائر الفسطاط عليها أسماء العمال - القاسم بن عبيد الله - عامل خراج مصر 116 -124هـ، وكانت فلوس مصر برونزية بينما كانت فلوس دمشق نحاسية (3) ، وقد كانت الفلوس قليلة زمن العباسيين في فترتهم المزدهرة، وظهر تأثير النقد الإسلامي المسيطر على تجارة البحر المتوسط في العملات الأوروبية (4) .
تضخم الفلوس: حدث عام 630هـ أن كثرت الفلوس النحاسية، وتسمى الدراهم الفلوس حتى اكتسحت الفضة من التداول، مما سمح للنقد الأجنبي بالظهور في الأسواق، وكانت النقود المتداولة نوعان: درهم النقرة الفضي (الخالص) ، ودرهم الفلوس النحاس، كل درهم نقرة بـ (6) فلوس حتى وفاة الكامل الأيوبي (5) ، وذكر ابن كثير في حوادث عام 756هـ أن السلطان حسن ضرب فلوسا جديدة بقدر الدينار ووزنه جعل
__________
(1) المطيعي، تكملة المجموع شرح المهذب 14 \ 636.
(2) النقود العربية ماضيها وحاضرها ص29، عبد الرحمن فهمي محمد.
(3) النقود العربية ماضيها وحاضرها ص45.
(4) بحوث في التاريخ الاقتصادي (محمود شارلمان) بلوبز ص128.
(5) النقود العربية، الكرمللي ص60-61.(39/300)
كل24 فلس بدرهم، وكان قبل ذلك الفلوس العتق كل رطل ونصف بدرهم، وهو صريح أن درهم النقرة بثلثي رطل من الفلوس (1) .
ويذكر المؤرخون أن الدراهم النحاسية التي ضربها في القرن السادس والسابع بنو أرتق، وبنو زنكي وغيرهم من الأسر التركية التي حكمت آسيا فهي فريدة في بابها؛ إذ هي قطع نحاسية كبيرة عليها كتابة معينة، والراجح أنها ضربت بصفة خاصة للتعامل التجاري مع النصارى (2) كما ذكر القلقشندي: أنه كان إلى آخر الدولة الناصرية حسن بن محمد بن قلاوون فلوس لطاف، كل ثمانية وأربعين فلسا منها بدرهم من النقرة الصافي، كما كان يوجد فلوس غير مطبوعة من النحاس المكسر الأحمر والأصفر ويسمونها (العتق) ، كل رطل منها بدرهمي نقرة (3) .
وفي عام 800هـ بطل التعامل بالدينار المؤيدي (الميايدة) ، وأعيد ضرب النحاس والتعامل به، ونودي على الفلوس عام 806هـ أن يتعامل بها وزنا كل رطل منها بستة دراهم، بعد أن فسدت الفلوس فسادا شديدا، حتى صار وزن الفلس منها ربع درهم بعدما كان مثقالا، ثم أمر السلطان الناصر أن تكون الفلوس كل رطل باثني عشر درهما، فغضب الناس، ووضع السيف في العامة حتى تشفع الأمراء فيهم، وشنق رجل بسبب ذلك (4) ، وفي عهد السلطان برقوق ضرب استاداره محمود بن علي فلوسا كثيرة، وأبطل ضرب الدراهم، فتناقصت قيمة الفلوس حتى صارت عرضا ينادى عليه في الأسواق بـ (حراج حراج) ، وغلبت الفلوس حتى قدم
__________
(1) قطع المجادلة، السيوطي ص104.
(2) دائرة المعارف الإسلامية ص 227 - ج9.
(3) النقود العربية، للكرمللي ص114.
(4) النقود العربية للكرمللي ص72.(39/301)
المؤيد من دمشق عام 817 ومعه الدراهم البندقية والنوروزية نسبة لنوروز الحافظي والي دمشق، فتعامل الناس بها، وتضخم الفلوس، هذا هو الذي ألف الحافظ السيوطي بسببه رسالته "قطع المجادلة عند تغيير" المعاملة.
والمشهور تاريخيا أن عصر المماليك يعرف بعصر النحاس؛ لكثرة فلوسه النحاسية، وبسبب تضخم الفلوس وإجبار السلطان شعبه على التعامل بها أخذ الفرنجة الصليبيون يحملون النحاس الأحمر من بلادهم ويبيعونه في ديار الإسلام بدراهم الفضة، وتأخذها إلى بلاد الفرنج (1) .
المقريزي عدو الفلوس:
يقول المقريزي: إن الفلوس لم يجعلها الله سبحانه نقدا في قديم الدهر وحديثه حتى راجت في أيام الناصر فرج بن برقوق 808 هـ، وكان قبيح السيرة، وقد حدث من رواج الفلوس خراب الإقليم وذهاب نعمة أهل مصر، فإن الفضة هي النقد الشرعي، أما الفلوس فهي أشبه شيء بلا شيء، فيصير المضاف مضافا إليه، إلى أن يقول ولا يعلم في خبر صحيح ولا سقيم عن أمة من الأمم اتخذوا نقدا غير الذهب والفضة، أما السفاسف والمحقرات والتوافه فقد احتاج الناس لشرائها بأقل من الدرهم وأجزائه، فكانت الفلوس وسيلة هذه المبادلات ولكنها لم تكن نقدا البتة، ولم يوجد منها إلا اليسير، ولم تقم في إقليم ما بمنزلة النقدين (2) .
وهذه التعاميم من المقريزي لا تصح على إطلاقها، فقد أجازت البشرية عند مطلع حاجاتها للنقود ما هو أدنى من الفلوس قيمة كالصدف والجلود ولحاء الشجر.
فالفلوس معروفة منذ عرف الدرهم والدينار ولكنها كانت فعلا بمنزلة
__________
(1) النقود العربية للكرمللي ص64.
(2) النقود العربية للكرمللي ص67.(39/302)
النقد الضعيف والخسيس، ولم يرتفع شأنها وتروج رواج النقدين إلا في العصر الصليبي والمملوكي المسمى بعصر النحاس، وكان التعامل بها مضطربا بين الوزن والعدد، وتارة تكون مثلية وأخرى متقومة.
ويصر المقريزي على ضرورة الاعتماد على الذهب والفضة كنقد متداول، ولا يلجأ إلى ضرب الفلوس إلا بمقدار حاجة الناس إلى شراء المحقرات، أما تداول الفلوس كنقد في شراء سائر المبيعات فهو: بدعة أحدثوها وبلية ابتدءوها، ولا أصل لها في ملة نبوية، ولا مستند لها في طريقة شرعية، ولا شبهة لمبتدعها في الاقتداء بفعل أحد ممن غير ولا ائتناسه بقول واحد من البشر سوى شيء نشأته ذهاب بهجة الدنيا وزوال زينتها، وشمول الفاقة للجمهور مع الذلة - ليقضي الله أمر كان مفعولا (1) .
قانون غريشام وضعه المقريزي قبل خمسة قرون:
هناك قانون في تاريخ النقود ينسب خطأ إلى (غريشام) وزير مالية الملكة فيكتوريا، ومضمونه يقول: (النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من التداول) ، فعندما يطرح في السوق نقد رديء يسارع الناس للتعامل به والاحتفاظ بالنقد الجيد الذي يختزنه الناس لقيمته، وهذا الكلام طرحه المقريزي عندما يعزو سبب كثرة الفلوس إلى تلاشي الذهب والفضة من الأسواق أو عدم ضربها، ويكتنزها الناس حليا للترف والمباهاة، والفرنج تأخذ ما بمصر من الدراهم إلى بلادهم، وأهل البلد تسبكها طلبا للفائدة، حتى عزت وكادت تفقد، وراجت الفلوس رواجا عظيما، حتى نسب إليها سائر المبيعات، وصار يقال كل دينار: بكذا من الفلوس (2) .
ثم دعا إلى إعادة الاعتبار النقدي للذهب والفضة فما عداهما لا يصلح
__________
(1) النقود في الإسلام - د. رفيق المصري ص76 ينقل عن إغاثة الأمة لكشف الغمة.
(2) النقود العربية للكرمللي ينقل كلام المقريزي ص 69.(39/303)
أن يكون نقدا، ولا يستقيم أمر الناس إلا بحملهم على الأمر الطبيعي وهو تعاملهم في مبادلاتهم بالذهب والفضة.
الفلوس عند الفقهاء:
ذكر السيوطي الخلاف في الفلوس أهي مثلية أم متقومة؟ والراجح أنها مثلية لصدق حد المثلي عليها، وهو كل ما يغيب في مثله وحصره كيل أو وزن أو عدد، والخلاف الفقهي الخطير إنما يدور حول طبيعة صفتها النقدية، فللفقهاء فيها آراء تعتبرها حينا من النقود وحينا من عروض التجارة.
ذلك أن الفلوس تتردد بين أمرين كونها عرضا في الأصل، وكونها أثمانا بتعارف الناس، فاختلف النظر الفقهي إليها، فمن نظر إلى أصلها العرضي ميزها عن الذهب والفضة في الزكاة والربا والصرف والسلم، وأثبت لها في كل ذلك أحكام العروض التجارية، ومن نظر إلى ثمنيتها العارضة أثبت لها أحكام الأثمان، وهذا الخلاف تجده بين رجال المذهب الواحد - بعد اتفاقهم على أن العرف يمكنه إضفاء صفات النقد على النقود الاتفاقية، ولكن ذلك لا يصل إلى مرتبة الكمال النقدي، ولهذا اختلف الفقهاء في علة ربا النقدين، أهو مطلق الثمنية أو غالب الثمنية؟ وتفصيل مذاهب الفقهاء فيها كما يلي:
المالكية:
مشهور مذهب المالكية أن الفلوس تعتبر كعروض التجارة، وقد شاع في الأقطار فتوى الشيخ عليش من فقهائهم المتأخرين حول الورق النقدي، فبعد أن قرر ألا زكاة فيه قال: ويقرب من ذلك أن الفلوس النحاسية المختومة بخاتم السلطان المتعامل بها لا زكاة في عينها لخروجها عن أموال الزكاة الأربعة - قال في المدونة:(39/304)
قلت: أرأيت لو كان عند رجل فلوس قيمتها 200 درهم فحال عليها الحول ما قول مالك (1) في ذلك؟ قال: لا زكاة فيها، وهذا مما لا اختلاف فيه، إلا أن يكون يدير (يتجر) فيحمل محمل العروض. وقال في منح الجليل: (وفهم من اقتصاره على الدراهم والدنانير أنه لا زكاة في الفلوس (فلوس النحاس) لذاتها - وهو المذهب - إن كانت مقتناة، فإن اتجر بها زكيت زكاة عروض التجارة) (2) ، بينما نقل الدردير عن ابن عرفة أنه قال: (إن بيع أحد النقدين بالفلوس صرف يفيد حرمة التأخير جزما، مع أنه قال بعد ذلك: وفي كون الفلوس ربوية كالعين (النقدين) ثالث الروايات أنه يكره فيها، ونص في الإرشاد على كراهة التفاضل والنسأ في الفلوس، ونحوه في التلقين والتفريع، وفي موضع من المدونة، والخلاف فيها قوي جدا) (3) .
وجاء في المدونة الكبرى - كتاب الزكاة - قال ابن القاسم: سألت مالكا عن الفلوس تباع بالدراهم والدنانير نظرة (مؤخرة) أو يباع الفلس بالفلسين؟ قال مالك: أكره ذلك، وما أراه مثل الذهب والورق في الكراهة.
وفي كتاب الصرف قال لي مالك في الفلوس: لا خير فيها نظرة بالذهب والورق، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة. وقال مالك: لا يجوز فلس بفلسين، وليست بحرام، ولكن أكره التأخير فيها.
وقال مثله في السلم الأول من المدونة: (والصفر والنحاس عرض ما لم يضرب فلوسا، فإذا ضرب فلوسا جرى مجرى الذهب والورق فيما يحل ويحرم وفي الصرف بهما) (4) .
__________
(1) فتح الإله المالك، فتاوى الشيخ عليش ج1 ص 164.
(2) منح الجليل 1 \ 344، والشرح الصغير 1 \ 142.
(3) الحاوي على الصاوي بهامش الشرح الصغير (1 \ 110) .
(4) المدونة الكبرى ج3 ص396.(39/305)
ولفظ الكراهة هنا تورع عن التحريم والجزم به على طريقة سلفنا الصالح حين كانوا يعبرون عن التحريم بالكراهة تحرجا من مدلول الآية الكريمة: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (1) سورة يونس: 59، وقال ابن القيم نقلا عن ابن وهب: سمعت مالكا يقول: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، وما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره هذا، ونرى هذا حسنا، وينبغي هذا، ولا نرى هذا (2) .
الشافعية:
يرى الشافعية ألا زكاة في الفلوس، بل لا زكاة في المغشوش من النقدين حتى يبلغ خالصه نصابا (3) كما في عبارة المنهاج، والمذهب أنه لا ربا في الفلوس؛ لأن علة الربا في الذهب والفضة عندهم جنسية الأثمان غالبا، فهم يشترطون غلبة الثمنية لا مطلق الثمنية كما سنراه في علة الربا، وليست العلة في النقدين أنهما قيم الأشياء كما جرى عليه في التنبيه؛ لأن الأواني والتبر والحلي يجري الربا فيها وليست قيم الأشياء، فلا بد من غلبة الثمنية، فلو راجت الفلوس رواج النقود أيضا لا ربا فيها (4) .
وذكر النووي: أن كون العلة جنسية الأثمان غالبا، قال أصحابنا: غالبا احتراز عن الفلوس الرائجة فلا يحرم الربا فيها كما قطع به المصنف، وفيه وجه شاذ بحرمة الربا فيها حكاه الخراسانيون (5) وحيث لم تتحقق
__________
(1) سورة يونس الآية 59
(2) إعلام الموقعين 1 \ 39، 40، ط دار الجيل.
(3) مغني المحتاج 1 \ 398.
(4) مغني المحتاج 2 \ 25.
(5) المجموع 9 \ 395.(39/306)
جوهرية الأثمان في الفلوس فلا ربا فيها.
الحنفية:
ينقسم الحنفية بشأن الربا في الفلوس إلى فريقين:
فذهب الشيخان أبو حنيفة وأبو يوسف إلى جواز بيع الفلس بالفلسين بأعيانها، كما ذكره في الكنز وفي شرحه البحر الرائق، ومنع ذلك محمد بن الحسن؛ لأن الفلوس برواجها صارت أثمانا، وجاز بيع الفلس بالفلسين إذا تعينت بغير لبس؛ لأن الفلس عندهم ليس بثمن خلقة، بل صارت ثمنا بالاصطلاح، وقد اصطلحا على إبطاله فتبطل الثمنية بإبطالهما لها، واشتهر عن الكمال بن الهمام في فتح القدير: لو باع كاغدة بألف يجوز ولا يكره - (1) فالشيخان من الحنفية يشترطون التقابض في مبادلة الفلوس بمثلها؛ لأن الجنس وحده علة، ولا يشترطان التماثل، وبثمنية الفلوس عندهم اصطلاحية يمكن إلغاؤها فيحل بيع فلس بفلسين وأكثر عند الشيخين؛ لأنها غير أثمان خلقة كالعروض (2) ولكن الفلوس يثبت لها حكم النقود عند رواجها كالدراهم في كونها لا تتعين بالتعيين (3) .
الحنابلة:
في زكاة الفلوس إذا كانت نافقة قال المجد ابن تيمية: تجب فيها الزكاة إذا كانت أثمانا رائجة أو كانت للتجارة وبلغت قيمتها نصابا في قياس المذهب، وقال في الحادي الكبير: والفلوس عرض فتزكى إذا بلغت قيمتها نصابا وهي نافقة، وقال ابن تميم: لا زكاة فيها، ففيها إذا وجهان:
__________
(1) إمتاع الأحداق والنفوس في أحكام النقود والفلوس، للشيخ الفا هاشم الفوتي المدني ص 30.
(2) رد المحتار 5 \ 180.
(3) جامع الفصولين 1 \ 227.(39/307)
أحدهما: وجوب زكاتها إذا قلنا إنها عروض تجارة
والثاني: لا زكاة فيها، ويجوز التفاضل فيها
ففي بيع فلس بفلسين روايتان منصوصتان أصحهما الجواز. واختار أبو الخطاب أنها أثمان بكل حال (1) وقال المرداوي في الإنصاف: لو صرف الفلوس النافقة بذهب أو فضة لم تجز النسيئة فيهما على الصحيح من المذهب، ونقل ابن منصور الجواز، وهو اختيار ابن عقيل والشيخ تقي الدين، وقال في الرعاية إن قلنا هي عروض جاز وإلا فلا (2) .
وتلخيص الخلاف أن جمهور الفقهاء قال: بعرضيتها، وقال محققوهم بثمنيتها وهو الأقوى، فمذهب محمد بن الحسن من الحنفية وأبي الخطاب من الحنابلة، وهو رواية عن أحمد ذكرها صاحب كشاف القناع: (ولا يباع فلس بفلسين) على القول بثمنيتها.
__________
(1) الفروع - لابن مفلح (4 \ 151، 152) .
(2) الإنصاف 5 \ 41.(39/308)
وملخص الخلاف كما قال ابن تيمية.
وأما بيع الفضة بالفلوس النافقة هل يشترط فيها الحلول والتقابض كصرف الدراهم بالدنانير فيه قولان هما روايتان عن أحمد:
إحداهما: لا بد من الحلول والتقابض، فإن هذا من جنس الصرف، والفلوس تشبه الأثمان، فيكون بيعها بجنس الأثمان صرفا.
والثانية: لا يشترط الحلول والتقابض؛ لأن الفلوس من باب العروض والثمنية طارئة، وسئل رحمه الله عن الفلوس تشترى نقدا بشيء معلوم وتباع إلى أجل بزيادة فهل يجوز ذلك أم لا؟
فقال رحمه الله: في المسألة خلاف مشهور بين العلماء على قولين: هما قولان عند الحنفية وقولان أيضا(39/308)
عن الحنابلة:
أحدهما - منصوص أحمد وقول مالك وإحدى روايتي أبي حنيفة: أنه لا يجوز، وقال مالك: وليس بالحرام البين.
والثاني: وهو قول الشافعي والرواية الثانية عن أبي حنيفة، وابن عقيل من أصحاب أحمد: أنه يجوز، ومنهم من جعل نهي أحمد للكراهة؛ فإنه قال: هو يشبه الصرف، والأظهر المنع من ذلك، فإن الفلوس النافقة يغلب عليها حكم الأثمان، وتجعل معيار أموال الناس (1) ، ويبدو أنه لخلافهم، حول الثمنية في علة الربا، دور كبير في تحديد موقفهم من الفلوس؛ فالذين يرون جوهرية الأثمان وغلبتها هي العلة، قالوا: إن الفلوس لا تعد مالا ربويا، أما الذين قالوا بأن مطلق الثمنية علة في الربا، وهم المالكية، جعلوا الفلوس مالا ربويا، والذي يبدو - والله أعلم- أن القول بربويتها، حال رواجها، هو الصواب؛ لأن النقدية تثبت بالاصطلاح، ويجري على النقد الاصطلاحي الرائج ما يجري على الذهب والفضة.
وبما أن جمهور الفقهاء على اعتبارها أثمانا برواجها - فإن ذلك يستلزم ما يلي:
1 - اشتراط الحلول والتقابض، في حال صرفها، بنقود الذهب والفضة.
2 - يجب أن نؤكد على أن ربا القرض ثابت فيها، وفي كل الأعيان الأخرى، فلا يجوز إقراض مائة فلس بمائة وعشرين مؤجلة، باتفاق الفقهاء جميعا.
وقول النووي في المجموع: إذا راجت الفلوس رواج النقود - لم يحرم الربا
__________
(1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 29 ص459، 468.(39/309)
فيها؛ أي ربا الفضل، فيجوز التفاضل فيها بشرط الحلول والتقابض في المجلس، أما ربا النسيئة فهو محرم إجماعا في أماكن أخرى من المجموع.
3 - اتفق الفقهاء على جواز التعامل فيها، وهي حال رواجها لا تتعين بالتعيين عند الحنفية، أما الكاسدة فلا بد من تعيينها؛ لأنها تصبح عروضا لا أثمانا، وللفقهاء في أحكام كسادها وانقطاعها أحكام، فصلتها في موضوع مستقل حول أثر تغير سعر العملة.
4 - يجوز السلم في الفلوس بشرط اختلاف النوع، كفلوس شامية بمصرية، أما إذا اتحد جنسها - فإن تأخير أحد العوضين من ربا القرض المحرم بإجماع، ولكن هذا لا يعني صحة التصارف بالورق النقدي - حالة ومؤجلة، متساوية ومتفاضلة، قياسا على الفلوس، فللورق النقدي حكم آخر.(39/310)
الورق النقدي في نظر الفقهاء:
اختلفت أنظار الفقهاء للورق النقدي، بعد سريان التعامل به، إلى أقوال نستعرضها بإيجاز في الصفحات التالية:
القول الأول: قياسها على سندات الديون.
اشتهر هذا القول عن المرحوم الشيخ محمد الأمين الشنقيطي؛ حيث قال: بوجوب زكاتها؛ لأنها وثائق ضمان من السلطان (1) ، وهو رأي المرحوم أحمد الحسيني في كتابه: (بهجة المشتاق في حكم زكاة الأوراق) ؛ حيث قال: بأن هذا الورق النقدي سندات ديون، سواء كتب عليه وجوب دفع مبلغ من الذهب أو الفضة لحاملها، من جهة إصداره، أو أن صاحبها أودع في الخزينة قيمتها من النقدين فتكون كالوديعة، ومعلوم أن الوديعة لا يصح التصرف بعينها، ولكن الحكومة تتصرف بتلك الوديعة، مما يجعلها دينا مضمونا بسبب إتلاف الحكومة لها بالتصرف في عين الوديعة (2) .
ومما يدعم رأي القائلين بأنها سندات ديون:
أ- التعهد المسجل على الورق النقدي، بتسليم قيمته من الذهب لحامله عند الطلب.
ب- ضرورة تغطيتها بالذهب والفضة.
جـ- أن قيمتها مكتسبة، مما تدل عليه من العدد المرقوم عليها، لا من قيمتها الورقية.
د- ضمان جهة الإصدار لقيمتها عند إلغائها.
__________
(1) أضواء البيان للشنقيطي 8 \ 500.
(2) الفتح الرباني في ترتيب مسند الشيباني للساعاتي 8 \ 247.(39/311)
وممن قاسها على الديون كتاب (الفقة على المذاهب الأربعة) ؛ حيث ذكر آراء المذاهب في زكاة الديون، ثم حمل آراء المذاهب في الديون على الورق النقدي (1) ، وزكاة الدين عند الفقهاء تتلخص في الأحكام التالية:
قال الحنفية: بأن الدين ثلاثة أقسام: قوي ومتوسط وضعيف.
فالقوي ما كان بسبب قرض، أو تجارة على معترف به، ولو مفلسا، والمتوسط ما ليس دين تجارة كطعام وشراب وحاجة أصلية، والضعيف ما كان مقابل غير المال كالمهر وبدل الخلع، والدين القوي تجب زكاته كلما قبض منه أربعين درهما (2) .
وقال الحنابلة: إذا كان الدين على معترف به باذل له - فعلى صاحبه زكاته إذا قبضه، ويؤدي لما مضى، أما الدين على معسر وجاحد أو مماطل - ففيه روايتان (3) .
وقال الشافعية: يزكى الدين إذا كان ثابتا، وكان من نوع الدراهم والدنانير وعروض التجارة، لا ماشية وطعاما، وسواء كان حالا أو مؤجلا (4) .
وقال المالكية: يزكى الدين، بعد قبضه لسنة فقط، إن لم يؤخره فرارا من الزكاة، وإلا زكاه لكل عام مضى عند ابن القاسم بشروط، وهي أن يكون أصله عينا يسلفها، أو عروض تجارة يبيعها بثمن، وأن يقبضه عينا ذهبا أو فضة، ويبلغ المقبوض نصابا (5) .
__________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 1 \ 605.
(2) ابن عابدين رد المحتار 2 \ 305، المبسوط 2 \ 195.
(3) المغني، ابن قدامة 3 \ 46.
(4) المجموع للنووي 6 \ 20.
(5) الشرح الصغير للدردير 20 \ 156.(39/312)
وإذا اعتبرنا الورق النقدي من الديون القوية - فجمهور الفقهاء على وجوب زكاتها، واشترط الحنابلة قبضها فعلا - ولكن الحنفية والمالكية اشترطوا القبض فعلا، ولكن لما كانت جهة الإصدار كالمدين الحاضر المليء، فالدين في حكم المقبوض تجب زكاته عند غير الحنابلة، والذي يبدو أن الشافعية وحدهم الذين يرون وجوب زكاة الدين المستقر ولو لم يقبض، إلا أنه إذا نظرنا للورق النقدي، من قبيل الحوالة بالمعاطاة على الجهة المصدرة، وعلمنا أن مشهور مذهب الشافعية عدم صحة العقود بالمعاطاة - فتكون الحوالة فاسدة لانعدام الإيجاب والقبول، فلا تزكى إلا بالقبض.
إذا علمنا ذلك فإن كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) قد تساهل في: نسبة أقوال المذاهب لأصحابها في زكاة الورق النقدي، ولكن الكتاب المذكور قد وجد المخرج من ذلك بأن عدم الإيجاب والقبول اللفظين لا يبطل الحوالة؛ حيث جرى العرف بذلك، على أن بعض الشافعية قال: المراد بالإيجاب والقبول كل ما يشعر بالرضا، وهو هنا متحقق.
ويبدو أن قياس هذه الأوراق على الدين لا يستقيم لسببين:
الأول: أن الدين في ذمة المدين لا يعد مالا ناميا، ولا يتعامل بوثيقته رسميا، ووظيفة هذه الوثيقة هي الحفظ من الضياع، بخلاف الورق النقدي فهو نام ومتداول يتعامل به الناس، فلا يمكن عده وثيقة، والفقهاء إنما حكموا بعدم زكاة الدين، حتى يقبض، لهذه العلة (1) .
الثاني: أن هذه الأوراق أصبحت قيمة في ذاتها، وبعد أن أصبحت النقود الورقية إلزامية، لا يمكن استبدالها برصيدها المحفوظ من الذهب والفضة،
__________
(1) فقه الزكاة - د. يوسف القرضاوي 1 \ 273.(39/313)
وإذا كانت زكاة النقدين معلولة بالثمنية، وهذه الثمنية تثبت بالاصطلاح - فلا شك في وجوب زكاتها كالفلوس.
وليس ضروريا أن يكون الغطاء الذهبي شاملا لكل أوراق الإصدار، بل إن النقد الائتماني يغطي جزء منه فقط، ويعطي الباقي بالتزام سلطاني من الحكومة يحدد بقانون.
كما أن التغطية قد لا تكون ذهبا أو فضة، فقد تغطي العملة الصادر في ميزانية الدول بمجموع الإنتاج العام كالصادرات الهامة، والعقارات وبعض المحاصيل الرئيسية كالقطن والقمح، وفي هذه الحالات يبقى الالتزام الحكومي هو الغطاء دون الذهب والفضة، فلا مجال إذا لاعتبار الورق النقدي سندات بديون، بل ما دام هذا الورق هو وسيط التبادل ومقياس القيم فلا بد من اعتباره نقدا بعينه، واعتبارها وثائق ديون يوقع الأمة في حرج كبير، والحرج مرفوع شرعا. ويكفي أن نتصور ما يستلزمه هذا القول من آثار فقهية:
إن اعتبار الورق النقدي سندات ديون يستلزم فقها:
- عدم جواز اعتبارها رأس مال في السلم؛ حيث اشترطنا فيه القبض، وتسليم سند الدين لا يعتبر قبضا، بل هو حوالة بالقيمة على جهة الإصدار.
- عدم جواز صرفها بنقد معدني من الذهب أو الفضة، ولو كان يدا بيد؛ لأن هذا الورق سند بدين غائب، ومن شروط الصرف التقابض في مجلس العقد.
- إن واقع الأمر بعدم إمكان قبض قيمة هذا الورق، من جهة الإصدار،(39/314)
يستلزم عدم زكاتها مطلقا، عند القائلين باشتراط القبض في زكاة الدين.
- لا يصح بيع وشراء ما في الذمة من عروض وأثمان بهذه الأوراق؛ لكونها وثائق بديون غائبة، وقد «نهى صلى الله عليه وسلم بيع الكالئ بالكالئ» (1) .
وإذا صح هذا القول باعتبار الورق النقدي دينا على جهة الإصدار، في وقت كانت سلطات الإصدار تنفذ تعهدها المكتوب بدفع قيمة البنكنوت ذهبا أو فضة، فلا يصح ذلك في زماننا، حيث يسود مبدأ النقود الإلزامية التي لا تقبل الاستبدال بالذهب أو الفضة، والتعهد المكتوب عليها مجرد نظام متبع لإصدار النقد، وإكسابه مزيدا من الثقة.
إذن فتكييفها الفقهي كديون غير سليم، بل هي دين من نوع جديد نلتمس له تكييفا آخر.
القول الثاني: اعتبار الورق النقدي كعروض التجارة.
القول بعرضية الورق النقدي وقياسه على الفلوس مشهور في مذهب المالكية، فقد ذكر صاحب [التعليق الحاوي لبعض البحوث على الصاوي] أن الشيخ محمد بن علي بن حسين المكي له كتاب في حكم الورق المتعامل به في عصرنا: [شمس الإشراق في التعامل بالأوراق] تناول الخلاف الفقهي حوله، كما سئل عنها الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي فأجاب بما يلي:
بعد أن تحدث عن جواز التعامل بها؛ لأنها مما له قيمة وثمن معتبر شرعا وعادة؛ إذ القيمة تابعة للرغبات، ذكر فساد قياسها على السفاتج (الحوالات والديون) لعدم المساواة في العلة الجامعة بين المقيس والأصل.
__________
(1) الورق النقدي عبد الله بن سليمان بن منيع ص54.(39/315)
فمسألة الأنواط ليست من القياس في شيء، بل هي من باب إدخال الجزئيات تحت الكليات، ولا يمتنع مثل هذا القياس على المقلد؛ لأن إلحاق الجزئيات، بكلية نص عليها الفقهاء، مما يتمكن كثير من الناس أن يفعله.
إننا لو رجعنا إلى تعريف العروض عند الفقهاء - لما خرجت الأنواط عن كونها عرضا، فالعرض قيل فيه: (ما عدا العين والطعام - ما سوى النقد - كل ما لا زكاة في عينه، ومنهم من قال: هو كل ما عدا الحيوان والطعام والنقد) .
هذا استقراء حد العرض عندهم، وكلها تعتبر الأنواط عرضا فلا صحة لقول من يمنع كونها عرضا، وهي ليست مسألة قياسية، بل جزئية تندرج في كلية العروض: كالفلوس والجلود وغيرها مما تداوله الناس من المسكوكات غير الذهب والفضة - ثم لخص مذهب المالكية في الفلوس والخلاف في كونها نقدا أو عرضا، وكراهة مالك النسيئة فيها كما تقدم - ومنعه ذلك منع كراهة لا منع تحريم، ويجوز التفاضل فيها مطلقا، ولكن المناجزة فيها أولى وأسلم من النسيئة، خروجا من الخلاف وفرارا من الكراهة.
وإذا عرفنا أن هذا الرأي مدون عام (1) 1339 هـ 1918م؛ حيث كان العالم قد خرج من الحرب العالمية الأولى، وما تزال ذكريات الناس متعلقة بالنقد الذهبي والفضي المتداول قبل الحرب، وعرفنا نفور الناس من النقد الورقي - علمنا واقعية هذا الرأي في زمانه، ولكنه لا ينطبق على واقعنا المعاصر.
__________
(1) الحاوي على الصاوي بحاشية الشرح الصغير ج 4 ص42-86.(39/316)
وممن قال بعرضية الورق النقد علامة القصيم الشيخ عبد الرحمن آل سعدي، رحمه الله، فقد قال في فتاويه: (أنه يجب بها الواجبات الشرعية: كالزكاة، والنفقات، والكفارات المالية، ولكنه لم يجر عليها أحكام الربا كالنقدين؛ حيث علل ذلك بأن التعامل يقع على نفس القرطاس والورق، فهو المقصود لفظا ومعنى، وهو ليس ذهبا ولا فضة، فلا يدخل في أعيان الربا الستة، وهذا الورق، وإن اتصف بالثمنية كالنقدين، لكنه يخالفهما في ذاته ومعدنه، فلا يعطى حكم الذهب والفضة بإطلاق، كما أن أنواع الجواهر الثمينة لا يحكم لها بأحكام النقدين، وإلا لأدخلنا في كلام الشارع ما ليس منه.
والشيخ، كما يبدو، يرى علة الأعيان الربوية قاصرة، كما هو قول ابن عقيل من الحنابلة، والمشهور عند الحنابلة أن الوزن هو العلة، ولا يتحقق الوزن في النقد الورقي، فتعين أنه بمنزلة العروض والفلوس المعدنية يجوز التفاضل فيها ويحرم النسيئة (1) ؛ فالورق النقدي مال متقوم مرغوب فيه مدخر، يخالف النقدين ذاتا ومعدنا، وهو ليس مكيلا ولا موزونا ولا من جنس الأعيان الربوية الستة.
ولكن إذا اعتبرنا الورق النقدي من عروض التجارة - فسيترتب على قولنا الأحكام التالية:
أ- عدم جواز السلم بها، فلا تكون رأس مال سلم عند من اشترط كونه نقدا؛ لأنها ليست أثمانا، وإنما هي عروض تجارة.
ب- عدم جريان الربا بنوعيه فيها، وتحرزهم من النسيئة إنما هو بسبب
__________
(1) الفتاوى السعدية ص319-324.(39/317)
الثمنية الاصطلاحية، التي يمكن رفعها عند الحنفية، كما تقدم في الفلوس.
جـ- عدم وجوب الزكاة فيها إلا إذا اتخذت بنية التجارة.
وهذا يعني فتح باب الربا على مصراعيه، ويتسع الخرق أكثر مما نحن فيه، فيجب تدارك الأمر بالاعتراف للنقد الورقي أنه صار من جنس الأثمان، ولو بالغلبة، وغلبة الثمنية علة كافية عند المالكية، فلا يمكن أبدا تجاهل صفة الورق النقدي، كنقود وأثمان، قياسا على الذهب والفضة، كيف لا وقد اختفى الذهب والفضة من التداول، وحل محله هذه الأوراق؟ .
القول الثالث: إلحاقها بالفلوس.
عرفنا في مبحث الفلوس أنها ليست ذهبا ولا فضة، بل هي في الغالب من النحاس والبرونز، وأنها لا زكاة فيها عند بعض المذاهب، إلا إذا اتخذت للتجارة، فتزكى كالعروض بقيمتها، وعرفنا أن من رأي الشيخ عبد الرحمن آل سعدي قياسها على الفلوس، فأثبت لها حرمة النسيئة مع جواز التفاضل، واستدل الشيخ لرأيه (1) أن الأصل في المعاملات الحل، وأن ربا الفضل حرم سدا للذرائع، وأبيح منه ما تستلزمه الضرورة، كما أوضحه ابن القيم في إعلام الموقعين.
وقد ذهب الشافعية إلى جواز التفاضل فيها، إذا كان يدا بيد؛ لعموم الحديث: «فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (2) » ، والورق النقدي يشبه الفلوس في بعض هذه الأمور، فيعد بمنزلة الفلوس، ولو تعددت جهات إصداره، ولكن التفرقة بين ربا الفضل والنسيئة على رأي الإمام ابن القيم
__________
(1) المختارات الجلية، عبد الرحمن آل سعدي ص368.
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، مسند أحمد بن حنبل (5/320) .(39/318)
لا يسلم به العلماء، فالجنس الربوي الواحد، يحرم الفضل والنسيئة فيه كالذهب بالذهب، فكذا الورق النقدي يجب أن يكون كذلك.
والقائسون على الفلوس، يرون وجه الشبه كون الفلوس يتجاذبها عاملان - أصلها العرضي وواقعها النقدي، فهي وسط بينهما، وهذه الإجابة مردودة؛ لأن الشيء إذا تنازعه حاظر ومبيح - قدم الحظر مطلقا للاحتياط، ولا بد من الجزم بأحد الحكمين.
ولكن هل تصح دعوى قياس الورق النقدي على الفلوس، وهل الصفة النقدية في الأنواط المعاصرة كالصفة النقدية للفلوس؟ فالفلوس تاريخيا تستخدم لشراء التوافه، للمعاملة مع النصارى، فهل النقد الورقي كذلك؟ ومن صار أكثر ماله الفلوس عد مفلسا، فهل يعد من جمع الملايين من الورق النقدي مفلسا في عرفنا المعاصر؟ فالواقع يرفض قياس الورق النقدي على الفلوس. ثم إن القياس الأصولي لا تتحقق أركانه هنا، بل يعد قياس الورق النقدي على الفلوس من القياس الفاسد لسببين:
الأول: يشترط في المقيس عليه - الأصل- أن يكون له حكم ثابت بنفسه، فإن لم يوجد له حكم ثابت من الكتاب والسنة والإجماع - فلا يصح جعله أصلا يقاس عليه؛ لعدم وجود حكم الأصل.
الثاني: من شروط حكم الأصل أن يثبت بغير القياس في أشهر أقوال الأصوليين، أما الحكم الثابت بالقياس - فلا يقاس عليه؛ لاستلزامه وجود قياسين أحدهما لإثبات حكم الأصل، والثاني لإثبات حكم الفرع، فإذا اتحد القياسان في العلة - فلا حاجة للقياس الثاني، فالفلوس مقيسة على النقدين، والورق النقدي يجب أن يقاس عليهما لا على الفلوس بجامع الثمنية.(39/319)
وحكم الفلوس ثابت عند المالكية، بقياسها على الذهب والفضة، فيمكن قياس الورق النقدي على الأصل المقيس عليه - الذهب والفضة - ثم إن الصفة النقدية (جوهر الثمنية روح الثمنية) في الورق النقدي أكبر بكثير من الصفة النقدية في الفلوس، التي تعد ضعيفة الثمنية بالنسبة للورق النقدي الذي يصرف كرواتب للعمال، ومهور للزواج، وديات، وأروش ضمان، وسائر المعاملات.
فقياس الورق النقدي على الفلوس غير صحيح؛ لأن هذا الورق موغل في الثمنية إيغالا شديدا، بل أصبح اليوم ثمنا للذهب والفضة نفسهما، ويشترى به كل ما يحتاجه المجتمع من الزبدة إلى الطائرات.
والقياس الحق أن يقاس الورق على الذهب والفضة الثابت حكمهما بالنص، وعلة الثمنية متوفرة في الأصل والفرع، وبهذا القياس يصبح الورق النقدي مالا ربويا؛ لوجود مناط الحكم فيه.
وهناك فارق آخر لم ينتبه إليه القائسون على الفلوس، وهو أن الفلوس إذا كسدت تفقد قيمتها كنقود، وتعود عروض تجارة، ولكن الورق النقدي بانتقاله من العرض إلى الثمنية لا يمكنه الرجوع إلى العرضية، إذا سلبت صفته النقدية بإبطاله، بل يفقد كل قيمة نهائيا، ويصبح ورقا تافها.
القول الرابع: اعتبار الورق النقدي نقدا، بديلا عن الذهب والفضة.
ذهب جمهور الفقهاء المعاصرين أن الورق النقدي بديل عن الذهب والفضة، والبدل له حكم المبدل منه تماما في كل الأحكام؛ ومن الفقهاء القائلين بذلك الشيخ: حسنين مخلوف في رسالته: (التبيان في زكاة(39/320)
الأثمان) قال: (ولو فرض أنه ليس في البنك شيء من النقود - الرصيد - ونظر إلى تلك الأوراق في ذاتها، بقطع النظر عما يعادلها من الذهب وعن الالتزام المرقوم عليها، واعتبر فقط إصدار الحكومة لها ورواجها أثمانا - لكانت كالنقدين تجب زكاتها لمجرد الثمنية، ولو لم تكن خلقية (كالفلوس والجلود والكواغد) ، وقد رجح هذا الرأي صاحب الفتح الرباني (1) والدكتور القرضاوي في فقه الزكاة (2) والشيخ رشيد رضا - صاحب المنار - حيث سئل عن القراطيس المالية، فأجاب بأنها من قبيل النقود الذهبية، نقدا لا عروض تجارة، تجب فيها الزكاة، ويحرم فيها الربا؛ لأنها تروج في الأسواق كالنقدين تماما (3) واستمع إلى أحد شيوخ المالكية يلخص رأيه فيها فيقول (4) :
للمالكيين اختلاف في الفلوس ... هل عين أو عرض كلاهما مقيس
وألحقوا بها الكواغد التي ... بها التعامل بكل دولة
قال الرهوني الاختلاف في الفلوس ... جدا قوي فاكفنا شر النفوس
فمن يقل بالعين أوجب الزكاة ... ومنع الصرف مؤخرا ثبات (جماعات)
وقال هي بدل عن عين ... لذاك راجت برواج العين
__________
(1) الفتح الرباني في ترتيب مسند الشيباني، عبد الرحمن البنا 8 \ 250 ط دار إحياء التراث العربي.
(2) فقه الزكاة، د. القرضاوي 1 \ 257.
(3) مجلة المنار مجلد 12 ص 909.
(4) نظم مبحث في حكم زكاة الفلوس والكاغد، محمد الحسن الشنقيطي، مطابع الأمل، عمان الأردن(39/321)
أو هي مثل العين في التعارف ... لذاك صارت قيمة المتالف
وهي حقيقة مع العين عروض ... وهل تقوم العروض بالعروض
فإن تكن قد أفردت صارت ثمن ... أغلبيا وذاك في الربا استكن
فعمل النائب في فقد المنوب ... كتب في الكاغد معنى لينوب
إذ شهر العدوي علة الربا ... في النقد بالتثمين الأغلب اطلبا
وقيل بل مطلق تثمين ربا ... فتدخل الفلوس في الخرشي الربا
فالشيء إن يقم مقام الشيء ... فحكم الأول لذاك الشيء
في مسلم بيع صكاك ذي طعام ... من قبل قبضه كبيع للطعام
يؤخذ من ذا أن حكم العين ... للكاغد الرايج حكم العين
لا سيما والمال في هذا الزمان ... كثر جدا بالكواغد الثمان
وملخص رأيه أن الكاغد مقيس على الفلوس، وأنها بمقابلتها بالذهب والفضة تعتبر عروضا، فإذا انفردت أصبحت ثمنا مستقلا، ينوب عن النقدين الغائبين عن مجال التداول، ويثبت للنائب أحكام المنوب عنه، وعلة(39/322)
الربا الثمينة مختلف في طبيعتها؛ فغلبة الثمنية هي المناط في حاشية العدوي، وقال الخرشي: يكفي مطلق الثمنية في تحقيق العلة، وحيث قامت الثمنية ولو قليلة في الكاغد والفلوس تدخل الأموال الربوية.
واستدل على أن للنائب حكم المنوب، بما روى مسلم في صحيحه، وهو في الموطأ: قال مالك: أنه بلغه أن صكوكا خرجت للناس في زمن مروان بن الحكم من طعام (الجار) [مكان بساحل البحر الأحمر يجمع فيه الطعام] ، فتبايع الناس تلك الصكوك قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - صرح مسلم في روايته أنه أبو هريرة رضي الله عنهم- على مروان بن الحكم فقالا: أتحل الربا يا مروان؟ فقال أعوذ بالله وما ذلك؟ فقالا: هذه الصكوك تبايعها الناس، ثم باعوها قبل أن يستوفوها، فبعث مروان بن الحكم الحرس ليتبعونها ينزعونها من أيدي الناس ويردونها إلى أهلها (1) .
والصكوك رقاع مكتوب فيها أعطيات الناس من الطعام، والظاهر أنها راجت كرواج النقد الورقي المعاصر، ولكن المنع الذي فرضه الصحابة إنما كان على بيع الطعام قبل قبضه، ولكن يستدل منها أن ما ناب عن الطعام له حكم الطعام، فكذلك ما ناب عن الذهب له حكم الذهب.
القول الخامس: الورق النقدي نقد مستقل.
انطلاقا من التعليل بالثمنية قررت هيئة كبار العلماء، في المملكة العربية السعودية، في فتواها الخاصة بشأن الورق النقدي ما يلي:
(وحيث إن القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين
__________
(1) الزرقاني على الموطأ 3 \ 284، والباجي في المنتقى 4 \ 284.(39/323)
هو الأظهر دليلا والأقرب إلى مقاصد الشريعة، وهو إحدى الروايات عن الأئمة مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وغيرهما، وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية؛ لذلك كله فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها: أن الورق النقدي يعتبر نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، والأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية:
أولا: جريان الربا بنوعيه فيها، كما يجري الربا بنوعيه في الذهب والفضة وفي غيرهما من الأثمان كالفلوس، وهذا يقتضي ما يلي:
أ- لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى، من ذهب أو فضة أو غيرهما، نسيئة مطلقا، فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة.
ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد منه ببعضه متفاضلا [يدا بيد أو نسيئة] ، فلا يباع عشرة أريلة بأحد عشر ريالا سعوديا ورقا.
ج- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه، إذا كان يدا بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقا أو فضة أو أقل أو أكثر يدا بيد، ومثل ذلك بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية من الورق أو أقل أو أكثر يدا بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.
ثانيا: وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من الذهب أو(39/324)
الفضة، أو كملت النصاب مع غيرها من الأثمان وعروض التجارة، إذا ملكها أهل وجوبها.
ثالثا: جواز جعلها رأس مال للسلم والشركات) (1) .
__________
(1) مجلة مجمع البحوث الإسلامية، المجلد الأول [رجب شعبان رمضان] 1395هـ.(39/325)
تحديد النصاب من النقد الورقي المعاصر:
ناقش الفقهاء المعاصرون هذه المسألة، واشتجر الخلاف بينهم في تحديد نصاب العملة الورقية، ولم ينتهوا جميعا إلى رأي واحد يجزمون به، وكلهم مجتهد مأجور، إن شاء الله، في مسألة اجتهادية جديدة، ونستعرض هنا بعض هذه المحاولات.
تقدير الدكتور محمد شوقي الفنجري [20000] عشرون ألف ريال سعودي:
ذكر الدكتور الفنجري تقديره في مقابلة صحفية أجرتها معه (اليمامة) السعودية، في عددها رقم 802 تاريخ 8 شعبان 1404هـ، حيث قال ردا على سؤال المجلة، كيف نحدد نصاب الزكاة بعملة اليوم الورقية، فأجاب فضيلته:
نصاب الزكاة هو حد الكفاية، أو هو الحد الأدنى الموجب للزكاة؛ فمن زاد عليه وجبت الزكاة في حقه، ومن نقص عنه كان ممن يستحق الزكاة بقدر ما يصله إلى النصاب، وقد ورد في السنة النبوية أن نصاب الزكاة في الغنم هو ما زاد عن أربعين شاة، وما زاد على عشرين مثقال ذهب، أو مائتي درهم فضة، وكانت هذه الأنصبة متساوية، وكل منها تكفي معيشة أسرة كاملة لسنة كاملة، وحيث كانت الأربعين شاة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم(39/325)
تساوي مائتي درهم، فالشاة ثمنها خمسة دراهم، وبما أن متوسط سعر الشاة اليوم [500] ريال فنصاب الزكاة، بالعملة الورقية السعودية، يساوي عشرون ألف ريال، فمن كان عنده أكثر من عشرين - وجبت عليه الزكاة بواقع 2. 5% (1) .
ويقول الدكتور الفنجري في كتابه (المذهب الاقتصادي في الإسلام) : ولكن التعامل اليوم أصبح بالعملة الورقية، وهذه تختلف من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، كما أن النصاب الشرعي من الفضة أصبح لا يساوي شيئا يذكر بجانب الأنصبة الشرعية الأخرى من الذهب أو الأنعام وغيرها، وهذا ما يدعونا اليوم إلى ضرورة تحديد نصاب الزكاة بالعملات السائدة في كل بلد باعتبار الأساس الشرعي، وهو ما يلزم من عملة هذا البلد لمعيشة أقل أسرة لمدة سنة كاملة (2) .
تقدير الدكتور يوسف القرضاوي في فقه الزكاة:
إن الأسس التي انطلق منها التقدير السابق للدكتور الفنجري هي نفسها الأسس التي ينطلق منها الدكتور القرضاوي، في كتابه القيم (فقه الزكاة) ، وموجز كلامه في المسألة كما يلي:
بماذا نحدد النصاب في عصرنا بالذهب أم بالفضة؟ فالنصاب هو الحد الأدنى للغنى الموجب للزكاة - قال العلامة ولي الله الدهلوي: (إنما قدر النصاب بخمس أواق من الفضة؛ لأنها مقدار يكفي أهل بيت سنة كاملة، إذا كانت الأسعار موافقة في أكثر الأقطار، واستقرئ عادات البلاد المعتدلة في الرخص والغلاء - تجد ذلك) (3) .
__________
(1) مجلة اليمامة السعودية عدد (802) ، 8 شعبان 1404هـ.
(2) المذهب الاقتصادي في الإسلام \ دار عكاظ د. محمد شوقي الفنجري ص 175.
(3) فقه الزكاة - د. يوسف القرضاوي ج1 ص 265، والنص من حجة الله البالغة للدهلوي.(39/326)
لقد مال كثير من المعاصرين إلى تقدير النصاب بالفضة؛ لكونه مجمعا عليه، والتقدير به أنفع للفقراء، بينما يرى آخرون تقديره بالذهب؛ لتغير قيمة الفضة بعد عصر الصحابة، بينما ظل الذهب ثابتا، والتقدير بالذهب أقرب إلى موافقة بقية أنصبة الزكاة: الأنعام، الزروع، ولكن التقدير بالذهب أو الفضة لا يحقق النصاب المقدر بها كفاية أسرة لمدة سنة كاملة، وقيمة النقود حقيقة إنما تكمن في قوتها الشرائية، أما عينها فلا تؤكل، ولا تغني عن البشر شيئا، ولشدة تغير قيمة النقدين يرى بعض الفقهاء أن يقدر النصاب بالأنصبة الأخرى التي لا تتغير تغير النقود.
فهل نقدر النصاب بقيمة الأوسق الخمسة؟ ولكن قيمة الأوسق هذه تقل كثيرا عن نصاب الأنعام، ولعل الشارع قصد تقليل نصاب الزروع لعدة معان منها:
أن نعمة الله أظهر في الزروع منها في أي شيء آخر، وجهد الإنسان فيها أقل من جهده في الثروات الأخرى، كما لا يستغني البشر عما أخرجت الأرض من نبات، وإن استغنوا إلى حد ما عن الحيوان، ولهذا قصد الشارع إلى تقليل نصابها؛ لأنها كلها نماء للأرض، كما زاد نسبة الواجب فيها، فلم يبق إلا التقدير بالنصاب الحيواني. وحيث اختلف الفقهاء في نصاب البقر، من خمس إلى ثلاثين إلى خمسين، فليس إلا التقدير بالإبل والغنم، فهل نقدر بها؟ الجواب نعم، إذا كان نصاب الغنم يساوي 200 درهم فضة، ثم نقل نص السرخسي في المبسوط الذي يفيد: أن ثمن الشاة خمسة دراهم، وثمن بنت المخاض وهي أدنى الأسنان الواجبة في الإبل (40) درهما، ولكن جاء في البخاري ما يفيد أن ثمن الشاة: (10) دراهم، في حديث الجبران «من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقة -(39/327)
فإنها تقبل منه ومعها شاتان، أو عشرين درهم (1) » ، وإن حدث العكس بأن وجبت عليه حقة، وليس عنده إلا جذعة، فتقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين (2) ، وحيث ثبت شرعا أن ثمن الشاة عشرة دراهم، فنصاب الغنم 40 × 10=400 درهم، كان نصاب الفضة نصف نصاب الغنم تماما، فيمكننا تقدير نصاب الورق النقدي المعاصر، بما يوازي متوسط نصف قيمة خمس من الإبل أو أربعين من الغنم في أوسط البلاد وأعدلها؛ لأن الثروة الحيوانية قد تندر في بلد وتكثر في بلد آخر، ولا بد أن يقوم بالتقدير أهل الرأي والخبرة.
فالنصاب نصف ثمن أربعين شاة، فيكون عشرة آلاف ريال إذا كان سعر الشاة [500 ريال] . ويفهم من خلال كلام فضيلة الدكتور القرضاوي أن نصاب العملة الورقية يكون تقديرا ثابتا، فلا يعقل كون النصاب اليوم مائة ريال، وبعد سنة خمسمائة ريال.
هذه خلاصة التقدير، ويلاحظ أنه، بالرغم من اتحاد الأسس التي بنى عليها العالمان الجليلان، قد انتهوا إلى أرقام أحدها ضعفي الآخر، فأيهما الصواب؟
تقدير الدكتور شوقي إسماعيل شحاته:
شرح الدكتور شحاته رأيه في كتابه (التطبيق المعاصر للزكاة) ، وهو يقرر مبدأ تساوي أنصبة الزكاة، فأثبت (نص العناية على الهداية) للبابرتي الذي يفيد أن سعر الشاة خمسة دراهم، وسعر بنت المخاض أربعون درهما، فتتساوى أنصبة الإبل والغنم والدراهم، بل قرر أن الأضحية تكون
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1453) ، سنن النسائي كتاب الزكاة (2455) ، سنن أبو داود كتاب الزكاة (1567) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1800) ، مسند أحمد بن حنبل (1/12) .
(2) فقه الزكاة د يوسف القرضاوي ج1 بتصرف الصفحات 263- 268.(39/328)
بالشاة، ويصح اشتراك سبعة في ناقة أو بقرة (1) ، ثم قال إن قيمة الوسق أيضا (ستون صاعا) تعادل أربعين درهما، ولم يذكر مرجعه في ذلك، كما لم يذكر نوع الوسق أهو وسق حنطة أم شعير أم قطن أم ملوخية. وقدر الدينار الشرعي بطريقة حسابية، بسطتها في بحث لي عن المقادير الشرعية، بما يعادل (2) [4. 45714] غرام، وانطلاقا من وزن الدينار المذكور، فإن نصاب النقد الورقي، من أي عملة كانت، يحدد بحساب تعادل العملة المذكورة من الذهب مع وزن الدينار الشرعي؛ فمثلا إذا كان سعر غرام الذهب عام 1396هـ يساوي (17) ريال، فتكون قيمة الدينار الشرعي 4. 45714 غرام × 17 = 75. 77138 ريال سعودي، فيكون نصاب الأريلة الورقية 75 × 20 = 1500 ريال سعودي، وقد أحسن صنعا عندما قدر قيمة العملة الورقية بالذهب، دون اللجوء إلى تقديره بالأنصبة الأخرى.
مناقشة الأسس التي بنيت عليها التقديرات السابقة:
يلاحظ، من خلال عرض الآراء الثلاثة السابقة، اتفاقها على مبدأ تساوي الأنصبة الزكوية جميعا، وينطلق التقدير الأول والثاني من مبدأ آخر، وهو ربط النصاب بحد الكفاية لمدة سنة كاملة، والتقدير بالذهب والفضة لا يحقق هذه الكفاية، ونناقش الآن هاتين الفكرتين.
المبدأ الأول: مبدأ تساوي أنصبة الزكاة.
اتفق الفقهاء جميعا على أن أنصبة الزكاة توقيفية، لا مجال فيها لزيادة أو
__________
(1) التطبيق المعاصر للزكاة، د. شوقي إسماعيل شحاته، دار الشروق ص102.
(2) التطبيق المعاصر للزكاة، د. شوقي إسماعيل شحاته، دار الشروق ص 110.(39/329)
نقص؛ فهي مقدرة من الشارع بدقة حكيمة، ولا يشترط تساويها في القيمة، ولو كانت القيمة معتبرة في تحديدها - لأمكن للشارع الحكيم ضم ممتلكات الرجل من أنواع الأموال لتشكل نصابا، ولم يقل أحد ممن يقتدى به أن من يملك أربعة جمال، وعشرين بقرة، وثلاثين شاة يجب أن يضمها إلى بعض بالقيمة ويخرج زكاتها، ولم يعتبروا القيمة إلا في نصاب العروض التجارية التي تقدر بالنقدين.
ولو كان تساوي قيمة الأنصبة مقصودا شرعا - لردت الأنصبة جميعا إلى الذهب والفضة، لتقدير قيمتها وفق هذا النصاب.
ولو افترضنا، جدلا، تساوي الأنصبة جميعا في عصر من العصور، فلا ينبغي تعميم ذلك وسحبه على أنه حكم شرعي، بل هو اتفاق بقدر الله جل وعلا، ولا أثر له في الحكم بعد تحديد النصاب عينا وعددا. واستطاع الدكاترة الأفاضل سرد أمثلة، من السنة النبوية، على دعوى تساوي قيمة الأنصبة، وأهمها وأصحها حديث الجبران، عند البخاري، الذي استدل به الدكتور القرضاوي على أن ثمن الشاة عشرة دراهم، وقال الدكتور الفنجري: أن سعر الشاة خمسة دراهم استنادا إلى تقدير السرخسي في المبسوط، والذي أورده بصيغة ضعيفة، وتعقبه فيها ابن الهمام في فتح القدير؛ مستدلا بحديث البخاري في الجبران، وقد جاءت أدلة أخرى تنقض هذا الاستدلال؛ منها:
1 - حديث عروة البارقي: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري له به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، وكان لو اشترى التراب لربح به (1) » رواه البخاري وأحمد
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3643) ، سنن الترمذي البيوع (1258) ، سنن أبو داود البيوع (3384) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2402) .(39/330)
وأبو داود، وجاء مثله تماما عن حكيم بن حزام رضي الله عنه (1) ؛ ففي الحديث ما يدل على أن الشاة ثمنها دينار، أو نصف دينار في سوق المدينة؛ أي ما يعدل: 5-10 دراهم، إذا كان الدينار عشرة دراهم، وقد يكون ثمنها ستة دراهم أو سبعة أو ثمانية أو تسعة، وقد تفوق الدينار، فهل يمكن الاستدلال بهذا على ثمن الشاة المقدر بها النصاب.
2 - روى البخاري في كتاب الحدود - السرقة - عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم (2) » ، وهي ربع دينار، كما فسرته أحاديث الباب الأخرى عند البخاري، ولم يقطع النبي صلى الله عليه وسلم في أقل من ثمن المجن (3) ، وهذه الأحاديث تدل على أن ربع الدينار ثلاثة دراهم، فالدينار اثنا عشر درهما، والحديث أصح من كل الأحاديث الأخرى.
3 - حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «كان يبيع الإبل بالبقيع "فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير آخذ هذه من هذه. . . "، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا، وليس بينكما شيء (4) » ، وسعر يومها يدل على اختلاف السعر في اليوم الواحد، وليست قيمة تعادلها ببعضها حكما شرعيا لا بد من الالتزام به.
4 - اختلف الفقهاء في دية النفس فهي: مائة من الإبل، أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم، ثم إن عمر رضي الله عنه جعلها اثني عشر ألف درهم، وهذا يدل على أن الدينار يعادل (12) درهما، بل جاء عن عكرمة
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني 6 \ 5.
(2) صحيح البخاري الحدود (6795) ، صحيح مسلم الحدود (1686) ، سنن الترمذي الحدود (1446) ، سنن النسائي قطع السارق (4908) ، سنن أبو داود الحدود (4385) ، سنن ابن ماجه الحدود (2584) ، مسند أحمد بن حنبل (2/64) ، موطأ مالك الحدود (1572) ، سنن الدارمي الحدود (2301) .
(3) فتح الباري شرح البخاري 12 \ 97.
(4) عون المعبود، شرح سنن أبي داود 3 \ 259، وتحفة الأحوذي 2 \ 240.(39/331)
عن ابن عباس: «أن رجلا قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألف (1) » .
5 - الراجح عند جمهور الفقهاء أن الدية مائة من الإبل، وتساوي من الأموال الأخرى 100 جمل - 200 بقرة - 2000 شاة - 1000 دينار - 10000 درهم، أو 12000 درهم، والإبل هي الأصل في الدية، وبقية الأصناف مصالحة وتقدير شرعي، فهل تتناسب مع تقديرات الزكاة؟
سعر الجمل في الدية 1000 دينار ÷ 100 جمل = 10 دنانير.
سعر الجمل في الزكاة 20 دينار ÷ 5 جمل = 4 دنانير، فأين اتحاد الأنصبة، وقس بقية أسعار الماشية بالدراهم والدنانير - تجد الفرق شاسعا، ولا صحة لدعوى اتفاق الأنصبة.
وهذا جدول بأسعار السائمة بالدرهم والدينار في الزكاة والدية.
الصنف ... الدية ... الزكاة
دينار ــ درهم ... دينار ــ درهم ... ــ
إبل ... 10 ــ 100 ... 4 ــ 40
بقر ... 5 ــ 50 ... 0. 65 ــ 6. 5
غنم ... 0. 5 ــ 5 ... 0. 5 ــ 5
ويتضح من الجدول أن الغنم وحدها ثابتة السعر في الدية والزكاة، أما البقر والإبل - فلها سعر مستقل في الحالتين.
6 - وقد ذهب الدكتور شحاته إلى القول بأن ثمن الشاة خمس دراهم، وهذا يعني أن ثمن الجمل أربعون درهما في نصاب الزكاة، ولهذا أجزأت الناقة
__________
(1) نيل الأوطار ج7 \ 240، 241.(39/332)
عن ثمانية أشخاص في الأضحية؛ لأنها تعدل ثمان شياه، والبقر أيضا نصابه واحد يعادل نصاب الغنم، وقد علم الناس جميعا أن الصحيح الراجح أن البدنة والبقرة تجزئ عن سبعة أشخاص، لا عن ثمانية؛ لحديث جابر، عند مسلم: «نحرنا، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة (1) » .
7 - وتأتي الداهية الدهياء إذا اعتبرنا الأوسق الخمسة، وهي نصاب الزروع، تساوي 200 درهم فضة، ومن المعلوم أن البر أغلى من الشعير، وكلاهما أغلى من الذرة، والسمسم أغلى منهما، فأي الأوسق هذه التي تساوي نصاب النقود.
وقد علم السادة الأفاضل أن الأنصبة تراعى في تدرجها تكاليفها الملقاة على عاتق المسلم الذي يقوم بحيازة هذه الأموال، فالنقود باعتبارها نامية قدر لها النصاب المعروف، بينما الزروع كلها نماء، ولا عناء فيها كتربية الماشية، فكان نصابها أقل، وكانت زكاة الماشية تتناقص عكسا بزيادة الكمية؛ لتشجيع تنمية الثروة الحيوانية، فكل نصاب في الأموال الزكوية محدد مستقل، ساوى الأنصبة الأخرى أم لم يساويها، فهذا المبدأ الافتراضي بمساواة الأنصبة مرفوض ومطروح، ولا علاقة له بالحكم الشرعي.
المبدأ الثاني: أن النصاب يعني حد الكفاية لسنة واحدة لأسرة متوسطة، وقد أخذ هذا المبدأ من كلام المرحوم شاه ولي الله الدهلوي في حجة الله البالغة، كما نقله الدكتور القرضاوي، فهو إذن ليس دليلا شرعيا ملزما، وإنما هي اجتهاد فردي نرجو الله أن يثيبه عليه ثواب المجتهدين.
__________
(1) المجموع شرح المهذب 8 \ 398.(39/333)
ولكن تحديد الكفاية يختلف بين أسرة صغيرة ومتوسطة وكبيرة، كما يختلف أسلوب المعيشة بين بادية بسيطة ومدنية معقدة، ومراعاة عرف المجتمع في طريقة حياته لا ينكره الفقهاء، ضمن دائرة الحلال؛ فالمبلغ الذي كان والدي يعيلنا به في صغري لا يكفيني اليوم لأسبوع واحد، وقد كان يكفينا شهرا، فحد الكفاية يختلف بين زمن وآخر، وشخص وآخر، وأسرة وأخرى، والنصاب الزكوي المحدد ليس كفاية سنة، بل هو الزائد عن حاجات الأسرة الضرورية والحاجية، وتحديد كفاية السنة لا يمكن ضبطه برقم أو استقراء إحصائي، بل هو عائد لضمير المسلم وسلوكه وأخلاقياته، فما زاد عن حاجة الحول وبلغ النصاب المحدد زكاه صاحبه.
وزكاة النقدين ثابتة بالنص، أما نصاب النقد الورقي فهو متغير يوميا تبعا لاختلاف القوة الشرائية للنقود، ومن المستحيل ضبطه برقم ثابت طيلة العام، إلا إذا ضمنا ثبات أسعار العملات جميعا بما فيها الذهب والفضة، وأخيرا هل يمكن اعتبار نصاب الغنم (40) شاة كافيا لضمان حياة سنة لأسرة متوسطة في حياتنا المعاصرة؟ وكيف نقدر نصاب النقد الورقي؟
إن تقدير النصاب في النقد الورقي بجعله تابعا لقيمة نصاب بهيمة الأنعام أو نصفه لا يصح؛ لأن المقياس يجب أن يكون ثابتا لا متغيرا، وسعر الغنم لا يثبت، حتى ولا في أوسط البلاد وأكثرها اعتدالا، فعدا عن اختلاف السعر من بلد لآخر - يختلف السعر في الشتاء عن الصيف، وفي سني الجدب عن سني الخصب، وفي موسم التوالد عن المواسم الأخرى، وكلها متغيرات أبعد ما تكون عن حقيقة الثبات المنشودة في الحكم الشرعي، ولا بد لتقدير النصاب من العودة إلى مجموع أنصبة الزكاة، لنرى(39/334)
أنصبة الأموال الزكوية الأربعة: [السائمة من بهيمة الأنعام - النقدان - الزروع والثمار - عروض التجارة] ، فنجد ثلاثة منها محددة تحديدا دقيقا، وتزكى من أعيانها، دون النظر إلى قيمتها التي قد تختلف عبر العصور، ولا أثر لتغير قيمتها في زكاتها التي تخرج من أعيانها بالذات وهي [الأنعام - الزروع - النقدان] ، ويبقى نصاب واحد مقدر بالقيمة وهو عروض التجارة، فبماذا قومه الفقهاء؟ فبمثله نقوم نصاب النقد الورقي؛ لأنه نصاب الأصل في تحديده القيمة، ويقاس عليه كل ما يلزمنا تقويمه مما يحدث من أموال.
ولا يعني هذا أنني رجعت عن تكييف الورق النقدي كنقد مستقل إلى اعتباره عروض تجارة. كلا. . بل هو نقد مستقل، ولا نص يرشدنا إلى تحديد نصابه، وليس زكاته في عينه، بل في قيمته، وهناك نصاب منصوص على اعتبار القيمة فيه، وهو عروض التجارة، فليكن مصير تقويم النقد الورقي بما تقوم به عروض التجارة.
زكاة عروض التجارة ثابتة بالإجماع خلافا للظاهرية، ورجح الإجماع الشوكاني في نيل الأوطار، نقله عن ابن المنذر (1) ، فقد أخرج أبو داود، في سننه، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع (2) » وقد سكت عنه أبو داود دليل تحسنه، وحسنه ابن عبد البر، وقال ابن حجر: في إسناده جهالة، وروى البيهقي عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته (3) » قاله بالزاي، ولا خلاف أن الزكاة
__________
(1) نيل الأوطار 4 \ 197.
(2) سنن أبو داود الزكاة (1562) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/179) .(39/335)
لا تجب في عين البز، وثبت أنها في قيمته (1) .
وحيث ثبت أن زكاة التجارة بقيمة عروضها، فلنستمع إلى فقهائنا في تقويمها.
قال النووي: أجمع الفقهاء على تقويم نصاب التجارة بالنقدين، واختلفوا في كيفية التقويم؛ فالشافعي يرى تقويمها بالنقد الذي اشتريت به، فلو نقص النصاب به، وبلغ بنقد البلد - فلا زكاة (2) ، وذهب الحنفية إلى تقويمها بما هو أنفع للفقراء، وتفسيره أن يقومها بما تبلغ به نصابا؛ أي بأقل النصابين من الذهب أو الفضة، وهو قول الإمام.
وقال أبو يوسف: يقومها بما اشتراها به إن كان نقدا، وهو قريب من قول الشافعي، وقال محمد: يقومها بغالب نقد البلد، كما في المغصوب والمتلف، وقال الكمال بن الهمام المعنى أن يقومها بالأنفع مطلقا، وبما تبلغ به نصابا دون مالا يبلغ، ولو بلغ بكليهما قوم بالأروج، وتعتبر القيمة عند الإمام يوم الوجوب، وعندهما يوم الأداء (3) .
والزكاة دائما بالقيمة دون العين عند الحنابلة، وقول الشافعي الراجح، خلافا للحنفية، واستدل الحنابلة بأن النصاب معتبر بالقيمة، فكانت الزكاة منها كالعين في سائر الأموال، ولا نسلم أن الزكاة تجب في المال، وإنما وجبت في قيمته (4) ، ورجح ابن تيمية جواز الإخراج من عين العروض أو قيمتها، بحسب الحاجة (5) .
__________
(1) المغني 3 \ 31، ابن قدامة.
(2) المجموع شرح المهذب، النووي 6 \ 64.
(3) فتح القدير ابن الهمام 2 \ 220، والمبسوط 2 \ 191.
(4) المغني ابن قدامة 3 \ 31.
(5) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 1 \ 299.(39/336)
ونعود إلى النقد الورقي:
كان هذا النقد قبل الحرب العالمية الأولى لا يتمتع بصفة الإلزام، بل هو سند بدين، على بنك الإصدار، يمكن لحامله استبداله بقيمة من الذهب والفضة إذا أراد، ولكن سيطرة مبدأ النقود الإلزامية بعد الحرب العالمية الأولى - جعلت الأمر يختلف، فقد أوغل النقد الورقي إيغالا شديدا في النقدية، وأصبح هو المتداول في السوق، ولا نكاد نرى الذهب والفضة إلا عند صاغة الحلي؛ ولهذا أفتى مجمع البحوث الإسلامية بأنه جنس نقد مستقل له كل أحكام الذهب والفضة في الربا والزكاة وغيرها من الأحكام، ويجب أن يفرغ الفقهاء من هذه المسألة نهائيا، ولا بد من التسليم بنقديته المستقلة التي اكتسبها بالعرف والاصطلاح، ومطلق الثمنية كافية في التعليل والله أعلم.
وفي مرحلة النقود الاختيارية، كان الفقهاء يفتون بوجوب زكاته إذا بلغ نصاب أحد النقدين المغطى به، وفق سعر التعادل، وقد أفتى المرحوم أبو زهرة وخلاف بتقديره بنصاب الذهب، كما ذهب صاحب الفتح الرباني إلى تقديره بالفضة.
وبعد أن صار النقد إلزاميا لا يمكن استبداله، كان الصواب والله أعلم أن يقدر بأقل النصابين لمصلحة الفقراء، وهذا يعني أن نصاب النقد الورقي لا يمكن أن يكون رقما ثابتا، بل هو تابع لعوامل متعددة، يعرفها الراسخون في علم اقتصاد النقود.
وبما أن البحث الفقهي والتاريخي قد انتهى إلى تقدير نصاب الذهب الشرعي بـ85 غرام، ونصاب الفضة بـ595 غرام (1) ، وهو التقدير الصحيح فيما
__________
(1) فقه الزكاة، د. القرضاوي 1 \ 259.(39/337)
أظن والله أعلم، فما علينا إلا أن نحسب ثمن نصاب الذهب ونصاب الفضة من نقدنا المعاصر، ثم نأخذ بالنصاب الأقل ونخرج الزكاة، ولا حاجة لتقدير النصاب بسعر الغنم؛ لأن الغنم نفسها مقومة بالنقدين، فلماذا إطالة الطريق إذا كان المآل إلى الذهب والفضة، وهذا يستلزم اختلاف نصاب النقد الورقي بين فترة وأخرى، ولا حرج في ذلك إذا كان ارتفاع الذهب والفضة أو انخفاضهما يجري على المزكي والفقير معا، وعلى الإبل والبقر والغنم، وعلى كل مال متقوم في الكون، وكمثال تطبيقي:
إذا كان سعر الذهب في غرة رمضان 40 ريال للغرام، واعتبرنا ما غالبه ذهبا كالذهب، فالنصاب بالريال السعودي (85 × 40 = 3400 ريال سعودي) ، فمن ملك هذا المبلغ، فاضلا عن حاجته الأصلية، وقد مر عليه حول قمري دفع زكاته 2. 5%، بمقدار ربع العشر، بعد مقارنة المبلغ المذكور بالنصاب المقدر بالفضة، وأخذ أقل النصابين.
[595 × سعر غرام الفضة =] .
وإذا كان الذهب مغشوشا - فيحتسب منه مقدار الغش وتسقط قيمته من المبلغ، والنصاب عند من اشترط النصاب الذهبي والفضي، خاليا من شوائب المعادن الأخرى والله أعلم.(39/338)
المراجع
القرآن الكريم:
تفسير فتح القدير للشوكاني - ط دار الفكر.
تفسير القرآن العظيم - ابن كثير الدمشقي.
تفسير أضواء البيان - محمد الأمين الشنقيطي - مطبعة المدني.
المراجع الحديثية:
فتح الباري شرح البخاري - ابن حجر العسقلاني - طبعة رئاسة إدارات البحوث.
شرح مسلم للنووي.
نيل الأوطار للشوكاني طبعة إدارة البحوث.
سبل السلام للصنعاني طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
عون المعبود شرح سنن أبي داود - شمس الحق العظيم الآبادي - الطبعة الهندية.
شرح السنة للبغوي - تحقيق شعيب الأرناءوط - المكتب الإسلامي.
سنن الترمذي تحقيق عزت عبيد الدعاس رحمه الله.
الفتح الرباني وشرحه بلوغ الأماني على مسند الإمام أحمد - تأليف أحمد عبد الرحمن البنا - دار الحديث بالقاهرة.
شرح الزرقاني على موطأ مالك.
المنتقى شرح الموطأ - للباجي.(39/339)
المراجع الفقهية:
فتح القدير على الهداية - كمال الدين بن الهمام - دار الفكر.
المبسوط للسرخسي - دار المعرفة لبنان.
المختارات الجلية، والفتاوى السعدية - عبد الرحمن آل سعدي.
بداية المجتهد ونهاية المقتصد - ابن رشد القرطبي، دار المعرفة لبنان.
المغني - ابن قدامة المقدسي، مكتبة الرياض الحديثة.
المجموع شرح المهذب للنووي وتكملته للسبكي. طبعة المنيرية.
رد المحتار على الدر المختار- حاشية ابن عابدين، دار الفكر.
الوجيز للغزالي، وشرحه فتح العزيز للرافعي بهامش المجموع.
الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع - للخطيب الشربيني، دار المعرفة.
مغني المحتاج في شرح المنهاج - للخطيب الشربيني، دار الفكر.
الفقه على المذاهب الأربعة - عبد الرحمن الجزيري، دار الفكر.
حاشية النجدي على الروض المربع - عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي.
حاشية الدسوقي على الشرح الكبير - محمد عرفة الدسوقي، دار الفكر.
القوانين الفقهية - ابن جزيء، دار الفكر.
الشرح الصغير على أقرب المسالك - أحمد الدردير، طبعة الشيخ راشد آل مكتوم.
الكافي - أبو عمر بن عبد البر تحقيق د. محمد ولد ماديك الموريتاني، مكتبة الرياض الحديثة.
المحلى - ابن حزم الأندلسي، دار الآفاق الجديدة.(39/340)
فقه الزكاة - د. يوسف القرضاوي، مؤسسة الرسالة.
اللباب شرح الكتاب - عبد الغني الغنيمي، دار السلام.
نهاية التدريب شرح نظم الغاية والتقريب - للعمريطي بتحقيق الشيخ حسن حبنكة الميداني.
شرح خطط السداد والرشاد للتتائي المالكي، وهو بحاشية الدر الثمين.
شرح المورد المعين لمياره - ابن عاشر المالكي، دار الفكر.
الدر الثمين شرح المورد المعين لمياره - علي بن عاشر، دار الفكر.
الفروع لابن مفلح الحنبلي وتصحيح الفروع للمرداوي، عالم الكتب، مراجعة عبد الستار فراج.
كشاف القناع عن متن الإقناع - الشيخ منصور البهوتي، عالم الكتب.
الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد - للمرداوي، دار إحياء التراث العربي.
السلسبيل في معرفة الدليل - الشيخ صالح البليهي، الطبعة الثالثة.
التلخيصات لجل أحكام الزكاة - عبد العزيز المحمد السلمان.
فتح الإله المالك - فتاوى الشيخ عليش.
منح الجليل شرح مختصر خليل - الشيخ عليش.
المدونة الكبرى - رواية سحنون.
إعلام الموقعين عن رب العالمين - ابن قيم الجوزية، دار الجيل.
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم النجدي.(39/341)
مراجع في الاقتصاد الإسلامي والنقود:
الأحكام السلطانية - للماوردي.
الإيضاح والتبيان في الأكيال والأوزان - ابن الرفعة تحقيق د. محمد الخاروف، ط جامعة أم القرى.
الخراج والنظم المالية في الدولة الإسلامية - د. محمد ضياء الدين الريس.
النظم الإسلامية - د. صبحي الصالح.
الأموال - أبو عبيد القاسم بن سلام.
التراتيب الإدارية - عبد الحي الكتاني، دار الكتاب العربي.
قطع المجادلة عن تغيير المعاملة - الجلال السيوطي، في كتابه الحاوي للفتاوى.
تنبيه الرقود إلى أحكام النقود - ابن عابدين ضمن مجموعة رسائله.
النقود العربية وعلم النميات للأب - إنستاس ماري الكرمللي.
أبحاث المقريزي والبلاذري والذهبي وابن خلدون في كتاب الكرمللي.
دائرة المعارف الإسلامية.
فتوح البلدان للبلاذري.
تاريخ الحضارة الإسلامية من نفوذ الأتراك حتى القرن الخامس - د. محمد جمال الدين سرور، دار الفكر العربي.
النقود وصنج السكة في الإسلام - د. عبد الرحمن فهمي.
التطبيق المعاصر للزكاة- د. شوقي إسماعيل شحاته، دار الشروق.
بحوث في التاريخ الاقتصادي - لعدد من المستشرقين، تعريب توفيق اسكندر.(39/342)
بعض النظم النقدية والمصرفية - د. فؤاد دهمان، طبعة جامعة دمشق.
النقود في الإسلام - د. رفيق المصري بحث مقدم لندوة اقتصاديات النقود، طبع المركز العالمي للاقتصاد الإسلامي.
الموسوعة العربية الميسرة.
إمتاع الأحداق والنفوس في أحكام النقود والفلوس - الشيخ ألفا هاشم الفوتي المدني.
الورق النقدي - الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع.
الفوائد المصرفية والربا - د. حسن عبد الله الأمين، مطبوعات الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية.
نظم مبحث حكم زكاة الفلوس والكاغد - محمد الحسن الشنقيطي، مطابع الأمل الأردن.
المذهب الاقتصادي في الإسلام - د. محمد شوقي الفنجري، دار عكاظ.
المجلات:
الحرس الوطني - اليمامة - المنار، مجمع البحوث الإسلامية، البلاغ.(39/343)
صفحة فارغة(39/344)
ذميم الشعر في التصور الإسلامي
بقلم: مصطفى عيد الصياصنة
ما دام الشعر، في جوهره وحقيقة صنعته ودلالته، لا يعدو أن يكون، بأبسط المفاهيم وأقربها، تعبيرا عن تجربة شعورية في صورة موحية، ميزته على سواه من سائر الكلام وضروبه، تكمن في روعة الصورة، وظلال العبارة، وعمق اللمسة، ودفق الخيال.
فقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم، أن الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، وأن مدار الحكم فيه إنما يكون على المدلول والأثر، لا على صورة الشكل وكنه الصنعة:(39/345)
أ- فعن عبد الله بن عمرو بن العاص وعائشة رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشعر بمنزلة الكلام، حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام (1) » .
ب- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو كلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح (2) » .
ج- وقد نقل عنها أنها كانت تقول: (الشعر منه حسن ومنه قبيح، خذ الحسن، ودع القبيح) (3) .
د- كما نقل عن الإمام الشافعي قوله: (الشعر كلام، حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيحه، غير أنه كلام باق سائر، فذلك فضله على الكلام) (4) .
__________
(1) رواه البخاري في (الأدب المفرد 2 \ 868 مدني) ، والدارقطني رقم \ 490، وذكره المتقي في كنز العمال (3 \ 577 رقم 7979) ، والهيثمي في مجمع الزوائد (8 \ 122) ، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وقال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، قال الهيثمي: وإسناده حسن، وقد ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (448) وصححه لمجموع طرقه، كما ذكره في صحيح الجامع الصغير رقم (3627) .
(2) رواه الدارقطني (4 \ 155) في كتاب (خبر الواحد يوجب العمل) ، وذكره التبريزي في مشكاة المصابيح (رقم \ 4807) في الآداب، وقال عنه الألباني في تخريجه له: وإسناده حسن، ورواه أبو يعلى في مسنده 8 \ 4760.
(3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (رقم 2 \ 869 مدني) ، وقال الحافظ في (الفتح 10 \ 539) : وسنده حسن.
(4) الأم (6 \ 212) ، ومناقب الشافعي للبيهقي (2 \ 60) .(39/346)
امتداحه صلى الله عليه وسلم الشعر ودوره:
وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم الشعر، ونبه إلى خطورة فن صناعة الكلمة، في توجيه مسيرة الحياة، والتأثير في الناس، وإبلاغهم صوت الدعوة ونصاعة الحق:(39/346)
أ- فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يتكلم بكلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة (1) » وفي رواية "حكما"، وعند ابن ماجه حكما) .
ب- وعن أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشعر لحكمة (2) » .
قال الحافظ ابن حجر: (إن من الشعر لحكمة معناه: أي قولا صادقا مطابقا للحق، وقيل: أصل الحكمة المنع، فالمعنى: إن من الشعر كلاما نافعا يمنع من السفه، ونقل عن ابن التين قوله: مفهومه أن بعض الشعر ليس كذلك؛ لأن (من) تبعيضية) .
ج- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «البيان من الله، والعي من الشيطان، وليس البيان كثرة الكلام، لكن البيان الفصل في الحق، وليس العي قلة الكلام، ولكن من سفه
__________
(1) رواه الترمذي (2848) في الأدب، وأبو داود (5011) ، وابن ماجه (3756) فيه، ومالك في (الموطأ \ 1806) في كتاب الجامع، والحاكم (3 \ 613) في معرفة الصحابة، وابن حبان (7 \ 515) ، والبخاري في الأدب المفرد (2 \ 875) ، وأحمد (1 \ 269) ، والطحاوي في (شرح معاني الآثار 4 \ 297) ، والطبراني في (الكبير \ 756) ، وذكره المتقي في الكنز (3 \ 579 رقم 7985) ، وذكره الألباني في (الصحيحة \ 1731) ، وفي (صحيح الجامع \ 2211) ، والطياليسي (2670) .
(2) أخرجه البخاري (6145) في الأدب، وأبو داود (5010) ، والترمذي (2844، 2845) ، وابن ماجه (3755) فيه، وأحمد (3 \ 456) ، والطحاوي (شرح معاني الآثار 4 \ 296) ، والبخاري في الأدب المفرد (2 \ 867) ، والطبراني في (الكبير 17 \ 19) ، وأبو نعيم في (الحلية 7 \ 269) ، والطيالسي في مسنده (556 و 557) ، وابن حبان (7 \ 514) .(39/347)
الحق (1) » ولا شك أن الشعر من أرفع أساليب البيان وأقدرها على إبراز المخبوء من أوجه الحق ونصرته.
__________
(1) رواه ابن حبان في صحيحه (7 \ 520 رقم \ 5766) .(39/348)
امتداحه - صلى الله عليه وسلم - شعراء الفضيلة والطهارة:
كما امتدح - عليه الصلاة والسلام - شعراء بأسمائهم، وذلك لما في شعرهم من الحكمة والحث على الفضيلة والخير، والترهيب من الرذيلة والفساد، أو لما عهد منهم من نصرة أهل الحق وطهارة اللسان:
أ - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم (1) » .
ب- وعن الهيثم بن أبي سنان، أنه سمع أبا هريرة - رضي الله عنه - في قصصه يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أخا لكم لا يقول الرفث - يعني عبد الله بن رواحة - قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع (2)
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
»
__________
(1) رواه البخاري (6147) في الأدب، ومسلم (2256) في الشعر، والترمذي (2853) ، وابن ماجه (3758) في الأدب، وأحمد (2 \ 470) ، وابن أبي شيبة في المصنف (8 \ 694) ، والحميدي في مسنده (2 \ 454) ، وابن حبان (7 \ 516) بلفظ: ''أشعر بيت قالته العرب''، والمتقي في الكنز (3 \ 557 رقم 7977 و 7978) ، وذكره الألباني في صحيح الجامع (رقم \ 1015) .
(2) رواه البخاري (6151) في الأدب، باب هجاء المشركين، والبيهقي (10 \ 239) ، والطبري في تهذيب الآثار (رقم \ 2746) موقوفا، وقد نقل الحافظ في الفتح (10 \ 547) عن ابن بطال قوله: '' فيه أن الشعر إذا اشتمل على ذكر الله والأعمال الصالحة كان حسنا، ولم يدخل فيما ورد فيه الذم ''، كما نقل عن الكرماني قوله: '' في البيت الأول إشارة إلى علمه، وفي الثالث إلى علمه، وفي الثاني إلى تكميله غيره، فهو كامل مكمل ''.(39/348)
إدراك السلف الصالح لأهمية الشعر ودوره:
وقد كان سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم أجمعين -، على معرفة تامة بأهمية هذا اللون من ألوان البيان - أعني الشعر - ودوره في تقويم اللسان، ورفد النفس بفضائل الخصال وكرائم الأخلاق، ودفعها إلى التعلق بمعالي الأمور، والطموح إلى بلوغ ذرى المجد وسنام الرفعة، وعقلها عن الوقوع في مهاوي الرذيلة ودرك الفساد، هذا بالإضافة إلى إمداده المسلم بما هو في أمس الحاجة إليه، من الأداة اللازمة لفهم كتاب الله وسنة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -، ولذا دعوا إلى تعليمه وفهمه وروايته: -
أ- فعن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: (ربما قال الشاعر الكلمة الطيبة) (1) .
ب- وعن عبد الله بن عباس قال: قال عمر بن الخطاب: (تعلموا الشعر، فإن فيه محاسن تبتغى ومساوئ تتقى، وحكمة للحكماء، ويدل على مكارم الأخلاق) (2) .
ج- وعن عباد بن راشد قال: جاء رجل إلى الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -، فقال: (إني أتعلم القرآن، وإن أبي يأمرني أن أتعلم الشعر) ، فقال: (تعلم القرآن، وخذ من الشعر ما ترضي به أباك) (3) .
د- وعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: (الشعر ديوان العرب، وهو أول علم العرب،. . . عليكم بشعر الجاهلية شعر
__________
(1) ذكره الحافظ في الفتح (10 \ 540) وقال: (أخرجه ابن أبي شيبة) .
(2) أورده المتقي في الكنز (3 \ 855، رقم 8945) .
(3) رواه الطبري في التهذيب (ج2، رقم \ 2706) .(39/349)
الحجاز) (1) .
هـ- كما نقل عنه قوله - رضي الله عنه -: (إذا قرأ أحدكم شيئا من القرآن، فلم يدر ما تفسيره، فليلتمسه في الشعر، فإنه ديوان العرب) .
ووعن ابن أبي الزناد، قال: قيل لسعيد بن المسيب: إن ناسا يكرهون الشعر، قال: (نسكوا نسكا أعجميا) (2) .
ز- وروي عن عبد الملك بن مروان، أنه قال لمؤدب أولاده: (علمهم الشعر يمجدوا) (3) .
__________
(1) أخرجه الطبري في تهذيب الآثار (ج2، رقم \ 2702) .
(2) أخرجه الطبري في التهذيب رقم 2705 جـ2.
(3) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (2 \ 876 مدني) .(39/350)
مساهمة الشعر في حركة الدعوة: -
ومن هذا المنطلق، ووفق هذا التوجه فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجعل الشعر رفيقا ملازما لحركة الدعوة، يرصد ما تمر به من أحداث عظام، لها بصماتها المشرقة على صفحة التاريخ وجبهة الزمن، مستلهما - في الوقت ذاته - الآفاق السامقة لمستقبل وضاء وفق نهج راشد وشرعة سديدة: -
أ- فيوم دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة في عمرة القضاء، كان عبد الله بن رواحة يتقدم الصفوف، وهو ينشد مهددا كفار قريش متوعدا سادتها بأن يفسحوا الطريق رحبا، أمام جحافل المسلمين، قبل أن يحل بهم ما لا تحمد عقباه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مثلوج الصدر مما يقول: -
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة في عمرة القضاء، وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه ويقول:(39/350)
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله (1)
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر: يا ابن رواحة، بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل» .
ب - ويوم فتح مكة، دخلها النبي الكريم من كداء، وقد تصدت نساء قريش لخيول المسلمين تلطمها بخمرهن، لتردها عن مطاردة فلول الشرك المنهزمة، فكان مما أعجب النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا المشهد موافقته لما كان قد تنبأ به حسان بن ثابت - رضي الله عنه - في شعره حين هجا أبا سفيان بن الحارث: عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال.
«لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، جعل النساء يلطمن وجوه الخيل بالخمر، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونظر إلى أبي بكر وقال: كيف قال حسان؟ فأنشده: -
عدمنا خيلنا وإن لم تروها ... تثير النقع موعدها كداء (2)
ينازعن الأعنة مصعدات ... يلطمهن بالخمر النساء
__________
(1) رواه الترمذي (2851) في الأدب، ما جاء في إنشاد الشعر، وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي (5 \ 202) في المناسك، إنشاد الشعر في الحرم، وابن حبان (2020، 2021 موارد) ، والبزار في زوائده (2099) في الأدب، هجاء أهل الشرك، وذكره المتقي في الكنز (7993) ، والحافظ في الإصابة (2 \ 299) وقال: أخرجه أبو يعلى بسند حسن، وقال في الفتح (7 \ 384) : ورواه عبد الرزاق من وجهين صحيحين عن أنس، كما ذكره ابن هشام في السيرة (4 \ 5) ، وابن سعد في طبقاته (3 \ 526) .
(2) رواه الطبري في التهذيب (2739) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4 \ 296) بلفظ: (عدمت بنيتي إن لم تروها. .) ، وابن حبان في صحيحه (6 \ 44) عن عائشة. والنقع: الغبار،، وإثارته: نشره، وكداء: الثنية التي بأعلى مكة عند المقبرة، وتسمى (المعلى) ، وليست هي (كدى) التي بأسفل مكة قرب شعب الشافعيين وابن الزبير عند قعيقعان، ولا (كدي) بالتصغير، وهو: الذي يكون في طريق الخارج من مكة إلى اليمن (انظر: جامع الأصول \ لابن الأثير 5 \ 178) . وفي قوله: (ينازعن الأعنة) : إشارة إلى قوة نفوس الخيل وصلابتها، وأنها تنازع الحديد وتعلكه. ومصعدات: ذاهبات صعدا، مقبلات إليكم متوجهات، والخمر: جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، ويقول: (إن الخيل تبعتهم تطاردهم، فانبعثت النساء يضربن خدود الخيل بخمرهن لتردها) ، وهذا ما كان يوم الفتح.(39/351)
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادخلوها من حيث قال حسان. فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من كداء» .
قلت: وفي هذا من إكرام النبي - صلى الله عليه وسلم - لحسان وشعره ما فيه، إذ أصر - عليه الصلاة والسلام - على دخول المسلمين مكة من الموضع الذي ذكره حسان، كما أن في تلطيم النساء لوجوه الخيل - حين دخولها - تصديق الواقع لنبوءته في ذلك - رضي الله عنه -، وهذا من قبيل الرصد التنبؤي لما سيكون فكان.
ج- وقد رصد لنا الشعر أيضا أن بيتين لكعب بن مالك - رضي الله عنه - كانا السبب في إسلام دوس، فعن محمد بن سيرين قال: «أنبئت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينا هو يسير على ناقة، وشنقها بزمامها حتى وضعت رأسها عند قادمة الرحل، فقال: "أين كعب "؟ فقال كعب: هأناذا يا رسول الله. قال: "خذ" - وفي رواية: "أنشد" - فقال: -
قضينا من تهامة كل ريب ... وخيبر ثم أجممنا السيوفا (1)
نخيرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوسا أو ثقيفا
__________
(1) رواه الطبري في تهذيب الآثار: (2736) ، وعبد الرزاق في مصنفه (11 \ 264) ، وذكره المتقي في الكنز (8977) ، والسيوطي في الدر المنثور (5 \ 101) عن ابن سعد، وابن عبد البر في الاستيعاب (1 \ 335) وبهامش الإصابة (3 \ 273) ، وابن كثير في البداية والنهاية (4 \ 345) ، وابن حجر في الإصابة (3 \ 286) ، وابن الأثير في أسد الغابة (4 \ 188) ، وابن هشام في السيرة (4 \ 91) ، والذهبي في سير الأعلام (2 \ 525) ، وشنقها بزمامها: شدها كما تكبح الدابة باللجام، وأجممنا السيوفا: أرحناها، (وفي رواية: أغمدناها) .(39/352)
قال: فأنشد الكلمة كلها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفس محمد بيده لهي أشد عليهم من رشق النبل.
قال ابن سيرين: نبئت أن دوسا إنما أسلمت بكلمة كعب هذه» .
د- وقد اتخذ الصحابيان الجليلان: عامر بن الأكوع وعلي بن أبي طالب من الشعر بلسما يشحذ في نفسيهما كل طاقات الشجاعة ويستثير فيهما روح المغامرة حين منازلتهما (مرحب) ملك يهود، عام خيبر:
عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: «لما قدمنا خيبر خرج ملكهم (مرحب) يخطر بسيفه ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب (1)
إذا الحروب أقبلت تلهب
وقال وبرز له عمي فقال: -
قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغامر
قال: فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له - يضربه من أسفله - فرجع سيفه على نفسه، فقطع أكحله فكانت فيها نفسه.
