تفسير كتاب الله وبيان معناه، والمشتملة على أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومغازيه وغير ذلك، كالصحيحين، والسنن الأربع، وموطأ مالك، ومسند أحمد، وكتب الحديث، فإنها أعظم التراث، وأفضل التراث، وأهم التراث بعد كتاب الله، وإنها الحافظة للسنة، والمبلغة لها وهي الوحي الثاني. فالواجب على أهل الإسلام العناية بها وبأصولها ومخطوطاتها الصحيحة؛ لأنها مرجع يرجع إليها عند الحاجة، عند الاختلاف.(37/14)
ومن أعظم العناية بالتراث، العناية بالمخطوطات الحديثية، والمخطوطات التفسيرية، والمخطوطات الفقهية لأئمة الإسلام المعروفين المحتج بهم والمعمول بأقوالهم، فالعناية بها من أهم العناية، وهكذا كتب اللغة العربية والقواعد العربية، وكتب التاريخ الإسلامي، والسيرة النبوية، كلها تجب العناية بها، حتى تنقل سليمة صافية، سليمة من عبث العابثين وكذب الكذابين، وفد عني علماء الإسلام في ذلك، وبينوا ما أدخله الكذابون في أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وما وضعه الواضعون من الكتب الباطلة، فقد عني أهل العلم بذلك، فعلينا أيضا أن نسير على نهجهم، وعلينا أن نعنى بهذا التراث العظيم ونبين الحق من الباطل ونبين الصالح من الزائف، ونحرص على العناية بالكتب السليمة المفيدة، من كتب الحديث والتفسير والفقه الإسلامي، والقواعد العربية وغيرها من الكتب النافعة، حتى الكتب الأخرى التي تنفع المسلمين في أمور دنياهم والمتلقاة عن(37/14)
أهل الثقة والبصيرة في شئونهم؛ لأن الناس في حاجة إلى أن يعرفوا شئون دنياهم ويستعينوا بها على طاعة الله، وكل شيء ينفع المسلمين ويعينهم على حفظ دينهم، وحفظ كتاب ربهم وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، ويعينهم على الإعداد للأعداء - فهو مهم، ومن التراث الذي يجب أن يحفظ ويعتنى به، والله يقول سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) .
فالكتب التي ألفها الأقدمون من المسلمين أو ألفها غير المسلمين وتنفع المسلمين وتعينهم على الإعداد لعدوهم في شتى العلوم الدنيوية يعتنى بها أيضا إن كانت تنفع المسلمين وتعينهم على إعداد القوة والاجتهاد فيما ينفعهم في دينهم، ويقوي جندهم وجهادهم ضد عدوهم.
ومن أعظم ذلك العناية أيضا بأخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسيرة أصحابه وسيرة أهل العلم حتى يقتدى بهم في الخير؛ لأن العلم المقصود منه العمل، علينا أن نعنى بالسلف الأخيار وعلى رأسهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في أخلاقه وسيرته، وقيامه، وصلاته، وغير ذلك، وسيرة أصحابه وأعمالهم الطيبة وغزواتهم وجهادهم وتعليمهم وإرشادهم وما كانوا عليه من بث العلم، ونشره، وحلقات العلم في المساجد وما كان عليه أهل العلم من النشاط في ذلك، والعناية بذلك حتى يتأسى الآخر بالأول، وحتى يلحق الآخر بالأول، بالعمل الصالح والعلم النافع
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60(37/15)
والسيرة الحميدة، والبلاغ للحق وإيثاره على ما سواه، وكل أمر سلكه الأخيار القدامى مما ينفع المسلمين ويعينهم على تنفيذ أمر الله والوقوف عند حدوده يعتنى به.
أما ما ألصقه الجهلة أو الأعداء بالإسلام فيجب التنبيه عليه حتى يتبين براءة الإسلام منه وحتى لا يلصق بالتراث الإسلامي ما ليس منه، كما فعل الجهلة والمشركون من إحداث الأبنية على القبور، واتخاذ المساجد على القبور، فهذا ليس من شأن الإسلام، والإسلام يحارب هذا، يحارب البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها؛ لأنها من وسائل الشرك كما فعلت اليهود والنصارى، وتابعهم كثير من هذه الأمة: من الجهلة والمبتدعة، حتى بنوا على القبور واتخذوا عليها المساجد والقباب، وحصل الشرك بسبب ذلك، فيجب أن ينبه على أنها ليست من الإسلام، وليست من التراث الإسلامي، ويجب إنكار ذلك والقضاء عليه، وهكذا الصلاة عند القبور والدعاء عندها، وتحري القراءة عندها - من وسائل الشرك، يجب أن ينبه على هذا، ويبين أنها ليست من التراث الإسلامي، بل هي مما أحدثه الجهلة وأنكره الإسلام، وهكذا ما أحدثه بعض الناس من الاحتفال بالموالد، ويزعمون أنه من التراث، وهذا غلط ليس من التراث الإسلامي وإن فعله كثير من المسلمين في أمصار كثيرة جهلا وتقليدا، فالاحتفال بالموالد من البدع المحدثة في الدين بعد القرون المفضلة، وليس من التراث الإسلامي، وهو من التراث المبتدع، وهكذا الاحتفال بجميع الآثار التي يدعو(37/16)
إليها دعاة الشرك، سواء كانت صخرة أو شجرة أو غير ذلك مما يعظمه الجهال أو يتبركون به، كل هذا مما ينافي الإسلام وهو ضد الإسلام.
ولما بلغ عمر - رضي الله عنه - أن أناسا يقصدون الشجرة التي بويع تحتها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويصلون عندها خاف عليهم وأمر بقطعها سدا لذرائع الشرك، ولما بلغه أن جثة في فارس تنسب إلى دانيال نبي الله وأن هناك من يغلو فيها من الأعاجم وبلغه جيشه ذلك، أمر بأن يحفر بالليل بضعة عشر قبرا ثم يدفن في أحدها ثم تسوى ليلا حتى لا يعرف وحتى لا يغلى فيه ولا يعبد. والمقصود أن الغلو في القبور بالبناء عليها والصلاة عندها، والعكوف عليها واتخاذ المساجد عليها ليس من التراث الإسلامي، بل هو من التراث الذي نهى عنه الإسلام وأنكره وحذر منه، وهو من وسائل الشرك، وهكذا فقد توجد أصنام في بعض البلدان أو بعض الدول تنسب إلى الأنبياء أو تنسب إلى الإسلام يجب أن يعلم أنها خطأ وضلال، وأن جميع الأنبياء وجميع الرسل كلهم عليهم الصلاة والسلام دعوا إلى توحيد الله وإلى الإسلام الذي هو إخلاص العبادة لله وحده، وكلهم يحاربون الأصنام، وأولهم نوح عليه الصلاة والسلام، حارب ما يعبد من غير الله ونهى قومه عن ذلك، وحذر من عبادة ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، لما وقع الشرك بهم بسبب الغلو، فيجب التنبه لهذا الأمر، ويجب على طلاب العلم وأهله النهي عن ذلك حتى لا يدخل في(37/17)
الإسلام ما ليس منه، ويجب أن يعرف التراث الإسلامي وأنه ما ثبت بكتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومما شرعه الله لعباده أو أجمع عليه المسلمون هذا هو التراث الإسلامي. أما ما ابتدعه المبتدعون وأحدثه المحدثون من عبادات أو أماكن تعظم أو أشجار وغير ذلك - فهذه لا يجوز أن تنسب إلى الإسلام ويقال إنها تراث إسلامي، بل يبين أنها بدع، وأنه من الواجب الحذر منها كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » متفق على صحته، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » أخرجه مسلم في صحيحه.
والخلاصة أن المقصود من التراث الإسلامي هو ما بعث به نبينا عليه الصلاة والسلام من الهدى ودين الحق والكتب التي ألفت في ذلك، مما ينفعنا والمخطوطات الموجودة في ذلك، وهكذا كل ما نريده ونأخذ به ونستعين به على طاعة الله وعلى الإعداد لأعداء الله، أما ما يخالف ديننا فهو ليس من الإسلام في شيء، بل يجب أن يحارب ويبتعد عنه، ويحذر منه على حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ومن إجماع أهل العلم.
وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يمنحنا وإياكم الفقه في الدين والثبات عليه، وأن يصلح أحوالنا جميعا، وأن يوفق جميع المسلمين في كل مكان للفقه في الدين والثبات
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(37/18)
عليه وأن يولي عليهم خيارهم، ويصلح قادتهم، ويوفق جميع ولاة الأمر من المسلمين إلى الأخذ بشريعته والتحاكم إليها وإنكار ما خالفها، إنه جل وعلا جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(37/19)
صفحة فارغة(37/20)
أنواع البيوع التي يستعملها كثير من الناس
إعداد: اللجنة العلمية للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه، وبعد: -
فبناء على ما جاء في الأمر السامي رقم 30891 في 20 \ 12 \ 1396 هـ من الرغبة في دراسة مجلس هيئة كبار العلماء للمعاملات التي يستغلها بعض التجار في المداينات لحصولهم على مكاسب مالية بطرق ملتوية لا تتفق ومبدأ المعاملات الشرعية في البيع والاقتراض، والنظر فيما إذا كان بالإمكان إيجاد بديل للحد من جشع أمثال هؤلاء واستغلالهم للمحتاجين من الناس، وبناء على ما قرره المجلس في دورته العاشرة من إعداد بحث في هذا الموضوع فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في أنواع من البيوع التي يستعملها كثير من الناس وهي قد تؤدي إلى الوقوع في الربا المحرم وهي: -
- بيع العينة والتورق.
- بيع دين السلم.
- بيع بيعتين في بيعة.
- بيع المضطر.
- بيع الإنسان ما ليس عنده وبيعه ما اشتراه قبل قبضه.
بيان ما يمكن القضاء به على جشع التجار الذين يحتالون بأنواع من البيوع المحرمة على استغلال حاجة المضطرين.
وفيما يلي الكلام على كل منها والله الموفق.(37/21)
- تمهيد -
أولا: الأصل في المعاملات الإباحة حتى يثبت من أدلة الشرع ما يخرجها عن هذا الأصل.
ثانيا: من القواعد الفقهية العامة المتفق عليها أن الأمور تعتبر بمقاصدها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - «إنما الأعمال بالنيات. (1) » . . . . . الحديث، وعلى هذا يجب سد ذرائع الشر والفساد، وإبطال الحيل التي يتوصل بها إلى تحليل المحرمات، وإباحة المنكرات.
ثالثا: الأصل في المعاوضات المالية التقابض، ويجب ذلك فيما إذا كان العوضان ربويين، ولو اختلفا صنفا لحديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد (2) » رواه أحمد ومسلم، غير أن الدليل من القرآن والسنة القولية والعملية قد دل على جواز تأجيل أحد العوضين في الجملة إذا كان الثمن ذهبا أو فضة، وكان الآخر طعاما أو عقارا أو عروضا أخرى أو كان كل من العوضين أو أحدهما غير ربوي، قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (3) الآيتين. وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين فقال: من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم (4) » رواه الجماعة، وعن أنس - رضي الله عنه - قال: «رهن النبي - صلى الله عليه وسلم - درعا عند يهودي بالمدينة وأخذ منه شعيرا وإهالة (5) » رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه، وعن عائشة - رضي الله عنها - «أن النبي
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي البيوع (4561) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(3) سورة البقرة الآية 282
(4) صحيح البخاري السلم (2239) ، صحيح مسلم المساقاة (1604) ، سنن الترمذي البيوع (1311) ، سنن النسائي البيوع (4616) ، سنن أبو داود البيوع (3463) ، سنن ابن ماجه التجارات (2280) ، مسند أحمد بن حنبل (1/217) ، سنن الدارمي البيوع (2583) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2069) ، سنن الترمذي البيوع (1215) ، سنن النسائي البيوع (4610) ، مسند أحمد بن حنبل (3/238) .(37/22)
- صلى الله عليه وسلم - اشترى طعاما من يهودي إلى أجل ورهنه درعا من حديد (1) » وفي لفظ «توفي رسول - صلى الله عليه وسلم - الله ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير (2) » رواهما البخاري ومسلم.
لكن من ضعف في نفسه الوازع الديني، وأصيب بداء الجشع من التجار ومن في حكمهم قد يتبايعون بيوعا صورية، يحاولون بها إحلال ما حرم الله من الربا، وقد ينتهزون فرص الحاجة أو الضرورة فيبيعون بأسعار باهظة إلى أجل أو يشترون بضاعة مؤجلة بثمن بخس منقود إلى غير ذلك مما فيه تحكم الموسر بالمعسر، واستغلال ظروف حاجة الضعفاء والمضطرين فاقتضى ذلك بحث أنواع من عقود البيع لبيان ما يجوز منها وما يمتنع أو تحوم حوله الريبة وتبصير الناس بذلك، وبعث الوعي فيهم، والنصح لهم ثم إيجاد الحلول الناجحة لكف عبث العابثين والقضاء على حيل المحتالين للتلاعب بالشريعة والإضرار بالناس وأكل أموالهم بالباطل. ومن البيوع التي قد يدخلها انتهاز الفرص والاستغلال ويتأتى فيها التمويه والاحتيال بيوع الآجال والعينة والتورق وبيع المسلم فيه وبيع المضطر وبيع بيعتين في بيعة وبيع الإنسان ما ليس عنده وبيع ما اشتراه قبل قبضه، وفيما يلي تحديد معنى كل منها وذكر آراء الفقهاء في حكمه مع التوجيه والمناقشة وبيان ما قد يدخله من احتيال يغير حكمه.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2068) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2916) ، صحيح مسلم المساقاة (1603) ، سنن النسائي البيوع (4650) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (6/42) .(37/23)
(العينة والتورق)
تعريف العينة والتورق لغة وشرعا:
العينة: بكسر العين المهملة ثم ياء تحتية ساكنة ثم نون قال الجوهري: العينة بالكسر السلف، وقال في القاموس: وعين أخذ بالعينة بالكسر أي السلف أو أعطى بها، قال: والتاجر باع سلعته بثمن إلى أجل ثم اشتراها منه بأقل من ذلك الثمن. اهـ.
قال الرافعي: وبيع العينة هو أن يبيع شيئا من غيره بثمن مؤجل ويسلمه إلى المشتري ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر اهـ. قال ابن رسلان في شرح السنن: وسميت هذه المبايعة عينة لحصول النقد لصاحب العينة لأن العين هو المال الحاضر، والمشتري إنما يشتري بها ليبيعها بعين حاضرة، تصل إليه من فوره ليصل بها إلى مقصوده. اهـ. من نيل الأوطار.
وأما التورق فقال صاحب القاموس:
وتورقت الناقة أكلت الورق، وما زلت منك موارقا: قريبا مدانيا، والتجارة مورقة للمال كمجلبة: مكثرة.
ويأتي زيادة بيان لذلك فيما نقل من آراء الفقهاء في الفقرة الثانية إن شاء الله.
آراء الفقهاء في حكم العينة والتورق مع التوجيه والمناقشة:
أ - قال صاحب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (1) في الكلام على ما حرم احتياطا لما فيه من شبهة الربا، لحديث «الحلال بين والحرام بين
__________
(1) ج 7 - 3142، 3143.(37/24)
وبينهما أمور مشتبهات (1) » وحديث «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » .
قال: وعلى هذا يخرج ما إذا باع رجل شيئا نقدا أو نسيئة وقبضه المشتري ولم ينقد ثمنه أنه لا يجوز لبائعه أن يشتريه من مشتريه بأقل من ثمنه الذي باعه منه عندنا، وعند الشافعي - رحمه الله - يجوز.
وجه قوله أن هذا بيع لمستجمع شرائط جوازه، وخلا عن الشروط المفسدة إياه فلا معنى للحكم بفساده كما إذا اشتراه بعد نقد الثمن.
ولنا ما روي أن امرأة جاءت إلى سيدتنا عائشة - رضي الله عنها - وقالت: (إني ابتعت خادما من زيد بن أرقم بثمانمائة ثم بعتها منه بستمائة، فقالت سيدتنا عائشة - رضي الله عنها -: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيدا أن الله تعالى قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب.
ووجه الاستدلال به من وجهين:
أحدهما: أنها ألحقت بزيد وعيدا لا يوقف عليه بالرأي، وهو بطلان الطاعة بما سوى الردة فالظاهر أنها قالته سماعا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يلتحق الوعيد إلا بمباشرة المعصية فدل على فساد البيع لأن البيع الفاسد معصية.
والثاني: أنها - رضي الله عنها - سمت ذلك بيع سوء وشراء سوء، والفاسد هو الذي يوصف بذلك لا الصحيح، ولأن في هذا البيع شبهة بالربا؛ لأن الثمن الثاني يصير قصاصا بالثمن الأول فبقي من الثمن الأول زيادة لا يقابلها عوض في عقد المعاوضة، وهو: تفسير الربا إلا أن الزيادة ثبتت بمجموع العقدين فكان الثابت بأحدهما شبهة والشبهة في هذا الباب ملحقة بالحقيقة، بخلاف ما إذا نقد الثمن لأن المقاصة لا تتحقق بعد الثمن فلا تتمكن الشبهة بالعقد، ولو نقد الثمن كله إلا شيئا قليلا فهو على الخلاف.
ولو اشترى ما باع بمثل ما باع قبل نقد الثمن جاز بالإجماع لانعدام
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .(37/25)
الشبهة وكذا لو اشتراه بأكثر مما باع قبل نقد الثمن، ولأن فساد العقد معدول به عن القياس وإنما عرفناه بالأثر، والأثر جاء في الشراء بأقل من الثمن الأول فبقي ما وراءه على أصل القياس.
هذا إذا اشتراه بجنس الثمن الأول فإن اشتراه بخلاف الجنس جاز؛ لأن الربا لا يتحقق عند اختلاف الجنس إلا في الدراهم والدنانير خاصة استحسانا، والقياس أن لا يجوز (1) لأنهما جنسان مختلفان حقيقة فالتحقا بسائر الأجناس المختلفة.
وجه الاستحسان أنهما في الثمنية كجنس واحد فيتحقق الربا بمجموع العقدين فكان في العقد الثاني شبهة الربا وهي الربا من وجه، ولو تعيب المبيع في يد المشتري فباعه من بائعه بأقل مما باعه جاز؛ لأن نقصان الثمن يكون بمقابلة نقصان العيب فيلتحق النقصان بالعدم، كأنه باعه بمثل ما اشتراه فلا تتحقق شبهة الربا.
- قال صاحب بداية المبتدي علي بن أبي بكر:
ومن اشترى جارية بألف درهم حالة أو نسيئة فقبضها ثم باعها من البائع بخمسمائة قبل أن ينقد الثمن الأول لا يجوز البيع الثاني، وقال الشافعي - رحمه الله -: يجوز لأن الملك قد تم فيها القبض فصار البيع من البائع ومن غيره سواء، وصار كما لو باعه بمثل الثمن الأول أو بالزيادة أو بالعرض.
ولنا قول عائشة - رضي الله عنها - لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعد ما اشترت بثمانمائة: (بئسما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب) . ولأن الثمن لم يدخل في ضمانه فإذا وصل إليه المبيع ووقعت المقاصة بقي له فضل خمسمائة وذلك بلا عوض، بخلاف ما إذا باع بالعرض لأن الفضل إنما
__________
(1) هكذا بالأصل والصواب: والقياس أن يجوز.(37/26)
يظهر عند المجانسة.
وقال ابن الهمام في شرح فتح القدير:
قوله ومن باع جارية بألف درهم حالة أو نسيئة فقبضها ثم باعها من البائع قبل نقد الثمن بمثل الثمن أو أكثر جاز، وإن باعها من البائع بأقل لا يجوز عندنا، وكذا لو اشترى عبده أو مكاتبه ولو اشترى ولده أو والده أو زوجته فكذلك عنده، وعندهما يجوز لتباين الأملاك وكان كما لو اشتراه آخر وهو يقول كل منهم بمنزلة الآخر، ولذا لا تقبل شهادة أحدهما للآخر، ولو اشترى وكيل البائع بأقل من الثمن الأول جاز عنده خلافا لهما لأن تصرف الوكيل عنده يقع لنفسه، فلذا يجوز للمسلم أن يوكل ذميا بشراء خمر وبيعها عنده، ولكن ينتقل الملك إلى الموكل حكما فكان كما لو اشترى لنفسه فمات فورثه البائع، وعندهما عقد الوكيل كعقده، ولو اشتراه وارثه يجوز في ظاهر الرواية عنهم، وعند أبي يوسف لا يجوز، ولو باعه المشتري من رجل أو وهبه ثم اشتراه البائع من ذلك الرجل يجوز لاختلاف الأسباب بلا شبهة، وبه تختلف المسببات وبقولنا قال مالك وأحمد، وقيد بقوله قبل نقد الثمن لأن ما بعده يجوز بالإجماع بأقل من الثمن وكذا لو باعه بعرض قيمته أقل من الثمن، وقال الشافعي - رحمه الله -: يجوز كيفما كان كما لو باعه من غير البائع بأقل من الثمن أو منه بمثل الثمن الأول أو أكثر، وبعرض قيمته أقل من الثمن بجامع قيام الملك فيه لأنه هو المطلق في الأصول التي عينها وتقييده بالعرض دون أن يقول كما لو باعه بخلاف جنسه وقيمته أقل، لأن هـ لو باعه بذهب قيمته أقل من دراهم الثمن لا يجوز عندنا استحسانا خلافا لزفر، وقياسه على العرض بجامع أنه خلاف جنسه فإن الذهب جنس آخر بالنسبة إلى الدراهم. وجه الاستحسان أنهما جنس واحد من حيث كونهما ثمنا ومن حيث وجب ضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة، فبطل البيع احتياطا وألزم أن اعتبارهما جنسا واحدا يوجب التفاضل بينهما احتياطا والجواب أنه(37/27)
مقتضى الوجه ذلك ولكن في التفاضل عند بيع أحدهما بعين الآخر إجماع (ولنا قول عائشة) إلى آخر ما نقله المصنف عن عائشة يفيد أن المرأة هي التي باعت زيدا بعد أن اشترت منه وحصل له الربح لأن شريت معناه بعت قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (1) أي باعوه وهو رواية أبي حنيفة فإنه روى في مسنده عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأة أبي السفر أن امرأة قالت لعائشة - رضي الله عنها -: إن زيد بن أرقم باعني جارية بثمانمائة درهم ثم اشتراها مني بستمائة، فقالت: (أبلغيه عني أن الله أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب) ففي هذا أن الذي باع زيد ثم استرد وحصل الربح له، ولكن رواية غير أبي حنيفة من أئمة الحديث عكسه.
روى الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم، فقالت أم ولد زيد لعائشة: إني بعت من زيد غلاما بثمانمائة درهم نسيئة واشتريته بستمائة نقدا، فقالت: أبلغي زيدا أن قد أبطلت جهادك مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن تتوب بئس ما اشتريت، وبئس ما شريت. وهذا فيه أن الذي حصل له الربح هي المرأة، قال ابن عبد الهادي في التنقيح: هذا إسناد جيد وإن كان الشافعي قال: لا يثبت مثله عن عائشة، وقول الدارقطني في العالية هي مجهولة لا يحتج بها فيه نظر، فقد خالفه غير واحد ولولا أن عند أم المؤمنين علما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد. وقال غيره: هذا مما لا يدرك بالرأي، والمراد بالعالية امرأة أبي إسحاق السبيعي التي ذكر أنها دخلت مع أم الولد على عائشة، قال ابن الجوزي: قالوا: إن العالية امرأة مجهولة لا يحتج بنقل خبرها، قلنا هي امرأة جليلة القدر ذكرها ابن سعد في الطبقات فقال العالية بنت أنفع بن شراحيل امرأة ابن إسحاق السبيعي سمعت من عائشة، وقولها بئس ما
__________
(1) سورة يوسف الآية 20(37/28)
شريت: أي بعت، قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (1) أي باعوه. وإنما ذمت العقد الأول لأنه وسيلة، وذمت الثاني لأن المقصود الفساد.