قال سلمة: فخرجت فإذا نفر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولون: بطل عمل عامر، قتل نفسه، قال: فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي فقلت: يا رسول
__________
(1) رواه مسلم (1806، 1807) في الجهاد والسير، غزوة ذي قرد وغيرها، والحاكم (3 \ 437) وقال: والأخبار متواترة بأسانيد كثيرة أن قاتل مرحب هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. وحيدرة: اسم للأسد، وذلك أن فاطمة بنت أسد أم علي لما ولدته سمته باسم أبيها، وكان أبو طالب غائبا، فلما قدم كره هذا الاسم وسماه عليا، والسندرة: مكيال ضخم، أي: أقتل الأعداء قتلا واسعا عريضا. وذكر الحديث ابن سعد في الطبقات (2 \ 110) .(39/353)
الله، بطل عمل عامر؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال ذلك؟ قال: قلت: ناس من أصحابك. قال: كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين، ثم أرسلني إلى علي وهو أرمد، فقال: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله. قال: فأتيت عليا، فجئت أقوده وهو أرمد حتى أتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبسق في عينيه فبرأ وأعطاه الراية، وخرج مرحب فقال:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال علي:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة ... كليث غابات كريه المنظرة
أوفيهموا بالصاع كيل السندرة
قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه»
هـ - وقد خلد خبيب بن عدي - رضي الله عنه - قصة استشهاده على يد مشركي مكة وجلاديها ببيتين من شعره، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية عينا، وأمر عليهم عاصم بن ثابت، فانطلقوا، حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة، ذكروا لحي من هذيل، يقال لهم: (بنو لحيان) ، فتبعوهم بقريب من مائة رام. . . فقاتلوهم، فرموهم حتى قتلوا عاصما في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب وزيد ورجل آخر،(39/354)
فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم، حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها. . . وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة، فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر. . . فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه، قال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم، فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من سن الركعتين عند القتل، وقال: اللهم أحصهم عددا، وقال: -
فلست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان في الله مصرعي (1)
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله) » .
قلت: ويسمى ذلك اليوم الذي غدر فيه بهذه العصبة المؤمنة بـ (يوم الرجيع) ، وكان ذلك سنة ثلاث للهجرة، والرجيع: ماء لهذيل بناحية الحجاز على صدور الهدأة (موضع بين عسفان ومكة) .
أما مقتل خبيب فقد كان بالتنعيم؛ إذ خرجوا به بعد أن حشدوا لذلك نساءهم وأطفالهم، وصلبوه على خشبة، بعد أن أوثقوه، وقد خلد خبيب هذه الملحمة بشعره حتى غدا شعره فيها أذيع من الملحمة نفسها.
كما رصد حسان بن ثابت بشعره قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - لنخل بني النضير وتحريقه له.
__________
(1) رواه البخاري (4086) في المغازي، غزوة الرجيع، وأبو داود (2660، 2661) في الجهاد، في الرجل يستأسر، والطيالسي في مسنده (2597) ، وذكر القصة بطولها ابن هشام في السيرة (3 \ 93 وما بعدها) ، والشلو: العضو من الإنسان، ممزع: مفرق، قال الحافظ في الفتح (7 \ 444) : (في الحديث أن للأسير أن يمتنع عن قبول الأمان، ولا يمكن من نفسه ولو قتل أنفة عن أن يجري عليه حكم كافر، وهذا إذا أراد الأخذ بالشدة، فإذا أراد الأخذ بالرخصة فله أن يستأمن، وفيه إنشاء الشعر وإنشاده عند القتل) .(39/355)
رعاية الشعراء وتشجيعهم: -
ولما يحظى به الشعر من المنزلة العظيمة في مجال الدعوة إلى الله والمشاركة في تشييد بناء المجتمع المسلم، ولكونه من أمضى أسلحة مقارعة الخصوم وكبح جماحه، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشجع الشعراء على الذب عن الدعوة ومقارعة أهل الباطل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا:
أ- فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث حسان بن ثابت على مقارعة المشركين بشعره، ويدعو له أن يكون جبريل - عليه السلام - سنده وعضده:
فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم قريظة لحسان: اهج المشركين فإن جبريل معك (1) » . وفي رواية أخرى: «اهجهم وهاجهم وجبريل معك (2) » .
ب - وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا حسان، أجب عن رسول الله، اللهم أيده بروح القدس (3) » .
ج- وكثيرا ما كان - عليه الصلاة والسلام - ينصب لحسان منبرا وسط مسجده الشريف، يقوم عليه منافسا من هجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شعراء قريش وصناديد السلطة والسيادة فيها، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع لحسان منبرا في المسجد، فيقوم عليه يهجو من
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4124) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2486) ، مسند أحمد بن حنبل (4/301) .
(2) رواه البخاري (6153) في الأدب، هجاء المشركين، ومسلم (2486) ، في فضائل الصحابة، فضل حسان، والحاكم (3 \ 487) ، وأحمد (4 \ 299) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (8 \ 697) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4 \ 298) ، والسيوطي في الدر المنثور (5 \ 100) ، والبزار في زوائده (2098) في الأدب، هجاء أهل الشرك، والطبراني في الصغير (1 \ 46) ، وفي الكبير (3589) ، وذكره المتقي في الكنز (7995) ، والألباني في السلسلة الصحيحة برقم (801) .
(3) رواه الطيالسي في مسنده (2309) .(39/356)
قال في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن روح القدس مع حسان ما نافح عن رسول الله (1) » .
د- وعندما لح المشركون في هجاء الإسلام ونبيه وأهله، فزع المسلمون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشكون إليه ذلك، فأمرهم - عليه الصلاة والسلام - أن يردوا عليهم الصاع بمثله، فراحوا يعلمون بعضهم بعضا الشعر لمواجهة هجمة قريش والتصدي لجبروتها:
عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: «لما هجانا المشركون شكونا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قولوا لهم كما يقولون لكم. قال: فلقد رأيتنا نعلمه إلى أهل المدينة (2) » .
__________
(1) رواه أبو داود (5015) في الأدب واللفظ له، والترمذي (2846) في الأدب وقال: هذا حديث حسن صحيح، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4 \ 298) ، وأحمد (6 \ 72) ، والطبراني في الكبير (4 \ 44) ، وأبو يعلى في مسنده (4591) ، والحاكم (3 \ 487) وصححه، ووافقه الذهبي، والطبري في التهذيب (2686) ، وذكره الألباني في الصحيحة برقم (1657) .
(2) رواه أحمد (4 \ 263) ، والبزار في زوائده (2097) في الأدب، وذكره المتقي في الكنز (8962) ، والهيثمي في مجمعه (8 \ 124) وقال: رواه أحمد والبزار بنحوه والطبراني ورجاله ثقات.(39/357)
المصطفى - عليه الصلاة والسلام - يعد شعر شعراء الصف الإسلامي جهادا في سبيل الله:
وكان - صلى الله عليه وسلم - يعد شعر هؤلاء الشعراء جهادا في سبيل الله، كالجهاد بالسيف والمال:
أ- فعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه، «أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله - عز وجل - قد أنزل في الشعر ما أنزل. فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن المؤمن يجاهد(39/357)
بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل (1) »
ب- وعن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اهجوا بالشعر، إن المؤمن يجاهد بنفسه وماله، والذي نفس محمد بيده، كأنما تنضحونهم بالنبل (2) » .
جـ- وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (3) »
وفي رواية للنسائي: «جاهدوا بأيديكم وألسنتكم وأموالكم (4) » .
__________
(1) أخرجه أحمد (6 \ 387) و (3 \ 456) ، والبيهقي في السنن (11 \ 263) ، وذكره المتقي في الكنز (8963) ، والألباني في الصحيحة برقم (1631) وقال: صحيح على شرط الشيخين.
(2) رواه أحمد (3 \ 460) ، وذكره المتقي في الكنز (8963) ، والألباني في الصحيحة برقم (802) وقال: هذا سند حسن، ورجاله ثقات رجال الشيخين.
(3) رواه أبو داود (2504) في الجهاد، كراهية ترك الغزو، والنسائي (6 \ 7) في الجهاد وجوب الجهاد، والدارمي (2 \ 213) في الجهاد، وأحمد (3 \ 124) ، وابن حبان (1618 موارد) وصححه، والحاكم (2 \ 81) وصححه، ووافقه الذهبي، كما صححه النووي في آخر باب الجهاد من كتابه (رياض الصالحين) .
(4) سنن النسائي الجهاد (3192) ، سنن أبو داود الجهاد (2504) ، مسند أحمد بن حنبل (3/153) ، سنن الدارمي الجهاد (2431) .(39/358)
ذميم الشعر
ومع هذا كله فإن لدينا - من الجانب الآخر - أحاديث متعددة وردت في النص على كراهية النبي - صلى الله عليه وسلم - للشعر في بعض حالاته، واستعاذته بالله منه، ونهيه - عليه الصلاة والسلام - عن إنشاده في المساجد، وتفضيله امتلاء الجوف قيحا على أن يمتلئ شعرا.
أبغض الحديث: -
فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن الشعر كان أبغض الحديث إليه، وأنه كان يتعوذ منه، ويعده من نفث الشيطان، وينهى عن أن يكون(39/358)
صحيب الإنسان الملازم له في سفره: -
أ- فعن عائشة - رضي الله عنها - سئلت: «هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتسامع عنده الشعر؟ قالت: كان أبغض الحديث إليه (1) » .
ب- وعن عبد الله بن مسعود وجبير بن مطعم - رضي الله عنهما-: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ من همزه- أي الشيطان- ونفثه، ونفخه، وقال: همزه الموت، ونفثه الشعر، ونفخه الكبرياء (2) » .
ج- وعن عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من راكب يخلو في مسيره
__________
(1) رواه أحمد (6 \ 134 و148) ، والطيالسي في مسنده (رقم \ 1490) ، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (8 \ 119) : رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. وراوي الحديث هو أبو نوفل بن أبي عقرب.
(2) رواه أحمد عن ابن مسعود (1 \ 403) وعن جبير (4 \ 81) ، وأبو داود (رقم \ 764) من حديث أبي سعيد الخدري، والطبري في تهذيب الآثار (رقم \ 2715) عن ابن مسعود، وقال الألباني في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص89) : رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه هو وابن حبان والذهبي. أما الحديث المروي عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: (سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وافتتح الصلاة فقال: ''الله أكبر كبيرا ثلاث مرات، والحمد لله كثيرا ثلاثا، وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا، وقال: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان وهمزه ونفثه ونفخه''، قال: فكان يقول: همزه الموتة التي تأخذ صاحب المس، ونفثه الشعر، ونفخه الكبر) فقد رواه أحمد (4 \ 83) ، والترمذي (1 \ 153) ، وابن خزيمة (رقم 469) ، والطبري في تهذيب الآثار (2708) ، والطبراني في الكبير (2 \ 141) ، وهو ضعيف، قال ابن خزيمة: وعاصم العنزي وعباد بن عاصم مجهولان لا يدرى من هما، وقال: وهذا الخبر لم يسمع في الدعاء، لا في قديم الدهر ولا في حديثه، ولا حكي لنا عمن لم نشاهده من العلماء أنه كان يكبر لافتتاح الصلاة ثلاث تكبيرات ويقول: ''وذكره''، ونقل الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في تخريجه لـ (صحيح ابن خزيمة) عن الشيخ الألباني قوله: ''إسناده ضعيف لاضطرابه وجهالة بعض رواته''. والموتة: نوع من الجنون والصرع، يعتري الإنسان، فإذا أفاق رجع عقله إليه كالسكران(39/359)
بالله وذكره إلا كان ردفه ملك، ولا يخلو بشعر ونحوه إلا كان ردفه شيطان (1) » .
قلت: والحديث الأول محمول على بغضه - عليه الصلاة والسلام - لذلك النوع من الشعر الذي تفوح منه رائحة الفحش وهتك الأعراض المصونة، والنيل من كرامات الناس بساقط القول وباطل الادعاء.
قال أحمد عبد الرحمن البنا في تعليقه على هذا الحديث: "هذا محمول على ما كان فيه فحش ونحوه" (2) .
أما الحديث الثاني: فإن تفسير نفث الشيطان بالشعر هو من تفسير الراوي، وهو- وإن ورد في بعض الروايات مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فمحمول على أن المراد به الشعر المذموم الفاسد القبيح، قال الشيخ ناصر الدين الألباني في تعليقه على هذا الحديث: (فسر بعض الرواة همزه: بالموتة، وهو بضم الميم وفتح التاء: نوع من الجنون، (ونفخه) فسره الراوي: بالكبر، (ونفثه) فسره الراوي: بالشعر، والتفسيرات الثلاثة وردت مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بسند صحيح مرسل، والمراد بالشعر: الشعر المذموم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «إن من الشعر حكمة (3) » رواه البخاري) (4) .
أما بالنسبة للحديث الثالث: فإن السفر لا يناسبه ملازمة الشعر والغناء واللهو، وإنما يناسبه أن يظل المسافر المسلم متعلق القلب بالله،
__________
(1) رواه الطبراني في المعجم الكبير (رقم \ 895) ، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب (4 \ 67) ، والهيثمي في مجمعه (10 \ 131) وقال: إسناده حسن، والألباني في صحيح الجامع (5582) وحسنه أيضا.
(2) الفتح الرباني (19 \ 274) ، دار الشهاب- القاهرة.
(3) صحيح البخاري الأدب (6145) ، سنن أبو داود الأدب (5010) ، سنن ابن ماجه الأدب (3755) ، مسند أحمد بن حنبل (5/125) ، سنن الدارمي الاستئذان (2704) .
(4) صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - (ص89) الطبعة السادسة، المكتب الإسلامي 1391هـ.(39/360)
يرجو حفظه ويأمل خلافته له فيما ترك بعده، عائذا مما قد يلقاه من الوعثاء وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد.
إن هذه الأحاديث ليس فيها ما يهون من شأن الشعر ويحط من قدره، ويقلل من دوره ومنزلته، إذ هي تتوجه بالذم إلى نوع خاص، وفي حالات ومناسبات محددة بذاتها، لا إلى فن الشعر في عمومه وعلى إطلاقه.(39/361)
النهي عن اتخاذ المساجد حلبات لتناشد الأشعار:
كما ورد عن النبي الكريم من الأحاديث ما يفيد نهيه عن تحويل المسجد مسرحا تتناشد فيه الأشعار، وبالأخذ المذموم منها، وعلى سبيل التفاخر والمباهاة: -
أ- فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه ضالة، وأن ينشد فيه شعر، ونهى عن الحلق قبل الصلاة يوم الجمعة (1) » .
ب- وعن حكيم بن حزام أنه قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود (2) » .
قال الإمام المباركفوري في توجيه الحديث الأول: (هو أن ينشد كل
__________
(1) رواه أبو داود (1079) في الصلاة، التحلق يوم الجمعة، والترمذي (322) في الصلاة، كراهية البيع والشراء، وقال: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث رخصة في إنشاد الشعر في المسجد، والنسائي مفرقا في موضعين (2 \ 47 و48) ، وفي عمل اليوم والليلة رقم (173) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4 \ 358، وأحمد في مسنده (2 \ 179) ، وذكره الألباني في صحيح الجامع (6762) وحسنه، كما حسنه الأرناءوط في تخريجه جامع الأصول: (11 \ 204) ، وفي رواية أخرى للحديث عند الترمذي والنسائي: ''نهى عن تناشد الأشعار في المسجد''
(2) رواه أبو داود (4490) في الحدود، إقامة الحد في المسجد، والطبراني في المعجم الكبير (3130) . أما الحديث الذي رواه ثوبان بن أبي عبد الرحمن مرفوعا: ''من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا: فض الله فاك '' (ثلاثا) . فقد رواه الطبراني في الكبير، وذكره السيوطي في (الجامع الصغير) ، إلا أن الألباني قال عنه في ضعيف الجامع (رقم 5602) : ضعيف جدا. ومثله الحديث الذي رواه مالك في الموطأ - (1 \ 175) في كتاب قصر الصلاة، باب جمع الصلاة - بلاغا، عن مالك بن أنس - رضي الله عنه - قال: (بنى عمر - رضي الله عنه - رحبة في ناحية المسجد تسمى (البطيحاء) فقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا، أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة) . فقد قال عنه الأرناءوط في تخريجه لـ (جامع الأصول \ لابن الأثير 11 \ 205) : وإسناده منقطع.(39/361)
واحد صاحبه نشيدا لنفسه أو لغيره، افتخارا أو مباهاة على وجه التفكه بما يستطاب منه، وأما ما كان في مدح حق وأهله وذم باطل، وتمهيد قواعد دينية، أو إرغاما للمخالفين، فهو حق خارج عن الذم وإن خالطه نسيب) .
وقال: (أما التحلق فمعناه أن يجلسوا متحلقين حلقة واحدة أو أكثر، وإن كان لمذاكرة علم، وذلك لأنه ربما قطع الصفوف، مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة والتراص في الصفوف الأول فالأول، ولأنه يخالف هيئة اجتماع المصلين، ولأن الاجتماع للجمعة خطب عظيم لا يسع من حضرها أن يهتم بما سواها حتى يفرغ منها) (1) .
ثم تكلم - رحمه الله - عن الجمع بين الأحاديث المبيحة لإنشاد الشعر في المسجد والمانعة له فقال: (وقد جمع بين الأحاديث المبيحة لإنشاد الشعر في المسجد والناهية عنه بوجهين: الأول: حمل النهي على التنزيه، والرخصة على بيان الجواز، الثاني: حمل أحاديث الرخصة على الشعر الحسن المأذون فيه، كهجاء حسان للمشركين، ومدحه - صلى الله عليه وسلم - وغير ذلك، ويحمل النهي على التفاخر والهجاء ونحو ذلك) .
ثم نقل عن ابن العربي قوله: (لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد، إذا
__________
(1) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي \ للمباركفوري (2 \ 272) .(39/362)
كان في مدح دين وإقامة الشرع، وإن كان فيه الخمر ممدوحة بصفاتها الخبيثة من طيب رائحة وحسن لون وغير ذلك مما يذكره من يعرفها، وقد مدح فيه كعب بن زهير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: - بانت سعاد فقلبي اليوم متبول. .
إلى قوله في صفة ريقها:
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول
) .
وعلق على كلامه قائلا: (العراق: وهذه القصيدة قد رويناها من طرق لا يصح منها شيء، وذكرها ابن إسحاق بسند منقطع، وعلى تقدير ثبوت هذه القصيدة عن كعب وإنشاده بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فليس فيها مدح الخمر، وإنما فيها مدح ريقها وتشبيهه بالراح) ا. هـ (1) .
وقد تحدث الإمام أبو جعفر الطحاوي في كتابه (شرح معاني الآثار) عن اختلاف العلماء حول إنشاد الشعر في المساجد، إذ ذهب قوم إلى كراهة ذلك، محتجين بحديثي عمرو بن شعيب وحكيم بن حزام السالفين، ولم ير آخرون في إنشاده الشعر في المسجد بأسا، إذا كان ذلك الشعر مما لا بأس براويته وإنشاده في غير المسجد، واحتجوا بما روي عن النبي الله - صلى الله عليه وسلم - من أنه كان يضع لحسان منبرا في المسجد ينشد عليه، وبما روي من حديث حسان حين مر به عمر وهو ينشد الشعر في المسجد، فزجره، فقال له حسان: (قد كنت أنشد فيه الشعر، وفيه من هو خير منك) وذلك بحضرة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دون أن ينكر عليه ذلك منهم أحد، ثم ذهب - رحمه الله - إلى توجيه الأحاديث التي تفيد المنع أو الكراهة فقال:
1 - قد يجوز أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك الشعر الذي نهى عنه أن
__________
(1) تحفة الأحوذي (2 \ 276) . والظلم: ماء الأسنان وبريقها، أو الثلج، والجمع (ظلم) .(39/363)
ينشد في المسجد هو الشعر الذي كانت قريش تهجوه به.
2 - ويجوز أن يكون هو من الشعر الذي تؤتى فيه النساء وترزأ فيه الأموال، على ما رويناه من جواب الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن الزبير - رضي الله عنه - حين أنكر عليهم إنشاده حول الكعبة.
3 - وقد يجوز أيضا أن يكون أراد بذلك الشعر الذي يغلب على المسجد، حتى يكون كل من فيه أو أكثر من فيه متشاغلا بذلك (1) .
وقال السيوطي في (شرح سنن النسائي 2 \ 48) : (قوله: نهي عن تناشد الأشعار. أي المذمومة. . . ولما كان الغالب في الشعر المذموم أطلق النهي، وقيل: النهي محمول على التنزيه، وما جاء من نشدان الأشعار فيه محمول على بيان الجواز) .
وجاء في كتاب (المنهيات) لأبي عبد الله محمد بن علي الترمذي: (أما إنشاد الأشعار، فإذا كان من الشعر الذي فيه قوام الدين ويرجع إلى محمود الأمر فهو خارج عن النهي، فقد فعله حسان بن ثابت في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي حرم الله تعالى حين دخل مكة، وفعله عبد الله بن رواحة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي حرم الله حين دخل مكة، والحرم مسجد كله، وما كان فيه تشبيب ومباح أن يبسط؛ فالمسجد معظم ومنزه عن ذلك، لأنه للذكر بني؛ لقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (2) وقوله تعالى: {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (3) .
__________
(1) شرح معاني الآثار \ للطحاوي (4 \ 358-359) .
(2) سورة النور الآية 36
(3) سورة الحج الآية 40(39/364)
قبيح الشعر:
ومن الشعر ما يكون امتلاء الجوف قيحا وصديدا أفضل من امتلائه منه، ألا وهو ذلك النمط من الشعر الذي لا يبشر بخير، ولا ينم عن فضيلة، شعر ساقط المعنى، خبيث الهدف، فاسد الدلالة والفكرة، وقد نهى النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - عن الانشغال بهذا النمط من الشعر، وإضاعة الوقت في حفظه وتدارسه، وعندما عرض له في بعض أسفاره شاعر من شعراء هذا الاتجاه أعرض عنه، وصد عن سماعه، بل وأمر أصحابه أن يبعدوه عنه، قائلا: «خذوا الشيطان، أمسكوا الشيطان (1) » .
أ- فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا (2) » .
ب - وعنه أيضا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يمتلئ جوف رجل قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا (3) » .
ج- وعن عوف بن مالك قال: «سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لأن
__________
(1) صحيح مسلم الشعر (2259) ، مسند أحمد بن حنبل (3/41) .
(2) رواه البخاري (6154) في الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر، ومسلم (2257) في الشعر، وأبو داود (5009) في الأدب، والترمذي (2855) في الأدب، والطيالسي (رقم 202) عن سعد بن أبي وقاص، وأحمد (2 \ 288) ، وابن حبان (7 \ 514) ، وأبو نعيم في الحلية (5 \ 60) ، والطحاوى في معاني الآثار (4 \ 296) ، والبزار في زوائده (2090) عن عمر بن الخطاب، باب الشعر وذمه، والطبراني في الكبير (6132) عن سلمان الفارسي، وقد ذكره المتقي في الكنز (9754) ، واستقصى الألباني طرقه في (السلسة الصحيحة رقم \ (336) .
(3) رواه البخاري (1655) في الأدب، وفي الأدب المفرد (2 \ 863) ، ومسلم (2257) في الشعر، وابن ماجه (3759) في الأدب، ما كره من الشعر، وابن أبي شيبة (8 \ 719) ، وابن حبان (7 \ 514) ، والترمذي (2851) في الأدب، وقال: حديث حسن صحيح، والطحاوية في شرح معاني الآثار (4 \ 295) ، والطبراني في الكبير (6132) عن سلمان الفارسي، وأحمد (2 \ 478 و1 \ 175) ، وذكره الألباني في صحيح الجامع برقم (4925) ، وفي السلسة الصحيحة برقم (336) . والقيح: صديد يسيل من الجرح، يريه: قال في النهاية: (هو من الوري الذي هو الداء، يقال وري يورى فهو مورى إذا أصاب جوفه الداء) ، ونقل الحافظ في الفتح (10 \ 458) عن الأصعمي قوله: هو من الوري بوزن الرمي، وعن أبي عبيد قوله: الوري هو أن يأكل القيح جوفه.(39/365)
يمتلئ جوف أحدكم من عانته إلى هامته قيحا يتخضخض خير له من أن يمتلئ شعرا (1) » .
د- وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «بينا نحن نسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعرج، إذ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خذوا الشيطان، أو: أمسكوا الشيطان، لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتلئ شعرا (2) » .
وقد ذهب العلماء في توجيه هذه الأحاديث والتوفيق بينها وبين الأحاديث المبيحة لقول الشعر وروايته وإنشاده والمادحة له مذاهب شتى:
1 - فمنهم من ذهب إلى أن المراد بهذه الأحاديث ذم الشعر الذي يشغل صاحبه عن القرآن وذكر الله، فيكون الغالب عليه، أما إذا كان القرآن وذكر الله وطلب العلم وتدارسه هو الغالب عليه فليس جوف مثل
__________
(1) رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4 \ 295) بلفظ: (من عانته إلى لهاته قيحا يتمخض مثل السقاء) ، وذكره الحافظ في الفتح (10 \ 548) وقال: رواه الطحاوي والطبراني وسنده حسن، وهو في كنز العمال برقم (7971) .
(2) رواه مسلم (2259) في الشعر، والبيهقي في السنن الكبرى (10 \ 244) ، وأحمد (3 \ 41) ، وذكره المتقي في الكنز (8930) عن ابن جرير. والعرج: قرية على نحو ثمانية وسبعين ميلا من المدينة المنورة على طريق مكة، وهي من بلاد أسلم.(39/366)
هذا ممن امتلأ بالشعر، ودخل تحت مضمون الذم، ولو كان يروي شعرا كثيرا أو يقوله، وممن ذهب هذا المذهب أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه (غريب الحديث) ، والإمام البخاري في صحيحه، إذ عقد بابا في كتاب الأدب منه بعنوان: (باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر) ، والإمام النووي في (شرح صحيح مسلم) والإمام القرطبي - رحمهم الله جميعا -.
(قال أبو عبيد: سمعت يزيد بن هارون يحدث بحديث، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعرا (1) » يعني: من الشعر الذي هجي به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن وجهه عندي: أن يمتلئ قلبه من الشعر حتى يغلب عليه، فيشغله عن القرآن وذكر الله، فيكون الغالب عليه من أي شعر كان، فإذا كان القرآن والعلم الغالبين عليه، فليس جوف هذا ممتلئا من الشعر عندنا (2) .
وقال الحافظ في (الفتح 10 \ 548) تعليقا على عنونة الإمام البخاري لهذه الأحاديث بهذه العبارة: (هو في هذا الحمل متابع لأبي عبيد، ووجهه أن الذم إذا كان للامتلاء، وهو الذي لا بقية معه، دل على أن ما دون ذلك لا يدخله الذم) .
أما الإمام النووي فقد ذهب إلى القول: (هذا الحديث محمول على التجرد للشعر، بحيث يغلب عليه، فيشغله عن القرآن والذكر) (3) .
ويبدو أن الحافظ ابن حجر ممن يميلون إلى هذا الوجه، فقد قال في (الفتح 10 \ 550) : (مناسبة هذه المبالغة في ذم الشعر، أن الذين
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6154) ، مسند أحمد بن حنبل (2/96) ، سنن الدارمي الاستئذان (2705) .
(2) غريب الحديث \ لأبي عبيد (1 \ 36) .
(3) شرح صحيح مسلم \ للنووي (7 \ 50) .(39/367)
خوطبوا بذلك كانوا في غاية الإقبال عليه والاشتغال به، فزجرهم عنه؛ ليقبلوا على القرآن، وعلى ذكر الله وعبادته، فمن أخذ من ذلك ما أمر به، لم يضره ما بقي عنده مما سوى ذلك) .
ونقل المناوي في (فيض القدير 5 \ 259) عن القرطبي قوله: (من غلب عليه الشعر لزمته - بحكم العادة الأدبية - الأوصاف المذمومة، وعليه يحمل الحديث) .
وقد حاول الإمام الطبري جاهدا في كتابه (تهذيب الآثار) رد هذا الرأي قائلا: (لو كان هذا صحيحا لكان معناه أن امتلاء القلب من غير الشعر كأساجيع الكهان وخطب الخطباء، حتى لا يكون فيه شيء من كتاب الله ولا من علوم الدين شيء جائز، وهو قول يخرج من قاله من قول جميع الأمة، لإباحته الجهل من أمور الدين، بما لم يبح الله الجهل به) .
ثم تابع قائلا: (إن الشعر كلام كسائر الكلام غيره، حسنه حسن وقبيحه قبيح، كما حسن غيره من الكلام حسن، وقبيح غيره من الكلام قبيح، غير أن له - بأنه مؤتلف النظام ومنسق الأوزان - الفضل على غيره من منثور الكلام، ولا يخرجه ذلك عن معنى غيره من الكلام أن يكون سبيله سبيله في أن ما حسن قيله وروايته من غيره حسن منه، وما قبح قيله وروايته من غير قبح منه، فأما الامتلاء من معنى منه حتى لا يخالط القلب غيره من علم القرآن وأمور الدين؛ فإن ذلك محرم من أي المعاني كان ذلك، فلا وجه لأن يخص بذلك الشعر دون غيره) (1) .
3 - ومنهم من ذهب إلى أن المقصود بذلك امتلاء جوف المرء من الشعر الذي هجا به المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحجتهم أن معناه لو كان
__________
(1) تهذيب الآثار للطبري (2 \ 23-24) .(39/368)
على الامتلاء من جميع أنواع الشعر، لما كان لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من الشعر لحكمة (1) » معنى معقول، لأن ذلك لو كان شاملا لكل أنواع الشعر، لا على الخاص منه؛ لكان من جوفه ممتلئا من الشعر الذي هو حكمة داخلا في حظيرة الذم.
قالوا: وذلك غير جائز إضافته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن في ذلك إضافة ذم امتلاء القلب من الحكمة إليه.
وقالوا: وقد كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صحابة لا نشك أن الغالب عليهم الشعر وقيله، وذلك بعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يكن لذلك من أمرهم ذاما، بل كان لهم حامدا، ولهم بقيله آمرا، منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة وغيرهم ممن يكثر عددهم.
وقد احتج بعض هذا الفريق بالحديث الذي رواه مجالد بن سعيد عن الشعبي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا هجيت به، أو قال: من شعر هجائي (2) » وهو حديث ضعيف. وقال الحافظ في الفتح عنه (10 \ 549) : (وفي سنده راو لا يعرف، وأخرجه الطحاوي وابن عدي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن أبي هريرة، وابن الكلبي واهي الحديث، وأبو صالح شيخه ما هو الذي يقال له: السمان المتفق على تخريج حديثه في الصحيح عن أبي هريرة، بل هذا آخر ضعيف يقال له: باذان) .
وقد ذكر الحافظ الهيثمي هذا الحديث في (مجمع الزوائد 8 \ 120)
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6145) ، سنن أبو داود الأدب (5010) ، سنن ابن ماجه الأدب (3755) ، مسند أحمد بن حنبل (5/125) ، سنن الدارمي الاستئذان (2704) .
(2) رواه البيهقي في السنن (10 \ 244) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4 \ 296) ، والطبري في تهذيب الآثار (2677) ، وذكره العقيلي في الضعفاء (ص435) ، وابن عدي في الكامل (1 \ 345) ، والمتقي في كنز العمال رقم (7974) .(39/369)
وقال: (رواه أبو يعلى، وفيه من لم أعرفهم، والحديث مرسل، إذ أن الشعبي لم يلحق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وراويه مجالد بن سعيد ضعيف) . وقد أقر الإمام الطبري في (التهذيب 2 \ 22) الحكم عليه بالضعف، وأنه لا يصلح للاستشهاد به.
كما ذكره الإمام ابن الجوزي في (الموضوعات 1 \ 260) وقال: (هذا حديث موضوع، فيه النضر بن محرز لا يتابع على هذا، ولا يعرف إلا به، قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج بالنضر، وإنما يعرف هذا الحديث بالكلبي عن أبي صالح، وليس بشيء. .) .
كما ذكره الشوكاني في (الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة رقم \ 928) ، والألباني في (السلسلة الضعيفة رقم \ 1111) ، وفي (السلسلة الصحيحة رقم \ 336) ، وقال: لا يصح إسناده، كما ناقش فساد مدلوله، ذلك أن هذا الحديث أفاد أن النهي متوجه على الكثير من الشعر الذي فيه هجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومفاده أن القليل من الشعر الذي فيه هجاؤه - صلى الله عليه وسلم - جائز، وهذا باطل، وما لزم منه باطل فهو باطل.
وممن ذهب إلى هذا الرأي يزيد بن هارون المحدث، فيما نقله عنه تلميذه أبو عبيد في كتابه (غريب الحديث 1 \ 36) ، والطبري في (تهذيب الآثار 2 \ 21- 22) ، وسبقهم إلى ذلك أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها-، إذ ذكر السهيلي - فيما نقله عنه الحافظ في الفتح (10 \ 549) - في غزوة ودان عن جامع بن وهب، أنه روى فيه أن عائشة - رضي الله عنها - تأولت هذا الحديث «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا (1) » . .) على ما هجي به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنكرت على من حمله على العموم في جميع الشعر.
وقد رد قوم هذا الرأي محتجين بأن معنى ذم الامتلاء من الشعر الذي
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6154) ، مسند أحمد بن حنبل (2/39) ، سنن الدارمي الاستئذان (2705) .(39/370)
فيه هجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إباحة ما دون الامتلاء من ذلك، أخذا بمفهوم المخالفة، قائلين: إن من المعلوم أن قليل الشعر الذي قيل في هجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل كثيره سواء بسواء، ولو كان شطر بيت، وكأن حمل وجه الحديث على امتلاء القلب فيه الترخيص في القليل منه.
وممن ذهب هذا المذهب أبو عبيد القاسم بن سلام، وعبيد الله بن محمد ابن عائشة المعروف بالعيشي، فيما نقله عنهما الطحاوي في شرح معاني الآثار (4 \ 300) ، والطبري في التهذيب (2 \ 4) .
ومن المعلوم أن مفهوم المخالفة هنا هو مفهوم الصفة، والأخذ به ضعيف جدا عند المحققين من أهل العلم من الأصوليين، وخاصة إذا خرج مخرج التنفير والمبالغة، من مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (1) ، فالخطاب- كما ذكر الحافظ في الفتح (10 \ 549) - جاء على وصف التشنيع والمبالغة، فلا يصح أن يكون له مفهوم مخالفة أصلا.
قال الإمام الطبري في التهذيب: (والصواب القول عندنا في معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتلئ شعرا هجيت به (2) » ، ولا معنى لتوهم المنكر صحة معنى هذا الخبر أن يلزمه- إن قال بتصحيحه- إباحة ما دون امتلاء الجوف من هجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا كان الظاهر منه عنده إنما يدل على النهي عن الامتلاء منه، دون الدلالة على النهي عما دون الامتلاء، وأن باطنه عنده يدل على إباحة ما دون الامتلاء منه إلا لغفلة، بل في ذلك الدليل الواضح لمن تأمله بفكر صحيح، أنه من النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن قليل ما هجي به من الشعر وكثيره، وذلك أنه لا شك أن الامتلاء من ذلك إذا كان نظير الامتلاء من القيح
__________
(1) سورة آل عمران الآية 130
(2) صحيح البخاري الأدب (6154) ، مسند أحمد بن حنبل (2/39) ، سنن الدارمي الاستئذان (2705) .(39/371)
الذي يورث الوري، فإن ما دون الامتلاء منه نظير ما دون الامتلاء من القيح الذي من حكمه أن يورث الامتلاء منه الوري، وذلك لا شك كله داء مكروه، وضر على الأبدان محذور، يتقيه كل ذي نظرة صحيحة، ويهرب منه كل ذي بنية سليمة، فإذا كان نظير الشعر الذي هجي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله شبيها لتمثيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه به، فلا شك أنه قد دل بتمثيله إياه به - عليه السلام - أولي الألباب من أمته، على أن الواجب عليهم من اتقاء قليل ذلك وكثيره، والحذر منه، نظير ما في فطرتهم وبنيتهم من اتقاء قليل ما أفسد أجوافهم وكثيره، وأورثها الداء من القيح الذي يورثها الورى كثيره) .
وقال: (وبعد: فإننا لم نجعل علتنا في تصحيح المعنى الذي تأولناه الخبر الذي ذكرناه عن الشعبي وحده دون غيره من المعاني) (1) .
3 - وذهب فريق إلى أن المقصود من مثل هذه الأحاديث النهي عن قيل الشعر كله وروايته قليله وكثيره، قالوا: وذلك أن القليل من القيح في الجوف مضرة، وكل أحد من الناس لقليل ذلك وكثيره كاره أن يكون في جوفه، فإذا كان الامتلاء من الشعر نظير الامتلاء من القيح، فدون الامتلاء من الشعر نظير ما هو دون الامتلاء من القيح، وكل ذلك مكروه في الجوف، فكذلك الشعر كله مكروه أن يكون في الجوف منه شيء. .
واحتجوا لذلك بمجموعة من الأخبار، سردها الإمام الطبري في كتابه تهذيب الآثار في نحو من عشرين خبرا (2) ، وقد رد الإمام الطبري دعوى هذا الفريق، مبينا ضعف ما استندوا إليه من أخبار واهية الأسانيد، لا يحتج بمثلها في شيء من أمور الدين، إضافة إلى مخالفة مذهبهم هذا
__________
(1) تهذيب الآثار (2 \ 21- 22) .
(2) انظر تهذيب الآثار (2 \ 16- 21) من الحديث رقم (2707) إلى الحديث (2727) .(39/372)
الذي ذهبوا إليه لمدلول آي الذكر الحكيم وصحيح الأثر النبوي الشريف.
قال - رحمه الله -: (وأما الذين أنكروا رواية جميع أصناف الشعر اعتلالا بالأخبار المروية في ذلك عن رسول الله، فإن الأخبار بذلك عن رسول الله واهية الأسانيد، غير جائز الاحتجاج بمثلها في الدين، والصحيح من الأخبار عنه - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ما قدمنا ذكره من أمر حسان وغيره من شعراء أصحابه بهجاء المشركين، وإعلامه إياهم أن لهم على ذلك الثواب الجزيل، واستنشاده إياهم، وتمثله أحيانا من ذلك بالبيت بعد البيت. .) .
وقال أيضا: (ويقال لجميع من أنكر قيل الشعر وروايته: أرأيت قول الله جل ثناؤه: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} (1) {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (2) {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} (4) مختلف فيه حكم المستثنى والمستثنى منهم أم متفق؟ فإن زعموا أنه متفق خالفوا في ذلك نص حكم الله تعالى ذكره في كتابه، لأن الله - جل ثناؤه - خالف بين أحكامهم، فأخرج المستثنى من حكم الذين من قبلهم. وإن قالوا: بل هو مختلف. قيل لهم: فقد وضح إذا أن المذموم من الشعراء غير {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} (5) وأنهم هم الذين صفتهم خلاف هذه الصفة، فأما من آمن منهم وعمل الصالحات وذكر الله كثيرا، فغير مذمومين، بل هو محمودون) (6) .
4 - ومنهم من يرى أن الذم - في مثل هذه الأحاديث- متوجه إلى الشعر المذموم أصلا في منطق الإسلام وتصوره، ولا يشمل الشعر كافة على أي وجه كان.
__________
(1) سورة الشعراء الآية 224
(2) سورة الشعراء الآية 225
(3) سورة الشعراء الآية 226
(4) سورة الشعراء الآية 227
(5) سورة الشعراء الآية 227
(6) تهذيب الآثار (2 \ 24- 35) .(39/373)
قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر حديث: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا (1) » : (ظاهره العموم في كل شعر، لكنه مخصوص بما لم يكن مدحا حقا كمدح الله ورسوله، وما اشتمل على الذكر والزهد وسائر المواعظ، مما لا إفراط فيه، ويؤيده حديث عمرو بن الشريد عن أبيه عن جده عند مسلم، قال: «استنشدني النبي من شعر أمية بن أبي الصلت، فأنشدت حتى أنشدته مائة بيت (2) » ) (3) .
5 - وذهب فريق إلى إسقاط الاستدلال بالأخبار لتعارضها والقول بالاستنباط، وحجتهم أن الأخبار الموجبة للمنع قد عارضتها أخبار أخرى غيرها، مثلها في الصحة، يأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين به من شعراء الصحابة بقيل الشعر وهجاء المشركين إذا هجاهم المشركون، وتركه رواة ذلك الشعر في عصره دون الإنكار عليهم في روايتهم إياه، واستنشاده بعضهم الكثير منه، واستماعه إلى منشديه كثيرا من غير كراهة منه لذلك.
قالوا: وإذا كانت الروايتان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحيحتين، وكان غير جائز أن يكون ذلك منه في وقت واحد ومقام واحد، وإذا كان أحدهما دليلا على تحريم الامتلاء من الشعر، والآخر على إباحته وإطلاقه، علم أن ذلك كان منه في وقتين مختلفين، ولما لم يكن معلوما لدينا أيهما المتقدم صاحبه وجب طرحهما، والمصير أن يعرف الواجب في ذلك من جهة الاستنباط.
قالوا: وإذا كان الأمر كذلك، وكان الشعر كلاما كسائر الكلام غيره، غير أن له فضلا على غيره من الكلام المنثور بأنه موزون تستحليه الألسن وتستعذبه المسامع، ولم يكن الممتلئ جوفه خطبا ورسائل مستحقا أن
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6154) ، مسند أحمد بن حنبل (2/39) ، سنن الدارمي الاستئذان (2705) .
(2) صحيح مسلم الشعر (2255) ، سنن ابن ماجه الأدب (3758) ، مسند أحمد بن حنبل (4/389) .
(3) فتح الباري (10 \ 549) .(39/374)
يكون مذموما، كان كذلك الممتلئ جوفه شعرا غير مستحق أن يكون مذموما، كما غير مذموم المتلئ جوفه خطبا ورسائل، وهي كلها كلام كما الشعر كلام مثلها.
وقالوا: ولا معنى لقول من قال إنما عنى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذم أن يمتلئ قلب الرجل من الشعر حتى لا يكون فيه شئ سواه من القرآن وعلم الدين، لأن ذلك لو كان معناه لوجب أن يكون من امتلأ جوفه من الخطب والرسائل وأساجيع الكهان حتى لا يكون فيه شيء من القرآن وعلم الدين غير مذموم، باعتبار أن الذم من النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ورد علينا لمن امتلأ قلبه من الشعر خاصة، وفي إجماع المسلمين على ذم من امتلأ قلبه مما ذكرنا من الأشياء التي عددنا حتى لا يكون فيه شيء من القرآن وعلم الدين، الدليل الواضح على أن معنى قول النبي غير الذي قاله قائل هذه المقالة.
وإذا كان ذلك كذلك، فالصحيح ما قلنا، من أن ذلك كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقتين مختلفين، وقد سقطت حجتهما جميعا، إذ كان لا علم عندنا بالناسخ منها والمنسوخ، وصار الأمر فيه إلى الاستنباط، دل ذلك على أن الشعر لا يختلف عن غيره باعتباره كلاما كسائر الكلام، حسنه حسن كحسن الكلام، وقبيحه قبيح كقبيح الكلام، وكونه مؤتلف النظام منسق الأوزان لا يخرجه عن معنى غيره من الكلام، أن يكون سبيله سبيله، في أن ما حسن قيله وروايته من غيره حسن منه، وما قبح قيله وروايته من غيره قبح منه.
وبعد هذا الاستعراض لمجمل مذاهب العلماء في توجيه أحاديث ذم الشعر والنهي عن قيله وروايته، نخلص إلى أن الشعر- من وجهة النظر الإسلامية - يكون مذموما مرفوضا:(39/375)
1 - إذا كان في هجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد صحابته الكرام البررة، أو فيه مساس بدين الله من قريب، أو بعيد، في أصوله ومنطلقاته، أو في أحكامه وشرائعه، أو في آدابه وأخلاقياته.
2 - إذا كان يطغى على صاحبه، ويأخذ عليه زمام أمره، ويشغل منه وقته، بحيث يصرفه عن القرآن الكريم تلاوة وتدبرا وحفظا، ويشغله عن طلب علم الدين الذي فيه نجاته وسعادته، فيغدو منقطع الصلة بحبل الله، منصرف الهمة عن دينه، فارغ القلب من خشية ربه ورجاء عفوه، معطل الجوارح عن تمثل آداب هذا الدين والانضباط بضوابط أخلاقه وسلوكياته.
3 - إذا كان - في مجمله - لا يخرج عن دائرة الكلام المذموم والقول القبيح، كأن يكون غزلا فاحشا يلوك الأعراض المصونة، ويهتك الحرمات الطاهرة، وينزل بالحس البشري إلى مستوى البهيمية المتدنية، أو يكون هجاء مقذعا جائرا، لا يرعوي قائله عن إلصاق أبشع الصفات وأقبح الخصال بمن هم أرفع من أن تنالهم أصابع الاتهام، وتدنس ثيابهم قذارات البذاءة، أو يكون مدحا كاذبا، لا يخرج عن دائرة النفاق، ولا يتعدى نطاق التزلف والمداجاة والتملق السمج الباهت.
ذلكم هو الشعر المذموم المستبعد من دائرة الحس الإسلامي وتصوره، وتلك هي صفاته وتوجهاته.
أما إذا كان الشعر نظيفا من كل ما ذكرنا، فإنه لا يخرج - بحال - عن دائرة الشعر المباح الذي تشمله جملة الأحاديث النبوية الشريفة بالمدح، أو تكتنفه بعين الرضا والقبول.
إن كل شعر لا يصادم شيئا من المفاهيم الإيمانية من قريب أو بعيد، - كأن يحسن الشر، ويقبح الخير ويدعو إلى منكر أو ينهى عن خير - لا(39/376)
يمكن أن يكون مذموما مستبعدا مرفوضا، في منطق الإسلام أو تصوره.
ذلك أن دين الله ما نزل به وحيه الأمين على نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم -، ليكم أفواه البشر عن الكلام، ويعطل طاقاتهم المنتجة عن العمل، وإبداعهم عن الاستكشاف.
إن الله تبارك وتعالى يبارك كل يد نظيفة ولسان عف، وجهد نافع وفكر سليم، ومن قال بغير هذه المقولة، لا شك أن الدليل ينقصه، ورحابة الصدر وطلاقة الفكر تعوزه، وأعتقد أنه يكفينا للتدليل على ما نقول نقل قول من قال في بيان مدى اهتمام رجال الصدر الأول بالشعر رواية وقولا:
(وبعد، فإنه لم يكن واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان - من العرب إلا وهو للشعر قائل، أو هو له راو الرواية الغزيرة الكثيرة) (1) .
__________
(1) انظر: تهذيب الآثار \ للطبري (2 \ 13) .(39/377)
صفحة فارغة(39/378)
حول توظيف النساء في الدوائر الحكومية
لسماحة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم واقتفى آثارهم إلى يوم الدين أما بعد: -
فقد اطلعت على ما نشر في الصحف المحلية في الأول من شهر رمضان عام 1400هـ من اعتزام فرع ديوان الخدمة المدنية بالمنطقة الشرقية على توظيف النساء في الدوائر الحكومية للقيام بأعمال النسخ والترجمة والأعمال الكتابية الأخرى، ثم قرأت ما كتبه الأخ الناصح محمد أحمد حساني في صحيفة الندوة في عددها الصادر في 8 \ 9 \ 1400 هـ. تعقيبا على ذلك الخبر، وكان صادقا وناصحا للأمة في تعقيبه، فشكر الله له وأثابه، ذلك أن من المعلوم أن نزول المرأة للعمل في ميدان الرجال يؤدي إلى الاختلاط، وذلك أمر خطير جدا، له تبعاته الخطيرة، وثمراته المرة، وعواقبه الوخيمة، وهو مصادم للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها، والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه، مما تكون فيه بعيدة عن مخالطة الرجال.
والأدلة الصريحة الصحيحة الدالة على تحريم الخلوة بالأجنبية، وتحريم النظر إليها، وتحريم الوسائل الموصلة إلى الوقوع فيما حرم الله: أدلة كثيرة محكمة قاضية بتحريم الاختلاط المؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
منها قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (1) {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} (2)
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 34(39/379)
وقال سبحانه:. . . {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) ، وقال الله - جل وعلا -: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (3) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (4) إلى أن قال سبحانه: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والدخول على النساء - يعني الأجنبيات - قال رجال من الأنصار: (أفرأيت الحمو) قال الحمو الموت (6) » ، ونهى الإسلام عن الخلوة بالمرأة الأجنبية على الإطلاق إلا مع ذي محرم، وعن السفر إلا مع ذي محرم، سدا لذريعة الفساد، وإغلاقا لباب الإثم، وحسما لأسباب الشر، وحماية للنوعين من مكايد الشيطان، ولهذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (7) » ، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (8) » ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما (9) » . وهذه الآيات والأحاديث صريحة الدلالة في وجوب القرار في البيت، والابتعاد عن
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) سورة النور الآية 30
(4) سورة النور الآية 31
(5) سورة النور الآية 31
(6) صحيح البخاري النكاح (5232) ، صحيح مسلم السلام (2172) ، سنن الترمذي الرضاع (1171) ، مسند أحمد بن حنبل (4/149) ، سنن الدارمي الاستئذان (2642) .
(7) صحيح البخاري النكاح (5096) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2741) ، سنن الترمذي الأدب (2780) ، سنن ابن ماجه الفتن (3998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/210) .
(8) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) ، مسند أحمد بن حنبل (3/22) .
(9) سنن الترمذي الفتن (2165) ، مسند أحمد بن حنبل (1/18) .(39/380)
الاختلاط المؤدي إلى الفساد، وتقويض الأسر، وخراب المجتمعات، فما الذي يلجئنا إلى مخالفتها، والوقوع فيما يغضب الله ويحل بالأمة بأسه وعقابه، ألا نعتبر فيما وقع في المجتمعات التي سبقت إلى هذا الأمر الخطير، وصارت تتحسر على ما فعلت وتتمنى أن تعود إلى حالنا التي نحن عليها الآن. . لماذا لا ننظر إلى وضع المرأة في بعض البلدان الإسلامية المجاورة، كيف أصبحت مهانة، مبتذلة بسبب إخراجها من بيتها، وجعلها تعمل في غير وظيفتها، لقد نادى العقلاء هناك وفي البلدان الغربية بوجوب إعادة المرأة إلى وضعها الطبيعي الذي هيأها الله له وركبها عليه جسميا ونفسيا وعقليا، ولكن بعدما فات الأوان.
ألا فليتق الله المسئولون في ديوان الخدمة المدنية، والرئاسة العامة لتعليم البنات، وليراقبوه سبحانه فلا يفتحوا على الأمة بابا عظيما من أبواب الشر، إذا فتح كان من الصعب إغلاقه.
وليعلموا أن النصح لهذا البلد حكومة وشعبا هو العمل على ما يبقيه مجتمعا متماسكا قويا سائرا على نهج الكتاب والسنة، وسد أبواب الضعف والوهن ومنافذ الشرور والفتن، ولا سيما ونحن في عصر تكالب الأعداء فيه على المسلمين، وأصبحنا أشد ما نكون حاجة إلى عون الله، ودفعه عنا شرور أعدائنا ومكائدهم، فلا يجوز لنا أن نفتح أبوابا من الشر مغلقة.
ولعل في كلمتي هذه ما يذكر المسئولين في ديوان الخدمة المدنية والرئاسة العامة لتعليم البنات بما يجب عليهم من مراعاة أمر الله ورسوله، والنظر فيما تمليه المصلحة العامة لهذه الأمة، والاستفادة مما قاله الأخ محمد أحمد حساني من أن عملية نقص الموظفين لا تعالج بالدعوة إلى إشراك النساء في وظائف الرجال سدا للذريعة، وقفلا لباب المحاذير، بل إن العلاج الصحيح يكون بإيجاد الحوافز لآلاف الشبان الذين لا يجدون في العمل الحكومي ما يشجع للالتحاق به،(39/381)
فيتجهون إلى العمل الحر، أو إلى المؤسسات والشركات، ومن هنا منطلق العلاج الصحيح، وهو تبسيط إجراءات تعيين الموظفين، وعدم التعقيد في الطلبات، وإعطاء الموظف ما يستحق مقابل جهده، وعندها سوف يكون لدى كل إدارة فائض من الموظفين.
هذا وإنني مطمئن - إن شاء الله - إلى أن المسئولين بعد قراءتهم لهذه الكلمة سيرجعون عما فكروا فيه من تشغيل المرأة بأعمال الرجال إذا علموا أن ذلك محرم بالكتاب والسنة، ومصادم للفطرة السليمة، ومن أقوى الأسباب في تخلخل المجتمع وتداعي بنيانه، وهو مع ذلك أمنية غالية لأعداء المسلمين يعملون لها منذ عشرات السنين، وينفقون لتحقيقها الأموال الطائلة، ويبذلون لذلك الجهود المضنية، ونرجو أن لا يكون أبناؤنا وإخواننا معينين لهم، أو محققين لأغراضهم.
أسأل الله أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من مكائد الأعداء، ومخططاتهم المدمرة، وأن يوفق المسئولين فيها إلى حمل الناس على ما يصلح شئونهم في الدنيا والآخرة، تنفيذا لأمر ربهم وخالقهم والعالم بمصالحهم، وأن يوفق المسئولين في ديوان الخدمة المدنية والرئاسة العامة لتعليم البنات لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد في أمر المعاش والمعاد، وأن يعيذنا وإياهم وسائر المسلمين من مضلات الفتن وأسباب النقم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعهم بإحسان.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(39/382)
وجوب نصر المسلمين المظلومين في البوسنة وغيرها
على جميع المسلمين وغيرهم حسب الاستطاعة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فإن من عرف أحوال المسلمين في البوسنة والهرسك، وما جرى عليهم من الظلم من الكروات والصرب وأنصارهم يتألم كثيرا ويحزن كثيرا لخذلان إخوانهم لهم، وعدم نصرهم النصر الكافي الذي يمكنهم من الدفاع عن أنفسهم واستعادة ما أخذه عدوهم من أرضهم، وقد أوجب الله سبحانه نصر المظلومين وردع الظالمين من المسلمين وغيرهم، كما قال الله - عز وجل -: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (1) الآية.
فإذا كانت الطائفة المؤمنة الباغية يجب أن تقاتل حتى تفيء إلى الحق فالظالمة الكافرة من باب أولى، وقال تعالى: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (2) ، والمعنى: يجب أن لا يتولاهم أحد ولا ينصرهم، وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3)
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) سورة الشورى الآية 8
(3) سورة الشورى الآية 42(39/383)
وقال سبحانه: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (1) .
وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث الصحيحة الأمر بنصر المظلوم، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قيل: يا رسول الله، نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه (2) » ، فنصر المظلوم وردع الظالم من أي جنس كان واجب شرعا وعقلا وفطرة، فالواجب على جميع الدول الإسلامية وعلى مجلس الأمن وعلى مجلس هيئة الأمم أن ينصروا المظلومين في البوسنة وغيرها بالمال والسلاح والرجال، وأن يردعوا الظالمين بجميع الوسائل الرادعة حتى يقف الظالم عند حده، وحتى يعطى المظلوم جميع حقوقه، وبذلك تبرأ الذمة ويستحق الثواب الجزيل من الله - عز وجل - من فعل ذلك ابتغاء وجهه، وبذلك أيضا يأمن العباد، وتستوفى الحقوق، ويقف الظالمون عند حدودهم، وقد قال الله - عز وجل - في كتابه العظيم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) وقال سبحانه:
__________
(1) سورة الأنفال الآية 72
(2) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .
(3) سورة المائدة الآية 2(39/384)
{وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة (4) » ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يقول الله - عز وجل -: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (5) » .
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (6) » ، والآيات والأحاديث في وجوب نصر المظلوم وردع الظالم والتعاون على الخير والتواصي بالحق والصبر عليه كثيرة معلومة. والله المسئول أن ينصر المظلومين في كل مكان، وأن يذل الظالمين ويخذلهم، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، وأن ينصرهم بالحق وينصر الحق بهم، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه. .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/323) .
(5) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) ، مسند أحمد بن حنبل (5/160) .
(6) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) ، مسند أحمد بن حنبل (2/91) .(39/385)
حديث شريف عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليهمما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلالله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار (1) »
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (16) ، صحيح مسلم الإيمان (43) ، سنن الترمذي الإيمان (2624) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4988) ، سنن ابن ماجه الفتن (4033) .(39/386)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2)
(سورة البقرة)
__________
(1) سورة البقرة الآية 278
(2) سورة البقرة الآية 279(40/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(40/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(40/3)
المحتويات
الافتتاحية:
التوحيد وأنواعه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث التحويلات المصرفية اللجنة الدائمة 31
الفتاوى:
فتاوى اللجنة اللجنة الدائمة 85
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 135(40/4)
البحوث:
أحوال يوم القيامة د / دوخي بن زيد بن علي الحارثي 167
وسطية أهل السنة في حكم مرتكب الكبيرة بين الخوارج والمرجئة د / عواد عبد الله المعتق 219
حول الترجمة الفارسية لمعاني القرآن الكريم د / أحمد السيد الحسيسي 281
قيمة النقود وأحكام تغيراتها في الفقه الإسلامي محمد علي بن حسين الحريري 299
الحق في الشريعة الإسلامية الأستاذ / عثمان جمعة ضميرية 349
وجوب الصدق والنصح في المعاملات سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 379(40/5)
صفحة فارغة(40/6)
الافتتاحية
" التوحيد وأنواعه" (1)
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، وصفوته من خلقه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: -
فإني أشكر الله -عز وجل- على ما من به من هذا اللقاء، بإخوة في الله، وبأبناء أعزاء، أسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يمنحنا الفقه في الدين والثبات عليه، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، وأن يكثر فيهم دعاة الهدى إنه جواد كريم.
ثم أشكر القائمين على هذه الجامعة: جامعة أم القرى، وعلى هذا المركز الصيفي، وعلى رأسهم الأخ الكريم صاحب الفضيلة الدكتور راشد بن راجح مدير الجامعة على دعوتهم لي لهذا اللقاء، وأسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا جميعا لما فيه صلاحنا وسعادتنا في العاجل والآجل.
أيها الإخوة في الله، أيها المستمعون الكرام: سمعنا جميعا ما قرأه علينا الطالب من سورة الحشر، سمعنا آيات كريمات فيها عبرة وذكرى، يقول الله
__________
(1) محاضرة ألقيت في جامعة أم القرى بالمركز الصيفي.(40/7)
-جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (1) إلى آخر السورة.
ومن المعلوم أن كتاب الله -عز وجل- من أوله إلى آخره، فيه الذكرى وفيه الدعوة إلى كل خير، وفيه التذكير بأسباب النجاة والسعادة، وفيه العظة والترغيب والترهيب.
فجدير بالمسلمين جميعا أن يعتنوا بتدبره وتعقله، وأن يكثروا من تلاوته لمعرفة ما أمر الله به وما نهى عنه؛ حتى يعلم المؤمن ما أمر الله به فيمتثله، ويبتعد عما نهى الله عنه.
فكتاب الله فيه الهدى والنور، وفيه الدلالة على كل خير، والتحذير من كل شر، وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والتحذير من سيئ الأخلاق، وسيئ الأعمال، يقول سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) أي إلى الطريقة والسبيل التي هي أهدى السبل وأقومها وأصلحها، وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (3) ، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (4) ، وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (5) ، فكتاب الله فيه الهدى والنور، وفيه العظة والذكرى. فوصيتي لنفسي وللجميع ومن يسمع كلمتي أو تبلغه: العناية بهذا الكتاب العظيم، فهذا أشرف كتاب، وأعظم كتاب، وهو خاتم الكتب المنزلة من السماء، ومن تدبره وتعقله بقصد طلب الهداية، ومعرفة الحق، وفقه الله وهداه.
وأهم ما اشتمل عليه هذا الكتاب العظيم، بيان حق الله على عباده، وبيان ضد ذلك. هذا أعظم موضوع اشتمل عليه القرآن، وهو بيان حقه
__________
(1) سورة الحشر الآية 18
(2) سورة الإسراء الآية 9
(3) سورة فصلت الآية 44
(4) سورة ص الآية 29
(5) سورة الأنعام الآية 19(40/8)
سبحانه على عباده من توحيده، وإخلاص العبادة له، وإفراده بالعبادة، وبيان ضد ذلك من الشرك الأكبر، والذنب الذي لا يغفر، وأنواع الكفر والضلال.
ولو لم يكن في تدبر هذا الكتاب العظيم إلا العلم بهذا الواجب العظيم، وتدبر ما ذكره الله في ذلك، لكان ذلك خيرا عظيما، وفضلا كبيرا، فكيف وفيه الدلالة على كل خير، والترهيب من كل شر، كما تقدم.
ثم بعد ذلك العناية بالسنة، فإنها الأصل الثاني، والوحي الثاني، وفيها التفسير لكتاب الله، والدلالة على ما قد يخفى من كلامه سبحانه، فهي الموضحة لكتاب الله كما قال الله -عز وجل-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) ، ويقول سبحانه: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} (2) .
فهو أنزل لدعوة الناس إلى الخير، وتعليمهم سبيل النجاة، وتحذيرهم من سبل الهلاك، وأمر الله نبيه -عليه الصلاة والسلام- أن يبين للناس ما أنزل إليهم، وأن يشرح لهم ما اشتبه عليهم. فلم يزل -عليه الصلاة والسلام- من حين بعثه الله إلى أن توفاه سبحانه يدعو الناس إلى ما دل عليه كتاب الله، ويشرح لهم ما دل عليه، ويحذرهم مما نهى عنه. وكانت المدة من حين بعثه الله إلى أن توفاه ثلاثا وعشرين سنة، كلها دعوة وبيان وترهيب وترغيب، إلى أن نقل إلى الرفيق الأعلى -عليه الصلاة والسلام-.
ومحاضرتي هذه الليلة في أعظم موضوع، وأهم موضوع، وهو موضوع العقيدة، موضوع التوحيد وضده.
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) سورة النحل الآية 64(40/9)
فالتوحيد هو الأمر الذي بعث الله من أجله الرسل، وأنزل من أجله الكتب، وخلق من أجله الثقلين، وبقية الأحكام تابعة لذلك. يقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) .
المعنى أن يخصوه سبحانه بالعبادة، ويفردوه -جل وعلا- بها، ولم يخلقوا عبثا ولا سدى، ولا ليأكلوا ويشربوا، ولا ليعمروا القصور ونحوها، ولا لشق الأنهار، وغرس الأشجار، ولا لغير هذا من مهمات الدنيا، ولكنهم خلقوا ليعبدوا ربهم، وليعظموه، وليتمسكوا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند حدوده، وليوجهوا العباد إليه، ويرشدوهم إلى حقه.
وخلق لهم ما خلق من النعم ليستعينوا بها على طاعته، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2) ، وقال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (3) . والله -جل وعلا- أنزل الأمطار، وأجرى الأنهار، ويسر للعباد من أنواع الرزق وأنواع النعم ما يعينهم على طاعته، وما يكون زادا لهم إلى نهاية آجالهم؛ إقامة للحجة، وقطعا للمعذرة، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4) ، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (5) .
وقال سبحانه: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (6) ، وقال -جلا وعلا-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (7) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 29
(3) سورة الجاثية الآية 13
(4) سورة النحل الآية 36
(5) سورة الأنبياء الآية 25
(6) سورة الزخرف الآية 45
(7) سورة الإسراء الآية 23(40/10)
وقال سبحانه في سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) ، إلى غير ذلك من الآيات الدالات على أنه سبحانه خلق الخلق ليعبدوه وحده، وأمرهم بذلك، وأرسل الرسل لهذا الأمر ليدعوا إليه، وليوضحوه للناس.
فوجب على أهل العلم خلفاء الرسل أن يبينوا للناس هذا الأمر العظيم، وأن يكون أعظم المطلوب، وأن تكون العناية به أعظم عناية؛ لأنه متى سلم صار ما بعده تابعا له، ومتى لم يوجد التوحيد لم ينفع المكلف ما حصل من أعمال وأقوال، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) ، وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (3) ، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) ، في آيات كثيرات.
ويؤيد هذا المعنى أنه -عليه الصلاة والسلام- مكث بمكة عشر سنين يدعو الناس إلى توحيد الله، قبل أن تفرض عليه الصلاة وغيرها، كلها دعوة إلى توحيد الله، وترك الشرك وخلع الأوثان، وبيان أن الواجب على جميع الثقلين أن يعبدوا الله وحده، ويدعوا ما عليه آباؤهم وأسلافهم من الشرك.
ولهذا سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان بن حرب في أيام الهدنة، وكان أبو سفيان في وفد من قريش في تجارة بفلسطين، وصادف مجيء هرقل إلى القدس، فقيل له عنهم، فأمر بإحضارهم لسؤالهم عما يعلمون عن هذا النبي
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة الفرقان الآية 23
(4) سورة الزمر الآية 65(40/11)
الذي بلغه خبره، وكان ذلك في وقت الهدنة، وعلى رأسهم أبو سفيان بن حرب، فسألهم عنه، وعن قوله: إنه نبي؟! «فأمر بأبي سفيان فأجلسه أمامه، وأجلسوا أصحابه خلفه، وقال لترجمانه: قل لهم إني سائله فإن كذب فليكذبوه. فسأل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أشياء كثيرة معروفة في البخاري وغيره، ومما سأل عنه أن سألهم عما يدعوهم إليه؟ ، فقالوا: يدعونا إلى أن نعبد الله وحده، وأن نترك ما عليه آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والصلة والعفاف، فقال لهم: إن كان كما قلتم ليملكن موضع قدمي هاتين (1) » . فكان الأمر كما قال، فملك الله المسلمين الشام، وأزاح عنها الروم، ونصر الله نبيه وأيد حزبه.
والمقصود أن هذا الأصل هو الأمر العظيم، ولما تساهل فيه الناس -إلا من رحم الله- وقعوا في الشرك الأكبر، وهم يدعون الإسلام وينكرون على من رماهم بخلافه، وهم على الشرك بسبب جهلهم بهذا الأصل العظيم، فقد اتخذوا كثيرا من الأموات آلهة من دون الله يعبدونهم، ويطوفون بقبورهم، ويستغيثون بهم، ويسألونهم شفاء المرضى، وقضاء الحاجات، والنصر على الأعداء، ويقولون هذا ليس بشرك وإنما هو تعظيم للصالحين، وتوسل بهم إلى الله، ويقولون أيضا بأن الإنسان لا يدعو الله مباشرة إنما يدعو الله بواسطة الأولياء، وهم كالوزراء بالنسبة إلى الرب، كما أن الوزراء بالنسبة للملوك هم الواسطة، فشبهوا الله بخلقه، وعبدوا خلقه من دونه. ونسأل الله العافية.
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (7) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1773) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2717) ، سنن أبو داود الأدب (5136) ، مسند أحمد بن حنبل (1/263) .(40/12)
فكل هذا من أسباب الجهل، وقلة البصيرة بهذا الأصل العظيم، فعباد البدوي، وعباد الشيخ عبد القادر، وعباد الحسين، وعباد غيرهم من الناس، أصابهم البلاء من هذا السبيل، جهلوا حقيقة التوحيد، وجهلوا دعوة الرسل، والتبست عليهم الأمور، فوقعوا في الشرك واستحسنوه، وجعلوه دينا وقربة، وأنكروا على من أنكر عليهم، وقل أن تجد في غالب الأمصار العالم البصير بهذا الأصل العظيم، بل تجد من يشار إليه بالأصابع، ويقال إنه العالم، وهو مع ذلك ممن يعظم القبور، التعظيم الذي لم يشرعه الله، ويدعو أهلها، ويستغيث بهم وينذر لهم ونحو ذلك. أما علماء الحق، علماء السنة، علماء التوحيد؛ فهم قليل في كل مكان.
فالواجب على الطلبة في هذه الجامعة، وعلى جميع الطلاب في جميع الجامعات الإسلامية أن يعتنوا بهذا الأصل، وأن يحكموه غاية الإحكام، حتى يكونوا دعاة للهدى، ومبشرين بالحق، وحتى يكونوا مبصرين للناس بحقيقة دينهم الذي بعث الله به نبيه محمدا -عليه الصلاة والسلام-، وبعث به الرسل جميعا.
وهذه الكلمة التي أقولها لكم الآن تتعلق بأنواع التوحيد وأنواع الشرك. والتوحيد مصدر وحد يوحد توحيدا، يعني وحد الله أي اعتقده واحدا لا شريك له في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته، ولا في ألوهيته وعبادته -سبحانه وتعالى-. فهو واحد -جل وعلا- وإن لم يوحده الناس، وإنما سمي إفراد الله بالعبادة توحيدا؛ لأن العبد باعتقاده ذلك قد وحد الله -عز وجل- واعتقده واحدا، فعامله على ضوء ذلك بإخلاص العبادة له سبحانه، ودعوته وحده، والإيمان بأنه مدبر الأمور وخالق الخلق، وأنه صاحب الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة وأنه يستحق العبادة دون كل ما سواه.(40/13)
وعند التفصيل تكون أنواع التوحيد ثلاثة:
توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. فتوحيد الربوبية أقر به المشركون ولم ينكروه، لكنهم لم يدخلوا به في الإسلام لأنهم لم يخصوا الله بالعبادة، ولم يقروا بتوحيد الإلهية، بل أقروا بأن ربهم هو الخالق الرازق، وأن الله هو ربهم، ولكنهم لم يوحدوه بالعبادة، فقاتلهم النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى يخلصوا العبادة لله وحده.
فتوحيد الربوبية معناه هو الإقرار بأفعال الرب، وتدبيره للعالم، وتصرفه فيه، هذا يسمى توحيد الربوبية، وهو الاعتراف بأنه الخلاق الرزاق مدبر الأمور ومصرفها، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعز ويذل، ويحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير.
وهذا في الجملة أقر به المشركون، كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (1) ، وقال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (2) ، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (3) .
فهم معترفون بهذه الأمور، لكنهم لم يستفيدوا من هذا الإقرار في توحيد الله بالعبادة، وإخلاصها له -سبحانه وتعالى-، بل اتخذوا معه وسائط، وزعموا أنها شفعاء وأنها تقربهم إلى الله زلفى كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (4)
__________
(1) سورة الزخرف الآية 87
(2) سورة الزمر الآية 38
(3) سورة يونس الآية 31
(4) سورة يونس الآية 18(40/14)
فقال سبحانه ردا عليهم: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (1) ، فهو سبحانه لا يعلم له شريكا لا في السماء ولا في الأرض، بل هو الواحد الأحد، سبحانه وتعالى الفرد الصمد، المستحق للعبادة جل وعلا، وقال سبحانه وتعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (2) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (3) ، ثم قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (4) ، والمعنى يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، يعني ما عبدناهم لأنهم يضرون وينفعون، أو لأنهم يخلقون ويرزقون، أو لأنهم يدبرون الأمور، ولكن عبدناهم ليقربونا إلى الله زلفى، كما قالوا في الآية السابقة من سورة يونس: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (5) .
وعرف بهذا أنهم لم يعتقدوا أن آلهتهم تنفع وتضر، وتحيي وتميت، وترزق وتعطي وتمنع؛ وإنما عبدوهم ليشفعوا لهم وليقربوهم إلى الله زلفى، فاللات والعزى ومناة والمسيح ومريم والصالحون من العباد، كل هؤلاء ما عبدهم المشركون الأولون لأنهم ينفعون ويضرون؛ بل عبدوهم لأنهم يرجون شفاعتهم، وأن يقربوهم إلى الله زلفى، فحكم الله عليهم بالشرك في قوله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (6) ، وقال في آية الزمر: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (7) فحكم عليهم بالكفر والكذب حين قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فبين أنهم كذبة في زعمهم أنهم
__________
(1) سورة يونس الآية 18
(2) سورة الزمر الآية 2
(3) سورة الزمر الآية 3
(4) سورة الزمر الآية 3
(5) سورة يونس الآية 18
(6) سورة يونس الآية 18
(7) سورة الزمر الآية 3(40/15)
يقربونهم إلى الله زلفى، كفرة بهذا العمل، وهو عبادتهم إياهم بالذبح والنذر والدعاء والاستغاثة ونحو ذلك.
وقد دعاهم -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين يقول لهم: يا قوم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، فأعرض عنه الأكثرون، ولم يهتد إلا الأقلون، ثم أجمع رأيهم على قتله، فأنجاه الله من شرهم ومن كيدهم، وهاجر إلى المدينة -عليه الصلاة والسلام-، فأقام بها شريعة الله ودعا فيها إلى الله، وتقبل الدعوة الأنصار -رضي الله عنهم-، وجاهدوا معه -عليه الصلاة والسلام-، وجاهد معه المهاجرون من قريش ومن غيرهم، حتى أظهر الله دينه، وأعلى كلمته، وأذل الكفر وأهله.
وهذا النوع الذي أقر به المشركون هو توحيد الربوبية، وهو توحيد الله بأفعاله من خلق ورزق وتدبير وإحياء وإماتة وغير ذلك من أفعاله سبحانه كما سبق.
وهو حجة عليهم في إنكارهم توحيد الله بالعبادة لأنه يستلزمه، ويدل عليه ويوجبه، فلهذا أقام الله الحجة عليهم بهذا الإقرار فقال: {فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (1) ، وفي الآيات الأخرى: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (2) ، {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3) .
ومن تدبر هذا الأمر الذي أقروا به، استفاد لو عقل أن هذا المتصف بهذه الصفات هو المستحق لأن يعبد، ما دام هو الخلاق وهو الرازق وهو المحيي وهو المميت وهو المعطي وهو المانع وهو المدبر للأمور، وهو العالم بكل شيء والقادر على كل شيء، فكيف تصرف العبادة لغيره، بل كيف يرجى غيره، ويخاف غيره، لو عقل أولئك الكفار، ولكنهم لا يعقلون:
__________
(1) سورة يونس الآية 31
(2) سورة يونس الآية 16
(3) سورة يونس الآية 3(40/16)
{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (1) ، وقال في المنافقين: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (2) ، وهكذا أشباههم كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (3) ، هؤلاء هم الغافلون حقا، وهم أشباه الأنعام بل هم أضل منها، كما وصفهم الله في آيات بينات، وحجج نيرات، وبراهين ساطعات، ومع ذلك لم يفهموها ولم يعقلوها، واستمروا على كفرهم وضلالهم، حتى حاربوه -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر، ويوم أحد، ويوم الخندق " يوم الأحزاب "، استمروا في كفرهم وضلالهم، ولم تنفع فيهم الآيات، ولم يستفيقوا من غفلتهم وإعراضهم، ولله الحكمة البالغة -سبحانه وتعالى- والحجة الدامغة.
ثم إنه سبحانه أظهر نبيه، وأعز دينه، وقهر الأعداء، فغزاهم -صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، ونصره الله عليهم، وفتح بلادهم، ودخلوا في دين الله أفواجا، وعند ذلك أظهر -عليه الصلاة والسلام- توحيد الإلهية، وقبله الناس، ودخلوا في الحق، ثم قامت ضده هوازن، وأهل الطائف؛ فأظهره الله عليهم، وشتت شملهم، واستولى -عليه الصلاة والسلام- على نسائهم وذرياتهم وأموالهم، وجعل الله العاقبة والنصر لنبيه -صلى الله عليه وسلم-، ولعباده المؤمنين فالحمد لله على ذلك.
والنوع الثاني: توحيد الأسماء والصفات، وهو أيضا من جنس توحيد الربوبية، قد أقروا به وعرفوه. وتوحيد الربوبية يستلزمه؛ لأن من كان هو
__________
(1) سورة المجادلة الآية 19
(2) سورة البقرة الآية 18
(3) سورة الأعراف الآية 179(40/17)
الخلاق الرزاق والمالك لكل شيء، فهو المستحق لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، لا شريك له، ولا شبيه له، ولا تدركه الأبصار، وهو السميع العليم، كما قال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ، وكما قال -عز وجل-: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (2) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (3) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (4) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5) ، وهم أي الكفار يعرفون ربهم بأسمائه وصفاته، وقد كابر بعضهم فأكذبهم الله بقوله سبحانه: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (6) .
النوع الثالث: هو توحيد الله بالعبادة، وهو معنى لا إله إلا الله، فإن معناه لا معبود حق إلا الله، فهي تنفي العبادة بجميع أنواعها عن غير الله، وتثبتها لله وحده -سبحانه وتعالى-.
وهذه الكلمة هي أصل الدين وأساسه كله، وهي الكلمة التي دعا إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- قومه، ودعا إليها عمه أبا طالب فلم يسلم ومات على دين قومه.
وقد أوضح الله معناها في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم منها قوله سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (7) ، وقوله -جل وعلا-: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (8) ، وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (9) .
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الإخلاص الآية 1
(3) سورة الإخلاص الآية 2
(4) سورة الإخلاص الآية 3
(5) سورة الإخلاص الآية 4
(6) سورة الرعد الآية 30
(7) سورة البقرة الآية 163
(8) سورة الإسراء الآية 23
(9) سورة الفاتحة الآية 5(40/18)
وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1) الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وكلها تفسر هذه الكلمة، وتوضح أن معناها: إبطال العبادة لغير الله، وإثبات العبادة بحق لله وحده -جل وعلا-، كما قال سبحانه في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (2) ، وقال في سورة لقمان: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (3) .
فالله -سبحانه وتعالى- هو الحق، وله دعوة الحق، وعبادته هي الحق دون كل ما سواه -سبحانه وتعالى-، فلا يستغاث إلا به، ولا ينذر إلا له، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يطلب الشفاء إلا منه، ولا يطاف إلا ببيته العتيق، إلى غير هذا من أنواع العبادة، وهو الحق، ودينه الحق -سبحانه وتعالى-، ومن أتقن هذه الأنواع الثلاثة: أعني أنواع التوحيد، وحفظها واستقام على معناها، علم أن الله هو الواحد حقا، وأنه هو المستحق للعبادة دون جميع خلقه، ومن ضيع واحدا منها أضاع الجميع، فهي متلازمة، لا إسلام إلا بها جميعا، ومن أنكر صفات الله وأسماءه فلا دين له، ومن زعم أن مع الله مصرفا للكون يدبر الأمور، فهو كافر مشرك في الربوبية بإجماع أهل العلم.
ومن أقر بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات، ولكن لم يعبد الله وحده، بل عبد معه سواه من المشايخ أو الأنبياء أو الملائكة أو الجن أو الكواكب أو الأصنام أو غير ذلك فقد أشرك بالله وكفر به سبحانه،
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة الحج الآية 62
(3) سورة لقمان الآية 30(40/19)
ولا تنفعه بقية الأقسام، لا توحيد الربوبية، ولا توحيد الأسماء والصفات، حتى يجمع بين الثلاثة، فيقر بأن الله ربه هو الخالق الرازق المالك لجميع الأمور، ويقر بما كفر به المشركون، وحتى يؤمن بأنه سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، لا شبيه له، ولا شريك له، كما قال -عز وجل-: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) ، وقال سبحانه: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (5) ، وقال -عز وجل-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (6) .
بقي الأمر الثالث: وهو توحيد العبادة، وهو معنى لا إله إلا الله، وهو الأساس العظيم لدعوة الرسل؛ لأن النوعين الآخرين لم ينكرهما المشركون كما تقدم، وإنما أنكروا هذا النوع وهو توحيد العبادة، لما قال لهم: قولوا لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (7) ، وقالوا أيضا: {أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (8) ، وقبلها قوله سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (9) {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} (10) ، فكذبهم الله بقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (11) .
وهذا النوع هو توحيد العبادة، وهو الذي أنكره المشركون الأولون، وينكره المشركون اليوم، ولا يؤمنون به، بل عبدوا مع الله سواه، فعبدوا الأشجار والأحجار وعبدوا الأصنام، وعبدوا الأولياء والصالحين،
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة النحل الآية 74
(6) سورة الشورى الآية 11
(7) سورة ص الآية 5
(8) سورة الصافات الآية 36
(9) سورة الصافات الآية 35
(10) سورة الصافات الآية 36
(11) سورة الصافات الآية 37(40/20)
واستغاثوا بهم، ونذروا لهم وذبحوا لهم، إلى غير هذا مما يفعله عباد القبور وعباد الأصنام والأحجار وأشباههم، وهم بذلك مشركون كفار، إذا ماتوا على ذلك لا يغفر لهم، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ، وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) ، وقال سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (3) .
فلا بد من تحقيق هذا النوع، وإفراد الله بالعبادة ونفي الإشراك به -سبحانه وتعالى-، والاستقامة على ذلك، والدعوة إليه، والموالاة فيه، والمعاداة عليه، وبسبب الجهل بهذا النوع وعدم البصيرة فيه، يقع الناس في الشرك، فيحسبون أنهم مهتدون، كما قال -عز وجل-: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (4) ، وقال في حق النصارى وأمثالهم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (5) {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} (6) ، فالكافر لجهله وانتكاس قلبه يحسب أنه محسن، وهو يعبد غير الله، ويدعو غير الله، ويستغيث بغير الله، ويتقرب بالذبائح والنذور لغيره -عز وجل-، وما ذلك إلا لجهله وقلة بصيرته، وقد أنزل الله فيهم -عز وجل- قوله سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (7) ، وقوله -عز وجل-: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} (8) ، فالواجب على أهل العلم وعلى طلاب العلم أن يعنوا بهذا النوع
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة المائدة الآية 72
(4) سورة الأعراف الآية 30
(5) سورة الكهف الآية 103
(6) سورة الكهف الآية 104
(7) سورة الفرقان الآية 44
(8) سورة الأعراف الآية 179(40/21)
أعظم عناية، لكثرة الجهل به، ووقوع أكثر الخلق في ضده.
أما النوعان الآخران: فهما بحمد الله من أوضح الأشياء وأبينها، لكن هذا النوع -أعني توحيد العبادة- يشتبه على أكثر الناس بسبب الشبه الكثيرة التي يروجها أعداء الله، ويلبسون بها على كثير من الناس، والأمر فيها بحمد الله واضح لمن نور الله بصيرته، وهي شبه باطلة لا وجه لها.
فالحق واضح أبلج، وهو وجوب إخلاص العبادة لله وحده، دون كل ما سواه، كما قال -عز وجل-: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) ، وقال -سبحانه وتعالى-: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (2) ، وقال سبحانه: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (3) ، ويقول -سبحانه وتعالى-: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (4) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (5) ، ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (6) في آيات كثيرات كلها دالة على وجوب إخلاص العبادة لله وحده، وأن صرف العبادة لغير الله شرك وكفر، وهكذا لو اعتقد أن شخصا أو جمادا يصلح أن يعبد كفر وإن لم يعبده، فلو اعتقد أن هذا الصنم أو هذا الشخص كجبرائيل، أو النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، أو الشيخ عبد القادر الجيلاني، أو البدوي، أو الحسين، أو علي بن أبي طالب، لو اعتقد أن واحدا منهم أو غيرهم يصلح
__________
(1) سورة غافر الآية 14
(2) سورة الجن الآية 18
(3) سورة يونس الآية 106
(4) سورة فاطر الآية 13
(5) سورة فاطر الآية 14
(6) سورة المؤمنون الآية 117(40/22)
للعبادة، وأنه لا باس أن يدعى من دون الله، ولا بأس أن يستغاث به صار كافرا، وإن لم يفعل شيئا.
وهكذا لو اعتقد أنهم يعلمون الغيب، أو يتصرفون في الكون، كان كافرا بهذا الاعتقاد عند جميع أهل العلم، فكيف إذا دعاهم من دون الله، أو استغاث بهم أو نذر لهم؛ فإنه يكون بذلك مشركا شركا أكبر.
وهكذا إذا سجد لهم، أو صلى لهم، أو صام لهم؛ صار بذلك مشركا شركا أكبر، نسأل الله السلامة من ذلك.
وضد التوحيد الشرك، وهو أنواع ثلاثة، والحقيقة أنه نوعان: شرك أكبر، وشرك أصغر.
فالشرك الأكبر: هو ما يتضمن صرف العبادة لغير الله أو بعضها، أو يتضمن جحد شيء مما أوجب الله من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة، كالصلاة، وصوم رمضان. أو يتضمن جحد شيء مما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كالزنا، والخمر، ونحوها. أو يتضمن طاعة المخلوق في معصية الخالق على وجه الاستحلال لذلك، وأنه يجوز أن يطاع فلان أو فلانة فيما يخالف دين الله -عز وجل-، من رئيس أو وزير أو عالم أو غيرهم، فكل ما يتضمن صرف بعض العبادة لغير الله كدعاء الأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم، أو يتضمن استحلال ما حرم الله، أو إسقاط ما أوجب الله، كاعتقاد أن الصلاة لا تجب، أو الصوم لا يجب، أو الحج مع الاستطاعة لا يجب، أو الزكاة لا تجب، أو اعتقد أن مثل هذا غير مشروع مطلقا، كان هذا كفرا أكبر، وشركا أكبر، لأنه يتضمن تكذيب الله ورسوله.
وهكذا لو اعتقد حل ما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كاستحلال الزنا والخمر، وعقوق الوالدين، أو استحل قطع الطريق، أو(40/23)
اللواط، أو أكل الربا، وما أشبه ذلك من الأمور المعروف تحريمها بالنص والإجماع؛ إذا اعتقد حلها كفر إجماعا، نسأل الله العافية، وصار حكمه حكم المشركين شركا أكبر.
وهكذا من استهزأ بالدين وسخر به، حكمه حكمهم، وكفره كفر أكبر، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) ، وهكذا لو استهان بشيء مما عظمه الله احتقارا له، وازدراء له، كأن يستهين بالمصحف، أو يبول عليه، أو يطأ عليه، أو يقعد عليه، أو ما أشبه ذلك استهانة به، كفر إجماعا؛ لأنه بذلك يكون منتقصا لله محتقرا له، لأن القرآن كرمه -سبحانه وتعالى-، فمن استهان به فقد استهان بالله -عز وجل-، وهذه الأمور قد أوضحها العلماء في باب حكم المرتد، ففي كل مذهب من المذاهب الأربعة ذكروا بابا سموه: باب حكم المرتد، أوضحوا فيه جميع أنواع الكفر والضلال، وهو باب جدير بالعناية، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه أنواع الردة، والتبس الأمر في ذلك على كثير من الناس، فمن عني به حق العناية عرف نواقض الإسلام، وأسباب الردة، وأنواع الكفر والضلال.
والنوع الثاني: الشرك الأصغر، وهو ما ثبت بالنصوص تسميته شركا، لكنه لم يبلغ درجة الشرك الأكبر، فهذا يسمى شركا أصغر، مثل: الرياء والسمعة، كمن يقرأ يرائي، أو يصلي يرائي، أو يدعو إلى الله يرائي، ونحو ذلك، فقد ثبت في الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء، يقول الله -عز وجل- يوم القيامة للمرائين:»
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66(40/24)
اذهبوا إلى من كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن محمود بن لبيد الأشهلي الأنصاري -رضي الله عنه-، ورواه الطبراني أيضا والبيهقي وجماعة مرسلا عن محمود المذكور، وهو صحابي صغير لم يسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن مرسلات الصحابة صحيحة وحجة عند أهل العلم، وبعضهم حكاه إجماعا.
ومن ذلك قول العبد ما شاء الله وشاء فلان، أو لولا الله وفلان، أو هذا من الله ومن فلان.
هذا كله من الشرك الأصغر كما في الحديث الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح عن حذيفة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان (1) » .
ومن هذا ما رواه النسائي عن قتيلة أن اليهود قالوا لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: إنكم تشركون، تقولون ما شاء الله وشاء محمد، وتقولون والكعبة، فأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا ما شاء الله ثم شاء محمد. وفي رواية للنسائي أيضا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- «أن رجلا قال: يا رسول الله ما شاء الله وشئت، فقال: أجعلتني لله ندا ما شاء الله وحده (2) » . ومن ذلك ما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في تفسير قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) قال: هو الشرك في هذه الأمة، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلانا. هذا كله به شرك، رواه ابن أبي حاتم بإسناد حسن.
__________
(1) سنن أبو داود الأدب (4980) ، مسند أحمد بن حنبل (5/399) .
(2) سنن الترمذي كتاب الفتن (2158) ، سنن النسائي تحريم الدم (4019) ، سنن أبو داود الديات (4502) ، سنن ابن ماجه الحدود (2533) ، مسند أحمد بن حنبل (1/62) ، سنن الدارمي الحدود (2297) .
(3) سورة البقرة الآية 22(40/25)
فهذا وأشباهه من جنس الشرك الأصغر، وهكذا الحلف بغير الله، كالحلف بالكعبة، والأنبياء، والأمانة، وحياة فلان، وبشرف فلان، ونحو ذلك، فهذا من الشرك الأصغر لما ثبت في المسند بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من حلف بشيء دون الله فقد أشرك (1) » . وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي -رحمهم الله- بإسناد صحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (2) » .
وهذا يحتمل أن يكون شكا من الراوي، ويحتمل أن أو بمعنى الواو، والمعنى فقد كفر وأشرك.
ومن هذا ما رواه الشيخان عن عمر -رضي الله تعالى عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (3) » . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وهذه أنواع من الشرك الأصغر، وقد يكون أكبر على حسب ما يكون في قلب صاحبه، فإذا كان في قلب الحالف بالنبي أو البدوي أو الشيخ فلان أنه مثل الله، أو أنه يدعى مع الله، أو أنه يتصرف في الكون مع الله أو نحو ذلك، صار شركا أكبر بهذه العقيدة، أما إذا كان الحالف بغير الله لم يقصد هذا القصد، وإنما جرى على لسانه من غير هذا القصد لكونه اعتاد ذلك، كان ذلك شركا أصغر.
وهناك شرك يقال له: الشرك الخفي، ذكر بعض أهل العلم أنه قسم ثالث، واحتج عليه بقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي سعيد الخدري، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا أنبئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ ، قالوا بلى يا رسول الله! ، قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه (4) » خرجه الإمام أحمد.
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الفتن (2158) ، سنن النسائي تحريم الدم (4019) ، سنن أبو داود الديات (4502) ، سنن ابن ماجه الحدود (2533) ، مسند أحمد بن حنبل (1/62) ، سنن الدارمي الحدود (2297) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/125) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(4) صحيح البخاري الحدود (6789) ، صحيح مسلم الحدود (1684) ، سنن الترمذي الحدود (1445) ، سنن النسائي قطع السارق (4925) ، سنن أبو داود الحدود (4384) ، سنن ابن ماجه الحدود (2585) ، مسند أحمد بن حنبل (6/104) ، موطأ مالك الحدود (1576) ، سنن الدارمي الحدود (2300) .(40/26)
والصواب: أن هذا ليس قسما ثالثا، بل هو من الشرك الأصغر، وهو قد يكون خفيا لأنه يقوم بالقلوب، كما في هذا الحديث، وكالذي يقرأ يرائي، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يرائي، أو يجاهد يرائي، أو نحو ذلك.
وقد يكون خفيا من جهة الحكم الشرعي بالنسبة إلى بعض الناس كالأنواع التي في حديث ابن عباس السابق.
وقد يكون خفيا وهو من الشرك الأكبر كاعتقاد المنافقين، فإنهم يراءون بأعمالهم الظاهرة وكفرهم خفي لم يظهروه، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلًا} (1) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (2) الآية، والآيات في كفرهم وريائهم كثيرة، نسأل الله العافية.
وبما ذكرنا يعلم أن الشرك الخفي لا يخرج عن النوعين السابقين: شرك أكبر، وشرك أصغر وإن سمي خفيا. فالشرك يكون خفيا، ويكون جليا. فالجلي: دعاء الأموات، والاستغاثة بالأموات والنذر لهم، ونحو ذلك. والخفي: ما يكون في قلوب المنافقين يصلون مع الناس، ويصومون مع الناس، وهم في الباطن كفار يعتقدون جواز عبادة الأوثان والأصنام، وهم على دين المشركين. فهذا هو الشرك الخفي الأكبر، لأنه في القلوب.
وهكذا الشرك الخفي الأصغر، كالذي يقصد بقراءته ثناء الناس، أو بصلاته، أو بصدقته، أو ما أشبه ذلك. فهذا شرك خفي، لكنه شرك أصغر.
فاتضح بهذا أن الشرك شركان: أكبر وأصغر، وكل منهما يكون خفيا كشرك المنافقين وهو أكبر، ويكون خفيا أصغر كالذي يقوم يرائي في
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) سورة النساء الآية 143(40/27)
صلاته أو صدقته أو دعائه لله، أو دعوته إلى الله، أو أمره بالمعروف أو نهيه عن المنكر، أو نحو ذلك.
فالواجب على كل مؤمن أن يحذر ذلك، وأن يبتعد عن هذه الأنواع، ولا سيما الشرك الأكبر، فإنه أعظم ذنب عصي الله به، وأعظم جريمة وقع فيها الخلق، وهو الذي قال الله -سبحانه وتعالى- فيه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) ، وقال فيه سبحانه وبحمده: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (2) ، وقال فيه سبحانه أيضا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) .
فمن مات عليه فهو من أهل النار جزما، والجنة عليه حرام، وهو مخلد في النار أبد الآباد، نعوذ بالله من ذلك.
أما الشرك الأصغر فهو أكبر من الكبائر، وصاحبه على خطر عظيم، لكن قد يمحى عن صاحبه برجحان الحسنات، وقد يعاقب عليه ببعض العقوبات، لكن لا يخلد في النار خلود الكفار، فليس هو مما يوجب الخلود في النار، وليس مما يحبط الأعمال، ولكن يحبط العمل الذي قارنه. فالشرك الأصغر يحبط العمل المقارن له، كمن يصلي يرائي فلا أجر له، بل عليه إثم. وهكذا من قرأ يرائي فلا أجر له بل عليه إثم، بخلاف الشرك الأكبر والكفر الأكبر فإنهما يحبطان جميع الأعمال، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة النساء الآية 116
(4) سورة الأنعام الآية 88(40/28)
فالواجب على الرجال والنساء، وعلى العالم والمتعلم، وعلى كل مسلم، أن يعنى بهذا الأمر ويتبصر فيه، حتى يعلم حقيقة التوحيد بأنواعه، وحتى يعلم حقيقة الشرك بنوعيه: الأكبر والأصغر، وحتى يبادر بالتوبة الصادقة مما قد يقع منه من الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، وحتى يلزم التوحيد، ويستقيم عليه، وحتى يستمر في طاعة الله، وأداء حقه، فإن التوحيد له حقوق، وهي أداء الفرائض، وترك المناهي، فلا بد مع التوحيد من أداء الفرائض، وترك المناهي، ولا بد أيضا من ترك الإشراك كله: صغيره وكبيره.
فالشرك الأكبر ينافي التوحيد، وينافي الإسلام كليا، والشرك الأصغر ينافي كماله الواجب، فلا بد من ترك هذا وهذا.
فعلينا جميعا أن نعنى بهذا الأمر، ونتفقه فيه، ونبلغه للناس بكل عناية وبكل إيضاح، حتى يكون المسلم على بينة من هذه الأمور العظيمة.