وروى هذا الحديث على هذا النحو عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر والثوري عن أبي إسحاق عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة فسألتها امرأة فقالت: كانت لي جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة إلى العطاء ثم ابتعتها منه بستمائة، فنقدته الستمائة وكتب لي عليه بثمانمائة فقالت عائشة: إلى قولها (إلا أن تتوب) ، وزاد: فقالت المرأة لعائشة: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل؟ فقالت {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (2) لا يقال: إن قول عائشة وردها لجهالة الأجل وهو البيع إلى العطاء، فإن عائشة كانت ترى جواز الأجل إلى العطاء ذكره في الأسرار وغيره، والذي عقل من معنى النهي أنه استربح ما ليس في ضمانه، «ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن (3) » ، وهذا لأن الثمن لا يدخل في ضمانه قبل القبض، فإذا عاد إليه الملك الذي زال عنه بعينه وبقي له بعض الثمن فهو ربح حصل لا على ضمانه من جهة من باعه، وهذا لا يوجد فيما إذا اشتراه بمثل الثمن أو أكثر فبطل إلحاق الشافعي بذلك، بخلاف ما لو باعه المشتري من غير البائع فاشتراه البائع منه؛ لأن اختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأعيان حكما، وكذا لو دخل في المبيع عيب فاشتراه البائع بأقل لأن الملك لم يعد إليه بالصفة التي خرج فلا يتحقق ربح ما لم يضمن، بل يجعل النقصان بمقابلة الجزء الذي احتبس عند المشتري سواء كان ذلك النقصان بقدر ذلك العيب أو دونه. حتى لو كان النقصان نقصان سعر فهو غير معتبر في العقود؛ لأنه فتور في رغبات الناس فيه ليس من فوات جزء من العين؛ ولذلك إذا اشتراه بجنس آخر غير الثمن جاز؛ لأن الربح لا يتحقق عينه مع اختلاف الجنس لأن الفضل إنما يظهر بالتقويم، والبيع لا يعقب ذلك بخلافه بجنس الثمن الأول لظهوره بلا تقويم، وقد أورد عليه تجويز كون إنكار عائشة لوقوع
__________
(1) سورة يوسف الآية 20
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .(37/29)
البيع الثاني قبل قبض المبيع؛ إذ القبض لم يذكر في الحديث، قلنا: لا يصح هذا لأنها ذمته لأجل الربا بقرينة تلاوة آية الربا وليس في بيع المبيع قبل القبض ربا، ولا يخفى ضعف هذا الجواب؛ لأن تلاوة الآية ظاهر في كونها لاشتمالها على قبول التوبة جوابا لقول المرأة: أرأيت إن أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل، كان هذا مع التوبة فتلت آية ظاهرة في قبول التوبة وإن كان سوقها في القرآن في الربا. وأورد عليه طلب الفرق بين النهي عن بيع الولد الكائن مع أمه مفردا لم يوجب الفساد فلما أوجبه هذا النهي أجيب بأن النهي إذا كان لأمر يرجع إلى نفس البيع أوجبه وإن كان لأمر خارج لا، والنهي فيما ذكر للتفريق لا لنفس البيع، حتى لو فرق بينهما بغير البيع أثم، فيكره البيع في نفسه كالبيع وقت النداء وهنا هو لشبهة الربا وهو مخصوص بالبيع، ولشبهة الربا حكم حقيقة.
قال صاحب مواهب الجليل لشرح مختصر خليل الحطاب:
(فصل) جاز لمطلوب منه سلعة أن يشريها ليبيعها بمال (ش) لما فرغ - رحمه الله - من الكلام على بيوع الآجال التي لا تخص أحدا أعقبها ببيع أهل العينة لاتهام بعض الناس فيها، وهذا الفصل يعرف عند أصحابنا ببيع أهل العينة، والعينة بكسر العين وهو فعلة من العون؛ لأن البائع يستعين بالمشتري على تحصيل مقاصده، وقيل من العناء وهو تجشم المشقة، وقال عياض في كتاب الصرف: سميت بذلك لحصول العين وهو النقد لبائعها وقد باعها لتأخير. وقال قبله: هو أن يبيع الرجل الرجل السلعة بثمن معلوم إلى أجل ثم يشتريها منه بأقل من ذلك الثمن أو يشريها بحضرته من أجنبي ليبيعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراها به إلى أجل، ثم يبيعها هذا المشتري الأخير من البائع الأول نقدا بأقل مما اشتراها به، وخفف هذا الوجه بعضهم ورآه أخف من الأول، وقال ابن عرفة: بيع أهل العينة هو البيع المتحيل به على دفع عين في أكثر منها. اهـ.
وقسم ابن رشد (في رسم حلف أن لا يبيع من سماع ابن القاسم من كتاب السلم(37/30)
والآجال، أو في سماع سحنون من كتاب البضائع والوكالات، وفي كتاب بيوع الآجال من المقدمات) العينة إلى ثلاثة أقسام جائز ومكروه وممنوع، وجعلها صاحب التنبيهات في كتاب الصرف أربعة أقسام وزاد وجها رابعا مختلفا فيه، وتبعهم المصنف فأشار إلى الجائز بقوله: جاز لمطلوب منه سلعة أن يشتريها ليبيعها بمال. وفي بعض النسخ بنماء أي بزيادة، وهو أحسن، فإن هذا هو المقصود من العينة، قال في المقدمات: الجائز أن يمر الرجل بالرجل من أهل العينة، وقال في كتاب السلم والآجال: من البيان أن يأتي الرجل إلى الرجل منهم يعني من أهل العينة، فيقول: هل عندك سلعة كذا وكذا وكذا أبتاعها منك. وفي البيان تبيعها مني بدين. فيقول: لا. فينقلب عنه على غير مراوضة ولا مواعدة فيشري المسئول تلك السلعة التي سأله عنها ثم يلقاه فيخبره أنه اشترى السلعة التي سأله عنها فيبيعها منه، قال في المقدمات: بما شاء من نقد أو نسيئة، وقال في كتاب البضائع والوكالات: فبيع ذلك منه بدين، وقال في التنبيهات: الجائز لمن لم يتواعدا على شيء ولا يتراوض مع المشتري كالرجل يقول للرجل أعندك سلعة كذا؟ فيقول: لا. فينقلب على غير مواعدة ويشتريها، ثم يلقاه صاحبه فيقول: تلك السلعة عندي. فهذا جائز أن يبيعها منه بما شاء من نقد وكالئ ونحوه لمطرف. قال ابن حبيب: ما لم يكن تعريض أو مواعدة أو عادة، قال: وكذلك ما اشتراه الرجل لنفسه يعده لمن يشريه منه بنقد أو كالئ ولا يواعد في ذلك أحدا يشتريه منه ولا يبيعه له، وكذلك الرجل يشتري السلعة لحاجة ثم يبدو له فيبيعها أو يبيع دار سكناه ثم تشق عليه النقلة منها فيشتريها أو الجارية ثم تتبعها نفسه، فهؤلاء إما استقالوا أو زادوا في الثمن فلا بأس به، وذكر ابن مزين لو: كان مشتري السلعة يريد بيعها ساعتئذ فلا خير فيه ولا ينظر إلى البائع كان من أهل العينة أم لا، قال: فيلحق هذا الوجه بهذه الصورة على قوله بالمكروه. اهـ. فيكون على ما ذكره عياض هذا الوجه مختلفا فيه والمشهور أنه جائز وقول ابن مزين أنه(37/31)
مكروه، ولم يحك ابن رشد في جوازه خلافا، وأشار المصنف إلى الوجه الرابع المختلف فيه الذي زاده عياض بقوله ولو بمؤجل بعضه، قال في التنبيهات: والرابع المختلف فيه ما اشتري ليباع بثمن بعضه مؤجل وبعضه معجل فظاهر مسائل الكتاب والأمهات جوازه وفي العتبية كراهته لأهل العينة، لكن قال ابن غازي: ظاهر كلام المصنف أن هذا مفرع على مسألة المطلوب منه سلعة كما يوهمه لفظ عياض ثم ذكره، ثم قال فقد يسبق للوهم أن قوله بثمن يتعلق بقوله ليباع وليس ذلك بمراد، بل هو متعلق باشتري وفي الكلام تقديم وتأخير وتقديره ما اشتري بثمن مؤجل وبعضه معجل ليباع، فهي إذا مسألة أخرى غير مفرعة على مسألة المطلوب منه سلعة، وذكر من كلام صاحب التنبيهات ما يدل على ذلك ثم ذكر عن البيان نحو ذلك ثم قال: فإن قلت لعل المصنف إنما فرعها على مسألة المطلوب منه سلعة تنبيها على أن المختار عنده من الخلاف الجواز، وإن تركبت المسألة من الوصفين فتكون غير المركبة أحرى بالجواز، قلت: هذا أبعد ما يكون من التأويل ولكن يقربه الظن الجميل ويتقي العهدة في التزام جواز المركبة. اهـ. (قلت) وقد يتلمح الجواز من قول ابن رشد فيبيعها بما شاء من نقد أو نسيئة ونحوه لعياض كما تقدم (1) .