والله المسئول -عز وجل- أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يمنحنا والمسلمين جميعا الفقه في دينه، والثبات عليه، وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، إنه سميع قريب، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(40/29)
صفحة فارغة(40/30)
التحويلات المصرفية
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده. . وبعد: سبق بحث ما يتعلق بعمليات الودائع والحسابات المختلفة وإيجار الخزائن الحديدية وعمليات الائتمان - الإقراض، الاعتماد البسيط، الاعتماد المستندي، الضمان بأنواعه - وبقي البحث فيما يتعلق بعمليات " التحويلات المصرفية والبريدية، وعمليات تظهير الأوراق التجارية وخصمها وتحصيلها "، وقبل الدخول في البحث يحسن بنا التمهيد لذلك بتعداد أهم الأوراق التجارية، وتعريف كل ورقة بذكر خصائصها وما يميزها عن غيرها. والله ولي التوفيق.
الأوراق التجارية:
نظرا للتوسع العالمي في نطاق التجارة الدولية، وحيث إن النقود القائمة أيا كان نوعها وكيفها وكمها - عاجزة عن مسايرة التطور التجاري والحركات السريعة الضخمة في نطاق الصفق في الأسواق العالمية، فقد وجد رجال المال والأعمال أنفسهم في حاجة ملحة إلى ما يساير هذا التطور في نطاق التبادل المالي، وذلك بإيجاد عملات مساعدة تكون عونا للتاجر في استيفاء حقوقه وسداد ما عليه من التزامات، ولو لم يتم له تسويق بضاعته التي باعها أو اشتراها، كما أنها تعفيه من الاحتفاظ بمبالغ نقدية يقابل بها حركاته التجارية الخالية من التوقيتات المعينة، حيث يتضرر بتجميدها، فكانت هذه المبررات مصدر ابتكار ما يسمى بالأوراق التجارية.(40/31)
فالأوراق التجارية أوراق مالية لها صفة القبول والتداول في عالم التجارة، وفي ذلك يقول الدكتور علي سليمان العيدي بعد أن استعرض المعنى العام للورقة التجارية ما نصه:
نخلص من ذلك أنه من أجل اعتبار السند ورقة تجارية لا بد أن يتجه الحق المالي فيه بذاته، وأن يكون هذا الحق منصبا على مبلغ من النقود، وأن يكون السند قابلا للتداول بسهولة، وأن يجري استعماله كأداة للوفاء بدل النقود، وأن يستحق الأداء بعد أجل قصير أو عند الاطلاع أي ألا يكون طويل الأجل. وعلى ضوء ما قدمناه يمكننا تعريف الورقة التجارية بأنها: سند محرر وفقا للشكل الذي رسمه القانون، يمثل بذاته التزاما بأداء مبلغ من النقود قابل للتداول عن طريق التظهير أو التسليم، ويستحق الأداء بعد أجل قصير أو عند الاطلاع، ويستعمل كأداة للوفاء بدل النقود. ا. هـ (1) .
ونظرا إلى أن الأوراق التجارية تتفق مع الأوراق النقدية في تسهيل التعامل التجاري من حيث التداول والقبول بل إن بعضهم كان يطلق عليها على سبيل التجوز صفة النقد - نظرا لذلك فإنه يتعين عقد مقارنة بين الورقة التجارية والورقة النقدية حتى تتضح حقيقة كل منهما فلا يلتبس الأمر بينهما، وبالتالي يتجلى الأمر في صحة نسبة الأحكام الخاصة بالورقة النقدية إلى الورقة التجارية وعدم صحتها.
لئن قيل بوجود شبه بين الورقتين فإن بينهما تفاوتا واختلافا جوهريا يتضح فيما يلي:
1 - لا يجوز رفض الورقة النقدية في تسوية الديون لما لها من قوة إبراء مطلق، بينما يجوز للدائن رفض تسوية ديون بأوراق تجارية حيث إنها لا تعتبر في الجملة إلزامية.
__________
(1) الأوراق التجارية في القانون العراقي صـ 11، 12.(40/32)
2 - ليس للأوراق النقدية مجال في خصم شيء منها عند القيام بتسوية الديون بها لكونها نقودا حقيقية تحمل الإبراء العام المطلق، في حين أنه يجوز اشتراط خصم شيء من الورقة التجارية إذا كانت كمبيالة لتعجيل وفاء قيمتها في عرف التعامل المصرفي.
3 - الأوراق التجارية محدود زمن التعامل بها بمدة معينة فيها، في حين أنه لا حد للتعامل بالأوراق النقدية ما لم تر جهة الإصدار إبدال غيرها بها.
4 - تصدر الأوراق النقدية من قبل جهة معينة يغلب عليها أن تكون حكومية أو للحكومة حق الإشراف عليها، في حين أن الأوراق التجارية تصدر من جهات مختلفة ومن أفراد إلا أنه يشترط لمصدرها أن يكون ذا أهلية تجارية.
5 - تصدر الأوراق النقدية بصورة سلسلة لها وحدات مختلفة المبالغ مثل فئات الريال والخمسة والعشرة والخمسين والمائة، في حين أنه لا يوجد مثل ذلك في الأوراق التجارية، حيث تصدر بمبالغ مختلفة لا مجال لتوحيدها في فئات محددة ولا مجال لحصرها.
6 - الورقة النقدية نقد قائم بذاته تضيع قيمته بضياعها مهما كان لدى حاملها من طرق الإثبات، في حين أن الورقة التجارية سند بدين تبقى قيمته في حال ضياعه إذا أثبت محتواه مالكه.
والأوراق التجارية ليست محصورة في أوراق معينة؛ لأن الفكر التجاري مرن مرونة الحركة التجارية العالمية، فهو مصنع يعطي للتجارة ما تحتاجه من أسباب القدرة على الحركة برا وبحرا وجوا وأثيرا، إلا أن المراقبين من خبراء المال والاقتصاد يكادون يجمعون على أنه حتى الآن لم يخرج الفكر التجاري(40/33)
من الأوراق التجارية أهم من أوراق الكمبيالة والشيك والسند الإذني بدليل أن علماء الاقتصاد ورجال التنظيمات المالية والتجارية يكادون يقتصرون في بحوثهم عن الأوراق التجارية على هذه الأنواع الثلاثة. وفيما يلي دراسة موجزة لها.(40/34)
الكمبيالة:.
الكمبيالة أمر مكتوب وفقا لأوضاع معينة حددتها التنظيمات التجارية يتوجه بها شخص يسمى الساحب إلى شخص آخر يسمى المسحوب عليه طالبا منه دفع مبلغ معين من النقود في تاريخ معين أو قابل للتعيين لإذن شخص ثالث يسمى المستفيد أو لحامله.
وصورتها:
الرياض في - تاريخ تحرير الكمبيالة - المبلغ بالأرقام. . . . . . . . . . ريالا سعوديا إلى السيد فلان بن فلان في يوم كذا من شهر كذا سنة كذا ادفعوا بمقتضى هذه الكمبيالة لأمر السيد فلان المبلغ المرقوم أعلاه وقدره. . . . . . . . . . . . . . والقيمة وصلتنا بضاعة.
توقيع الساحب.(40/34)
ومن ذلك يتضح أن للكمبيالة أركانا ثلاثة، ساحبا ومسحوبا عليه ومستفيدا، وقد تكون هذه الأطراف الثلاثة أشخاصا طبيعية، وقد تكون أشخاصا اعتبارية. ثم إن هناك ما يسمى بالكمبيالة المالية، وهذا النوع من الكمبيالات يسمح بالاقتصار فيها على ركنين هما: الساحب والمسحوب عليه، ويكون الساحب في هذا النوع هو المستفيد، وإلى هذا يشير الدكتور علي البارودي فيقول:
وقد ينشئ البنك بنفسه الكمبيالة في معاملاته مع عملائه ويسمونها الكمبيالة المالية تمييزا لها عن الكمبيالة العادية التي ينشئها التجار، فإذا أقرض البنك عميله مبلغا من النقود فإنه يسحب على هذا العميل كمبيالة فيقبلها العميل. -إلى أن قال- فإذا شاء البنك أن يستوفي دينه قبل ميعاد الاستحقاق فإنه يستطيع أن يخصم هذه الكمبيالة بنك آخر أو في البنك المركزي، أهـ (1) . ويجب أن تشتمل الكمبيالة على بيانات معينة حددتها التنظيمات في كل دولة، ومن ذلك ما جاء في نظام الأوراق التجارية السعودي الصادر به المرسوم الملكي رقم 37 وتاريخ 11 \ 10 \ 1383هـ فقد جاءت المادة (1) بالنص التالي:
المادة (1) - تشتمل الكمبيالة على البيانات الآتية:
(أ) كلمة كمبيالة مكتوبة في متن الصك وباللغة التي كتبت بها.
(ب) أمر غير معلق على شرط بوفاء مبلغ معين من النقود.
(ج) اسم من يلزمه الوفاء المسحوب عليه.
(د) ميعاد الاستحقاق.
(هـ) مكان الوفاء.
(و) اسم من يجب الوفاء له أو لأمره.
__________
(1) العقود وعمليات البنوك التجارية صـ 396.(40/35)
(ز) تاريخ ومكان إنشاء الكمبيالة.
(ح) توقيع من أنشأ الكمبيالة - الساحب -.
وذكرت المادة الثانية أن الورقة لا تعتبر كمبيالة حتى تستوفي البيانات المذكورة في المادة الأولى واستثنت من ذلك ما يلي:
(أ) إذا خلت الكمبيالة من بيان ميعاد الاستحقاق اعتبرت مستحقة الوفاء لدى الاطلاع عليها.
(ب) إذا خلت من بيان مكان الوفاء أو من بيان موطن المسحوب عليه اعتبر المكان المبين بجانب اسم المسحوب عليه مكان وفائها وموطنا للمسحوب عليه.
(ج) إذا خلت من بيان مكان إنشائها اعتبرت منشأة في المكان المبين بجانب اسم الساحب. ا. هـ.
والغالب أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب بما يقابل قيمة الكمبيالة -مقابل الوفاء- وأن يكون الساحب مدينا للمستفيد بمثل ذلك، ويذكر الأستاذان أمين بدر وعلي حسن يونس أن ذلك لا يلزم.
ومع ذلك فقد نص نظام الأوراق التجارية السعودي على ضرورة أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب بما يكفي للوفاء فقد جاءت المادتان التاسعة والعشرون والثلاثون بالنص التالي:
المادة (29) - على ساحب الكمبيالة أو من سحب الكمبيالة له لحسابه أن يوجد لدى المسحوب عليه مقابل وفائها ولكن ذلك لا يعفي الساحب لحساب غيره من مسؤليته شخصيا قبل مظهريها وحامليها.(40/36)
المادة (30) - يعتبر مقابل الوفاء موجودا إذا كان المسحوب عليه مدينا للساحب أو للأمر بالسحب في ميعاد استحقاق الكمبيالة بمبلغ معين من النقود واجب الأداء ومساوي على الأقل لمبلغ الكمبيالة. ا. هـ.
وساحب الكمبيالة بتوقيعه عليها ملتزما بدفع قيمتها لحاملها عند حلول أجل دفعها كما أن كل من وقع عليها بالقبول يعتبر متضامنا مع ساحبها في الالتزام بدفعها إذا امتنع من ذلك المسحوب عليه، ولا ينعقد التزام المسحوب عليه بدفعها إلا بتوقيعه عليها بالقبول وتسليمها لحاملها ولا يلزم المسحوب عليه أن يوقع عليها بالقبول بل يعتبر ذلك منه على سبيل الاختيار حتى لو كان مدينا للساحب.
ومتى تم قبول المسحوب عليه الكمبيالة أصبحت أداة قابلة للتداول يستطيع المستفيد أن يصرف قيمتها حالا من المسحوب عليه أو من أي بنك بعد خصم العمولة وسعر الفائدة عن مدة الاستحقاق. ولتصوير وجه اعتبارها شبه عملة قابلة للتداول يقول الدكتور محمد عبد الله العربي ما نصه:
متى تم قبول المسحوب عليه للكمبيالة، أي أشر عليها بما يفيد قبوله للوفاء بها في ميعاد الاستحقاق أصبحت الكمبيالة أداة قابلة للتداول، فيستطيع المستفيد أن يصرف قيمتها فورا من البنك المسحوب عليه أو من أي بنك آخر بعد خصم العمولة والفائدة عن مدة الاستحقاق. المهم أن الكمبيالة المقبولة تصبح عملة قابلة للتداول، فهي تثبت مبلغا من عملة إحدى الدول قابلا للوفاء في تاريخ معين فلكل ذي مصلحة في سداد دين تجاري بعملة هذه الدولة أن يشتريها ويسدد بها دينه. ا. هـ (1) .
والقول بأن الكمبيالة عملة قابلة للتداول ليس على إطلاقه فليس
__________
(1) المعاملات المصرفية المعاصرة ورأي الإسلام فيها صـ 29.(40/37)
للكمبيالة كل صفات النقد فهي ليست مبرئة إبراء تاما، وليست قيمتها في ذاتها بحيث لو فقدت ضاعت قيمتها، وإنما هي سند بدين متى ضاع ذلك السند صار لصاحبه حق إثباته بأي طريق من طرق الإثبات المعتبرة، وإلى هذا تشير المادة السادسة عشرة من نظام الأوراق التجارية السعودي بما نصه:
وإذا فقد شخص حيازة كمبيالة نتيجة حادثة ما فلا يلزم حاملها بالتخلي عنها متى أثبت حقه فيها وفقا للأحكام السابقة إلا إذا كان حصل عليها بسوء نية أو ارتكب في سبيل الحصول عليها خطأ جسيما. ا. هـ.(40/38)
خصائص الكمبيالة:
مما تقدم نستطيع استظهار الخصائص التالية:
(أ) الكمبيالة ورقة تجارية تشبه النقد من حيث صلاحها للتداول والقبول.
(ب) الغالب على الكمبيالة أن تشتمل على أطراف ثلاثة ساحب ومسحوب عليه ومستفيد إلا أنه يجوز اقتصارها على طرفين هما ساحب وهو المستفيد ومسحوب عليه كما هو الشأن في الكمبيالة المالية.
(ج) لا يشترط لصحة الكمبيالة أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب، وإنما يشترط لاعتبارها قبول المسحوب عليه وتوقيعه عليها بذلك.
(د) لا يلزم المسحوب عليه قبول الكمبيالة إلا أنه متى قبلها ووقع عليها بذلك وسلمها لحاملها لزمه سدادها في وقتها المحدد له.
(هـ) لا تعتبر الكمبيالة مبرئة إبراء تاما لذمة صاحبها وإنما تبقى مسئوليته حتى يتم سدادها.
(و) يعتبر الموقعون عليها بالقبول مسئولين عن سداد قيمتها مسئولية تضامنية.
(ز) لا تعتبر الكمبيالة ورقة تسقط قيمتها بفقدها، وإنما هي سند بدين يثبت بإحدى طرق الإثبات المعتبرة.(40/38)
(حـ) يشترط كثير من الأنظمة التجارية النص في سند الكمبيالة على وصول القيمة.(40/39)
الوصف الشرعي للكمبيالة:
ذهبت الموسوعة الفقهية الكويتية إلى القول بأن الكمبيالة يعتبرها الفقه الإسلامي حوالة إذا كانت مسحوبة على مدين بقيمتها، أما إذا لم يكن المسحوب عليه مدينا للساحب بقيمتها فجمهور أهل العلم يعتبرونها وكالة؛ لأن من شروط الحوالة أن يكون المحال عليه مدينا بما يقابلها. أما الحنفية فحيث إنهم لا يشترطون مديونية المحال عليه للمحيل فإنهم يعتبرون الكمبيالة حوالة مطلقا إلا أنهم يشترطون لنفاذها قبول المسحوب عليه (1) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية ـ الحوالة ـ صـ 236.(40/39)
الشيك:
الشيك هو أمر مكتوب وفقا لأوضاع معينة حددتها الأنظمة يطلب به شخص يسمى الساحب من شخص آخر يسمى المسحوب عليه أن يدفع بمقتضاه أو بمجرد الاطلاع عليه مبلغا معينا من النقود للساحب أو لشخص معين أو لإذن شخص معين أو لحامله.
وصورته.
يذكر في هامش الشيك رقم الحساب الجاري واسم صاحبه.
المبلغ بالرقم هـ ريال الرياض في \ \ 13 هـ
مؤسسة النقد العربي السعودي
ادفعوا بموجب هذا الشيك لأمر السيد \. . . . . . . . . . . . . . . . . . أو لحامله مبلغ ((يكتب بالحروف))
نمرة. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إمضاء الساحب (1) .
__________
(1) الالتزام العرفي في قوانين البلاد العربية للدكتور أمين بدر صـ 39.(40/39)
ويجب أن يشتمل الشيك على بيانات معينة حددتها كل دولة في أنظمتها، وقد جاء النص عليها في نظام الأوراق التجارية السعودي بما يأتي:
المادة (91) يشتمل الشيك على البيانات الآتية:
(أ) كلمة شيك مكتوبة في متن الصك باللغة التي كتب بها.
(ب) أمر غير معلق على شرط بوفاء مبلغ معين من النقود.
(ج) اسم من يلزمه الوفاء ((المسحوب عليه)) .
(د) مكان الوفاء.
(هـ) تاريخ ومكان إنشاء الشيك.
(و) توقيع من أنشأ الشيك -الساحب-.
وقد نصت المادة الثانية والتسعون على سلب الصفة الشيكية من الشيك إذا خلا من البيانات المذكورة في المادة السابقة إلا في حالتين هما:
(أ) إذا خلا الشيك من بيان مكان وفائه اعتبر مستحق الوفاء في المكان المبين بجانب اسم المسحوب عليه فإذا تعددت الأماكن المبينة بجانب اسم المسحوب عليه اعتبر الشيك مستحق الوفاء في أول مكان منها. وإذا خلا الشيك من هذه البيانات أو من أي بيان آخر اعتبر مستحق الوفاء في المكان الذي يقع فيه المحل الرئيسي للمسحوب عليه.
(ب) إذا خلا الشيك من بيان مكان الإنشاء اعتبر منشأ في المكان المبين بجانب اسم الساحب. ا. هـ.(40/40)
خصائص الشيك:
مما تقدم نستطيع استظهار الخصائص التالية للشيك.
(أ) الشيك ورقة تجارية تشبه النقد من حيث صلاحه للتداول والقبول.
(ب) الغالب على الشيك أن يشتمل على أطراف ثلاثة هي الساحب(40/40)
والمسحوب عليه والمستفيد. ويجوز اقتصاره على طرفين هما الساحب وهو المستفيد والمسحوب عليه، وإلى هذا تشير المادة السادسة والتسعون من نظام الأوراق التجارية السعودي حيث تقول:
يجوز سحب الشيك لأمر الساحب نفسه، ويجوز سحبه لحساب شخص آخر، ولا يجوز سحبه على الساحب نفسه ما لم يكن مسحوبا بين فروع بنك يسيطر عليه مركز رئيسي واحد ويشترط ألا يكون الشيك مستحق الوفاء لحامله.
(ج) يشترط لسحب الشيك أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب بما لا يقل عن قيمته، ومع ذلك فيعتبر الشيك صحيحا ولو لم يكن المسحوب عليه مدينا للساحب إلا أنه يعتبر من ضمان الساحب نفسه فضلا عما في سحبه على غير مدين به من الإجرام الموجب للعقوبة. ا. هـ.
(د) إذا كان المسحوب عليه غير مدين بمثل قيمته فلا يلزمه اعتماده.
(هـ) لا يعتبر الشيك مبرئا صاحبه إبراء تاما من قيمته حتى يتم سداده.
(و) لحامل الشيك الرجوع على الملتزمين مجتمعين أو منفردين إذا قدم في ميعاده النظامي ولم تدفع قيمته.
(ز) لا يعتبر الشيك ورقة نقدية تضيع قيمتها بفقدها وإنما هو سند بدين يثبت بإحدى طرق الإثبات المعتبرة في حال ضياعه.
(ح) لا يشترط لصحة الشيك النص على وصول قيمته للساحب كما هو الشأن في الكمبيالة.
(ط) لا يعتبر لصحة الشيك ووجوب دفعه لدى الاطلاع رضا المسحوب عليه إلا إذا كان غير مدين للساحب بمثل قيمته.(40/41)
(ى) لا يعتبر لصحة الشيك انتفاء رصيده أو نقصانه لدى المسحوب عليه.(40/42)
الفرق بين الشيك والكمبيالة:
لا شك أن الشيك يشبه الكمبيالة في كثير من خصائصها كما أنه يختلف عنها في بعض خصائصه، وفيما تقدم لنا يتضح أن الشيك يشبه الكمبيالة فيما يلي:
(أ) افتراض وجود ثلاثة أطراف هي الساحب والمسحوب عليه والمستفيد في الغالب.
(ب) وجود علاقتين حقوقيتين إحداهما بين الساحب والمسحوب عليه وهي الرصيد الدائن وهو ما يسمى بمقابل الوفاء. الثانية بين الساحب والمستفيد وهي وصول قيمة الكمبيالة أو الشيك.
(ج) قدرتهما على القيام بتسوية ما يرتبانه من علاقات قانونية بين المتعاملين بهما بعملية وفاء واحدة.
ويختلف الشيك عن الكمبيالة فيما يلي:
(أ) أن الشيك يسحب عادة على مصرف ويندر أن يسحب على فرد عادي أو مؤسسة غير مصرفية في حين أن الكمبيالة تسحب على أي جهة أو فرد أهل للالتزام بها.
(ب) أن الشيك واجب الدفع دائما لدى الاطلاع عليه ولا يجوز تأجيل دفعه بينما يغلب على الكمبيالة ألا تكون مستحقة الوفاء عند الاطلاع وإنما يجب وفاؤها بعد وقت يجري تعيينه فيها.(40/42)
(ج) يشترط لسحب الشيك أن يكون المسحوب عليه مدينا للساحب بما لا يقل عن قيمته فإن سحب شيك على غير مدين به اعتبر ذلك جريمة توجب العقوبة وتبقى للشيك قيمته المالية في ذمة ساحبه. وعليه فإنه لا يجوز للمسحوب عليه أن يؤشر على الشيك بالقبول لأنه طالما كان مستكملا لشروط اعتباره كان واجب الدفع على المسحوب عليه رضي ذلك أم سخط وإلى هذا تشير المادة (100) من نظام الأوراق التجارية السعودي حيث تقول:
لا يجوز للمسحوب عليه أن يوقع على شيك بالقبول وكل قبول مكتوب عليه يعتبر كأن لم يكن، ومع ذلك يجوز للمسحوب عليه أن يؤشر على الشيك باعتماده، وتفيد هذه العبارة وجود مقابل وفاء في تاريخ التأشير ولا يجوز للمسحوب عليه رفض اعتماد الشيك إذا كان لديه مقابل وفاء يكفي لدفع قيمته ويعتبر توقيع المسحوب عليه على صدر الشيك بمثابة اعتماد. ا. هـ.
على أن كثيرا من علماء الاقتصاد يرون أن التفرقة بينهما عسيرة في حال ما إذا كان ساحب الكمبيالة دائنا للمسحوب عليه بقيمتها وكان النص فيها على الدفع حال الاطلاع، وفي ذلك يقول الدكتور أمين بدر بعد أن استعرض الفروق بينهما وناقشها مناقشة أذابت كثيرا منها وقربت بعضها لمقابله، قال ما نصه:
وبالاختصار فإن التمييز بين الشيك والكمبيالة قد يغدو في بعض الصور عسيرا. ا. هـ (1) .
وبمزيد من التأمل يمكن القول إن الكمبيالة قد تكون على حال من
__________
(1) الالتزام المصرفي في قوانين البلاد العربية صـ 42.(40/43)
الإجراء بحيث يصعب التمييز بينهما وبين الشيك كأن يكون سحبها على مدين بها وأن تكون واجبة الدفع وأن يكون سحبها على مصرف، وقد تختلف عن خصائص الشيك بالنسبة لنوع المسحوب عليه ووجود أجل معين لوجوب دفعها وانتفاء مديونية المسحوبة عليه بقيمتها وحينئذ يبدو الفرق بينهما واضحا جليا.
ونظرا إلى أن الشيك قد تعترضه بعض المخاطر من ضياع أو سرقة أو نحوهما؛ فقد ابتدع النظام المصرفي ما يسمى بالشيك المسطر وذلك بوضع خطين متوازيين على وجه إشارة إلى تعيين أن يكون الوفاء بهذا الشيك لأحد البنوك لا لفرد أو شخص آخر فيكون على المستفيد منه أن يظهره لأحد البنوك ليتولى تحصيله لحسابه.
ويكون الشيك المسطر عاما إذا لم يرد بين الخطين إشارة أو وردت عبارة صاحب مصرف أو ما يعادلها. ويكون خاصا إذا كتب بين الخطين اسم صاحب مصرف بالذات وفي ذلك تقول المادة (112) من نظام الأوراق التجارية السعودي ما نصه:
لا يجوز للمسحوب عليه أن يوفي شيكا مسطرا تسطيرا عاما إلا إلى أحد عملائه أو إلى بنك، ولا يجوز أن يوفي شيكا مسطرا تسطيرا خاصا إلا إلى البنك المكتوب اسمه فيما بين الخطين وإلى عميل هذا البنك إذا كان هذا الأخير هو المسحوب عليه ومع ذلك يجوز للبنك المكتوب اسمه بين الخطين أن يعهد إلى بنك آخر قبض قيمة الشيك. ا. هـ.
وهناك وسيلة أخرى لاتقاء مخاطر ضياع الشيك أو سرقته أو تزويره، وهي اشتراط قيد قيمته في الحساب الجاري بدلا من دفعها بالنقود ويعترض(40/44)
لهذه الطريقة وجود حساب جار لحامل الشيك لدى المسحوب عليه. وفي هذا تقول المادة (113) من نظام الأوراق التجارية السعودي ما نصه:
يجوز لساحب الشيك أو لحامله أن يشترط عدم وفائه نقدا بأن يضع عبارة للقيد في الحساب أو أية عبارة أخرى تفيد نفس المعنى. وفي هذه الحالة لا يكون للمسحوب عليه إلا تسوية قيمة الشيك بطريق قيود كتابية كالقيد في الحساب أو النقل المصرفي أو المقاصة، وتقوم هذه القيود مقام الوفاء ولا يعتد بشطب بيان ((للقيد في الحساب)) .
وهناك ما يسمى بالشيك السياحي ويذكر الأستاذ علي جمال الدين عوض أن أول نشأته كانت عام 1891م بسب رحلة قام بها رئيس شركة أمريكان اكسبريس للسياحة إلى أوروبا فصادفه فيها متاعب راجعة إلى كيفية حصوله على مال يقوم بشئون حياته في هذه الرحلة فابتكر نظام الشيكات السياحية حتى ذاع استعمالها فأصبحت البنوك تصدر شيكات سياحية قابلة للصرف لدى جميع البنوك الأخرى ويذكر الأستاذ علي جمال الدين عوض أن الصورة الغالبة للشيك هي أن يصدر الشيك بفئات نقدية معينة وعلى الصك مكان يوقع فيه العميل عند استلام الشيك ومكان آخر يوقع فيه عند قبض قيمته أمام البنك الذي يدفع هذه القيمة ليتحقق من تطابق التوقيعين ومن أن الذي يستوفى القيمة هو ذات المستفيد الذي استلم الشيك ممن أصدره، وبعد الوفاء بقيمة الشيك السياحي تسوى العملية بين البنوك المشتركة في إصداره وتنفيذه بطريق المقاصة. ويذكر الأستاذ علي عوض: أن كثيرا من الشراح يستبعد الشيك السياحي من تعريف الشيك إذا تخلف بيان(40/45)
من البيانات اللازمة للشيك، وهو أمر غالب حيث لا يتضمن تاريخ السحب ومكان الإصدار واسم المسحوب عليه، كما ينكر عليه وصف السند الإذني أو السند لحامله كما يعرفه القانون التجاري إذ هو لا يتضمن تعهد البنك بالدفع حتى ولو تضمن أمرا للمسحوب عليه. لأن تعهد الساحب ضمنا بالوفاء عند تخلف المسحوب عليه لا يكفي لاعتبار الورقة سندا تجاريا صرفيا، كما أن وظيفة الشيك السياحي تختلف عن وظيفة السند الإذني أو السند للحامل لأن الشيك السياحي يستهدف مجرد نقل النقود ولا يستخدم أداة للائتمان وهي الوظيفة الأساسية للسندات التجارية، ومن هذا ندرك أن الشيك السياحي ورقة ابتكرها العرف وأقر حكمها بعيدا عن الأحكام التي وضعها التشريع للأوراق التي قد تشتبه بها. ا. هـ (1) .
__________
(1) عمليات البنوك من الوجهة القانونية صـ 603 \ 604.(40/46)
الوصف الفقهي الإسلامي:
مر بنا أن من خصائص الشيك أنه ليس ورقة نقدية وإنما هو وثيقة بدين تقضي بإحالته من ذمة ساحبه إلى ذمة المسحوب عليه مع بقاء مسئولية ساحبه حتى سداده. وأنه ينبغي ألا يسحب إلا على من لديه مقابل وفائه، وأنه لا يلزم لاعتباره شيكا قبول المسحوب عليه وهذه الخصائص هي خصائص الحوالة فإذا قيل بأن الشيك حوالة كان لهذا القول وجاهته ولم يرد عليه إلا مسألة ضمان الساحب قيمة الشيك حتى يتم سداده لأن الحوالة نقل الدين من ذمة إلى ذمة بمعنى براءة ذمة المحيل من المدين إذا كانت الإحالة على مليء، وقد أجابت الموسوعة الفقهية الكويتية عن هذا الاعتراض بأن الساحب يعتبر محيلا بمبلغ الشيك وضامنا سداده (1) .
وقد يقال بأن الشيك يعتبر في حكم ورقة نقدية وفي ذلك تقول
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية - الحوالة - صـ 239 \ 240.(40/46)
الموسوعة الفقهية الكويتية في معرض توجيه القول بأن تسلم الشيك من المصرف بمثابة تسلم قيمته ما نصه:
فإذا نظرنا إلى أن الشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية وأنه يجرى تداولها بينهم كالنقود تظهيرا وتحويلا وأنها محمية في قوانين جميع الدول من حيث إن سحب الشيك على جهة ليس للساحب فيها رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة شديدة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعا، إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكا بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس. ا. هـ (1) .
__________
(1) انظر صـ 232 من الموسوعة الفقهية الكويتية - الحوالة -.(40/47)
السند الإذني
السند الإذني عبارة عن التزام مكتوب وفقا لأوضاع معينة حددتها الأنظمة يتضمن تعهد شخص معين يسمى المحرر بدفع مبلغ معين من النقود في تاريخ معين أو قابل للتعيين لأمر أو لإذن شخص يسمى المستفيد.
وصورته:
اسم المدين:
هـ ريالـ
في يوم كذا شهر كذا سنة كذا ندفع بموجب هذا السند الإذني إلى وتحت إذن السيد. . . . . . . . ابن. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
المبلغ المرقوم أعلاه وقدره. . . . . . . . . . . . .
والقيمة وصلتنا والدفع والتقاضي في \ \
تحريرا في. . . \. . . \. . .
المقر بما فيه (1) ويجب أن يشتمل السند الإذني على بيانات معينة جاء النص عليها في المادة السابعة والثمانين من نظام الأوراق التجارية السعودي حيث نصت على ما يلي:
يشتمل السند الأمر على البيانات الآتية:
(أ) شرط الأمر أو عبارة سند الأمر مكتوبة في متن السند وباللغة التي كتب بها.
__________
(1) الالتزام المصرفي في قوانين البلاد العربية صـ 31 \ 32 للدكتور أمين بدر.(40/48)
(ب) تعهد غير معلق على شرط بوفاء مبلغ معين من النقود.
(ج) ميعاد الاستحقاق.
(د) مكان الوفاء.
(هـ) اسم من يجب الوفاء له أو لأمره.
(و) تاريخ إنشاء السند ومكان إنشائه.
(ز) توقيع من أنشأ السند - المحرر-.
كما أن السند الإذني لا يعتبر صحيحا إذا خلا من البيانات المذكورة في المادة (87) إلا في ثلاث حالات أبانتها المادة (88) من نظام الأوراق التجارية السعودية بما يلي:
المادة - 88 - السند الخالي من أحد البيانات المذكورة في المادة السابقة لا يعتبر سندا لأمر إلا في الأحوال الآتية:
(أ) إذا خلا السند من ميعاد الاستحقاق اعتبر واجب الوفاء لدى الاطلاع عليه.
(ب) إذا خلا بيان مكان الوفاء أو موطن المحرر اعتبر مكان إنشاء السند مكانا للوفاء ومكانا للمحرر.
(ج) إذا خلا بيان مكان الإنشاء اعتبر منشأ في المكان المبين بجانب اسم المحرر.
وقد ذكر الدكتور محمد أمين بدر أن السند الإذني يفترق عن الكمبيالة في أنه لا يتضمن عند إنشائه إلا شخصين: المحرر وهو المدين، والمستفيد وهو الدائن ويتفرع عن هذا الفارق الجوهري سلسلة من فوارق أخرى فلا محل في السند الإذني لمقابل الوفاء ولا مجال فيه للقبول؛ لأن محرر السند ملتزم مقدما بدفع قيمته في ميعاد الاستحقاق (1) .
__________
(1) الالتزام المصرفي صـ 32.(40/49)
ويخضع السند الإذني للأحكام المتعلقة بالكمبيالة مما لا يتعارض وطبيعة السند الإذني. وقد جاءت المادة السابعة والسبعون من قانون جنيف الموحد توضح ذلك حيث تقول:
القواعد المتعلقة بالكمبيالة فيما يختص بتظهيرها واستحقاقها ووفائها والرجوع بسبب عدم الوفاء والبروتستو وكمبيالة الرجوع والوفاء بالواسطة والصور والتغييرات والتقادم وأيام الأعياد الشبيهة بها واحتساب المواعيد وحظر المهلة القضائية؛ تتبع في السند الإذني ما دامت هذه القواعد لا تتعارض مع ماهيته. ا. هـ. وقد نقلت معظم البلاد العربية في قوانينها التجارية هذه المادة ضمن تقنينها أحكام السندات الإذنية (1) .
وهناك ما يسمى بالسند لحامله والسند على بياض، ونظرا إلى أن قانون جنيف الموحد قد أهملهما من قائمة الأوراق التجارية وقد حذت معظم الدول بما في ذلك غالب البلاد العربية ومنها حكومتنا السنية حذو مؤتمر جنيف فأهملتهما من تشريعاتها التجارية ومن لم يهملهما فمشروعات تشريعه التجاري قد تجاهلتهما وعليه فقد لا يكون هناك حاجة لذكرهما (2) .
__________
(1) الالتزام المصرفي للدكتور أمين بدر صـ 35.
(2) الالتزام المصرفي صـ 35 \ 39.(40/50)
خصائص السند الإذني:
يتضح مما تقدم أن السند الإذني يتميز بالخصائص الآتية:
(أ) السند الإذني ورقة تجارية تشبه الورقة النقدية من حيث صلاحه للقبول والتداول.
(ب) السند الإذني يشكل علاقة حقوقية بين طرفين هما الساحب والمستفيد.
(ج) لا يلزم لتحرير السند الإذني وجود مقابل وفاء.(40/50)
(د) لا يلزم لاعتبار السند الإذني قبول المحرر لأنه بتحريره إياه ملتزم بدفع قيمته في ميعاد الاستحقاق.
(هـ) لا يعتبر السند الإذني ورقة نقدية بمعنى أن قيمته في حال ضياعه تثبت بإحدى طرق الإثبات المعتبرة.(40/51)
الوصف الإسلامي للسند الإذني:
السند الإذني عبارة عن وثيقة بدين مؤجل على مدين يغلب عليه أن يكون شخصا اعتباريا كدولة أو مصرف أو مؤسسة تجارية ذات سمعة حسنة. يحل أجله في وقت معين في الوثيقة نفسها، ولهذا الدين فائدة ربوية يجري تعيين نسبتها في الوثيقة ويكون أجلها أجل أصلها ويكون موضع تداول في أسواق الأوراق التجارية حتى يتم سداده من محرره كالحال بالنسبة للكمبيالات وقد قام الأستاذ محمد باقر الصدر بوصف السند الإذني من الوجهة الإسلامية فقال:
وأما من وجهة النظر الفقهية فيمكن تكييف تعاطي السندات على أساسين:
الأول: أن نفسر العملية على أساس عقد القرض فالجهة التي تصدر السند بقيمة اسمية نفرضها 1000 دينار وتبيع السند بـ950 دينارا مؤجلة إلى سنة هي في الواقع تمارس عملية اقتراض أي أنها تقترض 950 دينارا من الشخص الذي يتقدم لشراء السند وتدفع إليه دينه في نهاية المدة المقررة، وتعتبر الزيادة المدفوعة وهي 50 دينارا في المثال الذي افترضناه فائدة ربوية على القرض.
الثاني: أن نفسر العملية على أساس عقد البيع والشراء بأجل، فالجهة التي تصدر السند في المثال السابق تبيع 1000 دينار مؤجلة الدفع إلى سنة بـ950 دينارا حاضرة - إلى أن قال - والواقع أن تفسير العملية على أساس بيع(40/51)
ليس إلا مجرد تغطية لفظية للعملية التي لا يمكن إخفاء طبيعتها بوصفها قرضا مهما اتخذت من تعبير - إلى أن قال - فالعملية إذن عملية إقراض من البنك ولا تختلف من الناحية الفقهية عن إقراض البنك لأي عميل من عملائه الذين يتقدمون إليه بطلب قروض، والزيادة التي يحصل عليها البنك نتيجة للفرق بين القيمة الاسمية للسند وقيمته المدفوعة فعلا من قبل البنك هي ربا وحكمها حكم سائر الفوائد التي يتقاضاها البنك على قروضه. ا. هـ (1) .
__________
(1) البنك اللاربوي في الإسلام صـ 162 \ 163.(40/52)
التحويلات المصرفية والبريدية:
من المعاملات المصرفية التحويلات وتتم بأحد طريقين:
أحدهما: أن يدفع شخص إلى مصرف ما مبلغا من المال ليحوله إلى شخص بعينه في بلد آخر فيحرر المصرف حوالة بذلك المبلغ إلى مصرف آخر أو فرع له في البلد المطلوب تحويل المبلغ إليه يأمره بدفع المبلغ إلى الشخص الذي عينه طالب التحويل فيتسلم دافع المبلغ سند التحويل ليقوم بتسليمه محتواه أو يرسله إلى الشخص الذي يريد تسليمه المبلغ ليقبض قيمته وهذا ما يسمى بالتحويل المصرفي.
الثاني: أن يقوم المصرف بناء على رغبة دافع المبلغ بالكتابة أو الإبراق إلى المصرف الآخر بتسليم المبلغ إلى الشخص المعين دون أن يتسلم العميل حوالة محررة بذلك، ويسمى هذا النوع بالتحويل البريدي.
وكما يقع التحويل من بلد إلى بلد، فقد يكون في البلد نفسه بين مصرف وفروعه وبين حساب شخص في مصرف وحسابه في مصرف آخر. والغالب أن التحويل المصرفي والبريدي لا يتم إلا بعمولة يأخذها البنك في مقابل قيامه بهذه المهمة (1) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية - الحوالة - صـ 228.(40/52)
الوصف الإسلامي للتحويلات المصرفية:
حاولت الموسوعة الفقهية الكويتية التعرف على الوصف الإسلامي للتحويلات المصرفية، فكتبت في ذلك بحثا مطولا ناقشت فيه القول بتخريجها على السفتجة المعروفة لدى فقهاء الشريعة، فذكرت ما بينهما من تشابه وفروق، كما ناقشت القول بتخريجها على القرض أو الوكالة، ثم انتهت إلى القول بأن التحويلات المصرفية عملية مركبة من معاملتين أو أكثر وهو عقد حديث بمعنى أنه لم يجر العمل به على هذا الوجه المركب في العهود السابقة، ولم يدل دليل على منعه فهو صحيح جائز شرعا من حيث أصله. ا. هـ (1) .
ونظرا لنفاسة البحث وما فيه من مناقشة لتخريج التحويلات المصرفية على بعض العقود المشابهة لها في الفقه الإسلامي فإن اللجنة ترى إيراده تحقيقا للفائدة وفيما يلي نصه:
الوصف (التكييف) الفقهي الإسلامي:
سبق أن أشرنا في بحث " السفتجة " إلي وجه الشبه إجمالا بين السفتجة القديمة والتحويلات المصرفية الحديثة. ولبيان ذلك تفصيلا ينبغي التنبيه إلى أن السفتجة القديمة قد أجازها بعض الفقهاء (على الرغم من الشرط الذي يستفيد به المقرض الأمان من خطر الطريق، وهو شرط التوفية في بلد آخر) ، فهي وسيلة أجيزت لشدة الحاجة إليها ولم يحل دون جوازها اشتراط الوفاء في بلد آخر. تلك وجوه الشبه أشرنا إليها إجمالا هناك، لكن الناظر إلى هذه التحويلات الحديثة وإلى السفتجة القديمة يرى بينهما فرقا من جهات أربع:
__________
(1) الموسوعة الفقهية صـ 235.(40/53)
الجهة الأولى: أن السفتجة القديمة لا بد أن تكون بين بلدين، والتحويل المصرفي تارة يكون كذلك وتارة يكون بين مصرفين في بلد واحد.
الجهة الثانية: أن السفتجة القديمة قد يكون المقترض فيها مسافرا أو عازما على السفر، فيوفي هو نفسه أو نائبه إلى المقرض أو إلى مأذونه. والتحويل المصرفي ليس فيه ذلك، فالمصرف الأول وهو المقترض لا يوفي بنفسه إلا إذا كان المصرف الثاني الدافع فرعا للأول.
الجهة الثالثة: أن المفروض في السفتجة القديمة اتحاد جنس النقد المدفوع عند العقد والمؤدي عند الوفاء. فالآخذ في السفتجة إذا أخذ دنانير من نوع مخصوص وفاها كذلك، وإذا أخذ دراهم من نوع مخصوص وفاها كذلك، فإنهم عرفوا السفتجة بأنها قرض (وقد تتوافر معه فيها عناصر الحوالة) . فلو كانت التأدية بنوع آخر لما كانت قرضا، لأن القرض لا بد فيه من رد المثل.
والتحويل المصرفي لا يقتصر على هذه الحالة، فإن المصرف في أغلب الأحيان يأخذ نقودا من نوع ويكتب للمصرف الآخر أن يوفي من نوع آخر. وهذه المعاملة ليست قرضا محضا، بل تشتمل أيضا على صرف أو شبهه على ما سيأتي.
الجهة الرابعة: أن الآخذ في السفتجة القديمة لا يتقاضى أجرا عادة، اكتفاء بأنه سينتفع بالمال في سفره أو إقامته، فيربح ما يغنيه عن اشتراط أجر لعمله. أما المصرف في التحويل المصرفي فيتقاضى أجرا يسمى: عمولة.
وفيما يلي سنتناول بالبحث والتمحيص كل جهة من جهات الفرق الأربع هذه بين السفتجة الفقهية القديمة والتحويلات المصرفية الحديثة لنرى مقتضاها في الأحكام بالنظر الفقهي الإسلامي:(40/54)
الفرق الأول: كون السفتجة لا تتم إلا بين بلدين، والتحويل قد يتم بين مصرفين في البلد الواحد.
هذا الفرق لا تأثير له في الحكم الشرعي بالجواز، فإن الذين أجازوا السفتجة بين بلدين يجب أن يجيزوا ما يشبهها بين مكانين في بلد واحد. بل هذه أقرب إلى الجواز، لأن اشتراط الوفاء في بلد آخر كان هو العلة التي جعلت بعض الفقهاء يكرهون السفتجة أو يحرمونها. فإذا أجازها المحققون مع وجود هذه الشبهة فإجازتها مع قرب المكانين أولى، لأن المقرض حينئذ لا يستفيد سقوط خطر الطريق، فلا يتوهم أنه قرض جر نفعا.
الفرق الثاني: كون السفتجة القديمة تشمل صورا مغايرة للتحويل المصرفي. هذا الفرق أيضا لا تأثير له، لأن الذين أجازوا السفتجة لم يخصوا الجواز بهذه الصورة المغايرة، فيكفي أن يكون التحويل موافقا للصور الأخرى من السفتجة. فالقائلون بجواز هذه الصورة ينبغي أن يقولوا بجواز التحويل الموافق لها.
الفرق الثالث: كون السفتجة تجرى بنقد واحد، أما التحويل المصرفي فقد يجري بنقد واحد، وقد يكون بين جنسين من النقود.
هذه جهة فرق جديرة بعناية الباحث، لأن لها تأثيرا، وتحتاج إلى شيء من التحليل والتفصيل:
فالتحويل بين مصرفين في بلد واحد أو دولة واحدة إنما يكون بنقد الدولة غالبا فيكون كالسفتجة القديمة بعد اعتبار أن المصرف شخصية اعتبارية فما قيل في تطبيق السفتجة على المعاملات الشرعية المعروفة يقال في تطبيق هذا النوع من التحويل فهو قرض وتوكيل أو قرض وحوالة.
والتحويل بين مصرفين في دولتين لا يمكن أن يكون بنوع واحد من النقد(40/55)
غالبا. فالذي يريد تحويل دنانير عن طريق مصرف في الكويت إلى مصرف في لبنان مثلا لا بد أن يطلب التحويل إلى ليرات لبنانية بسعر الصرف وقت التحويل وهذا يستدعي ثلاث خطوات ذات أحكام، وسنشرحها فيما يلي مبينين وصفها الفقهي خطوة خطوة.
أولا أن يتقدم إنسان للمصرف ويطلب تحويل النقود إلى مصرف آخر:
وهذا تمهيد لعقد التحويل، ويبين فيه عادة مقدار النقود، وهل يقصد تحويلها إلى نقود من جنسها أو من غير جنسها؟ وبيان المصرف الذي يراد التحويل إليه، وبيان الشخص الذي سيقبض البدل من المصرف الآخر أهو طالب التحويل أم غيره؟ .
ثانيا قيام الطالب بدفع النقود إلى موظف المصرف:
وهذا بعد سبق الطلب المبين يعتبر إيجادا للتحويل الذي يعد قرضا إن كان المقصود التوفية بمثلها من جنسه: فالدافع مقرض والآخذ مقترض من المصرف والدفع إيجاب، والأخذ مع ما بعده قبول، والمال المدفوع هو محل العقد، وكذلك المثل الذي يلتزم به المقترض معطي الصك فإنه العوض.
فهذا القرض المستوفي لمقوماته عقد صحيح جائز شرعا حيث خلا من الموانع الشرعية. وما يتخيل مانعا وهو العمولة سيأتي الكلام عليه.
وأما إن كان المقصود التوفية بنقد من جنس آخر فهو صرف، ومن شرائط صحة الصرف التقابض ولا تقابض في هذا الصرف، فيلتحق بالربا لعدم التقابض، هذا إذا اعتبرنا الأوراق النقدية نقودا وضعية. وأما إذا اعتبرت سندات على الجهة التي أصدرتها بالقيمة المذكورة فيها من الذهب، فإن معاملة التحويل المذكورة بين جنس منه وجنس آخر تعتبر بيع دين بدين(40/56)
دون قبض أصلا في مجلس العقد، لأن ما تم تسليمه من أحد الجانبين هو سند (صك) بمبلغه، وليس نقدا، فهل من حل؟ .
فنقول جوابا عن ذلك:
1 - أننا نعتبر الأوراق النقدية المذكورة من قبيل النقود الوضعية لا من قبيل الإسناد المعترف فيها باستحقاق قيمتها على الجهة التي أصدرتها من دولة أو مصرف إصدار، وإن كانت هذه الصفة الأخيرة هي أصلها ومنطلق فكرة إحلال الأوراق النقدية المعروفة بين الناس باسم (بنكنوت) محل النقود الذهبية والفضية في التداول أخذا وعطاء ووفاء ذلك لأن صفة السندية فيها قد تنوسيت بين الناس في عرفهم العام، وأصبحوا لا يرون في هذه الأوراق إلا نقودا مكفولة حلت محل الذهب في التداول تماما، وانقطع نظر الناس إلى صفة السندية في أصلها انقطاعا مطلقا، تلك الصفة التي كانت في الأصل حين ابتكار هذه الأوراق، لإحداث الثقة بها بين الناس، لينتقلوا في التعامل عن الذهب إليها حين يعلمون أن لها تغطية ذهبية في مركز الإصدار، وأنها سند على ذلك المركز بقيمتها مستحق لحامله يستطيع قبضه ذهبا متى شاء.
هذا أصلها، أما بعد أن ألفها الناس وسالت في الأسواق تداولا ووفاء من الدولة وعليها بين الناس، ولمس المتعاملون بها مزيتها في الخفة وسهولة النقل، فقد تنوسي - كما ذكرنا - فيها هذا الأصل السندي واكتسبت في نظر الجميع واعتبارهم وعرفهم صفة النقد المعدني وسيولته بلا فرق. فوجب لذلك اعتبارها بمثابة الفلوس الرائجة من المعادن غير الذهب والفضة، تلك الفلوس التي اكتسبت صفة النقدية بالوضع والعرف والاصطلاح، حتى إنها وإن لم تكن ذهبا أو فضة،(40/57)
لتعتبر بحسب القيمة التي لها بمثابة أجزاء للوحدة النقدية الذهبية التي تسمى: دينارا، أو ليرة، أو جنيها ذهبيا، بحسب اختلاف التسمية العرفية بين البلاد للوحدة من النقود المسكوكة الذهبية. هذا حال الفلوس الرائجة من المعادن المختلفة غير الذهب والفضة بالنظر الشرعي، وهو الصفة التي يجب إعطاؤها في نظرنا للأوراق النقدية (البنكنوت) . فتبديل جنس منها، كالدينار الكويتي الورقي أو الليرة السورية أو اللبنانية مثلا بجنس آخر الجنيه المصري أو الإسترليني أو الدولار الأمريكي مثلا، يعتبر مصارفة كالمصارفة بين الذهب والفضة والفلوس المعدنية الرائجة على سواء.
والقاعدة الفقهية في هذه المصارفة أنه عند اختلاف الجنس يجوز التفاضل في المقدار بين العوضين، ولكن يجب التقابض في المجلس من الجانبين؛ منعا للربا المنصوص عليه في الحديث النبوي.
وبهذا التخريج يستبعد اعتبار عملية التحويل المصرفي بين جنسين من هذه الأوراق من قبيل بيع الدين، وإنما هي مبادلة بين نقود ونقود فيها تحويل وصرف في وقت واحد.
2 - بناء على ما سبق نقول: أن اعتبار الأوراق النقدية كما ذكر (نقودا وضعية اصطلاحية) يقتضي في التحويل من جنس إلى جنس آخر منها أن يتم تقابض العوضين في مجلس التحويل، نظرا لأن هذا التحويل بين جنسين من هذه النقود يتضمن مصارفة، والصرف يشترط لصحته التقابض وهذا يقتضي أن يدفع طالب التحويل إلى المصرف الأوراق النقدية التي يحملها، وأن يصرفها بالأوراق النقدية من الجنس الآخر المطلوب ويقبضها بالفعل من المصرف، ثم يسلمها إليه قرضا ليوفيه في البلد الآخر من هذا الجنس الثاني، أي يجب حينئذ فك عملية التحويل(40/58)
بين جنسين مختلفين من هذه الأوراق إلى عمليتين: مصارفة أولا يقع فيها التقابض، وسفتجة ثانيا يدفع فيها مبلغ من جنس ويستوفي نظيره من الجنس نفسه في البلد الآخر.
هذا ما يستوجبه في الأصل عنصر المصارفة في عملية التحويل المصرفي بين جنسين، ولكن هذه التجزئة العملية لا تقع فعلا بين طالب التحويل والمصرف الوسيط وإنما يدفع طالب التحويل إلى المصرف المبلغ المطلوب تحويله من نقود البلد الذي هو فيه. فيقوم المصرف بتسليمه إيصالا به مع صك (شيك) يتضمن حوالة على مصرف عميل في البلد الآخر بمبلغ يعادل هذا المبلغ من نقود البلد المطلوب التحويل إليه، فيرسل طالب التحويل هذا الشيك إلى الشخص المحول باسمه (والذي حرر الشيك لأمره) ليقبضه هناك من المصرف المحول عليه.
فإذا نظرنا إلى أن الشيكات تعتبر في نظر الناس وعرفهم وثقتهم بمثابة النقود الورقية، وأنها يجري تداولها بينهم كالنقود تظهيرا وتحويلا، وأنها محمية في قوانين جميع الدول - من حيث إن سحب الشيك على جهة ليس للساحب فيها رصيد يفي بقيمة الشيك المسحوب يعتبر جريمة شديدة تعاقب عليها قوانين العقوبات في الدول جميعا - إذا نظرنا إلى هذه الاعتبارات يمكن القول معها بأن تسليم المصرف الوسيط شيكا بقيمة ما قبض من طالب التحويل يعتبر بمثابة دفع بدل الصرف في المجلس، أي إن قبض ورقة الشيك كقبض مضمونه، فيكون الصرف قد استوفى شريطته الشرعية في التقابض.(40/59)
ثالثا إعطاء المصرف لطالب التحويل صكا (شيكا) بالمبلغ المطلوب:
فهذا الإعطاء إما أن يكون مسبوقا بإعطاء النقود أو غير مسبوق كما تقدم في الخطوة الثانية. وأيا ما كان فهو من تتمة قبول التحويل الذي هو عملية مركبة، لكن لو لاحظناه على انفراد لكان له وصف شرعي يختلف بحسب سبقه بدفع النقود وعدم سبقه بذلك:
(أ) فإن كان مسبوقا بإعطاء النقود التي اعتبرت مقترضة احتمل كونه حوالة أو وكالة: وتصوير الحوالة أن يقال: إن المصرف الذي أصبح مدينا بدين القرض قد أحال دائنه - الذي أعطى النقود وأصبح مقرضا - على المصرف الآخر ليدفع الدين الذي هو بدل القرض إلى ذلك الدائن أو إلى الشخص الذي عينه وكتب اسمه في الصك. وتصوير الوكالة أن يقال: إن المصرف الآخذ قد وكل المصرف الثاني في دفع المبلغ المذكور في الصك إلى من ذكر اسمه فيه، سواء أكان هو الطالب أم الشخص الآخر الذي عينه. وهذا التوكيل مصرح في الصك بما يدل عليه، وإنما سلم هذا الصك لطالب التحويل تمكينا له من استيفاء حقه.
وإن اعتبار ذلك وكالة بهذا التصوير الثاني هو الأقرب، وعليه يكون وكالة جائزة شرعا، وتكون عملية التحويل مركبة من قرض ووكالة إذا استوفى المحول بنفسه، أو من قرض ووكالتين إذا كان المستوفي هو الشخص الآخر الذي عينه المحول فهو وكيله في الاستيفاء.
وإنما قلنا إن تقدير الوكالة هنا أقرب من تقدير الحوالة، لأن الحوالة(40/60)
الشرعية ثمرتها براءة ذمة المحيل من الدين، وليست للتحويل المصرفي هذه الثمرة، لأن المصرف الآخذ يبقى مدينا بدين القرض ولا يبرأ منه إلا بتوفية المصرف الآخر. يضاف إلى ذلك أن المصرف الثاني قد يكون غير مدين للمصرف الأول، فلا يصح أن يكون محالا عليه شرعا عند الجمهور (إلا على أساس الحوالة المطلقة عند الحنفية ومن معهم) وإن الوكالة خالية من هذين الإشكالين، فالتخريج عليها يكون أولى وأرجح غير أنه قد يقال: إن الوكالة يجوز فيها رجوع الموكل ورجوع الوكيل، وهذان الأمران ليسا من صفات التحويل المصرفي.
وجوابا على هذا الإيراد نقول: إن الوكالة هنا ليست عقدا منفردا معقودا بصورة مقصودة مباشرة، وإنما حللنا إليها عقد التحويل الذي هو عقد مركب من إقراض وشرط، وهذا الشرط ينحل إلى وكالة فهي وكالة مشروطة من جانب طالب التحويل، فتكون وكالة تعلق بها حق الغير فلا يجوز رجوع الموكل فيها ولا الوكيل بعد القبول. ومن جهة أخرى يلحظ أيضا أن المصرف قد استوفى عمولة على هذه العملية فهي وكالة بأجر، فلا يجوز الرجوع فيها.
(ب) وإن لم يكن إعطاء الصك مسبوقا بدفع المبلغ المطلوب تحويله فلذلك حالتان:
الحالة الأولى - أن يكون للطالب في المصرف حساب جار دائن.
1 - فإن كان المطلوب تحويل النقود إلى نقود من جنسها، كدنانير كويتية إلى دنانير كويتية. فحينئذ يكون إعطاء الصك توكيلا من المصرف للطالب بقبض المبلغ في الصك، ليستوفيه من الدين الذي له على المصرف، وقد استغنى عن تقدير القرض لأن الدين السابق قام مقامه.(40/61)
2 - وإن كان المطلوب التحويل إلى نقود من غير جنسها، كدنانير كويتية إلى ليرات لبنانية أو غيرها، كان طلب التحويل إيجاب مصارفه بين بعض النقود التي للطالب في حسابه الدائن لدى المصرف والمبلغ المطلوب من النقود الأخرى، وكان تسليم الصك (الشيك) للطالب قبولا للمصارفة وتوكيلا من المصرف بالقبض قام مقام التقابض الواجب شرعا في مجلس عقد الصرف لأن هذا الصك (الشيك) عرفا في حكم النقد.
الحالة الثانية - ألا يكون للطالب في المصرف حساب دائن.
فإن كان يريد تحويل النقود إلى نقود من جنسها كان الطلب التماسا للتوكيل في القرض، كأنه يقول للمصرف: ألتمس منك أن توكل المصرف الثاني في دفع مبلغ كذا إلي أو إلى فلان ليحتسب قرضا لك علي. وحينئذ يكون إعطاء الصك توكيلا للمصرف الثاني أن يدفع للشخص المعين في الصك المبلغ المبين مقداره فيه، فإذا قام المصرف الثاني بالدفع إلى هذا الشخص صار هذا المصرف الثاني دائنا للمصرف الأول بالمبلغ ما لم يكن له - أي للمصرف الأول - عنده حساب دائن، ويصير المصرف الأول دائنا لطالب التحويل ما لم يكن قد قام بدفع المبلغ إليه قبل قيام المصرف الآخر بدفع ما في الصك.
وإن كان يريد تحويل النقود إلى نقود من غير جنسها - والمفروض أن طالب التحويل ليس له في المصرف حساب دائن، ولم يدفع النقود في المجلس - فحينئذ يعد طلب التحويل التماسا للتوكيل بالقرض (كما سبق بيانه) أي أن يقوم المصرف الأول بتوكيل المصرف الثاني في البلد الآخر بأن يدفع إلى الطالب (أو إلى من يعينه) المبلغ المطلوب من نقود ذلك البلد الآخر.(40/62)
ليحتسب دينا على الطالب، ويعتبر تسليم الصك إلى الطالب قبولا وتنفيذا للتوكيل بالإقراض، فيصبح طالب التحويل مدينا للمصرف الأول بمبلغ الصك من نقود ذلك البلد متى تم قبضه هناك، ثم حين يوفي للمصرف قيمته من نقود الجنس الآخر (النقود المحلية) يعتبر ذلك الوفاء مصارفة بين ما للمصرف في ذمته من النقود الأجنبية وما يوفيه الآن من النقود المحلية. ويتحقق بذلك شرط التقابض في بدلي الصرف، لأن أحدهما في الذمة مقبوض، والآخر يدفع الآن في مجلس الصرف.
الفرق الرابع والأخير بين السفتجة القديمة والتحويل المصرفي اليوم:
وهو أن المصرف يأخذ عمولة من طالب التحويل مع المبلغ المطلوب تحويله، ولا يوجد هذا في عملية السفتجة القديمة التي تكلم عنها الفقهاء.
فنقول في هذا الفرق: أن في هذه العمولة أشكالا بحسب الظاهر، لا سيما إذا قلنا إن العملية من قبيل القرض، وقد نص بعض الفقهاء على أنه لا يجوز في القرض اشتراط يجر نفعا للمقترض.
لكن شرط جر النفع للمقرض يعتبر ربا، وشرط جر النفع للمقترض يعتبر زيادة إرفاق من المقرض للمقترض، فيكون وعدا حسنا، ولا يلزم تنفيذه اكتفاء بأصل الإرفاق.
على أن بعض الحنابلة (1) أجازوا في القرض اشتراط دفع المقترض أقل مما أخذ كما لو قال: أقرضك مائة دينار على أن تردها إلي تسعة وتسعين، فيجوز ذلك لأنه زيادة إرفاق بالمقترض، وقد التزمه المقرض فيلزمه، وليس للإرفاق حد يجب الوقوف عنده، ولا سيما أن هذا الشرط مضاد للربا ففي
__________
(1) الإنصاف 5 \ 133.(40/63)
التزامه تأكيد التبري من الربا. فهذا القول عند الحنابلة جيد جدا، ويسعف في تخريج العمولة عليه.
ثم إن بين المعاملات التي يقوم بها الأفراد والمعاملات التي تقوم بها المصارف فرقا شاسعا، فالمقترض في السفتجة القديمة لا يقوم بعمل للمقرض ولا يتحمل مئونة، لأنه إن كان مسافرا فهو مسافر لحاجة نفسه، وغالبا ما يتجر في بلده أو في طريقه أو في البلد الذي يصل إليه، وقد أصبح المال الذي اقترضه ملكا له، فأرباحه كلها تخصه، وما صنع شيئا للمقرض سوى كتابته الصك، ثم توفية الدين له أو لصديقه مثلا.
أما المصرف الذي اعتبر مقترضا في عملية التحويل فيختلف عن المقترض في السفتجة، فهو شخصية اعتبارية تجمع موظفين وعمالا يتقاضون رواتب شهرية غير مرتبطة بالعمل قلة وكثرة، ويتخذ مقرا مجهزا بأثاث وأدوات وآلات كثيرة لاستقبال العملاء وقضاء حاجاتهم. ثم إن العملية ليست كتابة ورقة فحسب وإنما هي إجراءات كثيرة، ذات كلفة مالية، فلو لم يأخذ عمولة لما استطاع تغطية النفقات الطائله التي ينفقها، فاشتراط العمولة محقق للعدالة ومتفق مع أصل التشريع الإسلامي، وليس هناك نص أو إجماع على منع مثل ذلك.
النتيجة:
والنتيجة التي تستخلص من كل ما سبق من كلام عن التحويلات المصرفية اليوم هي أن التحويل المصرفي أو البريدي عملية مركبة من معاملتين أو أكثر، وهو عقد حديث، بمعنى أنه لم يجر العمل به على هذا الوجه المركب في العهود السابقة، ولم يدل دليل على منعه، فهو صحيح جائز شرعا من(40/64)
حيث أصله بقطع النظر عما يحيط به من مواد قانونية يجب لمعرفة حكمها استقصاؤها تفصيلا ودراستها للحكم فيها. ا. هـ (1) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية - الحوالة - صـ 229 - 235.(40/65)
عمليات التظهير:
الواقع أن للأوراق التجارية وظيفة أهلتها لأن تعطي التجارة الدولية قدرا ذا أثر محسوس في تيسير وتسهيل مشاكل التجارة وقدرتها على سرعة التحرك والمرونة وفق متطلبات الحياة، فهي أداة للتداول مدة ما بين إنشائها وموعد وفائها، ويقول الدكتور أمين بدر في معرض تعداده القيم الذاتية للأوراق التجارية وتفضيلها على الحوالات المدنية ما نصه:
ونظرا لغلبة التداول على الورقة التجارية بدت الحوالة المدنية أسلوبا غير ملائم لانتقال الحق المصرفي، إذ إن الحوالة تتطلب لنفاذها في حق المدين والغير أوضاعا تنوء بها الحياة التجارية السريعة، وهي بعد ذلك لا تقدم للحامل حماية كافية إذ تحمله خطر إعسار المدين إذ إن المحيل مسئول فقط عن وجود الحق لا عن الوفاء به، وتجعل الحامل عرضة لكل أنواع المفاجآت. إذ يستطيع المدين الاحتجاج عليه بكل الدفوع التي يملك توجيهها للمحيل، ولهذه الأسباب ابتدعت البيئة التجارية طرقا أخرى أبسط وأكمل لنقل الحقوق الثابتة في الأوراق التجارية وهذه الطرق هي التظهير (التجبير أو التدوير) بالنسبة للورقة الإذنية، أي الواجبة الدفع لإذن شخص معين، والمناولة أو التسليم للورقة التي لحاملها. ا. هـ (1) .
وللتظهير أكثر من دافع فقد يكون من أجل نقل ملكية محتوى الورقة التجارية إلى المظهر إليه، وقد يكون الغرض منه توكيل المظهر إليه بقبضه قيمتها أو رهنه إياها.
__________
(1) الالتزام المصرفي صـ (55) .(40/65)
تعريف التظهير:
التظهير بيان يكتبه حامل الورقة التجارية على ظهرها أو على وصلة مرفقة بها لينقل بمقتضاه بعض أو كل الحقوق التي ترتبها له الورقة إلى شخص آخر يسمى المظهر له.
وينقسم التظهير ثلاثة أقسام، تظهير تام، تظهير توكيلي، تظهير تأميني.
أما التظهير التام فهو أكثر التظهيرات شيوعا، ويسمى التظهير الناقل للملكية، وهو تظهير يرتب نقل ملكية حامل الورقة وكامل حقوقها الثابتة له إلى المظهر إليه.
وله شروط أهمها أن يكون المظهر ممن هو أهل للالتزام بالورقة التجارية، وأن يكون له صفة معتبرة فيها، وأن لا يكون التظهير معلقا على شرط، وأن يكون كتابة على ذات الورقة نفسها أو على وصلة مرفقة بها، وأن يذكر تاريخ التظهير وبيان وصول القيمة واسم المظهر إليه مصحوبا بعبارة لأمره أو لإذنه وتوقيع المظهر. وهناك شرط اشترطه بعضهم وهو أن يكون التظهير سابقا لميعاد الاستحقاق، ووجه أصحاب هذا الرأي شرطهم بأن الورقة التجارية أداة معدة للتداول لفترة محددة بما بين إنشائها وميعاد وفائها، أما بعد حلول أجل وفائها فقد انتهت حياتها كورقة تجارية قابلة للتداول وأصبحت مجرد سند بدين واجب الوفاء، وقد كان هذا الشرط موضع نقاش في مؤتمر جنيف انتهى الأمر به إلى النص في قانونه الموحد بعدم اشتراط ذلك الشرط، وقد أخذ بعدم اعتباره مجموعة من النظم العربية، منها: سوريا، والعراق، ولبنان، وليبيا، ومشروع الجامعة العربية.(40/66)
وقد وجه الدكتور أمين بدر اشتراط أن يكون التظهير على ذات الورقة التجارية أو على وصلة منها، بأن الورقة التجارية يجب أن تعلن عن نفسها مدى ما ترتبه من حقوق وما تفرضه من التزامات حتى يكون المتعاملون بها على بينة من أمرهم فلا يؤخذون بالمفاجأة.(40/67)
آثار التظهير التام:
يرتب التظهير التام آثار حقوقية تتلخص فيما يلي:
1 - نقل ملكية الورقة التجارية إلى المظهر إليه.
2 - اعتبار المظهر ضامنا وفاء الورقة التجارية مع الساحب أو المحرر ومع سائر الموقعين فيها، وإن كانت الورقة التجارية موضوع التظهير كمبيالة ضمن المظهر قبولها من قبل المسحوب عليه فضلا عن ضمانه سدادها في ميعاد الاستحقاق.
3 - إذا كان المظهر إليه حسن النية فلا يجوز الاحتجاج عليه بأي دفع يمكن للمدين توجيهه إلى كل متعامل بالورقة التجارية وهذا ما يسمى بالتظهير من الدفوع والمقصود بحسن النية من لم يكن متواطأ مع المظهر وعالما بالدفوع التي يملك المدين توجيهها للمظهر أو غيره لقصد الإضرار بالمدين.
وقد وجه الدكتور أمين بدر فكرة تطهير المظهر إليه من الدفوع فقال:
وبيان ذلك أن هذه الأوراق معدة للتداول السريع بين أشخاص متعددين وأماكن مختلفة، فلو جاز للمدين والحال هذه أن يفاجئ الحامل بما يجهله من الدفوع أو أوجه الدفاع المستمدة من علاقة هذا(40/67)
المدين بأحد المتعاملين الآخرين لتعين على كل راغب في تملك الورقة التجارية أن يستقصي مقدما العلاقات القانونية التي تربط المدين بالمتعاملين السابقين، وهو بحث مضن يكلفه وقتا ويقتضيه جهدا تنوء بهما الحياة التجارية السريعة، وهو بعد ذلك بحث غير مأمون العاقبة ومن شأنه ترغيب الغير عن التعامل بالورقة التجارية وتعطيل وظائفها الاقتصادية. ا. هـ (1) .
4 - تملك الحامل مقابل الوفاء الموجود لدى المسحوب عليه بحيث ينفرد به دون سائر الغرماء إذا أفلس الساحب.
__________
(1) الالتزام المصرفي صـ 61.(40/68)
والتظهير التوكيلي تظهير يقصد به المظهر أن يكون المظهر إليه وكيلا له في تحصيل قيمة الورقة المظهرة، ويشترط له النص صراحة على أن التظهير للتحصيل أو التوكيل أو للقبض أو ما يدل على ذلك، حيث نصت المادة (18) من قانون جنيف الموحد على أنه إذا اشتمل التظهير على عبارة " القيمة للتحصيل " أو " القيمة للقبض " أو " بالتوكيل " أو أي بيان آخر يفيد التوكيل فللحامل مباشرة جميع الحقوق المترتبة على الكمبيالة إنما لا يجوز له تظهيرها إلا على سبيل التوكيل. ا. هـ.
أما إذا خلا التظهير مما يدل على أنه للتوكيل فإن قانون جنيف الموحد وكذلك القوانين الناقلة عنه تعتبره تظهيرا تاما ناقلا لكامل الملكية.(40/68)
آثار التظهير التوكيلي:
حيث إن التظهير التوكيلي تعتبر حقيقته وكالة فإن الآثار المترتبة على(40/68)
التظهير التام لا تثبت للتظهير التوكيلي وإنما يثبت له جميع الحقوق والأحكام المتعلقة بالوكالة فيلتزم المظهر إليه برعاية مصالح المظهر فيما يتعلق باستيفاء قيمة الورقة في ميعاد استحقاقها، فإن اقتنع المدين بها عن الوفاء كان عليه واجب المطالبة بذلك كما أن للمدين حق الاحتجاج على المظهر بالدفوع التي يملك توجيهها إلى المظهر إليه لكونه وكيلا له في التحصيل، ولا يجوز للمظهر إليه تظهيرا توكيليا أن يظهر الورقة التجارية إلا بمثل ذلك.(40/69)
التظهير التأميني:
قد لا يكون للمظهر بتظهيره الورقة التجارية قصد في نقل ملكيتها إلى المظهر إليه ولا توكيله في تحصيل قيمتها، وإنما يقصد بذلك رهنها للمظهر إليه ضمانا لحق عليه قبل المظهر إليه ويسميه بعضهم الرهن التوثيقي.
ويشترط للتظهير التأميني ما يشترط للتظهير التام، وأن يذكر في التظهير أن القيمة رهن أو ضمان أو أي عبارة أخرى تدل على ذلك، وإلى هذا تشير المادة التاسعة من قانون جنيف الموحد في أنه إذا اشتمل التظهير على عبارة " القيمة ضمان " أو " القيمة رهن " أو أي بيان آخر يفيد الرهن جاز لحامل الكمبيالة مباشرة جميع الحقوق المترتبة عليها. ا. هـ.
وكذلك نصت المادة السادسة والثمانون من قانون التجارة المصري في فقرتها الثانية على أن " الأوراق المتداول بيعها يثبت رهنها أيضا بتحويلها تحويلا مستوفيا للشرائط المقررة قانونا ومذكورا فيه أن تلك الأوراق سلمت بصفة رهن ". ا. هـ.(40/69)
آثار التظهير التأميني:
نظرا إلى أن التظهير التأميني يشترط له ما يشترط للتظهير الكامل، ويقصد به ضمان حق المظهر إليه قبل المظهر، فقد أخذ آثارا خليطة من أحكام الرهن والملك المطلق، فبالنسبة لآثار التظهير التأميني من حيث اعتباره رهنا، فإن المظهر إليه ملتزم بحقوق ومستلزمات المطالبة بسدادها إذا حل ميعاد استحقاقها، فإن قبضها بعد ذلك وبعد حلول أجل حقه أخذ من قيمتها ما يستحقه ورد الباقي إلى المظهر، وإن قبضها قبل حلول أجل حقه استبقاها لديه حتى يحل أجل حقه واستوفى حقه منها، وفي هذه الفترة يلتزم بالفوائد الربوية للمظهر مقابل حيازته قيمة الورقة، وقد اختلف رجال الاقتصاد والقانون هل يحق للمظهر إليه نقل ملكية الورقة التجارية في سبيل تحصيل قيمتها؟ فذهب بعضهم إلى أن طبيعة التظهير التأميني تمنع ذلك، وذهب البعض الآخر إلى جوازه؛ لأن مصلحة الطرفين قد تقتضي ذلك، على أن تظهيره لا يتجاوز سلطته في ذلك، بمعنى أن التظهير مهما تعدد فهو لا يعدو أن يكون تظهيرا توكيليا، وقد اختار قانون جنيف الموحد الرأي القائل بجواز ذلك، فقد نصت المادة 19 على أن للمظهر إليه تأمينيا أن يباشر جميع الحقوق على الورقة، ثم أضافت: فإن ظهرها عد التظهير حاصلا على وجه التوكيل. اهـ.
وأما بالنسبة لآثار التظهير الكامل الثابتة للمظهر إليه تظهيرا تأمينيا فتتضح من أنه يعتبر مالكا للورقة التجارية بحيث يستفيد من قاعدة التظهير من الدفوع بحيث لا يجوز للمدين بالورقة أن يحتج عليه بأي دفع يملك توجيهه للمظهر.(40/70)
الوصف الإسلامي للتظهير:
الواقع أن الموسوعة الفقهية الكويتية - قسم الحوالة - عالجت موضوع التظهير وقربت بينه وبين مواضيعه التي بحثها الفقهاء المسلمون في الحوالة والوكالة والرهن، ونظرا لقيمة البحث فقد استحسنت اللجنة نقله بكامله وفيما يلي نصه:
الوصف الفقهي الإسلامي للتظهير:
يلزم التفريق هنا بين حالتين:
1 - حالة الورقة التجارية المحررة للأمر أو الإذن إذا فقدت صفتها التجارية وصارت سندا عاديا أي مجرد وثيقة بدين لحاملها على ساحبها أو محررها فأصبحت لا تقبل التظهير قانونا، ففي هذه الحالة يكون تظهيرها لشخص آخر حوالة عادية بالمعنى الشرعي نظرا إلى أن العبرة في العقود بما يدل على معانيها دون تقيد بعبارات خاصة، هذا إذا كان المظهر إليه دائنا للمظهر، فإن لم يكن دائنا فالتظهير توكيل له بتقاضي الدين على أن يتملكه قرضا.
2 - حالة الورقة التجارية المحتفظة بصفتها التجارية، فإن تظهيرها لشخص(40/71)
آخر يكون حوالة بالمعنى الشرعي ولو شرط المظهر انتفاء ضمانه للدين المحال به أو لم تتوافر فيه شرائط التظهير قانونا.
ذلك أن المحيل غير ضامن أصلا للوفاء بهذا الدين شرعا في معظم مذاهب الفقه الإسلامي، وأن ضمانه التلقائي لهذا الوفاء في مذاهب أخرى إنما هو عند التوي، أي العجز عن وصول المحال إلى حقه، إما مطلقا، وإما بأسباب معينة، وليس هو بكل حال ضمانا على هذا النحو المطلق المقرر للتظهير القانوني في سند الأمر التجاري، بحيث يكون للحامل الرجوع على المظهر لمجرد عدم الوفاء في ميعاد الاستحقاق، دون أن يكلفه ذلك أكثر من إجراءات شكلية بسيطة، وقد ينص في الورقة التجارية نفسها على شرط الرجوع دون حاجة إلى تلك الإجراءات الشكلية فيعفى حينئذ منها (هذا كله إذا كان المظهر إليه دائنا، وإلا كان التظهير توكيلا كما مر قريبا) .
أما مع التصريح بالضمان فإن المعاملة تكون كفالة وأن اشتراط تقديم الكفيل - المفهوم عرفا في هذا النوع من التعامل - مستقيم على أصول المالكية، لكن عندهم لا يكون الرجوع على الأصيل - مع هذا الشرط - إلا بعد تعذر الاستيفاء من الكفيل، لا بمجرد عدم الوفاء في ميعاد الاستحقاق إلا أن يعتبر ذلك أيضا كالمتشارط عليه، وهو مقتضى الأوضاع المعمول بها في هذه المعاملة، فالعرف مغن حتى عن التصريح بالضمان.
ومن الواضح - وفق أصول فقهائنا - أن التظهير حوالة صحيحة بالقيود التي أسلفناها، ولكن اشتراط قبول المحرر (الموقع) في سند الأمر، أو المسحوب عليه في السفتجة والشيك يبدو محل نظر واختلاف، فمن(40/72)
اشترط قبول المحال عليه - كالحنفية - يجعل رفض المحرر أو المسحوب عليه قبول الورقة التجارية حائلا دون صحة الحوالة نفسها لا دون مسئوليات الالتزام المصرفي فحسب، ومن لم يشترط قبوله - كالشافعية - يحكم دونه بصحة الحوالة ولزومها ولا مزيد.
أما تتابع التظهيرات فمن قبيل تراكب الحوالات أو الوكالات أو الكفالات الذي هو من مسلمات الفقه الإسلامي، وفقهاؤنا يوافقون على تقديم الحامل للورقة المظهرة إليه (المحال) على سائر الغرماء إلا إذا كان الدين في ذمة المحال عليه قد سقط تعلق الحوالة به، فإن الحامل (المحال) حينئذ يكون أسوة الغرماء وهذا منصوص عليه - من بعض وجهات النظر - في حال موت المحيل حوالة مقيدة قبل الوفاء (ر: ف \ 274) أما التضامن بين الموقعين على الورقة التجارية فما دام ذلك قد أصبح عرفا سائدا فإن كل تظهير يكون ضمانا للمظهر إليه، وفي الوقت نفسه توكيلا له من المظهر في أن يضمن الدين عنه للمظهر إليه التالي بحيث يكون كل مظهر ضامنا أصيلا ووكيلا في الضمان عن جميع الموقعين قبله على الورقة وهكذا توقيع الساحب، هذا على رأي من لا يصححون الضمان قبل الوجوب وإلا فالمسألة أوضح من أن يتكلف لها مثل هذا.
هذا وقد يلاحظ أن توقيت الرجوع على الضمان لا يتفق مع الأصول الفقهية في الحوالة لكن يجوز للحاكم التوقيت للمصلحة العامة.
وأما التظهير من الدفوع فقد مثله بعضهم قائلا: وعلى ذلك إذا كان التزام الساحب تجاه المستفيد الأول قد نشأ باطلا أو قد انقضى ثم قام المستفيد بتظهير الشيك (أو الورقة التجارية أيا كانت) تظهيرا تاما إلى(40/73)
الحامل حسن النية وقام هذا بمطالبة الساحب فإنه يمتنع على الساحب أن يحاج الحامل ببطلان التزامه ولا ينازع أكثر فقهائنا في عدم صحة الدفع بانقضاء الالتزام مع تعلق حق ثالث ولكنهم يصححون الدفع بأن الالتزام قد نشأ باطلا؛ لأن الدين هنا لم يكن قائما فقط بخلافه في الحالة الأولى، ومع صحة هذا الدفع شرعا في وجه الحامل حسن النية يجوز للحاكم أن يمنع سماع الدفع في حق الحامل مطلقا إذا كان في هذا المنع مصلحة عامة، وقد قالوا: يجوز للحاكم أن يقيد القضاء ويعلقه بالشرط والإضافة والاستثناء، ولا غرو فإنهم في التشريع التجاري المصري جعلوا للمدين التمسك بعدة دفوع كالتزوير وكشرط عدم الضمان في نص الورقة وكعدم استيفاء البيانات اللازمة لاعتبارها ورقة تجارية، وكالمقاصة بين ديني المدين والحامل، وكلها دفوع معتبرة شرعا، ولفقهاء المذاهب نصوص تدعمها عدا الدفع باستيفاء البيانات اللازمة لتجارية الورقة، وإن كان لا ينوب عمن له الدفع أصالة غيره من سائر الموقعين إلا في حالة غيبة من طرق النيابة الشرعية.
على أن استثناء الدفع باستيفاء هذه البيانات إنما هو بالنظر لأصل الشرع؛ لأن هذه البيانات اللازمة قانونا هي ترتيبات زمنية جديدة ليس لها ذكر في نصوص الشريعة أو الفقه، ولكن لا يخفى أنه يجوز للحاكم أن يشترط في سماع الدعوى بصحة العقود تقييد هذه العقود بالكتابة على شكل خاص، ويترتب عليه قبول الدفع بعدم استيفاء البيانات اللازمة لصحة الورقة. لكن هذا لا يجيز للإنسان فيما بينه وبين الله تعالى أن يأكل حق صاحبه الثابت وإن لم يحكم في القضاء له به وبالجملة فالحوالة بتظهير الورقة(40/74)
التجارية هي كأية حوالة أخرى، وهذه الدفوع فيها هي دفوع مقبولة في النظر الإسلامي: فمبدأ التظهير هنا غير وارد بالنظر لأصل الشرع، وإن كان مقبولا بالنظر إلى تقييد ولي الأمر.
ثم إن المواضع التي قلنا فيها إن التظهير يعتبر حوالة شرعية إنما يكون التظهير فيها كذلك حينما يكون - المسحوب عليه مدينا للساحب، فإن لم يكن مدينا له بالدين الذي تثبته الورقة التجارية (ويتصور هذا في السفتجة والشيك) فإن التظهير لا يمكن اعتباره عقد حوالة إلا عند من لا يشترط مديونية المحال عليه للمحيل من فقهائنا. وقد يكتفى بوجود عين للساحب لدى المسحوب عليه، كالوديعة، إن كان هذا هو الواقع، وكان الوفاء مقيدا بتلك العين (برغم اشتراط القانونيين على الراجح أن يكون دين الورقة التجارية دينا نقديا) - ولكن لا بد عند فقهائنا هؤلاء حينئذ من قبول المحال عليه.
أما عند من يشترطون من الفقهاء مديونية المحال عليه فليس التظهير - دون هذه المديونية - إلا تمهيدا لعقد كفالة لا تنعقد إلا بقبول الكفيل وهو المسحوب عليه هنا. اهـ - الموسوعة الفقهية ص 239-241.(40/75)
تحصيل الأوراق التجارية:
الواقع أن للأوراق التجارية أهمية كبرى في سبيل تيسير التجارة، والقدرة بها على التحرك والضرب في الأسواق التجارية العالمية بصفقات كبيرة. وبالطبع فإن الافتراض قائم في أن غالب التجار يملكون مجموعة كبيرة من الأوراق التجارية ما بين شيك وسفتجة وسند. ونظرا إلى أن الورقة التجارية لها أحكام تقتضي الاهتمام بها والتقيد بأنظمتها وإلا ترتب على إهمالها ضياع حقوق تتعلق بها، ويتضرر التاجر بضياعها. ونظرا إلى أن التاجر(40/75)
بحكم مشاغله في الأسواق التجارية وما يستلزم لذلك من قيود سجلات وخطابات ما بين إنشائية وجوابية واتصالات مباشرة وغير مباشرة، فهو يجد نفسه في وقت يلح عليه بالبحث عمن يقوم بتحصيل قيم هذه الأوراق.
وحيث إن المصارف محصور نشاطها في العمليات المصرفية، لذلك عمد التجار إلى تكليف البنوك التي يتعاملون معها بتحصيل قيم هذه الأوراق لهم عند حلول أجلها بعمولة يجري الاتفاق على تحديدها، فيقوم التاجر بتظهير الورقة التجارية إلى البنك الذي يختاره تظهيرا توكيليا، ويختلف مقدار العمولة التي يطلبها البنك لقاء قيامه بالتحصيل تبعا لاختلاف قيمة الورقة التجارية وأجل وفائها ومحله وغير ذلك من الاعتبارات.
ويعتبر رجال المال والاقتصاد التكليف بالتحصيل وكالة ترتب على طرفيها التزامات وحقوق لأحدهما قبل الآخر. فمتى انعقدت الوكالة بالتحصيل بتظهيرها للبنك تظهيرا توكيليا كان على البنك واجب المطالبة بقيمة الورقة في موعدها المحدد لتسديدها، وإخبار عميله بجميع ما يطرأ على عملية التسديد مما قد يؤثر على حصوله في موعده المحدد، فإن لم يفعل أو حصل منه تساهل في ذلك حتى أضاع حق صاحب الورقة التجارية في الرجوع على ضامني الورقة كان مسئولا عن ذلك بقدر ما يضيع على عميله صاحب الورقة وما يتحمله من المصاريف في سبيل التداعي والمرافعة. فإذا استحصل البنك قيمة الورقة كان عليه أن يرسل المبلغ المستحصل إلى صاحبه. وعلى مالك الورقة أن يدفع للبنك عمولته التي جرى الاتفاق عليها بينهما مع المصاريف المتعلقة بالتحصيل، وإذا أفلس البنك والورقة التجارية لم تستحصل بعد حيث لا تزال في حوزة البنك فإن لمالكها حق التقدم بالمطالبة بإعادتها إليه، أما إن كان قد تسلم قيمتها ثم أفلس فتعتبر دينا لمالكها عليه، ويكون صاحب الورقة أسوة الغرماء. وقد يتساهل البنك مع عميله فيسلفه(40/76)
قيمة الورقة قبل استحصاله قيمتها، فإذا أفلس العميل فإن على البنك أن يرد الورقة إلى هيئة التصفية ويكون دينه أسوة الغرماء وتفاديا لمثل ذلك، فإن للبنك في حال طلب عميله إقراضه القيمة حتى حلول أجل استحقاق الورقة أن يطلب من عميله تظهيره الورقة تظهيرا كاملا بحيث تنتقل كامل ملكيتها إليه أو أن يظهرها العميل إليه تظهيرا تأمينيا لتكون قيمتها رهنا له في حقه، وفي هذه الأحوال يعتبر حق البنك مقدما على غيره من الغرماء إما باعتباره مالكا لقيمة الورقة التجارية أو مرتهنا إياها.(40/77)
التكييف الفقهي الإسلامي لعمليات التحصيل:
مر بنا أن من لازم التحصيل أن يقوم مالك الورقة التجارية بتظهيرها للمصرف الذي يكلفه بتحصيلها إذا كانت واجبة الدفع كالشيك، أو مؤجلا دفعها إلى وقت معين كالسند والكمبيالة تظهيرا توكيليا، وأنه في حال إفلاس المصرف والورقة التجارية لم تستحصل قيمتها بعد فإن على المصرف أن يعيد الورقة إلى صاحبها، وإذا تسلم البنك قيمتها ثم أفلس اعتبرت القيمة دينا عليه ويكون مالكها الدائن أسوة الغرماء. كما مر بنا أن رجال المال والاقتصاد لا يختلفون على أنفسهم بأن عملية التحصيل تعتبر عقد وكالة يترتب عليه كل ما تستلزمه الوكالة من حقوق وواجبات. وحيث إن خصائص التحصيل تكاد تجتمع مع خصائص الوكالة لذلك يمكن القول بأن التكليف بالتحصيل يعتبر وكالة والعمولة عليه تعتبر أجرة على الوكالة، وفي حال ما إذا كان البنك قد أسلف عميله مالك الورقة التجارية على اعتبار سداد القرض من قيمة الورقة بعد تحصيلها وأن عميله ظهرها له تظهيرا كاملا فيمكن القول بأن عملية(40/77)
التحصيل في هذه الحال ليست كعملية التحصيل في حال تظهير الورقة تظهيرا توكيليا، وإنما يعتبر التظهير عليها حوالة لها جميع الحقوق الثابتة للتظهيرات الكاملة، ويعتبر المظهر بحكم بقاء مسئوليته عن التسديد ضامنا للبنك تسديد قيمة الورقة من المسحوبة عليه، وقد سبق إيراد ما ذكرته الموسوعة الفقهية الكويتية من الوصف الفقهي لعمليات التظهير الكامل.
أما إن كان التظهير عليها تظهيرا تأمينيا فلا يختلف الأمر بالنسبة لاعتبار البنك وكيلا لعميله في تحصيل قيمة الورقة التجارية، وتعتبر الورقة رهنا للبنك فيما أسلفه للعميل له حق التقديم على الغرماء في حال الإفلاس بقدر قيمة الورقة وما زاد عليها كان البنك فيه أسوة الغرماء.(40/78)
عمليات الخصم:
الخصم عملية من العمليات المصرفية له طابع الائتمان من حيث إن البنك يعجل لعميله مالا حالا في نظير تملكه مالا أكثر منه غير حال ثقة منه باسترداد ذلك المال المؤجل في وقته المحدد.
وللخصم مزايا كثيرة أهمها تمكن حامل الورقة من قبض قيمتها قبل حلول أجلها كما أنه يتمكن من استعمالها في تسوية معاملاته التجارية في حين أن البنك يستطيع عن طريق مزاولة عمليات الخصم أن يجتذب له مجموعة كبيرة من العملاء يزاول معهم غالب عملياته المصرفية، وقد يجد البنك مصرفا آخر يخصم له ما يخصمه لغيره بأجر أقل مما أخذها على الغير، إلى غير ذلك من فوائد الخصم.
وقد اختلف علماء الاقتصاد والتجارة في تعريف الخصم تبعا لاختلافهم في ترتيب الآثار المتعلقة به، ولعل أشمل تعريف له ما نقله الدكتور علي جمال الدين عوض عن الأستاذ فان مال حيث عرفه بأنه عقد به يقدم(40/78)
شخص - هو غالبا بنك - نقدا لمالك حق نقدي لم يحل قيمة هذا الحق بعد خصم مبلغ يعوضه عن حرمانه من نقوده عن المدة الباقية حتى حلول الأجل. على أنه إذا لم يدفع الحق كان مقدم الورقة أن يرد للبنك المبلغ الذي عجله إليه مضافا إليه المبالغ التي اقتطعت، وأن على الخاصم أن يطالب بوفاء الحق عند حلول أجله، وإلا سقط حقه في الرجوع على مقدم الورقة للخصم إلا إذا أثبت أن عدم وفاء الحق ليس نتيجة تأخره في المطالبة، أو أن هذا التأخير ليس منسوبا إليه. ا. هـ (1) .
وغني عن البيان أن أهم ما يقصده البنك من عمليات الخصم هي الحصول على أجوره وفوائده، ويذكر الأستاذ علي البارودي أن أجر البنك يتكون من ثلاثة عناصر، الأول: مقدار الفوائد المستحقة عن قيمة الورقة التجارية في الفترة من ميعاد عملية الخصم وميعاد الاستحقاق، وتسمى هذه الفائدة سعر الخصم، ويتراوح بين الصعود والهبوط تبعا للظروف الاقتصادية المختلفة. ولا يجوز على أي حال أن يتجاوز سعر الخصم الحد الأقصى للفائدة الاتفاقية 7%. العنصر الثاني: هو العمولة التي يتقاضاها عن العملية ويقدرها حسب قيمة الكمبيالة المخصومة والأجل الباقي حتى ميعاد الاستحقاق وقدر المخاطرة التي يتعرض لها البنك. أما العنصر الثالث: فهو مصاريف التحصيل، وتختلف باختلاف مكان الوفاء أو مكان المسحوب عليه. ا. هـ (2) .
وقد اختلف علماء الاقتصاد في التكييف القانوني لعملية الخصم، فذهب بعضهم إلى القول بأن الخصم عبارة عن قرض مضمون بقيمة الورقة التجارية. ورد هذا القول بأن التظهير الواجب لعملية الخصم ينبغي أن
__________
(1) انظر عمليات البنوك من الوجهة القانونية صـ 468 \ 469.
(2) انظر العقود وعمليات البنوك التجارية صـ 397.(40/79)
يكون تظهيرا كاملا ناقلا للملكية، ولو كان على سبيل الضمان لكان التظهير تظهيرا تأمينيا. وذهب البعض الآخر إلى أن عملية الخصم عبارة عن بيع العميل ورقته التجارية بأقل من قيمتها مقابل تعجيل البنك المشتري دفع قيمتها وتظهيرها له تظهيرا كاملا. ولعل هذا الرأي أقرب إلى واقع الأمر، وإلى نحو هذا يشير الأستاذ علي جمال الدين عوض فيقول: فالخصم أساسا قريب جدا من فكرة الشراء. أي تبادل قيمتين فالعميل يتملك النقود والبنك يتملك الورقة وليس في ذلك خلاف. ا. هـ (1) .
وذهب الأستاذان علي البارودي وأدوار عيد إلى القول بأن عملية الخصم لا تعدو أن تكون تظهيرا ناقلا للملكية بحكم شروطه وآثاره وقواعد قانون الصرف، وأنه لا حاجة إلى بيان سبب التظهير هل هو حوالة أو قرض؛ لأنه يكفي أن يكون السبب موجودا وهو أن القيمة وصلت وأن تكون بيانات التظهير الناقل للملكية كاملة.
__________
(1) انظر عمليات البنوك من الوجهة القانونية صـ 476.(40/80)
الوصف الفقهي الإسلامي لعمليات الخصم:
لئن وجد الخلاف في تكييف طبيعة الخصم قانونيا هل هو قرض أو حوالة بحق أو بيع فإن الجميع متفقون على أن نتيجة الخصم هو تملك الخاصم لكامل قيمة الورقة التجارية بعد تظهيرها له تظهيرا كاملا.
وعلى أي حال فإن المسحوب عليه لا يخلو إما أن يكون هو القائم بعملية الخصم أو لا، فإن كان هو القائم بعملية الخصم فيمكن القول بأن الخصم يعتبر من قبيل الصلح عن المؤجل ببعضه حالا، وقد اختلف الفقهاء في حكمه فذهب بعضهم إلى أن ذلك غير جائز لأن الصلح في معنى البيع فكأنه باع عشرة بثمانية مثلا، وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن التفاضل في بيع الذهب(40/80)
بالذهب والفضة بالفضة، فقد روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (1) » متفق عليه.
وقال ابن حجر على حديث ابن أبي حدرد في باب الصلح بالدين والعين: قال ابن بطال: اتفق العلماء على أنه إن صالح غريمه عن دراهم بدراهم أقل منها جاز إذا حل الأجل، فإذا لم يحل الأجل لم يجز أن يحط عنه شيئا قبل أن يقبضه مكانه. ا. هـ (2) .
وذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك لما فيه من الإسراع ببراءة الذمة. قال في الاختيارات الفقهية: ويصح الصلح عن المؤجل ببعضه حالا، وهو رواية عن أحمد وحكي قولا للشافعي. ا. هـ (3) .
وسئل الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن الصلح عن المؤجل ببعضه حالا، فأجاب وأما الصلح عن المؤجل ببعضه حالا فالذي يظهر لي الصحة. وأجاب أيضا إذا كان لرجل على آخر عشرة أريل مثلا وأراد أن يعجل له بخمسة ويترك الباقي ففيه خلاف مشهور بين العلماء، قال في الإنصاف: ولو صالح عن المؤجل ببعضه حالا لم يصح، هذا هو المذهب نقله الجماعة عن أحمد وعليه جماهير الأصحاب، وفي الإرشاد والمبهج رواية يصح واختاره الشيخ تقي الدين لبراءة الذمة هنا، وكدين الكتابة جزم به الأصحاب في دين الكتابة ونقله ابن منصور. انتهى. والذي يترجح عندي هو القول الأخير، وهو الذي اختاره الشيخ تقي الدين - قدس الله روحه -. ا. هـ.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .
(2) فتح الباري جـ 5 صـ 311.
(3) الاختيارات الفقهية صـ 134.(40/81)
وسئل بعضهم عمن له ريالان عند رجل نسيئة وأخذ ريالا ونصفا فأجاب: الأئمة الأربعة لا يجوزونه وأفتى لنا عيال الشيخ بالجواز وهو الذي نعمل به الآن. ا. هـ (1) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي إجابة على سؤال عن ذلك: الصحيح جواز الصلح عن الدين المؤجل ببعضه حالا لأن فيه إسراع براءة الذمة ولا محذور فيه، وقصة بني النضير تدل عليه وكثيرا ما تدعو الحاجة إليه. ا. هـ (2) .
أما إذا كان الخاصم غير المسحوب عليه فلا نعلم خلافا بين أهل العلم في منع ذلك واعتباره من صريح الربا لأنه من قبيل بيع دراهم بدراهم أقل منها فضلا عن أنه لم يتم التقابض بين طرفي العقد في مجلسه.
وللأستاذ محمد باقر الصدر رأي في وصف عملية الخصم نستحسن إيراده إكمالا للفائدة فهو يقول:
وواضح أن عملية خصم الورقة التجارية هي في الواقع تقديم قرض من البنك إلى المستفيد لتلك الكمبيالة مثلا مع تحويل المستفيد البنك الدائن على محرر الكمبيالة، وهذا التحويل من الحوالة على مدين. وهناك عنصر ثالث إلى جانب القرض والتحويل وهو تعهد المستفيد الذي خصم الورقة لدى البنك بوفاء محرر الورقة عند حلول أجلها، فبحكم القرض يصبح المستفيد مالكا للمبلغ الذي خصم البنك به الكمبيالة، وبحكم الحوالة يصبح البنك دائنا لمحرر تلك الكمبيالة، وبحكم تعهد المستفيد بالوفاء يحق للبنك أن يطالب بتسديد قيمة الكمبيالة إذا تخلف محررها عن ذلك عند حلول موعدها
__________
(1) الدرر السنية جـ 5 صـ 138.
(2) الفتاوى السعدية صـ 336.(40/82)
وبحكم كون المحرر مدينا للبنك نتيجة للتحويل يتقاضى البنك منه فوائد على تأخير الدفع عن موعده المحدد وعلى هذا الأساس يصبح ما يقتطعه البنك الخاصم للكمبيالة من قيمة الكمبيالة لقاء الأجل الباقي لموعد حلول الدفع ممثلا للفائدة التي يتقاضاها على تقديم القرض إلى المستفيد الطالب للخصم وهو محرم لأنه ربا. وأما ما يقتطعه كعمولة لقاء الخدمة أو لقاء تحصيل المبلغ إذا كان يدفع في مكان آخر فهو جائز لأن العمولة لقاء الخدمة هي أجرة كتابة الدين التي تقدم أن بإمكان البنك أن يتقاضاها في كل قرض يقدمه، وأما العمولة لقاء تحصيل المبلغ في مكان آخر فهو من حق البنك أيضا - إلى أن قال - وهناك اتجاه فقهي إلى تكييف عملية خصم الكمبيالة على أساس البيع وذلك بافتراض أن المستفيد الذي تقدم إلى البنك طالبا خصم الورقة يبيع الدين الذي تمثله الورقة وهو مثلا مائة دينار - بخمسة وتسعين دينارا حاضرة فيملك البنك بموجب هذا البيع الدين الذي كان المستفيد يملكه في ذمة محرر الكمبيالة لقاء الثمن الذي يدفعه فعلا إليه فيكون من بيع الدين بأقل منه إلى آخر ما ذكره (1) .
وبعد فإن المسائل الجديرة من المجلس بإبداء رأيه الشرعي نحوها تتلخص فيما يلي:
1 - الإيداع بفائدة.
2 - الإيداع بلا فائدة.
3 - أخذ العمولة على الإيداع.
4 - أخذ العمولة على إيداع الوثائق والمستندات من حيث فتح الملف بذلك ومن حيث حفظها ومن حيث قيام البنك بلازم الوثائق من بيع وتحصيل أرباح ونحو ذلك.
__________
(1) البنك اللا ربوي في الإسلام صـ 156-160.(40/83)
5 - مسألة استئجار الخزائن الحديدية هل يعتبر ذلك إجارة أو وديعة أو وديعة مضمونة، وبالنسبة لأخذ العمولة على ذلك هل تعتبر أجرة للخزانة أو للحفظ أو على كل منهما.
6 - أخذ الفائدة وإعطاؤها على القروض.
7 - أخذ العمولة على فتح الاعتماد البسيط.
8 - أخذ العمولة والفائدة على الضمانات المصرفية - خطابات الضمان -.
9 - أخذ العمولة على الاعتماد المستندي. .
10 - الأوراق التجارية، تظهيرها، تحصيلها، خصمها. وأخذ العمولات على ذلك.
هذا ما تيسر إعداده، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
حرر في 16 \ 7 \ 1396هـ
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(40/84)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(40/85)
من الفتوى رقم 1883
س: قال إن النار تفنى وأول نعيم الجنة بأنه من قبيل المجاز والاستعارة؟
س: زعم بأن الكافر يخرج من النار؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: قامت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة على أن النار لا تفنى، وعلى تخليد الكافرين في النار وأنهم لا يخرجون منها، قال الله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} (1) ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} (2) ، وقال: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (3) {ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} (4) ، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (5) ، وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} (6) ، وقال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (7) {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} (8) {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} (9) {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} (10) {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} (11) ، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} (12)
__________
(1) سورة الجاثية الآية 35
(2) سورة النساء الآية 56
(3) سورة الإسراء الآية 97
(4) سورة الإسراء الآية 98
(5) سورة البقرة الآية 39
(6) سورة الجن الآية 23
(7) سورة الزخرف الآية 74
(8) سورة الزخرف الآية 75
(9) سورة الزخرف الآية 76
(10) سورة الزخرف الآية 77
(11) سورة الزخرف الآية 78
(12) سورة البقرة الآية 165(40/86)
إلى أن قال: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (1) ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} (2) {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} (3) ، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (4) {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (5) وقال: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} (6) {لِلطَّاغِينَ مَآبًا} (7) إلى أن قال: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} (8) إلى غير ذلك من الآيات التي يدل كل منها على تخليد الكفار في النار، وعدم خروجهم منها وعدم فنائها، فإذا اجتمعت كانت دلالتها على ذلك أقوى وأبعد عن التأويل.
أما الجنة فدار الجزاء يوم القيامة لمن آمن وعمل الصالحات، فيها من النعيم ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يتمتع بها من دخلها متاعا حقيقيا حسيا وروحيا، ويحيون فيها حياة أبدية أمنية فلا فناء ولا خروج منها ولا انقطاع لنعيمها ولا نغص ولا كدر بالنصوص القطعية وإجماع أهل العلم والإيمان، قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} (9) ، وقال
__________
(1) سورة البقرة الآية 167
(2) سورة الأعراف الآية 40
(3) سورة الأعراف الآية 41
(4) سورة فاطر الآية 36
(5) سورة فاطر الآية 37
(6) سورة النبأ الآية 21
(7) سورة النبأ الآية 22
(8) سورة النبأ الآية 30
(9) سورة الرعد الآية 35(40/87)
تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (1) {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (2) {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (3) {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (4) ، وقال تعالى: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} (5) {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} (6) {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} (7) {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} (8) {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ} (9) {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} (10) .
وقال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (11) {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} (12) {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} (13) {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} (14) {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (15) {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (16) {لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} (17) .
وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (18) يعنى بالاستثناء: المدة التي شاء الله ألا يكونوا بالجنة قبل دخولها، ولذا ختم الآية بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (19) تأكيدا لدوام نعيمها يتمتع به من فاز بدخولها، ونظيره الاستثناء في سورة الدخان قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (20) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (21) {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} (22) {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (23) {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} (24) {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (25) {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (26) .
__________
(1) سورة الحجر الآية 45
(2) سورة الحجر الآية 46
(3) سورة الحجر الآية 47
(4) سورة الحجر الآية 48
(5) سورة ص الآية 49
(6) سورة ص الآية 50
(7) سورة ص الآية 51
(8) سورة ص الآية 52
(9) سورة ص الآية 53
(10) سورة ص الآية 54
(11) سورة الزخرف الآية 67
(12) سورة الزخرف الآية 68
(13) سورة الزخرف الآية 69
(14) سورة الزخرف الآية 70
(15) سورة الزخرف الآية 71
(16) سورة الزخرف الآية 72
(17) سورة الزخرف الآية 73
(18) سورة هود الآية 108
(19) سورة هود الآية 108
(20) سورة الدخان الآية 51
(21) سورة الدخان الآية 52
(22) سورة الدخان الآية 53
(23) سورة الدخان الآية 54
(24) سورة الدخان الآية 55
(25) سورة الدخان الآية 56
(26) سورة الدخان الآية 57(40/88)
فاستثنى موتة سابقة من موت منفي مستقبلا لإفادة تأبيد الحياة وتأكيد دوامها، أو المراد بالاستثناء ببيان عموم مشيئة الله ونفوذها في كل شيء، فدخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار وخلود كل من الفريقين فيما دخل فيه من نعيم أو عذاب إنما كان بمشيئة الله واختياره وفضله وعدله لا واجبا عليه عقلا ولا يحصل كرها عنه ولا قهرا له تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وثبت في السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ينادي مناد: يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبئسوا أبدا (1) » رواه مسلم، وثبت أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح إلى أن قال: فيؤمر به فيذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت (2) » إلخ رواه مسلم في صحيحه، وأكد سبحانه خلود الجنة والنار وأبديتهما، وخلود المؤمنين في الجنة، والكافرين في النار، في آيات كثيرة من القرآن، وفصلت السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفصيلا لا يدع مجالا للشك في حقيقته ولا لتأويل النصوص الصريحة، فمن شك فيه أو تأوله فقد اتبع هواه وحرف الكلم عن مواضعه وكان من الكافرين.
س: تحدث في آخر كتاب له صدر قريبا سماه - النار مستشفى - تحدث عن النار وصورها بأنها مستشفى، وأن رحمة الله في الآخرة تشمل الكافر، وفي معرض استشهاده قال: إن القول في ابن آدم المشار إليه في حديث الرسول - صلى الله عيه وسلم -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له (3) » بأن المراد بابن آدم هنا المسلم فقط يعتبر ضيقا في الفهم وليس عدلا.
ج: النار تعتبر عقوبة مؤقتة بالنسبة لمن دخلها من عصاة المؤمنين،
__________
(1) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2837) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3246) ، مسند أحمد بن حنبل (3/95) ، سنن الدارمي الرقاق (2821) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4730) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2849) ، سنن الترمذي صفة الجنة (2558) ، مسند أحمد بن حنبل (3/9) .
(3) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .(40/89)
أما بالنسبة للكافرين فهي عقوبة أبدية لهم ولا يخرجون منها ولا هم يستعتبون، للأدلة التي تقدمت، وعلى هذا فتشبيه النار بالمستشفى خطأ؛ لأن النار عقوبة لمن دخلها، والمستشفى رحمة لمن دخله يخدم فيه ويغذى الغذاء النافع له ويعالج من مرضه رجاء الشفاء، فليس دخول المريض فيه لعقوبته وإيذائه بل لقصد نفعه وعلاجه رحمة به لا سخطا عليه.
وأما المراد بابن آدم في الحديث المذكور في السؤال: فهو من مات مسلما لا من مات كافرا، للأدلة الدالة على أن من مات على الكفر حبط عمله الصالح فلا يجوز عليه في الآخرة بل تعجل له طيباته في الحياة الدنيا، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (2) ، وقال: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3) {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (4) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5) ، وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} (6) ، وقال: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} (7) ، وقال: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (8)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 116
(2) سورة آل عمران الآية 117
(3) سورة هود الآية 14
(4) سورة هود الآية 15
(5) سورة هود الآية 16
(6) سورة إبراهيم الآية 18
(7) سورة الأحقاف الآية 20
(8) سورة الفرقان الآية 23(40/90)
الفرقان.
وليس في هذا ظلم ولا جور لأنه هو الذي ظلم نفسه بكفره الذي حبط به عمله كما أخبر الله الحكم العدل، كما أنه ليس فيه ضيق فهم بل فيه نور بصيرة واهتداء بهدي نصوص الشريعة الواضحة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(40/91)
من الفتوى رقم 9424
س: هل صحيح أن نار الدنيا التي نطهي عليها الطعام هي دخان نار يوم القيامة والعياذ بالله؟
الحمد له وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: ليس ذلك بصحيح، وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اشتد الحر(40/91)
فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم (1) » رواه البخاري وأصحاب السنن، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «ناركم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم، قيل: يا رسول الله إن كانت لكافية، قال: فضلت عليهم بتسعة وستين جزءا كلهم مثل حرها (2) » رواه البخاري.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 2 \ 229 و 238 و 256 و 266 و 318 و 348 و 377 و 393 و 394 و400 و 411 و 462 و 501 و 507 و 3 \ 9 و 52 و 59 و 4 \ 250 و 262 و 5 \ 155 و162 و 176 و 368، والبخاري برقم 533 و534 و 536 و 535 و 539 و 629 و 3258، ومسلم برقم 615 و 616، وأبو داود برقم 401 و402، والترمذي برقم 151 و158، وابن ماجة برقم 677، والنسائي في المجتبى 1 \ 249.
(2) البخاري برقم 3265 والترمذي برقم 2589 و 2590، وابن ماجة برقم 4318.(40/92)
فتوى رقم 6465
س: يتضمن أن رجلين اختلفا في أهل الفترة، فقال الأول: إنهم ناجون، وقال الآخر: إنهم غير ناجين؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: إن من بلغته الدعوة للإسلام ممن كان قبله أو في زمنه ولم يجب(40/92)
ومات على ذلك فهو من أهل النار، ومن لم تبلغه الدعوة فإنه يمتحن يوم القيامة كما صحت في ذلك السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(40/93)
من غير في دين الله
من الفتوى رقم 6342
س: هل ورد حديث بأن رسول الله - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - رأى أثناء صلاته عمرو بن لحي يتقلب في نار جهنم، وهو أول من أدخل عبادة الأصنام في الكعبة أو في جزيرة العرب، وهل يعتبر هذا الحديث الصحيح - إن ثبتت صحته - دليلا على عدم كراهية استقبال المصلي لمثل تلك المدافئ الكهربائية أوالنفطية أو الغازية؟
أفتونا بالحق أثابكم الله تعالى، وجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اجعلنا من أولي الألباب الذين يطبقون على أنفسهم وعلى عوائلهم الكتاب والسنة إنك أنت السميع العليم القريب المجيب الدعاء.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:(40/93)
ج: أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبة في النار كان أول من سيب السوائب (1) » وفيه أيضا عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا، ورأيت عمرا يجر قصبة وهو أول من سيب السوائب (2) » ولا دلالة في هذه الأحاديث على استقبال النار ونحوها كالآلات الكهربائية والنفطية الخاصة بالتدفئة، ولا أنه رآه وهو في الصلاة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 2 \ 275، 366، والبخاري برقم 3521، 3523، ومسلم برقم 904 و 2856.
(2) البخاري برقم 1212، ومسلم برقم 901.(40/94)
أبناء الكفار
من الفتوى رقم 6542
س: ما مصير أبناء الكفار يوم القيامة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: الصحيح من أقوال العلماء أن الله تعالى يمتحنهم يوم القيامة، فمن أطاع فهو من أهل الجنة، ومن عصى فهو من أهل النار، وفي هذا تفسير لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الله أعلم بما كانوا عاملين (1) » جوابا لمن سأله عن أولاد الكفار.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 1 \ 215 و 2 \ 242 و 253 و 259 و 268 و 315 و 393 و 464 و 471 و 481 و 518 و 6 \ 84، والبخاري برقم 1383 و 1384 و 6597 و 6598، ومسلم برقم 660 و 2659، وأبو داود برقم 4711، والنسائي في المجتبى 4 \ 59.(40/95)
من الفتوى رقم 7790
س: يقال يا فضيلة الشيخ أن المولود عندما يولد يكتب على جنبيه سعيد أم شقي، فما هو الحكم على من يتوفى وهو صغير ولم يحظ بالسعادة ولا الشقاوة؟
الحمد له وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: هذا حكمه في الدنيا حكم أهله، فإن كان بين المسلمين غسل وصلي عليه، وله حكمهم في الآخرة، أما إن كان بين المشركين فحكمه(40/95)
حكمهم في الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه؛ لأنه تبعهم، «لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن يقتل من أولاد المشركين: هم منهم» أما في الآخرة فأمرهم إلى الله، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما «سئل عن أولاد المشركين قال: الله أعلم بما كانوا عاملين (1) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1383) ، صحيح مسلم القدر (2660) ، سنن النسائي الجنائز (1951) ، سنن أبو داود السنة (4711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/358) .(40/96)
من الفتوى رقم 511
س: يتضمن عن إبليس هل هو من الملائكة أم من جنس آخر، وإذا كان من جنس آخر فما وجه الاستثناء في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (1) {إِلَّا إِبْلِيسَ} (2)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: لا يخفى أن الملائكة جنس من مخلوقات الله، خلقهم الله من نور، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأما إبليس فقد ذكر الله تعالى أنه من الجن وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (3) ، وذكر تعالى عنه قوله في تبرير امتناعه في السجود لآدم: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} (4) أما وجه الاستثناء في قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (5) {إِلَّا إِبْلِيسَ} (6)
__________
(1) سورة الحجر الآية 30
(2) سورة الحجر الآية 31
(3) سورة الكهف الآية 50
(4) سورة ص الآية 76
(5) سورة الحجر الآية 30
(6) سورة الحجر الآية 31(40/96)
فهو استثناء منقطع، كقول القائل: جاء القوم إلا حمارا، وهناك من أهل العلم من يقول بأن إبليس - لعنه الله - من جنس الملائكة إلا أنه عصى الله تعالى وأصر على التمرد والعصيان فحقت عليه لعنة الله إلى يوم القيامة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(40/97)
فتوى رقم 2331
س: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خلق الله آدم على صورته ستون ذراعا (1) » فهل هذا الحديث صحيح؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: نص الحديث: «خلق الله آدم على صورته طوله ستون ذراعا (2) » ثم قال: «اذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك، فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا السلام عليك ورحمة الله، فزادوه ورحمة الله، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم طوله ستون ذراعا، فلم يزل الخلق تنقص بعده إلى الآن (3) » رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم.
وهو حديث صحيح، ولا غرابة في متنه فإن له معنيان:
الأول: أن الله لم يخلق آدم صغيرا قصيرا كالأطفال من ذريته ثم نما
__________
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6227) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) ، مسند أحمد بن حنبل (2/315) .
(2) صحيح البخاري الاستئذان (6227) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) ، مسند أحمد بن حنبل (2/315) .
(3) أحمد 2 \ 315، والبخاري برقم 6227، ومسلم برقم 2841، وابن خزيمة في كتاب التوحيد برقم 43 و 44.(40/97)
وطال حتى بلغ ستين ذراعا، بل جعله يوم خلقه طويلا على صورة نفسه النهائية طوله ستون ذراعا.
والثاني: أن الضمير في قوله: على صورته يعود على الله بدليل ما جاء في رواية أخرى صحيحة: «على صورة الرحمن (1) » وهو ظاهر السياق ولا يلزم على ذلك التشبيه، فإن الله سمى نفسه بأسماء سمى بها خلقه، ووصف نفسه بصفات وصف بها خلقه، ولم يلزم من ذلك التشبيه، وكذا الصورة، ولا يلزم من إتيانها لله تشبيهه بخلقه؛ لأن الاشتراك في الاسم وفي المعنى الكلي لا يلزم منه التشبيه فيما يخص كلا منهما، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) .
س2: عن أبي هريرة - رضي ال له عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة (3) » فهل هذا الحديث صحيح؟
ج: هذا الحديث صحيح، رواه الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه والترمذي في سننه، ولا غرابة فيه، فإن لله أن يخص ما شاء من الأيام بالفضيلة، وأن يكرم من شاء من خلقه بما شاء، كما فضل يوم عرفة ويوم النحر على بقية أيام السنة وخصهما بمزايا لا توجد في غيرهما.
س3: هل الشيطان كان من الملائكة قبل أن يأمره الله تعالى بالسجود لآدم عليه السلام؟
__________
(1) الطبراني كما في فتح الباري 5 \ 183، وابن خزيمة في التوحيد برقم 41، والبيهقي في الأسماء والصفات 291، وابن أبي عاصم في السنة 2 \ 229، والآجري في الشريعة 315.
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) صحيح مسلم الجمعة (854) ، سنن الترمذي الجمعة (491) ، سنن النسائي الجمعة (1430) ، مسند أحمد بن حنبل (2/418) .(40/98)
ج: اختلف العلماء في إبليس هل هو من الملائكة أو من الجن، فقال جماعة هو من نوع من الملائكة خلقوا من نار السموم، وخلق غيرهم من الملائكة من نور، واستدلوا على ذلك بأنه لو لم يكن من الملائكة لما كان مأمورا بالسجود لآدم ولا أنكر عليه عدم سجوده له، وبأن الأصل في الاستثناء الاتصال؛ بأن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، وقد قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} (1) فاستثنى إبليس بعد الملائكة فدل على أنه منهم.
وقال آخرون: إنه ليس من الملائكة بل من الجن، لقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (2) ولأنه خلق من نار السموم، والملائكة خلقت من نور، ولأن له ذرية تتوالد والملائكة لا تتوالد، واختار ابن جرير الطبري (3) القول الأول، وأجاب عما استدل به للقول الثاني: بأن الملائكة منهم من خلق من نور، ومنهم من خلق من نار السموم، وإبليس من صنف الملائكة الذين خلقوا من نار السموم، وبأنه لا دليل على أن الصنف الذي خلق من نار السموم لا يتوالد، وبأن الله إنما قال فيه: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} (4) من أجل أنه من قبيلة من الملائكة تسمى الجن، أو قيل له جان لاختفائه كما سمى غيره من الملائكة جنة في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} (5) لاختفائهم، وعلى القول بأنه من الجن يكون دخوله في أمر الله ملائكته بالسجود لآدم من أجل كونه مختلطا بهم، وعلى كل حال هذه مسألة لا تترتب عليها فائدة عملية والنزاع فيها لا طائل تحته.
__________
(1) سورة الكهف الآية 50
(2) سورة الكهف الآية 50
(3) 1 \ 507 تحقيق أحمد شاكر.
(4) سورة الكهف الآية 50
(5) سورة الصافات الآية 158(40/99)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(40/100)
من الفتوى رقم 6304
س: ما هو عقاب الشيطان هل يدخل النار مثل شخص مسلم لم يؤد فريضة من فرائض الله - عز وجل - قط في حياته، أو أن النار درجات مثل الجنة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: عقاب إبليس وأتباعه جهنم، كما أخبر الله سبحانه في كتابه، قال تعالى: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} (1) {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (2) والنار درجات كما أن الجنة درجات، نبه أهل العلم عليه في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (3) وقال تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (4) {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (5) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة ص الآية 84
(2) سورة ص الآية 85
(3) سورة النساء الآية 145
(4) سورة آل عمران الآية 162
(5) سورة آل عمران الآية 163(40/100)
فتوى رقم 5382
س: ما هو معنى الآيات {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (1) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} (3) {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (4) فلقد سمعت بعض أهل العلم يقول أن معنى هذه الآيات السالفة الذكر أن الله سبحانه أعطى الإنسان مشيئة ثم تركة يختار لنفسه ما يشاء، ولم يكن لله نعمة وتوفيق خص بهما من آمن، وخذلان خص به من كفر، فهل هذا القول موافق لقول أهل السنة والجماعة؟ ما معنى: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (5) وغيرها من الآيات التي توضح أن الله لا يظلم عباده شيئا، ولقد سمعت بعض أهل العلم يفسر هذه الآيات بمعنى أن الله سبحانه عادل فلا يمكن أن يجعل أحدا من الناس كافرا ثم يعذبه على كفره، بل الإنسان هو الذي يبدأ في الكفر والله يزيده في كفره ولا يمكن أن يبتدئ الله أحدا بالضلال، فهل هذا المعنى والتفسير للظلم المنفي عن الله صحيح؟ لقد قرأت ما كتبه ابن حزم الظاهري في القدر في كتابه الملل والنحل فهل ما قرره هو مذهب أهل السنة والجماعة أم مذهب الجبرية؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد:
ج: أولا: يجب على المسلم أن يؤمن بالقدر خيره وشره، وسبق أن صدر منا فتوى في معنى القدر برقم 4088 هذا نصها: ما معنى القدر مع تفصيل شامل؟
معناه أن الله سبحانه وتعالى علم الأشياء كلها قبل وجودها وكتبها عنده
__________
(1) سورة التكوير الآية 28
(2) سورة التكوير الآية 29
(3) سورة المدثر الآية 55
(4) سورة المدثر الآية 56
(5) سورة الكهف الآية 49(40/101)
وشاء ما وجد منها وخلق ما أراد خلقه، وهذه هي مراتب القدر الأربع التي يجب الإيمان بها، ولا يكون العبد مؤمنا بالقدر على الكمال حتى يكون مؤمنا بها، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه «أجاب جبريل لما سأله عن الإيمان قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره (1) » رواه مسلم في صحيحه، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبادة بن الصامت أنه قال له: «إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك (2) » الحديث. وقد أوضح هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في العقيدة الواسطية نوصيك بمراجعتها وحفظها.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/27) .
(2) سنن الترمذي القدر (2155) ، سنن أبو داود السنة (4700) .(40/102)
وفتوى أخرى في معنى التسيير والتخيير برقم 4013 هذا نصها: الإنسان مخير ومسير، أما كونه مخيرا فلأن الله سبحانه أعطاه عقلا وسمعا وبصرا وإرادة فهو يعرف بذلك الخير من الشر والنافع من الضار ويختار ما يناسبه، وبذلك تعلقت به التكاليف من الأمر والنهي واستحق الثواب على طاعة الله ورسوله والعقاب على معصية الله ورسوله. وأما كونه مسيرا فلأنه لا يخرج بأفعاله وأقواله عن قدر الله ومشيئته كما قال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (1) وقال سبحانه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (2) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (3) وقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (4) الآية، وفي الباب آيات كثيرة وأحاديث صحيحة كلها تدل على ما ذكرنا لمن تأمل الكتاب والسنة.
ثانيا: تفسير الآيات المذكورة في السؤال وما ورد في معناها أن كل
__________
(1) سورة الحديد الآية 22
(2) سورة التكوير الآية 28
(3) سورة التكوير الآية 29
(4) سورة يونس الآية 22(40/102)
شيء يجري بقدر الله ومشيئته، ومشيئته نافذة لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم كان وما لم يشأ لم يكن، وسبق بيان ذلك في الفتوى آنفا، وما ذكرنا هو قول أهل السنة والجماعة، وما ذكر في السؤال من القول بنفي القدر مخالف لما هم عليه.
ثالثا: الذي دلت عليه الأدلة من القرآن والسنة من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد يقتضي قولا وسطا بين قولي القدرية والجبرية، فليس ما كان من بني آدم ظلما وقبيحا يكون منه تعالى ظلما وقبيحا كما تقوله القدرية المجبرة والقدرية النفاة، فإن ذلك تمثيل لله بخلقه وقياس له عليهم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، قال تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} (1) وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) .
رابعا: مما تقدم يتضح لك مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وما سواه باطل.
ونوصيك بمراجعة (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) للعلامة ابن القيم رحمه الله، فإنه مفيد جدا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النحل الآية 74
(2) سورة الشورى الآية 11(40/103)
توفيق الله العبد للإيمان
فتوى رقم 8070
س: يوفق الله تعالى العبد للإيمان ابتداء أم العبد يختار الإيمان والله يوفقه ويمده، وهل يخول الخالق العبد ابتداء قبل اختياره للكفر أم العبد يختار الكفر ثم يخذله الله، هل علم الله بسابق علمه الأزلي بأن من عباده من سيختار الهدى بملء إرادتهم وطوعهم واختيارهم فكتبهم من أهل السعادة قبل أن يخلقهم، وأن من عباده من سيختار الضلال بملء إرادتهم وطوعهم واختيارهم فكتبهم من أهل الضلال أم الأمر تقدير، مع التسليم بأن الله تعالى عادل حكيم عليم يفعل ما يشاء؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: بعث الله سبحانه الرسل وأنزل عليهم الكتب مبشرين ومنذرين إلى جميع الأمم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ووفق من شاء من عباده إلى الإيمان فضلا منه ورحمة، وخذل من شاء منهم فلم يوفقه للإيمان حكمة منه وعدلا، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) كما علم سبحانه في علمه السابق قبل خلق الخلق أن من عباده مؤمنين سيدخلهم الجنة، وأن منهم كافرين سيدخلهم النار.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة يونس الآية 25(40/104)
تمني الموت
من الفتوى رقم 6354
س: أنا شاب أعاني من حالة نفسية صعبة للغاية وكنت دائما حتى الآن أتمنى الموت ليرتاح الإنسان، فهل يجوز ذلك، وماذا أعمل؛ لأن ديني وإسلامي ضعيف وأهلي يلوموني وكل الناس يلوموني؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: لا يجوز لك أن تتمنى الموت لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان لا محالة فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي (1) » .
وننصحك بالتوبة والاستغفار، وكثرة الطاعات، والمحافظة على الفرائض، والقرب من أهل الخير، وكثرة مجالستهم، والبعد عن الأشرار ومجالستهم، عسى الله أن يعافيك ويشرح صدرك للحق.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6351) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2680) ، سنن الترمذي الجنائز (971) ، سنن النسائي الجنائز (1821) ، سنن أبو داود الجنائز (3108) ، سنن ابن ماجه الزهد (4265) ، مسند أحمد بن حنبل (3/101) .(40/105)
المولود يولد على الفطرة
فتوى رقم 6334
س: هو أن الحديث الشريف يقول: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه (1) » الحديث، وحديث آخر يقول: «يكتب رزقه وعمله وشقي أو سعيد (2) » أريد التفصيل والبيان وما الفرق بين الحديثين؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: حديث «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (3) » رواه البيهقي والطبراني في المعجم الكبير، وأخرجه الإمام مسلم بلفظ: «كل إنسان تلده أمه على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (4) » وأخرجه الإمام البخاري بلفظ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كمثل البهيمة تنتج البهيمة هل ترى فيها من جدعاء (5) » .
ومعنى ذلك أن الإنسان مفطور على الإسلام بالقوة لكن لا بد من تعلمه بالفعل، فمن قدر الله كونه من أهل السعادة فيهيئ الله له من يعلمه سبيل الهدى فصار مهيئا بالفعل، ومن خذله وأشقاه سبب له من يغير فطرته ويثني عزيمته كما جاء في تحويل الأبوين لابنهما إلى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية.
ثانيا: في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق قال: «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1385) ، صحيح مسلم القدر (2658) ، سنن الترمذي القدر (2138) ، سنن أبو داود السنة (4714) ، مسند أحمد بن حنبل (2/275) ، موطأ مالك الجنائز (569) .
(2) صحيح البخاري التوحيد (7454) ، صحيح مسلم القدر (2643) ، سنن الترمذي القدر (2137) ، سنن أبو داود السنة (4708) ، سنن ابن ماجه المقدمة (76) ، مسند أحمد بن حنبل (1/430) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1385) ، صحيح مسلم القدر (2658) ، سنن الترمذي القدر (2138) ، سنن أبو داود السنة (4714) ، مسند أحمد بن حنبل (2/275) ، موطأ مالك الجنائز (569) .
(4) صحيح البخاري الجنائز (1359) ، صحيح مسلم القدر (2658) ، سنن الترمذي القدر (2138) ، سنن أبو داود السنة (4714) ، مسند أحمد بن حنبل (2/315) ، موطأ مالك الجنائز (569) .
(5) صحيح البخاري الجنائز (1385) ، صحيح مسلم القدر (2658) ، سنن الترمذي القدر (2138) ، سنن أبو داود السنة (4714) ، مسند أحمد بن حنبل (2/275) ، موطأ مالك الجنائز (569) .(40/106)
ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها (1) » ومعنى كتابة الشقاوة والسعادة أنها كتابة أزلية باعتبار ما سبق في علم الله، وأن الخواتيم تكون بحسب ما سبق في علم الله.
ثالثا: بتأمل معنى الحديث الأول والحديث الثاني بالنظر لمحل السؤال يتبين أنه لا معارضة بينهما، فإن الإنسان مفطور على الخير بالقوة، فإن كان من أهل السعادة في علم الله وبحسب الخاتمة هيأ الله له من يدله على طريق الخير، وإن كان من أهل الشقاوة في علم الله قيض له من يصرفه عن طريق الخير ويصاحبه في طريق الشر ويحثه عليه ويلازمه حتى يختم له بخاتمة سيئة.
وقد تكاثرت النصوص بذكر الكتاب السابق بالسعادة والشقاوة، ففي الصحيحين عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة أو النار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، فقال رجل يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل، فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: (4) » . الآيتين، وفي هذا الحديث أن
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3208) ، صحيح مسلم القدر (2643) ، سنن الترمذي القدر (2137) ، سنن أبو داود السنة (4708) ، سنن ابن ماجه المقدمة (76) ، مسند أحمد بن حنبل (1/414) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4948) ، صحيح مسلم القدر (2647) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3344) ، سنن أبو داود السنة (4694) ، سنن ابن ماجه المقدمة (78) ، مسند أحمد بن حنبل (1/129) .
(3) سورة الليل الآية 5 (2) {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}
(4) سورة الليل الآية 6 (3) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}(40/107)
السعادة والشقاوة قد سبق الكتاب بهما، وأن ذلك مقدر بحسب الأعمال، وأن كلا ميسر لما خلق له من الأعمال التي هي سبب السعادة والشقاوة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(40/108)
التسخط وعدم الرضا بالقدر
من الفتوى رقم 6356
س: ما حكم الدين في شان جمعين من المسلمين الأول يملك المال بلا حساب والجمع الآخر لا يعرف حتى على سبيل المثال شكل المال في أمس الحاجة إليه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1) الآيات، لكن إن كسب الغني ماله من طرق جائزة وأدى حق الله وحقوق العباد فيه كان شاكرا
__________
(1) سورة الزخرف الآية 32(40/108)
لنعمة الله فيما آتاه، أهلا لمرحمة الله والمزيد من فضله، وإلا فهو كافر لنعمة الله ظالم يستحق العقوبة من الله، قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (1) .
ومن لم يؤت حظا من المال لعجزه عن الكسب له، أو لأن الله تعالى لم يهيئ له الأسباب ابتلاء وامتحانا حكمة منه وعدلا فالواجب عليه الصبر والاحتساب والأخذ في الأسباب المباحة المقيدة حسب الطاقة، وقد جعل له سبحانه حقا في مال الأغنياء من الزكاة وغيرها، وعلى ولاة الأمور أن يعولوه ويعطوه ما يسد حاجته رحمة به، وأداء لواجب الأخوة، وشكرا لنعمة الله، والله أرحم بعباده منهم بأنفسهم، ومن كان قلة ذات يده لكسله وتقاعده عن الكسب اعتمادا على فضول أموال الناس وما يأتيه من فتات موائدهم فقد أساء إلى نفسه وأهانها بوقوفه ذليلا أمام أعتاب الأغنياء، وخالف شريعة ربه التي حثت على الكسب وعلى عزة النفس، وحذرت من البطالة وإراقة ماء الوجه، ولا يظلم ربك أحدا، بل هو حكم عدل لطيف بعباده عليم خبير يصرف الأمور كلها بمشيئته وحكمته: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 7
(2) سورة آل عمران الآية 26(40/109)
من الفتوى رقم 8052
س: أفطر في نهار رمضان لما رأى الله - عز وجل - قد أعطى غيره الذي لم يجد في عمله ولم يعطه هو حيث إنه كان مجدا في عمله ثم تدارك نفسه بعد ذلك وندم، فماذا يفعل وما حكم اليوم الذي أفطره؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: إذا كان الواقع كما ذكر فعمل ذلك الشخص ضلال مبين، فإنه سخط على قضاء الله واتهام له سبحانه بالظلم، والله سبحانه عليم حكيم لا يظلم مثقال ذرة، لكنه قد يعطي الفاجر استدراجا، ويدخر عطاءه للمطيع ليضاعفه له يوم القيامة فضلا منه وإحسانا، وعلى ذلك الشخص أن يتوب إلى الله ويستغفره ويندم على ما فرط منه ويعزم على عدم العودة إليه، وعليه قضاء اليوم الذي أفطره فقط إذا كان بغير جماع، فإن كان فطره بجماع فعليه القضاء والكفارة، وهي: عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فعليه أن يصوم شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا، ثلاثين صاعا من قوت البلد لكل واحد نصف صاع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(40/110)
من الفتوى رقم 8844
س: امرأة قلقة لكونها لم تحمل وتلجأ أحيانا إلى البكاء والتفكير الكثير والزهد من هذه الحياة، فما هو الحكم وما هي النصيحة لها؟(40/110)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: لا ينبغي لهذه المرأة أن تقلق وتبكي لكونها لم تحمل؛ لأن إيجاد الاستعداد الكوني في الرجل والمرأة لإنجاب الأولاد ذكورا فقط أو إناثا فقط أو جمعا بين الذكور والإناث وكون الرجل والمرأة لا ينجبان كل ذلك بتقدير الله جل وعلا، قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} (1) {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (2) فهو جل وعلا عليم بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام، قدير على ما يشاء من تفاوت الناس في ذلك، وللسائلة أسوة في يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم - عليهما الصلاة والسلام - فإن كلا منهما لم يولد له، فعليها أن ترضى وتسأل الله حاجتها فله الحكمة البالغة والقدرة القاهرة.
ولا مانع من عرض نفسها على بعض الطبيبات المختصات، والطبيب المختص عند عدم وجود الطبيبة المختصة، لعله يعالج ما يمنع الإنجاب من بعض العوارض التي تسبب عدم الحمل، وهكذا زوجها ينبغي أن يعرض نفسه على الطبيب المختص؛ لأنه قد يكون المانع فيه نفسه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الشورى الآية 49
(2) سورة الشورى الآية 50(40/111)
عدم الندم على ما فات
من الفتوى رقم 6574
س: ما العصمة التي تعصمني من الندم إذا رأيت زميلاتي وقد تخرجن، وليكن لدى سماحتكم علما بأن جميع من حولي أبي وأمي وأخواتي وزوجي قد تركوا الأمر لي، حيث إنهم يخافون أن أترك لهم عواقب الأمور، وحيث إنني كنت أعاني من (مرض نفسي) وهذا يجعل طبعاتي متغيرة، فأخشى أن يأتي يوم ولا أطيق حياة الزوجية والفرار من المنزل؟
أما عن زواجي فما المعاملة الإسلامية التي يجب أن أكون عليها تجاه زوجي ومنزلي، وما هو الحلال والحرام في حقوق الزوجين، لقد اختلطت الأمور على كثير من الناس فيحلون هذا ويحرمون ذاك دون علم، إن إخوتي على قدر من الدين وملتزمون ولكنني أحرج من أن أسألهم في أي شيء من قبيل ذلك، وأنا لا أستطيع أن أقطع الأمر بخصوص الدراسة قطعا أكيدا فأرجو أن تساعدني سماحتك بالرد الذي يقيني شر الخطأ والمعصية، ولسوف يجزيك الله كل الخير إن شاء الله. وإن كنت أرجو من سيادتكم أن ترسلوا إلي بعض الكتب عن علاج المرض النفسي بالطريقة الإسلامية، أو عن حياة الأسرة الإسلامية وكيفية المساهمة والمشاركة في بناء مجتمع إسلامي، وكيف أستطيع المداومة على الصلاة وحفظ الصوم وحفظ النفس في كل وقت ومن كل ما يمسها، إنني محتشمة وعلى قدر من الدين والحمد لله، فرجائي من سماحتكم مساعدتي، ولسماحتكم كل الخير عند الله إن شاء الله؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: واجب المسلم إذا اختار أمرا ما يظن الخير فيه وجاء الأمر بخلاف(40/112)
ما ظنه ألا ييأس ولا يأسف على ما فاته بل يحمد الله على ما حصل له ويرجع الأمور إلى الله سبحانه وتعالى الذي يدبرها بحكمة ومصلحة يعلمها، يظهرها تارة ويخفيها ابتلاء وامتحانا تارة أخرى، قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (1) {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (2) {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (3) .
ثانيا: يشرع في حقك أن تعاشري زوجك وتعامليه بالحسنى والمعروف وأن تقومي له بمثل ما يقوم به أمثالك لأزواجهن، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (4) وأن تتعاوني معه على البر والتقوى ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وإن تيسر لك قراءة سير بعض الصحابيات وما يقمن به تجاه أزواجهن من خدمة فذلك حسن وسيفيدك إن شاء الله.
ثالثا: عليك أن تعتصمي بكتاب الله سبحانه، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن تكوني على صلة دائمة بكتابه سبحانه تلاوة وتدبرا وعلما وعملا ففيه الضمان والأمان.
قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (5) {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (6) {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} (7) {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (8) {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (9) وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (10)
__________
(1) سورة البقرة الآية 155
(2) سورة البقرة الآية 156
(3) سورة البقرة الآية 157
(4) سورة البقرة الآية 228
(5) سورة طه الآية 123
(6) سورة طه الآية 124
(7) سورة طه الآية 125
(8) سورة طه الآية 126
(9) سورة طه الآية 127
(10) سورة الإسراء الآية 9(40/113)
الآية، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} (1) .
رابعا: ما دام أبوك وأمك وزوجك وإخوتك قد تركوا الأمر لك فنوصيك بأن تفوضي الأمر إلى الله وتسأليه العون والتوفيق وأن يشرح صدرك لما هو الأحب إليه، ثم تعملي بما ينشرح صدرك له من الدراسة وعدمها.
خامسا: نوصيك بعد العناية بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأن تقرئي الكتب الآتية: كشف تلبيس إبليس، للعلامة ابن الجوزي، وكتاب حسن الأسوة في أحكام النسوة، للعلامة صديق بن حسن، وكتاب الجنس اللطيف، للعلامة السيد محمد رشيد رضا، وكتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، للعلامة ابن القيم، وأشباه هذه الكتب لكونها عظيمة الفائدة ولا سيما لأمثالك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة ص الآية 29(40/114)
من الفتوى رقم 6667
س: إن كان قد طلب الله من المسلم إيمانا بالقدر خيره وشره فلا تجوز عليه مراجعة الطبيب للعلاج إذا كان مريضا لأن المرض طارئ بالقدر؟(40/114)
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: تعاطي الأسباب من علاج المرض وطلب الرزق وغير ذلك لا ينافي القدر؛ لأن الله سبحانه قدر الأقدار وأمر بالأسباب وكل ميسر لما خلق له، كما جاء بذلك الأحاديث الصحيحة، ولهذا يجوز التداوي بالأدوية المباحة وهو من قدر الله، كما قال عمر - رضي الله عنه - حينما منع من دخول البلاد الموبوءة في عام الطاعون: نفر من قدر الله إلى قدر الله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(40/115)
من الفتوى رقم 8592
س: لقد أعيش منذ الصبا بذبحة صدرية ونزيف داخلي: (أ) هل لي أجر عند الله في ذلك، لأني حرمت من شبابي وصحتي. (ب) معظم الأيام أصلي بتيمم لأني لا أستطيع الاستحمام هل يجوز لي ذلك؟ (ج) هل أستطيع تعليم التلاميذ القرآن وأنا غير طاهر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: أولا: إن صبرت على ما أصابك فلك الأجر عند الله، وإن جزعت ولم تصبر حرمت الأجر.
ثانيا: إذا كان الواقع كما ذكرت من أنك لا تستطيع الاستحمام شرع لك التيمم من الجنابة.(40/115)
ثالثا: إذا كنت لا تستطيع استعمال الماء في الطهارة من الحدث كفاك التيمم للطهارة من الحدث لتلاوة القرآن وتعليمه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(40/116)
الانتحار
فتوى رقم 10914
س: منذ أكثر من عام وأنا في صراع نفسي وفكري رهيب كانت بلورة نهايته أنني قررت الانتحار، وللأسباب التي سأذكرها فيما بعد، وأنني أملك من القوة والقدرة والشجاعة ما يجعلني أن أقبل على الانتحار، ولكني أخشى أن يكون في ذلك ما يغضب الله سبحانه وتعالى فأسيء خاتمتي بيدي.
أما عن الأسباب فهي تجمع أسباب الدنيا مع أسباب الآخرة فمنذ صغري وأنا دائما منحوس بلغة أهل الدنيا، ولما انتهيت من الدراسة المتوسطة لم تساعدني الظروف المادية الأسرية من تكملة دراستي الجامعية دون أشقائي وشقيقاتي وجميع أصدقائي بدون استثناء، حملت حقائبي منذ 6 سنوات وهجرت مصر بلدي عسى أن يعوضني الله خيرا، ولكن مما يدعوك للعجب 6 سنوات في عمل شاق تنقلت خلالها من بلد لآخر لم أدخر ما يجعلني حتى أكمل نصف ديني وهو الزواج، فدائما كنت أتحلى بالصبر فإن الله مع الصابرين لكني بدأت أنهار نفسيا وبدأ صبري ينفد ولم أعد(40/116)
احتمل، إنسان بين أربع حوائط تنتقل معي أينما أذهب وحرب نفسية كل يوم تكون مكانها داخل عقلي وجسدي، وإنني مسكت نفسي عن فعل الخطيئة وعن طريق الشيطان ولكني لم أعد أخشى ما أخشاه أن يلعب الشيطان بي فتمتد يدي للمال الحرام أو أقدم لعمل حرام مثل الزنا والعياذ بالله، وكنت دائما أتمنى أن أموت إنسانا شريفا نظيفا لذا قررت الانتحار وفضلت الموت على أن أعيش وتأتي لحظة أفعل فيها ما يغضب الله - فهل هذا العمل حلال أم يجوز أم حرام، والله يعلم أن هذا من أجله سبحانه وتعالى. وجزاكم الله خيرا ورعاكم الله وسدد خطاكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . وأرجو الله أن يكون رد فضيلتكم بعيدا عن العاطفة وأن يكون تبعا لما جاء به الله سبحانه وتعالى ولما جاء في سنة حبيبه المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: لا يجوز لك الإقدام على جريمة الانتحار؛ لأن قتل النفس محرم وكبيرة من كبار الذنوب، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (1) وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام (2) » ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل نفسه في شيء عذب به يوم القيامة (3) » متفق عليه.
وما وقع في نفسك من تفضيل أن يأتيك الموت وأنت لم تفعل ما يغضب الله على بقائك في الحياة بأن ذلك من وسوسة الشيطان، فيجب
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) أحمد3 \ 426 و 498، والبخاري برقم 67 و105 و 1741 و 4406 و 4662 و 5550 و7078 و 7447، ومسلم برقم 1679، والترمذي برقم 2160، وابن ماجة برقم 3091.
(3) أحمد 4 \ 33، والبخاري برقم 6652، ومسلم برقم140، وأبو داود برقم 3257، والترمذي برقم 2638، والنسائي في المجتبى 7 \ 5 و 6.(40/117)
عليك الحذر منه وأن تستعيذ بالله جل وعلا من الشيطان، وأن تكثر من دعائه والابتهال إليه أن يعافيك من وساوسه، واحرص على فعل الطاعات وما يقربك من الله، واجتنب محارم الله وقرناء السوء، واصبر على ما أصابك عسى الله أن يهديك إلى طريق الحق وأن يجنبك طريق الضلال وأن يوفق الجميع لما يحب ويرضى.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(40/118)
قول الإنسان قابلت فلانا صدفة
من الفتوى رقم 4800
س 2 و 3: كلمة صدفة هل يجوز لي أن أقول عندما ذهبت إلى السوق قابلت فلانا صدفة؟
وهل هذه الكلمة (صدفة) حرام أم شرك بالله - عز وجل -، أم ماذا أقول بدلا من هذه الكلمة، أفتوني جزاكم الله خيرا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: ليس قول الإنسان قابلت فلانا صدفة محرما ولا شركا؛ لأن المراد منها قابلته دون سابق وعد أو اتفاق على اللقاء مثلا وليس في هذا المعنى حرج.(40/118)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(40/119)
الجزاء والثواب على العمل
من الفتوى رقم 9087
س: ذكر في آيات القرآن الكريم الجزاء الثواب والعقاب مقرونة دائما بيوم القيامة كما في قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} (1) و {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (2) إلى ما جاء من الآيات الشريفة عن يوم القيامة، والسؤال هل ورد في القرآن كما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة ما يستدل على أن حساب العبد يبدأ بدخوله القبر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: ليس الجزاء بالثواب والعقاب في القرآن مقرونا بيوم القيامة دائما، بل قد يعجل الله بعض الجزاء لبعض عباده في الدنيا ويؤخر بعضهم إلى يوم القيامة، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (3) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4)
__________
(1) سورة البقرة الآية 85
(2) سورة المؤمنون الآية 16
(3) سورة هود الآية 15
(4) سورة هود الآية 16(40/119)
وقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} (1) الآيات، وقال في نصرة موسى على الكفرة من قومه: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} (2) {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} (3) الآيات، إلى أمثال ذلك من آيات القرآن التي تدل على أن الله قد يجعل الجزاء في الدنيا أو يجعله في القبر كما حصل لآل فرعون أو يؤخره إلى قيام الساعة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الإسراء الآية 18
(2) سورة غافر الآية 45
(3) سورة غافر الآية 46(40/120)
وضع ذنوب المسلم على اليهودي والنصراني
من الفتوى رقم 2718
س: وضع ما يغفر للمسلم يوم القيامة من ذنوبه على يهودي أو نصراني ووقوع الإشكال بذلك مع قول الله تعالى: {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) وأمثالها من القرآن أرجو سماحتكم التكرم بإزالة اللبس؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: أما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فيغفرها للمسلمين ويضعها على اليهود والنصارى (2) » فهذا الحديث قد شك راويه فيه ولا يحتج به مع الشك ولكونه يخالف ظاهر القرآن الكريم، لكن إن صح عنه - صلى الله عليه وسلم - فهو لا يقول إلا الحق ويجب حمله على ما يوافق الأدلة الأخرى وذلك بحمله على اليهود والنصارى الذين كانوا سببا في وقوع المسلمين في الذنوب التي غفرت لهم، لقوله سبحانه: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (3) ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من دعا إلى ضلالة كان عليه مثل من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (4) » ولما جاء في معناه من الأحاديث.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة يس الآية 54
(2) مسلم برقم 2767، والبيهقي في البعث والنشور برقم 90.
(3) سورة النحل الآية 25
(4) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .(40/121)
مصير الملائكة يوم القيامة
من الفتوى رقم 8466
س: نعتقد أن الله تعالى يدخل من آمن به من الثقلين الجنة، ويدخل من كفر به منهما النار يوم القيامة، فما منزل الملائكة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: قد أخبر الله سبحانه وتعالى عن الملائكة بأنهم {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (1) {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (2) الآيات، فهم محل كرامته وإحسانه وتحت تصرفه وأمره. فمنهم الموكل بأهل الجنة، ومنهم الموكل بأهل النار، ومنهم حملة العرش، ومنهم الحافون بالعرش، والله أعلم بتفاصيل أعمال بقيتهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 26
(2) سورة الأنبياء الآية 27(40/122)
من الفتوى رقم 9184
س: كيف يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته عند ربه يوم القيامة، وكيف يشفع الصحابة والصالحون والملائكة للمذنبين، وحديث: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي (1) » هل صحيح السند وما معناه إن صح الحديث؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشفاعة الصالحين يوم القيامة ثابتة في القرآن، وقد وردت فيها أحاديث صحيحة تفسر ما جاء في القرآن، ومنها الحديث الذي أشرت إليه في سؤالك وهي أنواع. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله - في كتاب فتح المجيد: وذكر أيضا رحمه الله - يعني ابن القيم - أن الشفاعة ستة أنواع:
الأول: الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم - عليهم الصلاة والسلام - حتى تنتهي إليه - صلى الله عليه وسلم - فيقول: «أنا لها (2) » وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليتشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف وهذه شفاعة يختص بها لا يشركه فيها أحد.
الثاني: شفاعته لأهل الجنة في دخولها، وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه.
الثالث: شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم فيشفع لهم أن لا يدخلوها.
الرابع: شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم، والأحاديث بها متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أجمع عليها الصحابة
__________
(1) أحمد 3 \ 230، وأبو داود برقم 4739، والترمذي برقم 2437، وابن حبان في الصحيح برقم 2596، (موارد) والحاكم في المستدرك 1 \ 9.
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4476) ، صحيح مسلم الإيمان (193) ، مسند أحمد بن حنبل (3/248) ، سنن الدارمي المقدمة (52) .(40/123)
وأهل السنة قاطبة وبدعوا من أنكرها وصاحوا به كل جانب ونادوا عليه بالضلال.
الخامس: شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفعة درجاتهم، وهذه مما لم ينازع فيها أحد وكلها مختصة بأهل الإخلاص الذين لم يتخذوا من دون الله وليا ولا شفيعا كما قال تعالى: 6: 51 {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} (1) .
السادس: شفاعته في بعض أهله الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه، وهذه خاصة بأبي طالب وحده. ا. هـ (2) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 51
(2) فتح المجيد صـ 174 و 1750.(40/124)
من الفتوى رقم 7077
س: هل الطفل الصغير إذا توفي وله سنة يشفع لوالديه ووالدي والديه؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: يشفعه الله في والديه، أما شفاعته لوالدي والديه فإلى الله علم ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(40/125)
من الفتوى رقم 6747
س: ما حكم الإسلام في رجل ينكر حديث الشفاعة الذي رواه البخاري في صحيحه، ويقول أيضا إن في صحيح البخاري أحاديث مدسوسة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: إن صحيح البخاري تلقاه علماء الأمة بالقبول، فأحاديثه يعتمد عليها في إثبات الأحكام وتقوم بها الحجة على المخالف، ومن قال إن فيه أحاديث مدسوسة فهو جاهل مخطئ مخالف لإجماع الأمة، وكذا من أنكر حديث الشفاعة العظمى أو أحاديث الشفاعة الأخرى التي رواها البخاري(40/125)
في صحيحه وغيره من أئمة الحديث فهو مخالف لأهل السنة والجماعة وسلف الأمة ذاهب أهل الزيغ والضلال.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(40/126)
من الفتوى رقم 9886
س: هل يميت الله العصاة من هذه الأمة إن دخلوا النار إماتة حقيقية، وما معنى {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} (1) هل ورد في ذلك حديث أصلا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج (أ) : لا يموت الكفار ولا المؤمنون ولا عصاة المؤمنين بعد موتتهم التي ماتوها عند انتهاء أجلهم في الحياة الدنيا لا موتا حقيقيا ولا موتا غير حقيقي كالنوم، لكن ناس من عصاة المؤمنين أصابتهم النار بذنوبهم فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الجثة تكون في حميل السيل فقال رجل من القوم كأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان في البادية. (2) » رواه مسلم في صحيحه.
__________
(1) سورة الدخان الآية 56
(2) أحمد 3 \ 11، 25، 79، ومسلم برقم 185، وابن ماجة برقم 4364، والدرامي في السنن برقم 2820.(40/126)
ب: كلمة {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} (1) بعض آية من سورة الدخان، سبقت ضمن آيات في نعيم المتقين هي قول الله سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (2) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (3) {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} (4) {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (5) {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} (6) {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (7) {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (8) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الدخان الآية 56
(2) سورة الدخان الآية 51
(3) سورة الدخان الآية 52
(4) سورة الدخان الآية 53
(5) سورة الدخان الآية 54
(6) سورة الدخان الآية 55
(7) سورة الدخان الآية 56
(8) سورة الدخان الآية 57(40/127)
من الفتوى رقم 5123
س: هل يدخل ابن الزنا الجنة إذا كان تقيا أو لا؛ لأنه وجد مضغة ذميمة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: يدخل الجنة ابن الزنا إذا مات على الإسلام، ولا تأثير لكونه ابن زنا على ذلك؛ لأنه ليس من عمله إنما هو من عمل غيره، وقد قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (1) ، ولعموم قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (2) ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} (3) وما جاء في معنى ذلك من الآيات، وما روي عن النبي
__________
(1) سورة الأنعام الآية 164
(2) سورة الطور الآية 21
(3) سورة لقمان الآية 8(40/127)
- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يدخل الجنة ولد زنية (1) » فلم يصح عنه - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكره الحافظ ابن الجوزي في الموضوعات وهو من الأحاديث المكذوبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/203) ، سنن الدارمي الأشربة (2093) .(40/128)
من الفتوى رقم 5611
س: هل يدخل ولد الزنا الجنة، حيث قيل إن ولد الزنا نجس ولا يدخل الجنة نجاسة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: إذا مات مسلما دخل الجنة ولا يمنعه من ذلك إن كان ولد زنا وليس بنجس، ووزر الزنا على الزاني لا على من تخلق من ماء الزنا لقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (1) ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلم لا ينجس (2) »
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 164
(2) أحمد2 \ 235 و 382 و 471 و 5 \ 384 و 402، والبخاري برقم 283 و 285، ومسلم برقم 371 و 372، وأبو داود برقم 230 و 231، والترمذي برقم 122، والنسائي في المجتبي 1 \ 145، وابن ماجة برقم 534 و 535.(40/128)
من الفتوى رقم 35944
س: يقول الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} (1) .
كم المدة بين النفختين، ومن هم الذين لا يموتون بين النفختين؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: تحديد مدة ما بين النفختين من الأمور الغيبية التي لا تدرك بالعقل والاجتهاد بل السمع عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت في تحديدها عنه حديث صحيح، وإنما ثبت فيها ما رواه البخاري وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما بين النفختين أربعون، قال يا أبا هريرة: أربعون يوما، قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة، قال: أبيت، قالوا: أربعون شهرا، قال: أبيت، ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب الذنب منه يركب الخلق (2) » فلم يزد على أن قال أربعون ولم يبين هل هي سنون أو شهور أو أيام. وأما من لا يموتون بين النفختين فالله أعلم بهم سبحانه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الزمر الآية 68
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4814) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2955) ، سنن النسائي الجنائز (2077) ، سنن أبو داود السنة (4743) ، سنن ابن ماجه الزهد (4266) ، مسند أحمد بن حنبل (2/315) ، موطأ مالك الجنائز (565) .(40/129)
فتوى رقم 7304
س: خلال مطالعتي لكتاب الله العزيز وقفت عند آية كريمة في قوله: {أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَت} (1) {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} (2) .
والسؤال: ما الحكمة من تقديم الإبل، وما هي الميزة التي تميز بها الإبل عن سائر الحيوانات، فنحن نعلم أن السماء قد رفعها الله - وهذا شيء عظيم - بدون أعمدة، فما هو السر في هذا الحيوان؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: ذكر الله تعالى هذه الآيات بعد قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (3) استدلالا على البعث يوم القيامة وتقريرا لقدرة الله سبحانه على إحيائه الخلق بعد موتهم للحساب والجزاء، فإن من قدر على خلق الإبل على هذه الهيئة العجيبة، وخلق السماء ورفعها بلا أعمدة نراها، وخلق الجبال في الأرض تثبيتا لها ونصبها عليها كأنها أوتاد حتى لا تميد بمن عليها من الموجودات، وخلق الأرض وتمهيدها حتى تصلح لحياة الخلق فوقها، إن من قدر على ذلك لقادر على أن يحيي الناس وغيرهم من ذوات الأرواح.
وإنما قدم الإبل على غيرها من المذكورات، لأنها بأيديهم مسخرة لهم يصرفونها كيف شاءوا فيركبونها، ويحملون عليها أثقالهم إلى بلاد بعيدة لم يكونوا بالغيها إلا بشق الأنفس، ويقطعون بها الفيافي والصحاري مع يسير مؤنتها وصبرها على الجوع والعطش ومع سهولة قيادها للكبير والصغير، ومع بروكها ونهوضها ليتمكن الناس من ركوبها وتحميلها كيف شاءوا إلى
__________
(1) سورة الغاشية الآية 17
(2) سورة الغاشية الآية 18
(3) سورة الغاشية الآية 1(40/130)
غير ذلك من المنافع الكثيرة التي يجنونها من اقتنائها من غير مشقة ولا عناء، وقد خصها الله ببديع تركيب في عظامها يساعدها على حمل الأثقال، وبطول عنق يساعد على نهوضها بثقيل أحمالها، كما يساعدها في سيرها، وخصها بأخفاف تساعد على سيرها فيما لا يقوى على السير فيه ذوات الحوافر والأظلاف من الحيوانات، وما يخفى من عجائبها عن الناس كثير فسبحان من ميزها على ما سواها من الحيوان وسخرها مع عظيم خلقها ومزيد قوتها لعباده، وذللها لهم رحمة بهم وإعانة لهم على مصالحهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(40/131)
محاسبة الناس يوم القيامة
فتوى رقم 2224
س: قرأت حديثا عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار فيتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا، وإذا نقوا وهذبوا أذن لهم بدخول الجنة (1) » إلى آخر الحديث أفيدونا جزاكم الله عنا وعن عامة المسلمين خير الجزاء. ما معنى هذا الحديث وما معنى: «خلص المؤمنون من النار (2) » . حيث قد ورد في القرآن العظيم في سورة مريم قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (3) الآية أفيدونا ما معنى الحديث وما معنى الآية جزاكم الله خير الدنيا ونعيم الآخرة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: إذا عبر المؤمنون عامة على الصراط أوقف منهم من كان عليه مظالم للمؤمنين بمكان بين الجنة والنار ومنعوا من دخول الجنة حتى يقضى للمظلوم ممن ظلمه فيؤخذ من حسنات الظالم ويعطى المظلوم، حتى إذا نقوا وطهروا أذن لهم بدخول الجنة، أما من لا مظلمة عليه لأحد فإن ظاهر هذا الحديث وغيره من الأحاديث الدالة على أن بعض المؤمنين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب فإنه لا يوقف.
وأما قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} (4) فخبر منه تعالى عن الناس مسلمهم وكافرهم بأنه لا أحد منهم إلا
__________
(1) البخاري برقم 2440 و 6535.
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2440) ، مسند أحمد بن حنبل (3/63) .
(3) سورة مريم الآية 71
(4) سورة مريم الآية 71(40/132)
سيرد جهنم، وذلك مرور كل منهم على الصراط المضروب على متن جهنم كالقنطرة مرورا متفاوتا في السرعة والبطء والنجاة من النار والسقوط فيها، فينجي الله المؤمنين من النار، ويدع فيها الكافرين، كما قال تعالى عقب هذه الآية: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} (1) وقد أوجب سبحانه على نفسه هذا الجزاء وقضى به عليها قضاء مبرما، لا راد لقضائه تعالى ولا تبديل لحكمه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة مريم الآية 72(40/133)
من الفتوى رقم 6167
س: هل الأخرس يحاسب يوم القيامة مسلما أو كتابيا أو كافرا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: نعم يحاسب؛ لأنه مكلف بقدر ما أوتي من قوة الإدراك بالحواس الأخرى، وما أوتي من قوة الإدراك العقلي، ولا غرابة في ذلك فقد أنشئ في العصر الحاضر مدارس لتعليم الصم والبكم للنهوض بهم في التعليم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(40/133)
دخول الجنة بفضل الله وليس بالعمل
من الفتوى رقم 1353
س: قد جاء في الحديث أن الإنسان لن يدخل الجنة بفضل عمله، بل بفضل الله تعالى وأرجو أن تعرفوني بمزيد من الأقوال عن هذا الصدد؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: ليس بمجرد العمل ينال الإنسان السعادة، بل العمل سبب، يدل على ذلك قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) فهذه باء السبب، وأما ما نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لن يدخل أحد الجنة بعمله (2) » الحديث، فهي باء المقابلة كما يقال: اشتريت هذه بهذا، أي ليس العمل عوضا وثمنا كافيا في دخول الجنة بل لا بد مع ذلك من عفو الله وفضله ورحمته، فبعفوه يمحو السيئات، وبرحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعف الحسنات.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النحل الآية 32
(2) أحمد 2 \ 235 و 256 و 264 و 6 \ 125، والبخاري برقم 5673 و 6463 و 6464 و 6467، ومسلم برقم 2816 و 2818 و 2817، والنسائي في المجتبى 8 \ 121 و 122.(40/134)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
س: نود من سماحتكم أن تبينوا لنا حكم الدعوة إلى الله - عز وجل - وأوجه الفضل فيها؟
ج: أما حكمها. فقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الدعوة إلى الله - عز وجل - وأنها من الفرائض. والأدلة في ذلك كثيرة منها قوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) ومنها قوله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) ومنها قوله - عز وجل -: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) ومنها قوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (4) فيبين سبحانه اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم الدعاة إلى الله. وهم أهل البصائر والواجب كما هو معلوم هو اتباعه والسير على منهاجه - عليه الصلاة والسلام - كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (5) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة القصص الآية 87
(4) سورة يوسف الآية 108
(5) سورة الأحزاب الآية 21(40/135)
وصرح العلماء أن الدعوة إلى الله - عز وجل - فرض كفاية بالنسبة إلى الأقطار التي يقوم فيها الدعاة. فإن كل قطر وكل إقليم يحتاج إلى الدعوة وإلى النشاط فيها، فهي فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين ذلك الواجب وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة وعملا جليلا.
وإذا لم يقم أهل الإقليم أو أهل القطر المعين بالدعوة على التمام صار الإثم عاما وصار الواجب على الجميع وعلى كل إنسان أن يقوم بالدعوة حسب طاقته وإمكانه، أما بالنظر إلى عموم البلاد فالواجب أن يوجد طائفة منتصبة تقوم بالدعوة إلى الله جل وعلا في أرجاء المعمورة تبلغ رسالات الله وتبين أمر الله - عز وجل - بالطرق الممكنة فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بعث الدعاة وأرسل الكتب إلى الناس وإلى الملوك والرؤساء ودعاهم إلى الله - عز وجل -.(40/136)
س: واقع الدعوة الآن كيف تقيمونه؟ وما هي المحاور التي يجب التركيز عليها في ظل المستجدات الحالية والتحديات المعاصرة؟
ج: في وقتنا الحاضر يسر الله - عز وجل - أمر الدعوة أكثر، بطرق لم تحصل لمن قبلنا، فأمور الدعوة اليوم متيسرة أكثر وذلك بواسطة طرق كثيرة، وإقامة الحجة على الناس اليوم ممكنة بطرق متنوعة، مثلا عن طريق الإذاعة وعن طريق التلفزة وعن طريق الصحافة، وهناك طرق شتى، فالواجب على أهل العلم والإيمان وعلى خلفاء الرسول أن يقوموا بهذا الواجب وأن يتكاتفوا فيه وأن يبلغوا رسالات الله إلى عباد الله ولا يخشون في الله لومة لائم، ولا يحابون في ذلك كبيرا ولا صغيرا ولا غنيا ولا فقيرا بل يبلغون أمر الله إلى عباد الله كما أنزل الله وكما شرع(40/136)
الله، وقد يكون ذلك فرض عين إذا كنت في مكان ليس فيه من يؤدي ذلك سواك، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه يكون فرض عين ويكون فرض كفاية، فإذا كنت في مكان ليس فيه من يقوى على هذا الأمر ويبلغ أمر الله سواك فالواجب عليك أنت أن تقوم بذلك، فأما إذا وجد من يقوم بالدعوة والتبليغ والأمر والنهي غيرك فإنه يكون حينئذ في حقك سنة إذا بادرت إليه وحرصت عليه كنت بذلك منافسا في الخيرات وسابقا إلى الطاعات ومما احتج به على أنها فرض كفاية قوله جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} (1) .
قال الحافظ ابن كثير عن هذه الآية جماع ما معناه: ولتكن منكم أمة منتصبة لهذا الأمر العظيم تدعو إلى الله وتنشر دينه وتبلغ أمره سبحانه وتعالى ومعلوم أيضا أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - دعا إلى الله وقام بأمر الله في مكة حسب طاقته وقام الصحابة كذلك - رضي الله عنهم - وأرضاهم بذلك حسب طاقتهم ثم لما هاجروا قاموا بالدعوة أكثر وأبلغ، ولما انتشروا في البلاد بعد وفاته - عليه الصلاة والسلام - قاموا بذلك أيضا رضي الله عنهم وأرضاهم. كل على قدر طاقته وعلى قدر علمه. فعند قلة الدعاة وعند كثرة المنكرات وعند غلبة الجهل كحالنا اليوم تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته، وإذا كان في محل محدود كقرية ومدينة ونحو ذلك ووجد فيها من تولى هذا الأمر وقام به وبلغ أمر الله كفى وصار التبليغ في حق غيره سنة لأنه قد أقيمت الحجة على يد غيره ونفذ أمر الله على من سواه. ولكن بالنسبة إلى بقية أرض الله وإلى بقية الناس يجب على العلماء حسب طاقاتهم
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104(40/137)
وعلى ولاة الأمر حسب طاقاتهم أن يبلغوا أمر الله بكل ما يستطيعون، وهذا فرض عين عليهم على حسب الطاقة والقدرة. وبهذا يعلم أن كونها فرض عين وكونها فرض كفاية أمر نسبي يختلف فقد يكون الدعوة فرض عين بالنسبة إلى أقوام وإلى أشخاص، وسنة بالنسبة إلى أشخاص وإلى أقوام؛ لأنه وجد في محلهم وفي مكانهم من قام بالأمر وكفى عنهم. أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ومن لهم القدرة الواسعة فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار حسب الإمكان بالطرق الممكنة، وباللغات الحية التي ينطق بها الناس يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها فإن الأمر الآن ممكن وميسور بالطرق التي تقدم بيانها، طرق الإذاعة والتلفزة والصحافة وغير ذلك من الطرق التي تيسرت اليوم، ولم تتيسر في السابق كما أنه يجب على الخطباء في الاحتفالات وفي الجمع وفي غير ذلك أن يبلغوا ما استطاعوا من أمر الله - عز وجل -، وأن ينشروا دين الله حسب طاقاتهم، وحسب علمهم، ونظرا إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة وإلى الإلحاد وإنكار رب العباد وإنكار الرسالات وإنكار الآخرة، وانتشار الدعوة النصرانية في الكثير من البلدان، وغير ذلك من الدعوات المضللة، نظرا إلى هذا فإن الدعوة إلى الله - عز وجل - اليوم أصبحت فرضا عاما. وواجبا على جميع العلماء وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام. فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة والخطابة وبالإذاعة وبكل وسيلة استطاعوا وأن لا يتقاعسوا عن ذلك أو يتكلوا على زيد أو عمرو فإن الحاجة بل(40/138)
الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون والاشتراك والتكاتف في هذا الأمر العظيم أكثر مما كان قبل ذلك لأن أعداء الله قد تكاتفوا وتعاونوا بكل وسيلة، للصد عن سبيل الله والتشكيك في دينه، ودعوة الناس إلى ما يخرجهم من دين الله - عز وجل -، فوجب على أهل الإسلام أن يقابلوا هذا النشاط الملحد بنشاط إسلامي وبدعوة إسلامية على شتى المستويات، وبجميع الوسائل وبجميع الطرق الممكنة، وهذا من باب أداء ما أوجب الله على عباده من الدعوة إلى سبيله.(40/139)
س: وكيف تستطيع المجتمعات الإسلامية أن تحارب الغزو الثقافي الغربي والشرقي الذي تواجهه في وقتنا الحاضر؟
ج: مما لا شك فيه أن أخطر ما تواجهه المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر هو ما يسمى بالغزو الثقافي بأسلحته المتنوعة من كتب وإذاعات وصحف ومجلات وغير ذلك من الأسلحة الأخرى، ذلك أن الاستعمار في العصر الحديث قد غير من أساليبه القديمة لما أدركه من فشلها وعدم فعاليتها ومحاربة الشعوب واستماتتها في الدفاع عن دينها وأوطانها ومقدراتها وتراثها حيث إن الأخذ بالقوة وعن طريق العنف والإرهاب مما تأباه الطباع وتنفر منه النفوس لا سيما في الأوقات الحاضرة بعد أن انتشر الوعي بين الناس واتصل الناس بعضهم ببعض وأصبحت هناك هيئات كثيرة تدافع عن حقوق الشعوب وترفض الاستعمار عن طريق القوة وتطالب بحق تقرير المصير لكل شعب وأن لأهل كل قطر حقهم الطبيعي في سيادتهم على أرضهم واستثمار مواردهم وتسيير دفة الحكم في أوطانهم حسب ميولهم ورغباتهم في الحياة وحسب ما تدين به تلك الشعوب من معتقدات ومذاهب(40/139)
وأساليب مختلفة للحكم مما اضطر معه إلى الخروج عن هذه الأقطار بعد قتال عنيف وصدامات مسلحة وحروب كثيرة دامية. ولكن الاستعمار قبل أن يخرج من هذه الأقطار فكر في عدة وسائل واتخذ كثيرا من المخططات بعد دراسة واعية وتفكير طويل وتصور كامل لأبعاد هذه المخططات ومدى فعاليتها وتأثيرها والطرق التي ينبغي أن تتخذ للوصول إلى الغاية التي يريد وأهدافه تتلخص في إيجاد مناهج دراسية على صلة ضعيفة بالدين. مبالغة في الدهاء والمكر والتلبيس ركز فيها على خدمة أهدافه ونشر ثقافته وترسيخ الإعجاب بما حققه في مجال الصناعات المختلفة والمكاسب المادية في نفوس أغلب الناس حتى إذا ما تشربت بها قلوبهم وأعجبوا بمظاهر بريقها ولمعانها وعظيم ما حققته وأنجزته من المكاسب الدنيوية والاختراعات العجيبة، لا سيما في صفوف الطلاب والمتعلمين الذين لا يزالون في سن المراهقة والشباب.
اختارت جماعة منهم ممن انطلى عليهم سحر هذه الحضارة لإكمال تعليمهم في الخارج في الجامعات الأوروبية والأمريكية وغيرها حيث يواجهون هناك بسلسلة من الشبهات والشهوات على أيدي المستشرقين والملحدين بشكل منظم وخطط مدروسة، وأساليب ملتوية في غاية المكر والدهاء، وحيث يواجهون الحياة الغربية بما فيها من تفسخ وتبذل وخلاعة وتفكك ومجون وإباحية. وهذه الأسلحة وما يصاحبها من إغراء وتشجيع، وعدم وازع دين أو سلطة، قل من ينجو من شباكها ويسلم من شرورها وهؤلاء بعد إكمال دراستهم وعودتهم إلى بلادهم ممن يطمئن إليهم المستعمر بعد رحليه ويضع(40/140)
الأمانة الخسيسة في أيديهم لينفذوها بكل دقة، بل بوسائل وأساليب أشد عنفا وقسوة من تلك التي سلكها المستعمر، كما وقع ذلك فعلا في كثير من البلاد التي ابتليت بالاستعمار أو كانت على صلة وثيقة به، أما الطريق إلى السلامة من هذا الخطر والبعد عن مساوئه وأضراره فيتلخص في إنشاء الجامعات والكليات والمعاهد المختلفة بكافة اختصاصاتها للحد من الابتعاث إلى الخارج، وتدريس العلوم بكافة أنواعها مع العناية بالمواد الدينية والثقافية الإسلامية في جميع الجامعات والكليات والمعاهد حرصا على سلامة الطلبة، وصيانة أخلاقهم وخوفا على مستقبلهم، وحتى يساهموا في بناء مجتمعهم على نور من تعاليم الشريعة الإسلامية وحسب حاجات ومتطلبات هذه الأمة المسلمة، والواجب التضييق من نطاق الابتعاث إلى الخارج وحصره في علوم معينة لا تتوافر في الداخل.(40/141)
س: كيف ترون سماحتكم الدواء الناجع للعالم الإسلامي للخروج به من الدوامة التي يوجد فيها في الوقت الحاضر؟
ج: إن الخروج بالعالم الإسلامي من الدوامة التي هو فيها من مختلف المذاهب والتيارات العقائدية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، إنما يتحقق بالتزامهم بالإسلام، وتحكيمهم شريعة الله في كل شيء، وبذلك تلتئم الصفوف وتتوحد القلوب.
وهذا هو الدواء الناجع للعالم الإسلامي، بل للعالم كله، مما هو فيه من اضطراب واختلاف وقلق وفساد وإفساد كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1)
__________
(1) سورة محمد الآية 7(40/141)
وقال - عز وجل -: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) ، وقوله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (3) الآية، وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (4) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة. ولكن ما دام أن القادة إلا من شاء الله منهم يطلبون الهدى والتوجيه من غير كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويحكمون غير شريعته، ويتحاكمون إلى ما وضعه أعداؤهم لهم، فإنهم لن يجدوا طريقا للخروج مما هم فيه من التخلف والتناحر فيما بينهم، واحتقار أعدائهم لهم، وعدم إعطائهم حقوقهم {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (5) فنسأل الله أن يجمعهم على الهدى، وأن يصلح قلوبهم وأعمالهم، وأن يمن عليهم بتحكيم شريعته والثبات عليها، وترك ما خالفها، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة الحج الآية 40
(2) سورة الحج الآية 41
(3) سورة النور الآية 55
(4) سورة آل عمران الآية 103
(5) سورة آل عمران الآية 117(40/142)
س: كيف ترون سماحتكم المدخل لكي يتجنب الشباب الوقوع تحت وطأة مغريات هذا العصر ويتجه الوجهة الصحيحة؟
ج: إن الطريق الأمثل ليسلك الشباب الطريق الصحيح في التفقه في دينه(40/142)
والدعوة إليه هو أن يستقيم على المنهج القويم بالتفقه في الدين ودراسته، وأن يعنى بالقرآن الكريم والسنة المطهرة، وأنصحه بصحبة الأخيار والزملاء الطيبين من العلماء المعروفين بالاستقامة حتى يستفيد منهم ومن أخلاقهم. كما أنصحه بالمبادرة بالزواج، وأن يحرص على الزوجة الصالحة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5066) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي الصيام (2240) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2166) .(40/143)
س: هل تعتقدون سماحتكم أن تقبل المجتمع للدعوة الآن أفضل من السابق بمعنى أنه لا يوجد اليوم ما يسمى (حائط الاصطدام بين الدعوة والمجتمع) ؟
ج: الناس اليوم في أشد الحاجة للدعوة. وعندهم قبول لها بسبب كثرة الدعاة إلى الباطل، وبسبب انهيار المذهب الشيوعي وبسبب هذه الصحوة العظيمة بين المسلمين. فالناس الآن في إقبال على الدخول في الإسلام والتفقه في الإسلام حسب ما بلغنا في سائر الأقطار.
ونصيحتي للعلماء والقائمين بالدعوة أن ينتهزوا هذه الفرصة وأن يبذلوا ما في وسعهم في الدعوة إلى الله وتعليم الناس ما خلقوا له من عبادة الله وطاعته مشافهة وكتابة وغير ذلك بما يستطيعه العالم من خطب الجمعة والخطب الأخرى في الاجتماعات المناسبة، وعن طريق التأليف، وعن طريق وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، فالعالم أو الداعي إلى الله جل وعلا ينبغي له أن ينتهز الفرصة في تبليغ الدعوة بكل وسيلة شرعية، وهي كثيرة والحمد لله فلا ينبغي التقاعس عن البلاغ والدعوة والتعليم، والناس الآن متقبلون لما يقال لهم من(40/143)
خير وشر فيبغي لأهل العلم بالله ورسوله أن ينتهزوا الفرصة ويوجهوا الناس للخير والهدى على أساس متين من كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام -، وأن يحرص كل واحد من الدعاة على أن يكون قد عرف ما يدعو إليه عن طريق الكتاب والسنة، وقد فقه في ذلك حتى لا يدعو على جهل، بل يجب أن تكون دعوته على بصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) .
فمن أهم الشروط أن يكون العالم أو الداعي إلى الله على بصيرة فيما يدعو إليه، وفيما يحذر منه، والواجب الحذر من التساهل في ذلك؛ لأن الإنسان قد يتساهل في هذا ويدعو إلى باطل أو ينهى عن حق، فالواجب التثبت في الأمور وأن تكون الدعوة على علم وهدى وبصيرة في جميع الأحوال.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(40/144)
س: البعض يرى أن الدعوة لا بد أن تكون في المساجد فقط. . فما رأيكم؟ وما هي المجالات والأبواب التي يمكن للداعية أن يطرقها؟
ج: الدعوة لا تختص بالمساجد فقط، فهناك مجالات وطرق أخرى. والمساجد لا شك أنها فرصة للدعوة كخطب الجمعة والخطب الأخرى والمواعظ في أوقات الصلوات، وفي حلقات العلم فهي أساس انتشار العلم والدين، ولكن المسجد لا يختص وحده بالدعوة، فالداعي إلى الله يدعو إليه في غير المساجد في الاجتماعات المناسبة أو الاجتماعات العارضة. فينتهزها المؤمن ويدعو إلى الله، وعن طريق وسائل الإعلام المختلفة، وعن طريق التأليف كل ذلك من بين طرق الدعوة، والحكيم الذي ينتهز الفرصة في كل وقت وكل مكان، فإذا(40/144)
جمعه الله في جماعة في أي مكان وأي زمان وتمكن من الدعوة بذل ما يستطيع للدعوة إلى الله بالحكمة والكلام الطيب والأسلوب الحسن.(40/145)
س: من واقع خبرتكم الطويلة في هذا المجال. . ما هو الأسلوب الأمثل للدعوة؟
ج: الأسلوب مثل ما بينه الله - عز وجل - واضح في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، يقول سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ويقول تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) ويقول - عز وجل - في قصة موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) . فالداعي إلى الله يتحرى الأسلوب الحسن والحكمة في ذلك وهي العلم بما قاله الله وورد في الحديث النبوي الشريف، ثم الموعظة الحسنة والكلمات الطيبة التي تحرك القلوب وتذكرها بالآخرة والموت، وبالجنة والنار حتى تقبل القلوب الدعوة وتقبل عليها وتصغي إلى ما يقوله الداعي. وكذلك إذا كان هناك شبهة يتقدم بها المدعو عالجها بالتي هي أحسن وأزالها لا بالشدة والعنف ولكن بالتي هي أحسن. فيذكر الشبهة ويزيحها بالأدلة، ولا يمل ولا يضعف ولا يغضب غضبا ينفر الداعي بل يتحرى الأسلوب المناسب والبيان المناسب والأدلة المناسبة، ويتحمل ما قد يثير غضبه
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة طه الآية 44(40/145)
لعله يؤدي موعظته بطمأنينة ورفق لعل الله يسهل قبولها من المدعو.(40/146)
س: كيف تفسرون إحجام بعض الدعاة عن التعاون مع وسائل الإعلام. . وكيف يمكن تجاوز تلك الفجوة وإيجاد قناة مفتوحة بين الدعاة ووسائل الإعلام؟
ج: لا شك أن بعض أهل العلم قد يتساهل في هذا الأمر إما لمشاغل دنيوية تشغله، وإما لضعف في العالم، وإما أمراض تمنعه أو أشياء أخرى يراها وقد أخطأ فيها؛ كأن يرى أنه ليس أهلا لذلك أو يرى أن غيره قد قام بالواجب وكفاه، إلى غير هذا من الأعذار، ونصيحتي لطالب العلم أن لا يتقاعس عن الدعوة ويقول هذا لغيري، بل يدعو إلى الله على حسب طاقته وعلى حسب علمه ولا يدخل نفسه في ما لا يستطيع، بل يدعو إلى الله حسب ما لديه من علم، ويجتهد في أن يقول بالأدلة وألا يقول على الله بغير علم ولا يحقر نفسه ما دام عنده علم وفقه في الدين. فالواجب عليه أن يشارك في الخير من جميع الطرق في وسائل الإعلام وفي غيرها، ولا يقول هذا لغيري؛ فإن كل الناس إن تواكلوا بمعنى كل واحد يقول هذه لغيري تعطلت الدعوة، وقل الداعون إلى الله، وبقي الجهلة على جهلهم، وبقيت الشرور على حالها، وهذا غلط عظيم، بل يجب على أهل العلم أن يشاركوا في الدعوة إلى الله أينما كانوا في المجتمعات الأرضية، والجوية، وفي القطارات والسيارات، وفي المراكب البحرية، فكلما حصلت فرصة انتهزها طالب العلم في الدعوة والتوجيه، فكلما شارك في الدعوة فهو على خير عظيم، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) فالله سبحانه يقول: ليس هناك قول أحسن من
__________
(1) سورة فصلت الآية 33(40/146)
هذا، والاستفهام هنا للنفي؛ أي لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله، وهذه فائدة عظيمة ومنقبة كبيرة للدعاة إلى الله - عز وجل -، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » وقال عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا (2) » . وقال عليه الصلاة والسلام لعلي - رضي الله عنه - لما بعثه إلى خيبر: «ووالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (3) » فلا ينبغي للعالم أن يزهد في هذا الخير أو يتقاعس عنه احتجاجا بأن فلانا قد قام بهذا، بل يجب على أهل العلم أن يشاركوا وأن يبذلوا وسعهم في الدعوة إلى الله أينما كانوا، والعالم كله بحاجة إلى الدعوة مسلمه وكافره، فالمسلم يزداد علما والكافر لعل الله يهديه فيدخل في الإسلام.
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(2) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(3) صحيح البخاري المغازي (4210) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(40/147)
س: بعض الدعاة يحتجب عن المشاركة في وسائل الإعلام بسبب رفضه لسياسة الصحيفة أو المجلة التي تعتمد على الإثارة في تسويق أعدادها. . . فما رأي سماحتكم؟
ج: الواجب على أصحاب الصحف أن يتقوا الله وأن يحذروا ما يضر الناس سواء كانت الصحف يومية أو أسبوعية أو شهرية، وهكذا المؤلفون يجب أن يتقوا الله في مؤلفاتهم، فلا يكتبوا ولا ينشروا بين الناس إلا ما ينفعهم ويدعوهم إلى الخير ويحذرهم عن الشر، أما نشر صور النساء على الغلاف أو في داخل المجلات أو الصحف فهذا منكر عظيم وشر كبير يدعو إلى الفساد والباطل، وهكذا نشر الدعوات العلمانية المضللة أو التي تدعو إلى بعض المعاصي كالزنا أو السفور أو التبرج أو تدعو إلى الخمر أو تدعو إلى ما حرم الله، فكل هذا منكر(40/147)
عظيم، ويجب على أصحاب الصحف أن يحذروا ذلك، ومتى كتبوا هذه الأشياء كان عليها مثل آثام من تأثر بها، فعلى صاحب الصحيفة الذي نشر هذا المقال السيئ سواء كان رئيس التحرير أو من أمره بذلك عليهم مثل آثام من ضل بهذه الأشياء وتأثر بها، كما أن من نشر الخير ودعا إليه يكون له مثل أجور من تأثر بذلك. ومن هذا المنطلق يجب على وسائل الإعلام التي يتولاها المسلمون أن ينزهوها عن ما حرم الله، وأن يحذروا البث الذي يضر المجتمع حيث يجب أن تكون هذه الوسائل مركزة على ما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، وأن يحذروا أن تكون عوامل هدم وأسباب إفساد لما يبث فيها، وكل واحد من المسئولين الإعلاميين مسئول عن هذا الشيء على حسب قدرته. ويجب على الدعاة أن يطرقوا هذا المجال فيما يكتبون وفيما ينشرون ويحذروا من ما حرم الله - عز وجل -، وهذا واجبهم في خطبهم وفي اجتماعاتهم مع الناس، فكل المجالس مجالس دعوة، أينما كان فهو في دعوة سواء في بيته أو في زياراته لإخوانه، أو في مجتمعه مع أي أحد، فالواجب عليه أن يستغل هذه الوسائل - وسائل الإعلام - وينشر فيها الخير ولا يحتجب عنها.(40/148)
س: ختاما - كيف ترون سماحتكم الداعية الناجح، وما هي المواصفات التي يجب أن تتوفر فيه ويكون من شأنها زيادة فعالية الدعوة والتأثير على المدعوين؟
ج: الداعية الناجح هو الذي يعتني بالدليل، ويصبر على الأذى، ويبذل وسعه في الدعوة إلى الله مهما تنوعت الإغراءات ومهما تلوع من التعب، ولا يضعف من أذى أصابه أو من أجل كلمات يسمعها، بل(40/148)
يجب أن يصبر ويبذل وسعه في الدعوة من جميع الوسائل، ولكن مع العناية بالدليل والأسلوب الحسن حتى تكون الدعوة على أساس متين يرضاه الله ورسوله والمؤمنون، وليحذر من التساهل حتى لا يقول على الله بغير علم، فيجب أن تكون لديه العناية الكاملة بالأدلة الشرعية، وأن يتحمل في سبيل ذلك المشقة في كونه يدعو إلى الله عن طريق وسائل الإعلام أو عن طريق التعليم، فهذا هو الداعية الناجح والمستحق للثناء الجميل ومنازل عالية عند الله إذا كان ذلك عن إخلاص منه لله.(40/149)
س: سماحة الشيخ: ما هو تقييمكم لمستوى الإفتاء في العالم الإسلامي؟
ج: بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا شك أن المسلمين في كل مكان في أشد الحاجة إلى الإفتاء بما يدل عليه كتاب الله الكريم وسنة نبيه الأمين عليه أفضل الصلوات والتسليم، وهم في أشد الحاجة للفتاوى الشرعية المستنبطة من كتاب الله وسنة نبيه، وإن من الواجب على أهل العلم في كل مكان في العالم الإسلامي، وفي كل مكان يقطنه مسلمون الاهتمام بهذا الواجب، والحرص على توضيح أحكام الله وسنة رسوله التي جاء بها للعباد في مسائل التوحيد والإخلاص لله، وبيان ما وقع فيه أكثر الناس من الشرك وما وقع فيه كثير منهم من الإلحاد، والبدع المضلة حتى يكون المسلمون على بصيرة وحتى يعلم غيرهم حقيقة ما بعث الله به نبيه من الهدى ودين الحق.
والعلماء ورثة الأنبياء فالواجب عليهم عظيم في بيان شرع الله لعباده(40/149)
وبيان الأحكام والأدلة الشرعية من الكتاب والسنة لا بالآراء المجردة. كما أن على العلماء أن يبينوا محاسن الإسلام وما دعا إليه من مكارم الأخلاق حتى يدخل في الإسلام من عرفه ويشتاق إليه من سمع ما فيه من الخير والأعمال الصالحات، وهذا كله سيعود بالخير على البلاد والعباد. وإن من أحسن ما حبانا الله به في هذه البلاد برنامجا مفيدا تتولاه جماعة من العلماء المسلمين الذين يجيبون عن كثير من الأسئلة التي يسألها المسلمون من الداخل والخارج، ولهذا أنصح بسماعه والاستفادة منه. وأنصح لجميع العلماء بأن يعنوا بمراجعة الكتب الإسلامية المعروفة حتى يستفيدوا منها، وكتب السنة مثل: " الصحيحين وبقية الكتب الستة ومسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك، وغيرها من كتب الحديث المعتمدة، وكتب التفسير المعتمدة كتفسير ابن جرير وابن كثير والبغوي ونحوهم من أهل السنة "، كما أوصي بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وغيرها من كتب علماء السنة، كما أوصي إخواني قبل ذلك كله بقراءة كتاب الله وتدبره فهو أصدق كتاب وأشرف كتاب، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) ، وأوصيهم أيضا بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فيها من الهدى والعلم، وقد صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوله: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » . راجيا من الله أن يوفق العلماء في كل مكان لما فيه إظهار الحق وتبيان أحكام الدين.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(40/150)
س: ما رأيكم في المقولة التي تقول: إن أمور العصر تعقدت وأصبحت متشابكة، لذلك لا بد أن تخرج الفتوى من فريق متكامل يضم كافة المختصين بجوانب المشكلة أو الحالة ومن بينهم الفقيه؟
ج: إن الفتوى ينبغي أن تتركز على الأدلة الشرعية وإذا صدرت الفتوى عن(40/150)
جماعة كانت أكمل وأفضل للوصول إلى الحق، لكن هذا لا يمنع العالم أن يفتي بما يعلمه من الشرع المطهر.(40/151)
س: يقوم الإنتاج الإعلامي الحالي بتوجيه هذا الجيل كيفما يريد المنتجون. . فما يقدمه التلفزيون والإذاعة من تمثيليات ومسرحيات وبرامج مختلفة إنما يعمل على تكريس قيم وأفكار، ومبادئ يريدها صانعو هذه المصنفات الفنية، فإن تركنا إنتاج هذه المصنفات لغيرنا أفسدوا أبناءنا وبناتنا، وإن وجهنا أبناءنا وبناتنا لفهم ودراسة هذه الفنون من أجل صياغتها صياغة إسلامية - خافوا على أنفسهم من الوقوع في الخطأ. . فبم تنصحون؟
ج: إن على المسئولين في الدول الإسلامية أن يتقوا الله في المسلمين وأن يولوا هذه الأمور لعلماء الخير والهدى والحق، كما أن على علمائنا أن لا يمتنعوا من إيضاح الحقائق بالوسائل الإعلامية، وألا يدعوا هذه الوسائل للجهلة والمتهمين وأهل الإلحاد، بل يتولاها أهل الصلاح والإيمان والبصيرة، وأن يوجهوها على الطريقة الإسلامية حتى لا يكون فيها ما يضر المسلمين شيبا أو شبانا، رجالا أو نساء، كما أن على العلماء أن يقدموا للناس إجابات وافية حول ما يبثه التلفاز ريثما يتولاها الصالحون، وإن على الدول الإسلامية أن تولي الصالحين حتى يبثوا الخير ويزرعوا الفضائل، نسأل الله للجميع التوفيق.(40/151)
س: هل معنى ذلك أنك تنصح أبناءنا المسلمين بدراسة هذه المجالات حتى يحتلوا الأماكن التي يغزوها هؤلاء المفسدون؟
ج: نعم، ينبغي للعلماء ألا يتركوا هذه الأمور للجهلة وأن يتولوا بث الخير والفضيلة في كافة المجالات، ولكن هناك مسألة التمثيل، فأنا لا أنصح(40/151)
بممارسة التمثيل، وإنما على العلماء أن يبينوا للناس أحكام الله ورسوله، أما أن يتقمص المرء شخصية فلان واسم فلان فيقول أنا عمر أو أنا عثمان أو نحو ذلك فهو كذب، فهذا لا يجوز فعله.(40/152)
س: كان كعب بن زهير - رضي الله عنه - يقف أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول: (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول) . . وهو لم ير سعاد. . . ولم يحدث له أي شيء مما يذكره في القصيدة عن سعاد مما اعتبر ذلك كذبا. والتمثيل ضرب من هذه الضروب فما رأيك؟
ج: هذا ليس تقمصا للشخصية، إنما التقمص كقول أحدهم: أنا أبو بكر أنا عمر أنا عائشة فقد كذب، والله أعلم.(40/152)
س: هل تعتبر قيام جماعات إسلامية في البلدان الإسلامية لاحتضان الشباب وتربيتهم على الإسلام من إيجابيات هذا العصر؟
ج: وجود هذه الجماعات الإسلامية فيه خير للمسلمين، ولكن عليها أن تجتهد في إيضاح الحق مع دليله وأن لا تتنافر مع بعضها، وأن تجتهد بالتعاون فيما بينها، وأن تحب إحداها الأخرى، وتنصح لها وتنشر محاسنها، وتحرص على ترك ما يشوش بينها وبين غيرها، ولا مانع أن تكون هناك جماعات إذا كانت تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.(40/152)
س: بم تنصح الشباب داخل هذه الجماعات؟
ج: أن يترسموا طريق الحق ويطلبوه، وأن يسألوا أهل العلم فيما أشكل عليهم، وأن يتعاونوا مع الجماعات فيما ينفع المسلمين بالأدلة الشرعية، لا بالعنف ولا بالسخرية، ولكن بالكلمة الطيبة والأسلوب(40/152)
الحسن وأن يكون السلف الصالح قدوتهم، والحق دليلهم، وأن يهتموا بالعقيدة الصحيحة التي سار عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم -.(40/153)
س: هل الأولوية في الدعوة الإسلامية للعمل الخيري كبناء المساجد وإغاثة المنكوبين أم لدعوة الحكومات لتطبيق الشريعة الإسلامية ومحاربة كافة أشكال الفساد؟ .