جـ - قال النووي في روضة الطالبين:
ليس من المناهي بيع العينة بكسر العين المهملة وبعد الياء نون وهو أن يبيع غيره شيئا بثمن مؤجل، ويسلمه إليه، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بأقل من ذلك الثمن نقدا، وكذا يجوز أن يبيع بثمن نقدا ويشتري بأكثر منه إلى أجل، سواء قبض الثمن الأول أم لا، وسواء صارت العينة عادة له غالبة في البلد أم لا، هذا هو الصحيح المعروف في كتب الأصحاب، وأفتى الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني، والشيخ أبو
__________
(1) ص 404، 405، ج 4.(37/32)
محمد: بأنه إذا صار عادة له، صار البيع الثاني كالمشروط في الأول، فيبطلا جميعا. اهـ (1) قال إسماعيل بن يحيى المزني الشافعي في المختصر المطبوع مع الأم: (2) .
(باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل ثم يشتريه بأقل من الثمن) قال الشافعي: ولا بأس بأن يبيع الرجل السلعة إلى أجل ويشتريها من المشتري بأقل بنقد وعرض وإلى أجل، قال بعض الناس إن امرأة أتت عائشة فسألتها عن بيع باعته من زيد بن أرقم بكذا وكذا إلى العطاء، ثم اشترته منه بأقل فقالت عائشة: بئسما اشتريت وبئسما ابتعت، أخبري زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب (قال الشافعي) وهو مجمل ولو كان هذا ثابتا فقد تكون عائشة عابت البيع إلى العطاء لأنه أجل غير معلوم وزيد، ونحن لا نثبت مثل هذا على عائشة، وإذا كانت هذه السلعة كسائر مالي لم لا أبيع ملكي بما شئت وشاء المشتري.
د - قال ابن قدامة في المغني (3) .
__________
(1) ج 3 ص 416.
(2) ج 2 ص 201.
(3) ص 174 - 178، ج 4.(37/33)
(مسألة قال: ومن باع سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به) وجملة ذلك: أن من باع سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بأقل منه نقدا لم يجز في قول أكثر أهل العلم، روي ذلك عن ابن عباس وعائشة والحسن وابن سيرين والشعبي والنخعي، وبه قال أبو الزناد وربيعة وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري والأوزاعي ومالك وإسحاق وأصحاب الرأي وأجازه الشافعي، لأنه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها فجاز من بائعها. كما لو باعها بمثل ثمنها.
ولنا: ما روى غندر عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته العالية بنت أيفع بن شرحبيل أنها قالت: (دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم وامرأته على عائشة - رضي الله عنها - فقالت أم ولد زيد بن أرقم: إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشتريته منه(37/33)
بستمائة درهم فقالت لها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن يتوب) رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور، والظاهر: أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتقدم عليه إلا بتوقيف سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجرى مجرى روايتها ذلك عنه، ولأن ذلك ذريعة إلى الربا فإنه يدخل السلعة ليستبيح بيع ألف بخمسمائة إلى أجل معلوم، وكذلك روي عن ابن عباس في مثل هذه المسألة أنه قال: (أرى مائة بخمسين بينهما حريرة) يعني خرقة حرير جعلاها في بيعها، والذرائع معتبرة لما قدمناه، فأما بيعها بمثل الثمن أو أكثر فيجوز، لأنه لا يكون ذريعة، وهذا إذا كانت السلعة لم تنقص عن حالة البيع، فإن نقصت مثل إن هزل العبد أو نسي صناعة أو تخرق الثوب أو بلي جاز له شراؤها بما شاء، لأن نقص الثمن لنقص المبيع لا للتوسل إلى الربا، وإن نقص سعرها أو زاد لذلك أو لمعنى حدث فيها لم يجز بيعها بأقل من ثمنها كما لو كانت بحالها نص أحمد على هذا كله.
(فصل) وإن اشتراها بعرض أو كان بيعها الأول بعرض فاشتراها بنقد جاز، وبه قال أبو حنيفة ولا نعلم فيه خلافا، لأن التحريم إنما كان لشبهة الربا، ولا ربا بين الأثمان والعروض، فأما إن باعها بنقد ثم اشتراها بنقد آخر مثل أن يبيعها بمائتي درهم ثم اشتراها بعشر دنانير فقال أصحابنا يجوز لأنهما جنسان لا يحرم التفاضل بينها، فجاز كما لو اشتراها بعرض أو بمثل الثمن، وقال أبو حنيفة: (لا يجوز استحسانا) . لأنهما كالشيء الواحد في معنى الثمنية، ولأن ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا فأشبه ما لو باعها بجنس الثمن الأول وهذا أصح إن شاء الله تعالى.
(فصل) وهذه المسألة تسمى مسألة العينة. قال الشاعر:
أندان أم نعتان أم ينبري لنا ... فتى مثل نصل السيف ميزت مضاربه
فقوله " نعتان " أي نشتري عينة مثل ما وصفنا، وقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا تبايعتم بالعينة(37/34)
وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (1) » وهذا وعيد يدل على التحريم. وقد روى عن أحمد أنه قال: العينة أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باعه بنقد ونسيئة فلا بأس وقال: (أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة لا يبيع بنقد) ، وقال ابن عقيل إنما كره النسيئة لمضارعتها الربا، فإن الغالب أن البائع بنسيئة يقصد الزيادة بالأجل ويجوز أن تكون العينة اسما لهذه المسألة وللبيع بنسيئة جميعا. لكن البيع بنسيئة ليس بمحرم اتفاقا. ولا يكره إلا أن لا يكون له تجارة وغيره.
(فصل) وإن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة، فقال أحمد في رواية حرب: لا يجوز ذلك إلا أن يغير السلعة، لأن ذلك يتخذه وسيلة إلى الربا، فأشبه مسألة العينة، فإن اشتراها بنقد آخر أو بسلعة أخرى أو بأقل من ثمنها نسيئة جاز. لما ذكرناه في مسألة العينة. ويحتمل أن يجوز له شراؤها بجنس الثمن بأكثر منه، إلا أن يكون ذلك عن مواطأة أو حيلة فلا يجوز، وإن وقع ذلك اتفاقا من غير قصد جاز، لأن الأصل حل البيع، وإنما حرم في مسألة العينة بالأثر الوارد فيه وليس هذا في معناه ولأن التوسل بذلك أكثر، فلا يلتحق به ما في دونه، والله أعلم.
(فصل) وفي كل موضع قلنا: لا يجوز له أن يشتري لا يجوز ذلك لوكيله لأنه قائم مقامه ويجوز لغيره من الناس، سواء كان أباه أو ابنه أو غيرهما لأنه غير البائع ويشتري لنفسه فأشبه الأجنبي.
قال: محمد بن مفلح في الفروع: (2) .
ولو باع شيئا نسيئة أو بثمن لم يقبضه في ظاهر كلامه وذكره القاضي وأصحابه والأكثر ثم اشتراه بأقل مما باعه قال أبو الخطاب والشيخ: نقدا ولم يقله أحمد والأكثر، ولو بعد حل أجله، نقله ابن القاسم وسندي بطل
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .
(2) ص 169 - 171 ج 4.(37/35)
الثاني (نص عليه وذكره الأكثر، لم يجز استحسانا، وكذا في كلام القاضي وأصحابه القياس صحة البيع ومرادهم أن القياس خولف لدليل) إلا أن يتغير في نفسه أو يقبض ثمنه أو بغير جنس ثمنه، وفي الانتصار وجه بعرض اختاره الشيخ أو يشتريه بمثل ثمنه أو من غير مشتريه لا من وكيله وسأله المروزي إن وجده مع آخر يبيعه بالسوق أيشتريه بأقل؟ قال: لا لعله دفعه ذلك إليه يبيعه، وتوقف في رواية مهنا فيما إذا نقص في نفسه وحمله وفي الخلاف على أن نقصه أقل من النقص الذي اشتراه به فتكون علة المنع باقية وهذه مسألة العينة، وعند أبي الخطاب يجوز قياسا وكذا في الترغيب لم يجز استحسانا وكذا في كلام القاضي وأصحابه: القياس صحة البيع، ومرادهم أن القياس خولف لدليل راجح فلا خلاف إذا في المسألة، وذكر شيخنا أنه يصح الأول إذا كان بتاتا ولا مواطأة وإلا بطلا، وأنه قول أحمد (و. م) ويتوجه أن مراد من أطلق هذا إلا أنه قال (في الانتصار) إذا قصدا بالأول الثاني يحرم، وربما قلنا ببطلانه وقال أيضا يحرم، إذا قصدا أن لا يصحا، وإن سلم فالبيع الأول خلا عن ذريعة الربا، وأجاب عن قول عائشة - رضي الله عنها -: (بئس ما شريت وبئس ما اشتريت) . أنه للتأكيد قال أحمد - رضي الله عنه - فيمن فعلها: لا يعجبني أن يكتب عنه الحديث وحمله القاضي وغيره على الورع لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد مع أنه ذكر عن قول عائشة - رضي الله عنها - أن زيد بن أرقم أبطل جهاده أنها أوعدت عليه، ومسائل الخلاف لا يلحق فيها الوعيد وعكس العينة مثلها نقله حرب ونقل أبو داود: يجوز بلا حيلة ونقل المروزي فيمن يبيع الشيء ثم يجده يباع أيشتريه بأقل مما باعه بالنقد؟ قال: لا ولكن بأكثر لا بأس ولو احتاج إلى نقد فاشترى ما يساوي مائة بمائتين فلا بأس، نص عليه، وهي التورق، وعنه: يكره وحرمه شيخنا نقل أبو داود: إن كان لا يريد بيع المتاع الذي يشتريه منك هو أهون فإن كان يريد بيعه فهو العينة وإن باعه منه لم يجز وهي(37/36)
العينة نص عليه.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: (1) .