ج: الواجب على العلماء البداءة بما بدأ فيه الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فيما يتعلق بالمجامع الكافرة والبلدان غير الإسلامية وذلك بالدعوة إلى توحيد الله، وترك عبادة ما سواه، والإيمان به وبأسمائه وصفاته، وإثباتها له على الوجه اللائق به عز وجل، مع الإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - ومحبته واتباعه، كما أن عليهم دعوة المسلمين في كل مكان إلى التمسك بشريعة الله، والاستقامة عليها، ونصح ولاة الأمور، ومساعدة المحتاجين ومواساتهم. كما أن على العلماء أن يستمروا في الدعوة إلى الله، والحرص على الأعمال الخيرية، وزيارة ولاة الأمور، وتشجيعهم على الأعمال الحسنة، وحثهم على تحكيم الشريعة وإلزام الشعوب بها عملا بقول الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) ، وقوله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة المائدة الآية 50(40/153)
س: يتحمس بعض الشباب أكثر مما ينبغي وينحو إلى التطرف فما هي نصيحتكم له؟ .(40/153)
ج: يجب على الشباب وغيرهم الحذر من العنف والتطرف والغلو؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (1) ، وقوله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) الآية، وقوله عز وجل لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «هلك المتنطعون (4) » قالها ثلاثا، رواه مسلم في صحيحه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (5) » رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن بإسناد حسن. فلهذا أوصي جميع الدعاة بأن لا يقعوا في الإسراف والغلو وإنما عليهم التوسط. . وهو السير على نهج الله وعلى حكم كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) سورة النساء الآية 171
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) سورة طه الآية 44
(4) صحيح مسلم العلم (2670) ، سنن أبو داود السنة (4608) ، مسند أحمد بن حنبل (1/386) .
(5) سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) .(40/154)
س: اليوم نعيش ظاهرة سياسية كبيرة هزت العالم وهي انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد اليهود، فهل لكم كلمة توجهونها إلى الشباب المسلم في فلسطين المحتلة؟ .
ج: أنصحهم بتقوى الله، والتعاون على الخير، والاستقامة في العمل، فالله ينصر من ينصره، فقد قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) ، وقال سبحانه في مكان آخر من كتابه الكريم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (2) .
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة النور الآية 55(40/154)
إنني أنصح كل إخواني بالتعاون معهم، وأنصح الأغنياء وولاة الأمور بأن يمدوا يد العون لإخوانهم في فلسطين المجاهدة لاسترداد بلادهم والنصر على الأعداء إن شاء الله. أيدهم الله بالحق وجزاهم عن المسلمين كل خير، وما عليهم إلا يصبروا ويصابروا فإن وعد الله حق وإن الله ناصر من ينصره، وفقهم الله ونصرهم على عدوهم، ووفق المسلمين لمساعدتهم والوقوف بصفهم حتى ينصرهم الله على عدوهم وهو سبحانه خير الناصرين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(40/155)
حكم من يعتقد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس ببشر
س: إذا مات الشخص وهو يعتقد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس ببشر، وأنه يعلم الغيب، وأن التوسل بالأولياء والأموات والأحياء قربة إلى الله عز وجل، فهل يدخل النار ويعتبر مشركا؟ علما أنه لا يعلم غير هذا الاعتقاد وأنه عاش في منطقة علماؤها وأهلها كلهم يقرون بذلك، فما حكمه، وما حكم التصدق عنه والإحسان إليه بعد موته؟ .
ج: من مات على هذا الاعتقاد بأن يعتقد أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليس ببشر أي ليس من بني آدم، أو يعتقد أنه يعلم الغيب فهذا اعتقاد كفري يعتبر صاحبه كافرا كفرا أكبر، وهكذا إذا كان يدعوه ويستغيث به أو ينذر(40/155)
له أو لغيره من الأنبياء والصالحين أو الجن أو الملائكة أو الأصنام؛ لأن هذا من جنس عمل المشركين الأولين كأبي جهل وأشباهه، وهو شرك أكبر، ويسمي بعض الناس هذا النوع من الشرك توسلا، وهو غير الشرك الأكبر. وهناك نوع ثان من التوسل ليس من الشرك بل هو من البدع ووسائل الشرك، وهو التوسل بجاه الأنبياء والصالحين، أو بحق الأنبياء والصالحين، أو بذواتهم، فالواجب الحذر من النوعين جميعا. ومن مات على النوع الأول لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يدعى له ولا يتصدق عنه لقول الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (1) .
وأما التوسل بأسماء الله وصفاته وتوحيده والإيمان به فهو توسل مشروع ومن أسباب الإجابة، لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2) الآية، ولما «ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمع من يدعو ويقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال: لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب (3) » .
وهكذا التوسل بالأعمال الصالحة من بر الوالدين وأداء الأمانة والعفة عما حرم الله ونحو ذلك، كما ورد ذلك في أحاديث أصحاب الغار المخرج في الصحيحين، وهم ثلاثة، آواهم المبيت والمطر إلى غار فلما دخلوا فيه انحدرت عليهم صخرة من أعلى جبل فسدت الغار
__________
(1) سورة التوبة الآية 113
(2) سورة الأعراف الآية 180
(3) سنن الترمذي الدعوات (3475) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3857) .(40/156)
عليهم فلم يستطيعوا الخروج. فقالوا فيما بينهم إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تسألوا الله بصالح أعمالكم، فتوجهوا إلى الله سبحانه فسألوه ببعض أعمالهم الطيبة فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، وإني ذات ليلة نأى بي طلب الشجر فلما رحت عليهما بغبوقهما وجدتهما نائمين فلم أوقظهما، وكرهت أن أسقي قبلهما أهلا ومالا، فلم أزل على ذلك حتى طلع الفجر فاستيقظا وشربا غبوقهما، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج منه. أما الثاني فتوسل بعفته عن الزنا حيث كانت له ابنة عم يحبها كثيرا وأرادها في نفسها فأبت عليه، ثم ألمت بها حاجة شديدة فجاءت إليه تطلب منه المساعدة فأبى عليها إلا أن تمكنه من نفسها فوافقت على هذا من أجل حاجتها فأعطاها مائة دينار وعشرين دينارا فلما جلس بين رجليها قالت له: يا عبد الله اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فخاف من الله حينئذ، وقام عنها وترك لها الذهب خوفا من الله عز وجل. فقال: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج منه. ثم قال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيت كل واحد أجرته إلا واحدا ترك أجرته فنميتها له حتى بلغت إبلا وبقرا وغنما ورقيقا. فجاء يطلب أجرته فقلت له كل هذا من أجرتك يعني الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال يا عبد الله اتق الله ولا تستهزئ بي، فقلت له: إني لا أستهزئ بك إنه كله مالك فساقه كله. اللهم إن كنت تعلم إني فعلت هذا ابتغاء وجهك فأفرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا جميعا يمشون.(40/157)
وهذا يدل على أن التوسل بالأعمال الصالحة الطيبة أمر مشروع، وأن الله جل وعلا يفرج به الكربات كما جرى لهؤلاء الثلاثة. أما التوسل بجاه فلان وبحق فلان أو بذات فلان فهذا غير مشروع، بل هو من البدع كما تقدم، والله ولي التوفيق.(40/158)
س: يقول السائل جزاكم الله خيرا على محاضرتكم الوافية، وجعلها الله في ميزان أعمالكم: وسؤالي هو: كيف السبيل إلى معرفة حقيقة التوحيد اعتقادا وسلوكا وعملا؟ .
ج: الطريق بحمد الله ميسر فعلى المؤمن أن يحاسب نفسه، ويلزمها الحق، ويتأثر بالمطبقين للنصوص على أنفسهم، فيستقيم على توحيد الله والإخلاص له ويلزم العمل بذلك، ويدعو إليه، حتى يثبت عليه، ويكون سجية له لا يضره بعد ذلك من أراد أن يعوقه عن هذا أو يلبس عليه.
المهم أن يعنى بهذا الأمر ويحاسب نفسه، وأن يعرفه جيدا حتى لا تلتبس عليه الأمور، وحتى لا تروج عليه الشبهات.(40/158)
س: نشاهد في بعض البلاد الإسلامية أن هناك أناسا يطوفون بالقبور عن جهل. . فما حكم هؤلاء، وهل يطلق على الواحد منهم مشرك؟ .
ج: حكم من دعا الأصنام واستغاث بها ونحو ذلك (1) ، حكمهم بحمد الله ظاهر وهو الكفر الأكبر إلا أن يدعي أنه طاف بالقبور بقصد عبادة الله، كما يطوف بالكعبة يظن أنه يجوز الطواف بالقبور ولم يقصد التقرب بذلك لأصحابها وإنما قصد التقرب إلى الله وحده فهذا يعتبر مبتدعا لا كافرا لأن الطواف بالقبور بدعة منكرة، كالصلاة عندها
__________
(1) أو دعا الأنبياء أو الصالحين أو الجن أو غيرهم من الخلق.(40/158)
وكل ذلك من وسائل الكفر، ولكن الغالب على عباد القبور هو التقرب إلى أهلها بالطواف بها، كما يتقربون إليهم بالذبح لهم والنذر لهم. وكل ذلك شرك أكبر، من مات عليه مات كافرا لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وأمره إلى الله عز وجل في الآخرة، إن كان ممن لم تبلغه الدعوة فله حكم أهل الفترة، ويدل على ذلك ما جرى لأم النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها ما كانت أدركت النبوة وكانت على دين قومها واستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه أن يستغفر لها فلم يؤذن له أن يستغفر لها لأنها كانت على دين الجاهلية. وهكذا أبوه قال عنه - صلى الله عليه وسلم - لما سأله سائل عن أبيه: «إن أبي وأباك في النار (1) » وأبوه - صلى الله عليه وسلم - مات في الجاهلية على دين قومه فصار حكمه حكم الكفار، لكن من لم تبلغه الدعوة في الدنيا، ومات على جهل بالحق يمتحن يوم القيامة في أصح أقوال أهل العلم، فإن نجح دخل الجنة، وإن عصى دخل النار.
وهكذا جميع أهل الفترات الذين لم تبلغهم الدعوة كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2) . .
أما من بلغه القرآن أو بعثه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم يستجب فقد قامت عليه الحجة، كما قال عز وجل: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (3) يعني أن من بلغه القرآن فقد أنذر.
وقال تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ} (4) ، فمن بلغه القرآن وبلغه الإسلام، ثم لم يدخل فيه له حكم الكفرة، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه (5) »
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (72) ، سنن النسائي تحريم الدم (4024) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/186) .
(2) سورة الإسراء الآية 15
(3) سورة الأنعام الآية 19
(4) سورة إبراهيم الآية 52
(5) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد بن حنبل (2/350) .(40/159)
الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار خرجه مسلم في الصحيح. فجعل سماعه ببعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة عليه.
والحاصل أن من أظهر الكفر في ديار الإسلام حكمه حكم الكفرة، أما كونه يوم القيامة ينجو أو لا ينجو فهذا إلى الله سبحانه وتعالى إن كان ممن لم تبلغه الدعوة ولم يسمع ببعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم -
فإنه يمتحن يوم القيامة ويرسل إليه عنق من النار، كما جاء في حديث الأسود بن سريع فيقال له: ادخل، فإن دخلها كان عليه بردا وسلاما، وإن أبى التف عليه العنق وصار إلى النار نسأل الله السلامة.
فالخلاصة: أن من لم تبلغه الدعوة كالذين في أطراف الدنيا، أو في أوقات الفترات، أو كان بلغته وهو مجنون ذاهب العقل، أو هرم لا يعقل، فهؤلاء وأشباههم مثل أولاد المشركين الذين ماتوا وهم صغار، فإن أولاد المشركين الذين لم يبلغوا الحلم كلهم أمرهم إلى الله، فالله يعلم بما كانوا عاملين، كما أجاب بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عنهم، ويظهر علمه فيهم سبحانه يوم القيامة بالامتحان، فمن نجح منهم دخل الجنة، ومن لم ينجح دخل النار ولا حول ولا قوة إلا بالله.(40/160)
س: ما حكم التميمة من القرآن ومن غيره؟ .
ج: أما التميمة من غير القرآن كالعظام والطلاسم والودع وشعر الذئب وما أشبه ذلك فهذه منكرة محرمة بالنص لا يجوز تعليقها على الطفل ولا على غير الطفل؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (1) » وفي رواية «من تعلق تميمة فقد أشرك (2) » .
أما إذا كانت من القرآن أو من دعوات معروفة طيبة، فهذه
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/156) .(40/160)
اختلف فيها العلماء فقال بعضهم: يجوز تعليقها، ويروى هذا عن جماعة من السلف جعلوها كالقراءة على المريض.
والقول الثاني أنها لا تجوز وهذا هو المعروف عن عبد الله بن مسعود وحذيفة - رضي الله عنهما - وجماعة من السلف والخلف. قالوا لا يجوز تعليقها ولو كانت من القرآن سدا للذريعة وحسما لمادة الشرك وعملا بالعموم؛ لأن الأحاديث المانعة من التمائم أحاديث عامة، لم تستثن شيئا. والواجب الأخذ بالعموم فلا يجوز شيء من التمائم أصلا لأن ذلك يفضي إلى تعليق غيرها والتباس الأمر.
فوجب منع الجميع. وهذا هو الصواب لظهور دليله.
فلو أجزنا التميمة من القرآن ومن الدعوات الطيبة لا نفتح الباب وصار كل واحد يعلق ما شاء فإذا أنكر عليه قال: هذا من القرآن، أو هذه من الدعوات الطيبة، فينفتح الباب، ويتسع الخرق، وتلبس التمائم كلها.
وهناك علة ثالثة وهي أنها قد يدخل بها الخلاء ومواضع القذر، ومعلوم أن كلام الله ينزه عن ذلك، ولا يليق أن يدخل به الخلاء.(40/161)
س: ما معنى الحديث: إن الرقى والتمائم والتولة شرك؟ .
ج: الحديث لا بأس بإسناده، رواه أحمد وأبو داود من حديث ابن مسعود ومعناه عند أهل العلم: إن الرقى التي تكون بألفاظ لا يعرف معناها أو بأسماء الشياطين أو ما أشبه ذلك ممنوعة، والتولة نوع من السحر يسمونه الصرف والعطف، والتمائم ما يعلق على الأولاد عن العين أو الجن، وقد تعلق على المرضى والكبار، وقد تعلق على الإبل ونحو ذلك، ويسمى ما يعلق على الدواب الأوتار، وهي من الشرك الأصغر(40/161)
وحكمها حكم التمائم، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه أرسل في بعض مغازيه إلى الجيش رسولا يقول لهم: لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت. وهذا من الحجة على تحريم التمائم كلها سواء كانت من القرآن أو غيره.
وهكذا الرقى تحرم إذا كانت مجهولة. أما إذا كانت الرقى معروفة ليس فيها شرك ولا ما يخالف الشرع فلا بأس بها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رقى ورقي: قال: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (1) » رواه مسلم.
وكذلك الرقية في الماء لا بأس بها، وذلك بأن يقرأ في الماء ويشربه المريض، أو يصب عليه، فقد فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه ثبت في سنن أبي داود في كتاب الطب أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في ماء لثابت بن قيس بن شماس ثم صبه عليه. وكان السلف يفعلون ذلك. فلا بأس به.
__________
(1) صحيح مسلم السلام (2200) ، سنن أبو داود الطب (3886) .(40/162)
س: جرت العادة عند بعض القبائل أن ينحروا الإبل عند المناسبات، هل يعتبر هذا قدحا في العقيدة؟ .
ج: هذا فيه تفصيل، فإن كان نحرها للضيفان وإطعام الناس فهذا لا بأس به وهو عمل مشروع، أما إن كان نحرها عند لقاء الملوك أو عند لقاء المعظمين تعظيما لهم فهذا شرك. لأنه ذبح لغير الله، فيدخل في عموم قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} (1) وهكذا نحرها عند القبور تذكيرا بجود أهلها وكرمهم، فهذا من عمل الجاهلية، وهو منكر لا يجوز لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا عقر في الإسلام (2) » .
فإن قصد به التقرب إلى أهل القبور فهذا شرك أكبر. وهكذا الذبح للجن والأصنام كله من الشرك الأكبر. نسأل الله السلامة من ذلك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 173
(2) سنن أبو داود الجنائز (3222) ، مسند أحمد بن حنبل (3/197) .(40/162)
س: بعض الناس يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - كهذه: اللهم صل على نبينا محمد طب القلوب ودواء العافية؟ هل هذا مشروع؟ .
ج: ليس بمشروع وفيه إبهام يخشى من الالتباس على الناس، ولكن أفضل الصلاة عليه والصلاة الإبراهيمية: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
هذه الصلاة هي الصلاة المعروفة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولها أنواع، وبأي نوع منها صلى فقد فعل المشروع إذا كان من الأنواع الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم -.(40/163)
س: لي قريب يكثر الحلف بالله صدقا وكذبا. . ما حكم ذلك؟ .
ج: ينصح ويقال له: ينبغي لك عدم الإكثار من الحلف، ولو كنت صادقا لقول الله سبحانه وتعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} (1) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه (2) » . وكانت العرب تمدح بقلة الأيمان كما قال الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه ... إذا صدرت منه الألية برت
والألية هي اليمين.
فالمشروع للمؤمن أن يقلل من الأيمان ولو كان صادقا، لأن الإكثار منها قد يوقعه في الكذب.
__________
(1) سورة المائدة الآية 89
(2) صحيح البخاري الديات (6899) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1671) ، سنن الترمذي الطهارة (73) ، سنن النسائي الطهارة (305) ، سنن أبو داود الحدود (4364) ، سنن ابن ماجه الحدود (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/163) .(40/163)
ومعلوم أن الكذب حرام، وإذا كان مع اليمين صار أشد تحريما، لكن لو دعت الضرورة أو المصلحة الراجحة إلى الحلف الكاذب فلا حرج في ذلك لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من «حديث أم كلثوم بنت عقبة بن أبي المعيط - رضي الله عنها -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيرا أو ينمي خيرا، قالت ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث: الإصلاح بين الناس والحرب، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها (1) » رواه مسلم في الصحيح.
فإذا قال في إصلاح بين الناس: والله إن أصحابك يحبون الصلح ويحبون أن تتفق الكلمة، ويريدون كذا وكذا، ثم أتى الآخرين وقال لهم مثل ذلك، ومقصده الخير والإصلاح فلا بأس للحديث المذكور.
وهكذا لو رأى إنسانا يريد أن يقتل شخصا ظلما أو يظلمه في شيء آخر، فقال له: والله إنه أخي، حتى يخلصه من هذا الظالم إذا كان يريد قتله بغير حق أو ضربه بغير حق، وهو يعلم أنه إذا قال: أخي تركه احتراما له، وجب عليه مثل هذا لمصلحة تخليص أخيه من الظلم.
والمقصود أن الأصل في الأيمان الكاذبة المنع والتحريم، إلا إذا ترتب عليها مصلحة كبرى أعظم من الكذب، كما في الثلاث المذكورة في الحديث السابق.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2692) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2605) ، سنن الترمذي البر والصلة (1938) ، سنن أبو داود الأدب (4921) ، مسند أحمد بن حنبل (6/404) .(40/164)
س: هل يخرج الشرك الأصغر صاحبه من الملة؟ .
ج: الشرك الأصغر لا يخرج من الملة، بل ينقص الإيمان وينافي كمال(40/164)
التوحيد الواجب، فإذا قرأ الإنسان يرائي، أو تصدق يرائي، أو نحو ذلك نقص إيمانه وضعف وأثم على هذا العمل لكن لا يكفر كفرا أكبر.(40/165)
س: قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) على من يعود الضمير في قوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ} (2) ؟ .
ج: يعود على المدعوين، والمعنى ادع الناس إلى سبيل ربك، فالضمير في جادلهم يعني المدعوين سواء كانوا مسلمين أو كفارا ومثلها قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) وأهل الكتاب هم الكفرة من اليهود والنصارى فلا يجوز جدالهم إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فالظالم يعامل بما يستحقه.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة العنكبوت الآية 46(40/165)
س: ما حكم من يوحد الله تعالى ولكن يتكاسل عن أداء بعض الواجبات؟ .
ج: يكون ناقص الإيمان، وهكذا من فعل بعض المعاصي ينقص إيمانه عند أهل السنة والجماعة؛ لأنهم يقولون: الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. ومن أمثلة ذلك ترك صيام رمضان بغير عذر أو بعضه، فهذه معصية كبيرة تنقص الإيمان وتضعفه، وبعض أهل العلم يكفره بذلك.
لكن الصحيح أنه لا يكفر بذلك ما دام يقر بالوجوب، ولكن أفطر بعض الأيام تساهلا وكسلا.(40/165)
وهكذا لو أخر الزكاة عن وقتها تساهلا، أو ترك إخراجها فهو معصية وضعف في الإيمان، وبعض أهل العلم يكفره بتركها.
وهكذا لو قطع رحمه، أو عق والديه، كان هذا نقصا في الإيمان وضعفا فيه، وهكذا بقية المعاصي.
أما ترك الصلاة فهو ينافي الإيمان ويوجب الردة ولو لم يجحد وجوبها في أصح قولي العلماء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله (1) » . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » رواه أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (3) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2616) ، سنن ابن ماجه الفتن (3973) ، مسند أحمد بن حنبل (5/246) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(40/166)
أحوال يوم القيامة
بقلم الدكتور: دوخي بن زيد بن علي الحارثي
الحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، المتولي لشئون عباده في الحياة الدنيا وبعد الممات، وأشهد أنه الإله الحق الدائم الذي خلقه كلهم يموتون وهو حي دائم لا يموت، جعل الدار الدنيا مزرعة، والدار الآخرة حصاد.
وأشهد أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين ومبلغا للناس أجمعين، يحذرهم من عصيان الله الموجب لغضبه وعذابه، ويأمرهم بطاعته الموجب لرضائه ونعيمه.
وأشهد أن الموت حق، وأن الناس إذا ماتوا يبعثون، وذلك في اليوم الآخر ويحاسبون على أعمالهم ويجازون عليها، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
فذلك اليوم الذي غفل عنه الكثير من الناس وهو الجدير بالذكر والتذكر، حيث فيه المنازل التي فيها المستقر النهائي - الجنة ونعيمها، والنار وعذابها.(40/167)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (1) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (2) .
وبعد: سأذكر بمشيئة الله تعالى بعض الأمور التي ستحصل بعد انتهاء عمر الدنيا وبدء اليوم الآخر، وهي أحوال الآخرة، نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذلك اليوم وأهوآله وكربه إنه سميع مجيب.
__________
(1) سورة الحشر الآية 18
(2) سورة الحشر الآية 19(40/168)
أولا: ((الصور والنافخ فيه))
قال الله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} (1) {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} (2) .
قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وزيد بن أسلم والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس والسدي وابن زيد: {النَّاقُورِ} (3) الصور، قال مجاهد: ((وهو كهيئة القرن)) (4) .
الصور: ((هو القرن الذي ينفخ فيه. . . عند بعث الموتى إلى المحشر. وقال بعضهم: إن الصور جمع صورة، يريد صور الموتى ينفخ فيه الأرواح. والصحيح الأول؛ لأن الأحاديث تعاضدت عليه تارة بالصور، وتارة بالقرن)) (5) .
القرن: ((هو البوق يتخذ من القرون ينفخ فيه)) (6) . قال القرطبي: ((الصور: قرن من نور ينفخ فيه النفخة الأولى للفناء والثانية للإنشاء وليس جمع صورة كما زعم بعضهم أي نفخ في صور الموتى)) (7) . ولم يقم دليل صحيح على أن الصور من نور أو غيره من الصفات الأخرى. والصور ثابت في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وإن قول من قال إن الصور جمع صورة ينفخ فيها روحها فتحيا، فهذا القول لا يصح لمخالفته لما في القرآن وفي السنة المفسرة له.
قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} (8) .
__________
(1) سورة المدثر الآية 8
(2) سورة المدثر الآية 9
(3) سورة المدثر الآية 8
(4) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4 \ 691.
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر 3 \ 60.
(6) انظر تحقيق محمود محمد شاكر، وأحمد محمد شاكر على تفسير الطبري 11 \ 462.
(7) الجامع لأحكام القرآن 7 \ 20.
(8) سورة الزمر الآية 68(40/169)
وهنا النفخ في الأولى يؤدي إلى الصعق ثم الموت بينما رأي من قال النفخ هو في الصور فهذا لا يتناسب مع مفهوم الآية، حيث النفخ في الصور يؤدي إلى الحياة.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - «أن أعرابيا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الصور. قال: ((قرن ينفخ فيه)) (1) » .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا (2) » .
قال ابن كثير: ((والصحيح أن المراد بالصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام)) (3) . وهنا نقف على صحة القول بأن الصور هو قرن - بوق - ينفخ فيه لقيام الساعة وخراب الدنيا، وينفخ فيه بعد ذلك لقيام الناس من قبورهم للحساب وبدء اليوم الآخر - يوم الجزاء والحساب -
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك 4 \ 560، وقال هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي: ورواه الترمذي في سننه كتاب صفة القيامة في باب: ما جاء في شأن الصور حديث رقم 2430، وقال: هذا الحديث حسن. ورواه الإمام أحمد في المسند 2 \ 192.
(2) رواه الترمذي في سننه ((كتاب صفة القيامة)) - ما جاء في شأن الصور - حديث رقم 2431، ورواه في كتاب التفسير سورة الزمر، وقال: هذا حديث حسن. ورواه الحاكم في المستدرك 4 \ 559.
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2 \ 234. دار الفكر.(40/170)
قال الله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} (1) .
وأما النافخ في الصور فلم أقف على آية أو حديث صحيح يذكر فيه اسم النافخ صراحة باسمه، ولكن الوارد في الأحاديث الصحيحة أن النافخ في الصور واحد لا اثنان، كما ورد بذلك أحاديث لا تصح بأن هناك ملكين موكلان بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن طرف صاحب الصور من وكل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه كأن عينيه كوكبان دريان (2) » .
ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أن النافخ في الصور واحد ولم يذكر باسمه، إلا أن المشهور عند العلماء أن النافخ في الصور هو إسرافيل عليه السلام.
قال القرطبي: ((والصحيح في الصور أنه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل)) (3) . وقال: ((والأمم مجمعة على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام)) (4) .
وقال ابن حجر: ((اشتهر أن صاحب الصور إسرافيل عليه السلام)) (5) .
__________
(1) سورة يس الآية 51
(2) رواه الحاكم في المستدرك 4 \ 559. وقال هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(3) الجامع لأحكام القرآن 13 \ 239 دار إحياء التراث العربي.
(4) الجامع لأحكام القرآن 7 \ 20 دار إحياء التراث العربي.
(5) فتح الباري 11 \ 368.(40/171)
فيكون بهذا قد وقفنا على صحة القول بثبوت الصور، وأنه بوق ينفخ فيه بخراب الدنيا فيحصل من الأهوال الشيء العظيم، ثم ينفخ فيه مرة أخرى فيقوم الناس من قبورهم لفصل القضاء، وأن النافخ فيه هو إسرافيل عليه السلام، كما اشتهر بذلك القول. والله أعلم.(40/172)
ثانيا: ((عدد النفخات والأثر المترتب على ذلك))
لكل شي بداية ونهاية، والدنيا بأكملها وبكل ما فيها خاضعة لهذه الحقيقة المؤكدة، وقد أوشك عمر الدنيا على الانتهاء لتبدأ الدار الآخرة، ففي يوم الجمعة - والله أعلم بذلك اليوم متى يكون - تودع الدنيا وتستقبل الآخرة وذلك بصوت مفزع والناس في غفلة معرضون. قال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} (1) .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة (2) » . ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور فيفزع من في السماوات ومن في الأرض من شدة الصوت - إلا من شاء الله - ومما يرى الناس مما حصل لمخلوقات الله تعالى من الخراب والدمار والأهوال المفجعة فيموتون، وتتغير أحوال الدنيا بأحوال أخرى ولا يبقى أحد حي إلا الله الواحد القهار كما كان أولا كان آخرا، ثم يأمر سبحانه فينفخ في الصور أخرى فتحيا المخلوقات، ويكون فصل القضاء. وسنرى إن شاء الله تعالى ما جاء في النفخ من آيات وأحاديث.
قال الله تعالى {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} (3) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 1
(2) رواه مسلم في صحيحه (كتاب الجمعة) 18، حديث 854.
(3) سورة النمل الآية 87(40/173)
وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} (1) .
هاتان آيتان جاءتا في كتاب الله تعالى تبين عدد النفخات في الصور، ففي الآية الأولى يخبر تعالى أنه عند النفخ في الصور النفخة الأولى يفزع من في السماوات ومن في الأرض. والفزع: ((هو الخوف)) (2) .
وفي الآية الثانية بعد النفخ في الصور يصعق من في السماوات ومن في الأرض. والصعق: ((أن يغشى على الإنسان من صوت شديد يسمعه وربما مات منه، ثم استعمل في الموت كثيرا)) (3) . قال القرطبي في كلامه على آية الزمر: ((فاستثنى في نفخة الفزع فدل على أنهما واحدة)) . ومن معرفة المعنى للصعق يجعله شاملا لمعنى الفزع، وعلى هذا يكون عدد النفخات اثنتين لا ثلاثا مما يضعف رأي من ذهب من العلماء إلى أن عدد النفحات ثلاث، حيث لا حجة لهم إلا الآية التي في سورة النمل والتي ذكرناها آنفا، أو بحديث الصور، وحديث الصور لا يصح ضعفه العلماء (4) ولا أعرف دليلا صحيحا يعزز قولهم من كتاب ولا سنة.
وقال الله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} (5) {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} (6) وقال ابن
__________
(1) سورة الزمر الآية 68
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر 3 \ 443.
(3) النهاية في غريب الحديث والأثر 3 \ 31، 32.
(4) انظر فتح الباري 11 \ 369.
(5) سورة النازعات الآية 6
(6) سورة النازعات الآية 7(40/174)
عباس ومجاهد والحسن وقتادة: ((وأما الثانية فتحيي كل شيء بإذن الله تعالى)) (1) .
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بين النفختين أربعون. قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوما؟ قال أبيت. قالوا: أربعون شهرا؟ قال: أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال أبيت (3) . قال: وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة» .
وعن يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي قال: سمعت عبد الله بن عمرو وجاءه رجل فقال: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ تقول: إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا. فقال: سبحان الله، أو لا إله إلا الله، أو كلمة نحوها. لقد هممت أن لا أحدث أحدا شيئا أبدا، إنما قلت: إنكم سترون بعد قليل أمرا عظيما، يحرق البيت ويكون ويكون، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين - لا أدري:
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 19 \ 195.
(2) رواه مسلم في صحيحه كتاب الفتن وأشراط الساعة باب 28 حديث 2955 واللفظ له ورواه البخاري في صحيحه كتاب التفسير حديث 481.
(3) (2) ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل البقل: نبات عشبي يتغذى الإنسان به أو بجزء منه دون تحويله صناعيا. المعجم الوسيط 1 \ 66.(40/175)
أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما -، فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناس سبع سنين، ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع. قال: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله. قال: فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطرا كأنه الطل أو الظل (4) » . في هذين الحديثين بيان على أن النفخات اثنتان لا ثلاث، ففي الحديث الأول يقول
__________
(1) المراد بالساق: ساق حقيقية لله عز وجل، ولكن لا يشبهها شيء. وهذا معتقد أهل السنة والجماعة في إثبات جميع صفات الرب سبحانه وتعالى على ما جاء في الكتاب والسنة دون تشبيه ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف. عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا. انظر صحيح البخاري كتاب التفسير حديث 4919، وانظر كتاب التوحيد أيضا حديث 7439، وانظر صحيح مسلم كتاب الإيمان 302، حديث 183، وانظر المستدرك للحاكم 4 \ 582، 583. - رواه مسلم كتاب الفتن باب 116، حديث 2940، والإمام أحمد في المسند 2 \ 166. وانظر تحقيق أحمد محمد شاكر جزء 10 حديث 6555.
(2) (1) ، لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا، فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار رزقهم، حسن عيشهم، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا
(3) يلوط حوض إبله: أي يطينه ويصلحه. (2)
(4) (3) (نعمان الشاك) فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال: يا أيها الناس: هلم إلى ربكم، وقفوهم إنهم مسئولون. قال: ثم يقال: أخرجوا بعث النار، فيقال من كم؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين. قال: فذاك يوم يجعل الوالدان شيبا وذلك يوم يكشف عن ساق(40/176)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما بين النفختين أربعون (1) » وهذا يشعر بنفختين فقط، وفي الحديث الثاني: يقول - صلى الله عليه وسلم -: «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله. قال: فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطرا كأنه الطل أو الظل (نعمان الشاك) فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون (2) » وهذا بيان آخر بأن النفخات اثنتان. وقد تكلم القرطبي عن ذلك وقرر أن النفخات اثنتان (3) ، وكذلك ابن حجر العسقلاني، ورد على من قال بأن النفخات ثلاث أو أربع، وقرر المسألة (4) . وأقتصر على الإحالة خشية الإطالة بذكر ذلك. والله أعلم.
وأما من استثنى الله تعالى من الصعق بعد النفخ في الصور فقد أول العلماء - رحمهم الله تعالى - ذلك دون دليل قطعي، وقد كفانا شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - رحمه الله تعالى - القول في هذه المسألة فقال:
((وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحور العين، فإن الجنة
__________
(1) صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن (4935) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2955) ، سنن النسائي الجنائز (2077) ، سنن أبو داود السنة (4743) ، سنن ابن ماجه الزهد (4266) ، مسند أحمد بن حنبل (2/315) ، موطأ مالك الجنائز (565) .
(2) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2940) ، مسند أحمد بن حنبل (2/166) .
(3) انظر التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة ـ دار الكتب العلمية بيروت. ص226، 238.
(4) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري 11 \ 368، 369، 370.(40/177)
ليس فيها موت، ومتناول لغيرهم. ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله، فإن الله أطلق في كتابه. وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى آخذا بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي أم كان ممن استثناه الله (1) » ? وهذه الصعقة قيل إنها رابعة وقيل إنها من المذكورات في القرآن.
وبكل حال: النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توقف في موسى، وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا؟ فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخبر بكل من استثنى الله لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك، وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة وأعيان الأنبياء، وأمثال ذلك مما لم يخبر به، وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (2) .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب الأنبياء حديث 3408.
(2) مجموع الفتاوى، شيخ الإسلام أحمد بن تيمية 4 \ 261.(40/178)
ثالثا: ((البعث والنشور))
البعث: إثارة بارك أو قاعد، تقول: بعثت البعير فانبعث أي أثرته فثار، والبعث أيضا: الإحياء من الله للموتى، ومنه قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (1) أي أحييناكم. وبعث الموتى: نشرهم ليوم البعث. وبعث الله الخلق يبعثهم بعثا: ((نشرهم من ذلك)) (2) .
النشور: ((أنشر الله الموتى فنشروا هم إذا حيوا، وأنشرهم الله أي أحياهم)) (3) . والنشور مرادف للبعث في المعنى، والمراد أن الله تعالى يحيي الموتى مرة أخرى فيصبحوا منتشرين في الأرض ينتظرون النداء إلى أرض المحشر لفصل القضاء، وأول من تنشق عنه الأرض ويبعث هو رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «بينما يهودي يعرض سلعته أعطي بها شيئا كرهه، فقال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار فقام فلطم وجهه وقال: تقول والذي اصطفى موسى على البشر والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا؟ فذهب إليه فقال: أبا القاسم، إن لي ذمة وعهدا، فما بال فلان لطم وجهي؟ فقال: لم لطمت وجهه؟ فذكره، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رؤى في وجهه، ثم قال: لا تفضلوا بين أولياء الله فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه
__________
(1) سورة البقرة الآية 56
(2) لسان العرب مادة بعث 2 \ 166.
(3) لسان العرب مادة نشر 5 \ 206.(40/179)
أخرى فأكون أول من بعث، فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي (2) » .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع (3) » . وأما ما كان من أمره - صلى الله عليه وسلم - وموسى - عليه السلام - في البعث فقال النووي - رحمه الله -: وفي رواية: «فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله تعالى (4) » . الصعق والصعقة: الهلاك والموت، ويقال: منه صعق الإنسان، وصعق بفتح الصاد وضمها، وأنكر بعضهم الضم، وصعقتهم الصاعقة بفتح الصاد والعين وأصعقتهم، وبنو تميم يقولون الصاقعة
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب الأنبياء، حديث 3414، ومسلم في صحيحه كتاب الفضائل، حديث 2373.
(2) (1)
(3) رواه مسلم في صحيحه كتاب الفضائل، حديث 2278 واللفظ له، ورواه الإمام أحمد في المسند 2 \ 540، ورواه أبو داود كتاب السنة، حديث 4673.
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3408) ، صحيح مسلم الفضائل (2373) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3245) ، سنن أبو داود السنة (4671) ، مسند أحمد بن حنبل (2/264) .(40/180)
بتقديم القاف. قال القاضي وهذا من أشكل الأحاديث؛ لأن موسى قد مات فكيف تدركه الصعقة، وإنما تصعق الأحياء. قوله: «ممن استثنى الله تعالى (1) » يدل على أنه كان حيا، ولم يأت أن موسى رجع إلى الحياة، ولا أنه حي كما جاء في عيسى، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق (2) » . قال القاضي: يحتمل أن هذه الصعقة صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماوات والأرض فتنتظم حينئذ الآيات والأحاديث، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فأفاق " لأنه إنما يقال أفاق من الغشي، وأما الموت فيقال: بعث منه، وصعقة الطور لم تكن موتا. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فلا أدري أفاق قبلي (3) » فيحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - قاله قبل أن يعلم أنه أول من تنشق عنه الأرض إن كان هذا اللفظ على ظاهره، وأن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أول شخص تنشق عنه الأرض على الإطلاق، قال ويجوز أن يكون معناه أنه من الزمرة الذين هم أول من تنشق عنهم الأرض، فيكون موسى من تلك الزمرة، وهي والله أعلم زمرة الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم -. هذا آخر كلام القاضي (4) .
والبعث والنشور من أركان الإيمان الستة التي يجب الإيمان بها، وقد أنكر البعض هذا الركن وقالوا إن الناس إذا ماتوا لا يبعثون.
قال الله تعالى حكاية عن أولئك القوم: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (5) ، {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا} (6) {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (7) {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (8)
__________
(1) صحيح البخاري الخصومات (2411) ، صحيح مسلم الفضائل (2373) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3245) ، سنن أبو داود السنة (4671) ، مسند أحمد بن حنبل (2/451) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3407) ، صحيح مسلم الفضائل (2372) ، سنن النسائي الجنائز (2089) ، مسند أحمد بن حنبل (2/269) .
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3398) ، مسند أحمد بن حنبل (3/33) .
(4) شرح النووي على صحيح مسلم 15 \ 131، 132.
(5) سورة النحل الآية 38
(6) سورة الإسراء الآية 98
(7) سورة المؤمنون الآية 82
(8) سورة المؤمنون الآية 83(40/181)
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (1) {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} (2) ، {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} (3) {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} (4) {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} (5) {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (6) هذه مقالة أولئك المنكرين للبعث وما ذاك إلا روايات وحكايات لا صحة لها، استصعبوا الإعادة بعد أن صاروا عظاما وترابا، ونسوا البداية حيث لم يكونوا شيئا، فيقولون كما أخبر الله عنهم: {يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} (7) {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} (8) {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} (9) ولكن الأمر من الله أعظم {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} (10) {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} (11) ما يشعرون وهم في قبورهم إلا وهم قيام ينظرون بين يديه سبحانه وتعالى لفصل القضاء، فماذا كان قولهم؟ : {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (12) وماذا سيكون الرد عليهم: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (13) {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (14) .
__________
(1) سورة الصافات الآية 16
(2) سورة الصافات الآية 17
(3) سورة المؤمنون الآية 34
(4) سورة المؤمنون الآية 35
(5) سورة المؤمنون الآية 36
(6) سورة المؤمنون الآية 37
(7) سورة النازعات الآية 10
(8) سورة النازعات الآية 11
(9) سورة النازعات الآية 12
(10) سورة النازعات الآية 13
(11) سورة النازعات الآية 14
(12) سورة يس الآية 52
(13) سورة يس الآية 63
(14) سورة يس الآية 64(40/182)
رابعا: " المحشر "
حشر: حشرهم ويحشرهم ويحشرهم حشرا: " جمعهم، ومنه يوم المحشر. والحشر: جمع الناس يوم القيامة. والحشر: حشر يوم القيامة. والمحشر: المجمع الذي يحشر إليه القوم " (1) .
عندما تحين الساعة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن تجتمع فيها الخلائق للحكم فيما كان في الحياة الدنيا، وما حصل من كل مخلوق مسئول من مخلوقات الله تعالى، ينادون لأرض المحشر، فيأتون مسرعين لفصل القضاء. قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (2) يتبعون صوت داعي الله تعالى إلى الموقف لا يحيدون عن ذلك، عليهم الهدوء والسكينة في السير والكلام، مسرعين في سيرهم متجهين إلى ما دعوا إليه. قال تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} (3) أي يقومون من القبور إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب، ينهضون سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون 0 قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: إلى علم يسعون (4) .
وقال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُر} (5) {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} (6) {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} (7) والإهطاع: هو الإسراع. وقد شبههم الله
__________
(1) لسان العرب '' حشر '' 4 \ 190.
(2) سورة طه الآية 108
(3) سورة المعارج الآية 43
(4) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4 \ 662.
(5) سورة القمر الآية 6
(6) سورة القمر الآية 7
(7) سورة القمر الآية 8(40/183)
تعالى في مجيئهم بالجراد لكثرتهم وانتشارهم في الأرض وإتيانهم من كل حدب وصوب.
وقال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} (1) {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} (2) {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ} (3) {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} (4) .
قال قتادة: قال كعب الأحبار: " يأمر الله تعالى ملكا أن ينادي على صخرة بيت المقدس، أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة إن الله تعالى يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء " (5) . فيأتون زمرا زمرا وجماعة جماعة كما أخبر الله تعالى عنهم: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} (6) وتحشر المخلوقات جميعها من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب. قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (7) ، وقال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (8) ، وقال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} (9) وقال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} (10) . قال ابن كثير: قوله: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} (11) أي أولهم وآخرهم كقوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (12) ، {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} (13) أي: عظيم تحضره الملائكة ويجتمع فيه الرسل، وتحشر الخلائق بأسرهم من
__________
(1) سورة ق الآية 41
(2) سورة ق الآية 42
(3) سورة ق الآية 43
(4) سورة ق الآية 44
(5) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4 \ 356.
(6) سورة النبأ الآية 18
(7) سورة الأنعام الآية 38
(8) سورة الشورى الآية 29
(9) سورة التكوير الآية 5
(10) سورة هود الآية 103
(11) سورة هود الآية 103
(12) سورة الكهف الآية 47
(13) سورة هود الآية 103(40/184)
الإنس والجن والطير والوحوش والدواب، ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة، إن تك حسنة يضاعفها (1) . عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام فينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال: «إنكم محشورون حفاة عراة غرلا {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} (3) الآية، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يا رب أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (4) {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (5) قال: فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم» .
في هذا الحديث يؤكد لنا - صلى الله عليه وسلم - أن الله سيحشرنا يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يبين لنا الصفة في الحشر، وهو أن العباد حفاة عراة غرلا: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} (6) وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا. قلت يا رسول
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2 \ 711.
(2) رواه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق حديث 6526، ورواه مسلم في صحيحه كتاب الجنة ونعيمها حديث 2860، ورواه الترمذي كتاب القيامة باب 3، والنسائي كتاب الجنائز 119، وأحمد في المسند 5 \ 3.
(3) (2) . سورة الأنبياء الآية 104
(4) سورة المائدة الآية 117
(5) سورة المائدة الآية 118
(6) سورة الأنبياء الآية 104(40/185)
الله: النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: يا عائشة الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض (1) » . وأول من يكسى من الخلائق إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، وقيل الحكمة في ذلك ترجع لأمور:
1 - لأنه جرد حين ألقي في النار.
2 - لأنه أول من استن التستر بالسراويل.
3 - لأنه لم يكن في الأرض أخوف لله منه فعجلت له الكسوة أمانا له ليطمئن قلبه (2) .
أما الذين يؤخذون ذات الشمال والوارد ذكرهم في الحديث فقد ذكر فيهم أقوال كثيرة رجح منها: " أنهم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر فقاتلهم أبو بكر، يعني: حتى قتلوا وماتوا على الكفر " (3) . وجاء أن الناس يبعثون بثيابهم التي ماتوا عليها، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها (4) » . وهذا الحديث يعارض حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قبله، إلا أن العلماء - رحمهم الله تعالى - تكلموا على هذا الحديث، وجعلوا له تأويلات، والله أعلم بالصواب. قال المنذري: " رواه
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه كتاب الجنة ونعيمها حديث 2859، ورواه ابن ماجه كتاب الزهد 33.
(2) فتح الباري 11 \ 384.
(3) فتح الباري 11 \ 385. والظاهر أنهم الذين أحدثوا في دين الله تعالى كما هو ظاهر الحديث. والله أعلم.
(4) رواه الحاكم في مستدركه 1 \ 340 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه أبو داود في كتاب الجنائز 14. وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع 2 \ 171 حديث رقم 1967، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 4 \ 234 حديث 1671.(40/186)
أبو داود وابن حبان في صحيحه، وفي إسناده يحيى بن أيوب وهو الغافقي المصري، احتج به البخاري ومسلم، وله مناكير، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال أحمد: سيئ الحفظ، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقد قال كل من وقفت على كلامه من أهل اللغة: إن المراد بقوله: يبعث في ثيابه التي قبض فيها، أي في أعماله. قال الهروي: وهذا كحديثه الآخر: يبعث العبد على ما مات عليه، قال: وليس قول من ذهب إلى الأكفان بشيء؛ لأن الميت إنما يكفن بعد الموت. انتهى. قال الحافظ المنذري: وفعل أبي سعيد راوي الحديث يدل على إجرائه على ظاهره، وأن الميت يبعث في ثيابه التي قبض فيها، وفي الصحاح وغيرها أن الناس يبعثون عراة، وقال هذا السفاريني وزاد: " وحمل كثير من العلماء الحديث على الشهداء الذين أمر أن يدفنوا في ثيابهم التي قتلوا فيها، وأن أبا سعيد سمع الحديث في الشهداء فحمله على العموم ". والله أعلم.
وقد بين سبحانه تعالى صفات المجرمين يوم القيامة عندما يحشرون فقال تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} (1) أي زرق العيون من شدة ما يرون من الهول، وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2) جزاء على إعراضه عن دين الله تعالى في الحياة الدنيا لما جاءته به الرسل عن الله تبارك وتعالى واتباع الهوى. وقال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} (3) جزاء على صنيعهم في حياتهم الدنيا، فتحشر
__________
(1) سورة طه الآية 102
(2) سورة طه الآية 124
(3) سورة الإسراء الآية 97(40/187)
الفئات الكافرة والمكذبة بآيات الله ورسوله وبلقائه تعالى بعضهم إلى بعض. قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ} (1) يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب (2) وقال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} (3) هو من قول الله تعالى للملائكة " احشروا " المشركين " وأزواجهم " أي أشياعهم في الشرك، والشرك: الظلم، قال الله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (4) فيحشر الكافر مع الكافر، قاله قتادة وأبو العالية. وقال عمر بن الخطاب في قول الله عز وجل: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (5) قال: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، وصاحب السرقة مع صاحب السرقة. وقال ابن عباس: " وأزواجهم " أي أشباههم، وهذا يرجع إلى قول عمر. وقيل: " وأزواجهم " نساؤهم المرافقات على الكفر، قاله مجاهد والحسن، ورواه النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب. وقال الضحاك: " وأزواجهم " قرناءهم من الشياطين، وهذا قول مقاتل أيضا: " يحشر كل كافر مع شيطانه في سلسلة " (6) . ثم يقسم تعالى على تحقق حشرهم وشياطينهم، فيقول تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} (7) الذين كانوا يعبدون من دون الله تعالى، وسيتحقق ما أنكروه ويروه عيانا، ثم يساقون إلى جهنم وساءت مصيرا {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} (8) ويقول سبحانه وتعالى في موضع آخر: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (9)
__________
(1) سورة النمل الآية 83
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13 \ 238.
(3) سورة الصافات الآية 22
(4) سورة لقمان الآية 13
(5) سورة الصافات الآية 22
(6) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي 15 \ 73.
(7) سورة مريم الآية 68
(8) سورة مريم الآية 68
(9) سورة الأنعام الآية 22(40/188)
يسألهم تعالى عما كانوا يعبدون من الأصنام والأنداد، ويفضحهم أمام الملأ: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} (1) فيميز الله ويفرق بين المشركين وشركائهم، وذلك بتبرؤ كل معبود من دون الله ممن عبده {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} (2) وهنا يتبرأ المعبود من عابده {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ} (3) وقد أيقظ سبحانه وتعالى العقول بذكر نبأ عظيم وهو الحشر لجميع الخلق لمحاسبتهم على ما قدموا في حياتهم الدنيا، فجاء ذلك في آيات كثيرة في القرآن العظيم.
قال تعالى: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} (4) . {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ} (5) أي في إغوائهم {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} (6) وهذا تذكير بالحشر، وأن مضيهم في الدنيا ما كأنه عندهم إلا ساعة من نهار فيعرف بعضهم بعضا في المحشر. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} (7) وهنا يقرر سبحانه وتعالى المشركين سوء صنيعهم وتبرؤ الملائكة من ذلك.
__________
(1) سورة يونس الآية 28
(2) سورة الفرقان الآية 17
(3) سورة الفرقان الآية 18
(4) سورة النساء الآية 172
(5) سورة الأنعام الآية 128
(6) سورة يونس الآية 45
(7) سورة سبأ الآية 40(40/189)
قال تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (1) ، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (2) فأينما كان العباد وكيفما ماتوا أو قتلوا أو حرقوا، أو كانوا في البر أو البحر يأتي بهم الله {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} (3) . {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (4) . {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (5) . {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (6) . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (7) . {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (8) . {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (9) .
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 6
(2) سورة البقرة الآية 203
(3) سورة آل عمران الآية 158
(4) سورة الأنعام الآية 72
(5) سورة الأنفال الآية 24
(6) سورة المؤمنون الآية 79
(7) سورة المجادلة الآية 9
(8) سورة الملك الآية 24
(9) سورة الأنعام الآية 51(40/190)
خامسا: " أرض المحشر "
قال الله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (1) بعدما تقوم القيامة ويحدث خراب الأرض وموت من عليها، والسماء وموت من فيها، إلا قيوم السماوات والأرضين {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (2) له الأمر من قبل ومن بعد، ويحين الوقت الذي تجمع فيه الخلائق، يبدل الله جل وعلا الأرض التي تحشر عليها الخلائق بأرض أخرى، ويبدل السماوات كذلك.
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة ثم يأخذهم بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ (3) » وهذا بعد فناء المخلوقات، يطوي سبحانه وتعالى السماوات ويأخذهن بيمينه والأرضين بشماله. وفي هذا دلالة على عظمة الله وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته، فهو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «جاء حبر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد أو يا أبا القاسم إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 48
(2) سورة الرحمن الآية 27
(3) رواه مسلم في صحيحه كتاب صفة المنافقين وأحكامهم حديث 2788، ورواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة بلفظ: '' ويقبض الله الأرض ويطوي السماء '' ولم يذكر '' أين الجبارون؟ أين المتكبرون '' كتاب التوحيد باب 6 حديث 7382، وابن ماجة مقدمة 13، والدارمي رقاق 80، وأحمد في المسند 2 \ 347.(40/191)
الملك، أنا الملك. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعجبا مما قاله الحبر تصديقا له، ثم قرأ: (2) » .
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه كتاب '' صفة المنافقين وأحكامهم '' 19، حديث 2786 واللفظ له، ورواه البخاري في كتاب التوحيد حديث 7415، ورواه الترمذي في كتاب التفسير سورة الزمر حديث 3238
(2) سورة الزمر الآية 67 (1) {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}(40/192)
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «مر يهودي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا يهودي حدثنا، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (2) » .
وهذه الأحاديث فيها الإخبار عن حال السماوات والأرض يوم القيامة بل عن حال المخلوقات جميعا، وعظم قدرته سبحانه ثم مآل المخلوقات، وما سيكون منه عز وجل حيث يبدل الأرض غير الأرض والسماوات، كما ثبت ذلك في الأحاديث، وكما هو ظاهر الآية.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في قوله عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} (3) . قال: " أرض بيضاء نقية لم يسفك فيها دم ولم يعمل فيها خطيئة، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا حتى يلجمهم العرق ".
وللعلماء في تبديل الأرض والسماء قولان:
القول الأول: تغير الصفات، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: " تبدل الأرض يزاد فيها وينقص منها، وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب التفسير سورة الزمر حديث 3240، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح لا نعرفه (من حديث ابن عباس) إلا من هذا الوجه
(2) (1) ، والأرض على ذه، والماء على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه، وأشار أبو جعفر بن الصلت بخنصره أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام، فأنزل الله سورة الزمر الآية 67
(3) سورة إبراهيم الآية 48(40/193)
وما فيها، وتمد مد الأديم العكاظي، وتصير مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، وتبدل السماوات بذهاب شمسها وقمرها ونجومها، وحاصله يغير كل عما هو عليه في الدنيا، وأنشد:
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت أعلم
القول الثاني: تغير الذات، قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: تبدل الأرض من فضة والسماء من ذهب. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: تبدل الأرض أرضا بيضاء كأنها سبيكة فضة، لم يسفك فيها دم حرام، ولم يعمل فيها خطيئة. وقال محمد بن كعب القرظي وسعيد بن جبير: " تبدل الأرض خبزة بيضاء فيأكل المؤمن من تحت قدميه " (1) . . قال ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى -: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: يوم تبدل الأرض غير الأرض التي نحن عليها اليوم يوم القيامة غيرها، وكذلك السماوات اليوم تبدل غيرها، كما قال جل ثناؤه.
وجائز أن تكون المبدلة أرضا أخرى من فضة، وجائز أن تكون نارا، وجائز أن تكون خبزا، وجائز أن تكون غير ذلك، ولا خبر في ذلك عندنا من الوجه الذي يجب التسليم له أي ذلك يكون، فلا قول في ذلك يصح إلا ما دل عليه ظاهر التنزيل. .
ويؤيد ما قاله ابن جرير وغيره في اختيار الذات ما رواه ابن مسعود في الحديث المتقدم الذي رواه الحاكم وصححه، وما هو ظاهر الأحاديث.
وأرض المحشر تتصف بعدة صفات:
فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يحشر
__________
(1) روح المعاني 13 \ 254، 255(40/194)
الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي، ليس فيها علم لأحد (1) » .
قال عياض: " المراد أنها ليس فيها علامة سكنى ولا بناء ولا أثر ولا شيء من العلامات التي يهتدى بها في الطرقات، كالجبل والصخرة البارزة. وفيه تعريض بأرض الدنيا وأنها ذهبت وانقطعت العلاقة بها " (2) . .
وقال أبو محمد بن أبي جمرة: " فيه دليل على عظيم القدرة، والإعلام بجزئيات يوم القيامة ليكون السامع على بصيرة فيخلص نفسه من ذلك الهول؛ لأن في معرفة جزئيات الشيء قبل وقوعه رياضة النفس وحملها على ما فيه خلاصها، بخلاف مجيء الأمر بغتة، وفيه إشارة إلى أن أرض الموقف أكبر من هذه الأرض الموجود جدا، والحكمة في الصفة المذكورة أن ذلك اليوم يوم عدل وظهور حق، فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهرا عن عمل المعصية والظلم، وليكون تجليه سبحانه على عباده
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه كتاب صفة المنافقين وأحكامهم '' باب في البعث والنشور صفة الأرض يوم القيامة، حديث 2790 واللفظ له، ورواه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق حديث 6521
(2) فتح الباري 11 \ 375(40/195)
المؤمنين على أرض تليق بعظمته، ولأن الحكم فيه إنما يكون لله وحده فناسب أن يكون المحل خالصا له وحده. انتهى ملخصا " (1) .
وعن مكان الناس عند تبديل الأرض والسماوات بغيرها، «سألت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله عز وجل: فأين يكون الناس يومئذ يا رسول الله؟ فقال: " على الصراط (3) » .
وعن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كنت قائما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء حبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعود معه، فقال: سل. فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هم في الظلمة (6) ؟ . قال: فقراء
__________
(1) فتح الباري 11 \ 375.
(2) رواه مسلم في صحيحه كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (29) حديث 2791 واللفظ له، ورواه الترمذي في كتاب التفسير سورة إبراهيم حديث 3121، وسورة الزمر حديث 3242.
(3) سورة إبراهيم الآية 48 (2) {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}
(4) رواه مسلم في صحيحه '' كتاب الحيض '' (8) بيان صفة مني الرجل والمرأة وأن الولد مخلوق من مائهما، حديث 315.
(5) (4) من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد. فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله، فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي. فقال اليهودي: جئت أسألك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أينفعك شيء إن حدثتك؟ . قال: أسمع بأذني. فنكت
(6) (5) دون الجسر. قال: فمن أول الناس إجازة فمن أول الناس إجازة: هو بكسر الهمزة وبالزاي ومعناه جوازا وعبورا. (شرح النووي على صحيح مسلم) .(40/196)
المهاجرين. قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ . قال: زيادة كبد النون. قال: فما غذاؤهم على أثرها؟ . قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها. قال: فما شرابهم عليه؟ . قال: من عين تسمى سلسبيلا. قال: صدقت. قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال: ينفعك إن حدثتك؟ . قال: أسمع بأذني. قال: جئت أسألك عن الولد؟ . قال: ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثا بإذن الله. قال اليهودي: لقد صدقت، وإنك لنبي ثم انصرف فذهب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد سألني عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به» .
عن مجاهد قال: قال ابن عباس: «أتدري ما سعة جهنم؟ . قلت: لا. قال: أجل والله ما تدري، حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله:(40/197)
قال: قلت: فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ . قال: على جسر جهنم (2) » .
في الحديث الأول قال - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل عن الناس عندما تبدل الأرض غير الأرض والسماوات قال: «هم على الصراط» . وفي الحديث الثاني، قال: «هم في الظلمة دون الجسر (3) » . وفي الحديث الثالث، قال: «على جسر جهنم (4) » . والمراد في هذا كله أو غيره هو الصراط. أي أن الناس يكونون على الصراط المنصوب على متن جهنم حين تبدل الأرض غير الأرض والسماوات. والله أعلم.
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب التفسير سورة الزمر باب 41 حديث 3241، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
(2) سورة الزمر الآية 67 (1) {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}
(3) صحيح مسلم كتاب الحيض (315) .
(4) صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2791) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3241) ، سنن ابن ماجه الزهد (4279) ، مسند أحمد بن حنبل (6/35) ، سنن الدارمي الرقاق (2809) .(40/198)
سادسا: " الوقوف على أرض المحشر "
الوقوف للحساب حقيقة يجب الإيمان بها، وذلك بجمع الخلائق على اختلافهم في صعيد واحد {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} (1) {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} (2) أي على أرض المحشر. قال الله تعالى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (3) . يأتي الخلائق من كل حدب وصوب من الأرض للموقف، والملائكة يتنزلون من السماء لهذا الأمر، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قرأ {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} (4) قال تشقق سماء الدنيا، وتنزل الملائكة على كل سماء، وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس، فيقول أهل الأرض: أفيكم ربنا، فيقولون: لا، ثم ينزل أهل السماء الثانية وسماء الدنيا وأهل الأرض، فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا. ثم ينزل أهل السماء الرابعة وهم أكثر من أهل السماء الثالثة والثانية والدنيا وأهل الأرض، فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا. ثم ينزل أهل السماء الخامسة وهم أكثر من أهل السماء الرابعة والثالثة والثانية والدنيا وأهل الأرض فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، ثم ينزل أهل السماء السادسة وهم أكثر من أهل السماء الخامسة والرابعة والثالثة والثانية والدنيا وأهل الأرض فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، ثم ينزل أهل السماء السابعة وهم أكثر من أهل السادسة والخامسة والرابعة والثالثة والثانية
__________
(1) سورة النازعات الآية 13
(2) سورة النازعات الآية 14
(3) سورة الكهف الآية 47
(4) سورة الفرقان الآية 25(40/199)
والدنيا وأهل الأرض فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، ثم ينزل الكروبيون وهم أكثر من أهل السماوات السبع والأرضين وحملة العرش، لهم قرون كعوب (1) ككعوب القنا (2) ما بين قدم أحدهم كذا وكذا، ومن أخمص قدمه إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن كعبه إلى ركبته مسيرة خمسمائة، ومن ركبته إلى أرنبته (3) مسيرة خمسمائة عام، ومن ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام تقف الخلائق على أرض المحشر ينتظرون وصول الرب الكريم لفصل القضاء بينهم، ليذهب كل إلى داره وما أعده الله له في ذلك، قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) .
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: (يقومون حفاة عراة غرلا في موقف صعب حرج ضيق ضنك على المجرم، يغشاهم من أمر الله ما تعجز القوى والحواس عنه) (5) .
__________
(1) كعوب: كل شيء علا وارتفع فهو كعب. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 4 \ 179.
(2) القنا: جمع قناة وهي الرمح. انظر النهاية في غريب الحديث 5 \ 117.
(3) أرنبته: الأرنبة طرف الأنف وجمعها الأرانب. لسان العرب مادة أرنب 1 \ 435.
(4) سورة المطففين الآية 6
(5) تفسير القرآن العظيم 4 \ 761.(40/200)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلحم فرفع إليه الذراع فأكله وكانت تعجبه فنهس منها نهسة ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس منهم، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون (2) » . وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي (3) » . إنهم لا يستطيعون في الأرض هربا، ولا يجدون من القول جدلا، استسلموا لما في الدنيا، قد وعدوا وما في ساعتهم قد وجدوا {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} (4) .
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: " أي لا يستطيعون هربا من أمر الله وقدره بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه، ولا النفوذ عن حكمه فيكم، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام الحشر، الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب {إِلَّا بِسُلْطَانٍ} (5) أي بأمر الله {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} (6) {كَلَّا لَا وَزَرَ} (7) {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} (8) " (9) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التفسير سورة بني إسرائيل، باب 5، حديث 4712، ومسلم كتاب الإيمان، باب 84، حديث 194، والترمذي كتاب صفة القيامة، باب 10، حديث 2434.
(2) نهس: النهس أخذ اللحم بأطراف الأسنان. والنهش: الأخذ بجميعها. النهاية في غريب الحديث 5 \ 136. (1)
(3) رواه ابن منده، وقال الذهبي: إسناده حسن. انظر معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول في التوحيد 1 \ 265.
(4) سورة الرحمن الآية 33
(5) سورة الرحمن الآية 33
(6) سورة القيامة الآية 10
(7) سورة القيامة الآية 11
(8) سورة القيامة الآية 12
(9) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4 \ 427.(40/201)
قال الحكمي - رحمه الله - تعالى (1) :
ويجمع الخلق ليوم الفصل ... جميعهم علويهم والسفلي
في موقف يجل فيه الخطب ... ويعظم الهول به والكرب
وأحضروا للعرض والحساب ... وانقطعت علائق الأنساب
وارتكمت سحائب الأهوال ... وانعجم البليغ في المقال
وعنت الوجوه للقيوم ... واقتص من ذي الظلم للمظلوم
كلهم في الموقف على حسب أعمالهم، لا على حسب ما كانوا عليه من الملك والسلطان والغنى والجاه، ذهبت الدنيا وما فيها، نزع الملك عن ملوك الأرض، وذهب الكبر والتجبر، كل يتطلع إلى ما سيكون من أمره، وما هم فيه من الهول العظيم والفزع الأكبر، والجن والملائكة والوحوش والدواب والطير، كل المخلوقات في الأمر سواء، ينتظرون ماذا سيحل بهم.
ولكن يا لهول مطلع الشمس التي تقترب من الرءوس؛ لتميز الخبيث من الطيب بإذاقته، وإلجامه بالعرق.
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) قال: «يوم يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه (3) » . فمن شدة حرارة الشمس لدنوها من الخلائق وكثرة الخلائق يكثر العرق وحتى يذهب في الأرض سبعين ذراعا. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين
__________
(1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول 1 \ 239، 247، 251.
(2) سورة المطففين الآية 6
(3) رواه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق، باب 47، حديث 6531، ورواه مسلم في صحيحه كتاب الجنة وصفة نعيمها (15) صفة يوم القيامة، حديث 2862، ورواه الإمام أحمد في المسند حديث 5823 تحقيق أحمد محمد شاكر.(40/202)
ذراعا (2) » . وفي رواية عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العرق يوم القيامة ليذهب في الأرض سبعين باعا وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس، أو إلى آذانهم (4) » يشك ثور أيهما قال، وفي هذا الحديث دلالة على أن العرق يذهب في الأرض أكثر من سبعين ذراعا، كما جاء في الحديث السابق، وذلك لكثرته، ولدنو الشمس، ولغلبة عدد الكفار على عدد المسلمين، قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: " ظاهر الحديث تعميم للناس بذلك، ولكن دلت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم في العرق الكفار، ثم أصحاب الكبائر، ثم من بعدهم، والمسلمون منهم قليل بالنسبة للكفار.
وعن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل. قال سليم: فوالله ما أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين. قال: فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب الرقاق، باب 47، حديث 6532.
(2) (1) ، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم
(3) رواه مسلم في صحيحه كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها 61، حديث 2863.
(4) باع: الباع والبوع والبوع: مسافة ما بين الكفين إذا بسطتهما. لسان العرب مادة (بوع) 8 \ 21. (3)(40/203)
إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما. قال: وأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى فيه (1) » .
وليس المراد أن أهل الحشر يقعون جميعا في العرق ويلجمهم ذلك، بل كل على قدر عمله في الدنيا، وما جاء في حديث ابن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهما - مجمل، فصله حديث المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - المتقدم، وهناك من لم يقع له شيء، ولم يتأثر بشيء من حرارة الشمس لحفظ الله تعالى له بسبب منهجه الحسن في دنياه.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (2) » .
فهؤلاء أصناف سبعة من الناس يقيهم الله شر ذلك اليوم العظيم وأهوآله، وذلك بظلهم في ظل عرشه سبحانه وتعالى يوم لا ملجأ من شر ذلك اليوم وأهوآله إلا من تعامل مع الله، وتاجر معه بالأعمال الصالحة والقربات الصادقة، فأمنه سبحانه وتعالى في ذلك الموقف، فالمؤمنون يخفف الله عليهم ذلك الموقف ويحاسبون حسابا يسيرا.
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 62، حديث 2864.
(2) رواه البخاري في صحيحه كتاب الزكاة، باب 16، حديث 1423، ورواه مسلم في صحيحه كتاب الزكاة 91، ورواه الترمذي في كتاب الزهد باب 53، والنسائي كتاب القضاة 2، وموطأ مالك كتاب الشعر 4، ومسند أحمد 2 \ 439.(40/204)
سابعا: " الشفاعة العظمى "
الشفاعة العظمى مما اختص الله سبحانه به نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - كما بين الله تعالى ذلك في محكم التنزيل فقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1) قال ابن جرير: وعسى من الله واجبة، وإنما وجه قول أهل العلم: عسى من الله واجبة؛ لعلم المؤمنين أن الله لا يدع أن يفعل بعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على أعمالهم والعوض على طاعتهم إياه ليس من صفته الغرور، ولا شك أنه قد أطمع من قال ذلك له في نفعه إذا هو تعاهده ولزمه، فإنه لزم المقول له ذلك وتعاهده ثم لم ينفعه، ولا سبب يحول بينه وبين نفعه إياه مع الإطماع الذي تقدم منه لصاحبه على تعاهده إياه ولزومه فإنه لصاحبه غار بما كان من إخلافه إياه فيما كان أطمعه فيه بقوله الذي قال له. وإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز أن يكون جل ثناؤه من صفته الغرور لعباده صح ووجب أن كل ما أطمعهم فيه من طمع على طاعته، أو على فعل من الأفعال، أو أمر أو نهي أمرهم به، أو نهاهم عنه فإنه موف لهم به. وإنه منه كالعدة التي لا يخلف الوفاء بها، قالوا: عسى ولعل من الله واجبة. وتأويل الكلام أقم الصلاة المفروضة يا محمد في هذه الأوقات التي أمرتك بإقامتها فيها، ومن الليل فتهجد فرضا فرضته عليك، لعل ربك أن يبعثك يوم القيامة مقاما تقوم فيه محمودا تحمده، وتغبط فيه. ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود، فقال أكثر أهل العلم: " ذلك هو المقام الذي يقومه - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم " (2) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 79
(2) جامع البيان عن تأويل آي القرآن جـ 15 صـ 143، 144.(40/205)
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (1) » ، والمراد بالشفاعة هنا: العظمى.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: " إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود " (2) قال ابن حجر: " وجاءت الأحاديث في إثبات الشفاعة المحمدية متواترة، ودل عليها قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (3) والجمهور على أن المراد الشفاعة.
نعم إن المقام المحمود هو الشفاعة التي يحمد عليها - صلى الله عليه وسلم - من الخلق، وإن أعظم ذلك ما هو ظاهر في حقيقته وفي عظم شأنه، وهو الشفاعة العظمى التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل عندما تطلب منهم من الأمم في أن يشفعوا لهم إلى ربهم ليريحهم من هول وعظيم ما هم فيه، ويكون لها - صلى الله عليه وسلم -، كما جاءت الأحاديث مصرحة بذلك. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «أتي
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه كتاب التيمم، باب1، حديث 335، ورواه مسلم كتاب المساجد، 3، حديث 521.
(2) صحيح البخاري كتاب التفسير، باب 11، حديث 4718.
(3) سورة الإسراء الآية 79(40/206)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما بلحم، فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة فقال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله يوم القيامة الأولين والآخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، نفسي؛ نفسي؛ اذهبوا إلى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، فيأتون إبراهيم فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان، حديث 327، ورواه البخاري في صحيحه كتاب التفسير سورة 17، باب 5، حديث 4712، ورواه الترمذي كتاب القيامة باب 10، حديث 2434، ورواه أحمد في المسند 2 \ 435، 436.
(2) فنهس: أخذ اللحم بأطراف الأسنان - غريب الحديث والأثر 5 \ 136. (1)(40/207)
فيقول لهم إبراهيم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله وذكر كذباته، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى عيسى - صلى الله عليه وسلم - فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمت الناس في المهد، وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى - صلى الله عليه وسلم -: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنبا، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -. فيأتوني فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأنطلق فآتي العرش فأقع ساجدا لربي
__________
(1) (2) ، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أئتوا آدم، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته؛ نفسي؛ نفسي؛ اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى الأرض، وسماك الله عبدا شكورا، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي(40/208)
ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه لأحد قبلي، ثم يقال: يا محمد: ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع. فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي، أمتي، فيقال: يا محمد: أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصارع الجنة لكما بين مكة وهجر (2) » .
كل الأحاديث الواردة في الشفاعة في الموقف في مبدئها استشفاع الناس بالأنبياء لفصل القضاء وإراحتهم من شدة وهول الموقف، ويحولهم كل نبي إلى آخر، وحتى يصلوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - ويطلبوا منه ذلك، فيسجد تحت العرش ويفتح الله عليه ويلهمه من محامد الرب وحسن الثناء عليه، ثم يقال له ارفع رأسك ويأذن الله له في الشفاعة، ويقبل منه ذلك، ولا شك أن أول ما يشفع فيه هو الأمر العظيم الذي من أجله سجد واستأذن ربه فيه، ولكن ما وقع في نهاية الروايات أنه يقول - صلى الله عليه وسلم -: «يا رب أمتي، أمتي (3) » . قد أشكل على العلماء، فنذكر أقوال بعضهم وتوجيهاته لهذا الإشكال:
قال القاضي عياض: وجاء في حديث أنس وحديث أبي هريرة ابتداء
__________
(1) (1) ، نفسي، نفسي؛ اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى - صلى الله عليه وسلم -. فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى - صلى الله عليه وسلم -: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها
(2) (1) ، أو كما بين مكة وبصرى
(3) صحيح البخاري التوحيد (7510) ، صحيح مسلم الإيمان (193) ، سنن ابن ماجه الزهد (4312) ، مسند أحمد بن حنبل (3/248) ، سنن الدارمي المقدمة (52) .(40/209)
النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد سجوده وحمده والإذن له في الشفاعة بقوله: «أمتي، أمتي (1) » وقد جاء في حديث حذيفة. . . قال: «فيأتون محمدا - صلى الله عليه وسلم - فيقوم ويؤذن له وترسل الأمانة والرحم، فيقومان جنبتي الصراط يمينا وشمالا، فيمر أولهم كالبرق (2) » وساق الحديث. وبهذا يتصل الحديث؛ لأن هذه هي الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها، وهي الإراحة من الموقف والفصل بين العباد، ثم بعد ذلك حلت الشفاعة في أمته - صلى الله عليه وسلم - وفي المذنبين، وحلت الشفاعة للأنبياء والملائكة وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم، كما جاء في الأحاديث الأخر.
وجاء في الأحاديث المتقدمة في الرؤية وحشر الناس أتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المؤمنين من المنافقين، ثم حلول الشفاعة ووضع الصراط، فيحتمل أن الأمر باتباع الأمم ما كانت تعبد هو أول الفصل والإراحة من هول الموقف وهو أول المقام المحمود، وأن الشفاعة التي ذكر حلولها هي الشفاعة في المذنبين على الصراط، وهو ظاهر الأحاديث، وأنها لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولغيره، كما نص عليه في الأحاديث، ثم ذكر بعدها الشفاعة فيمن دخل النار، وبهذا تجتمع متون الحديث وتترتب معانيها إن شاء الله تعالى (3) ".
وقال القرطبي بعد أن ساق حديث الشفاعة: " هذه الشفاعة العامة التي خص بها نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من بين سائر الأنبياء هي المرادة بقوله - عليه الصلاة والسلام - «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي (4) » . وهذه الشفاعة العامة لأهل الموقف إنما هي ليعجل حسابهم ويراحوا من هول الموقف وهي الخاصة به - صلى الله عليه وسلم - وقوله:
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7510) ، صحيح مسلم الإيمان (193) ، سنن الترمذي صفة جهنم (2593) ، سنن ابن ماجه الزهد (4312) ، مسند أحمد بن حنبل (3/248) ، سنن الدارمي المقدمة (52) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (195) .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم جـ 2، جزء 3، صـ 57، 58.
(4) رواه البخاري في صحيحه كتاب التوحيد باب 31 حديث 7474، وكتاب الدعوات باب 1 حديث 6304، ورواه مسلم كتاب الإيمان حديث 339.(40/210)
«أقول يا رب أمتي أمتي (1) » اهتمام بأمر أمته وإظهار محبته فيهم وشفقته عليهم. وقوله: «فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه (2) » ، يدل على أنه شفع فيما طلب من تعجيل حساب أهل الموقف، فإنه لما أمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته فقد شرع في حساب من عليه حساب من أمته وغيرهم، وكان طلب هذه الشفاعة من الناس بإلهام من الله تعالى لهم حتى يظهر في ذلك اليوم مقام نبيه - صلى الله عليه وسلم - المحمود الذي وعده ولذلك قال كل نبي: لست لها، حتى انتهى الأمر إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أنا لها (3) » (4) .
وقال ابن أبي العز: " والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى في مأتى الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، كما ورد في حديث الصور؛ فإنه المقصود في هذا المقام ومقتضى سياق أول الحديث فإن الناس يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس ويستريحوا من مقامهم، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا إلى الجزاء إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار، وكان مقصود السلف في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث (5) ". وهناك أقوال كثيرة حول حديث الشفاعة، وقد اخترنا هذه الأقوال لأمور حول هذا الحديث:
1 - توجيه الأحاديث كما بينه القاضي، فيكون أول ما يشفع فيه - صلى الله عليه وسلم - في أهل الموقف لإراحتهم من هول ما هم فيه.
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7510) ، صحيح مسلم الإيمان (193) ، سنن ابن ماجه الزهد (4312) ، مسند أحمد بن حنبل (3/248) ، سنن الدارمي المقدمة (52) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4712) ، صحيح مسلم الإيمان (194) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2434) ، مسند أحمد بن حنبل (2/436) .
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4476) ، صحيح مسلم الإيمان (193) ، مسند أحمد بن حنبل (3/248) ، سنن الدارمي المقدمة (52) .
(4) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة 1 \ 296 - دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
(5) شرح العقيدة الطحاوية صـ 195، صـ 196، تحقيق شعيب الأرناءوط.(40/211)
2 - الدلالة من ظاهر الحديث أن شفاعته - صلى الله عليه وسلم - الأولى في أهل الموقف ليعجل الرب سبحانه وتعالى حسابهم، ويراحوا من هول الموقف - ظاهر من قوله - صلى الله عليه وسلم -، كما استنتجه القرطبي:
(أ) عندما يعتذر كل نبي " لست لها لست لها " حتى انتهى الأمر إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: «أنا لها (1) » . أي من مقتضى سياق أول الحديث.
(ب) قوله: «فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه (2) » يدل على أنه شفع فيما طلب من تعجيل حساب أهل الموقف، فإنه أمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته، فقد شرع في حساب من عليه حساب من أمته وغيرهم.
(جـ) قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمتي أمتي (3) » اهتمام بأمر أمته، وإظهار محبته فيهم وشفقته عليهم.
3 - أمر الشفاعة العظمى واضح من مقتضى سياق أول الحديث، ومقصود السلف في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث - هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث. كما ارتآه ابن أبي العز. فنكون بهذا وقفنا إن شاء الله تعالى على ثبوت شفاعته - صلى الله عليه وسلم - بادئ ذي بدء في أهل الموقف، ليحكم بينهم وإراحتهم من هول الموقف وشدة ما هم فيه.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4476) ، صحيح مسلم الإيمان (193) ، مسند أحمد بن حنبل (3/248) ، سنن الدارمي المقدمة (52) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4712) ، صحيح مسلم الإيمان (194) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2434) ، مسند أحمد بن حنبل (2/436) .
(3) صحيح البخاري التوحيد (7510) ، صحيح مسلم الإيمان (193) ، سنن الترمذي صفة جهنم (2593) ، سنن ابن ماجه الزهد (4312) ، مسند أحمد بن حنبل (3/248) ، سنن الدارمي المقدمة (52) .(40/212)
ثامنا " مجيء الرب سبحانه وتعالى والملائكة "
عندما يجتمع الخلق جميعهم على أرض المحشر، ويبقون ما شاء الله تعالى وقوفا في هول عظيم وأمر عصيب وشدة لا منتهى لها - وإن كان الأمر على الصالحين هين - يرغبون إلى الأنبياء في أن يستشفعوا لهم الرب سبحانه ليحكم بينهم ويريحهم من هول الموقف، ويشفع محمد - صلى الله عليه وسلم - في ذلك إلى ربه تعالى، ينزل عز وجل لفصل القضاء.
قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (1) .
والمراد هنا بالإتيان في الآية هو مجيء ذاته سبحانه وتعالى للفصل بين عباده، وقد جاء هذا مصرحا به في آيات أخر؛ فقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} (2) ، وقال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (3) . فهذه آيات صريحة في مجيء الرب سبحانه وتعالى وملائكته أهل السماوات كلهم يجيئون صفوفا. وليس الأمر ما ذكره أغلب المفسرين بأن المجيء هو أمره أو غير ذلك من التأويلات هروبا من إثبات صفة المجيء للرب سبحانه وتعالى.
__________
(1) سورة البقرة الآية 210
(2) سورة الأنعام الآية 158
(3) سورة الفجر الآية 22(40/213)
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «قال أناس: يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ . قالوا: لا يا رسول الله. قال: هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ . قالوا: لا يا رسول الله. قال: فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه (1) » الحديث. فصفة المجيء للرب سبحانه وتعالى من
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب 52، حديث 6573.(40/214)
صفاته الثابتة بنص القرآن والسنة، ومجيئه لفصل القضاء لا شك فيه ولا يغالط فيه أو ينكره إلا من عميت بصيرته وتردى حاله، وحاد عن نهج الله القويم وصراطه المستقيم.
قال ابن كثير: " {وَجَاءَ رَبُّكَ} (1) يعني لفصل القضاء بين خلقه وذلك ما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد ما يسألون أولي العزم من الرسل واحدا بعد واحد، فكلهم يقول: لست بصاحب ذاكم حتى تنتهي النوبة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقول: «أنا لها، أنا لها (2) » فيذهب فيشفع عند الله تعالى في أن يأتي لفصل القضاء، فيشفعه الله تعالى في ذلك، وهي أول الشفاعات، وهي المقام المحمود، كما تقدم بيانه في سورة (سبحان) فيجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون صفوفا صفوفا " (3) .
قال ابن جرير - رحمه الله - بعد أن ذكر الأقوال في معنى الإتيان: فمعنى الكلام إذن: " هل ينظر التاركون الدخول في السلم كافة، والمتبعون خطوات الشيطان إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام فيقضي في أمرهم ما هو قاض " (4) . إذن فالرب سبحانه وتعالى يأتي - إتيانا يليق بجلاله وعظمته - إلى أرض المحشر، ومعه ملائكته الكرام صفوفا لفصل القضاء «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه (5) » فيحكم سبحانه بين عباده حكما عدلا يظلم فيه أحدا مثقال ذرة إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ويكون الأمر له مثلما كان أولا يكون آخرا. ففي الدنيا كانت تجري الأحكام من
__________
(1) سورة الفجر الآية 22
(2) صحيح البخاري التوحيد (7510) ، صحيح مسلم الإيمان (193) ، سنن ابن ماجه الزهد (4312) ، مسند أحمد بن حنبل (3/116) ، سنن الدارمي المقدمة (52) .
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4 \ 806.
(4) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 2 \ 330 المطبعة الحلبية بمصر.
(5) رواه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، حديث 2577.(40/215)
الخلق على بعضهم فيكون فيها الصواب، ويكون فيها الخطأ، ويكون فيها العدل، ويكون فيها الظلم، ولكن في ذلك اليوم قد انتهت الدنيا وأحكامها، فلا حكم يومئذ إلا إليه سبحانه، فلا ظلم، ولا جور ولا خطأ ولا نسيان. {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (1) إليه ترجع الأمور.
__________
(1) سورة المدثر الآية 38(40/216)
تاسعا: (مجيء جهنم أعاذنا الله منها)
في الموقف المهول المروع كثير الشدائد، ما شعر الخليقة إلا ومطلع مهيب يأتي إليهم، ألا إنه نار جنهم، تجر بأزمتها إلى أرض المحشر، ليرى المجرمون ما كانوا يوعدون وبه يكذبون، فعندما تخرج إليهم ويرونها يخرج منها عنق له عينان وأذنان ولسان يتكلم ويقول إنه موكل بثلاثة أصناف من الناس " كل جبار عنيد، وكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين " فلا هرب من ذلك ولا نجاة لمن كان من أولئك.
قال الله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} (1) في يوم القيامة وعلى أرض المحشر عندما يؤتى بنار جهنم يتذكر العبد عمله في الدنيا، ولكن لا ينفعه تذكره ذلك. عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام (2) مع
__________
(1) سورة الفجر الآية 23
(2) رواه مسلم في صحيحه، كتاب صفة النار، حديث 2842، ورواه الترمذي في سننه كتاب صفة جهنم باب 1 حديث 2573. وقال: قال عبد الله: والثوري لا يرفعه. وقال النووي: هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم، وقال: رفعه وهم، رواه الثوري ومروان وغيرهما عن العلاء بن خالد موقوفا، قلت: وحفص ثقة حافظ إمام، فزيادته الرفع مقبولة، كما سبق نقله عن الأكثرين والمحققين (شرح النووي على مسلم 17 \ 178) .(40/216)
كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» وحينئذ يخرج منها ذلك العنق. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين (1) » .
فهذه الصورة المفزعة من أهوال يوم القيامة التي تحصل على أرض المحشر - ليري الله سبحانه خلقه عظيم قدرته، فالجمادات تتكلم بأمر الله تعالى، فكذلك العنق من النار يتكلم، ويخبر بأن مهمته هو تعذيب الجبابرة العتاة، الحائدين عن الحق في الدنيا، الظالمين لأنفسهم ولغيرهم، وبالمشركين بالله تعالى، وبالمصورين الذين يضاهئون خلق الله تعالى. ولكل صنف من العصاة جزاء عند الله تعالى على صنيعه في الدنيا من الأعمال المخالفة لأمر الله تعالى وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكل يأخذ من العذاب على قدر معصيته، إلا أن يعفو سبحانه ويتجاوز، فهو أهل لذلك، وكل المعاصي تحت المشيئة، إن شاء عذب سبحانه وتعالى عليها وإن شاء غفر، إلا من مات على الشرك فالله لا يغفر له ذلك، كما أخبر تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) .
__________
(1) رواه الترمذي في سننه كتاب صفة جهنم، باب 1، حديث 2574. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وقد رواه بعضهم عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا. وروى أشعث بن سوار عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه.
(2) سورة النساء الآية 48(40/217)
صفحة فارغة(40/218)
وسطية أهل السنة في حكم مرتكب الكبيرة بين الخوارج والمرجئة
إعداد الدكتور \ عواد عبد الله المعتق (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد الله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد: فإنه من المعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك المسلمين على المحجة البيضاء لكن نتيجة بعض العوامل داخل الدولة الإسلامية وخارجها حدث الخلاف بين المسلمين حول بعض المسائل، مثل مسألة مرتكب الكبيرة، فقد انقسم الناس فيها إلى خوارج أفرطت في الحكم، وإلى مرجئة فرطت في الحكم، وإلى متوسطين وهم أهل السنة والجماعة. ونظرا لأهمية بيان وسطية أهل السنة والجماعة في هذه المسألة وانحراف الفرق المخالفة، فقد رأيت أن أكتب بحثا موجزا يتلخص في ما يلي: تمهيد: في التعريف بالكبيرة.
المبحث الأول: الذين أفرطوا في حكم مرتكب الكبيرة وهم الخوارج، ووافقهم المعتزلة في الحكم الأخروي.
المبحث الثاني: الذين فرطوا في حكم مرتكب الكبيرة وهم المرجئة.
المبحث الثالث: الذين توسطوا في حكم مرتكب الكبيرة وهم أهل السنة والجماعة.
وأخيرا أسأله تعالى الإعانة والتوفيق إنه سميع مجيب. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) وردت للكاتب ترجمة في العدد التاسع والعشرين صـ 1314.(40/219)
تمهيد: في تعريف الكبيرة.
الكبيرة في اللغة: مفرد كبيرات وكبائر، مؤنث الكبير، وهو: الإثم الكبير (1) ، قال ابن منظور في اللسان: الكبيرة هي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعا لعظيم أمرها كالقتل والزنا والفرار من الزحف (2) .
الكبيرة في الاصطلاح: عرفت بتعاريف كثيرة منها: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: الكبيرة: هي كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب (3) .
وقال القرطبي: الكبيرة: هي كل ذنب عظم الشارع التوعد عليه بالعقاب وشدده أو عظم ضرره في الوجود (4) .
وقال ابن أبي العز - في شرحه للطحاوية -: اختلف العلماء في الكبائر على أقوال، فقيل: سبعة، وقيل: سبعة عشر. وقيل: ما اتفقت الشرائع على تحريمه. وقيل: ما يسد باب المعرفة بالله، وقيل: ذهاب الأموال والأبدان، وقيل: سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها. وقيل: لا تعلم أصلا. أو أنها أخفيت كليلة القدر. وقيل: إنها إلى السبعين أقرب. وقيل: كل ما نهي عنه فهو كبيرة. وقيل: إنها ما يترتب عليها حد، أو توعد عليها بالنار أو اللعنة أو الغضب. وهذا أمثل الأقوال. . .؛ لأنه يسلم من القوادح الواردة على غيره، فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة كالشرك، والقتل، والزنا، وقذف المحصنات. . وأمثال ذلك.
__________
(1) انظر: القاموس المحيط جـ 2 صـ 124، ولسان العرب جـ 3 صـ 212.
(2) لسان العرب جـ 3 صـ 212، وانظر القاموس المحيط جـ 2 صـ 124 (الحاشية) .
(3) تفسير الطبري جـ 5 صـ 27، وتفسير القرطبي جـ 5 صـ 159، شرح صحيح مسلم للنووي جـ 2 صـ 58.
(4) تفسير القرطبي جـ 3 صـ 160 - 161.(40/220)
ثم قال: وترجيح هذا القول من وجوه أحدها: أنه هو المأثور عن السلف كابن عباس وابن عيينة وابن حنبل - رضي الله عنهم - وغيرهم.
الثاني: أن الله تعالى قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (1) .
فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أوعد بغضب الله أو لعنته وناره، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر.
الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب، فهو حد متلقي من خطاب الشارع.
الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر بخلاف تلك الأقوال، فإن من قال: سبعة، أو سبعة عشر، أو إلى السبعين أقرب - مجرد دعوى. ومن قال: ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه - يقتضي أن شرب الخمر، والفرار من الزحف، والتزوج ببعض المحارم، ونحو ذلك ليس من الكبائر وأن الحبة من مال اليتيم، والسرقة لها، والكذبة الواحدة الخفيفة، ونحو ذلك: من الكبائر، وهذا فاسد. ومن قال: ما سد باب المعرفة بالله، أو ذهاب الأموال والأبدان -: يقتضي أن شرب الخمر، وأكل الخنزير والميتة والدم وقذف المحصنات - ليس من الكبائر! وهذا فاسد ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة -: يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر وهذا فاسد؛ لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر. ومن قال: إنها لا تعلم أصلا، أو إنها مبهمة -: فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره والله أعلم.
__________
(1) سورة النساء الآية 31(40/221)
المبحث الأول: الذين أفرطوا في حكم مرتكب الكبيرة (وهم الخوارج)
أولا: في التعريف بالخوارج ونشأتهم:
(أ) في التعريف بالخوارج.
الخوارج: في اللغة: جمع خارج من الخروج وهو نقيض الدخول.
يقال: فلان خارج على الإمام الحق: أي لم يدخل في طاعته. ويقال فلان خارج عن الطريق: أي حائد عنه.
وقد اشتهر إطلاق هذا الاسم على الحرورية ومن سلك مسلكهم لخروجهم عن الناس (1) .
الخوارج في الاصطلاح: هم كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة في كل زمان (2) .
والمراد هنا: طائفة مخصوصة كان أول خروجهم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
سموا خوارج لأنهم خرجوا على الإمام الحق علي - رضي الله عنه -، ولهم أسماء أخرى منها: المحكمة، والحرورية، والمارقة، والشراة، والقعدة، والنواصب.
__________
(1) انظر: لسان العرب مادة خرج جـ 1 صـ 807 - 808، والقاموس المحيط جـ 1 صـ 85.
(2) انظر: الملل والنحل جـ 1 صـ 155.(40/222)
(ب) : نشأتهم.
يرى المؤرخون بأن هذه الفرقة خرجت على الإمام علي - رضي الله عنه - سنة 37 هـ وأن السبب في ذلك هو حادثة التحكيم في حرب صفين.
وبيانها: أنه لما اشتد القتال في صفين بين جيش الإمام علي وجيش معاوية، وبدأت بوادر النصر تظهر في جيش علي - رضي الله عنه -، دعا معاوية عمرو بن العاص واستشاره في الموقف فأشار عليه بأن يأمر الجند برفع المصاحف على أسنة الرماح وأن ينادوا كتاب الله بيننا وبينكم ففعلوا ذلك.
على إثر ذلك جاء جماعة من قراء البصرة يتقدمهم مسعر بن فدكي والأشعث بن قيس، وأجبروا عليا على وقف القتال مهددين قائلين: " أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه وإلا ندفعك برمتك إلى القوم أو نفعل بك كما فعلنا بابن عفان إنه غلبنا أن يعمل بما في كتاب الله عز وجل والله لتفعلنها أو لنفعلها بك " فاضطر الإمام علي - رضي الله عنه - إلى وقف القتال. وأرسل الأشعث بن قيس إلى معاوية يسأله ما يريد برفع المصاحف. فشرح له مراده وهو أن يرسل كل منهما رجلا من عنده يرضاه لأن يكون حكما ويأخذوا عليهما المواثيق بأن يحييا ما أحيا القرآن، وأن يميتا ما أمات، وأضاف معاوية أنه اختار عمرو بن العاص.
وتبنى الأشعث بن قيس هذا الاقتراح وخرج به يقرؤه على الناس حتى مر به على طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أذنية فقرأه عليهم. فقال عروة بن أذنية: أتحكمون في دين الله الرجال؟ وقد أخذ هذه الكلمة من هذا الرجل طوائف من أصحاب علي من القراء وقالوا: لا حكم إلا الله، وخرجوا من جيش الإمام علي وحدانا مستخفين واجتمعوا في حروراء وذلك احتجاجا على وقف القتال والركون إلى الصلح.
ثم لما اجتمع الحكمان عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري وأعلنت(40/223)
نتائج التحكيم في رمضان من سنة 37 هـ ترك سرا جمع كبير من جيش الإمام علي وخرجوا من الكوفة وفيهم عدد من القراء والتحقوا بالفئة الأولى عند النهروان وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي الأفردي واختاروا حرقوص بن زهير السعدي التميمي إماما للصلاة.
وهذا السبب هو أظهر الأسباب في نشأة الخوارج إلا أن هناك أسبابا أخرى هيأت لنشوء هذه الفرقة منها.
1 - النزعة المتشددة التي كانت تسود بعض المؤمنين البسطاء وخصوصا القراء هذه النزعة فتحت الطريق لنمو نزعات متطرفة في صفوفهم منها نزعة الخوارج.
2 - كذلك من الأسباب في نشأة الخوارج: العصبية القبلية، والتناحر المتوارث بين القبائل العربية المختلفة، وقد كان جيش الإمام علي - رضي الله عنه - يضم فئات مختلفة من ربيعة، ومضر، واليمانية، وكانت هذه الفئات يعز عليها أن تكون الصدارة لبعضها دون بعض، فكان لذلك أثره في وقع في صفين ثم في نشوء الخوارج.
3 - كذلك من الأسباب - كما يراه البعض - أن زعماء الخوارج الأول أو بعضا منهم على الأقل كانوا يعارضون ولاية عثمان - رضي الله عنه - واشتركوا في المسئولية في مقتل عثمان بل فاخروا بذلك، لذلك كانوا يتخوفون من انقطاع الحرب وعقد الصلح؛ مخافة أن يعاقبوا على اشتراكهم في مقتل عثمان. فكانوا سببا في العمل من أجل الدعوة إلى الحرب واستمرارها.(40/224)
ثانيا: رأي الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة مع المناقشة
(أ) رأي الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة.
اختلف في هذه المسألة - فقال بعض كتاب الفرق كالكعبي (1) ، والشهرستاني (2) ، والرازي (3) إن الخوارج يجمعون على تكفير مرتكب الكبيرة، وأنه مخلد في النار.
وقال بعضهم: كالأشعري (4) ، والبغدادي (5) - إن هذه المسألة لم يجمعوا عليها وهو الأظهر (6) - فقد قالت الإباضية: إن مرتكبي الكبائر موحدون لا مؤمنون لذا مناكحتهم جائزة، وموارثتهم حلال، لأنهم إنما كفروا كفر نعمة لا كفر ملة (7) كذلك النجدات (8) قالوا: الفاسق من موافقيهم كافر كفر نعمة (9) .
أما المحكمة (10) الأولى، والأزارقة (11) ، والعجاردة (12) ، ومن وافقهم،
__________
(1) انظر: الفرق بين الفرق صـ 72.
(2) الملل والنحل جـ 1 صـ 56.
(3) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين للرازي صـ 46.
(4) المقالات للأشعري صـ 156، والفرق بين الفرق صـ 72.
(5) الفرق بين صـ 72.
(6) انظر: الفرق بين الفرق صـ 72.
(7) الفرق بين الفرق صـ 95، ودراسات في الفرق صـ 100.
(8) أتباع نجدة بن عامر الحنفي، فرقة من فرق الخوارج انظر: الفرق بين الفرق صـ 81 - 84.
(9) الفرق بين الفرق صـ 72 - 73.
(10) أول فرقة من فرق الخوارج - انظر: الفرق بين الفرق صـ 73 - 78.
(11) أتباع نافع بن الأزرق. انظر: الملل والنحل جـ 1 صـ 163، والفرق بين الفرق صـ 78 - 81.
(12) أتباع عبد الكريم بن عجرد. انظر: الملل والنحل جـ 1 صـ 172، والفرق بين الفرق صـ 87.(40/225)
فقد قرروا: أن مرتكب الكبيرة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - كافر مخلد في النار (1) .
وقد وافقهم المعتزلة في الحكم الأخروي حيث قالوا: إن مرتكب الكبيرة في الآخرة مخلد في النار. إلا أنهم قالوا بأن عذابه أخف من عذاب الكافر (2) .
__________
(1) انظر الفرق بين الفرق صـ 77، ودراسات في الفرق صـ 100.
(2) انظر: التبصير في الدين للإسفراييني صـ 42، والملل والنحل جـ 1 صـ 48.(40/226)
(ب) شبهاتهم والجواب عليها.
لقد تمسك الخوارج ومن وافقهم في قولهم بهذه البدعة بشبهات منها ما يلي:
الشبهة الأولى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (1) .
وجه الدلالة: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وقد احتجت الخوارج والمعتزلة بهذه الآية وقالوا: صاحب الكبيرة ليس من المتقين فلا يتقبل الله منه عملا، فلا يكون له حسنة، وأعظم الحسنات الإيمان، فلا يكون معه إيمان فيستحق الخلود في النار " (2) .
الجواب: قال شيخ الإسلام _ بعد أن أورد بعض الأجوبة على هذه
__________
(1) سورة المائدة الآية 27
(2) الفتاوى جـ 7 صـ 494 ـ 495.(40/226)
الشبهة قال: والجواب الصحيح أن المراد من اتقى الله في ذلك العمل كما قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) قال: أخلصه وأصوبه. قيل يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص: أن يكون لله، والصواب: أن يكون على السنة فمن عمل لغير الله - كأهل الرياء - لم يقبل منه ذلك كما في الحديث الصحيح يقول الله عز وجل: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (2) » ، وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » أي فهو مردود غير مقبول. فمن اتقى الكفر وعمل عملا ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل منه كمن صلى بغير وضوء لم يقبل منه؛ لأنه ليس متقيا في ذلك العمل وإن كان متقيا للشرك. . إلى أن قال: لا يجوز أن يراد بالآية إن الله لا يقبل العمل إلا ممن يتقي الذنوب كلها؛ لأن الكافر والفاسق حين يريد أن يتوب ليس متقيا، فلو كان قبول العمل مشروطا بكون الفاعل حين فعله لا ذنب له امتنع قبول التوبة. بخلاف ما إذا اشترط التقوى في العمل، فإن التائب حين يتوب يأتي بالتوبة الواجبة، وهو حين شروعه في التوبة منتقل من الشر إلى الخير لم يخلص من الذنب بل هو متق في حال تخلصه منه.
وأيضا فلو أتى الإنسان بأعمال البر - وهو مصر على كبيرة ثم تاب
__________
(1) سورة الملك الآية 2
(2) أخرجه مسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2985.
(3) رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 20. ومسلم في كتاب الأقضية باب 17، 18.(40/227)
لوجب أن تسقط سيئاته بالتوبة وتقبل منه تلك الحسنات - وهو حين أتى بها كان فاسقا وأيضا: الكافر إذا أسلم وعليه للناس مظالم. . وكذلك الذمي إذا أسلم - قبل إسلامه مع بقاء مظالم العباد عليه؛ فلو كان العمل لا يقبل إلا ممن لا كبيرة عليه لم يصح إسلام الذمي حتى يتوب من الفواحش. . بل يكون مع إسلامه مخلدا.
وقد كان الناس مسلمين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولهم ذنوب وعليهم تبعات فيقبل إسلامهم. . ولا نعرف أحدا من المسلمين جاءه ذمي يسلم فقال له لا يصح إسلامك حتى لا يكون عليك ذنب وكذلك سائر أعمال البر من الصلاة والزكاة وغيرهما (1) .
فإذا كان المراد بالمتقين في ذلك العمل الذي وعد بقبوله لم يلزم عدم قبول العمل من صاحب الكبيرة وبذلك يبطل الاستدلال بالآية على تخليد صاحب الكبيرة في النار. والله أعلم.
__________
(1) انظر: الفتاوى جـ 7 صـ 495 ـ 498.(40/228)
الشبهة الثانية: قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} (1) .
وجه الدلالة: قالوا: والفاسق تحيط به جهنم فوجب أن يكون كافرا (2) .
الجواب: نقول: إن الآية تؤكد بأن جهنم محيطة بالكافرين وهو من أنواع عذاب الله لهم لكنها لم تقصر الإحاطة بهم؛ إذ أنه سبحانه لم يقل: وإن جهنم لا تحيط إلا بالكافرين وليس يلزم من كونها محيطة بقوم إلا تحيط بقوم سواهم، أي لا يلزم من كونها محيطة بالكافرين إلا تحيط بالفاسقين وعليه فلا دلالة في الآية على ما يزعمونه (3) . والله أعلم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 49
(2) شرح نهج البلاغة جـ 8 صـ 15.
(3) انظر: نهج البلاغة جـ 8 صـ 15.(40/228)
الشبهة الثالثة: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} (1) .
وجه الدلالة: قالوا: إن هذا يقتضي أن من لا يكون مؤمنا فهو كافر والفاسق ليس بمؤمن فوجب أن يكون كافرا (2) .
الجواب: يقال لهم: أولا: أما قولكم الفاسق ليس بمؤمن، إن أردتم ليس بمؤمن كامل الإيمان فنحن نوافقكم على ذلك، وإن أردتم نفي الإيمان المطلق فهذا مردود بل هو مؤمن ناقص الإيمان، وكونه مؤمنا ناقص الإيمان لا ينافي نسبته إلى الفئة المؤمنة بدليل أن الله نسبه إلى المؤمنين في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (3) الآية وإذا كان كذلك فلا دلالة في الآية على ما تزعمونه.
ثانيا: على التسليم بأن الفاسق لا ينسب إلى الفئة المؤمنة فإن (من) هاهنا للتبعيض، وليس في ذكر التبعيض نفي الثالث، وهو الفاسق: المؤمن بإيمانه الفاسق بكبيرته، أو المؤمن ناقص الإيمان.
كما أن قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} (4) الآية لا ينبغي وجود دابة تمشي على أكثر من أربع كبعض الحشرات (5) . وبذلك يبطل استدلالكم بالآية على تكفير الفاسق. والله أعلم.
__________
(1) سورة التغابن الآية 2
(2) شرح نهج البلاغة جـ 8 صـ 118.
(3) سورة الحجرات الآية 9
(4) سورة النور الآية 45
(5) انظر: شرح نهج البلاغة جـ 8 صـ 118.(40/229)
الشبهة الرابعة: استدلوا بعموم النصوص التي فيها الوعيد بالتخليد(40/229)
لأصحاب الكبائر كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} (1) ، وقال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (2) ، وقوله تعالى: {وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (3) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (4) وغيرها كثير (5) .
وجه الاستدلال: قالوا هذه النصوص فيها الوعيد بالتخليد لأصحاب الكبائر في النار ولا يخلد في النار إلا الكفار (6) .
الجواب: في الإجابة عن هذه النصوص أقوال منها.
الأول: أن المراد بالخلود لمستحل هذه الكبائر، والمستحل كافر إجماعا، والكافر مخلد (7) لما روي عن ابن عباس في معنى قوله (متعمدا) أنه قال متعمدا: أي مستحلا لقتله فهذا يئول إلى الكفر إجماعا والكافر مخلد (8) ، وقال أبو السعود: ولا دليل في الآية على القول بخلود عصاة المؤمنين في النار لما قيل أنها في حق المستحل، كما هو رأي عكرمة وأحزابه، بدليل أنها نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني المرتد. . . (9) ، وقال الطبري في قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} (10) قال: فإن قال
__________
(1) سورة النساء الآية 14
(2) سورة النساء الآية 93
(3) سورة الفرقان الآية 68
(4) سورة الفرقان الآية 69
(5) انظر: الفصل جـ 4 صـ 46، ولوامع الأنوار البهية جـ 1 صـ 370.
(6) انظر: لوامع الأنوار البهية جـ 1 صـ 368، والفصل جـ 4 صـ 46.
(7) لوامع الأنوار البهية جـ 1 صـ 370.
(8) انظر: تفسير القرطبي جـ 5 صـ 334.
(9) تفسير أبي السعود جـ 2 صـ 217.
(10) سورة النساء الآية 14(40/230)
قائل: أو مخلد في النار من عصى الله ورسوله في قسمة الميراث؟ قيل: نعم. إذا جمع إلى معصيتهما في ذلك شكا في أن الله فرض عليه ما فرض على عباده في هاتين الآيتين، أو علم ذلك فحاد الله ورسوله في أمرهما (1) ، وقال الشوكاني في قوله: {وَلَا يَزْنُونَ} (2) أي فيستحلون الزوجة المحرمة بغير نكاح (3) . وعلى هذا فالآيات لا تتناول صاحب الكبيرة؛ لأنها في الكافر.
الثاني: أن الجزاء في الآيات ليس المقصود وقوعه وإنما الإخبار به (4) .
يقول الطبري: وقوله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ} (5) أي يستحق ما ذكره الله من العقاب إن شاء أن يجازيه (6) . وقال أبو السعود بمثل ذلك (7) ، وإذا كان كذلك فلا دلالة في الآيات على تخليد أهل الكبائر في النار.
الثالث: وهو الأظهر: أن هذه النصوص مخصوصة بالنصوص الدالة على العفو بمشيئة الله، والتوبة، وأحاديث الشفاعة الدالة على إخراج الموحدين من النار.
يقول القرطبي بعد ذكر قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} (8) الآية مخصوصة بآيات وأحاديث، فمن الآيات قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (9) الآية، وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (10) ، وقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (11) الآية.
__________
(1) تفسير الطبري جـ 8 صـ 72.
(2) سورة الفرقان الآية 68
(3) انظر: تفسير الشوكاني جـ 4 صـ 88.
(4) انظر: لوامع الأنوار البهية جـ 1 صـ 370.
(5) سورة النساء الآية 93
(6) مختصر تفسير الطبري صـ 74.
(7) تفسير أبي السعود جـ 2 صـ 217.
(8) سورة النساء الآية 93
(9) سورة هود الآية 114
(10) سورة الشورى الآية 25
(11) سورة النساء الآية 48(40/231)
وتوضيح ذلك أنه ليس الأخذ بظاهر هذه النصوص أولى من الأخذ بظاهر تلك النصوص، والأخذ بالظاهرين متناقض فلا بد من التخصيص.
وأما الأخبار المخصصة لعموم الآية فكثيرة، منها: حديث عبادة بن الصامت أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا. . . إلى أن قال: فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه (1) » ، وحديث أبي هريرة في الرجل الذي قتل مائة نفس (2) .
ثم إنهم _ الخوارج ومن وافقهم _ قد أجمعوا معنا في الرجل يشهد عليه بالقتل أو الزنا ويقر بأنه قتل أو زنى ويأتي السلطان فيقيم عليه الحد، فهذا غير نافذ عليه الوعيد في الآخرة إجماعا على مقتضى حديث عبادة. فقد انكسر عليهم ما تعلقوا به من عموم هذه النصوص ودخلها التخصيص بما ذكر (3) .
من كلام القرطبي: يظهر أن هذه النصوص مخصصة بالنصوص الدالة على العفو والتوبة. وعلية فيبطل الاستدلال بعمومها على تخليد أصحاب الكبائر في النار، والله أعلم.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان - الباب الحادي عشر، حديث رقم 18. وانظر: فتح الباري جـ 1 صـ 64، 68.
(2) رواه مسلم في كتاب التوبة، باب قبول التوبة وإن كثر قتله برقم 46. انظر صحيح مسلم جـ 4 صـ 2118.
(3) انظر: تفسير القرطبي جـ 5 صـ 334 بتصرف.(40/232)
الشبهة الخامسة:
استدلوا بما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزني(40/232)
الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» الحديث، (1) .
وجه الاستدلال: أن ظاهر الحديث يدل على نفي الإيمان عمن أتى شيئا من هذه الكبائر ومن نفى عنه الإيمان فهو كافر. يقول السمائلي - أحد علمائهم -: الإيمان في قلوب أهله أثبت من الجبال الرواسي على قرارها، فلا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن: أي لا يبقى إيمان مع الزنا، فإنه إذا أقدم على الزنا خلع ربقة الإيمان من عنقه، فيزني وهو خارج من حيطة الإيمان الصحيح، إذ صار منتهكا لحرم ربه عز وجل. . فهو لا يقف على حدود طاعة الله تعالى، ومن كان كذلك فلا فرق بينه وبين الحيوان كما لا فرق بينه وبين الكافر (2) .
الجواب: يقول ابن تيمية - رحمه الله -: الجمهور من السلف والخلف. . يقولون الإسلام أوسع من الإيمان، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا، ويقولون في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (3) » الحديث (4) ، أنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، ودوروا للإسلام دارة ودوروا للإيمان دارة أصغر منها في جوفها وقالوا: إذا زنى خرج من الإيمان إلى الإسلام ولا يخرجه من الإسلام إلى الكفر، ودليل ذلك أن الله تبارك وتعالى قال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} (5) الآية، فقد قال تعالى: {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (6)
__________
(1) الفصل لابن حزم جـ 3 صـ 230.
(2) أصدق المناهج للسمائلي صـ 34-35.
(3) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب نقصان الإيمان بالمعاصي. وانظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ 2 صـ 41.
(4) الفصل لابن حزم جـ 3 صـ 230.
(5) سورة الحجرات الآية 14
(6) سورة الحجرات الآية 14(40/233)
وهذا الحرف - أي لما - ينفي به ما قرب وجوده وانتظر وجوده ولم يوجد بعد. . . فلما قالوا: (آمنا) قيل (لم تؤمنوا) بعد بل الإيمان مرجو منتظر منكم. . فالخطاب لهؤلاء المخاطبين قد أخبر عنهم أنهم لما يدخل الإيمان في قلوبهم ومع ذلك قيل لهم: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} (1) .
فلو لم يكونوا في هذه الحال مثابين على طاعة الله ورسوله لكان خلاف مدلول الخطاب. والإثابة على الطاعة تدل على وجود إيمان تصح به الطاعة ثم بين سبحانه وصف المؤمنين الذين أخرج هؤلاء منهم فقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (2) وهذا نعت محقق الإيمان لا نعت من معه مثقال ذرة من إيمان كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (3) الآية، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (4) » وأمثال ذلك، فدل البيان على أن الإيمان المنفي عن هؤلاء الأعراب: هو هذا الإيمان الذي نفي عن فساق أهل القبلة الذين لا يخلدون في النار بل قد يكون مع أحدهم مثقال ذرة من إيمان، ونفي هذا الإيمان لا يقتضي ثبوت الكفر الذي يخلد صاحبه في النار (5) .
وعلى ذلك فالإيمان المنفي عن الزاني إنما هو الإيمان الكامل (6) . ونفي هذا الإيمان لا يقتضي ثبوت الكفر الذي يخلد في النار. ومما يؤكد ذلك ما ورد في الصحيحين عن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) سورة الحجرات الآية 14
(2) سورة الحجرات الآية 15
(3) سورة الأنفال الآية 2
(4) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب نقصان الإيمان بالمعاصي. وانظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ 2 صـ 41.
(5) الفتاوى جـ 7 صـ 476، 478 بتصرف.
(6) انظر: قواعد العقائد للغزالي صـ 259. وشرح صحيح مسلم للنووي جـ 2 صـ 41.(40/234)
«أتاني جبريل - عليه السلام - فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ ، قال: وإن زنى وإن سرق (1) » . . الحديث، فدل هذا على أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة بمشيئة الله، وإن ارتكب بعض الكبائر كالزنا والسرقة مما يدل على أن ارتكاب هذه الكبائر لا يخرج من الإيمان إلى الكفر وإنما ينقص الإيمان، وإذ كان كذلك فلا دلالة في الحديث على ما يزعمونه، والله أعلم.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. صحيح مسلم (بشرح النووي) جـ 2 صـ 93-94.(40/235)
الشبهة السادسة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (1) » ، يقول ابن حزم: واحتج أيضا من كفر من ذكرنا بأحاديث منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر (2) » . ويقول ابن حجر _ بعد سياقه هذا الحديث _: إن ظاهره يقوي مذهب الخوارج الذين يكفرون بالمعاصي (3) .
الجواب: يقول ابن حجر - بعد أن أورد هذا الحديث -: ولا مستمسك للخوارج فيه لأن ظاهره غير مراد، لكن لما كان القتال أشد من السباب؛ لأنه مفض إلى إزهاق الروح، عبر عنه بلفظ أشد من لفظ الفسق وهو الكفر، ولم يرد حقيقة الكفر المخرج من الملة، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير معتمدا على ما تقرر من القواعد أن مثل ذلك لا يخرج عن الملة، مثل حديث الشفاعة، ومثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) أو أطلق عليه الكفر لشبهه به؛ لأن قتال المؤمن من شأن الكافر (5) .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. انظر: جامع الأصول جـ 10 حديث 8437.
(2) الفصل جـ 3 صـ 230.
(3) فتح الباري لابن حجر جـ 1 صـ 112.
(4) سورة النساء الآية 116
(5) فتح الباري جـ 1 صـ 112.(40/235)
وقال ابن حزم: إن قوله - عليه الصلاة والسلام - (المسلم) هاهنا عموم للجنس ولا خلاف في أن من نابذ جميع المسلمين وقاتلهم لإسلامهم فهو كافر. برهان هذا هو ما ذكرنا قبل من نص القرآن في أن القاتل عمدا والمقاتل مؤمنان، وكلامه - صلى الله عليه وسلم - لا يتعارض ولا يختلف (1) .
من كلام ابن حجر وابن حزم يتضح أنه لا يراد بالحديث الحكم بالكفر المخرج من الملة على مرتكب كبيرة القتل، وإذا كان كذلك لم يبق للخوارج مستمسك في الحديث، والله أعلم.
__________
(1) الفصل لابن حزم جـ 3 صـ 237.(40/236)
الشبهة السابعة:
يقول شيخ الإسلام - بعد أن ذكر رأيهم في مرتكب الكبيرة -: " وجماع شبهتهم في ذلك أن الحقيقة المركبة تزول بزوال بعض أجزائها كالعشرة فإنه إذا زال بعضها لم تبق عشرة، وكذلك الأجسام المركبة كالسكنجبين إذا زال أحد جزئيه خرج عن كونه سكنجبينا. قالوا: فإذا كان الإيمان مركبا من أقوال وأعمال ظاهرة وباطنة، لزم زواله بزوال بعضها. وهذا قول الخوارج والمعتزلة. . . " (1) .
الجواب: يقال لهم لا يلزم من زوال بعض الأمور المجتمعة زوال سائرها، سواء سميت مركبة أو مؤلفة أو غير ذلك، لا يلزم من زوال بعض الأجزاء زوال سائرها. وما مثلوا به من العشرة والسكنجبين مطابق لذلك، فإن الواحد من العشرة إذا زال لم يلزم زوال التسعة بل قد تبقى التسعة، فإذا زوال أحد جزئي المركب لا يلزم منه زوال الجزء الآخر، لكن أكثر ما يقولون. . زالت الهيئة الاجتماعية وزال ذلك الاسم الذي استحقته الهيئة بذلك الاجتماع والتركيب كما يزول اسم العشرة والسكنجبين.
فيقال: أما كون ذلك المجتمع المركب ما بقي على تركيبه فهذا لا ينازع
__________
(1) الفتاوى جـ 7 صـ 511. وانظر: الفصل جـ 4 صـ 47.(40/236)
فيه عاقل، ولا يدعي عاقل أن الإيمان أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات المتناولة لأمور، إذا زال بعضها بقي ذلك المجتمع المركب كما كان قبل زوال بعضه. . ولكن لا يلزم زوال بقية الأجزاء.
وأما زوال الاسم فيقال لهم هذا (أولا) بحث لفظي، إذا قدر أن الإيمان له أبعاض وشعب، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (1) » ، كما أن الصلاة والحج له أجزاء وشعب، ولا يلزم من زوال شعبة من شعبه زوال سائر الأجزاء والشعب، كما لا يلزم من زوال بعض أجزاء الحج والصلاة زوال سائر الأجزاء، فدعواهم أنه إذا زال بعض المركب زال البعض الآخر ليس بصواب، ونحن نسلم لهم أنه ما بقي إلا بعضه لا كله وأن الهيئة الاجتماعية ما بقيت كما كانت. بقي النزاع هل يلزم زوال الاسم بزوال بعض الأجزاء، فيقال لهم: المركبات في ذلك على وجهين، منها: ما يكون التركيب شرطا في إطلاق الاسم، ومنها: ما لا يكون كذلك، فالأول كاسم العشرة. . . ومنها ما يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء وجميع المركبات المتشابهة الأجزاء من هذا الباب وكذلك كثير من المختلفة الأجزاء، فإن المكيلات والموزونات كالحنطة تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب والماء ونحو ذلك. وكذلك لفظ العبادة والطاعة. . ونحو ذلك مما يدخل فيه أمور كثيرة، يطلق الاسم عليها قليلها وكثيرها. . وكذلك لفظ القرآن يقال على جميعه وعلى بعضه. . وإذا كانت المركبات على نوعين بل غالبها من هذا النوع لم يصح قولهم إنه إذا زال جزؤه لزم أن يزول الاسم إذا أمكن أن يبقى الاسم مع بقاء الجزء الباقي.
__________
(1) رواه البخاري في الإيمان، باب أمور الإيمان جـ 1 صـ 8. ومسلم في الإيمان باب بيان عدد شعب الإيمان. مسلم (بشرح النووي) جـ 2 صـ 3. وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة، انظر: جامع الأصول جـ 1حديث 19.(40/237)
ومعلوم أن اسم (الإيمان) من هذا الباب فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان (1) » ثم من المعلوم أنه إذا زالت الإماطة ونحوها لم يزل اسم الإيمان. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان (2) » فأخبر أنه يتبعض ويبقى بعضه وأن ذلك من الإيمان، فعلم أن بعض الإيمان يزول ويبقى بعضه، وهذا ينقض مآخذهم الفاسدة ويبين أن اسم الإيمان مثل اسم القرآن (3) يطلق على جميعه وعلى بعضه - وعليه فالإيمان يزول بعضه ولا يلزم زوال الباقي كما لا يلزم زوال اسمه وبذلك تبطل هذه الشبهة، والله أعلم.
__________
(1) رواه البخاري في الإيمان، باب أمور الإيمان جـ 1 صـ 8. ومسلم في الإيمان باب بيان عدد شعب الإيمان. مسلم (بشرح النووي) جـ 2 صـ 3. وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة، انظر: جامع الأصول جـ 1حديث 19.
(2) رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري برقم 2601 في صفة جهنم، باب رقم 10 وقال: هذا حديث حسن صحيح. انظر: جامع الأصول جـ 9 حديث 7000 (المتن والحاشية) .
(3) الفتاوى جـ 7 صـ 514 - 517 (بتصرف) .(40/238)
(جـ) : في ذكر بعض اللوازم والأدلة التي تؤكد بطلان هذه البدعة:
بعد عرض أمثلة من شبهاتهم والجواب عنها نشير إلى بعض اللوازم والأدلة التي تؤكد بطلان هذه البدعة. مما يؤكد بطلان هذه البدعة ما يلي:
أولا: أنه يلزم من القول بأن مرتكب الكبيرة كافر أن يكون حكمه حكم غيره ممن كفر بعد إيمانه، وهو أن يكون مرتدا يجب قتله؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة والخمر. وهذا معلوم بطلانه بالضرورة من دين الإسلام، إذ أن نصوص الكتاب والسنة
__________
(1) أخرجه البخاري عن ابن عباس في استتابة المرتدين، باب حكم المرتد جـ 12 \ 238 و239 والترمذي برقم 1478 في الحدود باب ما جاء في المرتد. وانظر: جامع الأصول حديث 1801 جـ 3 صـ 481 - 482.(40/238)
والإجماع تدل على أن الزاني _ البكر _ والسارق والقاذف لا يقتلون بل يقام عليهم الحد.
كما قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (1) الآية، وقال تعالى في حكم السارق: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) ، وفي شراب الخمر روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - «أن رجلا كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا وكان يضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا تلعنوه فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله (3) » فقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بجلد شارب الخمر ولم يقتله بل نهى عن لعنه بعينه، وشهد لهذا الرجل بحب الله ورسوله مع أنه تكرر منه شرب الخمر، ولم يحكم عليه ولا على غيره من أصحاب الكبائر كالسارق والزاني بالكفر، بل كان يستغفر لهم (4) .
كما أجمعت الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على ذلك. فدل ذلك على أنه ليس بمرتد.
كما يلزم أيضا من كونه كافرا التفريق بينه وبين أهله، وأن لا يرث ولا يورث إلى غير ذلك مما يشترط فيه الإسلام؛ لقوله عز وجل: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (5) الآية.
__________
(1) سورة النور الآية 2
(2) سورة المائدة الآية 38
(3) رواه البخاري في كتاب الحدود باب ما يكره من لعن شارب الخمر وأنه ليس بخارج من الملة برقم 6780، وانظر: صحيح البخاري (مع الفتح) جـ 12 صـ 75.
(4) انظر: مجموع الفتاوى جـ 7 صـ 483، 671.
(5) سورة البقرة الآية 221(40/239)
ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (1) » .
لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفرق بين من فعل الكبيرة مما دون الشرك - وبين أهله ولم يحرمه من ميراث من له الإرث منه، وكذلك صحابته والتابعون لهم بإحسان مما يدل على أنه غير كافر.
ثانيا: أن الله سمى أهل الكبائر مؤمنين مع ارتكابهم لها؛ كما في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (2) الآية (3) ، قال ابن كثير _ رحمه الله _: فسماهم مؤمنين مع الاقتتال، وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم (4) . ومثل هذه الآية أيضا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} (5) الآية قال ابن حزم - رحمه الله -: فابتدأ الله عز وجل بخطاب أهل الإيمان من كان فيهم من قاتل أو مقتول، ونص تعالى على أن القاتل عمدا وولي المقتول أخوان. وقد قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (6) فصح أن القاتل عمدا مؤمن بنص القران،
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم. . برقم 6764. انظر: فتح الباري جـ 12 صـ 50.
(2) سورة الحجرات الآية 9
(3) انظر: الفتاوى جـ 7 صـ 483.
(4) تفسير ابن كثير جـ 4 صـ 221.
(5) سورة البقرة الآية 178
(6) سورة الحجرات الآية 10(40/240)
وحكمه له بأخوة الإيمان، ولا تكون للكافر مع المؤمن تلك الأخوة (1) . وإذا صح أن مرتكب الكبيرة لم يخرج من الإيمان بطل ما تزعمه الخوارج من القول بكفره وأنه مخلد في النار.
ثالثا: ما ورد من الأدلة على الموازنة بين الحسنات والسيئات وأن الله لا يضيع عمل عامل، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} (2) الآية، وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (3) {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (4) ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} (5) الآية.
وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون من المفلس؟ ، قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار (6) » فصح بما ذكر أن للعصاة حسنات مقبولة وإذا كانوا كذلك لم يكونوا كافرين (7) .
__________
(1) الفصل جـ 3 صـ 235، 236.
(2) سورة الأنبياء الآية 47
(3) سورة الزلزلة الآية 7
(4) سورة الزلزلة الآية 8
(5) سورة النساء الآية 40
(6) رواه مسلم عن أبي هريرة في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم. انظر: صحيح مسلم (بشرح النووي) جـ 16 صـ 135 ـ 136.
(7) انظر: الفصل جـ 3 صـ 232 ـ 233، جـ 4 صـ 48 ـ 49.(40/241)
رابعا: ما ورد من الأدلة التي تدل على عفو الله عن عباده وسعة مغفرته لهم وأنه لا يضيع إيمانهم، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) .
فقد دلت هذه الآية على أن مغفرته سبحانه قد تنال كل صاحب معصية بمشيئتة غير الشرك، ومرتكب الكبيرة ليس بمشرك، وعليه فهو داخل تحت مشيئة الله.
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) ومرتكب الكبيرة معه إيمان فالله لا يضيع إيمانه، وعليه فهو ليس بكافر.
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أدخله الله الجنة على ما كان من العمل (3) » ومرتكب الكبيرة قد شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - فهو موعود بدخول الجنة ومن وعد بدخولها فليس بكافر.
وإذا ثبت أن مرتكب الكبيرة مما دون الشرك تحت مشيئة الله (4) ، وأن الله لا يضيع إيمانه بل إن الله وعده بالجنة، إذا ثبت ذلك بطل القول بكفره وأنه مخلد في النار.
خامسا: ما ورد من الأدلة الدالة على الشفاعة بأنواعها المختلفة التي أعظمها
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة البقرة الآية 143
(3) رواه البخاري عن عبادة بن الصامت في كتاب أحاديث الأنبياء باب قوله تعالى: '' يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق '' برقم 3435 صحيح البخاري بشرح (فتح الباري) جـ 6 صـ 474. ومسلم (بشرح النووي) جـ 1 صـ 26.
(4) انظر: الفتاوى جـ 7 صـ 484ـ 487. وتأملات في التراث العقدي صـ 242 ـ 243.(40/242)
شفاعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - لأهل الموقف وهي المقام المحمود الذي قال الله تعالى فيه: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1) فهذا نوع من أنواع شفاعته - صلى الله عليه وسلم - ومن أنواعها ما روى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا (2) » ومرتكب الكبيرة ليس بمشرك فهي نائلته إن شاء الله.
وورد من أنواع الشفاعة شفاعة المؤمنين بعضهم لبعض؛ لما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنم، قلنا: يا رسول الله وما الجسر؟ ، قال: مدحضة مزلة عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السعدان، المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاود الخيل والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش ومكدوس في نار جهنم حتى يمر آخرهم يسحب سحبا فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار، وإذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه وإلى إنصاف ساقيه فيخرجون من عرفوا ثم يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوهم، فيخرجون من عرفوا ثم يعودون، فيقول:
__________
(1) سورة الإسراء الآية 79
(2) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة انظر: جامع الأصول حديث 8011 جـ 10 صـ 476، وانظر: صحيح البخاري (بشرح فتح الباري) جـ 11 صـ 96. ومسلم (بشرح النووي) جـ 3 صـ 74.(40/243)
اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا (1) » الحديث.
وبعض أنواع الشفاعة إنما تكون للعصاة الذين استحقوا العذاب بسبب ارتكاب المعاصي أو التقصير في الطاعات، وإذا ثبتت الشفاعة للعصاة انتفى القول بخلودهم في النار (2) .
وقد أنكرت الخوارج هذا النوع من الشفاعة محتجين بأن الشفاعة للعاصي رضا بعصيانه (3) .
ويرد عليهم: بأن الشفاعة للعاصي ليست رضا بعصيانه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما احتاج إلى الشفاعة، ولكن عفو الله ومغفرته، وقبول الأعمال الصالحة جعلت لبعض العصاة حقا في الشفاعة (4) ، والله أعلم.
__________
(1) رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري في كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: '' وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة '' برقم 7439. صحيح البخاري بشرح (فتح الباري) جـ 13 صـ 420 -421 ومسلم (بنحوه) في كتاب الإيمان باب إخراج عصاة المؤمنين من النار (صحيح مسلم بشرح النووي) جـ3 صـ 29 - 32.
(2) انظر: الاعتقاد للبيهقي صـ 191، 197، 201، 203.
(3) انظر: أصدق المناهج للسمائلي صـ 27.
(4) انظر: تأملات في التراث العقدي للفرق الكلامية (فرق الخوارج) صـ 245.(40/244)
(د) رأي المعتزلة في حكم مرتكب الكبيرة في الدنيا مع المناقشة.
ذكرنا - آنفا - عند بيان رأي الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة - أن المعتزلة يوافقونهم في حكمه في الآخرة، إلا أنهم يخالفونهم في حكمه في الدنيا. والآن لنعرف ما هو رأيهم فيه في الدنيا؟ .
يرى المعتزلة: أن مرتكب الكبيرة - في الدنيا - ليس مؤمنا ولا كافرا لا في الاسم ولا في الحكم؛ بل هو في منزلة بين المنزلتين، فلا يسمى مؤمنا ولا كافرا وإنما يسمى فاسقا.(40/244)
وحكمه كذلك بين الحكمين، فلا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن وإنما له حكم بينهما.
المناقشة: نقول لهم:
أولا: إن قولكم - مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين يتضمن نفي الإيمان بالكلية عن مرتكب الكبيرة. وهذا باطل. بل هو مؤمن ناقص الإيمان قد نقص إيمانه بقدر ما ارتكب من معصية فهو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. فلا يكون له الاسم مطلقا، ولا يسلب منه مطلق الإيمان. ومما يدل على أن الفاسق لم تخرجه كبيرته من الإيمان ما يلي:
1 - الآيات والأحاديث الناطقة بإطلاق لفظ الإيمان على العاصي كقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) .
فقد أطلق اسم الإيمان على الطائفتين المتقاتلتين من المؤمنين؛ مما يدل على أن كبيرة القتل لم تخرجهما من الإيمان، وكذلك كبيرة البغي (2) . ومن الأحاديث قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه مسلم من رواية أبي ذر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق ?، فقال - صلى الله عليه وسلم -: وإن زنى وإن سرق (3) » الحديث.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) الروضة الندية شرح الواسطية صـ 392 (بتصرف) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا أدخل الجنة. انظر صحيح مسلم جـ 1 صـ 53.(40/245)
ففي هذا الحديث دلالة على أن من قال لا إله إلا الله وإن ارتكب شيئا من الكبائر فإنه يدخل الجنة، مما يدل على أن كبيرته لم تخرجه من الإيمان.
2 - إجماع الأمة من عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا على الصلاة على من مات من أهل القبلة من غير توبة، والدعاء والاستغفار لهم مع العلم بارتكابهم للكبائر بعد الاتفاق على أن ذلك لا يجوز لغير المؤمن (1) ؛ مما يدل على أنهم لم يخرجوا من الإيمان.
ثانيا: أن في قولكم - بالمنزلة بين المنزلتين - إحداث للقول المخالف لما أجمع عليه السلف من عدم المنزلة بين المنزلتين، فيكون باطلا (2) . والله أعلم.
__________
(1) شرح العقائد المنفية صـ 118.
(2) شرح العقائد المنفية صـ 118.(40/246)
المبحث الثاني: الذين فرطوا في حكم مرتكب الكبيرة (وهم المرجئة)
أولا: في التعريف بالمرجئة ونشأتهم: (أ) : في التعريف بالمرجئة.
المرجئة: لغة: اسم فاعل من " أرجأته " بالهمزة بمعنى أخرته، والرجاء من الأمل نقيض اليأس. ممدود، تقول رجاه يرجو رجوا ورجاء: أي أمل فيه.
والإرجاء: بمعنى التأخير. ومنه سميت المرجئة.
فأرجأ الشيء: أي أخره، ومنه قوله تعالى: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} (1) ، وفي حديث توبة كعب بن مالك: «وأرجأ رسول الله أمرنا (2) » أي أخره.
والطائفة المعروفة: المرجئة. بهمز ولا بهمز وكلاهما بمعنى التأخير، والهمز أجود.
المرجئة في الاصطلاح:
نظرا لتعدد أنواع الإرجاء فقد اختلف في تعريفهم. وإليك بعض التعاريف مع الإشارة للأشمل منها: قال بعضهم: المرجئة: هم الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 111
(2) رواه مسلم في صحيحه في كتاب التوبة باب حديث توبة كعب بن مالك، صحيح مسلم (بشرح النووي) جـ 17 صـ 98.(40/247)
وقال آخرون: المرجئة: هم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أن الإيمان لا يضر معه ذنب كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
وقال الشهرستاني: الإرجاء على معنيين. أحدهما: بمعنى التأخير كما في قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} (1) الآية أي أمهله وأخره.
والثاني: إعطاء الرجاء. أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول. .، لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد. وأما بالمعنى الثاني. . فلأنهم كانوا يقولون لا تضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وهذا أمثل الأقوال لأنه أشملها لأنواع الإرجاء.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 111(40/248)
(ب) : نشأتهم.
الإرجاء ليس شيئا واحدا نشأ في لحظة حاسمة كما هو الحال في نشأة الخوارج، وإنما هو أنواع. وقد بدأ ضعيفا في جانب واحد ثم ما لبث أن انتقل في جانب آخر بينهما فترة من الزمن. وإليك الإشارة إليها مع بيان نشأة كل منها.
أولا: إرجاء أمر الصحابة.
والأظهر أن أول من تكلم فيه الحسن بن محمد بن الحنفية الذي اشتهر عنه بسبب كتاب كتبه ليقرأ على الناس. قال ابن سعد في ترجمة الحسن: إنه أول من تكلم بالإرجاء (1) .
__________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 5 صـ 328. الملل والنحل جـ 1 صـ 144.(40/248)
وهذا الإرجاء لا يعد مذموما؛ لأنه إرجاء أمر الصحابة إلى الله لما حصل بينهم من الاختلاف، ولم يتبرأ منهم.
ثانيا: إرجاء أمر مرتكب الكبيرة.
وقد نشأ هذا النوع بظهور الخوارج وحكمهم بالكفر على مرتكب الكبيرة واختلافهم فيه. وبيان ذلك: أنهم قالوا: بالكفر على مرتكب الكبيرة ثم افترقوا فرقا وأخذ حكمهم يتنازل في حكم مرتكب الكبيرة حتى تولدت المرجئة.
فقد ذكر الشهرستاني عن الحازمية - وهي من فرق الخوارج - أنهم يتوقفون في أمر علي بن أبي طالب ولا يصرحون بالبراءة منه (1) .
ويروي ابن سعد عن بعض المحدثين كمحارب بن دثار السدوسي (قاضي الكوفة) أنهم يتوقفون في أمر علي بن أبي طالب وعثمان، ولا يشهدون لهما بإيمان ولا كفر. إذا ما هو موقفهم؟ ، إنه الإرجاء (2) .
ومما ذكرته يتضح أن التوقف من قبل بعض الخوارج هو البذرة الأولى في ظهور المرجئة الأولى الذين لا يشهدون بإيمان ولا كفر على مرتكب الكبيرة. والأصل عندهم في قولهم: مرتكب الكبيرة هم الصحابة. قال ابن أبي العز في شرحه للطحاوية: وكانت المرجئة الأولى يرجئون عثمان وعليا، ولا يشهدون بإيمان ولا كفر (3) .
ومن هؤلاء: محارب بن دثار السدوسي، كما قال ابن سعد (4) ، ومنهم أيضا خالد بن سلمة الكوفي الفأفاء. كما قال الذهبي (5) .
__________
(1) الملل والنحل جـ1 صـ 131.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 6 صـ 307.
(3) شرح الطحاوية صـ 477.
(4) الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 6 صـ 307.
(5) انظر: سير أعلام النبلاء جـ 5 صـ 373 - 374.(40/249)
وهذا النوع من الإرجاء يختلف عما سبقه. فالأول الذي تكلم فيه ابن الحنفية إرجاء تفويض أمر المختلفين من الصحابة إلى الله، مع اعتقاد أفضليتهم والشهادة لهم بالإيمان، وليس له أي صلة بالمرجئة فيما بعد.
أما النوع الثاني: وهو الإرجاء الذي تولد من الخوارج فالقائلون به لا يشهدون للصحابة بإيمان ولا كفر وإنما يتوقفون، وهذا بدعة، وهو أصل قول المرجئة في الإيمان كما سيأتي بيانه، ثم إن هذا النوع من الإرجاء قد انقرض؛ إذ أن الإرجاء تحول إلى موضوع الإيمان. فقد سئل سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال: الإرجاء على وجهين: قوم أرجئوا أمر علي وعثمان فقد مضى أولئك، فأما المرجئة اليوم فهم قوم يقولون: الإيمان قول بلا عمل (1) .
النوع الثالث: الإرجاء في الإيمان.
وهذا النوع بدأ بإخراج العمل من مسمى الإيمان، وكان هذا زمن التابعين وهو على ثلاثة أنواع. الأول: إرجاء العباد والفقهاء من أهل الكوفة ابتدأ بهم. وموضوعه: إخراج العمل من الإيمان. وهو امتداد للمرجئة الذين انفصلوا عن الخوارج؛ حيث إن مسالة تكفير المسلم هي السبب في ذلك وهي القضية التي كانت موضوع نقاش الناس وخاصة بين الخوارج ومن انفصل منهم من المرجئة أدى هذا النقاش فيما بعد إلى البحث في الإيمان عند هاتين الفرقتين. فرأت كل فرقة أن تجعل قولها في الإيمان مبنيا على قولها في الكبيرة، فقالت الخوارج: إنه جميع الطاعات فمن ترك طاعة واحدة فقد كفر. فقولهم هذا بناء على تكفيرهم مرتكب الكبيرة.
فقابلتهم المرجئة بما يناقضهم؛ فقالوا: مرتكب الذنب مؤمن كامل الإيمان، لكن لا يسلم لهم هذا القول حتى يخرجوا العمل من الإيمان، لذا
__________
(1) تهذيب الآثار للطبري جـ 2 صـ 659.(40/250)
قالوا: الإيمان هو التصديق والإقرار فقط. وأول من عرف عنه هذا النوع ذر بن عبد الله الهمذاني، وحماد بن أبي سليمان من فقهاء الكوفة (1) .
وكان ظهور هذا النوع من الإرجاء بعد الثمانين من الهجرة لما ورد في صحيح البخاري عن زبيد قال: " سألت أبا وائل عن المرجئة. . . " (2) وكانت وفاة أبي وائل سنة 82 هـ (3) .
وقال ابن تيمية: حدثت بدعة الإرجاء في أواخر عصر الصحابة في خلافة عبد الملك بن مروان (4) ، وخلافته انتهت بوفاته سنة 86 هـ.
وهؤلاء المرجئة الذين يخرجون العمل عن الإيمان لم يكونوا يقصرون في العمل، وإنما قالوا هذا القول كرد فعل لتكفير الخوارج لصاحب الكبيرة (5) .
الثاني: إرجاء الغلاة من المتكلمين، الذين جعلوا الإيمان في القلب فقط، كالجهمية والغيلانية وبعض المتكلمين.
وهؤلاء: جعلوا الإيمان شيئا واحدا في القلب فقط فزادوا على من
__________
(1) انظر: الضعفاء الكبير للعقيلي جـ 1 صـ 304.
(2) صحيح البخاري كتاب الإيمان باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله جـ 1 صـ 17.
(3) انظر: تذكرة الحافظ جـ 1 صـ 60.
(4) انظر: منهاج السنة النبوية جـ3 صـ 184، ودرء تعارض العقل بالنقل جـ 5 صـ 244.
(5) انظر: الفتاوى جـ 7 صـ 297، 510.(40/251)
سبقهم بأن أخرجوا القول من الإيمان. فصار الإيمان يتم - عندهم - بمجرد معرفة القلب. ومن أوائل من عرف عنهم هذا الغلو في الإرجاء غيلان بن مسلم الدمشقي أبو مروان، والجهم بن صفوان، ومقاتل بن سليمان المشبه.
وهؤلاء من مذهبهم أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وهم الطائفة الأولى من المرجئة الغلاة.
وهذا النوع من الإرجاء أثر من آثار الإرجاء السابق، وهو إرجاء الفقهاء حيث إن ذلك الخطأ اللفظي فتح الباب لهذا الخطأ العظيم.
الثالث: إرجاء الكرامية: وهو نوع ثالث من أنواع الإرجاء في الإيمان حيث جعلوا الإيمان: قولا باللسان فقط، وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن(40/252)
عند الله ولي له، من أهل الجنة (1) ، وأول من ابتدع هذا النوع محمد بن كرام السجستاني المجسم، عاش في أوائل القرن الثالث. حيث قال: إن الإيمان هو القول باللسان فقط دون تصديق القلب وعمل الجوارح. ولم يكن هذا النوع معروفا قبله، وهذا القول هو أفسد الأقوال وآخرها حدوثا.
يقول ابن تيمية: لم يكن حدث في زمن السلف من المرجئة من يقول: الإيمان بمجرد القول بلا تصديق ولا معرفة، فإن هذا: إنما أحدثه ابن كرام، وهذا هو الذي انفرد به ابن كرام (2) وهذه هي الطائفة الثانية من المرجئة الغلاة (3) .
__________
(1) المقالات جـ 1 صـ 205. والفصل جـ 3 صـ 188، جـ 4 صـ 204.
(2) الفتاوى جـ 7 صـ 386 - 387.
(3) الفصل جـ 4 صـ 204.(40/253)
ثانيا: رأي المرجئة في حكم مرتكب الكبيرة مع المناقشة:
(أ) : رأي المرجئة في حكم مرتكب الكبيرة.
اختلف المرجئة في حكم مرتكب الكبيرة، فمنهم من وافق أهل السنة كمرجئة الفقهاء حيث كان إرجاؤهم في تأخير العمل عن الإيمان فقط. يقول ابن تيمية - وهو يتكلم عن العمل هل هو داخل في الإيمان أم لا؟ -: ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء كحماد بن أبي سليمان وهو أول من قال ذلك، ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم، متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد، وإن قالوا إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل، فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض، ومع فعل المحرمات، يكون صاحبه مستحقا للذم والعقاب كما تقول الجماعة، ويقولون أيضا بأن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة (1) .
ومنهم من خالف أهل السنة، كالمرجئة الغلاة حيث قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة. فمن قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، وحرم ما حرم الله، وأحل ما أحل الله دخل الجنة ابتداء ولو مات من غير توبة، وإن زنى وسرق وقتل وشرب الخمر وقذف المحصنات وترك الصلاة. . إذا كان مقرا بها لا يضر وقوعه في الكبائر وركوبه الفواحش وتركه الفرائض، وإن فعل ذلك مستحلا كان كافرا بالله وخرج من إيمانه فصار من أهل النار (2) .
__________
(1) الفتاوى جـ 1 صـ 297.
(2) انظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع للملطي صـ 43.(40/254)
قال الإمام أبو حنيفة: " ولا نقول إن المؤمن لا تضره الذنوب ولا نقول إنه لا يدخل النار. . كما قالت المرجئة " (1) .
وقال الماتريدي: " قالت المرجئة لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة " (2) .
ويقول ابن تيمية - وهو يتكلم عن أصحاب الذنوب -: ". . . ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار. .، وقول غلاة المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أحدا منهم يدخل النار بل نقف في هذا كله. وحكي عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي. . . " (3) .
وهذا مبني على أصلهم الفاسد، وهو أنه لا يتصور أن الشخص يدخل الجنة والنار معا بل إذا دخل أحدهما فلا يدخل الأخرى، وبناء على هذا قالوا: " إن أهل الذنوب يدخلون الجنة ولا يدخلون النار أبدا " (4) .
__________
(1) شرح الفقه الأكبر للماتريدي صـ 141 (المتن) .
(2) شرح الفقه الأكبر للماتريدي صـ 6.
(3) الفتاوى جـ 7 صـ 297. وانظر صـ 501 من نفس الجزء.
(4) الإيمان لابن تيمية صـ 337 - 338. الفصل جـ 3 صـ 229 - 230.(40/255)
(ب) : شبهاتهم والجواب عليها.
لقد تمسك المرجئة في قولهم بهذه البدعة بشبهات منها: ما ورد في الكتاب والسنة من نصوص فيها الوعد لعباده المؤمنين، وإليك البعض منها مع الجواب.
الشبهة الأولى:
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 48(40/255)
وجه الاستدلال: قالوا: إن الآية تدل على أن الشرك وحده لا يغفر وما دون ذلك فهو مغفور، ومرتكب الكبيرة ليس بمشرك فهو مغفور له (1) .
الجواب: يقال لهم: استدلالكم باطل لما يلي:
(أ) أن المغفرة معلقة بالمشيئة ففيها دليل على التقسيم (2) . وهو أن من العصاة من يعذب، ومنهم من لا يعذب، وعليه فالآية حجة عليكم لا لكم.
(ب) لو كانت المغفرة لكل أحد - كما تزعمون - لبطل قوله تعالى: {لِمَنْ يَشَاءُ} (3) فلما أثبت أنه يغفر ما دون ذلك، وأن المغفرة هي لمن يشاء دل ذلك على وقوع المغفرة العامة لما دون الشرك لكنها لبعض الناس (4) . وبذلك يتضح بطلان استدلالكم بالآية على ما تزعمونه، والله أعلم.
__________
(1) انظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع صـ 43.
(2) انظر: قواعد العقائد للغزالي صـ 255.
(3) سورة النساء الآية 48
(4) الفتاوى جـ 16 صـ 19.(40/256)
الشبهة الثانية:
قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (1) الآية.
وجه الاستدلال: أن الله تعالى حكم بغفران الذنوب جميعا، ولم يشترط التوبة، وذلك يدل على أنه تعالى يغفر الذنوب قبل التوبة وبعدها (2) ، وإذا غفرت ذنوب مرتكب الكبيرة لم يدخل النار.
الجواب: نقول لهم المراد بأن الله تعالى يغفر الذنوب جميعا مع التوبة.
__________
(1) سورة الزمر الآية 53
(2) الأربعين للرازي صـ 209.(40/256)
وحمل الآية على هذا المعنى أولى لوجهين. الأول: أنا إذا حملناها على هذا الوجه فقد حملناها على جميع الذنوب - على ما هو ظاهر الآية - وإن حملناها على ما ذكرتم، لم يمكن حمله على ظاهر الآية؛ لأنه تعالى لا يغفر جميع الذنوب من غير توبة؛ إذ الكفر ذنب والله لا يغفره إلا مع التوبة.
الثاني: أنه تعالى ذكر عقيب هذه الآية قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} (1) والإنابة هي التوبة (2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد ذكرنا في غير موضع أن هذه الآية في حق التائبين. . . ثم قال: الآية فيها نهي عن القنوط من رحمة الله، وإن عظمت الذنوب فلا يحل لأحد أن يقنط من رحمة الله. . ولا أن يقنط الناس من رحمة الله، والقنوط: يكون بأن يعتقد أن الله لا يغفر له؛ إما لكونه إذا تاب لا يقبل الله توبته ويغفر ذنبه، وإما أن يقول نفسه لا تطاوعه على التوبة. . فهو ييأس من توبة نفسه (3) . وإذا كانت الآية في حق التائب لم يبق فيها دلالة على ما تزعمه المرجئة، والله أعلم.
__________
(1) سورة الزمر الآية 54
(2) انظر: الأربعين للرازي صـ 236.
(3) الفتاوى جـ 16 صـ 18 - 20.(40/257)
الشبهة الثالثة:
قول تعالى: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} (1) {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (2) .
وجه الاستدلال: قالوا: قد أخبرنا الله عز وجل - في هذه الآية - أن النار لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى، فصح أن من لم يكذب
__________
(1) سورة الليل الآية 15
(2) سورة الليل الآية 16(40/257)
ولا تولى لا يصلاها، قالوا: ووجدنا أن مرتكبي الكبائر- مما دون الشرك - كلهم لم يكذبوا ولا تولوا بل هم مصدقون معترفون بالإيمان، فصح أنهم لا يصلونها، وأن المراد بالوعيد المذكور في هذه الآية وأمثالها إنما هو فعل تلك الأفاعيل من الكفار خاصة (1) .
الجواب: من وجوه منها. الأول: قيل أن المراد بهذه النار: نار مخصوصة - كما قاله الزجاج - وعدم دخوله هذه النار لا يمنع من دخوله غيرها. . وقيل: لا يصلاها صلي خلود، وهذا أقرب، وعليه فمن دخل النار وخرج منها فإنه نوع من الصلي، لكنه ليس الصلي المطلق وهو صلي الخلود، لا سيما إذا كان قد لبث فيها والنار لم تأكله؛ فإنه قد ثبت أنها لا تأكل مواضع السجود (2) .
الثاني: على التسليم بأن الآية تدل على أن الكفار هم المخصوصون بالعذاب، فإن هذا لا يمنع ما يحصل لبعض المؤمنين من تمحيص في النار بسبب ذنوبهم - كما دلت عليه بعض النصوص، من مثل قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (3) .
وكما ورد في الحديث الصحيح: أن فيه من يدخل النار بذنوبه ثم يخرج منها وعليه فإنه لا دلالة في الآية على ما تزعمه المرجئة، والله أعلم.
__________
(1) الفصل لابن حزم جـ 3 صـ 230.
(2) الفتاوى جـ 16 صـ 197. وانظر: الفصل جـ 4 صـ 50.
(3) سورة آل عمران الآية 141(40/258)
الشبهة الرابعة:
قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (1) .
وجه الاستدلال: قالوا الآية تدل على أن كل محسن رحمة الله قريبة منه، ومرتكب الكبيرة قد قال لا إله إلا الله فهو محسن، وإذا كان محسنا فرحمة الله قريبة منه، ومن رحمه الله فلا يعذب (2) .
الجواب: نقول استدلالكم باطل لما يلي:
(أ) أن الآية تدل على أن رحمة الله قريب من عباده المحسنين، لكنها لا تفسر بمنع العذاب في النار لمن أخطأ منهم؛ لأن عذاب الله للمخطئ عدل، والعدل لا يضاد الرحمة.
(ب) أنه لولا رحمة الله لهؤلاء المخطئين لطال عذابهم، ولكن رحمته كانت السبب في التجاوز عن كثير من خطاياهم وإدخالهم الجنة؛ لما روى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليصيبن أقواما سفع من النار بذنوب أصابوها عقوبة، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، يقال لهم الجهنميون (3) » وبذلك اتضح أن الله عذب الفساق بعدله، وتجاوز عن كثير من خطاياهم برحمته. ولم يستلزم العدل انتفاء الرحمة، ولا الرحمة انتفاء العذاب بعدله سبحانه.
(ج) على التسليم بما تزعمونه فإن رحمة الله مقيدة بالمشيئة؛ لما روى أبو هريرة
__________
(1) سورة الأعراف الآية 56
(2) انظر: الفصل جـ 4 صـ 47.
(3) رواه البخاري في كتاب التوحيد، باب ما جاء في قوله تعالى: '' إن رحمة الله قريب من المحسنين '' برقم 7450. انظر: صحيح البخاري (فتح الباري) جـ 13 صـ 434.(40/259)
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تحاجت الجنة والنار. . . إلى أن قال: فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء (1) » الحديث، وإذا كانت الرحمة مقيدة بالمشيئة لم يبق في الآية دلالة على ما تزعمونه، والله أعلم.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة. انظر: جامع الأصول جـ 10 حديث 8109.(40/260)
الشبهة الخامسة:
قوله تعالى: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (1) . وجه الاستدلال: قالوا: هذه الآية صريحة في أن ماهية العذاب مختصة بمن كذب بالله تعالى وكان موليا عن دينه. ومن لم يكن مكذبا بالله تعالى ولا متوليا عن دينه لم يكن للعذاب به تعلق (2) . ومرتكب الكبيرة ليس مكذبا ولا متوليا عن دين الله؛ إذا ليس للعذاب به تعلق.
الجواب: نقول: الآية تؤكد بأن الكافر المكذب المتولي هو المخصص بالعذاب الأبدي، وهذا لا يمنع من حصول بعض العذاب لمن ارتكب كبيرة أو ذنبا (3) ، ثم إن عذاب الله لمرتكب الكبيرة إنما هو تطهير ولبعض مرتكبي الكبائر حسب إرادة الله ومشيئته.
وعليه فكلمة العذاب بمعناها الحقيقي لا تشمل ما يحصل لبعض مرتكبي الكبائر من تطهير، وإذا لم تشمله لم يبق في هذه الآية دلالة على عدم دخول مرتكبي الكبائر في النار، والله أعلم.
__________
(1) سورة طه الآية 48
(2) الأربعين للرازي صـ 208.
(3) انظر: فتح القدير جـ 3 صـ 368 - والتفسير الكبير جـ 22 صـ 62. وتفسير القرطبي جـ 11 صـ 204.(40/260)
الشبهة السادسة:
استدلوا بعموم النصوص التي فيها الوعد لمن ارتكب الكبيرة بأن لا يخلد في النار، كقوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (1) .
وجه الاستدلال: أن لفظ الكفور للمبالغة، فوجب أن يختص هذا الحكم بالكافر الأصلي (2) ، وكقوله تعالى: {إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ} (3) .
وجه الاستدلال: قالوا: إن هذه الآية دلت على اختصاص الخزي بالكافرين، ثم إن كل من دخل النار فقد حصل له الخزي لقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} (4) فلما لم يحصل الخزي إلا للكفار وجب ألا يحصل دخول النار إلا لهم (5) . وغيرهما من نصوص الوعيد.
الجواب: يقال لهم: أولا: هذه الآيات إنما تدل على أن الكافر هو المخصص بالعذاب الأبدي.
يقول القرطبي: إن الكافر يجازى بكل سوء عمله، أما المؤمن فإنه يجزى ولا يجازى؛ لأنه يثاب. فقوله: {وَهَلْ نُجَازِي} (6) أي نكافئ السيئة بمثلها. وقال طاوس: هو المناقشة في الحساب أما الموحد فلا يناقش الحساب (7) .
وعن قتادة عن أنس: في قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} (8) الآية
__________
(1) سورة سبأ الآية 17
(2) الأربعين للرازي صـ 209.
(3) سورة النحل الآية 27
(4) سورة آل عمران الآية 192
(5) الأربعين للرازي صـ 209.
(6) سورة سبأ الآية 17
(7) تفسير القرطبي جـ 14 صـ 289.
(8) سورة آل عمران الآية 192(40/261)
قال: من تخلد.
وعن ابن جريح قال: هو من يخلد فيها (1) .
وإذا كانت هذه الآيات إنما تدل على اختصاص الكافر بالعذاب الأبدي فإنها لا تعتبر حجة في انتفاء العذاب عمن ارتكب كبيرة من الكبائر مما دون الشرك.
ثانيا: لو سلمنا بقولكم واستدلالكم بهذه الآيات وأمثالها، فما ترون أن نصنع بالآيات التي استدل بها الوعيدية على عذاب الله للعصاة (نصوص الوعيد) ! .
مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (2) {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (3) . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (4) إلى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} (5) .
ماذا نصنع بهذه الآيات؟ هل نضرب عنها صفحا؟ ، هذا لا يمكن؛ لأنه إيمان ببعض الكتاب وكفر ببعضه، هل نخصصها بأدلتكم؟ ، فإن قالوا: نعم، قلنا: ولماذا لا تخصصون أنتم؟ وذلك بالموازنة؛ ليتم الإيمان بالجميع (6) .
__________
(1) تفسير الطبري جـ 7 صـ 477 - 478.
(2) سورة الأنفال الآية 15
(3) سورة الأنفال الآية 16
(4) سورة النساء الآية 29
(5) سورة النساء الآية 30
(6) انظر: قواعد العقائد صـ 255.(40/262)
الشبهة السابعة:
حديث معاذ قال: «كنت رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هل تدري ما حق الله على العباد؟ ، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. . ثم قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه؟ ، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حق العباد على الله أن لا يعذبهم (1) » ، (2) .
وجه الاستدلال: الحديث يدل على أن الله وعد من عبده ولم يشرك به شيئا بعدم العذاب، ومرتكب الكبيرة قد عبد الله ولم يشرك به شيئا إذا سيشمله الوعد بعدم العذاب.
الجواب: من وجوه منها:
(أ) أن المراد بالعبادة فعل الطاعات واجتناب المعاصي (3) ، والموحد الفاعل للطاعات المجتنب للمعاصي لا يعتبر من أهل الكبائر، وعليه فلا دلالة في الحديث.
(ب) المراد بقوله: أن لا يعذبهم قيل: المراد ترك دخول نار الشرك، وقيل: ترك تعذيب جميع بدن الموحدين، لأن النار لا تحرق مواضع السجود. وقيل: ليس ذلك لكل من وحد وعبد بل يختص بمن أخلص، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناه، ولا يتصور حصول التحقيق مع الإصرار على المعصية؛ لامتلاء القلب بمحبة الله تعالى وخشيته فتنبعث الجوارح إلى الطاعة وتنكف عن المعصية (4) . وعلى ذلك فإنه لا دلالة في الحديث.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 37 برقم 6500.
(2) انظر: حجج القرآن صـ 42 - 43.
(3) انظر: فتح الباري جـ 11 صـ 339.
(4) انظر فتح الباري جـ 11 صـ 340.(40/263)
(ج) على التسليم بما تزعمونه، فإن تطهير أهل الكبائر من خطاياهم لا يعتبر عذابا على حقيقته، ولذا فإنه لا منافاة بين تطهيرهم من الخطايا وبين قوله: أن لا يعذبهم، وبذلك يتضح خطأ استدلالكم بالحديث على عدم دخول أهل الكبائر النار، والله أعلم.(40/264)
الشبهة الثامنة:
ما روي عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: «أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ ، قال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار (1) » ، (2) .
وجه الاستدلال: في الحديث وعد لمن مات لا يشرك بالله شيئا بدخول الجنة، ومرتكب الكبيرة لا يشرك بالله شيئا، فلو مات على ذلك فإن الوعد سيشمله بدخول الجنة.
الجواب: يقال لهم: المراد بقوله: دخل الجنة أن مصيره الجنة، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة، فإن عفي عنه دخل الجنة أولا، وإلا عذب ثم أخرج من النار وأدخل الجنة (3) . والله أعلم.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، انظر: مسلم (بشرح النووي) جـ 2 صـ 93.
(2) انظر: حجج القرآن صـ 43.
(3) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي جـ 1 صـ 219، جـ 2 صـ 97.(40/264)
الشبهة التاسعة:
ما روي عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوب أبيض، وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فقال: ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم(40/264)
مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ ، قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ ، قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ ، قال: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر (2) » .
وجه الاستدلال: في الحديث وعد لمن قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك بدخول الجنة. وإن ارتكب بعض الكبائر كالزنا والسرقة. إذا مرتكب الكبيرة الذي قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك يشمله هذا الوعد بدخول الجنة.
الجواب - قال الإمام البخاري - بعد روايته هذا الحديث: هذا عند الموت أو قبله إذا تاب وندم وقال لا إله إلا الله غفر له (3) .
وقيل: إن الحديث محمول على من وحد ربه ومات على ذلك تائبا من الذنوب التي أشير إليها في الحديث، فإنه موعود بهذا الحديث بدخول الجنة ابتداء. . وأما من تلبس بالذنوب المذكورة أو غيرها مما دون الشرك ومات من غير توبة فهو تحت المشيئة، إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه على قدر ذنبه ثم أخرجه من النار وأدخله الجنة. ويدل على ذلك حديث عبادة بن الصامت في كتاب الإيمان، فإن فيه: «ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله تعالى، إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه (4) »
__________
(1) رواه البخاري في كتاب اللباس، باب الثياب البيض حديث 5827، البخاري (بشرح ابن حجر) جـ 10 صـ 283، ومسلم في كتاب الإيمان باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة جـ 2 صـ 94.
(2) انظر: حجج القرآن صـ 43، والفصل جـ 4 صـ 47. (1)
(3) انظر: البخاري (بشرح ابن حجر) جـ 10 صـ 283.
(4) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 11 البخاري مع الفتح جـ 1 صـ 64، ومسلم انظر: صحيح مسلم (بشرح النووي) جـ 11 صـ 222 - 223.(40/265)
إذا المراد بالحديث: من قال لا إله إلا الله تائبا نادما على ما حصل منه من الذنوب ثم مات على ذلك فإنه يدخل الجنة؛ لأن التوبة تجب ما قبلها. أو المراد: أن مصيره الجنة ابتداء إن قالها تائبا ومات على ذلك أو النار ثم الجنة؛ إذ أنه لا يخلد في النار (1) . وبذلك يتضح خطأ استدلالهم بالحديث، والله أعلم.
__________
(1) انظر: فتح الباري جـ 10 صـ 283. وشرح مسلم (للنووي) جـ 1 صـ 219، حـ 2 صـ 97.(40/266)
(ج) : في ذكر بعض اللوازم التي تؤكد بطلان هذه البدعة (بدعة المرجئة في مرتكب الكبيرة) .
بعد عرض أمثلة من شبهاتهم والجواب عنها، نشير إلى بعض اللوازم التي تؤكد بطلان هذه البدعة، فنقول وبالله التوفيق.
إن قول المرجئة: مرتكب الكبيرة لا يدخل النار - قول باطل لما تظافر من الأدلة التي تؤكد بطلانه ولما يستلزمه من اللوازم الباطلة والتي منها:
أولا: إنكار عدل الله؛ لأنهم جعلوا الظالمين والمجرمين المنتهكين للحرمات سواء مع البررة الأتقياء الذين التزموا شرع الله وأقروا عدله في الأرض. فخالفوا بذلك النصوص الصريحة من كتاب الله، والتي تؤكد بأن الله تعالى لم يجعل الفساق كالمؤمنين. حيث يقول سبحانه:
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (1) ، ويقول سبحانه: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (2) .
__________
(1) سورة الجاثية الآية 21
(2) سورة ص الآية 28(40/266)
بل إن الله لم يسو بين الطائفتين من المؤمنين حيث فضل بعضهم على بعض بحسب الإيمان والعمل الذي قدموه، حيث يقول سبحانه: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (1) الآية.
ويقول - سبحانه -: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (2) الآية.
فإذا كان سبحانه لم يسو بين المؤمنين بل فضل بعضهم على بعض بحسب العمل الذي قدموه فكيف يسوي بين المؤمنين والفساق (3) .
وقد ناقشهم الملطي - رحمه الله - وألزمهم الحجة حيث قال:
أخبرونا عن قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (4) الآية، وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (5) . أهذا شيء قاله على حقيقة القول أم على المجاز؟ فإن قالوا: على المجاز، جعلوا إخبار الله عن وعده على المجاز وهذا كفر ممن قاله؛ لأن أحدا لا يتيقن حينئذ بخبره إذا لم يكن له حقيقة وصحة، وإن قالوا على الحقيقة، قيل لهم: أخبر الله عز وجل أنه
__________
(1) سورة الحديد الآية 10
(2) سورة النساء الآية 95
(3) انظر: الشريعة للآجري صـ 147.
(4) سورة الجاثية الآية 21
(5) سورة العنكبوت الآية 4(40/267)
لا يستوي عنده الولي والعدو. ويقال لهم: أخبرونا عمن زنى وأتى شيئا من الكبائر، أترون عليه توبة أم لا؟ فإن قالوا: لا، بان جهلهم، وإن قالوا: نعم، قيل لهم: لأي شيء يتوب؟ فإن قالوا: يقبل الله توبته ويغفر ذنبه، تركوا قولهم وجعلوا لأهل المعاصي توبة وغفرانا مما اجترموا، وإن قالوا: لا يحتاجون إلى غفران ولا توبة عليهم: خرجوا من دين الإسلام وخالفوا الجماعة (1) .
ثانيا: كما يلزم من قولهم فتح الباب للمجرمين والفساق للتمادي في فسقهم وضلالهم؛ لأن المجرم أو الفاسق إذا علم بأن جريمته أو فسقه لن يضره فلن يتركه.
ثالثا: كما يلزم أيضا بطلان التكليف بالفروع جملة، وضياع آيات الوعيد هباء، وصيرورتها كذبا وخداعا، تعالى الله عن ذلك (2) . ولا شك أن هذا كله باطل. وإذا كان كذلك فما يستلزمه مثله. وعليه فالقول بأن مرتكب الكبيرة لا يدخل النار مطلقا باطل. والله أعلم.
__________
(1) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع للملطى صـ 45.
(2) انظر: المختار من كنوز السنة لعبد الله دراز صـ 62 - 63.(40/268)
المبحث الثالث: الذين توسطوا في حكم مرتكب الكبيرة (وهم أهل السنة والجماعة)
تمهيد: بعد أن ذكرنا رأي الخوارج الذي هو في غاية الإفراط، والمرجئة الغلاة الذي هو في غاية التفريط. نذكر الرأي الوسط، وهو رأي أهل السنة والجماعة. وقبل بيان رأيهم نشير إلى المراد بكلمة وسط، والمراد بأهل السنة والجماعة، فنقول وبالله التوفيق.
(أ) : في المراد بكلمة وسط - الوسط: يأتي ويراد به العدل؛ لما روى أبو سعيد «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: قال: عدلا (2) » . كما يأتي، ويراد به الخير، قال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} (3) الآية أي خيرهم (4) .
واللفظتان وإن اختلفتا فالمعنى واحد؛ لأن العدل خير، والخير عدل (5) . والمراد بالوسط هنا: هو العدل بين الإفراط والتفريط. وهو محمود؛ لمجانبته الغلو والتقصير (6) .
(ب) المراد بأهل السنة والجماعة: هم الذين تمسكوا بالإسلام المحض الخالص عن الشوب حيث التزموا طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في الإيمان والعمل، واجتمعوا على الحق، المعنيون بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إن من كان قبلكم
__________
(1) رواه الإمام أحمد جـ 3 صـ 3، 9، 22. والترمذي تفسير سورة 2 وصححه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والإسماعيلي وصححه، والحاكم عن أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انظر: فتح القدير جـ 1 صـ 152.
(2) سورة البقرة الآية 143 (1) {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}
(3) سورة القلم الآية 28
(4) فتح القدير جـ 5 صـ 272.
(5) انظر: لسان العرب مادة وسط جـ 3 صـ 924.
(6) انظر: فتح القدير جـ 1 صـ 150.(40/269)
من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاثة وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، واحدة في الجنة وهي الجماعة (1) » . وفي رواية «قالوا: من هي يا رسول الله ? قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي (2) » .
وسموا بأهل السنة والجماعة؛ لتمسكهم بسنته - صلى الله عليه وسلم - وتقديمها على غيرها من السنن، ولاجتماعهم على الحق، وقيل للزومهم جماعة المسلمين (3) .
بعد هذا التمهيد: نشير إلى أن التناول لرأي أهل السنة - كما يلي:
أولا: حكم مرتكب الكبيرة - عند أهل السنة - في الدنيا.
ثانيا: حكم مرتكب الكبيرة - عند أهل السنة - في الآخرة.
__________
(1) رواه أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان في كتاب السنة باب شرح السنة. وأحمد في سنده برقم 1024 وإسناده صحيح. انظر: جامع الأصول حديث 7489.
(2) رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص في كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، وقال: هذا حديث حسن غريب. انظر: جامع الأصول حديث 7491.
(3) انظر: الفتاوى جـ 3 صـ 157.(40/270)
أولا: حكم مرتكب الكبيرة - عند أهل السنة - في الدنيا:
لبيان رأيهم نشير إلى شيء من أقوالهم:
يقول الإمام أحمد: ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها (1) .
ويقول ابن تيمية: وقد صرح أحمد في غير موضع أن أهل الكبائر معهم إيمان (2) .
ويقول ابن تيمية: ومن أصول أهل السنة أن الدين والإيمان قول
__________
(1) السنة للإمام أحمد صـ 70 - 71.
(2) الفتاوى جـ 7 صـ 257.(40/270)
وعمل. . إلى أن قال: وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر. . ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية. . ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم (1) .
وسئل - ابن تيمية - عن العبد المؤمن هل يكفر بالمعصية أم لا؟ . فأجاب بقوله: لا يكفر بمجرد الذنب؛ فإنه ثبت بالكتاب والسنة وإجماع السلف أن الزاني غير المحصن يجلد ولا يقتل، والشارب يجلد، والقاذف يجلد، والسارق يقطع، ولو كانوا كفارا: لكانوا مرتدين، ووجب قتلهم، وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف (2) .
وقال الإمام الطحاوي: ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله (3) .
وقال ابن أبي العز - في شرحه هذه العبارة -: أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفرا ينقل عن الملة بالكلية كما قالت الخوارج. . . (4)
وقال أبو الحسن الأشعري: وأجمعوا - يعني السلف - على أن المؤمن بالله وسائر ما دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان به لا يخرجه عنه شيء من المعاصي ولا يحبط إيمانه إلا الكفر، وأن العصاة من أهل القبلة مأمورون بسائر الشرائع غير خارجين عن الإيمان بمعاصيهم (5) .
من هذه النصوص يتضح أن أهل السنة يرون أن مرتكب الكبيرة من
__________
(1) الفتاوى جـ 3 صـ 151.
(2) الفتاوى جـ 4 صـ 307.
(3) شرح الطحاوية صـ 355 (المتن) .
(4) شرح الطحاوية صـ 360 - 361.
(5) انظر: رسالة أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري صـ 374.(40/271)
أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان - مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته - وهو المذهب الوسط، فلم يعطوه الاسم المطلق كما قالت المرجئة، ولم يسلبوه مطلق الاسم كما قالت الخوارج.
أدلتهم: وقد أيدوا قولهم بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة.
فمن الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} (1) الآية.
قال الشيخ ابن سعدي: في قوله " أخيه " دليل على أن القاتل لا يكفر، لأن المراد بالأخوة هنا: أخوة الإيمان، فلم يخرج بالقتل منها، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر لا يكفر بها فاعلها، وإنما ينقص بذلك إيمانه (2) .
ومن الكتاب - أيضا - قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (3) .
يقول ابن كثير: يقول تعالى آمرا بالإصلاح بين الفئتين الباغيتين بعضهم على بعض: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (4)
__________
(1) سورة البقرة الآية 178
(2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي صـ 216.
(3) سورة الحجرات الآية 9
(4) سورة الحجرات الآية 9(40/272)
فسماهم مؤمنين مع الاقتتال؛ وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم (1) .
ومن السنة ما يلي:
1 - عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - وحوله عصابة من أصحابه -: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، فبايعناه على ذلك (2) » .
وجه الدلالة: هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم على مرتكبي هذه الكبائر بالكفر. وهذا يتناول جميع الكبائر - عدا الشرك - للأدلة التي جاء فيها أن الله لا يغفر أن يشرك به أبدا.
ويقول النووي: وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن أصاب شيئا من ذلك (3) » إلى آخره. المراد به ما سوى الشرك، وإلا فالمشرك لا يغفر له. . إلى أن قال: وفي هذا الحديث فوائد منها: تحريم هذه المذكورات. ومنها: الدلالة لمذهب أهل الحق أن المعاصي غير الكفر لا يقطع لصاحبها بالنار إذا مات ولم يتب منها بل هو في مشيئة الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، خلافا للخوارج والمعتزلة؛ فإن الخوارج يكفرون بالمعاصي (4) .
__________
(1) تفسير ابن كثير جـ 4 صـ 211.
(2) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 11 البخاري (مع الفتح) جـ 1 صـ 64. ومسلم انظر: صحيح مسلم (مع شرح النووي) جـ 11 صـ 222 - 223.
(3) صحيح البخاري الإيمان (18) ، صحيح مسلم الحدود (1709) ، سنن الترمذي الحدود (1439) ، سنن النسائي البيعة (4161) ، سنن الدارمي السير (2453) .
(4) انظر: شرح صحيح مسلم للإمام النووي جـ 11 صـ 223 - 224.(40/273)
2 - كذلك من السنة ما روى البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «أن رجلا كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به. فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله (1) » ، يقول ابن حجر - في شرحه -: ". . . وفيه الرد على من زعم أن مرتكب الكبيرة كافر، لثبوت النهي عن لعنه، والأمر بالدعاء له، وفيه أنه لا تنافي بين ارتكاب النهي وثبوت محبة الله ورسوله في قلب المرتكب؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأن المذكور يحب الله ورسوله، ويؤخذ منه تأكيد ما تقدم: أن نفي الإيمان عن شارب الخمر لا يراد به زواله بالكلية بل نفي كماله - كما تقدم " (2) وغيرها من الأدلة الكثيرة وإنما اكتفيت بما ذكرت إيثارا للإيجاز.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه. انظر: صحيح البخاري (مع الفتح) جـ 12 صـ 75.
(2) انظر: فتح الباري لابن حجر جـ 12 صـ 78.(40/274)
ثانيا: حكم مرتكب الكبيرة - عند أهل السنة - في الآخرة:
بعد أن بينا رأى أهل السنة في مرتكب الكبيرة في الدنيا نشير إلى رأيهم فيه في الآخرة - والمراد بيان حكمهم في مرتكب الكبيرة الذي مات من غير توبة؛ إذ من المعلوم أن التوبة تجب ما قبلها، وأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له. ولمعرفة رأيهم نذكر شيئا من أقوالهم في ذلك.
يقول الإمام أحمد - رحمه الله -: والشفاعة يوم القيامة حق، يشفع قوم في قوم فلا يصيرون إلى النار، ويخرج قوم من النار بشفاعة الشافعين، ويخرج قوم من النار بعدما دخلوها ولبثوا فيها ما شاء الله ثم يخرجهم من(40/274)
النار، وقوم يخلدون فيها أبدا، وهم أهل الشرك والتكذيب والجحود والكفر بالله عز وجل (1) .
ويقول ابن تيمية: وهم - أي أهل السنة - في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء. . ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية، فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ادخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته (2) .
ويقول الإمام الطحاوي: وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) . وإن شاء عذبهم في النار بعدله ثم يخرجهم منها برحمته، وبشفاعة الشافعين من أهل طاعته ثم يبعثهم إلى جنته (4) .
ومن هذه النصوص يتضح: أن أهل السنة وسط في حكم مرتكب الكبيرة الذي مات من غير توبة: فلم يقولوا: بعدم دخوله النار كما قالت
__________
(1) السنة للإمام أحمد صـ 72 -73.
(2) الفتاوى جـ 3 صـ 374.
(3) سورة النساء الآية 48
(4) الطحاوية (مع الشرح) صـ 416 - 417.(40/275)
المرجئة. ولم يقولوا بتخليده فيها - كما قالت الخوارج - وإنما قالوا: هو تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه ثم أخرجه من النار وأدخله الجنة، فلا يخلد في النار.
أدلتهم: وقد أيدوا قولهم بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وإيثارا للإيجاز نذكر شيئا منها.(40/276)
(أ) أدلتهم من الكتاب:
1 - قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) . يقول ابن جرير: ". . . وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله " (2) . وقال ابن الجوزي: والمراد من الآية أن لا يغفر لمشرك مات على شركه، وفي قوله: {لِمَنْ يَشَاءُ} (3) نعمة عظيمة من وجهين، أحدهما: أنها تقتضي أن كل ميت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب وإن مات مصرا. الثاني: أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين وهو أن يكونوا على خوف وطمع (4) .
2 - ومن الكتاب أيضا: قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) .
يقول ابن كثير - في تفسير هذه الآية -: لما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة رغبة عنها. . شرع في بيان حال المذنبين الذين تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا إلى الراحة مع إيمانهم وتصديقهم
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) تفسير الطبري جـ 5 صـ 80.
(3) سورة النساء الآية 48
(4) تفسير ابن الجوزي جـ 2 صـ 103 - 104.
(5) سورة التوبة الآية 102(40/276)
بالحق. فقال: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} (1) أي أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم ولهم أعمال أخرى صالحة خلطوا هذه بتلك، فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه (2) .
وقال ابن سعدي: ". . فهذه الآية دالة على أن المخلط المعترف النادم الذي لم يتب نصوحا أنه تحت الخوف والرجاء وهو إلى السلامة أقرب " (3) .
وقال أبو بكر الجزائري: إن من هداية هذه الآية: (الرجاء لأهل التوحيد الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا بأن يغفر الله لهم ويرحمهم) (4) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 102
(2) تفسير ابن كثير جـ 3 صـ 144 - 145.
(3) تفسير ابن سعدي جـ 3 صـ 138.
(4) تفسير الجزائري جـ 3 صـ 234.(40/277)
(ب) : أدلتهم من السنة: وهي كثيرة منها:
1 - حديث عبادة بن الصامت السابق ذكره آنفا. فإن فيه: «ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه (1) » .
يقول النووي: وفي هذا الحديث فوائد منها: ". . . الدلالة لمذهب أهل الحق أن المعاصي غير الكفر لا يقطع لصاحبها بالنار إذا مات ولم يتب منها بل هو في مشيئة الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه. . " (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (18) ، صحيح مسلم الحدود (1709) ، سنن الترمذي الحدود (1439) ، سنن النسائي البيعة (4162) ، سنن الدارمي السير (2453) .
(2) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي جـ 11 صـ 223 - 224.(40/277)
2 - حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أتاني آت من ربي فأخبرني أو قال: بشرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. فقلت: وإن زنى وإن سرق ? قال: وإن زنى وإن سرق (1) » الحديث.
يقول النووي: وأما حكمه - صلى الله عليه وسلم - على من مات مشركا بدخول النار، ومن مات غير مشرك بدخوله الجنة: فقد أجمع عليه المسلمون، فأما دخول المشرك النار فهو على عمومه. . وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة، فإن عفي عنه دخل أولا، وإلا عذب ثم أخرج من النار وخلد في الجنة، والله أعلم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: وإن زنى وإن سرق فهو حجة لمذهب أهل السنة أن أصحاب الكبائر لا يقطع لهم بالنار، وأنهم إن دخلوها أخرجوا منها وختم لهم بالخلود في الجنة (2) .
3 - ما رواه عبادة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل (3) » .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 13 البخاري (مع الفتح) جـ 11 صـ 260 - 261. ومسلم في باب الدليل على أن من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. مسلم (مع شرح النووي) جـ 2 صـ 93 - 94.
(2) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم جـ 2 صـ 97.
(3) رواه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء باب 47 حديث 3435 - ومسلم في كتاب الإيمان على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، مسلم مع شرح النووي جـ 1 صـ 226 - 227.(40/278)
قال النووي: قوله: أدخله الله الجنة على ما كان من العمل هذا محمول على إدخاله الجنة في الجملة، فإن كانت له معاص من الكبائر فهو في المشيئة، فإن عذب ختم له بالجنة (1) .
4 - كذلك من أدلتهم تحقق الشفاعة الثابتة بالقرآن والسنة التي تدل على أن مرتكبي الكبائر لا يخلدون في النار إن دخلوها.
قال تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} (2) ، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (3) فهاتان الآيتان وأمثالهما: فيها إثبات للشفاعة بالشروط التي أشارت إليها الآيتان. وهي: الإذن من الله للشافع ورضا الله عن المشفوع له، والإذن من الله للشافع يعطيه الصلاحية للشفاعة، ورضاه سبحانه عن المشفوع له يقتضي أن يكون مسلما موحدا. وصاحب الكبيرة مسلم موحد (4) ، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «لكل نبي دعوة مستجابة، فتجعل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة - إن شاء الله - من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا (5) » .
يقول النووي: وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فهي نائلة - إن شاء الله تعالى - من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا (6) » ففيه دلالة لمذهب أهل الحق أن
__________
(1) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم جـ 1 صـ 217.
(2) سورة يونس الآية 3
(3) سورة طه الآية 109
(4) انظر: براءة أهل السنة من تكفير عصاة الأمة صـ 26.
(5) رواه مسلم في كتاب الإيمان باب 86 مسلم (مع شرح النووي) جـ 3 صـ 74. وأحمد في مسنده جـ 2 صـ 426.
(6) صحيح البخاري الجنائز (1237) ، سنن الترمذي الإيمان (2644) ، مسند أحمد بن حنبل (5/159) .(40/279)
كل من مات غير مشرك بالله تعالى لم يخلد في النار وإن كان مصرا على الكبائر (1) .
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان (2) » الحديث.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي (3) » .
فهذه الأحاديث وأمثالها تدل على ثبوت الشفاعة لأهل الكبائر، وأنه يخرج بها من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، ومرتكب الكبيرة معه إيمان فهي نائلته - إن شاء الله - وإذا كان كذلك فإنه لا يخلد في النار.
وعليه فإن مرتكب الكبيرة يدخل النار إذا لم يشأ الله المغفرة له خلافا للمرجئة لكنه لا يخلد فيها خلافا للخوارج.
وبذلك تتضح وسطية أهل السنة في هذه المسألة، والله أعلم.
هذا ما تيسر كتابته حول وسطية أهل السنة والجماعة في حكم مرتكب الكبيرة فأسأله تعالى أن يتقبل صوابه، ويتجاوز عن خطئه، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) انظر: شرح النووي لصحيح مسلم جـ 3 صـ 75.
(2) رواه البخاري في الإيمان باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال حديث 22. البخاري (مع الفتح) جـ 1 صـ 72.
(3) رواه أبو داود في سننه برقم 4739 في كتاب السنة، باب في الشفاعة جـ 5 صـ 106 والترمذي في سننه برقم 4737 في صفة القيامة باب ما جاء في الشفاعة، وانظر: جامع الأصول حديث رقم 8012.(40/280)
حول الترجمة الفارسية
لمعاني القرآن الكريم
إعداد الدكتور \ أحمد السيد الحسيسي (1)
عربية القرآن الكريم:
اختار الله سبحانه وتعالى بحكمته وعلمه اللغة العربية لغة وبيانا لكتابه الخالد، لأن هذه اللغة فيها من مزايا التعبير والبيان ما لم تحظ به لغة غيرها، ولن يسع كتاب الله غيرها، ولو كان في الوجود لغة تفضل اللغة العربية في الكشف عن دقائق البيان وأسرار التعبير، ما جاوزها القرآن إلى غيرها، ولكن نزوله باللغة العربية دليل قاطع على نفي هذا الاحتمال. فاللغة العربية أسمى اللغات على الإطلاق، والدليل أن عالم الغيب والشهادة ارتضاها أداة لوحيه المنزل على أكرم رسله محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -.
وعربية اللغة والبيان القرآني جاء النص عليها في مواضع متعددة من القرآن، منها قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (2) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) ، وقوله: {حم} (4) {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} (5) {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (6) ، وفي قوله: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (7) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} (8) {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} (9) {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} (10) ، وقوله: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (11)
__________
(1) الأستاذ المشارك بكلية الآداب جامعة عين شمس، والمعار لكلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية.
(2) سورة يوسف الآية 1
(3) سورة يوسف الآية 2
(4) سورة الزخرف الآية 1
(5) سورة الزخرف الآية 2
(6) سورة الزخرف الآية 3
(7) سورة الشعراء الآية 192
(8) سورة الشعراء الآية 193
(9) سورة الشعراء الآية 194
(10) سورة الشعراء الآية 195
(11) سورة فصلت الآية 3(40/281)
وقوله: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (1) ، وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} (2) ، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (3) ، وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (4) ، وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (5) .
ونعرف أن لكل لغة سمات خاصة في بنائها التعبيري الذي تتميز به عن غيرها من اللغات، شاء ذلك أهلها أو لم يشاءوا، فهم ينطلقون في البناء التعبيري خاضعين لمؤثرات البيئة بشتى ألوانها، من بيئة طبيعية إلى اجتماعية واقتصادية وسياسية وغير ذلك.
والمعروف أن اللغة لها خصائصها الفريدة وسماتها المميزة عن غيرها من اللغات، والتعبير العربي يحمل في طياته من الدقة والبراعة بحيث يختلف المعنى إذا قدمت أو أخرت كلمة عن أخرى، كما أنها تختلف عن غيرها من اللغات في تكوين الجملة نفسها كتقديم الفعل على الفاعل، والموصوف على الصفة، وغير ذلك مما يعرفه كل ملم باللغة العربية وغيرها من اللغات الأجنبية.
__________
(1) سورة الزمر الآية 28
(2) سورة الأحقاف الآية 12
(3) سورة طه الآية 113
(4) سورة النحل الآية 103
(5) سورة الشورى الآية 7(40/282)
وترجمة القرآن إلى لغة أخرى تذهب بإعجازه ويصبح شأنه شأن أي كتاب عادي مهما حوى من أحكام وفضائل وشرائع، فهو في النهاية يمكن مجاراته.
وقد تحدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - العرب قاطبة - وهم أهل البلاغة والبيان - أن يأتوا بسورة من مثله، وليس من الضروري أن يأتوا بمعاني القرآن نفسها وإنما في مثل القرآن، لأن التحدي لم يكن فيما يحويه القرآن من أحكام وشرائع، ولكن لما يحويه من نظم بديع وتركيب بليغ، فإن أتوا بمثل نظمه من غير أن يكون صدقا فقد أفلحوا وأظهروا حجتهم.
والترجمة تذهب بهذا النظم البديع، وتفسد ذلك التركيب البليغ الذي تتميز به لغة القرآن، ولنضرب لذلك مثلا:
قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} (1) نجد الترجمة الفارسية نقلته بلفظه فتقول: " بس ما بركوش تاجند سالي برده بيهوشي زديم " أي فضربنا على آذانهم ستار الغفلة عدة سنوات، وهذا غير مفهوم للمنقول إليه، إذ لا يفهم المقصود من الآية.
فالتصوير الذي نراه في الآية ويتمثل في الضرب على الآذان لا تستطيع الترجمة الحرفية أن تؤديه أو تفي به إلا بعد أن تفسد الصورة، وتشوه ملامحها.
ومثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} (2) فالمعنى الحرفي لقوله {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} (3) سقطوا سامعين
__________
(1) سورة الكهف الآية 11
(2) سورة الفرقان الآية 73
(3) سورة الفرقان الآية 73(40/283)
مبصرين لما أمروا به ونهوا عنه. ولكننا نجد الترجمة الفارسية عولت على ترجمة المعنى لكي تؤدي المعنى فتقول: " وآنان هستند كه هركاه متذكر آيات خداى خود شوند كر وكورانه در آن آيات ننكرند تابر مقام معرفت وايمانشان بيفزايد ".