وسئل عن الرجل يبيع سلعة بثمن مؤجل ثم يشتريها من ذلك الرجل بأقل من ذلك الثمن حالا، هل يجوز أم لا؟
فأجاب: أما إذا باع السلعة إلى أجل واشتراها من المشتري بأقل من ذلك حالا فهذه تسمى (مسألة العينة) وهي غير جائزة عند أكثر العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم وهو المأثور عن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس بن مالك. فإن ابن عباس سئل عن حريرة بيعت إلى أجل ثم اشتريت بأقل قال: دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة.
وأبلغ من ذلك أن ابن عباس قال: إذا استقمت بنقد ثم بعت فتلك دراهم بدراهم، فبين أنه إذا قوم السلعة بدراهم ثم باعها إلى أجل فيكون مقصوده دراهم والأعمال بالنيات وهذه تسمى " التورق ".
فإن المشتري تارة يشتري السلعة لينتفع بها، وتارة يشتريها ليتجر بها. فهذان جائزان باتفاق المسلمين، وتارة لا يكون مقصوده إلا أخذ دراهم فينظر كم تساوي نقدا، فيشتريها إلى أجل ثم يبيعها في السوق بنقد، فمقصوده الورق فهذا مكروه في أظهر قولي العلماء، كما نقل ذلك عمر بن عبد العزيز وهي إحدى الروايتين عن أحمد.
وأما عائشة فإنها قالت لأم ولد زيد بن أرقم لما قالت لها: إني ابتعت من زيد بن أرقم غلاما إلى العطاء بثمانمائة وبعته منه بستمائة. فقالت عائشة: (بئس ما بعت، وبئس ما اشتريت. أخبري زيدا أن جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطل، إلا أن يتوب) . قال: يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فقالت لها عائشة: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (2) .
وفي السنن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أنه قال: لمن باع بيعتين في بيعة: " فله
__________
(1) ص 446 - 448 ج 29.
(2) سورة البقرة الآية 275(37/37)
أوكسهما أو الربا (1) » وهذا إن تواطآ على أن يبيع ثم يبتاع، فما له إلا الأوكس، وهو الثمن الأقل أو الربا.
وأصل هذا الباب: (أن الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) فإن كان قد نوى ما أحله الله فلا بأس وإن نوى ما حرم الله وتوصل إليه بحيله فإن له ما نوى، والشرط بين الناس ما عدوه شرطا كما أن البيع ما عدوه بيعا. والإجارة بينهم ما عدوه إجارة. وكذلك النكاح بينهم ما عدوه نكاحا فإن الله ذكر البيع والنكاح وغيرهما في كتابه ولم يرد لذلك حد في الشرع ولا له حد في الفقه.
والأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع كالصلاة والزكاة والصيام والحج وتارة باللغة كالشمس والقمر والبر والبحر وتارة بالعرف كالقبض والتفرق. وكذلك العقود كالبيع والإجارة والنكاح والهبة وغير ذلك، فما تواطأ الناس على شرطه وتعاقدوا فهذا شرط عند أهل العرف.
وقال رحمه الله في الاختيارات: وتحرم مسألة التورق.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .(37/38)
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: (1) .
(فصل) ومن الحيل المحرمة الباطلة التحيل على جواز مسألة العينة مع أنها حيلة في نفسها على الربا، وجمهور الأئمة على تحريمها.
وقد ذكر أرباب الحيل لاستباحتها عدة حيل منها: أن يحدث المشتري في السلعة حدثا ما تنقص به أو تتعيب فحينئذ يجوز لبائعها أن يشتريها بأقل مما باعها ومنها: أن تكون السلعة قابلة للتجزئة فيمسك منها جزءا ما ويبيعه بقيتها ومنها: أن يضم البائع إلى السلعة سكينا أو منديلا أو حلقة حديد أو نحو ذلك فيملكه المشتري ويبيعه السلعة بما يتفقان عليه من الثمن، ومنها: أن يهبها المشتري لولده أو زوجته أو من يثق به فيبيعها الموهوب له من بائعها فإذا قبض الثمن أعطاه للواهب ومنها: أن يبيعه إياها نفسه من غير إحداث ولا هبة لغيره لكن يضم إلى ثمنها خاتما
__________
(1) ص 335 - 336 ج 3.(37/38)
من حديد أو منديلا أو سكينا ونحو ذلك.
ولا ريب أن العينة على وجهها أسهل من هذا التكلف وأقل مفسدة، وإن كان الشارع قد حرم مسألة العينة لمفسدة فيها فإن المفسدة لا تزول بهذه الحيلة بل هي بحالها وانضم إليها مفسدة أخرى أعظم منها وهي مفسدة المكر والخداع واتخاذ أحكام الله هزوا وهي أعظم المفسدتين، وكذلك سائر الحيل لا تزيل المفسدة التي حرم لأجلها وإنما يضم إليها مفسدة الخداع والمكر، وإن كانت العينة لا مفسدة فيها فلا حاجة إلى الاحتيال عليها، ثم إن العينة في نفسها من أدنى الحيل إلى الربا فإذا تحيل عليها المحتال صارت حيلا متضاعفة ومفاسد متنوعة، والحقيقة والقصد معلومان لله وللملائكة وللمتعاقدين ولمن حضرهما من الناس، فليصنع أرباب الحيل ما شاءوا، وليسلكوا أية طريق سلكوا فإنهم لا يخرجون بذلك عن بيع مائة بمائة وخمسين إلى سنة فليدخلوا محلل الربا أو يخرجوه فليس هو المقصود، والمقصود معلوم والله لا يخادع ولا تروج عليه الحيل ولا تلتبس عليه الأمور.
قال ابن القيم - رحمه الله - في تهذيب السنن على حديث «إذا تبايعتم بالعينة (1) »
وفي الباب حديث أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة - رضي الله عنها - فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم، فقالت: يا أم المؤمنين، إني بعت غلاما من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسيئة، وإني ابتعته منه بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة: (بئسما اشتريت، وبئسما شريت، أخبري زيدا أن جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بطل إلا أن يتوب) .
هذا الحديث رواه البيهقي والدارقطني، وذكره الشافعي، وأعله بالجهالة بحال امرأة أبي إسحاق، وقال: لو ثبت فإنما عابت عليها بيعا إلى العطاء، لأنه أجل غير معلوم.
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/84) .(37/39)
ثم قال: ولا يثبت مثل هذا عن عائشة، وزيد بن أرقم لا يبيع إلا ما يراه حلالا.
قال البيهقي: ورواه يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية بنت أنفع " أنها دخلت على عائشة مع أم محمد ".
وقال غيره: هذا الحديث حسن، ويحتج بمثله، لأنه قد رواه عن العالية ثقتان ثبتان: أبو إسحاق زوجها ويونس ابنها، ولم يعلم فيهما جرح والجهالة ترتفع عن الراوي بمثل ذلك.
ثم إن هذا مما ضبطت فيه القصة، ومن دخل معها على عائشة، وقد صدقها زوجها وابنها وهما من هما، فالحديث محفوظ.