نجد أن المترجم فسر المعنى وأضاف ألفاظا من عنده لكي يتضح المعنى، وهذه تعتبر ترجمة للمعنى وليست للفظ.
وهكذا لا يتكشف وجه الإعجاز الذي يقوم على الألفاظ ملائمة بعضها بعضا.(40/284)
بين اللغتين العربية والفارسية:
أما بالنسبة للغتين العربية والفارسية فإن بينهما صلات قديمة جدا ترجع إلى وقت دخول الإسلام إيران بعد أن أقبل كثير من الفرس على اعتناق الإسلام أحرارا مختارين، في غير ما إجبار أو اضطرار، لأن المظالم التي اصطلوا بنارها قبل الإسلام حببت إليهم أن يقبلوا على اعتناقه، فكفل لهم العرب حريتهم الدينية، وعاملوا أتباع الزرادشتية معاملة أهل الكتاب، فقبلوا منهم أن يبقوا على دينهم ويدفعوا الجزية.
وقد تسابق كثير من أهل فارس إلى تعلم اللغة العربية، لغة الدين الذي آمن به كثير منهم، ولغة الفاتحين الذين يتصلون بهم، وسرعان ما أجادها بعضهم، وكانوا قدوة لمن بعدهم، حتى صار كثير من مشهوري الشعراء والكتاب والعلماء باللغة والدين من أبناء فارس. وكان من أثر القرآن على اللغة الفارسية أن فقدت اللغة الفارسية شخصيتها القديمة، وظهرت الفارسية الجديدة، وقد تشكل نصف معجمها كما شكلت أساليبها وأوزانها من العربية، حتى صارت لسانا آخر غير اللغة السابقة على الإسلام وهي(40/284)
اللغة البهلوية. وكذلك الأمر في اللغة التركية ولغة الأكراد وسائر لغات آسيا وأفريقيا، فقد فقدت كل لغة من هذه اللغات أكثر خصائصها الجاهلية ودخلت في عربية القرآن، بحيث إنه لو أن أحدا أراد - مثلا - أن يكتب شيئا بالفارسية بحيث تكون كتابة خلوا من الألفاظ العربية لتعسر عليه الأمر.
ولسنا هنا بصدد الحديث عن الصلات القوية بين اللغتين العربية والفارسية، بل المقصود هو أن نبين أن هاتين اللغتين برغم تداخلهما القوي، فإن اللغة العربية تتميز عن الفارسية وغيرها من اللغات في بنائها التعبيري، ومن أبرز ما تتميز به اللغة العربية في تعبيرها عن اللغة الفارسية:
أولا: أن الجملة في اللغة الفارسية تختلف في تركيبها عن الجملة في اللغة العربية، فعلى الرغم من أن الجملة تنقسم إلى قسمين: اسمية وفعلية كما في العربية، فإن الجملة الاسمية في اللغة الفارسية تزيد في تكوينها عن العربية جزءا ثالثا وهو الرابطة التي تربط الجزءين الرئيسيين وهما المبتدأ والخبر، وتختلف هذه الرابطة باختلاف المبتدأ أو المسند إليه، وكذلك الحال بالنسبة للجملة الفعلية فهي تختلف مع العربية في ترتيب أجزائها، ففي العربية تبدأ الجملة الفعلية بالفعل في حين تنتهي الجملة الفعلية في الفارسية بالفعل، وهذا الاختلاف يجعل الترجمة تغييرا في المعنى، فلكل كلمة استخدامها في وضعها بالجملة إن كانت الكلمة مقدمة أو مؤخرة، فلكل كلمة مقامها الذي يتطلب استعمالها.
وعلى هذا النمط العربي نجد البيان القرآني في بنائه التعبيري يقدم الفعل إذا كان الحديث عن الفعل هو المهم أو المقصود بالحديث، وذلك نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (1) . إذ المقصود الحديث
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 12(40/285)
عن خلق الإنسان وما ينطوي عليه من إعجاز، وليس المقصود الحديث عن الخالق.
وعلى هذا المسار التركيبي سار البناء في الآيات بعد ذلك فقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} (1) {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (2) .
في حين نرى الترجمة الفارسية - كما قلنا - تنتهي بالفعل الذي هو المقصود من الحديث والذي هو في الأصل بداية الجملة فنرى الترجمة تقول: " وهمانا آدمي را ازكل خالص آفريديم (12) بس آنكاه نطفه كردانيد، ودرجاي استوار (صلب رحم) قرار داديم (13) آنكاه نطفه را علقه وعلقه را كوشت باره وباز آن كوشت را استخوان وسبس براستخوانها كوشت بوشانيديم بس از آن خلقتي ديكر انشا نموديم آفرين برقدرت كامل بهترين آفريننده (14) .
نجد الأفعال آفريديم، قرار داديم، بوشانيديم، انشانموديم. قد وضعت في نهاية الجمل.
ثانيا: أن الصيغ التي تدل على الفاعل في اللغة الفارسية إما أن تبنى على فاعل معلوم أو فاعل مجهول، وهي المعروفة بصيغة المبني للمعلوم والمبني للمجهول، أما في اللغة العربية فلا تقتصر في الحديث عن الفاعل على هاتين الصيغتين ولكنها تضيف صيغة ثالثة تلك هي صيغة الفعل المطاوع، فقولنا: (انسكب الماء) يختلف في دلالته عن قولنا: (سكب الطفل الماء) وعن قولنا: (سكب الماء) وذلك لأن التعبير الأول يقدم معنى لا تدل عليه دلالته
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 13
(2) سورة المؤمنون الآية 14(40/286)
الدقيقة صيغة من الصيغتين الأخيرتين، فقولنا: (سكب الطفل الماء) يقال لمن يهمه أن يعرف من الذي سكب الماء، وقولنا: (سكب الماء) يقال كذلك لمن يقصد التعرف على الفاعل، لكنا نخبر عن ذلك الطريق إما بجهلنا بمن وقع منه الفعل، أو بعدم إرادتنا ذكره. أما حين نقول: (انسكب الماء) فإننا نوجه الحديث لمن يتوقع انسكاب الماء وينتظره، ولا يهمه أن يعرف ساكبه ولا عدم معرفته، ولا شك في أن الفارق كبير بين هذا وذاك، وهذا الفارق الكبير يعين اللغة على الدقة في استيفاء وجوه الدلالة، حتى يتمكن بها من ملاحظة مقتضى الحال.
حقيقة توجد في اللغة الفارسية بضعة أفعال تسمى الأفعال ذوات الوجهين، أي التي تكون لازمة أو متعدية حسب سياق الجملة دون أن يتغير تركيبها مثل فعل: شكستن، يختن، سوختن، كشودن، افروختن.
وهذه الأفعال قريبة في استخدامها من صيغة الفعل المطاوع في العربية، ولكنها قليلة من ناحية ولا تؤدي الغرض من الفعل المطاوع من ناحية أخرى وسنرى ذلك في بيان الترجمة الفارسية لمعاني القرآن الكريم في النموذج التالي.
وهذه إحدى مميزات اللغة العربية في بنائها عن غيرها من اللغات. وإذا نحن تأملنا آيات القرآن الكريم من هذا المنطلق وجدناه قد جمع بين هذه الصيغ الثلاث في بنائه التعبيري، ولأن الذي يعنينا - هنا - هو أن نقف على استيعاب البيان القرآني لكل ما يميز اللغة العربية عن غيرها من اللغات في البناء التركيبي، لا أرى ما يدعونا لأن نطيل بذكر نماذج قرآنية لصيغة المبني للمعلوم والمبني للمجهول، فهذا واضح لا يحتاج برهانا، إنما الذي يحتاج البيان هو الصيغة الثالثة (صيغة الفعل المطاوع) ، وهذه الصيغة في القرآن لا تقصد لذاتها، وإنما شأنها شأن كل الصيغ تأتي حين يتطلبها الموقف مؤدية(40/287)
المطلوب، محققة المقصود. من ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ} (1) ونرى الترجمة الفارسية تقول: " جه آنكه باره ازسنكها ست كه نهرهاى آب ازآن ميجوشد وبرخى ديكر سنكها بشكامذ وهم آب ازآن بيرون آيد ".
فنجد الترجمة قد أتت بالفعلين في المبني للمعلوم وكأن الحجارة هي الفاعل، في حين أن الفعلين (يتفجر ويشقق) مضارعان، ماضيهما تفجر وتشقق وهما مطاوعان لفجر وشقق، فالحجارة لا يتأتى منها الفعل، ولكنها خاضعة تستجيب للقوة العليا حين تفجرها وتشققها بتجميع أسباب التفجير والتشقيق عليها.
فالآية الكريمة بذلك تلفت نظر المتأمل إلى ما وراء تلك الظواهر الطبيعية من قدرة الله ومشيئته دون أن يتصادم الظاهر مع الواقع الحق.
ومن ذلك أيضا قوله سبحانه وتعالى: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} (2) .
نجد الترجمة الفارسية تقول: ". . ودرباغ أو بادى آتش بار افتدهمه را بسوزاند " فجعلت الفعل متعديا، أي المعنى يكون فأصابها إعصار فيه نار فأحرقتها، وهذا لا يحقق المقصود بيانه من إتيان النار عليها لأن الإحراق يفيد حرق الكل كما يفيد إحراق الجزء، فلما جاءت الآية على هذا أفادت أن الإحراق من النار وليس ذاتيا، وأن إحراق النار إياها شامل وليس إحراقا جزئيا.
__________
(1) سورة البقرة الآية 74
(2) سورة البقرة الآية 266(40/288)
ومنها أيضا قوله: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (1) وانفجر مطاوع فجر.
ونرى الترجمة تقول: " بس دوازه جشمه آب از آن سنك بيرون آمد " فالفعل هنا مبني للمعلوم وكأن عيون الماء هي الفاعل، بالإضافة إلى ركاكة المعنى إذ أن ترجمة الفعل هي (خرجت) بدلا من (انفجرت) .
والآيات المشتملة على صيغة المطاوعة كثيرة ونجدها مختلفة في الترجمة، فتارة يترجمها المترجم على أنها أفعال مبنية للمعلوم كما رأينا، أو يتصرف في ترجمة تفسيرية لها تكون قريبة من المعنى.
ثالثا: أن اللغة العربية تحرص على أن تستوفي أدوات الصفة وكافة شروطها، وذلك أن الصفات لا بد فيها من المطابقة بينها وبين الموصوفات كل المطابقة، بخلاف الأسماء، فليس ضروريا فيها أن تطابق مسمياتها، إذ الأسماء قد تكون توقيفية لا إرادة للمتكلم في وضعها وإطلاقها على مسمياتها، وقد نطلق اسما على مسمى لأدنى ملابسة دون أن تكون هناك مطابقة بين الاسم ومسماه، وذلك بأن نسمي الشيء باسم أرضه، أو باسم صاحبه، أو باسم حادث وقع عندما تعرفنا عليه، أو باسم كاشفه، إلى غير ذلك من الملابسات. وقد تكون الأسماء منقولة عن لغة أخرى بحروفها أو مع تعديل فيها.
أما الصفات فلا بد من أن تطابق موصوفاتها، ومن ثم حرصت اللغات على أن تكون هناك مطابقة بين الصفة والموصوف، لكنها لم تتمكن من استيفاء جميع أدوات الصفة وشروطها كما تمكنت منها اللغة العربية. فالصفة
__________
(1) سورة البقرة الآية 60(40/289)
في اللغة العربية تابعة للموصوف مطابقة له في الإفراد والتثنية والجمع، وفي التذكير والتأنيث، وفي التعريف والتنكير، وفي مواقع الإعراب، وبتعبير آخر: الصفة العربية تطابق الموصوف في العدد وفي الجنس، وفي التحدد والشيوع، وفي الشكل العارض للفظ، أما في اللغات الأخرى فقد تجد فيها بعض تلك المتابعات لكنك لن تجدها جميعا بقواعدها المطردة إلا في اللغة العربية.
وفي الفارسية تجد عكس ذلك تماما، فلا تطابق يذكر بين الصفة والموصوف، لا في الإفراد والجمع، ولا في التذكير والتأنيث، ولا في التعريف والتنكير.
وهذا فرق جوهري بين اللغتين يظهر واضحا في ترجمة كل آيات القرآن الكريم بحيث يصبح من العبث إيراد نماذج لبيان ذلك الاختلاف.
ومن ثم يتقرر أن البناء التعبيري في البيان القرآني لا يخرج على البناء التعبيري للغة العربية في قليل ولا في كثير، وإنما هو يسير وفق منهج العربية تماما في بنائها.
وبالتالي فإن روح اللغة العربية بمعانيها وأخيلتها هي التي تسري في البيان القرآني في أرقى مدارجها وإمكاناتها، بحيث تتحقق بالقرآن المعجزة البيانية من خلال اللغة العربية التي اصطفاها الله سبحانه لينزل القرآن الكريم بها دون غيرها.(40/290)
إمكان ترجمة القرآن الكريم:
كان القرآن الكريم - وهو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - محلا لاختلاف الترجمات عليه في كثير من اللغات الأوربية وأيضا اللغات الشرقية.(40/290)
ولعلماء المسلمين رأي في ترجمة القرآن إلى غير العربية، فالإجماع منعقد على عدم جواز ترجمة القرآن. أما الجائز فهو ترجمة معاني القرآن أو ترجمة تفسيره، وقبل أن نعرض ما دار بين المسلمين من خلاف حول ترجمة القرآن أود أن أشير إلى أقسام الترجمة إذ تنقسم الترجمة إلى قسمين: ترجمة حرفية، وترجمة تفسيرية.
فالترجمة الحرفية هي التي يراعى فيها محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه، فهي تشبه وضع المرادف مكان مرادفه، وبعض الناس يسمي هذه الترجمة لفظية، وبعضهم يسميها مساوية، ويطلق عليها الإيرانيون " ترجمة تحت اللفظي " أي ترجمة حرفية.
والترجمة التفسيرية هي التي لا تراعى فيها تلك المحاكاة، أي محاكاة الأصل في نظمه وترتيبه، بل المهم فيها حسن تصوير المعاني والأغراض كاملة، ولهذا تسمى أيضا بالترجمة المعنوية، وسميت تفسيرية لأن حسن تصوير المعاني والأغراض فيها جعلها تشبه التفسير، وما هي بتفسير كما سيتبين بعد ذلك.
فالذي يترجم ترجمة حرفية يقصد إلى كل كلمة في الأصل فيفهمها ثم يستبدل بها كلمة تساويها في اللغة الأخرى مع وضعها وإحلالها محلها، وإن أدى ذلك إلى خفاء المعنى المراد من الأصل؛ بسبب اختلاف اللغتين في موقع استعمال الكلام في المعاني المرادة إلفا واستحسانا.
أما الذي يترجم ترجمة تفسيرية، فإنه يعمد إلى المعنى الذي يدل عليه تركيب الأصل فيفهمه ثم يصوغه في قالب يؤديه من اللغة الأخرى، موافقا لمراد الأصل، من غير أن يكلف نفسه عناء الوقوف عند كل لفظة أو استبدال غيرها بها.(40/291)
والأمثلة على الترجمة بنوعيها من آيات القرآن كثيرة، فمثلا نجد أن قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (1) .
قد ترجم في الفارسية إلى: " نه هركز دست خود محكم بسته دار ونه بسيار وكشاده داركه هركدام كنى بنكوهش وحسرت خواهى نشست " أي لا تربط يدك بإحكام ولا تجعلها ممدودة غاية المد، فإن تفعل ذلك ستقعد ملوما محسورا. أما عند الترجمة التفسيرية للآية فإنك تعمد إلى التعمق في فهم الآية، بالنهي عن التقتير والتبذير في أبشع صورة منفرة، ولا عليك من عدم رعاية الأصل في نظمه وترتيبه اللفظي.
أما عن موقف علماء المسلمين والأزهر من مسألة ترجمة القرآن فتتلخص في أنه في عام 1355هـ \ 1936م ثار جدال عنيف حول ترجمة القرآن بين الجواز والمنع وذلك بعد أن عني كثير من المستشرقين والمبشرين بنقل القرآن إلى كثير من اللغات الأجنبية بغرض التشنيع عليه والتشهير به، والدس له، واتخاذه في مدارسهم وكنائسهم مادة للنقد والتجريح، ولما دب النور والعرفان والثقافة والعلم في أنحاء مختلفة من الكرة الأرضية، وأصبح الناس يحاولون أن يتدارسوا الأديان والرسالات بأسلوب من البحث النزيه، والمنطق السديد، وكان فيما يرجون أن تصل دراستهم إليه " القرآن " على اعتبار أنه كتاب خالد شغل البشرية قرونا عديدة، ظهر حينئذ في علماء المسلمين من نادى بضرورة تعريف هذا النفر به، عسى أن يكون ذلك باعثا لهم على الإيمان، حاملا لهم على الهداية، حافزا لهم على أن يكونوا من جنوده المحافظين عليه، الذائدين عنه، وكان من أولئك المسلمين شيخ الجامع الأزهر
__________
(1) سورة الإسراء الآية 29(40/292)
في ذلك الوقت وهو الشيخ محمد مصطفى المراغي، الذي تحمس لترجمته تحمسا منقطع النظير، ونشر بحثا عن ترجمة القرآن الكريم وأحكامها، وقدم لهذا البحث بكلام للإمام الشاطبي في كتاب الموافقات يفيد أن اللغة العربية من حيث هي ألفاظ دالة لها معنيان: أولي، وثانوي، فالأولي كقيام زيد الذي لا يمكن أن تختلف في التعبير عنه لغة من اللغات، والثانوي ما يزيد على ذلك من الاهتمام بالقيام وحده، أو بالقائم، أو إجابة السائل، أو الرد على المنكر، أو غير ذلك من الأسرار البلاغية التي تقتضيك التعريف أو التنكير، والتقديم أو التأخير، وما شاكل ذلك من الأساليب التي توجبها الحال، وتحتمها المناسبة، فالمعاني الأولية لا يمكن أن تفسدها الترجمة، ولا أن يشوهها النقل، ولا أن تطول فيها مسافة الخلف بين اللفظ والمعنى، والمعاني الثانوية هي التي يتفاوت في دقة تصويرها، وروعة التعبير عنها، وجمال أسلوبها، فحول البلغاء أو أساطين الكلام، كما تختلف في نقلها وصوغ الألفاظ المعبرة عنها اللغات، وعلى هذا فالمعاني الأولية في القرآن يمكن ترجمتها إلى أية لغة من اللغات، وأما المعاني الثانوية فلا. .، ونحن نعلم أن المعاني الأولية في أي كلام لا اعتبار لها، ولا ميزة فيها، وأن الاعتبار كله، والميزة البارزة، في الذي يسميه البلغاء بالمعاني الثانوية، وهي مجال الفحولة، ومناط الإعجاز.
وبعد حديث الشيخ في بحثه عن إمكان ترجمة القرآن تعرض لشبه الناس في الترجمة وتولى الرد عليهم، كما تحدث عن جواز الصلاة بالترجمة، وكذلك تحدث عن كتابة التراجم وقراءتها، والمراد من الترجمة وغير ذلك من الموضوعات التي لا داعي لذكرها هنا.(40/293)
وكان من مؤيدي الشيخ المراغي الأستاذ محمد فريد وجدي، الذي كان في ذلك الوقت مديرا لمجلة الأزهر، وقد جمع الأستاذ فريد وجدي آراءه في بحث أكبر من بحث الشيخ المراغي ونشره بعنوان " الأدلة العلمية على جواز ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية " وأخرجه في ملحق العدد الثاني من مجلة الأزهر، وعني فيه بالرد على المعارضين وخاصة فضيلة الشيخ محمد سليمان، وفضيلة الشيخ محمد مصطفى الشاطر، وقد كتب على غلافه: ردود علمية على الذين يذهبون إلى عدم جواز ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبية، تصحيحا للترجمات الموجودة وتدعيما للدعوة الإسلامية، ودحضا لجميع الشبهات التي يثيرها بعض الكتاب على هذا العمل الجليل، وقد انتهى الأمر بعد طول النقاش والحوار إلى أن قررت مشيخة الأزهر وضع تفسير عربي دقيق تمهيدا لترجمته ترجمة دقيقة بواسطة لجنة فنية مختارة، واجتمعت لجنة التفسير بضع مرات برئاسة مفتي مصر في ذلك الوقت ووضعت دستورا تلتزمه في عملها العظيم، ثم بعثت بهذا الدستور إلى كبار العلماء والجماعات الإسلامية في الأقطار الأخرى تستطلع آراءهم في هذا الدستور، رغبة منها في أن يخرج هذا التفسير العربي في صورة ما أجمع عليه الأئمة. ورأت اللجنة بعد ذلك أن تضع قواعد خاصة بالطريقة التي تتبعها في تفسير معاني القرآن الكريم، وقد خرج فعلا إلى حيز الوجود هذا التفسير الذي سمي " المنتخب في تفسير القرآن الكريم " وقد طبعه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة، وكتب في مقدمته ما يفيد أنه تفسير مختصر محرر كتب بالعربية تمهيدا لترجمته إلى اللغات الأجنبية. وهذا العمل له فوائد كثيرة منها:(40/294)
1- وضع تفسير موجز باللغة العربية يسهل الرجوع إليه.
2- وجود نص القرآن بالعربية وتفسيره بالعربية أمام المسلمين الأجانب لتيسير معرفتهم بها، ثم وجود تفسير بلغتهم معتمد من لجنة علمية. وقد كتب الإيرانيون تفسيرا للقرآن طبع في هامش المصحف الشريف، وكذلك فعل الأفغانيون والباكستانيون.
3- تصحيح ما أسموه تراجم للقرآن في اللغات الأوروبية، وبيان الخطأ فيه.(40/295)
نماذج أخرى من الترجمة الفارسية:
ليس الغرض هنا عرض دراسة تفصيلية لترجمة معينة - فالمجال لا يسمح بذلك - ولكن الهدف من عرض هذه النماذج هو بيان القصور الواضح في المعاني المترجمة مما يوضح حاجتنا إلى ترجمة جديدة لمعاني القرآن الكريم تسد النقص وتصحح الأخطاء.
وقد اعتمدت في عرضي لهذه النماذج على نسخة من الترجمة الفارسية للقرآن المطبوعة في طهران عام 1366هـ بخط " حسن بن عبد الكريم هريس "، وترجمة " الحاج شيخ مهدي الهرقمشة اى "، والنص مكتوب في الصفحة اليمنى والترجمة مطبوعة في الصفحة المقابلة، وهي بترتيب القرآن المطبوع في مصر، وقبل كل سورة يذكر اسم السورة ويبين إن كانت مكية أو مدنية وعدد آياتها، وللأسف توجد في النسخة أخطاء نتيجة الترجمة بالرغم من أن المترجم مسلم، فما بالك بمن يترجم القرآن من الأوربيين.
وإذا حاولنا تقييم هذه النسخة نقول بداية إنها ليست ترجمة حرفية، وإنما هي ترجمة للمعنى كما سيتضح من النماذج. كما أن التراجم الفارسية بصفة عامة لا توجد فيها الأخطاء الجسيمة التي نصادفها في التراجم الأوربية التي(40/295)
تعتبر القرآن كتابا ألفه محمد بن عبد الله، ويحرفون فيه، ويعتبرون أن له مصادر يهودية ونصرانية، ويتخبطون في الحديث عن التكرار في القرآن وعن ترتيب آياته، ويرجع ذلك إلى أن المترجم الإيراني شخص مسلم يؤمن بالله ربا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولا وأن القرآن هو كتاب الله أنزله على عباده ليهديهم سواء السبيل.
وأول ملاحظة على هذه الترجمة أن المترجم لم يستطع أن يدلي برأي في فواتح السور، ففي أول سورة البقرة ترجم (الم) " ازرموز قرآنست " أي من رموز القرآن، وفي أول سورة آل عمران ترجم (الم) " از حروف مقطعة اسرار قرآنست وهركس ان اطلاع ندارد " أي أنها حروف من أسرار القرآن ولا يعلم بها كل شخص، وفي أول سورة يونس ترجم (الر) " از اسرار وحي إلهي است " أي من أسرار الوحي الالهي، وفي أول سورة هود ترجم (الر) قائلا: " اسرار ينحروف نزد خدا ورسول است " أي أن أسرار هذه الحروف عند الله والرسول. وفي أول سورة الرعد (المر) لم يترجمها ولم يكتب تفسيرا لها. وفي أول سورة مريم (كهيعص) قال: " اينحروف اسرار يست ميان خدا ورسول " أي أن هذه الحروف أسرار بين الله والرسول - صلى الله عليه وسلم -.
أما عن ترجمة الآيات فسنعرض بعض النماذج لنتبين ما تفعله الترجمة بالأصل من إضاعة للمعنى واختلاف في الترتيب وغير ذلك من أوجه الخلل. ففي سورة البقرة الآية رقم (34) ونصها: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (1) نجد الترجمة تقول: " وجون كفتيم فرشكتان را كه سجده كنيد برآدم همه سجده كردند مكر شيطان كه ابا وتكبر كرد وازفرقه كافران كرديد " أي
__________
(1) سورة البقرة الآية 34(40/296)
عندما قلنا للملائكة اسجدوا على آدم سجدوا جميعا إلا الشيطان الذي أبى وتكبر وأصبح من فرقة الكافرين.
وفي سورة القلم الآية رقم 9 نصها: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (1) ترجمها بقوله: " كافران بسيار وما يليذ كه باآنها مداهنة ومدراكني تاآنها هم بنفاق باتو مدارا كنند ": أي أنه أضاف إليها من المعنى الذي فهمه فقال إن الكافرين يميلون إلى أن تداهنهم وتنافقهم حتى يعاملوك أيضا بالنفاق والمكر. والآية ليس فيها مكر ولا مداهنة ولا خداع، ولكن المعنى المراد هو المرونة في الدعوة بمعنى التنازل عن بعض ما يطالبهم به والتقابل معهم في منتصف الطريق كما يقال.
وفي سورة الماعون الآية رقم 5 ونصها: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (2) ترجمها: ". . . كه دل از ياد خدا غافل دارند " أي الذين يغفل قلبهم عن ذكر الله، فلم يذكر الصلاة في الآية وهي المقصودة، فالتهديد في الآية السابقة: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (3) موجه لمن يسهو عن الصلاة ويتكاسل عنها ولا يؤديها أي تارك الصلاة.
وفي سورة البقرة الآية رقم 7 ونصها: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4) ترجمها بقوله: " قهر خدا بردلها وكوشهاى ايشان مهر نهاده وبر ديده هاشان بوده، افكنده كه فهم حقايق ومعارف الهى رانميكتد وايشان راست عذابي سخت ". وواضح أن الترجمة فيها زيادة على النص، فيقول إن قهر الله قد ألقى على قلوبهم وآذانهم خاتما وألقى حجابا على أبصارهم فهم لا يفهمون الحقائق والمعارف الإلهية ولهم عذاب شديد. وفي سورة البقرة الآية رقم (18) ونصها: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (5)
__________
(1) سورة القلم الآية 9
(2) سورة الماعون الآية 5
(3) سورة الماعون الآية 4
(4) سورة البقرة الآية 7
(5) سورة البقرة الآية 18(40/297)
ترجمها على النحو الآتي: آنان كر وكنك وكورند واز ضلالت خود بر نميكر دند " ونلاحظ الفرق الدقيق بين اللغتين والذي اتضح في الترجمة، فقد ترجم الفاء في (فهم) بالواو وهذا لا يعطي المعنى المراد لأن الفاء تفيد السببية والمعنى المستفاد من الآية أنهم لا يرجعون إلى الصواب ولا شك أن ذلك يخالف النص.
وبعد فهذه بعض نماذج مما وقع لنا في الترجمة الفارسية وهي كافية فيما أعتقد للقول بأنها تحتاج إلى فحص دقيق شامل، فقد رأينا أنه يغير في ترتيب كلمات الآية ويترجم ما يفيد السببية بما يفقده معناها، ويترجم الجمع بالمفرد والماضي بالمضارع، ويغفل بعض أجزاء النص فلا يترجمه ولا يشير إليه، ويضيف أحيانا إلى النص كلمات تفسيرية من عنده لتوضيح المعنى.(40/298)
قيمة النقود وأحكام تغيراتها
في الفقه الإسلامي
كتبه \ محمد علي بن حسين الحريري
المقدمة:
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ما دامت الأرض والسماوات، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
وبعد فإن الله سبحانه قد أرسل نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فأدى - صلى الله عليه وسلم - الأمانة، وبلغ الرسالة، وتركنا على المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك، فشريعة الله حاكمة وفيها ما يعالج أحوال الناس في شتى أقطارهم وأزمانهم، فهي وحدها الصالحة لكل زمان ومكان.
وفي هذه الشريعة جانب كبير لمعالجة قضايا المال الذي هو عصب الحياة، وقد نشطت الدراسات الفقهية التي تعالج الجانب الاقتصادي في السنوات الأخيرة بعد أن أصبحت المشكلة الاقتصادية هي المحور الذي تلتف عليه كل البحوث الفكرية في أيامنا.
ومشكلة النقود وأحكامها وطرق تنظيمها من أهم فروع الدراسات التي يجب التوجه إليها وإزاحة الركام الذي تركته القرون المتطاولة على أعظم ثروة فقهية عرفها الإنسان على هذا الكوكب وهي شريعتنا الإسلامية الغراء المحفوظة بحفظ الخالق جل وعلا.(40/299)
وقضية اختلاف قيم العملات موضوع يظنه المرء جديدا حتى تهيبت في البداية من بحث هذه المسألة الشائكة وكنت أظنها لجدتها قلما يتعرض الفقهاء للخوض فيها، وهالني في المطالعة الأولى غزارة البحث الفقهي وعمقه ودقته في موضوع شديد الحساسية كموضوع النقود. وتبينت في النهاية أنني لم آت بجديد وكل ما في الأمر أنني حاولت جمع أطراف الموضوع في مظانه، فكانت هذه الصفحات المتواضعة التي سعدت خلالها بصحبة العدول من كل جيل، الذين حملوا هذه الشريعة حتى وصلت إلينا بحمد الله غضة ندية، والبحث برمته إنما هو مدخل للوصول إلى حكم الله في هذه المسألة، ويحتاج إلى من هو أشد عضدا في علوم الشريعة لبيان الرأي الأخير في المسألة والله المستعان، وأشرع في المقصود بعون الله ضمن الخطوات التالية كخطوط عامة.
- كيفية طرح النقود في التداول وعلاقة قيمتها بالغطاء الذهبي.
- آراء الفقهاء في الذهب والفضة ونظريتهم في ثبات قيمة النقود.
- معنى قيمة النقود عند الفقهاء والاقتصاديين المحدثين.
- تغيرات قيم النقود في الفقه الإسلامي وهو العمود الفقري للبحث.
- التغيرات الحديثة في قيم النقود ومدى انطباقها على الصور التي تناولها الفقهاء.
- نتيجة البحث والمقترحات الناجمة عنه.
وكنت كلما قطعت مرحلة واسعة لخصت جملة ما تقدم لمساعدة القارئ على إمساك شعب الفكرة، فإلى قضية (قيمة النقود وأحكام تغيراتها في الفقه الإسلامي) .(40/300)
كيف تطرح النقود في التداول؟
تقوم في كل دولة مؤسسة لإصدار النقد أو ما يسمى (البنك المركزي) الذي تخوله الدولة سلطة إصدار النقد لتلبية حاجات المجتمع من المسكوكات المعدنية والورقية، ولو نظرنا ببساطة لفرد من المجتمع أودع حسابه في بنك تجاري فإن هذا الفرد لا يمكنه أن يسحب من البنك إلا مبلغا مساويا أو أقل مما أودعه في البنك. والدولة لا تختلف عن الفرد في تعاملها مع البنك المركزي، حيث تودع حسابها هناك، وما الذي يحدد حسابها وحاجتها للنقد إنه الدخل القومي تماما، كما يحدد دخل الفرد حسابه لدى البنك التجاري.
تقوم الدولة بإيداع حسابها أو دخلها مقدرا بالذهب أو الدولار لدى مؤسسة إصدار النقد التي تقوم بدورها بإصدار النقود بكمية تسد حاجة الدولة، وترتفع كمية النقد بارتفاع نفقات الدولة وتنخفض بانخفاضها.
تحتفظ مؤسسة الإصدار بدخل الدولة ذهبا أو عملة أجنبية، فإذا احتاجت الدولة لكمية من السيولة للتداول فإنها تسحبه بشيك على بنكها المركزي الذي يصدر ذلك الإصدار من المسكوكات ويطرحه من حساب الدولة الدائن فيزيد دخل الدولة من عملتها بينما ينقص رصيدها الذهبي واحتياطها من النقد الأجنبي. ولم يعد ضروريا تغطية الإصدار كله بالذهب لأن الغطاء الذهبي لا يمثل إلا نسبة معينة من النقود، فأمريكا تغطي 40 بالمائة من عملتها بالذهب، بينما تغطي فرنسا 35 % من كمية نقدها ذهبا، وتنفرد المملكة العربية السعودية بأنها تغطي نقدها ذهبا ونقدا أجنبيا بنسبة 600 بالمائة بمعنى أن غطاءها الذهبي يعادل كمية النقد المتداول ست مرات (1) ويمكن تغطية العملة بالإضافة إلى الذهب بأسهم وسندات على الدولة لصالح
__________
(1) موضوعات اقتصادية معاصرة د. طلال الجهني 49.(40/301)
جهة الإصدار مع الأخذ بعين الاعتبار مركز الدولة الاقتصادي ودخلها المستمر في مجالات الإنتاج.
ولا علاقة للغطاء الذهبي بقوة العملة فالمارك الألماني والين الياباني من أقوى عملات العالم وهي غير مغطاة بالذهب ولم يسبب لها ذلك ضعفا، والأهم من الغطاء الذهبي هو تحديد العلاقة بين كمية النقود ومستوى الأسعار في المجتمع. هذه العلاقة هي التي تمنع الدول الفقيرة من زيادة كمية النقود فيها لأن كثرة السيولة أمام قلة الموارد سيرفع الأسعار وتنخفض قوة النقود الشرائية وتصبح ورقا تافها لا يسد جوعة ولا يبل ريق عطشان.
وطرح النقود بهذا الأسلوب لم يختلف منذ تدخلت الدولة لتنظيم الإصدار، فعندما كان الذهب يعتلي عرش النقود كانت دور السكة تخضع لرقابة الدولة بل هي إحدى سلطات الخليفة ووظائفه كما ذكرها ابن خلدون في المقدمة (1) ولكن اهتزاز الذهب بعد الحرب الكونية الأولى وبعد الكساد العالمي (2) - 1299م - جعل أسلوب طرح النقود بالشكل المذكور ينطبق على النقد الورقي أكثر من انطباقه على الذهب والفضة.
وقد حاول صندوق النقد الدولي تنفيذا لاتفاقية (بريتون وودز) (3) إلزام أعضائه تحديد قيمة عملاتهم بالذهب، ولكن التطورات التي شهدها العالم منذ الخمسينات إلى اليوم جعل الذهب تابعا للسياسات النقدية وليس العكس، ولا شك أن التعامل بالذهب والفضة كنقدين بأصل الخلقة أمر اتفق عليه البشر جميعا حتى أن فقهاءنا - رحمهم الله - لا يسبغون روح النقدية إلا على هذين المعدنين، ويميزون النقد الاصطلاحي عنهما في بعض الأحكام ولكنهم
__________
(1) مقدمة ابن خلدون في حديثه عن وظائف السلطان.
(2) النقود والبنوك م. هاشم.
(3) النقود والبنوك، د. إسماعيل محمد هاشم.(40/302)
متفقون على جواز التعامل بغير الذهب والفضة إذا تعارف الناس على ذلك وراجت في الأسواق.(40/303)
أدلة الفقهاء على حصر النقدية بالذهب والفضة:
يمكن الاستدلال من نصوص الشريعة على كون الذهب والفضة نقدين بالخلقة من الأدلة التالية:
أولا: قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} (1) (آل عمران - 14) .
فقد ذكرت الآية الذهب والفضة في سياق ما يحبه الإنسان وخصتهما بوصف القناطير المقنطرة، والقنطار وزن يعرفه العرب واختلف في مقداره على أقوال أصحها أنه (1200) أوقية بدليل سبب نزول قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (2) حيث نزلت في الصحابي الجليل عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - عندما استودعه رجل من قريش تلك الكمية المذكورة من الذهب (3) ومهما كان مقداره فإن وصف الذهب والفضة بالمقادير دليل تخصيصها من بين الأموال المذكورة بالتقدير ولا يكون ذلك إلا للنقود المتداولة بين الناس بدليل قول السدي بأن معنى المقنطرة المضروبة، وأظن أن الدلالة على نقدية الحجرين من منطوق الآية ليس بعيدا والله أعلم.
وتفيد كلمة (للناس) اتفاق البشرية جميعا في مختلف عصورهم على استعمال الذهب والفضة في التداول النقدي وهو واقع لا ينكره إلا جاحد مكابر.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 14
(2) سورة آل عمران الآية 75
(3) فتح القدير للشوكاني 1 \ 323، والخراج والنظم المالية الريس \ 264.(40/303)
ثانيا: قوله جل وعلا:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) [التوبة-34] فقصر حرمة الكنز على الذهب والفضة دون غيرهما من الأموال دليل على تخصيصهما بهذا الحكم لأمرين:
أحدهما: قابليتهما للكنز من بين كل الأموال (2) المعروفة. والثاني أن كل النظريات الاقتصادية أثبتت بالتجربة أن منع النقود من التداول واكتنازها هو تعطيل للوظيفة النقدية، فدلت الآية على أن الذهب والفضة هما أصل الأثمان خلقة فهما الحاكمان في المبايعات ووسيلة قضاء الحاجات وكنزهما حبس للحاكم وعزل له عن وظيفته وتخريب للميزان وإفساد لمصالح الناس.
وعالم اليوم يعرف جيدا المضار المترتبة على الكنز أكثر من أي وقت مضى ففي الآية دلالة واضحة على تخصيص الحجرين بصفة النقدية.
ثالثا: أن تحريم اتخاذ النقدين أواني للطعام مما يدعم مكانتهما في التداول كنقد، وعلة التحريم أكبر من السرف أو المباهاة، إذ العلة هنا كونهما ذهبا وفضة، وللغزالي كلام رائع في تعليل هذا الحكم (3) : فمن اتخذها آنية فقد كفر النعمة، ومثال هذا كمن استسخر حاكم البلد في الحياكة والمكس والأعمال الخسيسة. وهو ظلم كبير وكفران للنعمة واستخدام للحاكم في وظيفة غير وظيفته، ولما كان بعض الناس لا ينكشف لهم الحكم بالعقل جاء الحديث الشريف كاشفا للحكم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم (4) » ومن رحمة الله
__________
(1) سورة التوبة الآية 34
(2) أحكام النقود في الشريعة الإسلامية، محمد سلامة جبر \ 62.
(3) كتاب الشكر في إحياء علوم الدين للغزالي.
(4) رواه مسلم في كتاب اللباس والزينة عن عبد الله بن عبد الرحمن عن خالته أم سلمة، ووردت أحاديث في النهي عن الشرب بإناء الذهب والفضة في كل من: البخاري في كتاب الأشربة، سنن ابن ماجة في كتاب الأشربة وغيرها.(40/304)
بخلقه أن جعل لهم مما خلق ميزانا يرجعون إليه في تعاملهم، ففي المعقولات والمعاني المجردة جعل العقل حاكما وكاشفا للمجهول، وفي المحسوسات جعل الكيل والوزن والعد قاضيين في المقدرات، وربط العقل والكيل والوزن والعد بالشريعة كي لا يضل الإنسان في حياته وينحرف في متاهات الظلام، وعلى هذا فلا يخلو جانب التبادل في حياه البشر من مقياس وهو النقود ومن أهمها الذهب والفضة.
ومع هذا فإن المتتبع لتاريخ النقود لا يسلم بسهولة أن النقدية تنحصر في الذهب والفضة، فقد نقل البلاذري أن عمر - رضي الله عنه - قال: " هممت أن أجعل الدراهم من جلود الإبل، فقيل له إذا لا بعير فامسك " (1) . واشتهر قول مالك في المدونة: " ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع نظرة بالذهب والورق " (2) .
وهذا يعني أن النقدية بصفة عامة أمر اعتباري يضفيه الناس على سلعة معينة حتى يصير تداولها عرفا للمجتمع، وسواء كانت هذه السلعة ذهبا أم غيره من السلع الأخرى، وإن كان الذهب والفضة قد اكتسبا هذه الصفة بما يشبه الإجماع ولكن هذا لا يعني منع التعارف على استعمال غيرهما من النقود.
__________
(1) فتوح البلدان للبلاذري 578 تحقيق د. المنجد.
(2) المدونة 3 \ 395.(40/305)
ثبات قيمة النقود:
كان من نتائج تمسك الفقهاء بحصر النقدية في الذهب والفضة أن ذهب فريق من كبار فقهاء المسلمين إلى وجوب ثبات قيمة النقد المتداول، فلا يجوز أن تخضع العملة لما تخضع له السلع والخدمات من تقلبات في(40/305)
الأسعار؛ وذلك لأنها المقياس والميزان الحاكم في تقدير الأشياء من قيم السلع، وأروش الجناية، وضمان المتلفات، فهي وسيلة التبادل ومقياس القيم، فلا بد من ثباتها لتحقيق العدالة المنشودة في عملية التبادل، ومن أنصار هذا الرأي:
الغزالي: قال - رحمه الله - في كتاب الشكر من الإحياء بعد أن تحدث عن صعوبات المقايضة: فافتقرت هذه الأعيان المتنافرة المتباعدة - السلع - إلى متوسط يحكم بينها بالعدل فيعرف من كل منها رتبته ومنزلته، فإذا تقررت المنازل وترتبت الرتب علم بعد ذلك المساوي من غير المساوي، فخلق الله جل وعلا الدراهم والدنانير حاكمين متوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما، فيقال هذا الجمل يساوي مائة دينار، وإنما أمكن التعديل بالنقدين إذ لا غرض في أعيانهما وهما عزيزان في نفسيهما ونسبتهما إلى الأشياء نسبة واحدة فمن ملكهما فكأنه (1) ملك كل شيء، وهو معنى ثبات قيمة النقود.
وقال أحد المعاصرين إن الغزالي يرى أنه من الظلم اختلاف قيم النقود وتباينها في الجودة والرداءة، وإن شكر الله سبحانه يقتضي عدم تغيير قيمة النقد الذي هو واسطة التبادل ومقياس قيم الأشياء وكل ما من شأنه تغيير تلك القيمة فهو تعد لحدود الله (2) {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (3) (الطلاق - 1) .
ابن قيم الجوزية: قال - رحمه الله -: فإن الدينار والدرهم أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال فيجب أن يكون محدودا مضبوطا لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن
__________
(1) إحياء علوم (1 \ 91) .
(2) السياسات الاقتصادية في الإسلام د. محمد عبد المنعم عفر \ 122 طبع اتحاد البنوك الإسلامية.
(3) سورة الطلاق الآية 1(40/306)
نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره إذ يصير بذلك سلعة يرتفع وينخفض فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم لأن النقود يقصد بها التوصل إلى السلع فإذا صارت في أنفسها سلعا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس (1) .
فابن القيم - رحمه الله - يميز في نصه السابق بين استعمالين للذهب والفضة، أحدهما استعمال النقدين في الوظيفة النقدية كوسيلة تقويم وتبادل، فإذا استعملت كالسلع الأخرى باتخاذها حليا صارت مقصودة لذاتها ورجعت إليها الصفة السلعية ولهذا رتب على تمييزه هذا قوله في تقويم الصنعة في الحلي المباحة وجواز التفاضل بسببها.
ابن خلدون والمالكية: تحدث ابن خلدون في المقدمة عن وظائف النقود كمقياس للقيم ووسيلة للتبادل (2) وهي باعتبارها وسيلة التبادل لا بد من ثبات قيمتها لأن هذا الثبات هو مبرر اتخاذها لهذه الوظيفة. ومرجع كلها عند القائلين بثبات قيمة النقود كونها لا قيمة لها في ذاتها فلا يمكن أن تتغير قيمتها وهو تعليل المالكية في المدونة (فهي أي النقود ليست لها أسواق تحول إليها) (3) وهو ما يعلنه الباجي في المنتقى: ليس لها قيمة في ذاتها لأنها تستخدم في تقويم الأشياء ولكن لا يوجد شيء آخر لتقييم الأشياء غيرها وليس لها مثل المبيعات و (السلع) قيمة متغيرة حسب البلاد (4) .
__________
(1) إعلام الموقعين 2 \ 156 ط دار الجيل.
(2) المقدمة صـ 336 طـ ابن شقرون.
(3) المدونة 8 \ 143.
(4) المنتقى شرح الموطأ للباجي 4 \ 258 وجـ 5 صـ 98.(40/307)
المقريزي: يعتبر الشيخ تقي الدين المقريزي أكثر المؤرخين والفقهاء حماسة لفكرة ثبات قيمة النقد، وقد بحث في كتابه: (شذور العقود في ذكر النقود) (1) ، و (إغاثة الأمة في كشف الغمة) آراءه في هذا الموضوع.
يؤكد المقريزي في كتابيه المذكورين وفي خططه ضرورة الاعتماد على الذهب والفضة كنقد متداول ولا يلجأ إلى ضرب الفلوس النحاسية وغيرها إلا بمقدار حاجة الناس إلى شراء التافه من السلع القليلة الثمن ويؤكد أن النقود في مصر منذ أقدم العصور هي الذهب مستدلا بالحديث النبوي: «ومنعت مصر أردبها ودينارها (2) » ويرى أن سبب الأزمة المالية والخراب والظلم الذي حل بمصر هو الإكثار من إصدار الفلوس النحاسية واكتناز النقدين لاستعمالهما في الترف والزينة ولا يمكن إزاحة هذا الظلم إلا بالعودة إلى (3) استخدام الذهب والفضة وضبطهما عن الغش، وإصدارهما من الحاكم، والمحافظة على قيمتهما، وفي مجال التحكم في إصدارهما يتحدث المقريزي عن أثر الإصدار بلا حاجة في بلبلة توزيع الثروة والدخول واضطراب أسعار السلع نتيجة للتضخم النقدي وهو أمر ممنوع شرعا.
ابن عابدين: دعا ابن عابدين إلى وجوب ثبات قيمة النقد، ومع ذلك فإن أبحاثه الفقهية انصبت على تغير قيمتها ارتفاعا وانخفاضا وما يترتب على ذلك من أمور كما سنراه في الصفحات القادمة.
وخلاصة الأمر أننا يمكننا رد قول الفقهاء بوجوب ثبات قيمة النقد إلى أمر شرعي وهو خشية الوقوع في الربا، بالإضافة إلى أن الذهب والفضة يتمتعان باستقرار نسبي في أسعارهما وهو صدى قولهم بأن النقدية صفة
__________
(1) طبع الكتاب ضمن كتاب (النقود) الذي جمعه الأب انستاس الكرمللي.
(2) أخرجه مسلم وأبو داود وأحمد في المسند، ويحيى بن آدم في الخراج.
(3) النقود العربية وعلم النميات للكرملي، ورسالة السيوطي (قطع المجادلة عند تغيير المعاملة) .(40/308)
ملازمة للنقدين، ولا شك أن ثبات قيمة النقود يحقق فكرة العدالة في الإسلام، ولهذا فإننا نتمنى أن يسعد العالم كله بقيمة ثابتة للنقد يتفق عليها البشر جميعا.
وقد نبه الاقتصاديون إلى أهمية ثبات قيمة النقد وما يترتب على تقلب قيمتها من أضرار، وأكدوا على أهمية التحكم في إصدارها بشكل يضمن المحافظة على تلك القيمة. ويتحقق هذا الثبات بأن يكون للنقود نفس القوة الشرائية وأن يكون للسلع المقابلة لها نفس مستوى الأسعار وذلك بثبات النسبة بين كمية النقود (بما في ذلك سرعة التداول) وكمية السلع في السوق.
فتزداد كمية النقود بنمو الاقتصاد وتقلل كميتها مع الضمور السلعي وقلة العرض، ويحتج أنصار سياسة تثبيت قيمة النقد بما يلي:
1 - تحقيق العدالة بين المدينين والدائنين.
2 - تحقيق العدالة بين أصحاب الدخول الثابتة (الموظفين والعمال) وأصحاب الدخول المتغيرة (رجال الأعمال) .
3 - القضاء على فرص المضاربة في سوق النقود.
4 - استقرار الصناعة وتشجيعها وتشجيع الادخار.
أما التقلبات النقدية واضطراب قيمتها فله آثار خطيرة تتجلى في ناحيتين هامتين هما:
أولا: إعادة توزيع الثروة ذلك أن الأنشطة الاقتصادية تقوم على أساس الالتزامات التعاقدية بدفع مبلغ من النقود في المستقبل (الالتزامات النقدية المؤجلة) الأجور، البيع لأجل، القروض، ولا شك أن أي تغير في قيمة النقود يحدث تغييرا في المركز الاقتصادي للمتعاقدين حيث يلحق الضرر(40/309)
بالدائنين لانخفاض قيمة النقود كما يلحق الضرر بالمدينين عند ارتفاع قيمتها كما يحدث في التضخم النقدي.
ثانيا: إعادة توزيع الدخول بشكل عشوائي لكافة عناصر المجتمع (1) .
__________
(1) الإسلام والنقود، د. رفيق المصري صـ 22 - 23.(40/310)
ما معنى قيمة النقود؟ :
إن قيمة النقود يراد بها أحد المعاني الثلاث التالي ذكرها:
1 - قوتها الشرائية بالنسبة للذهب أي كمية الذهب المقابلة لسعر الوحدة النقدية المتداولة.
2 - قيمتها الخارجية وهي نسبة معادلتها بالعملات الأخرى (سعر الصرف) .
3 - قوتها الشرائية على السلع والخدمات بمعنى سلطانها المهيمن على امتلاك سلعة أو حاجة من السوق (1) . والمعنى الأول تحدده سيادة الدولة وجهات الإصدار والمعنى الثاني أمر قانوني يرتبط بالتجارة واتفاقيات الدول، أما المعنى الثالث فهو أشدها تعقيدا، ولنرجع إلى علماء الاقتصاد وهم يفسرون لنا هذه الناحية.
ما الذي يحدد القوة الشرائية للنقود. قيمة النقود الشرائية؟
إن مستوى الأسعار يتوقف على العلاقة بين جملة الإنفاق النقدي للمجتمع خلال فترة معينة والحجم الحقيقي للسلع والخدمات التي تستعمل النقود في مبادلتها خلال تلك الفترة، فإذا تحقق التوازن بين هذين العنصرين يميل مستوى الأسعار للاستقرار، وكل تفاوت في أحدهما سيؤدي للتضخم أو الانكماش، فقيمة النقود علاقة بين (الطلب النقدي الكلي) و (العرض الكلي
__________
(1) مقدمة في النقود والبنوك، د. محمد زكي شافعي صـ 80 - 85.(40/310)
للسلع والخدمات) ولكن الاقتصاديين يقولون إن الدينار الواحد إذا تداولتة الأيدي عشر مرات يساوي عشرة دنانير، وهذا يعني أن حجم الإنفاق النقدي خلال فترة زمنية ما هو:
(كمية النقود المتداولة في متوسط عدد مرات التداول خلال الفترة) فلو كانت كمية النقود 25 مليون دينار ويتداول الدينار عشر مرات في العام فسيكون حجم الإنفاق هو:
25 مليون × 10 = 250 مليون دينار
فزيادة سرعة التداول هو زيادة في التيار النقدي (لاحظ موقف الإسلام من الاكتناز) فالعوامل التي تحدد القوة الشرائية للعملة هي ثلاثة عوامل: (كمية النقود) ، (سرعة تداولها) ، (الحجم الكلي الحقيقي للسلع والخدمات) ويتغير مستوى الأسعار طردا بتغير كمية النقود وسرعة تداولها، وعكسا بتغير حجم السلع والخدمات المعروضة (1) .
__________
(1) مقدمة في النقود والبنوك، د. محمد زكي شافعي صـ 97.(40/311)
مفهوم تغير قيمة النقود عند الفقهاء: وضع الفقهاء - رحمهم الله - الذهب والفضة في القمة، وقاسوا تغير النقود الاصطلاحية بالنسبة إليها، فالرخص والغلاء في النقد الورقي والفلوس إنما ينسب إلى الذهب والفضة باعتبارهما المقياس الذي تقدر بالنظر إليه أثمان الأشياء وقيمها ويعدان ثمنا بالخلقة، أما النقود النحاسية والورقية فتعد سلعة ومتاعا وهي في حالة رواجها تعد مثلية وثمنا فإذا كسدت فهي عروض متقومة ولهم سندهم في ذلك من ثبات قيمة النقد الذهبي والفضي نسبيا لندرتهما وارتفاع قيمتهما الذاتية التي لا تقل في قيمتهما التجارية كسلعة عن قيمتهما الاسمية كنقد متداول، ويفسرون تقلب الأسعار بتقلب السلع(40/311)
أما الذهب والفضة فسعرهما ثابت لا يتغير، والذي تغير إنما هو أسعار السلع الأخرى.
ولكن هل يصح على الإطلاق أن الذهب والفضة يتمتعان بقيمة ثابتة مستقرة تحكم على السلع بقوة واحدة. إنني أحسب والله أعلم أن الذهب والفضة كنقد متداول تخضع للتحليل الاقتصادي السابق، وأن قوتها الشرائية تتوقف أيضا على كميتها وسرعة تداولها وحجم السلع والخدمات المعروضة في السوق. فلو فرضنا أن النقد الموجود من الذهب الخالص وقد حجب نصف كميته عن التداول بإذابته حليا أو باكتنازه فإن القوة الشرائية للكمية الباقية سترتفع بشكل خطير وتحدث أزمة اقتصادية نقدية لا فرق في ذلك بين الذهب والفضة وأي سلعة أخرى أضفى عليها المجتمع صفة النقدية وكذلك لو زادت كمية المسكوكات الذهبية إلى حد يزيد عن مقدار السلع والخدمات لنقصت قوة الذهب الشرائية أيضا. ولهذا أجد في نفسي شيئا من حصر مفهوم قيمة النقود بنسبتها للذهب وإهمال القوة الشرائية بالنسبة للسلع والخدمات. ومع ذلك فإن الفقهاء قد تناولوا في فروعهم رخص الذهب والفضة، ومن حقنا أن نسألهم تجاه ماذا لو رخصت قيمة الذهب والفضة، وما هو المقياس الجديد؟ .
إن التغير الذي حصل إنما هو قوة النقود الشرائية، ولكن لأنه لا بد من مقياس للقيمة فلا بد من الاعتراف بثبات قيمة الذهب والفضة ولو إلى حد ما.(40/312)
التغيرات الطارئة على قيمة النقود:
تعرض الفقهاء في بحوثهم لثلاثة أمراض تطرأ على النقود وهي: (الكساد) ، (الانقطاع) ، (الرخص والغلاء) فما هي هذه الأمراض؟ .(40/312)
الكساد: وهو ترك التعامل بالنقود في جميع البلاد كإلغائها مثلا، فإن تعومل بها في بعض البلاد لا يسمى كسادا بل هو عيب طارئ على النقود تسري عليه أحكام خيار العيب.
الانقطاع: وهو أن يفقد النقد من السوق ولو كان موجودا عند الصيارفة وفي البيوت (1) .
الرخص والغلاء: وهو تغير القيمة المالية للنقد الرائج بالنسبة للذهب والفضة كما عرفه الفقهاء، أما الرخص والغلاء بمعنى انخفاض القوة الشرائية أو ارتفاعها فهو الوجه الآخر لهذا المعنى الفقهي، وهذه الأمراض تتناول النقود الخلقية والاصطلاحية.
وقد أفرد بعض الفقهاء هذه الأحكام في بحوث منفصلة كما صنع الغزي التمرتاشي في رسالته: (بذل المجهود في مسألة تغير النقود) وهي مفقودة ولكن تلميذه ابن عابدين قد لخصها في رسالته: (تنبيه الرقود إلى أحكام النقود) المطبوعة ضمن رسائله، وهناك للسيوطي رسالة في الموضوع نفسه: (قطع المجادلة عند تغيير المعاملة) في كتابه (الحاوي) .
وسأتناول أثر هذه التغيرات على قيمة النقود في مبحثين:
أولا: حكم هذه التغيرات على الذهب والفضة.
ثانيا: حكم هذه التغيرات على النقود الاصطلاحية.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 \ 162.(40/313)
أولا: حكم التغيرات الطارئة على الذهب والفضة
اتفق الفقهاء قاطبة على أن هذين المعدنين ثمن بالخلقة، فالدرهم والدينار(40/313)
الخالصان أو كان غشهما مغلوبا من الأثمان بأصل الخلقة وقلما تهتز قيمتهما بالأزمات الاقتصادية فهما الحاكم على القيم فإليهما تنسب قيم الأشياء، ولنستعرض آراء المذاهب الفقهية في أثر التغيرات الطارئة عليهما.
الحنفية: قال ابن عابدين في رسالته: والذي يغلب على الظن ويميل إليه القلب أن الدراهم المغلوبة الغش والخالصة إذا رخصت أو غلت لا يفسد البيع قطعا ولا يجب إلا ما وقع عليه العقد من النوع المذكور فيه، فإنها أثمان عرفا وخلقة والغش المغلوب كالعدم) (1) .
وعليه فإذا تبايعا الذهب والفضة الخالصة أو المغلوبة الغش أو استقرض مبلغا منها يجب رده بعينه غلا أو رخص وحتى لو زادت الجهة المصدرة للمسكوكات قيمتها أو أنقصته فلا يلزم إلا ما جرى عليه العقد (2) واستقر على هذا الرأي نص المادة (805) من مرشد الحيران حيث جاء فيها:
(وإن استقرض شيئا من المكيلات والموزونات والمسكوكات من الذهب والفضة فرخصت أسعارها أو غلت فعليه رد مثلها ولا عبرة برخصها أو غلائها) وحتى لو أبطلت السلطة التعامل بها فلا يلزم المدين سواها وفاء بالعقد. وهذا القول لأئمة الحنفية الثلاثة بالنسبة للنقد الخلقي من الذهب والفضة، قال ابن عابدين: وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة كالشريفي والبندقي والمحمدي - وهي من الذهب فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع (3) .
المالكية: قال في منح الجليل: وإن بطلت بعد ترتبها في ذمة شخص بقرض أو بيع ومثلها الدراهم والدنانير فليس عليه غيرها إن وجدت وإلا
__________
(1) تنبيه الرقود صـ 61.
(2) تنبيه الرقود صـ 64.
(3) تنبيه الرقود صـ 64.(40/314)
فقيمتها إن فقدت، فمن اقترض دراهم أو دنانير أو فلوسا أو باع بها وهي سكة معروفة ثم غير السلطان التعامل بأن أبدل السكة بغيرها فإنما عليه مثل السكة التي قبضها ولزمته يوم العقد، هذا في حال الكساد كما حرره القرافي في شرحه. ولو انقطع ذلك النقد فلم يوجد فعليه قيمته يوم انقطاعه إن كان حالا وإلا فقيمته يوم الأجل لعدم استحقاق المطالبة قبله وبهذا أفتى ابن رشد، فالمثل لما بطل التعامل به وأولى إن تغيرت قيمته مع استمرار التعامل به، أما عند انقطاعه وانعدامه ذهبا أو فلوسا فتجب القيمة مما تجدد التعامل معتبرة وقت اجتماع الاستحقاق وذلك يوم حلول أجلها وانعدامها ولا يجتمعان إلا وقت المتأخر منهما فإن استحقت ثم عدمت فقيمتها يوم العدم، وإن عدمت ثم استحقت قومت يوم الاستحقاق، وهو اختيار اللخمي وابن محرز واقتصر عليه ابن الحاجب، وقال ابن يونس عليه قيمتها يوم الحكم وهو ظاهر المدونة والمعتمدة كما قاله الدردير في شرح الكبير والصغير.
ولا فرق بين أن يمطله المدين أم لا، وقيده بعضهم بعدم المطل فإن مطله وجب عليه ما انتهت إليه القيمة الجديدة من السكة الجديدة (1) .
والأظهر أنه عند المطل يجب الأحظ لرب المال من القيمة أو السكة الجديدة.
وجاء في نوازل ابن رشد ما نصه: وسئل - رضي الله عنه - عن الدراهم والدنانير إذا قطعت السكة أو أبدلت بسكة غيرها فما الواجب في الديون والمعاملات المتقدمة وأشباه ذلك، فقال المنصوص لأصحابنا وغيرهم من أهل العلم أنه لا يجب عليه إلا ما وقعت به المعاملة ولا يلتفت إلى قول المخالف
__________
(1) منح الجليل 2 \ 535.(40/315)
بوجوب السكة الجديدة، وقال إن مقتضى قولهم هذا إن السلطان لو أبدل المكاييل بأصغر أو أكبر فليس للمبتاع إلا الكيل الأخير وهو باطل.
الحنابلة: قرر الحنبليون كغيرهم قاعدة في القرض تقول: إذا رد المقترض عين ما اقترضه لزمه قبوله إن كان المردود مثليا أما المتقوم فلا يلزم الدائن قبوله لأن الواجب قيمته على المقترض بعد أن دخل في ملكه فرد عين المثلي يلزم الدائن قبوله إلا في حالتين:
(أ) تعيب عين القرض كحنطة ابتلت.
(ب) إذا كان القرض فلوسا أو دراهم مكسرة فحرمها السلطان سواء اتفق الناس على تركها أو لا لأنه كالعيب فلا يلزمه قبولها (1) ويفهم من هذا أن الحنابلة لا يلزمون الدائن بقبول المثل إلا إذا كان النقد مسموحا به متداولا بأمر السلطان، فإن كسد فلا يجبر الدائن على قبوله ويكون له القيمة عن الفلوس والمكسرة (2) وقت القرض سواء كانت باقية العين أو مستهلكة وسواء نقصت قيمتها كثيرا أو قليلا وكذلك الحكم في المغشوشة إذا حرمها السلطان وفي حال وجوب القيمة على المقترض فيجب أن يدفعها من غير جنس الدين إن ترتب عليه ربا الفضل كما لو أقرضه دراهم مكسورة فحرمها السلطان فيعطي قيمتها ذهبا حذرا من ربا الفضل والعكس بالعكس. وكذا الحكم في سائر الديون كعوض خلع وبدل متلف وغصب وأجرة.
الشافعية: قال في مغني المحتاج: ولو باع بنقد معدوم في البلد حالا أو مؤجلا إلى أجل لا يمكن فيه نقله للبلد عادة لم يصح لعدم القدرة على التسليم
__________
(1) كشاف القناع 3 \ 315، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف 5 \ 127.
(2) كشاف القناع 3 \ 315.(40/316)
فإن أجله إلى وقت يمكن فيه إحضاره صح العقد، ولو لم يحضره له الاستبدال فلا ينفسخ العقد، وكذا يستبدل لو باع بموجود عزيز فلم يجده (1) إلا أن الهيثمي في تحفة المحتاج قال: (ولو باع بنقد دراهم أو دنانير وعين شيئا موجودا اتبع وإن عز) (2) ، وقال الرملي: (ولو قلت أو عز وجودها في أيدي الناس فلا يجب غيرها لإمكان تحصيلها مع العزة بخلاف انعدامها وانقطاعها وفقدها) (3) ، وفي كل الأحوال إذا عقد بنقد معين فليس له إلا ما وجب بالعقد كما لو أسلم في حنطة بوصف معين فليس له غيرها رخصت أو غلت، هذا في النقد المعين أو المنصرف إلى غالب نقد البلد، فلو بطل ذلك النقد فليس له غيره كالحنطة إذا رخصت أو غلت، هكذا قطع به الجمهور، وحكى البغوي والرافعي وجها بتخيير البائع بين إمضاء العقد أو فسخه كما لو تعيب قبل القبض (4) .
النتيجة: يتفق جمهور الفقهاء على أن نقود الذهب والفضة موزونة أو مسكوكة خالصة أو مغلوبة الغش تسدد بمثلها ولا ينظر إلى رخصها أو غلائها بالنسبة لما كانت عليه وقت العقد؛ وذلك لأن هذه النقود تتمتع بثبات نسبي في قيمتها لندرتها وعدم سهولة إصدارها كما يمكن تحويلها من سبائك إلى مسكوكات دون أن تفقد شيئا من قيمتها أو وزنها بالسك أو الصهر وهو ما يجعل منها نقودا لا تقل في قيمتها التجارية كسلعة بدرجة محسوسة عن قيمتها الاسمية كنقد متداول (5) .
__________
(1) مغني المحتاج 2 \ 17.
(2) تحفة المحتاج 4 \ 255.
(3) نهاية المحتاج 3 \ 97، والمغني المحتاج 2 \ 17.
(4) المجموع 9 \ 282.
(5) الإسلام والنقود، د. رفيق المصري صـ 91.(40/317)
ثانيا: حكم هذه التغيرات في النقود الاصطلاحية
الكساد العام للنقد. وهو ترك التعامل به في عامة البلاد فلو ثبت لشخص في ذمة آخر مبلغ من المال قرضا أو ثمن مبيع مؤجل ثم أبطل ذلك النقد فللفقهاء فيه أربعة أقوال:
الأول: قول أبي حنيفة - رحمه الله -: يفسد العقد بالكساد لهلاك الثمن ويجب الفسخ إذا كان ممكنا، كما نقله ابن عابدين عن النتارخانية، وقال الزاهدي في جواهر الفتاوى: إذا باع شيئا بنقد معلوم ثم كسد النقد قبل القبض يفسد البيع، ثم ينظر فإن كان المبيع قائما بيد المشتري رده على البائع، وإن خرج من ملكه أو زاد بصنعة متقومة كخياطة الثوب أو تغير جنسه كطحن الدقيق فعليه مثله إن كان مثليا أو قيمته إن كان متقوما من نقد كان موجودا عند البيع ولم يكسد.
وإن كان الثابت في الذمة دينا في قرض أو مهرا مؤجلا فيجب رد مثله ولو كاسدا؛ لأنه هو الثابت في الذمة لا غيره، وإن كان ما ثبت في الذمة أجرا رجع على المستأجر بأجر المثل، ويبدو أن الحنفية وجدوا في أنفسهم شيئا تجاه هذا القول في القرض والمهر المؤجل ولذا قال ابن عابدين إن الفتوى فيهما على قول أبي يوسف وهو وجوب القيمة يوم التعامل (1) .
دليل الإمام: وحجة أبي حنيفة في البيع أن النقد الاصطلاحي خرج عن ثمنيته بالكساد وزالت عنه صفة النقدية فبقي المبيع بلا ثمن فيفسد العقد.
وحجته في القرض والمهر المؤجل أن القرض إعارة وموجبها رد العين معنى وهو متحقق برد المثل ولو كاسدا لأن الثمنية زيادة فيه حيث إن صحة القرض لا تعتمد الثمنية بل تعتمد المثل ولا يخرج بالكساد عن كونه مثلا
__________
(1) تنبيه الرقود صـ 56 - 57، وبدائع الصنائع 7 \ 3244، وحاشية ابن عابدين جـ 5 \ 162.(40/318)
ولذا صح استقراضه بعد الكساد وصح استقراض ما ليس بثمن كالجوز والبيض والمكيل والموزون، ولولا أنه إعارة لما صح؛ لأنه يكون مبادلة الجنس بمثله نسيئة وهو حرام فصار المردود عين المقبوض حكما فلا يشترط فيه الرواج كرد العين المغصوبة (1) والتسليم بقياس قرض الفلوس على عارية المثليات أمر لا تقبله النفس بسهولة، فمقترض الفلوس إنما اقترضها لما كانت تتمتع به من قوة شرائية، فقيمتها مضمون العقد لا أعيانها المثلية، ولذا ذهب الحنفية إلى ترجيح قول أبي يوسف برد قيمة النقود الاصطلاحية الكاسدة، وقد اختار الغزي في التنوير قول الإمام في القرض والبيع فلو كسدت فليس للبائع إلا مثلها كاسدة لا قيمتها (2) .
الثاني: قول أبي يوسف والراجح عند الحنابلة والمرجوح عند المالكية:
وهو أنه لا يجزئ رد المثل بعد الكساد ويجب على المدين رد قيمة الدين بقيمته يوم التعامل من نقد غير كاسد، وهذا القول هو المفتى به عند الحنفية رفقا بالناس ولأن القيمة يوم التعامل تكون مستقرة (3) ، ودليلهم على ذلك أن كسادها إبطال لماليتها فهو كإتلافها فوجب بدلها وهو القيمة بناء على قاعدة الجبران، ولأن الدائن دفع مالا منتفعا به فلا يظلم بإعطائه ما لا نفع فيه، قال ابن قدامة في المغني (4) بعد تقريره قاعدة رد المثل في المثليات سواء رخصت أو غلت: وإن كان القرض فلوسا أو مكسرة فحرمها السلطان وتركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتها ولا يلزم بقبولها ولو كانت عينها موجودة لدى المقترض لأنها تعيبت في ملكه، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة وقال يقومها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه قيمتها وسواء نقصت
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي 4 \ 143.
(2) تنبيه الرقود صـ 59.
(3) تنبيه الرقود 7 \ 62، وتبيين الحقائق 4 \ 144، والبحر الرائق 6 \ 219.
(4) المغني 4 \ 360، والكافي لابن قدامة أيضا 2 \ 124.(40/319)
قيمتها كثيرا أم قليلا، قال القاضي هذا إذا اتفق الناس على تركها، وأما إن تعاملوا بها مع تحريم السلطان لها لزم أخذها ودليله أن منعها إبطال لماليتها فأشبه إتلافها.
وذهب بعض المالكية في ثمن المبيع أنه تجب قيمة السلعة يوم القبض من النقد الرائج ولكن المشهور (1) عندهم رد المثل كما سنراه في القول الرابع، ويشترط الحنابلة تقدير قيمة النقد الكاسد بغير جنسه حذرا من الوقوع في الربا (2) وهو شرط لا بد من مراعاته عند كل المذاهب وإن لم يشيروا إليها عند الحديث عن قيمة النقد.
الثالث: قول محمد بن الحسن وبعض الحنابلة: وهو كالقول الثاني في وجوب رد القيمة إلا أنهم يقدرونها يوم الكساد لا يوم التعامل، أي بآخر وقت الكساد لأنه آخر ما تعامل به الناس وهو وقت الانتقال إلى القيمة، إذ الواجب رد مثلها إذا كانت نافقة فإذا كسدت انتقل الواجب إلى قيمتها، فقول محمد أنه يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس (3) .
الرابع: مذهب الشافعية والمشهور عند المالكية: إذا كسد النقد بعد ثبوته في الذمة وقبل أدائه فليس للدائن سواه، ويعتبر الكساد جائحة نزلت به، ولا فرق بين القرض والثمن المؤجل، وقد نقل ابن (4) قدامة مذهبهم فقال: وقال مالك والليث والشافعي ليس له إلا مثل ما أقرضه؛ لأن ذلك ليس بعيب جرى فيها، بل هو كنقص سعرها، فقد قال في المنهاج: (ويرد في القرض المثل في المثلي لأنه أقرب إلى حقه ولو في نقد بطل التعامل به) (5) وقال في النهاية:
__________
(1) حاشية الرهوني 5 \ 120.
(2) كشاف القناع 3 \ 315، والروض المربع 2 \ 154.
(3) تنبيه الرقود \ 58، وتبيين الحقائق 4 \ 144.
(4) المغني 4 \ 360.
(5) مغني المحتاج 2 \ 119.(40/320)
(ولو أبطل السلطان ما باع به أو أقرضه لم يكن له غيره بحال فشمل ذلك ما عمت به البلوى في بلادنا المصرية من إقراض الفلوس الجدد ثم إبطالها وإخراج غيرها وإن لم تكن نقدا) (1) .
وقال في منح الجليل: (ومن ابتاع بنقد أو اقترضه ثم بطل التعامل به لم يكن عليه غيره إن وجد، ومن اقترض دراهم أو دنانير أو فلوسا أو باع بها وهي سكة معروفة ثم غير السلطان السكة وأبدلها بغيرها فإنما عليه مثل السكة التي أخذها ولزمته يوم العقد) ثم نقل عن المدونة قائلا: (وفيها ومن أسلفته وأخذت بها رهنا ففسدت الفلوس فليس لك عليه إلا مثل فلوسك ويأخذ رهنه، وإن بعته فلوسا إلى أجل فإنما لك مثل هذه الفلوس يوم البيع ولا يلتفت إلى كسادها) .
بقي أن أذكر أن في المذهبين قولا آخر مرجوحا بلزوم القيمة في الكساد ونص خليل: (وإن بطلت فلوس فالمثل أو عدمت فالقيمة) فانعدامها نهائيا بمعنى الانقطاع من الأسواق فيه القيمة، والمذهب عند المالكية أن كساد النقود ورخصها وغلاءها لا يؤثر ولو صارت الألف بمنزلة المائة إلا قولا شاذا لا يعتبر به ولكن يجب فهم نصوصهم السابقة في المذهبين على شمولها للذهب والفضة والفلوس لا سيما وأن رأي مالك والشافعي أن الفلوس لا تعد نقودا بل هي عرض من عروض التجارة ولا مانع من إيجاب القيمة عندهما حال انعدام الفلوس.
__________
(1) نهاية المحتاج 3 \ 399 و 4 \ 323.(40/321)
الكساد الجزئي للنقود:
إذا كسد النقد في بعض البلاد وهي حالة عالم اليوم حيث تمنع كل دولة(40/321)
أن يتعامل بنقدها خارج حدودها أو يدخل إليها نقد أجنبي يأخذ مكانه في التداول، فإذا تبايعا بنقد في بلد معين ثم كسد ذلك النقد ولكنه ظل رائجا في بلد آخر فلا يبطل البيع ولكنه يتعيب وللبائع خيار العيب فإن شاء أخذ النقد الكاسد أو أخذ قيمته وهو مذهب الحنفية وهناك قول عند الشيخين بأن الكساد المحلي يجري عليه حكم الكساد العام وطرد كل منهما قوله في الحالتين (1) .
__________
(1) تبيين الحقائق 4 \ 143، وتنبيه الرقود \ 60.(40/322)
الانقطاع:
وهو فقدان العملة من الأسواق ولو وجدت عند الصيارفة وفي البيوت، والعبرة دائما في بلد المعاملة كما ذكر الخرشي والزرقاني (1) وللفقهاء في الانقطاع أربعة أقوال أيضا، وهي:
الأول: الحنابلة ومحمد بن الحسن، وهو الراجح عند الحنفية ومضمونه أنه إذا انقطع النقد فيصار إلى قيمته في آخر يوم قبل انقطاعه لفقدان الأصل فيصار إلى البدل وذلك في ثمن البيع وغيره (2) .
الثاني: قول أبي يوسف وهو وجوب القيمة يوم التعامل لا يوم الانقطاع.
الثالث: قول الإمام أبي حنيفة أن الانقطاع كالكساد يوجب فساد البيع، ودليله كما تقدم الكساد أنه كهلاك الثمن فيجب رد المبيع إن كان قائما أو رد مثله أو قيمته إن كان هالكا، فإن لم يكن مقبوضا فلا حكم لهذا البيع أصلا.
__________
(1) الخرشي 5 \ 55، والزرقاني 5 \ 60.
(2) تنبيه الرقود \ 59.(40/322)
ودليل الصاحبين أن الانقطاع لا يبطل البيع؛ لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج.
الرابع: الشافعية والمالكية. تجب قيمة النقد حال انقطاعه أي عند جواز الاستبدال كما ذكره النووي في الانقطاع وعدم إمكانية الحصول عليه، واختلفوا في وقت وجوب القيمة فقال الشافعية تجب وقت المطالبة (1) .
وقال المالكية تجب القيمة في أبعد الأجلين وهما ميعاد الاستحقاق وانقطاع النقد ما لم يمطله المدين فإن مطله وجب ما آل إليه الأمر من القيمة الجديدة، وذهب بعض المالكية إلى تقدير القيمة وقت الحكم، ونص الخرشي شارحا قول خليل (2) : (وإن بطلت فلوس فالمثل أو عدمت فالقيمة) يعني أن الشخص إذا ترتب عليه لآخر فلوس أو نقد كقرض أو غيره ثم قطع التعامل بها أو تغيرت من حال إلى أخرى فإن كانت باقية فالواجب عليه المثل في ذمته قبل قطع التعامل بها أو تغيرها على المشهور، وإن عدمت - الكساد - فيجب عليه قيمتها مما تجدد معتبرة وقت أبعد الأجلين عند تخالف الوقتين العدم أو الاستحقاق، فلو كان انقطاع التعامل بها أو تغيرها أول الشهر والاستحقاق آخره فتعتبر القيمة في آخره والعكس بالعكس (3) .
__________
(1) قطع المجادلة، والمجموع 9 \ 331.
(2) الخرشي، مصدر سابق.
(3) منح الجليل 2 \ 535، وحاشية الدسوقي 3 \ 46.(40/323)
غلاء النقد ورخصه:
عرفنا سابقا أن لتغير قيمة النقد ثلاثة معان، فقد تكون تجاه الذهب أو تجاه العملات الأخرى وعرفنا أن قيمة النقود تتوقف على كميتها وسرعة تداولها وكمية العرض في السوق، وأن عيار النقد من المعدن الثمين ليس له كبير أثر في الدراسات الاقتصادية المعاصرة، ويرى الفقهاء أن الغلاء(40/323)
والرخص للنقود إنما هو باعتبار نسبتها للذهب والفضة ولكن فروعهم لا تمنع شمول مفهوم الرخص والغلاء لاختلاف القوة الشرائية للنقد ضمن الإطار العام لنظرية الربا في الشريعة الإسلامية ولذا فلا أجد فارقا جوهريا بين اختلاف القوة الشرائية للنقود وبين اختلاف قيمتها بالنسبة للذهب والفضة، والفرد العادي في حياته اليومية لا يتأثر إلا باختلاف القوة الشرائية للنقد لاختلاف سعره بالنسبة للذهب، والمسألة التي نتعرض لها هنا هي إذا تغيرت قيمة النقد غلاء أو رخصا بعد ثبوته في ذمة المدين قرضا أو ثمن مبيع وقبل أدائه فللفقهاء في المسألة ثلاثة أقوال:
1 - جمهور الفقهاء 2 - قول أبي يوسف 3 - وجه مرجوح عند المالكية.
القول الأول الجمهور من الشافعية والحنابلة والمشهور عند المالكية وأبي حنيفة.
وهو أنه لا يجب إلا النقد المحدد في العقد وليس للدائن سواه، وكان أبو يوسف يرى هذا الرأي موافقة لإمامه ثم رجع عنه، قال في البدائع: (ولو لم تكسد ولكنها رخصت قيمتها أو غلت لا ينفسخ البيع إجماعا وعلى المشتري أن ينقد مثلها عددا ولا يلتفت إلى القيمة هنا لأن الرخص والغلاء لا يوجب بطلان الثمنية ألا ترى أن الدراهم قد ترخص وتغلو وهي على حالها أثمان) (1) ، وفي حديثه عن القرض قال: (ولو لم تكسد ولكنها رخصت أو غلت فعليه رد مثل ما قبض) ، وقال في البحر بعد كلامه عن الكساد والانقطاع: (ولو نقصت قيمتها قبل القبض فالبيع على حاله بالإجماع، ولا يتخير البائع وعكسه لو غلت قيمتها وازدادت فكذلك البيع على حاله ولا يتخير المشتري ويطالب بالمعيار الذي كان عند البيع (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع 7 \ 3245.
(2) البحر الرائق 6 \ 219.(40/324)
ونقل ابن عابدين عن شرح الطحاوي قوله: (وأجمعوا أن الفلوس إذا كسدت أن عليه مثلها كما قبضها وزنا أو عددا) (1) . ففي الغلاء والرخص لا يجب إلا المثل اتفاقا عند الحنفية، إلا أن أبا يوسف قال يحق للبائع الفسخ لتعيب الثمن بنقصان القيمة (2) .
وقال ابن قدامة في المغني: (وأما رخص السعر فلا يمنع ردها سواء كان قليلا أو كثيرا كأن كان عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق لأنه لم يحدث شيء فيها إنما تغير السعر فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت) ومثله قال في كشاف القناع: (إن الفلوس إن لم يحرمها السلطان وجب رد مثلها غلت أو رخصت أو كسدت) (3) .
وقال في المدونة: (وكذلك إن أقرضه دراهم فلوسا وهو يومئذ مائة فلس بدرهم ثم صارت مائتي فلس بدرهم فإنما يرد إليك مثل ما أخذ لا غير ذلك) (4) .
وأفضل تلخيص لمذهب الحنابلة ما قاله ناظم المفردات ونقلها في الإنصاف وصاحب الروض المربع فقال:
والنقد في المبيع حيث عينا ... وبعد ذا كساده تبينا
نحو الفلوس ثم لا يعامل ... بها فمنه عندنا لا تقبل
بل قيمة الفلوس يوم العقد ... والقرض أيضا هكذا في الرد
ومثله من رام عود الثمن ... برده المبيع خذ بالأحسن
قد ذكر الأصحاب ذا في ذي الصور ... والنص في القرض عيانا قد ظهر
والنص بالقيمة في بطلانها ... لا في ازدياد القدر أو نقصانها
__________
(1) تنبيه الرقود \ 60.
(2) العقود الدرية 1 \ 279-280.
(3) المغني 4 \ 360. وكشاف القناع 3 \ 315.
(4) منح الجليل 2 \ 534-535.(40/325)
بل إن غلت فالمثل فيها أحرى ... كدانق عشرين صار عشرا
والشيخ في زيادة أو نقص ... مثلا كقرض في الغلا والرخص
وشيخ الاسلام فتى تيميه ... قال قياس القرض عن جليه
الطرد في الديون كالصداق ... وعوض في الخلع والإعتاق
والغصب والصلح عن القصاص ... ونحو ذا طرا بلا اختصاص
قال وجا في الدين نص مطلق ... ينقله الأثرم إذ يحقق
وقولهم إن الكساد نقصا ... فذاك نقص النوع عابت رخصا
قال ونقص النوع ليس يعقل ... فيما سوى القيمة ذا لا يجهل
وخرج القيمة في المثلي ... بنقص نوع ليس بالخفي
واختاره وقال عدل ماضي ... خوف انتظار السعر بالتقاضي
لحاجة الناس إلى ذي المسألة ... نظمتها مبسوطة مطولة (1)
رأي الإمام السيوطي من الشافعية: قرر السيوطي في رسالته أن الفلوس مثلية وكذلك الدراهم والدنانير إلا أن في المغشوش منهما وجها أنه متقوم، وذكر أن سبب تأليف رسالته (قطع المجادلة عند تغيير المعاملة) هو الاضطراب الشديد لقيمة الفلوس في عام (821-836) فعندما عزت الفلوس أيحق للدائن مطالبة المدين بقيمتها من الذهب أو الفضة. ونقل عن القاضي علم الدين البلقيني ظهر بعده للسيوطي أن رخص الفلوس وغلاءها شبيه بمسألة الدية من الإبل، والمنقول في إبل الدية إذا فقدت وجوب قيمتها مهما بلغت مقومة بنقد البلد فإن لم يتوفر إبل في البلد قومت بإبل أقرب البلاد إليهم، وحكى صاحب التهذيب وجهين هل تعتبر قيمة بلد الوجود أم بلد الإعواز إذا وجدت فيها.
نقل الرافعي عن الشافعي اعتبار قيمة يوم الوجوب في بلد الإعواز، بينما نقل الروياني أنه إذا كانت الإبل مفقودة فقيمتها يوم الوجوب، وإن كانت
__________
(1) الروض المربع 2 \ 155، والإنصاف 5 \ 128.(40/326)
موجودة ثم أعوزت فتجب قيمة يوم الإعواز لأنه يوم التحول إلى القيمة، قال السيوطي (1) فهذه تناظر مسألتنا فمن وجب عليه متقوم معلوم الوزن كرطل ألزمه القاضي بقيمته يوم الوجوب ذهبا أو فضة عند الرافعي، أو قيمتها يوم الإعواز على قول الروياني، فالبلقيني يعتبر قيمة الفلوس عند عدمها أو غلائها كسائر المثليات إذا عدمت أو عزت فلا يلزم تحصيلها كما رجحه النووي في (2) الغصب بإيجاب أقصى قيمة للمغصوب من وقت الغصب إلى تعذر المثل. ثم قال السيوطي إذا تقرر فأقول تترتب الفلوس في الذمة بأمور منها القرض ويرد فيه المثل مطلقا، فمن اقترض رطل فلوس رد مثله زادت قيمته أو نقصت لأنه كالسلم إذ يجب تحصيل المسلم فيه مهما بلغت قيمته فإن عدم فليس إلا الفسخ والرجوع برأس المال أو الصبر إلى الوجود، ولا يجوز الاستبدال عنه لو كان رأس المال فلوسا وهي باقية بعينها أخذها وإن تلفت رجع إلى مثلها وزنا، وأما في صورة النقص فقد قال في الروضة: لو أقرضه نقدا فأبطل السلطان ذلك النقد فليس له إلا ما أقرضه نص عليه الشافعي وهذا مع إبطال النقد فمع نقصان قيمته أولى فإذا عدمت الفلوس نهائيا وهو الانقطاع بعينه رجع إلى قيمتها ذهبا أو فضة وتعتبر القيمة يوم المطالبة، أما المقبوض (3) بقرض فاسد فيضمن بالمثل أو القيمة وتعتبر قيمته يوم القبض وهو كقول أبي يوسف وما يجري على الفلوس يجري على الفضة ثم ذكر السيوطي فروعا تطبيقية للمسألة فقال (4) :
أنه لو باع بنقد معين أو مطلق فأبطله السلطان لم يكن للبائع إلا ذلك
__________
(1) قطع المجادلة ص 96 من الحاوي للسيوطي.
(2) قطع المجادلة، وحاشية قليوبي وعميرة 3 \ 30.
(3) حاشية الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج 4 \ 258.
(4) قطع المجادلة صـ 97.(40/327)
النقد كما لو أسلم في حنطة فرخصت ليس له غيرها وفيه وجه شاذ (1) أنه يخير للعيب الحادث وهذا الضعيف هنا هو القوي عند الحنفية إذا كان الأمر في الإجارة والصداق فيمكن الرجوع إلى مهر وأجرة المثل، فقد سئل ابن الصلاح عن رجل تزوج امرأة على مبلغ من الفلوس في الذمة فانعدم النحاس أيرجع للقيمة ببلد العقد أم ببلد المطالبة؟ فأجاب لا ترجع للقيمة أصلا كما لا يرجع إلى قيمة المسلم فيه عند تعذره وإنما يثبت لها مهر المثل بالفسخ أو الانفساخ (2) .
القول الثاني لأبي يوسف وهو المفتى به عن الحنفية: يرى أبو يوسف وجوب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء والرخص يوم ثبوته في الذمة من نقد رائج، ففي البيع تجب القيمة يوم العقد وفي القرض يوم القبض ونقل ابن عابدين عن الغزي في (بذل المجهود) فقال: (وفي البزازية معزيا إلى المنتقى غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني أولا - أي أبي يوسف في قوله الأول - بأنه لا يجب عليه غيرها وهو قول أبي حنيفة وقد رجع أبو يوسف عن هذا القول وقال ثانيا يجب عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض وأكد ابن عابدين وجوب الفتوى بهذا القول لأنه الراجح ولا يؤخذ بمقابلة المرجوح (3) وانفرد أبو يوسف في الغلاء والرخص بأنه عيب يجيز للبائع الفسخ بسبب نقص القيمة) (4) .
القول الثالث وهو وجه عند المالكية: وخلاصته أن التغير إذا كان فاحشا فيجب أداء قيمة النقد، فإن لم يكن التغير فاحشا فيجب المثل وعلق الرهوني
__________
(1) المجموع للنووي 9 \ 331.
(2) قطع المجادلة، المجموع للنووي 9 \ 331.
(3) تنبيه الرقود \ 58، والبحر الرائق 6 \ 219.
(4) تنبيه الرقود \ 62.(40/328)
على قول المالكية المشهور بلزوم المثل مطلقا فقال: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر التغير جدا حتى يصير القابض لها كالقابض ما لا نفع فيه واستدل لرأيه بأن أصحاب القول المشهور قالوا إن الدائن دفع شيئا منتفعا به لأخذ شيء منتفع به فلا يظلم بإعطائه ما لا نفع فيه (1) .
__________
(1) حاشية الرهوني 5 \ 20.(40/329)
تلخيص جملة أقوال الفقهاء السابقة في التغيرات الطارئة على النقود:
الكساد:
ذهب جمهور الفقهاء (الشافعية والمالكية والحنفية) إلى أنه لا يجب في كساد النقود إلا ما اتفق عليه في العقد فترد النقود بعينها وذلك في نقود الذهب والفضة ولا أثر للكساد، أما في النقد الاصطلاحي فالشافعية والراجح عند المالكية أنه لا أثر للكساد أيضا فلا فرق عندهم بين الذهب والفضة وغيرهما. وقال أبو حنيفة بفساد البيع.
وذهب الحنابلة والصاحبان من الحنفية إلى وجوب القيمة وهو القول المرجوح عند المالكية فيرد المدين قيمة النقد الكاسد من النقد الجديد.
ولا اعتراض على قول الجمهور بإيجاب المثل إذا كان النقد الكاسد ذهبا أو فضة لما في الحجرين من القيمة الذاتية.
أما في النقد الاصطلاحي فمن الصعب أن نلزم الدائن أو البائع بقبول النقد الكاسد المتفق عليه في العقد وأولى أن يفسد البيع كما قال أبو حنيفة - رحمه الله - وربما حاول الجمهور بقولهم إرساء مبدأ استقرار التعامل، أو لحسن ظنهم بجهات الإصدار الحكومية التي تحدد مهلة ليتمكن الناس من تبديل ما لديهم من النقد القديم فإذا توفر ذلك فلا يترتب أي محذور ولكن في ظل(40/329)
ظروف معقدة كظروفنا اليوم يبقى القول بإيجاد القيمة أقرب إلى العدل ومنطق التعامل.
الانقطاع:
إذا استثنينا الإمام أبا حنيفة القائل بفساد البيع في حال انقطاع النقد فإن كل الفقهاء الباقين يقولون بالمصير إلى القيمة، وحتى الشافعية وإن قالوا بفساد البيع إلا أنهم يجيزون الاستبدال بالثمن وهو في مضمونه قول بالمصير إلى القيمة.
الرخص والغلاء:
ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الرخص والغلاء لا أثر له على الالتزامات البتة وهو مذهب ما عدا الصاحبين والحنابلة من الفقهاء، فالحنابلة والصاحبان قالوا بوجوب قيمة النقد إذا اعتراه الرخص والغلاء، وهناك قول مرجوح عند المالكية بإيجاب القيمة إذا كان التغير فاحشا، ويبدو أن الحنابلة لا يوجبون القيمة إلا في النقد الخلقي أما النقد الاصطلاحي فلا أثر للرخص والغلاء فيها عندهم وهو ما يحير الباحث، وربما كان فقهاء الحنابلة يرون في بحوثهم ثبات قيمة النقد وإلا فهم يوجبون القيمة في الانقطاع والكساد.
الرأي النهائي لابن عابدين:
يعتبر هذا الفقيه - رحمه الله - عمدة المحققين من المتأخرين، وهو الوحيد الذي سار إلى آخر الشوط في المسألة، وقد عرفنا أن جملة الاجتهاد الحنفي ينحصر في المسائل الثلاث ضمن قولين:
1 - قول الإمام بفساد البيع في الكساد والانقطاع ولا أثر للرخص والغلاء.(40/330)
2 - قول الصاحبين بوجوب القيمة في كل الأحوال إما يوم العقد أو يوم الاستحقاق.
أكد ابن عابدين على لزوم الإفتاء بقول الصاحبين وسار على نهجهما في القول بالقيمة فقال - رحمه الله -: (ثم أعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض النقود الرائجة واختلف الإفتاء فيه وقد استقر الحال الآن على) .
1 - دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينا كمائة ريال أفرنجي.
2 - دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إن لم يعينا نوعا والخيار للدافع كخياره وقت العقد وهو في خياره وقت ظاهر ولكنه الآن ربما يختار أرخص قيمة ليدفعها للبائع فيلحق به الضرر، فإذا وجدت عملة هبطت قرشين وأخرى هبطت قرشا واحدا فيدفع المشتري من الأولى وهذا مما لا شك في منعه. وقد كنت سألت شيخي الذي هو أعلم زمانه (محمد شاكر العمري) (1) فجزم بعدم تخيير المشتري في هذه الحالة لما علمت من الضرر وأنه يفتي بالصلح بحيث لا يكون الضرر على شخص فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، أما في هذه الصورة فلا يسوغ لأنه يختار الأنفع له فيمنع من ذلك لا سيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف فالصلح حينئذ أنفع وأحوط ولا سيما أن المسألة غير منصوص عليها بخصوصها والمنصوص عليه هو الفلوس والدراهم المغشوشة فينبغي
__________
(1) انظر في ترجمته: عقود الآلي في الأسانيد العوالي - ثبت ابن عابدين.(40/331)
النظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصا لا الأقل ولا الأكثر كي لا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري (1) .
والحالة التي رأى فيها ابن عابدين تقدير القيمة في الوسط أتخيلها اليوم كما يلي: إذا ثبت لرجل في ذمة آخر مبلغ من المال من العملة الرسمية وهي ذات عيار ثابت بالنسبة للذهب ثم ارتفعت أو انخفضت فيمكن الأخذ بقوله في المسألة بأخذ المتوسط الحسابي لفرق القيمتين وتوزيع الضرر على طرفي الالتزام.
وقد رأينا السيوطي قد انتهى في مسألة إبل الدية التي هي أصل قياس الفلوس إلى تقويم الفلوس بالذهب أو الفضة يوم الإقرار عند الرافعي ويوم إعوازها عند الروياني، وعزة الفلوس تتناول الرخص والغلاء أيضا ولكنه عندما طبق قاعدته على القرض قرر أن الواجب هو المثل عينا إلا إذا جهل وزنها وعددها فتصير كالقرض الفاسد ولا عبرة بغلائها أو رخصها. واتفق الفقهاء على إيجاب القيمة في بدل الغصب فإن تغير إلى نقص لزمه رد المثل المساوي للمغصوب في القيمة في أعلى أحواله من الغصب إلى التلف ومثله المقبوض في البيع الفاسد فقد عده السيوطي كبدل الغصب فيجب فيه أعلى القيمة (2) .