وقوله في الحديث المتقدم «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (1) » هو منزل على العينة بعينها، قاله شيخنا، لأنه بيعان في بيع واحد فأوكسهما: الثمن الحال، وإن أخذ بالأكثر وهو المؤجل - أخذ بالربا. فالمعينان لا ينفكان من أحد الأمرين: أما الأخذ بأوكس الثمنين أو الربا وهذا لا يتنزل إلا على العينة.
(فصل) قال المحرمون للعينة: الدليل على تحريمها من وجوه.
أحدها: أن الله تعالى حرم الربا والعينة وسيلة إلى الربا، بل هي من أقرب وسائله، والوسيلة إلى الحرام حرام، فهنا مقامان:
أحدهما: بيان كونها وسيلة.
والثاني: بيان أن الوسيلة إلى الحرام حرام.
فأما الأول: فيشهد له به النقل والعرف والنية والقصد وحال المتعاقدين.
فأما النقل: فيما ثبت عن ابن عباس أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة ثم اشتراها بخمسين فقال: (دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينها حريرة) .
وفي كتاب محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بمطين عن ابن عباس:
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .(37/40)
أنه قال: (اتقوا هذه العينة لا تبيعوا دراهم بدراهم بينهما حريرة) .
وفي كتاب أبي محمد النجشي الحافظ عن ابن عباس " أنه سئل عن العينة، يعني بيع الحريرة فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله ".
وفي كتاب الحافظ مطين عن أنس " أنه سئل عن العينة - يعني بيع الحريرة - فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله ".
وقول الصحابي " حرم رسول الله كذا أو أمر بكذا وقضى بكذا وأوجب كذا " في حكم المرفوع اتفاقا عند أهل العلم، إلا خلافا شاذا لا يعتد به، ولا يؤبه له.
وشبهة المخالف: أنه لعله رواه بالمعنى فظن ما ليس بأمر، ولا تحريم كذلك، وهذا فاسد جدا فإن الصحابة أعلم بمعاني النصوص وقد تلقوها من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يظن بأحد منهم أن يقدم على قوله " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو حرم أو فرض " إلا بعد سماع ذلك، ودلالة اللفظ عليه، واحتمال خلاف هذا كاحتمال الغلط والسهو في الرواية، بل دونه فإن رد قوله " أمر " ونحوه بهذا الاحتمال، وجب رد روايته لاحتمال السهو والغلط وإن قبلت روايته: وجب قبول الآخر.
وأما شهادة العرف بذلك: فأظهر من أن تحتاج إلى تقرير، بل قد علم الله وعباده من المتبايعين ذلك: قصدهما أنهما لم يعقدا على السلعة عقدا يقصدان به تملكها، ولا غرض لهما فيها بحال، وإنما الغرض والمقصود بالقصد الأول: مائة بمائة وعشرين، وإدخال تلك السلعة في الوسط تلبيس وعبث وهي بمنزلة الحرف الذي لا معنى له في نفسه، بل جيء به لمعنى في غيره، حتى لو كانت تلك السلعة تساوي أضعاف ذلك الثمن، أو تساوي أقل جزء من أجزائه لم يبالوا بجعلها موردا للعقد لأنهم لا غرض لهم فيها، وأهل العرف لا يكابرون أنفسهم في هذا.
وأما النية والقصد: فالأجنبي المشاهد لهما، يقطع بأنه لا غرض لهما في(37/41)
السلعة وإنما القصد الأول مائة بمائة وعشرين فضلا عن علم المتعاقدين ونيتهما، ولهذا يتواطأ كثير منهم على ذلك، قبل العقد ثم يحضران تلك السلعة محللا لما حرم الله ورسوله.
وأما المقام الثاني وهو أن الوسيلة إلى الحرام حرام - فبانت بالكتاب والسنة والفطرة والمعقول فإن الله سبحانه مسخ اليهود قردة وخنازير لما توسلوا إلى الصيد الحرام بالوسيلة التي ظنوها مباحة، وسمى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون مثل ذلك مخادعة، كما تقدم.
وقال أيوب السختياني: " يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل والرجوع إلى الصحابة في معاني الألفاظ متعين، سواء كانت لغوية أو شرعية، والخداع حرام وأيضا فإن هذا العقد يتضمن إظهار صورة مباحة وإضمار ما هو من أكبر الكبائر، فلا تنقلب الكبيرة مباحة بإخراجها في صورة البيع الذي لم يقصد نقل الملك فيه أصلا، وإنما قصده حقيقة الربا.
وأيضا فإن الطريقة متى أفضت إلى الحرام فإن الشريعة لا تأتي بإباحتها أصلا، لأن إباحتها وتحريم الغاية جمع بين النقيضين، فلا يتصور أن يباح شيء ويحرم ما يفضي إليه، بل لا بد من تحريمهما أو إباحتهما والثاني باطل قطعا فيتعين الأول.
وأيضا: فإن الشارع إنما حرم الربا، وجعله من الكبائر، وتوعد آكله بمحاربة الله ورسوله لما فيه من أعظم الفساد والضرر فكيف يتصور - مع هذا - أن يبيح هذا الفساد العظيم بأيسر شيء يكون من الحيل.
فيالله العجب، أترى هذه الحيلة أزالت تلك المفسدة العظيمة وقلبتها مصلحة بعد أن كانت مفسدة.
وأيضا: فإن الله سبحانه عاقب أهل الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين، وكان مقصودهم منع حق الفقراء من الثمر المتساقط وقت الحصاد فلما قصدوا منع حقهم منعهم الله الثمرة جملة.(37/42)
ولا يقال: فالعقوبة إنما كانت على رد (1) الاستثناء وحده لوجهين:
أحدهما: أن العقوبة من جنس العمل، وترك الاستثناء عقوبته أن يعوق وينسى لا إهلاك ماله، بخلاف عقوبة ذنب الحرمان فإنها حرمان كالذنب.
الثاني: أن الله تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} (2) (69 - 34) ورتب العقوبة على ذلك، فلو لم يكن لهذا الوصف مدخل في العقوبة لم يكن لذكره فائدة فإن لم يكن هو العلة التامة كان جزءا من العلة.
وعلى التقديرين: يحصل المقصود.
وأيضا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما الأعمال بالنيات (3) » والمتوسل بالوسيلة التي صورتها مباحة إلى المحرم إنما نيته المحرم، ونيته أولى به من ظاهر عمله.
وأيضا: فقد روى ابن بطة وغيره بإسناد حسن عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل» وإسناده مما يصححه الترمذي.
وأيضا: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها (4) » و " جملوها " يعني أذابوها وخلطوها، وإنما فعلوا ذلك ليزول عنها اسم الشحم ويحدث لها اسم آخر، وهو الودك وذلك لا يفيد الحل، فإن التحريم تابع للحقيقة وهي لم تتبدل بتبدل الاسم.
وهذا الربا تحريمه - تابع لمعناه وحقيقته فلا يزول بتبدل الاسم بصورة البيع كما لم يزل تحريم الشحم بتبديل الاسم بصورة الجمل والإذابة، وهذا واضح بحمد الله.
__________
(1) هكذا بالأصل ولعله ترك.
(2) سورة القلم الآية 24
(3) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3460) ، صحيح مسلم المساقاة (1582) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4257) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3383) ، مسند أحمد بن حنبل (1/25) ، سنن الدارمي الأشربة (2104) .(37/43)
وأيضا: فإن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم وإنما انتفعوا بثمنه فيلزم من وقف مع صور العقود والألفاظ، دون مقاصدها وحقائقها أن لا يحرم ذلك؛ لأن الله تعالى لم ينص على تحريم الثمن وإنما حرم عليهم نفس الشحم ولما لعنهم على استحلالهم الثمن، وإن لم ينص على تحريمه، دل على أن الواجب النظر إلى المقصود، وإن اختلفت الوسائل إليه، وأن ذلك يوجب أن لا يقصد الانتفاع بالعين ولا ببدلها.
ونظير هذا: أن يقال: لا تقرب مال اليتيم فتبيعه وتأكل عوضه، وأن يقال: لا تشرب الخمر فتغير اسمه وتشربه وأن يقال: لا تزن بهذه المرأة فتعقد عليها عقد إجارة وتقول إنما أستوفي منافعها وأمثال ذلك.
قالوا: ولهذا الأصل - وهو تحريم الحيل المتضمنة إباحة ما حرم الله أو إسقاط ما أوجبه الله عليه - أكثر من مائة دليل، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «لعن المحلل والمحلل له (1) » ، مع أنه أتى بصورة عقد النكاح الصحيح لما كان مقصوده التحليل لا حقيقة النكاح.