وبذلك نجد السيوطي يوافق على رد القيمة في بعض الأحيان، وهناك فقيه معاصر هو المرحوم محمد عارف الجويجاتي الذي قال في كتابه: (المعلومات الضرورية في المعاملات الشرعية) - وأما من اشترى شيئا بدراهم غالبة الغش أو بفلوس كالنيكل مثلا وكانت رائجة وقت التعاقد فلم
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 \ 537، وتنبيه الرقود \ 64.
(2) قطع المجادلة للسيوطي \ 96.(40/332)
يدفعها حتى كسدت أو انقطعت عن التعامل أو رخصت أو غلت فعليه قيمتها من الدراهم يوم البيع (1) .
__________
(1) الإسلام والنقود. د. رفيق المصري \ 92.(40/333)
النتيجة:
بعد هذا العرض السريع لآراء الفقهاء يمكنني أن أقول أنه لا مانع من التعويض عن تغير قيمة النقود الاصطلاحية بتقديرها بالذهب، وبالرغم مما قدمت من أن الذهب أيضا يعتريه التغير أحيانا تبعا لكميته في السوق ولكنه تغير نسبي ولما كان لا بد من مقياس تقاس به قيم النقود الاصطلاحية فإنه لا يوجد إلى اليوم ما يقوم مقام الذهب في هذه الوظيفة.
فمن ترتب عليه حق مالي بأي سبب كان ثم تعرض النقد الثابت في ذمته إلى الرخص والغلاء قدرت قيمته يوم وجوبه بالذهب وأدى القيمة إلى الدائن وهو ما قرره ابن عابدين والصاحبان من الحنفية، وقبل المضي في آثار هذا الحكم يجب التنبه إلى أنه لا يتناول تغير القوة الشرائية لرأس مال المضاربة بيد العامل لأن رأس المال هنا ملك لصاحبه ولا يضمن العامل هلاكه فضلا عن تغير قيمته، ويثور هنا السؤال التالي: ألا يترتب على هذه النتيجة الوقوع في الربا؟ .
لقد استقر أخيرا أن النقد الورقي المعاصر جنس مستقل ليس بذهب ولا فضة ولا فلوسا، بل هو نقد اصطلاحي تعارفه الناس فإذا ترتب لشخص في ذمة آخر مبلغ من المال فارتفعت قيمتها أو انخفضت فحكمنا برد المبلغ مقوما بالذهب يوم الأجل فكان المبلغ المحكوم به أكبر من كمية القرض الأول فهل يعد ذلك من التعامل بالربا.(40/333)
لا شك أنه لو أخذ من جنس دينه فهو الربا المحض، ولكن القائلين برد القيمة أوجبوا الرد بتقويم القرض بالذهب ويدفع للدائن من غير جنس دينه.
فإذا كان على شخص مبلغ من النقود ثمنا في الذمة لمبيع مؤجل أو قرضا حسنا لم يشترط فيه زيادة عند العقد وقبل تسليمه تغيرت قيمته سلبيا أو إيجابيا في مقابلة الذهب باعتباره المقياس الوحيد الثابت نسبيا، وباعتبار أن تغير القوة الشرائية للنقود هي الوجه المقابل لتغير قيمتها تجاه الذهب والفضة ولولا افتقارنا إلى مقياس ثابت وهو الذهب وقلنا بثباته نسبيا لما عثرنا على مقياس إلى الأبد فتغير قيمة النقد تجاه الذهب وتغير قوته الشرائية هما وجهان لعملة واحدة. والله أعلم بالصواب.
تصوير المسألة:
عندما يسدد رجل مبلغا من المال إلى دائنه من غير جنس الدين وكان المبلغ المسدد أكبر في القيمة من المبلغ الأصلي بعد التقويم بالذهب أو الفضة فهل هنا عملية ربوية؟ .
وسأحاول إيجاد الجواب عند الفقهاء باعتبار أن العملية صارت عقد صرف حضر فيه أحد العوضين وغاب الآخر الثابت في الذمة وكان حال الأجل. وهذا هو المنطلق إلى إيجاد حكم المسألة عند الفقهاء، فإذا كنت مخطئا في صورة المسألة فأستغفر الله من النسبة للفقهاء ما لم يقولوه. وأسأله سبحانه الثواب على حسن النية والله المستعان.
إننا إذا اعتبرنا النقد الورقي جنسا مستقلا وكان في ذمة رجل مبلغ من المال حل أجله وقد اختلفت قيمته وطلب الدائن إعطاءه قيمة دينه بالذهب فهل هذه العملية ربوية؟ .
وبالطبع فإن الشافعية لا مشكلة لديهم بعد أن قرروا أن علة الربا في(40/334)
النقدين قاصرة لا تتعدى لغيرها ولا يرون في الفلوس وإن راجت ما يوجب القول بربويتها وكذلك النقد الورقي المعاصر باعتباره جنسا مستقلا عن كل النقود الأخرى.
أما الحنفية فقد رأينا الصاحبين منهم يجيزون رد القيمة في الغلاء والرخص والكساد والانقطاع وهما أشد ورعا واحتياطا لدينهما من الوقوع في تجويز صورة ربوية وهم من الجيل الذي قال فيه أحدهم: تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام.
وفي كتب الحنفية مشابهة لمسألتنا قال في المبسوط: (وإذا اشترى ألف درهم بمائة دينار فنقد الدنانير وقال الآخر اجعل الدراهم قصاصا بالدراهم التي لي عليك فهو جائز وإن أبى لم يجبر ولم يكن قصاصا، والحاصل أن المقصة ببدل الصرف بدين سبق وجوبه على عقد الصرف يجوز عندنا استحسانا والقياس ألا يجوز وهو قول زفر (1) .
ولنفصل قليلا مذهب المالكية والحنابلة في هذا الأمر.
رأي المالكية:
قال في المدونة: (قلت أرأيت لو أن لي على رجل دراهم دينا من قرض أو من بيع إلى أجل فأخذت بها منه دنانير نقدا أيجوز هذا في قول مالك أم لا؟ قال: لا يجوز هذا ولا يحل، وهو من بيع الدراهم إلى أجل بالدنانير نقدا، أما لو كانت حالة لم ير به بأسا (2) وهذا يعني أن الدين المترتب على شخص إذا حل أجله يجوز استرداده بقيمته من الذهب. بل وجد في المذهب من قال بجواز التصرف بما في الذمة كالمسكوك والدين الحال فإذا قوم البدل الغائب من
__________
(1) المبسوط 14 \ 19.
(2) المدونة 3 \ 419 دار صادر.(40/335)
المسكوك والدين الحال والمغصوب جاز أن يدفع عنه دراهم (1) وعزا الدسوقي هذه الرواية لمحمد بن المواز الذي روى جواز الصرف بالمرهون أو المودع المسكوك الغائب عن مجلس العقد لحصول المناجزة بالقول (2) ولكن هذه الرواية ضعفها خليل ورجح خلافها، ولكن الشيخ عليش رجح رواية ابن المواز قائلا: (ومفهوم أن صيغ أنه كان مسكوكا أو تبرا ونحوهما مما لا يعرف بعينه فيجوز صرفه غائبا على المشهور، قاله ابن الحاجب لترتب مثله في ذمة غاصبه بمجرد غصبه حالا وصرف ما في الذمة الحال جائز وهذا على أن الدراهم والدنانير لا تتعين بالتعيين (3) .
وقال ابن عبد البر في الكافي: (كما كره صرف الفلوس بالعين الذهب والورق نسيئة فإذا حل الأجل فلا بأس أن يأخذ من الورق الذهب وبالعكس بصرف اليوم وبما شاء ثم لا يفترقان وبينهما عمل فيما تصارفا فيه (4) ولا فرق بين صورتنا التي نحن بصددها وبين هذه الصورة.
وقد لخص ابن رشد جملة الخلاف في نحو مسألتنا فقال: (ومن هذا الباب اختلافهم في الرجل يكون له على الرجل دراهم إلى أجل هل يأخذ فيها إذا حل الأجل ذهبا أو العكس؟ . فذهب مالك إلى جواز ذلك إذا كان القبض قبل الافتراق وهو قول أبي حنيفة وإن لم يحل الأجل. ولم يجز ذلك جماعة من العلماء حل الأجل أو لم يحل وهو قول ابن عباس وابن مسعود وحجة المجيزين حديث ابن عمر عندما كان يبيع الإبل بالبقيع (5) .
__________
(1) الشرح الصغير 4 \ 63.
(2) حاشية الدسوقي 3 \ 31.
(3) منح الجليل 2 \ 511.
(4) الكافي لابن عبد البر 2 \ 643.
(5) بداية المجتهد 2 \ 200.(40/336)
الحنابلة:
نقل ابن قدامة - رحمه الله - أقوالا لا تخرج بمجموعها عما قاله المالكية فقال: (ويجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر ويكون صرفا بعين وذمة في قول أكثر أهل العلم ومنع منه ابن عباس وأبو سلمة ابن عبد الرحمن وابن شبرمة ثم رجح الجواز مستدلا بحديث ابن عمر وهو ما رواه أبو داود في سننه عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: «كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فأتيت رسول - صلى الله عليه وسلم - وهو في بيت حفصة فقلت: يا رسول الله رويدك أسألك - وكرر الحديث، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء (1) » وللحديث روايات متعددة وما ذكرته له رواية عند أبي داود بدون لفظ) (بسعر يومها) .
وقد نقل عن الحنابلة ما هو أصرح من ذلك فقد قال ابن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى (4 \ 474) : ولا يشترط الحلول والتقابض في صرف الفلوس النافقة بأحد النقدين، وهو رواية عن أحمد نقلها أبو منصور واختارها ابن عقيل (2) ونقل أيضا في بيع الفضة بالفلوس النافقة هل يشترط فيها الحلول والتقابض؟ قولان في المسألة، الثاني منهما لا يشترط الحلول والتقابض فإن ذلك معتبر في جنس الذهب والفضة سواء كان ذلك ثمنا أو صرفا لأن الفلوس من باب العروض والثمنية عارضة لها كالشافعية (3) وقال ابن قدامة: (يجوز بيع
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .
(2) نقلا من أحكام النقود في الشريعة الإسلامية، محمد سلامة جبر \ 33.
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 29 \ 459.(40/337)
الدين في الذمة من الغريم وغيره ولا فرق بين دين السلم وغيره، وهو رواية عن أحمد وقاله ابن عباس ولكن بقدر القيمة كي لا يربح فيما لا يضمن (1) ونخلص من هذا أن القول بإرجاع القيمة قيمة ما ثبت في الذمة من نقد اصطلاحي مقدرة بالذهب أو الفضة لا يترتب عليها تعامل ربوي. والله أعلم بالصواب.
النتيجة:
انتهينا حتى الآن من أقوال الفقهاء في جواز الصرف إذا كان أحد البدلين في الذمة وقد حل أجله وبذلك نصل إلى أن شرط التناجز في الصرف متحقق فيما نحن فيه، بقي أن نثبت اختلاف الجنس بين الورق النقدي الرائج في عصرنا وبين النقدين (الذهب والفضة) وهي قضية مسلمة ولكن من المناسب أن نعرض لرأي الفقهاء في الورق المتعامل به اليوم.
__________
(1) السلسبيل في معرفة الدليل 2 \ 466.(40/338)
التكييف الفقهي للورق النقدي:
تنحصر أقوال الفقهاء في نظرتهم للورق النقدي في خمسة أقوال. وقبل عرض هذه الأقوال لا بد من الإشارة إلى أن لكل قول منها سنده الفقهي ومبرر القول به في زمنه.
أولا: قياس هذا الورق على سندات الديون فله حكم الدين باعتبار أن كل ورقة تعتبر دينا على بنك الإصدار وهو ما اعتمده كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) ورأي الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله - في تفسيره وربما نسبه بعضهم لجمهور الفقهاء (1) .
__________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة - بحث الزكاة وأضواء البيان للشنقيطي 8 \ 500.(40/338)
ثانيا: اعتبار الورق النقدي كعروض التجارة وهو مشهور مذهب المالكية كما شرحه محمد علي بن حسين المكي في كتابه (شمس الإشراق في التعامل بالأوراق) واشتهر القول به عن الشيخ عليش في فتاويه (1) .
ثالثا: إلحاق الورق النقدي بالفلوس باعتبار كل منها أعيان طرأت النقدية عليها ولذلك طبق القائلون بهذا القول كل أحكام الفلوس على الورق النقدي بأشكال متفاوتة.
رابعا: اعتبار هذا الورق بديلا عن الذهب أو الفضة ووكيلا عنه، ورجح هذا القول عبد الرحمن البنا - رحمه الله - في الفتح الرباني وهو رأي الشيخ رشيد رضا صاحب المنار (2) وبالرغم من واقعية هذه النظرة إلا أنها تعتمد الغطاء الذهبي للنقد وهو ما تجاوزته النظريات النقدية الحديثة.
خامسا: اعتبار النقد الورقي نقدا مستقلا له أحكامه المستقلة وهو ما اعتمده مجمع الفقه الإسلامي في الفتوى المشهورة له في ذلك (3) . وهذا القول الأخير يتسم بالواقعية في معالجة الأحداث الجديدة.
النتيجة:
أن الورق النقدي الرائج في أيامنا جنس مستقل ويتحقق في مبادلته بالذهب والفضة اختلاف الجنس ولكن هذا الورق الجديد يعرض له بعض الأمراض الجديدة التي لا بد من معرفتها ومعرفة مدى انطباق أمراضه على التغيرات التي ناقشها فقهاؤنا والتي طرأت على النقد في أيامهم، ولنتحدث بإيجاز عن هذه الطوارئ الجديدة، إنها ألفاظ تمر بنا يوميا على صفحات الجرائد؛ التضخم، الانكماش، التعويم.
__________
(1) حاشية الصاوي على الشرح الصغير وبذيله الحاوي 4 \ 42-86، وفتح الإله المالك 1 \ 164.
(2) الفتح الرباني 8 \ 250، ومجلة المنار مجلد 12 \ 909.
(3) مجلة مجمع البحوث الإسلامية، المجلد الأول (رجب - شعبان - رمضان) - 1395.(40/339)
التضخم:
قبل تعريف التضخم أحب أن أنبه أنني لم أجد حادثة تضخم واحدة في تاريخنا عندما كان الذهب والفضة هما النقد المتداول، وإنما ظهر التضخم مرافقا لانتشار التعامل بالفلوس في عصر السيوطي وهو عصر أواخر الأيوبيين والمماليك الذين عرف عصرهم بعصر النحاس لكثرة التعامل به، فما هو التضخم؟ التضخم هو الارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار.
فعندما يكون مصروفك الشهري ألف ريال في الشهر ثم يصبح ألفي ريال بنفس الفترة مستوى المعيشة فهذا يعني أن هناك تضخما نقديا، بمعنى أن القوة الشرائية للنقود انخفضت بنسبة ما اللهم إلا عندما يكون ارتفاع الأسعار ظاهرة صحية حيث ترتفع الأسعار لزيادة كمية النقود بشكل كبير ولكنه يخدم متطلبات التنمية السريعة كما هو الأمر في المملكة العربية السعودية.
إن السبب الرئيسي للتضخم هو طرح كميات من السيولة النقدية في السوق دون أن يقابلها زيادة مقارنة في الإنتاج، وهو ما عرفناه في مطلع البحث، ولا علاج لهذه الحالة إلا بضبط كمية النقود الكلية بشكل يتناسب مع كمية السلع والخدمات الموجودة في السوق.
والناس في ظل التضخم تضيع جهودهم في أعمال غير مجدية كتجارة البناء والعقارات، ويعاد توزيع الثروة عشوائيا، وتهتز قيم العملات لصالح المدينين على حساب الدائنين الذين انخفضت قيمة نقودهم بارتفاع الأسعار. في مثل هذه الحالة قد يستيقظ المرء وإذا بثروته الطائلة قد هبطت(40/340)
إلى النصف أو تبخرت ويكون له ديون على الناس فيؤدون إليه ما لا يعادل المبلغ الذي أداه إليهم فما العمل؟ وقد يحدث العكس وترتفع قيمة العملة وترخص الأسعار فنكون أمام الصورة المقابلة للتضخم إنه الانكماش.
الانكماش: هو تضخم سلعي وقلة كمية النقود أمام وفرة في السوق التي تغص بالسلع والخدمات التي لا تواكبها كمية النقود فتتدهور الأسعار ويحدث البوار والكساد وتنخفض الأسعار إلى أدنى مستوى ممكن بينما ترتفع قدرة النقود الشرائية بصورة خيالية.
التعويم: عندما تعلن دولة عن تعويم عملتها فهذا يعني أنها غير ملزمة قانونا بتحويل هذه إلى عملات أخرى بقيمة محدودة بمعنى أن العملة المعومة ليس لها قيمة رسمية ثابتة تعادلها مع العملات الأخرى، فتعويم العملة يعني وضعها في المزاد العلني حيث يزايد تجار النقد حتى يصلوا إلى سعر يعتقد أنه لا يمكن شراؤها بأقل منه ولا بيعها بأكثر منه والذين يرغبون في شراء النقد المعوم هم الذين يرغبون في شراء السلع والمنتوجات التي يصدرها بلد العملة المعومة (1) .
وقد ظهر نظام التعويم بعد الأزمة النقدية التي مرت بها أمريكا عام 1973م حيث خفضت الدولار بنسبة 10% فلجأت دول السوق الأوربية المشتركة إلى نظام التعويم الأوربي وتركت تحديد سعر العملات إلى مبدأ العرض والطلب دون تدخل للحفاظ على سعر معين للعملات الأخرى، وبقيت دول السوق تحافظ على سعر التحويل فيما بينها وفق نظام النقد
__________
(1) موضوعات اقتصادية معاصرة. د. طلال الجهني صـ 48-49.(40/341)
الدولي المتفق عليه في اتفاقية (بريتون وودز) 1944م، وبارتفاع أسعار النفط من قبل (الأوبك) في أول السبعينيات أصبحت النقود في كل دولة تعكس صحة اقتصادها، وأصبح التعويم هو المبدأ السائد الآن حيث صار سعر تحويل العملات في ظل هذا النظام من أعقد المشكلات الاقتصادية المعاصرة حيث يشكل تذبذب سعر العملة خطرا على التجارة الدولية، ولا يوجد اليوم دولة يثق العالم بنقدها كما كان لبريطانيا في القرن الماضي أو الولايات المتحدة في مطلع الخمسينات (1) .
__________
(1) مقال للدكتور عبد المنعم الطناملي في مجلة العربي الكويتية عدد 180 \ تشرين الثاني 1973م.(40/342)
التكييف الفقهي للعلل الحديثة:
إن التضخم والانكماش أمر لم يشهده الفقهاء في عصورهم السالفة اللهم إلا ما تحدث عنه السيوطي من عزة الفلوس وغلائها في عصره، وهو ما تعرض له المقريزي في ما كتبه عن التاريخ الاقتصادي لفترته في مصر. ولو أن الفقهاء قيدوا مفهوم الرخص والغلاء بنسبته للذهب أو الفضة لما وجدنا أي فارق مؤثر بين مفهوم الرخص والغلاء الفقهي وبين التضخم المالي في مفهومه المعاصر بل هي معان متطابقة وإن اختلفت الأسماء.
وليس صحيحا ما يراه بعض المعاصرين من التمييز بين ديون لا ترتبط بالقوة الشرائية وديون أخرى ترتبط بها؛ لأن القوة الشرائية هي أساس الثمنية في النقود عامة. واستناد التمييز إلى دين النفقة ووجوب مراعاة الأسعار في تقديره أمر غير دقيق لأن النفقة مقدرة أصلا بحاجات سلعية وليست نقدا إلا بعد تقدير الكمية اللازمة من الطعام والشراب والكساء ثم يعبر عنها بنقود تساوي تلك الحوائج بالقيمة الحاضرة ويراعى فيها القوة الشرائية لا لكونها دينا يرتبط بتلك القوة بل لأنها سلع وخدمات لا بد من تأمينها مهما كانت(40/342)
الأسعار (1) . وخلاصة القول أن التضخم والانكماش لا يختلف عن الرخص والغلاء والله أعلم. أما التعويم فيبدو أن آثاره تنعكس على التجارة الدولية والعقود الخارجية الكبيرة، أما العملة المعومة في داخل دولتها فلا شك أنها تحتفظ بقيمة معينة تجاه الذهب والفضة وهي في تغيراتها لا تخرج عن الصور المتقدمة والله أعلم.
القضية في واقعها الحاضر:
إذا انتقلنا للمجال العملي في نطاق التبادل نجد موقفين واضحين، أحدهما موقف القانون وهو كما قال أحد أساتذتنا لا يحقق العدالة بقدر ما يحقق استقرار التعامل أن الاتجاه القانوني يتجاهل كل تغير لقيمة النقود كما رأينا سابقا في مرشد الحيران م 805 وكذلك القانون المدني المصري م 134 حيث يقول: (إذا كان محل الالتزام نقودا التزم المدين بقدر عددها المذكور في العقد دون أن يكون لارتفاع قيمة النقود أو انخفاضها أي أثر) ويعني هذا النص أنه إذا تغيرت قيمة النقود في فترة ما بين نشوء الالتزام والوفاء به فلا يكون لهذا التغيير أي أثر على مقدار محل الالتزام، بمعنى أن المدين لا يلزم إلا بالوفاء بما عين في العقد مهما تغيرت قيمة النقود (2) .
أما الموقف الآخر فقد كان يتبعه الناس في بداية ظهور النقد الورقي حيث كانوا يشترطون مبدأ ربط الدين بقيمته من الذهب وهو ما كان يعرف في حينه بشرط الذهب وقد ألغي هذا الشرط من التعامل بين الناس بقانون (3) في أكثر من دول العالم. ومبدأ ربط الديون هذا كان يشجع على
__________
(1) قطع المجادلة للسيوطي صـ 100.
(2) أحكام الالتزام د. أنور سلطان، دار النهضة العربية \ 51.
(3) انظر: المدخل الفقهي العام للزرقا 1 \ 334.(40/343)
التعامل بالعقود الآجلة كالقروض والبيوع لاطمئنان الناس إلى رد قيمة ديونهم بقيمتها الحاضرة من الذهب وحمايتها من التقلبات الاقتصادية (1) .
__________
(1) الإسلام والنقود. د. رفيق المصري \ 92.(40/344)
نتائج البحث:
أولا: أن رد قيمة النقود الاصطلاحية بما يعادلها من الذهب والفضة يوم البيع أو يوم القضاء أمر يتفق مع مبدأ العدل الذي ينشده الإسلام وهو ليس بقول جديد بل قال به كثير من فقهاء الإسلام كالصاحبين والمالكية في قول لهم وهو ما قرره ابن عابدين - رحمه الله - ولا يصعب إيجاد سند لهذا القول عند أكثر الفقهاء.
ثانيا: أن كل الفروع السابقة مبنية على تقلبات أسعار العملة، والمبدأ الرئيسي عند فقهائنا ثبات قيمتها ولو نسبيا، ولهذا فمن الواجب العمل على تحقيق هذا الثبات والاستقرار في القيمة، وما فكرة الدينار الإسلامي التي طرحتها البنوك الإسلامية كوحدة حسابية بأمر مستحيل التطبيق بل هي فكرة نتمنى أن تنتقل من كونها فكرة حسابية لتصبح وحدة النقد الحقيقية للكتلة الإسلامية وستفرض نفسها فيما بعد كوحدة نقد عالمية يتهافت عليها العالم في معاملاته التجارية.
ثالثا: وإلى أن يتحقق الاستقرار في قيمة الوحدة النقدية وتوحيدها لا مانع من الأخذ بقول الفقهاء القائلين باعتبار القيمة في الرخص والغلاء والانقطاع والكساد استنادا إلى سعر الذهب وإذا اختلفت أسعاره من بلد لآخر فيؤخذ بالمتوسط بشكل لا يؤدي لظلم أحد المتعاقدين وربما أصبحت(40/344)
المهمة أسهل من أي وقت مضى لوجود البنوك الإسلامية التي ستؤدي خدمة كبيرة في مجال المعلومات لمن أراد أن يؤدي ما عليه بشكل يبرأ به أمام الله سبحانه وتعالى.
رابعا: أن غالب الأحكام الفقهية مبنية على أساس التعامل بالنقد الذهبي والفضي، ولهذا فمن واجب المسلمين إعادة هذين النقدين إلى مركز الصدارة في مجال التعامل النقدي وإحياء الدينار الشرعي ولو كوحدة حسابية بشكل مبدئي ليتمكن المسلمون من التطبيق الدقيق لعباداتهم المالية المفروضة عليهم، والله الموفق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والحمد لله أولا وآخرا(40/345)
المراجع
1 - التفسير:
- فتح القدير للشوكاني.
2 - الفقه:
- رد المحتار شرح الدر المختار وهو حاشية ابن عابدين.
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني.
- المبسوط للسرخسي.
- البحر الرائق شرح متن كنز الدقائق - ابن نجيم المصري.
- تبيين الحقائق، للزيلعي.
- العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، لابن عابدين.
- تنبيه الرقود إلى أحكام النقود، لابن عابدين.
- المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه -.
- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ابن عرفة الدسوقي.
- حاشية الصاوي على الشرح الصغير، أحمد الصاوي.
- حاشية الرهوني على مختصر خليل.
- منح الجليل شرح مختصر خليل للشيخ عليش.
- المنتقى شرح الموطأ للباجي.
- شرح الزرقاني للموطأ.
- الكافي أبو عمر ابن عبد البر المالكي.
- حاشية الخرشي على خليل.
- المغني، ابن قدامة المقدسي الحنبلي.
- الكافي، ابن قدامة المقدسي.(40/346)
- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي.
- الروض المربع شرح زاد المستقنع بحاشية للعنقري.
- إعلام الموقعين عن رب العالمين، ابن قيم الجوزية.
- المحرر، للمجد ابن تيمية.
- كشاف القناع عن متن الإقناع للبهوتي.
- المجموع شرح المهذب للنووي.
- حاشية قليوبي وعميرة على منهاج الطالبين.
- نهاية المحتاج في شرح المنهاج للرملي.
- مغني المحتاج في شرح المنهاج للخطيب الشربيني.
- تحفة المحتاج وحاشية الشرواني والعبادي على تحفة المحتاج.
- قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي في كتابه الحاوي.
3 - كتب متفرقة:
- إحياء علوم الدين للغزالي.
- مقدمة ابن خلدون.
- فتوح البلدان للبلاذري.
- الخراج والنظم المالية في الدولة الإسلامية. د. ضياء الدين الريس.
- أحكام النقود في الشريعة الإسلامية، محمد سلامة جبر.
- النقود العربية وعلم النميات للكرمللي.
- الإسلام والنقود. د. رفيق المصري.
4 - كتب اقتصادية:
- النقود والبنوك. د. محمد زكي شافعي.
- النقود والبنوك. د. إسماعيل محمد هاشم.
- موضوعات اقتصادية معاصرة. د. طلال الجهني.(40/347)
- السياسات الاقتصادية في الإسلام. د. محمد عبد المنعم عفر.
- الاقتصاد الإسلامي بين النظرية والتطبيق. د. عبد المنان، تعريب: د. منصور التركي.
5 - وهناك مراجع أخرى أشرت لها في مكانها.(40/348)
الحق في الشريعة الإسلامية
بقلم الأستاذ \ عثمان جمعة ضميرية (1)
تمهيد:
اقتضت حكمة الله تعالى أن يقوم هذا الكون بكل ما فيه على قاعدة الحق والعدل، فخلق الله عز وجل السماوات والأرض بالحق، وأنزل كتبه وبعث رسله بالحق ليقوم الناس بالحق والعدل. فالله سبحانه وتعالى هو الحق، ودينه حق، وغاية شرعه حق.
ولما للحق من مكانة وجدنا علماءنا - رحمهم الله - يتناولون في كتبهم وبحوثهم جوانب مختلفة في دراسة الحق، فعني بذلك علماء التفسير والحديث والفقه، كما عني به علماء أصول الفقه.
وفي هذه الدراسة الموجزة نعرض - بعون الله تعالى وتوفيقه - لمعاني كلمة الحق وإطلاقاتها في التفسير، بعد إلماعة لغوية عنها، ثم نعرض لتعريف علماء الفقه والأصول، وبعدها نوجز أنواع الحق في الشريعة الإسلامية، ثم نبين نشأة الحق وطبيعته.
__________
(1) ورد للكاتب ترجمة في العدد السادس عشر صـ 297.(40/349)
تعريف الحق في اللغة:
* يقول العلامة اللغوي ابن فارس في كتابه " مقاييس اللغة ":
" حق ": الحاء والقاف أصل واحد، وهو يدل على إحكام الشيء وصحته، فالحق نقيض الباطل. ثم يرجع كل فرع إليه بجودة الاستخراج وحسن التلفيق، ويقال: حق الشيء: وجب.(40/349)
قال الكسائي: يقول العرب: " إنك لتعرف الحقة عليك، وتعفي بما لديك ". ويقولون: " لما عرف الحقة مني انكسر ".
ويقال: حاق فلان فلانا؛ إذا ادعى كل واحد منهما، فإذا غلبه على الحق قيل: حقه وأحقه. واحتق الناس في الدين: إذا ادعى كل واحد الحق.
وقال قوم: المحتق: الذي يقتل مكانه. ويقال: ثوب محقق: إذا كان محكم النسج.
والحقة من أولاد الإبل: ما استحق أن يحمل عليه، والجمع: الحقاق، والحاقة: القيامة، لأنها تحق بكل شيء.
والحق: ملتقى كل عظمين إلا الظهر، ولا يكون ذلك إلا صلبا قويا. ومن هذا المعنى: الحق من الخشب، كأنه ملتقى الشيء وطبقه " (1) .
ومن معاني الحق لغة: الثابت الذي لا يسوغ إنكاره، وأصل الحق: المطابقة والموافقة كمطابقة رجل الباب في حقه، لدورانه على استقامة. ويستعمل الحق استعمال الواجب والجائز، كما يطلق على الموجود.
يقال: حق الأمر يحق حقا وحقوقا: صار حقا وثبت. قال الأزهري: معناه: وجب يجب وجوبا. وحق عليه القول وأحققته أنا، أي: أثبته حقا، أو حكمت بكونه حقا. وفي التنزيل: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} (2) أي: ثبت: وقال الزجاج في قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (3) ، أي: وجبت وثبتت.
__________
(1) انظر: معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس: 2 \ 15-18.
(2) سورة القصص الآية 63
(3) سورة الزمر الآية 71(40/350)
وحقه يحقه حقا، وأحقه، كلاهما: أثبته وصار عنده حقا لا يشك فيه. وأحقه: صيره حقا، ويحق عليك أن تفعل كذا: يجب، والحق واحد الحقوق.
وفي مفردات الراغب الأصفهاني (1) : أن الحق يقال على أوجه:
الأول: يقال لموجد الشيء بسب ما تقتضيه الحكمة، ولهذا قيل في الله تعالى: هو الحق. قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} (2) .
الثاني: يقال للموجد بحسب مقتضى الحكمة، ولهذا يقال: فعل الله تعالى كله حق. قال الله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} (3) .
الثالث: في الاعتقاد المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه، كقولنا: اعتقاد فلان في البعث والثواب والجنة والنار حق. قال الله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ} (4) .
الرابع: للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب وبقدر ما يجب وفي الوقت الذي يجب، كقولنا: فعلك حق وقولك حق. قال الله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} (5) .
__________
(1) مفردات القرآن، للراغب الأصفهاني: 1 \ 125.
(2) سورة الأنعام الآية 62
(3) سورة البقرة الآية 147
(4) سورة البقرة الآية 213
(5) سورة يونس الآية 33(40/351)
استعمالات الحق في القرآن الكريم:
بحث علماء التفسير في المفردات القرآنية، ومنهم من خص الأشباه والنظائر في القرآن الكريم بمؤلفات تبحث في الألفاظ التي تستعمل بمعنى واحد والألفاظ المشتركة التي تستعمل في معان متعددة، ومن ذلك كلمة " الحق " مع أن المعاني رغم ما بينها من تنوع تعود إلى أصل واحد.
وفي هذه الفقرة تفسير كلمة " الحق " والوجوه التي تطلق عليها في كتاب الله تعالى، وقد جمعها مقاتل بن سليمان، وأرجعها إلى أحد عشر وجها:
فوجه منها: الحق هو: الله، فذلك قوله تعالى في المشركين: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} (1) ، يقول: لو اتبع الله أهواء المشركين لفسدت السماوات والأرض لفساد أهوائهم.
والوجه الثاني: الحق: القرآن، فذلك قوله في سورة الزخرف: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} (2) {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} (3) .
والوجه الثالث: الحق: يعني الإسلام، فذلك قوله تعالى في بني إسرائيل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} (4) . فالحق: الإسلام، والباطل: الشرك وعبادة الشيطان.
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 71
(2) سورة الزخرف الآية 29
(3) سورة الزخرف الآية 30
(4) سورة الإسراء الآية 81(40/352)
والوجه الرابع: الحق، يعني العدل، فذلك قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} (1) يعني: حسابهم العدل، وقوله: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (2) يعني: العدل المبين.
والوجه الخامس: الحق، يعني: التوحيد، فذلك قوله تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} (3) يعني: جاء بالتوحيد.
والوجه السادس: الحق: يعني الصدق، وذلك كقوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} (4) يعني: صدقا في المرجع إليه سبحانه.
والوجه السابع: حق: يعني وجب، فذلك قوله تعالى في سورة السجدة: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} (5) يعني: وجبت كلمة العذاب مني.
والوجه الثامن: الحق بعينه الذي ليس بباطل، كقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (6) أي: وغيره من الآلهة باطل.
والوجه التاسع: الحق يعني: المال والدين الثابت، كقوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} (7) يعني: المال.
__________
(1) سورة النور الآية 25
(2) سورة النور الآية 25
(3) سورة الصافات الآية 37
(4) سورة يونس الآية 4
(5) سورة السجدة الآية 13
(6) سورة الحج الآية 62
(7) سورة البقرة الآية 282(40/353)
والوجه العاشر: أحق، يعني: أولى، كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ} (1) يعني: أولى، وكقوله تعالى: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) .
والوجه الحادي عشر: حق، يعني حظا، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (3) ، يعني: حظا مفروضا (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 247
(2) سورة الأنعام الآية 81
(3) سورة المعارج الآية 24
(4) انظر: الأشباه والنظائر في القرآن، لمقاتل بن سليمان، تحقيق: د. عبد الله شحاته صـ 175-178.(40/354)
الحق في الفقه الإسلامي:
استعمل علماء الفقه الإسلامي اسم الحق كثيرا، في مواضع مختلفة، وفي معان عديدة متمايزة ذات دلالات مختلفة - على الرغم من انتظامها في معنى عام يجمعها، هو الثبوت والوجوب - ومع كثرة استعمالهم إياه لم يعن أكثرهم ببيان حدوده في مواضع استعمالاته المختلفة، بل اكتفوا بوضوح معناه اللغوي ودلالاته عليه ووفائه بجميع استعمالاته في اللغة والعلوم ومخاطبات الناس، حيث يستعملون كلمة " الحق " مصدرا، ويطلقونها على الوجود في الأعيان مطلقا، وعلى الوجود الدائم، وعلى مطابقة الحكم، وما يشتمل على الحكم للواقع ومطابقة الواقع له.
ويستعمل " الحق " استعمال اسم الفاعل والصفة المشبهة، ويطلق عندئذ على الواجب الوجود لذاته، وعلى كل موجود خارجي، وعلى الحكم المطابق للواقع وعلى الأقوال والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على الحكم(40/354)
المذكور؛ وعلى الوجهين الأخيرين يقابله: الباطل، وعلى الوجه الأول يقابله: البطلان (1) .
وقد جاء في حاشية " قمر الأقمار " في الأصول: " الحق: الموجود، والمراد به هنا حكم يثبت ". والمراد بالحكم في هذا التعريف أن الحق يثبت من قبل الشارع؛ لأن هذا هو مفهوم كلمة " حكم " على لسان الفقهاء. ولذا يمكن القول بأن الحق هو: " الحكم الذي قرره الشارع " (2) .
وعرفه الزيلعي بأنه " ما استحقه الإنسان "، وهذا التعريف ظاهر في أنهم يريدون بالحق: ما استحقه الإنسان على وجه يقره الشرع ويحميه، فيمكنه منه، ويدفع عنه.
وقبل أن نعرض لتعريفات الفقهاء والأصوليين للحق، نلمع إلماعة موجزة إلى ما تطلق عليه كلمة الحق وفيم تستعمل؟ .
__________
(1) انظر: الكليات، لأبي البقاء الكفوي: 2 \ 237-238.
(2) انظر: الفقه الإسلامي د. محمد سلام مد كور صـ 172.(40/355)
استعمالات كلمة " الحق " في الفقه الإسلامي:
بينا - فيما سبق - استعمال علماء اللغة لكلمة " حق " وما تفيده هذه الكلمة، ومن استعمالات اللغويين استمد الفقهاء والأصوليون تعريف الحق.
وهو في استعمال فقهاء الشريعة الإسلامية بمعنى الملك (1) ، وهو شامل لكل أنواعه، فهو أعم من المال، إذ يشمل: الأعيان والمنافع والديون والحقوق المطلقة.
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع للكاسني: 8 \ 4012-4013، مطبعة الإمام بالقاهرة.(40/355)
أما المال: فهو ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره إلى وقت الحاجة، منقولا كان أو غير منقول، فكل ما أمكن حيازته وإحرازه والانتفاع به انتفاعا معتادا، يعتبر مالا عند الفقهاء.
وأما الأعيان: فهي الأشياء المشخصة المعينة، كبيت وكرسي وصبرة حنطة. . . فكلها من الأعيان. وأقول: هذه الدار حقي، وهذا البيت حقي مثلا (1) .
وأما المنافع: فهي ما يستفاد من الأشياء عند استعمالها، فمن يستأجر دارا لسكناه أو ليقيم بها عملا أو مصنعا، فإنه ينتفع بهذه الدار، ومن يستعير كتابا يقرؤه فإنما ينتفع بقراءته، ومن يستأجر دابة أو سيارة أو يستعيرها ليركبهما فإنه ينتفع من هذه السيارة أو الدابة بالركوب. . . فكل هذه الفوائد تسمى بالمنافع، لا شك في هذا، فالمنافع هي كل ما يستفاد من الأشياء بالاستعمال.
وأما الدين: فهو وصف ثابت في الذمة، يثبت به الحق في المطالبة، وقد جاء في مجلة الأحكام العدلية: أن الدين هو ما يثبت في الذمة كمقدار من الدراهم (أو الريالات) في ذمة رجل - ومقدار منها ليس بحاضر، ومقدار معين من الدراهم أو من صبرة حنطة حاضرتين قبل الإفراز.
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية، م159. والصبرة هي: الكومة من الطعام دون كيل أو وزن.(40/356)
وعرفه القابسي في " الحاوي القدسي " بأنه: " عبارة عن مال حكمي يحدث في الذمة ببيع أو استهلاك أو غيرهما " (1) .
وأما الحق المطلق، أو الحق إطلاقا، كما يقال، فهو ما يقابل الأعيان والمنافع المملوكة والديون والأموال. وحينئذ يريدون به المصالح الاعتبارية الشرعية التي لا وجود لها إلا بهذا الاعتبار. كحق الشفعة وحق الخيار وحق الكفاءة في الزواج، وحق المرأة في حبس نفسها عن الزوج حتى تستوفي عاجل صداقها.
والحق بهذا المعنى قد يتعلق بالأموال، كحق الشفعة وحق المرور وحق الشرب، وقد يتعلق بغير المال، كحق الحضانة حق القصاص (2) .
وهم قد يلاحظون المعنى اللغوي فقط، فيقولون: حقوق الدار، ويقصدون بذلك مرافقها، كحق التعلي وحق الشرب وحق المسيل، لأنها ثابتة للدار ولازمة لها، ويقولون: حقوق العقد، ويقصدون بذلك ما يتبع
__________
(1) انظر: الأشباه والنظائر، لابن نجيم صـ 354.
(2) انظر: تاريخ التشريع، عبد العظيم شرف الدين صـ 231، الفقه الإسلامي د. مدكور صـ 173.(40/357)
العقد من التزامات ومطالبات تتصل بتنفيذ حكمه، فعقد البيع حكمه نقل الملكية، وحقوقه تسليم المبيع ودفع الثمن.
وبذا يكون لكلمة " حق " معنى عام وهو المرادف للملك، ومعنى خاص وهو الحق إطلاقا، ومعنى أخص وهو حقوق الارتفاق.
وقد يطلق الحق مجازا على غير الواجب للحض عليه والترغيب في فعله، إلى غير ذلك من الإطلاقات (1) .
__________
(1) الملكية في الشريعة، د. عبد السلام العبادي: 1 \ 93-94. الملكية للخفيف: 1 \ 6.(40/358)
تعريف الحق اصطلاحا:
1 - عرف اللكنوي الحق بأنه حكم يثبت فقال: " الحق: الموجود، والمراد به هنا حكم يثبت ". ولا شك أنه يقصد بقوله: حكم، أن الحق يثبت من قبل الشارع، لأن هذا مفهوم كلمة حكم على لسان الفقهاء، وبذا يمكن القول بأن الحق هو الحكم الذي قرره الشارع.
ويرد على هذا التعريف أنه غير قويم، لأن الحكم في اصطلاح الأصوليين هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييرا أو وضعا. والحق ليس هو الخطاب، وإنما هو أثر الخطاب. وإن أريد بالحكم ما اصطلح عليه الفقهاء، وهو الأثر المترتب على الخطاب، فالتعريف غير مانع، لأن الأثر لا يقتصر على ما جعله الشارع لازما وثابتا، بل يشمل أيضا ما جعله الشارع مباحا، ويشمل أيضا(40/358)
الأحكام الوضعية، وهي ليست حقا لأحد، مع أنها حكم ثابت، فيكون التعريف تعريفا بالأعم.
2 - وعرفه العيني في البناية شرح الهداية بأنه: " ما يستحقه الرجل " (1) . وهذا ظاهر في أنه يريد بالحق ما استحقه الإنسان على وجه يقره الشرع ويحميه فيمكنه منه ويدافع عنه.
ولفظ (ما) في التعريف، عام يشمل الأعيان والمنافع والحقوق المحددة، كما أن الاستحقاق الوارد في التعريف متوقف على تعريف الحق، وهذا يتوقف على معرفة الاستحقاق، فيلزم منه الدور، وهو عيب في التعريف، إلا أنه يجعل الحق قريبا مما هو معروف عند المحدثين من المشتغلين بالقانون الوضعي، مع مراعاة ما بينهما من اختلاف (2) .
3 - وعرفه القاضي حسين المروزي الشافعي بأنه: اختصاص مظهر فيما يقصد له شرعا. وهذا التعريف له وزنه من عدة نواح:
الأولى: أنه عرف الحق بأنه اختصاص، وهو تعريف يبرز ماهية الحق بشكل يميزه عن غيره من الحقائق الشرعية الأخرى.
الثانية: أن وصف هذا الاختصاص بأنه " مظهر فيما يقصد له " يبين أن طبيعة هذا الاختصاص تقوم على وجود آثار وثمار يختص بها صاحب الحق دون غيره في الأشياء التي شرع الحق فيها، وهذه الأشياء قد تكون مادية وقد تكون معنوية.
__________
(1) البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لابن نجيم: 6 \ 148.
(2) نقل هذا التعريف الدكتور العبادي في الملكية: 1 \ 96-97 عن طريق الخلاف للمروزي.(40/359)
الثالثة: أنه يدل على أن فقهاء الشريعة قاموا بتعريف الحق تعريفا صحيحا.
الرابعة: أن الفقه الإسلامي سبق علماء القانون في تعريف الحق بأنه اختصاص وهذا يدل على سمو الفقه الإسلامي وكماله (1) .
من تعريفات المحدثين:
1 - عرفه الدكتور محمد يوسف موسى بأنه: (مصلحة ثابتة للفرد أو المجتمع أو لهما، يقررها الشارع الحكيم) (2) .
2 - وعرفه الشيخ علي الخفيف بأنه: " ما ثبت بإقرار الشارع وأضفى عليه حمايته " (3) .
3 - وعرفه الشيخ مصطفى الزرقا بأنه: " اختصاص يقرر به الشارع سلطة أو تكليفا " (4) .
التعريف المختار:
ويمكن أن نعرف الحق بتعريف لا يرد عليه الاعتراض السابق ويكون جامعا مانعا فنقول: الحق هو " اختصاص ثابت شرعا لتحقيق مصلحة، يقتضي سلطة أو تكليفا ".
فالاختصاص هو جوهر الحق وميزته، وقولنا: ثابت شرعا: إشارة إلى أن مصدر الحق هو الشرع، فحيث أقره الشارع ثبت. وتحقيق المصلحة هي ثمرة الحق وغايته. وأما موضوعه: فهو ما يقتضيه من سلطة أو تكليف.
__________
(1) عن الملكية في الشريعة الإسلامية، د. عبد السلام العبادي: 1 \ 96-97.
(2) الفقه الإسلامي، د. محمد يوسف موسى صـ 210.
(3) الملكية في الشريعة، للخفيف: 1 \ 6.
(4) المدخل إلى نظرية الالتزام صـ 10.(40/360)
أنواع الحق في الشريعة:
كنا ألمحنا - فيما سبق - إلى ما تطلق عليه كلمة الحق وما يشمله هذا اللفظ، وفي الفقرات التالية نريد أن نبين أن الحق ينقسم إلى تقسيمات مختلفة حسب وجهة النظر إليه. وقد اعتنى الفقهاء - رحمهم الله - ببيان الحقوق مفردة، فتكلموا عن حق الشفعة مثلا، وحق الحضانة، وحق التملك. . أما الأصوليون فبحثوا في الحق من حيث صاحبه، فقسموه إلى: حق لله، وحق للعبد، وحق مشترك بينهما.
وفيما يلي أهم تقسيمات وأنواع الحقوق في الشريعة الإسلامية.
أولا: الحقوق المالية وغير المالية:
(أ) الحقوق المالية:
وهي التي تتعلق بالمال وترتبط به، وهي المشار إليها في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك مالا أو حقا فلورثته (1) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في الفرائض، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: '' 07 من ترك مالا فلأهله '' بلفظ: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعلينا قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته. فتح الباري: 12 \، وأخرجه مسلم في الفرائض باب من ترك مالا فلورثته: 3 \ 1237، وأبو داود في الخراج، باب أرزاق الذرية: 4 \ 206 من مختصر السنن للمنذري، وابن ماجة في الصدقات، باب من ترك دينا أو ضياعا: 2 \ 807، والنسائي في الجنائز: 4 \ 66، وابن حبان برقم (1162) من موارد الظمآن، والبغوي في شرح السنة: 8 \ 213، 357، كلهم لم يذكر واللفظ '' حقا '' وذكره ابن قدامة في المغني: 4 \ 483 - باللفظ المذكور أعلاه. وانظر: نصب الراية للزيلعي: 4 \ 58-59، فتح الباري: 12 \ 11، سبل السلام للصغاني: 3 \ 85، إرواء الغليل للألباني: 5 \ 249.(40/361)
وهذه الحقوق كثيرة منها حق ملكية الأعيان أو الديون والمنافع وحق الشفعة وحق الارتفاق وحق الموصى له في قبول الوصية أو ردها بعد موت الموصي، وحق الموصي في الرجوع عن وصيته، وحق الغانم في الغنيمة بعد إحرازها، فالغانم ليس له قبل القسمة ملك حقيقي، ولا يثبت له ملك فيها، إذ أن الملك لا يثبت في الغنائم في دار الحرب للغزاة أصلا، ولكن ينعقد سبب الملك فيها - وفي هذا خلاف بين الفقهاء - وهو تفسير حق الملك أو التملك عند الحنفية. وعند الشافعية يثبت الملك للغانم بعد القسمة إن قبل ما أفرز له أو رضي به، وللغانم التملك قبل القسمة بأن يقول كل منهم: اخترت ملك نصيبي.
وقيل: يملكون قبل القسمة بالاستيلاء، ملكا ضعيفا يسقط بالإعراض، وعند الإمام أحمد: تملك الغنيمة بمجرد الاستيلاء وإزالة أيدي الكفار عنها.
(ب) الحقوق غير المالية:
وهي التي لا تتعلق بالمال ولا ترتبط به، وليس المقصود منها المال، ومن أمثلتها: حق ولي المقتول في القصاص، وحقه في العفو عن القاتل، وحق الحضانة، وحق أحد الزوجين في إجازة النكاح أو رده إذا زوجه فضولي (1) .
__________
(1) الفضولي من لم يكن وليا ولا وصيا ولا أصيلا ولا وكيلا في العقد.(40/362)
ثانيا: الحقوق المجردة والحقوق غير المجردة:
(أ) الحقوق المجردة:
وهي ما كانت غير متقررة في محلها. ومعنى ذلك: أنه لا يترتب على تعلق الحق بمحله أثر قائم يزول بالتنازل عنه، ومرجعه إلى رغبة المالك ومشيئته، إن رأى الخير في الانتفاع به فعل، وإلا ترك، دون أن يترتب على تركه أو التنازل عنه تغير في حكم محله، وذلك كحق الشفعة فإنه في الحقيقة نوع من الولاية للشفيع، وهي أن يتملك العقار بعد أن يتملكه المشتري، وملكية المشتري لهذا العقار قبل التنازل عن الشفعة هي بعينها بعد التنازل عنها. وإذن فلا تعلق له بالمبيع إلا على هذا الوجه، ولا يرى للشفيع فيه حق مستقر يحد من تصرف المشتري فيه وانتفاعه به. فحاله بعد التنازل عن الشفعة هي حاله قبل التنازل عنها.
وكذلك الحال في حق المرور بالنسبة للطريق، وحق الولاية على المال بالنسبة للمال. وهكذا (1) .
والحقوق المجردة لا يجوز الاعتياض عنها، فحق الشفعة لو صالح عنه بمال بطلت الشفعة ورجع به. ولو صالح المخيرة بمال لتختاره، بطل ولا شيء لها، ولو صالح إحدى زوجتيه بمال لتترك نوبتها لم يلزم، ولا شيء عليها.
وكذلك لا تضمن الحقوق المجردة بالإتلاف. فإتلاف مجرد الحق لا يوجب الضمان، لأن الاعتياض عن مجرد الحق باطل، إلا إذا فوت حقا مؤكدا فإنه يلحق بتفويت حقيقة الملك في حق الضمان، كحق المرتهن.
__________
(1) الملكية في الشريعة، علي الخفيف: 1 \ 9.(40/363)
(ب) الحقوق غير المجردة:
وهي الحقوق التي لها تعلق بمحلها تعلق استقرار، وذلك بأن يكون لتعلقها أثر أو حكم قائم في محله يزول بالتنازل عنه، مثل حق القصاص، فإنه يتعلق برقبة القاتل ودمه، ومع قيامه وتعلقه يكون غير معصوم الدم بالنسبة لولي القصاص، وبالتنازل عن القصاص يصير معصوم الدم (1) .
__________
(1) الملكية للخفيف صـ 9.(40/364)
ثالثا: حقوق تقبل الإسقاط وحقوق لا تقبل الإسقاط:
قال ابن نجيم في الأشباه والنظائر: " لو قال الوارث: تركت حقي، لم يبطل حقه، إذ الملك لا يبطل بالترك، والحق يبطل به، حتى لو أن أحدا من الغانمين قال قبل القسمة: تركت حقي، بطل حقه، وكذا لو قال المرتهن: تركت حقي في حبس الرهن بطل حقه " (1) .
وواضح من هذا أن الحق بالمعنى العام الذي يعني الملك لا يقبل الإسقاط، إذ الأعيان لا تقبل الإسقاط، وإلا فإن الحقوق على نوعين منها ما يسقط بالإسقاط ومنها ما لا يسقط به:
(أ) الحقوق التي تقبل الإسقاط:
ظاهر مما تقدم أن كل حق يسقط بالإسقاط، وهو ظاهر ما في الفتاوى الخانية عند الحنفية حيث قال: رجل له مسيل ماء في دار غيره فباع صاحب الدار داره مع المسيل ورضي صاحب المسيل، كان لصاحب المسيل
__________
(1) الأشباه والنظائر، لابن نجيم صـ 316.(40/364)
أن يضرب بذلك في الثمن، وإن كان له حق إجراء الماء دون الرقبة لا شيء له من الثمن ولا سبيل له على المسيل بعد ذلك، كرجل أوصى لرجل بسكنى داره فمات الموصي وباع الوارث الدار ورضي به الموصى له جاز البيع وبطلت سكناه ولو لم يبع صاحب الدار داره، لكن قال صاحب المسيل: أبطلت حقي في المسيل، فإن كان له حق إجراء الماء دون الرقبة، بطل حقه قياسا على حق السكنى، وإن كان له رقبة المسيل لا يبطل ذلك بالإبطال.
ومن الحقوق التي تقبل الإسقاط حق الشفعة (1) ، وحق خيار المجلس، وحق خيار الشرط (2) ، وحق خيار العيب (3) ، وحق الموصى له وحق الوارث قبل القسمة - على خلاف بين الفقهاء - ومنها الدين، يسقط بالإبراء، ومنها حق القصاص يسقط بالعفو، ومنها حق القسم للزوجة يسقط بإسقاطها، وإن كان لها الرجوع في المستقبل.
يقول الشاطبي: " وأما ما كان من حق العبد في نفسه فله فيه الخيرة، فهناك يتمحض حق العبد، فإن شاء استوفاه وإن شاء تركه "، ثم يقول: " وأما
__________
(1) الشفعة هي: حق تملك العقار المبيع، ولو جبرا، على المشتري، بما قام عليه من الثمن والمئون.
(2) خيار الشرط هو: ما يشترط في صلب العقد أو بعده لأحد العاقدين أو كليهما، من إمضاء العقد أو فسخه.
(3) خيار العيب هو: حق المشتري في فسخ العقد إذا ظهر في المبيع عيب ينقص ثمنه عادة.(40/365)
ما هو للعبد فللعبد فيه الاختيار، من حيث جعل الله تعالى له ذلك، لا من جهة أنه مستقل بالاختيار، وقد ظهر بما تقدم آنفا: تخيير العبد فيما هو حقه على الجملة، ويكفيك من ذلك اختياره في أنواع المتناولات من المأكولات والمشروبات والملبوسات وغيرها مما هو حلال له، وفي أنواع البيوع والمعاملات والمطالبات بالحقوق، فله إسقاطها وله الاعتياض عنها والتصرف فيما بيده من غير حجر عليه إذا كان تصرفه على ما ألف من محاسن العادات، وإنما الشأن كله في فهم الفرق بين ما هو حق لله تعالى وما هو حق للعباد " (1) .
(ب) حقوق لا تقبل الإسقاط:
تقدم فيما سبق أن الأصل في الحقوق أنها تقبل الإسقاط، ولكن هناك حقوق أخرى لا تقبل الإسقاط لمانع من الموانع، وقد ذكر ابن نجيم ضابطين لذلك:
أولهما: أن يكون الحق من حقوق الله تعالى، فهذه لا تقبل الإسقاط من العبد، فلو عفا المقذوف ثم عاد وطلب إقامة الحد على القاذف حد القاذف، لكن لا يقام الحد بعد عفوه لفقد الطلب.
ثانيهما: أن يكون الحق فيما ليس بلازم من العقود، فلا يتصف بالإسقاط، كالوكالة والعارية وقبول الوديعة.
ثم ذكر بعد ذلك مسائل وقع الاشتباه فيها، منها: الواقف إذا اشترط
__________
(1) الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحاق الشاطبي: 2 \ 171 وما بعدها.(40/366)
لنفسه شرطا في أصل الوقوف، كشرط الإدخال والإخراج والزيادة والنقصان والاستبدال (1) ، فأسقط حقه من هذا الشرط (2) .
وقد صنف بعض الباحثين الحقوق التي لا تقبل الإسقاط، ووضع لها ضوابط أربعة كالآتي:
(أ) حقوق لا تقبل الإسقاط لأنها لم تجب بعد، مثل إسقاط الزوجة نفقتها المستقبلة التي لم يدخل وقتها، ومثل إسقاط حق خيار الرؤية قبل الرؤية، لأن الحق نفسه لم يوجد عند الإسقاط.
(ب) حقوق لا تسقط لأن الشارع اعتبرها وصفا ذاتيا لصاحبها لازما له، لا ينفك عنه، مثل: إسقاط الأب والجد حقهما في الولاية على الصغير.
(ج) حقوق لا تسقط لأن الإسقاط فيه تغيير للأوضاع الشرعية، مثل إسقاط الواهب حقه في الرجوع عن الهبة، إذ في إسقاطه تغيير لحكم الشرع.
(د) حقوق لا تسقط لأن للغير حقا فيها، مثل إسقاط الحاضنة حقها في الحضانة، ومثل إسقاط المقذوف حقه في حد القذف - على خلاف بين الفقهاء - فإن شيئا من هذا لا يسقط بالإسقاط؛ لأن للصغير المحضون حقا في الحضانة وهو مقدم، ولأن لله تعالى حقا في وجوب الحدود، وحقه تعالى مغلب على حق العبد، فيقدم حق الله تعالى مراعاة للحق الأغلب (3) .
__________
(1) هذه بعض الشروط العشرة في الوقف، وللتفصيل انظر: الوقف من الناحية الفقهية والتطبيقية صـ 48-50.
(2) انظر: الأشباه والنظائر، لابن نجيم صـ 317.
(3) الفقه الإسلامي للدكتور محمد مدكور صـ 176-177، وانظر: الموافقات: 2 \ 315-318.(40/367)
رابعا: حقوق تورث وحقوق لا تورث:
تقسم الحقوق أيضا من وجهة نظر انتقالها إلى الورثة إلى قسمين: فهناك حقوق تنتقل إلى الورثة فتورث، وحقوق لا تنتقل ولا تورث، وفي هذا نجد خلافا بين الفقهاء مثاره حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك مالا أو حقا فلورثته (1) » ، فمن الفقهاء من قال بوراثة الحقوق أخذا من إطلاق الحق في الحديث. ومنهم من نازع في ذلك؛ لأن المراد بالحق في الحديث حق قابل للانتقال، بدليل قوله: فلورثته - على ما مر - وليس كل حق قابلا للانتقال. وقالوا أيضا: إن الثابت في الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: من ترك مالا وأما الزيادة الأخرى أو حقا فلم تثبت، وما لم يثبت لا يتم به الدليل (2) .
ونعرض فيما يلي لأقوال العلماء في بعض الحقوق:
(أ) حقوق اتفقوا على أنها تورث:
كحقوق الارتفاق، سواء كانت تابعة للعقار المرتفق به أم منفردة عنه، فتنتقل إلى ورثة مالكها كما تنتقل الأعيان؛ وذلك لأن الوراثة خلافة قهرية بحكم الشارع وليست تمليكا اختياريا، ولأن الملك بالإرث يقع حكما لا قصدا، ويجوز أن يثبت الشيء حكما وإن كان لا يثبت قصدا (3) .
وكذلك حق الكفالة بالدين، وحق حبس المبيع عن المشتري حتى يستوفي البائع عاجل الثمن، وحق حبس الرهن. فهذه الحقوق تورث لأنها من الحقوق اللازمة المؤكدة.
__________
(1) تقدم تخريج الحديث تفصيلا فيما سبق صـ 12 من هذا الحديث.
(2) الهداية وشروحها: 5 \ 125-126، التركة والميراث د. محمد يوسف موسى صـ 74.
(3) حاشية ابن عابدين على الدر المختار: 6 \ 445.(40/368)
(ب) حقوق اختلفوا في انتقالها إلى الورثة:
كحق خيار المجلس وخيار الرؤية، فقال الحنفية: إنها لا تورث، وخالفهم في ذلك الشافعي وأحمد ومالك، وكحق خيار العيب الذي قال فيه الحنفية: إنه يثبت للورثة ابتداء، بينما قال الجمهور إنها تورث، وكذلك حق خيار الشرط وخيار الشفعة جرى فيهما هذا الخلاف، وحد القذف إذا مات المقذوف.
قاعدة فيما يقوم فيه الورثة مقام مورثهم من الحقوق:
وبحث ابن رجب الحنبلي - رحمه الله - قاعدة فيما يقوم فيه الورثة مقام مورثهم من الحقوق. وهي نوعان: حق له وحق عليه.
فأما النوع الأول: فما كان من حقوق يجب بموته، كالدية والقصاص في النفس، فلا ريب في أن لهم استيفاءه، سواء قلنا: إنه ثابت لهم ابتداء أو منتقل إليهم عن مورثهم، وما كان واجبا له في حياته إن كان قد طالب به أو هو في يده. . ثبت لهم إرثه. وأما إن لم يكن يطالب به: فإن كان من حقوق التملكات والحقوق التي ليست بمالية ففيه قولان. وإن كان حقوق أملاك ثابتة متعلقة بالأملاك الموروثة. . فينتقل إلى الورثة بانتقال الأموال الثابتة المتعلقة بها، بدون المطالبة بخلاف الضرب الأول، وهو حقوق التملكات. وفي ذلك صور من الرهن والكفالة.
وأما النوع الثاني: وهو الحقوق التي على المورث، فإن كانت لازمة قام الوارث مقامه في إيفائها، وإن كانت جائزة: فإن بطلت بالموت فلا(40/369)
كلام فيها، وإن لم تبطل بالموت: فالوارث قائم مقامه في إمضائها وردها. ويتخرج على هذا مسائل، منها: إذا مات وعليه دين أو وصى بوصايا، فللورثة تنفيذها إن لم يعين وصيا (1) .
كما بحث ابن رجب أيضا في تقسيم الحقوق من جهة أخرى إلى خمسة أقسام، أحدها: حق ملك، والثاني: حق تملك، والثالث: حق الانتفاع، والرابع: حق الاختصاص، والخامس: حق التعلق لاستيفاء حق. وضرب أمثلة لكل نوع منها (2) .
__________
(1) انظر: القواعد الكبرى لابن رجب صـ 200-208، 341-344.
(2) انظر: القواعد الكبرى لابن رجب صـ 200-208، 341-344.(40/370)
أنواع الحق باعتبار صاحبه:
وقد عني الأصوليون والفقهاء ببحث الحق وأنواعه باعتبار من يستحق الحق، فقسموه إلى قسمين رئيسيين: وهما حق الله وحق العبد، وأحدهما يشترك مع الآخر ويكون هو المغلب، فيكون لدينا أربعة أقسام وفي هذا يقول السرخسي: اعلم أن جملة ما ثبت بالحجج الشرعية الموجبة للعلم قسمان: الأحكام المشروعة، وما يتعلق بها المشروعات. والأحكام أربعة: حقوق الله خالصا، وحقوق العباد خالصا، وما يشمل على الحقين وحق الله فيه أغلب، وما يشمل عليهما وحق العباد فيه أغلب (1) .
1 - حق الله تعالى خالصا:
وهي ما فهم من الشرع أنه لا خيرة فيها للمكلف، سواء كان الحق له معنى معقول أو غير معقول - أي غير معلوم العلة ولا يثبت بالقياس - وهي ما يتعلق به النفع العام، فلا يختص بالحق فيها أحد، وتنسب هذه الحقوق إلى
__________
(1) انظر: أصول السرخسي: 2 \ 289، شرح تنقيح الفصول للقرافي صـ 97.(40/370)
الله تعالى تعظيما لخطرها وشمول نفعها؛ لأن الله تعالى يتعالى عن أن ينتفع بشيء فلا يجوز أن يكون شيء حقا لله تعالى بهذا الوجه. بل الإضافة إليه لتشريف ما عظم خطره وقوي نفعه وشارع فضله، بأن ينتفع به كافة الناس.
فحقوق الله تعالى هي الحقوق التي تتعلق بواجبات العباد أو الصالح العام للأمة، ولا سيما الحدود التي شرعها الله، لأنه عليها يتوقف كيان المجتمع، وكثير من هذه الحقوق هي التي تسمى اليوم في لغة القوانين الدستورية الحديثة " حقوق الدولة " أو " الحقوق العامة "، وهي هنا في الإسلام على الضد من ذلك تسمى " واجبات على الدولة " و" حقوقا لله تعالى ".
وعرفها ابن تيمية - رحمه الله - بأنها: التي ليست لقوم معينين، بل منفعتها لمطلق المسلمين أو نوع منهم، وكلهم محتاج إليها، وتسمى " حدود الله " أو " حقوق الله "، وهي نوعان: أحدها: الحدود، والثاني: الحقوق المالية (1) .
وجعلها السرخسي ثمانية أنواع - ويمكن ردها إلى النوعين السابقين -: عبادات محضة، وعقوبات محضة، وعقوبة قاصرة، ودائرة بين العبادة والعقوبة، وعبادة فيها معنى المئونة، ومئونة فيها معنى العبادة، ومئونة فيها معنى العقوبة، وما يكون قائما بنفسه، وهذه الأصل فيها التعبد.
__________
(1) السياسة الشرعية، لابن تيمية صـ 57. وانظر: المغني: 9 \ 239، الموافقات: 2 \ 318.(40/371)
2 - حق العبد خالصا:
وما يكون محض حق العباد فهو أكثر من أن يحصى، نحو ضمان الدية وبدل المتلفات، والمغصوب، وما أشبه ذلك مما يتعلق به مصحلة خاصة، ولا يقصد به في الواقع إلا حقوق الامتلاك للأفراد، أو التي تتعلق بالمصلحة الخاصة.
وقد بين الشاطبي - رحمه الله - أن ما هو حق للعباد فيه حق الله، إذ كل حكم شرعي ليس بخال عن حق الله تعالى، وهو جهة التعبد، فإن حق الله تعالى على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وعبادته سبحانه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه بإطلاق. فإن جاء ما ظاهره أنه حق للعبد كالقصاص مجردا، فليس كذلك بإطلاق. بل جاء على تغليب حق العبد في الأحكام الدنيوية، كما أن ما هو حق لله فهو راجع إلى العباد، إذ كل حكم شرعي فيه حق للعباد، إما عاجلا وإما آجلا بناء على أن الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد (1) . ولذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. . . وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا.
ومن هنا كان من الحقوق ما اجتمع فيه الحقان، حق الله وحق العبد، وأحدهما غالب فيه، فيمكن تعريفها بأنها: " ما تجمع بين مصالح عامة ومصالح للأفراد " (2) .
__________
(1) الموافقات: 2 \ 317، 3 \ 347، وانظر: قواعد الأحكام: 1 \ 167.
(2) النظريات السياسية الإسلامية، د. محمد ضياء الدين الريس، صـ 264.(40/372)
3 - ما اجتمع فيه الحقان وحق الله فيه أغلب:
نحو حد القذف عند الحنفية، إذ لا خلاف أن فيه حق الشرع وحق العبد، فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف، وهو الذي ينتفع به على وجه الخصوص، فمن هذا الوجه حق العبد، ثم إنه شرع زاجرا، والقصد من شرع الزواجر كلها إخلاء العالم عن الفساد، وهذا دليل على أنه حق الشرع، إذ لم يختص بهذا إنسان دون غيره.
إلا أن بعض الفقهاء كالشافعيين وأحمد - رحمهما الله - مالا إلى تغليب حق العبد، تقديما لحق العبد باعتبار حاجته وغنى الشرع، والحنفية مالوا إلى تغليب حق الشرع، لأن ما للعبد من الحق يتولاه مولاه، فيصير حق العبد مرعيا به، وليس كذلك عكسه، لأنه لا ولاية للعبد في استيفاء حقوق الشرع إلا نيابة عنه.
وهنا نجد أيضا خلافا بين الفقهاء في تغليب أحد الحقين على الآخر في جملة مسائل تعرف في مظانها من كتب الفقه.(40/373)
4 - ما اجتمع فيه الحقان وحق العبد غلب:
وذلك نحو حق القصاص، فإن فيه حق الله تعالى، ولهذا يسقط بالشبهات، وهي جزاء الفعل، وأجزية الفعل تجب لحق الله تعالى، ولكن لما كان وجوبها بطريق المماثلة عرفنا أن معنى حق العبد راجح فيها وأن وجوبها للجبران بحسب الإمكان، كما وقعت الإشارة إليه في قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 179(40/373)
ولهذا جرى فيه الإرث والعفو والاعتياض بطريق الصلح بالمال كما في حقوق العباد (1) .
__________
(1) أصول السرخسي: 2 \ 279، كشف الأسرار: 4 \ 161، الموافقات: 2 \ 320.(40/374)
منشأ الحق في الشريعة الإسلامية:
الحق في الشريعة الإسلامية منحة من الله تعالى لصاحب الحق، يستند إلى المصادر الشرعية التي يستنبط منها الحكم، فلا يوجد حق شرعي من غير دليل يدل عليه، فالحق في الفقه الإسلامي وليد الشريعة، ولم يكن حقا طبعيا وإنما هو منحة من الله تعالى لعباده. وهو سبحانه يعطي الحقوق مقيدة ولا يعطيها مطلقة، ليمكن الائتلاف بين الحقوق والواجبات وبين مصالح الناس بعضهم مع بعض، فلا تتضارب الحقوق، بل يسير المجتمع على أسس متينة متماسكة (1) .
على أن الأسباب التي تستفاد منها الحقوق ليست مثبتة لها بذواتها، بل بجعل الله تعالى لها مثبتة، ولذا ثبت من المقررات الشرعية أن الأسباب جعلية، أي ليست مؤثرة بذاتها، فعقد البيع مثلا يؤثر في إثبات ملكية
__________
(1) انظر: المشروعية الإسلامية، د. مصطفى وصفي، صـ 33.(40/374)
المبيع للمشتري وملكية الثمن للبائع غير أن العقد ليس بذاته مثبتا لذلك بل بجعل الله تعالى له مثبتا (1) .
يقول الشاطبي - رحمه الله -: " ما هو حق للعبد إنما ثبت كونه حقا له بإثبات الشرع ذلك له، لا بكونه مستحقا له بحكم الأصل " (2) .
ويقول الدبوسي في: " تقويم الأدلة في الأصول ": " فالله تعالى لما خلق الإنسان ليحمل أمانته، أكرمه بالعقل والذمة (التكليف) ، حتى صار بهما أهلا لوجوب الحقوق له وعليه، فثبت له حق العصمة والحرية والملكية، بأن حمل حقوقه وثبت عليه حقوق الله تعالى التي سماها أمانة. . والآدمي لا يخلق إلا وله هذا العهد والذمة، ولا يخلق إلا وهو أهل لوجوب حقوق الشرع عليه كما لا يخلق إلا وهو مالك لحقوقه ".
__________
(1) الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده، د. فتحي الدريني صـ 70-71.
(2) الموافقات في أصول الشريعة: 2 \ 377.(40/375)
طبيعة الحق في الشريعة:
وإذا كان الحق وليد الشريعة وبإقرار من الشارع فإن ذلك يترتب عليه أن الحقوق في الإسلام ليست حقوقا مطلقة، بل هي حقوق مقيدة، وهي تؤدي وظيفة اجتماعية، وليست إطلاقات خاصة لأصحابها، كما أن حرية الإرادة وسلطانها في العقود مقيدتان في الشريعة. وهذه الحقوق مقيد استعمالها بالعدل والإحسان والتكليف، ولذلك فليس الإنسان حرا في أن يستعمل حقوقه كيف يشاء، وإنما هو محوط في ذلك بقيود شديدة ومسئولية جسيمة، وليست الحقوق في الإسلام للتمتع فحسب، بل لإدراك حق الجماعة الإسلامية والمقاصد الشرعية فيها.(40/375)
ويرى بعض العلماء المعاصرين أن فكرة الحق في الشريعة الإسلامية تلتقي مع النظرية الحديثة في " المراكز القانونية العامة " فالملكية في الإسلام - كما هي في القانون الحديث، مركز قانوني عام - لأن الشريعة الإسلامية هي التي أنشأت هذا الحق، ولكن عناصر هذا المركز في الإسلام تغاير نظيرتها في القانون، فبينما نجد عنصر الحق الذاتي والمزايا بارزين في القانون نجد أن عنصر التكليف هو أبرز العناصر في الشريعة الإسلامية، ثم يليه عنصر المزايا الموضوعية. . وهذا من شأنه أن يؤثر في تقييد الملكية في استعمالها بما لا يضر الآخرين في الاستعمال والاستغلال والتصرف.(40/376)
بين الحق والواجب:
وفي بيان تصور حقيقة هذه الفكرة، الحق والواجب، يقول الدكتور محمد ضياء الدين الريس: " والحقيقة العامة التي ينبغي أن تقرر بادئ ذي بدء أنه بينما ترمي القوانين الوضعية إلى أن تجعل قاعدتها الرئيسية في الأحكام فكرة (الحقية) أو (الامتلاك) نرى الشريعة الإسلامية تهدف إلى أن تجعل قاعدتها الأولى فكرة (الوجوبية) والالتزام أكثر مما تجعل فكرة الحقية والاستحواذ. فالإنسان في عرف الشرع لا ينظر إليه أولا على أنه صاحب (حق) ولكن ينظر إليه على أنه متحمل (مسئولية) أو ملزم بأداء واجب. ولذا فالكلمة التي تطلق عليه باعتباره عضوا في مجتمع هي كلمة " مكلف "، فكل فرد في الإسلام هو مكلف، أي مسئول. وعلى الإنسان أن يستشعر أنه مؤتمن أو وكيل على الحقوق فيتصرف فيها تصرف الوكيل، في الحدود التي عينت لوكالته (1) .
__________
(1) انظر: النظريات السياسية الإسلامية، د. محمد ضياء الدين الريس صـ 262-263.(40/376)
وهذه النظرة لن تنفي فكرة الحق، وإنما تضع قيودا عليها لمصلحة الجماعة والفرد، إذ لولا وجود الحق لما وجدت فكرة الواجب، فكل واجب يقابله حق.(40/377)
صفحة فارغة(40/378)
وجوب الصدق والنصح في المعاملات
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى أوجب على المسلمين الصدق والنصح في جميع المعاملات، وحرم عليهم الكذب والغش والخيانة، وما ذاك إلا لما في الصدق والنصح وأداء الأمانة من صلاح أمر المجتمع، والتعاون السليم بين أفراده، والسلامة من ظلم بعضهم لبعض وعدوان بعضهم على بعض، ولما في الغش والخيانة والكذب من فساد أمر المجتمع وظلم بعضه لبعض، وأخذ الأموال بغير حقها، وإيجاد الشحناء والتباغض بين الجميع، ولهذا صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم خرجه مسلم في صحيحه. وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: «بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم (1) » . وفي الصحيحين أيضا عن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (2) » أو قال: «حتى يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (3) » . وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من غشنا فليس منا (4) » . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «مر النبي - صلى الله عليه وسلم - على صبرة من طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ ، قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني (5) » . . فهذه
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1401) ، صحيح مسلم الإيمان (56) ، سنن الترمذي البر والصلة (1925) ، سنن النسائي البيعة (4174) ، مسند أحمد بن حنبل (4/364) ، سنن الدارمي البيوع (2540) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2079) ، صحيح مسلم البيوع (1532) ، سنن الترمذي البيوع (1246) ، سنن النسائي البيوع (4464) ، سنن أبو داود البيوع (3459) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2547) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2079) ، صحيح مسلم البيوع (1532) ، سنن الترمذي البيوع (1246) ، سنن النسائي البيوع (4464) ، سنن أبو داود البيوع (3459) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2547) .
(4) صحيح مسلم الإيمان (101) ، مسند أحمد بن حنبل (2/417) .
(5) صحيح مسلم الإيمان (102) ، سنن الترمذي البيوع (1315) ، مسند أحمد بن حنبل (2/242) .(40/379)
الأحاديث الصحيحة وما جاء في معناها كلها تدل على وجوب النصح والبيان والصدق في المعاملات، وعلى تحريم الكذب والغش والخيانة في ذلك، كما تدل على أن الصدق والنصح من أسباب البركة في المعاملة، وأن الكذب والغش من أسباب محقها، ومن النصح والأمانة بيان العيوب الخفية للمشتري والمستأجر، وبيان حقيقة الثمن والسوم عند الإخبار عنهما. ومن الغش والخيانة الزيادة في السوم أو الثمن ليبذل المشتري أو المستأجر مثل ذلك أو قريبا منه. وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأعطي بها كذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يف، (1) » فالواجب على جميع المسلمين تقوى الله في المعاملة والحذر من أسباب غضب الله وأليم عقابه الذي توعد به أصحاب الغش والخيانة والكذب، كما يجب على الجميع التواصي بالصدق والنصح وتقوى الله في جميع الأمور؛ لأن في ذلك سعادة الدنيا والآخرة وصفاء القلوب وصلاح المجتمع، وفي ذلك أيضا حصول البركة في المعاملة والسلامة من أكل الحرام ومن ظلم المسلم لأخيه.
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، وشبك بين أصابعه (2) » . وقال - عليه الصلاة والسلام -: «مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (3) » .
وأسأل الله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين، ويجمع قلوبهم على التقوى، ويصلح قادتهم، ويمنحهم جميعا الصدق والنصح في جميع الأمور والتعاون على البر والتقوى، إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. . .
__________
(1) أحمد 2 / 253، 480، والبخاري 3 / 76، 160، 8 / 124، ومسلم 1 / 103 برقم (108) ، وأبو داود 3 / 749، 750 برقم (3474، 3575) ، والترمذي 4 / 150-151 برقم (1595) ببعضه، والنسائي 7 / 247 برقم (4462) ، وابن ماجه 2 / 744، 958 برقم (2207، 2870) ، وابن أبي شيبة 6 / 257، وأبو عوانة 1 / 41، وابن حبان 11 / 274 برقم (4908) بنحوه، والبيهقي في (السنن) 5 / 330، 8 / 160، وفي (الأسماء والصفات) 1 / 551 برقم (477) (ت: الحاشدي) ، والبغوي 10 / 142 برقم (2516) (بنحوه) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .(40/380)
حديث شريف
حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس فيما قرئ عليه عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا (1) »
رواه مسلم
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2565) ، سنن الترمذي البر والصلة (2023) ، سنن أبو داود الأدب (4916) ، سنن ابن ماجه الصيام (1740) ، مسند أحمد بن حنبل (2/268) ، موطأ مالك الجامع (1686) .(40/381)
بسم الله الرحمن الرحيم
{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (1) {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (2)
(سورة هود، الآيتان 116، 117)
__________
(1) سورة هود الآية 116
(2) سورة هود الآية 117(41/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(41/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(41/3)
المحتويات
الافتتاحية
ليس الجهاد للدفاع فقط سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث حول استقدام العمالة الأجنبية اللجنة الدائمة 39
الفتاوى
فتاوى اللجنة اللجنة الدائمة 61
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 117(41/4)
البحوث
التصوف في ميزان النقل والعقل د /إبراهيم بن محمد البريكان 139
أحكام الاختلاف في رؤية هلال ذي الحجة تحقيق / د. عبد الله بن عبد العزيز الجبرين 235
الشهادة في سبيل الله (في الكتاب والسنة) د / مسفر بن سعيد دماس الغامدي 283
أصول التصحيح والتضعيف د / عبد الغني بن أحمد جبر مزهر 329
زيارة قبور الأولياء سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 367(41/5)
صفحة فارغة(41/6)
الافتتاحية
[ليس الجهاد للدفاع فقط]
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، ونسأله عز وجل التوفيق لإصابة الحق، إنه على كل شيء قدير.
أما بعد: فلما كان الكثير من كتاب العصر قد التبس عليهم الأمر في أمر الجهاد، وخاض كثير منهم في ذلك بغير علم، وظنوا أن الجهاد إنما شرع للدفاع عن الإسلام، وعن أهل الإسلام، ولم يشرع ليغزو المسلمون أعداءهم في بلادهم، ويطالبوهم بالإسلام ويدعوهم إليه، فإن استجابوا وإلا قاتلوهم على ذلك، حتى تكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر.
لما كان هذا واقعا من بعض الناس، وصدر فيه رسائل وكتابات كثيرة، رأيت أن من المستحسن، بل مما ينبغي أن يكون الكلام في هذا الشأن بعنوان: ليس الجهاد للدفاع فقط، فأقول، والله سبحانه وتعالى هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل: إن الله عز وجل وله الحمد والمنة بعث الرسل وأنزل الكتب لهداية الثقلين من الجن والإنس، ولإخراجهم من الظلمات إلى النور فضلا منه وإحسانا.
وكان الله عز وجل قد فطر العباد على(41/7)
معرفته، وتوحيده، وخلقهم لهذا الأمر، خلقهم ليعبدوه ويطيعوه، ولكنه سبحانه لعلمه بأحوالهم وأن عقولهم لا يمكن أن تستقل بمعرفة تفاصيل عبادته التي ترضيه عز وجل، ولا يمكن أن تستقل بمعرفة الأحكام العادلة التي ينبغي أن يسيروا عليها، ولا يمكن أن تستقل بمعرفة الأخلاق والصفات التي ينبغي أن يتخلقوا بها، أرسل سبحانه وتعالى رسلا مبشرين ومنذرين، ليوجهوا أهل الأرض من المكلفين إلى توحيده سبحانه والإخلاص له، وبيان الأخلاق والأعمال التي ترضيه سبحانه، وليحذروهم من الأعمال والأخلاق التي تغضبه عز وجل، وليرسموا لهم النظم والخطط التي ينبغي أن يسيروا عليها، وأنزل الكتب لإيضاح هذا الأمر وبيانه؛ لأنه سبحانه هو العالم بأحوال عباده، العالم بما يصلحهم، العالم بما فيه سعادتهم العاجلة والآجلة، فهو عالم بأحوالهم الحاضرة، وبأحوالهم الماضية، وبأحوالهم المستقبلة، فلهذا أرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيان حقه والإرشاد إليه، وتوجيه الناس إلى أسباب النجاة وإلى طرق السعادة في المعاش والمعاد، وأنزل الكتب لبيان هذا الأمر العظيم، قال جل وعلا في كتابه المبين: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (1) ، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (2) {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (3) {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (4) {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (5) وقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (6)
__________
(1) سورة البقرة الآية 257
(2) سورة الأحزاب الآية 41
(3) سورة الأحزاب الآية 42
(4) سورة الأحزاب الآية 43
(5) سورة الأحزاب الآية 44
(6) سورة الذاريات الآية 56(41/8)
وقال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) .
وبين الله سبحانه وتعالى أنه هو الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور، وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وبين أن رسله أرسلوا بالبينات، وأنزل معهم سبحانه الكتاب والميزان بالقسط.
والمراد بالكتاب: الكتب السماوية وهي كلامه جل وعلا، وهو الذي لا أصدق منه: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (2) .
والميزان وهو العدل يعني الشرائع المستقيمة، والأحكام العادلة التي تشتمل على أسباب السعادة في الدنيا والآخرة.
هكذا أرسل الرسل، وهكذا أنزل الكتب، أنزل الكتب السماوية التي أشرفها وأعظمها كتاب الله العظيم القرآن، وأنزل قبل ذلك التوراة والإنجيل وكتبا أخرى على أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، فيها الشرائع والأحكام والتوجيه إلى الخير والتحذير من الشر، وكان فيما مضى يرسل سبحانه وتعالى إلى كل قوم رسولا منهم، يوجههم إلى الخير، ويأمرهم بتوحيد الله وينذرهم من الشرك بالله، ويشرع سبحانه لهم الشرائع وهو الحكيم العليم الرحيم جل وعلا، وكل رسول أرسله الله إلى أمة، أرسله بالتوحيد الذي هو زبدة دعوة الرسل كلهم، وأمرهم بحب الله جل وعلا،
__________
(1) سورة الحديد الآية 25
(2) سورة النساء الآية 122(41/9)
والإخلاص له، وتوجيه القلوب إليه سبحانه، وشرع لهم من الشرائع على لسان رسولهم ما يليق بهم، وبمجتمعهم وزمانهم وظروفهم على ما تقتضيه حكمة الرب عز وجل، ورحمته ولطفه جل وعلا، وعلمه بأحوالهم سبحانه وتعالى.
ولما كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة عامة إلى جميع أهل الأرض من جن وإنس، أرسله الله عز وجل بشريعة صالحة لجميع أهل الأرض في زمانه، وبعد زمانه إلى يوم القيامة، عليه الصلاة والسلام.
هكذا اقتضت حكمة الله عز وجل، واجتمعت الرسل على الأصول والأسس عليهم الصلاة والسلام، وتنوعت الشرائع على حسب ظروف الأمم وأحوالهم وبيئاتهم، على ما تقتضيه حكمة الخالق العليم، ورحمته عز وجل، وإحسانه إليهم ولطفه بهم جل وعلا.
أما جنس التوحيد الذي هو أصل الأصول، فقد اجتمعت الرسل عليه، وهكذا بقية الأصول كوجوب الصدق والعدل وتحريم الكذب والظلم والأمر بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والنهي عن ضدها، فهذه الأصول اجتمعت عليها الرسل عليهم الصلاة والسلام كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) ، وقال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) ، وقال عز وجل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (3)
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة النساء الآية 165(41/10)
ومن الأصول الأساسية: الإيمان بالله ورسوله وتوحيده، والإخلاص له، والإيمان باليوم الآخر، وبالجنة والنار، والإيمان بجميع الرسل، وعدم التفريق بينهم، وما أشبه هذه الأصول، هذا كله مما اجتمعت عليه الرسل جميعا، وقد جاءت الكتب الإلهية كلها يصدق بعضها بعضا، ويؤيد بعضها بعضا.
أما جنس الفروع فقد تنوعت بها الشرائع، فقد يباح في شريعة من المسائل الفرعية ما يحرم في الشريعة الأخرى، وقد يحرم في شريعة سابقة ما يباح في شريعة لاحقة، ومن هذا أن الله جل وعلا بعث عيسى عليه الصلاة والسلام بشريعة التوراة مع التخفيف والتيسير لبعض ما فيها، وإخبارهم ببعض ما اختلفوا فيه، وإحلال بعض ما حرم عليهم في التوراة، كل هذا من لطفه وتيسيره جل وعلا، كما قال سبحانه وتعالى لما ذكر التوراة والإنجيل والقرآن، قال بعد هذا كله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (1) ، وهو سبحانه حكيم في شرعه عليم بما يصلح عباده وما يستطيعون، كما أنه حكيم في أقداره سبحانه وتعالى، قال جل وعلا: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) سورة المائدة الآية 45(41/11)
هذا كله في شريعة التوراة، وقد أقره الله لهذه الأمة وبينه لهم مقرا له ومشرعا في هذه الأمة، وجاءت السنة تؤيد ذلك وتبين أن هذا شرع الله لهذه الأمة في النفس والعين والأنف والأذن والسن، كما هو في شريعة الله المعلومة من كتابه سبحانه، ومن سنة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام، ثم قال بعد ذلك: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} (1) ، فدل ذلك على أن هذا الكتاب العظيم وهو الإنجيل، فيه هدى ونور وفيه مواعظ وتوجيهات، ثم قال بعد ذلك: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} (2) ، فدل على أن فيه أحكاما يحكم بها أهل الإنجيل من علماء بني إسرائيل، ومعلوم أن عيسى عليه الصلاة والسلام أرسل بشريعة التوراة، ومع ذلك أرسل بأشياء غير ما في التوراة.
وفي شريعته أيضا تخفيف وتيسير لبعض ما في التوراة، ثم قال بعد هذا: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) ، ثم قال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (4) ، هكذا قال لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام، وأنزل كتابه القرآن بالحق؛ لأن الله أنزله بالحق وللحق، فهو جاء مشتملا على الحق ومؤيدا للحق، وشارعا للحق ومصدقا لما بين يديه من الكتب الماضية، والرسل الماضية فيما جاءوا به.
فكتاب الله العظيم القرآن مصدق للرسل الماضين، ومصدق للكتب الماضية، وشاهد أنها من عند الله عز وجل:
__________
(1) سورة المائدة الآية 46
(2) سورة المائدة الآية 47
(3) سورة المائدة الآية 47
(4) سورة المائدة الآية 48(41/12)
التوراة والإنجيل والزبور وصحف موسى وإبراهيم وغيرها من الكتب التي أنزلها الله على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم بين الله جل وعلا أن لكل منهم شرعة ومنهاجا، فدل ذلك على أن الشرائع التي جاء بها الأنبياء والرسل متنوعة الأسس من الإيمان بالله ورسله والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالجنة والنار، وغير هذا من الأحكام العامة التي توجب العدل والصدق، وتحريم الظلم والكذب ونحو ذلك.
فهذه أصول عامة متبعة، وكان من حكمته عز وجل أن أرسل كل رسول بلسان قومه، حتى يفقههم ويفهمهم ما بعث به إليهم بصورة واضحة، وبيان واضح، ولهذا قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (1) الآية.
ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم من العرب، وكان العرب هم أول الناس يستمعون دعوته، ويواجههم بدعوته، أرسله الله بلسانهم، وإن كان رسولا للجميع عليه الصلاة والسلام ولكن الله أرسله بلسان قومه، وجعل قومه مبلغين ودعاة إلى من وراءهم من الأمم، وأمر الناس جميعا باتباع هذا النبي عليه الصلاة والسلام والسير على منهاجه، فوجب عليهم أن يتبعوه، وأن يعرفوا لغته ولغة كتاب الله العظيم، وهذا النبي العظيم هو محمد عليه الصلاة والسلام بعثه الله رحمة للعالمين جميعا، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) ، فكما أرسل الرسل قبله رحمة لمن أرسلوا إليه ليواجهوهم وليزيلوا عنهم الظلم، والفساد وأحكام الطواغيت، وليحلوا
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 4
(2) سورة الأنبياء الآية 107(41/13)
مكان ذلك النظم الصالحة والأحكام العادلة، وهكذا أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم أيضا، ليقضي على النظم الفاسدة في المجتمع الإنساني، والأخلاق المنحرفة، والظلم والجور، وليحل محلها نظما صالحة، وأحكاما عادلة، فبعثه صلى الله عليه وسلم ربه ليزيل ما في الأرض من الظلم والطغيان، وليقضي على الفساد، وليزيح النظم الفاسدة والطواغيت المستبدة، الذين يتحكمون في الناس بالباطل، ويظلمونهم ويتعدون على حقوقهم، ويستعبدونهم.
فبعث الله هذا النبي عليه الصلاة والسلام، ليزيل هذه النظم الفاسدة، والأخلاق الظالمة، وليقضي على الطغاة المتجبرين والقادة الفاسدين، وليحل محل ذلك قادة مصلحين، ونظما عادلة مستقيمة، وشرائع حكيمة عادلة، توقف الناس عند حدهم، ولا تفرق بين أبيض وأسود، ولا بين أحمر وغيره، ولا بين غني وفقير، ولا بين شريف عند الناس، ووضيع عندهم، بل جعل شريعته لا تفرق بين الناس، بل تواجههم جميعا وتأمرهم وتنهاهم جميعا، وبين الله سبحانه وتعالى أن أكرم الناس عند الله هو أتقاهم كما قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (1) ، ولم يقل لتتفاخروا، أو ليترفع بعضكم على بعض، أو يستعبد بعضكم بعضا، أو يفخر بعضكم على بعض، ولكن قال: {لِتَعَارَفُوا} (2) ثم قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (3) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد (4) » خرجه مسلم في صحيحه.
وقال الله جل وعلا في القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (5) ، فهذا النبي العظيم عليه الصلاة والسلام أرسله الله برسالة عامة
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2) سورة الحجرات الآية 13
(3) سورة الحجرات الآية 13
(4) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2865) ، سنن أبو داود الأدب (4895) ، سنن ابن ماجه الزهد (4179) .
(5) سورة لقمان الآية 18(41/14)
ونظام شامل عام في جميع الشئون العبادية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والحربية وغير ذلك من شئون الناس، فما ترك شيئا إلا وأرشد إلى حكم الله فيه، وقال فيه عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1) وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (2) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (3) ، فبين الله سبحانه وتعالى أن هذا الرسول سراج منير للناس ينير لهم الطريق ويهديهم السبيل إلى ربهم سبحانه، عليه الصلاة والسلام الذي من استقام على دينه نجا وفاز بالخير والعاقبة الحميدة، ومن حاد عنه باء بالخيبة والخسارة والذل والهوان، وقال عز وجل: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (4) {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (5) هكذا قال جل وعلا في هذا النبي العظيم وكتابه المبين.
إن هذا الكتاب وهذا الرسول يخرج الله بهما الناس من الظلمات إلى النور من ظلمات الكفر والجهل والظلم والاستبداد والاستعباد إلى نور التوحيد والإيمان، إلى نور الهدى والعدل، إلى سعة الإسلام بدلا من جور الملوك والطغاة، وبدلا من أحكامهم الظالمة الجائرة، فشريعة الله التي بعث بها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم شريعة كاملة، شريعة فيها الهدى والنور، وفها العدل والحكمة، وفيها إنصاف المظلوم من الظالم، وتوجيه الناس إلى أسباب السعادة، وإلزامهم بالحق والعدل، ومنعهم من الظلم والجور، وربطهم بالأخوة الإيمانية، وأمرهم بالتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق
__________
(1) سورة سبأ الآية 28
(2) سورة الأحزاب الآية 45
(3) سورة الأحزاب الآية 46
(4) سورة المائدة الآية 15
(5) سورة المائدة الآية 16(41/15)
والصبر عليه والتآخي، والنصح من بعضهم لبعض، وفيها تخليصهم من الظلم والجور والبغي والكذب وسائر أنواع الفساد حتى يكونوا جميعا إخوة متحابين في الله متعاونين على البر والتقوى، ينصح كل واحد الآخر، ويؤدي الأمانة، ولا يغش أخاه، ولا يخونه، ولا يكذبه، ولا يحقره، ولا يغتابه، ولا ينم عليه، بل يحب له كل خير ويكره له كل شر، كما قال جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم} (1) وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (2) » وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (3) » .
وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (4) » خرجه مسلم في صحيحه.
وقال سبحانه في كتابه العزيز في عموم الرسالة {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (5) وأخبر سبحانه وتعالى أن هذا الرسول يزكيهم من أخلاقهم الذميمة وأعمالهم المنكرة إلى أخلاق صحيحة، وإلى أعمال مستقيمة قال جل وعلا: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (6) وقال جل وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (7) .
__________
(1) سورة الحجرات الآية 10
(2) صحيح البخاري الإيمان (13) ، صحيح مسلم الإيمان (45) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016) ، سنن ابن ماجه المقدمة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (3/272) ، سنن الدارمي الرقاق (2740) .
(3) صحيح البخاري الزكاة (1401) ، صحيح مسلم الإيمان (56) ، سنن الترمذي البر والصلة (1925) ، سنن النسائي البيعة (4174) ، مسند أحمد بن حنبل (4/357) ، سنن الدارمي البيوع (2540) .
(4) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(5) سورة الأعراف الآية 158
(6) سورة آل عمران الآية 164
(7) سورة التوبة الآية 128(41/16)