وقد ثبت عن الصحابة أنهم سموه زانيا ولم ينظروا إلى صورة العقد.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/448) .(37/44)
الدليل الثاني: على تحريم العينة ما رواه أحمد في مسنده حدثنا أسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم (1) » ورواه أبو داود بإسناد صحيح إلى حيوة بن شريح المصري عن إسحاق أبي عبد الرحمن الخراساني أن عطاء الخراساني حدثه: أن نافعا حدثه عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول - فذكره وهذان إسنادان حسنان يشد أحدهما الآخر، فأما رجال الأول فأئمة مشاهير وإنما يخاف أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء أو أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر، والإسناد الثاني:
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/28) .(37/44)
يبين أن للحديث أصلا محفوظا عن ابن عمر فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور وحيوة كذلك، وأما إسحاق أبو عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حيوة والليث ويحيى بن أيوب وغيرهم.
وله طريق ثالث: رواه السري بن سهل حدثنا عبد الله بن رشيد حدثنا عبد الرحمن بن محمد عن ليث عن عطاء عن ابن عمر قال: لقد أتى علينا زمان، وما منا رجل يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ولقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتركوا الجهاد واتبعوا أذناب البقر أدخل الله عليهم ذلا لا ينزعه حتى يتوبوا ويرجعوا إلى دينهم (1) » وهذا يبين أن للحديث أصلا وأنه محفوظ.
الدليل الثالث: ما تقدم من حديث أنس أنه سئل عن العينة؟ فقال: " إن الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله " وتقدم أن هذا اللفظ في حكم المرفوع.
الدليل الرابع: ما تقدم من حديث ابن عباس وقوله " هذا مما حرم الله ورسوله ".
الدليل الخامس: ما رواه الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن أبي إسحاق عن العالية، ورواه حرب من حديث إسرائيل حدثني أبو إسحاق عن جدته العالية، يعني جدة إسرائيل - فإنها امرأة أبي إسحاق قالت: (دخلت على عائشة في نسوة فقالت: ما حاجتكن؟ فكان أول من سألها أم محبة: فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بعته جارية لي بثمانمائة درهم إلى العطاء، وإنه أراد أن يبيعها فابتعتها بستمائة درهم نقدا، فأقبلت عليها وهي غضبى فقالت: بئسما شريت، وبئسما اشتريت أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب) وأفحمت صاحبتنا فلم تتكلم طويلا ثم إنه سهل عنها فقالت: يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/28) .(37/45)
مالي فتلت عليها {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (1) .
فلولا أن عند أم المؤمنين علما لا تستريب فيه أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا بالاجتهاد ولا سيما إن كانت قد قصدت أن العمل يحبط بالردة وإن استحلال الربا كفر، وهذا منه، ولكن زيدا معذور لأنه لم يعلم أن هذا محرم ولهذا قالت " أبلغيه ".
ويحتمل أن تكون قد قصدت أن هذا من الكبائر التي يقاوم إثمها ثواب الجهاد، فيصير بمنزلة من عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئا، وعلى التقديرين لجزم أم المؤمنين بهذا دليل على أنه لا يسوغ فيه الاجتهاد، ولو كانت هذه من مسائل الاجتهاد والنزاع بين الصحابة لم تطلق عائشة ذلك على زيد، فإن الحسنات لا تبطل بمسائل الاجتهاد.
ولا يقال: فزيد من الصحابة وقد خالفها، لأن زيدا لم يقل: هذا حلال، بل فعله، وفعل المجتهد لا يدل على قوله على الصحيح لاحتمال سهو أو غفلة أو تأويل أو رجوع ونحوه، وكثيرا ما يفعل الرجل الشيء ولا يعلم مفسدته، فإذا نبه له انتبه، ولا سيما أم ولده، فإنها دخلت على عائشة تستفتيها وطلبت الرجوع إلى رأس مالها وهذا يدل على الرجوع عن ذلك العقد، ولم ينقل عن زيد أنه أصر على ذلك.
فإن قيل: لا نسلم ثبوت الحديث فإن أم ولد زيد مجهولة.
قلنا: أم ولده لم ترو الحديث، وإنما كانت هي صاحبة القصة، وأما العالية فهي امرأة أبي إسحاق السبيعي، وهي من التابعيات، وقد دخلت على عائشة وروى عنها أبو إسحاق، وهو أعلم بها، وفي الحديث قصة وسياق يدل على أنه محفوظ، وأن العالية لم تختلق هذه القصة ولم تضعها بل يغلب على الظن غلبة قوية صدقها فيها وحفظها لها، ولهذا رواها عنها زوجها ميمون ولم ينهها ولا سيما عند من يقول: رواية العدل عن غيره تعديل له، والكذب لم يكن فاشيا في التابعين فشوه فيمن بعدهم،
__________
(1) سورة البقرة الآية 275(37/46)
وكثير منهم كان يروي عن أمه وامرأته ما يخبرهن به أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحتج به.
فهذه أربعة أحاديث تبين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم العينة:
حديث ابن عمر الذي فيه تغليظ العينة، وحديث أنس وابن عباس: أنها مما حرم الله ورسوله.
وحديث عائشة هذا والمرسل منها له ما يوافقه، وقد عمل به بعض الصحابة والسلف وهذه حجة باتفاق الفقهاء.
الدليل السادس: ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (1) » .
وللعلماء في تفسيره قولان:
أحدهما: أن يقول: بعتك بعشرة نقدا أو عشرين نسيئة وهذا هو الذي رواه أحمد عن سماك ففسره في حديث ابن مسعود قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة (2) » ، قال سماك: الرجل يبيع البيع فيقول هو علي نساء بكذا وبنقد بكذا.
وهذا التفسير ضعيف، فإنه لا يدخل الربا في هذه الصورة، ولا صفقتين هنا وإنما هي صفقة واحدة بأحد الثمنين.
والتفسير الثاني: أن يقول: أبيعكها بمائة إلى سنة على أن أشتريها منك بثمانين حالة وهذا معنى الحديث الذي لا معنى له غيره، وهو مطابق لقوله «فله أوكسهما أو الربا (3) » فإنه إما أن يأخذ الثمن الزائد فيربي أو الثمن الأول فيكون هو أوكسهما وهو مطابق لصفقتين في صفقة، فإنه قد جمع صفقتي النقد والنسيئة في صفقة واحدة ومبيع واحد، وهو قد قصد بيع دراهم عاجلة بدراهم مؤجلة أكثر منها ولا يستحق إلا رأس ماله وهو أوكس الصفقتين، فإن أبى إلا الأكثر كان قد أخذ الربا.
فتدبر مطابقة هذا التفسير لألفاظه - صلى الله عليه وسلم -، وانطباقه عليها.
ومما يشهد لهذا التفسير: ما رواه الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/398) .
(3) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .(37/47)
صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى عن بيعتين في بيعة (1) » و «عن سلف وبيع (2) » فجمعه بين هذين العقدين في النهي لأن كلا منهما يؤول إلى الربا؛ لأنهما في الظاهر بيع وفي الحقيقة ربا.
ومما يدل على تحريم العينة: حديث ابن مسعود يرفعه «لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له (3) » .
ومعلوم أن الشاهدين والكاتب إنما يكتب ويشهد على عقد صورته جائزة الكتابة والشهادة، لا يشهد بمجرد الربا ولا يكتبه، ولهذا قرنه بالمحلل والمحلل له حيث أظهر صورة النكاح ولا نكاح، كما أظهر الكاتب والشاهدان صورة البيع ولا بيع.
وتأمل كيف لعن في الحديث الشاهدين والكاتب والآكل والموكل فلعن المعقود له، والمعين له على ذلك العقد ولعن المحلل والمحلل له فالمحلل له هو الذي يعقد التحليل لأجله والمحلل هو المعين له بإظهار صورة العقد، كما أن المرابي هو المعان على أكل الربا بإظهار صورة العقد المكتوب المشهود به فصلوات الله وسلامه على من أوتي جوامع الكلم.
الدليل السابع: ما صح عن ابن عباس أنه قال (إذا استقمت بنقد، فبعت بنقد فلا بأس، وإذا استقمت بنقد فبعت بنسيئة فلا خير فيه تلك ورق بورق) رواه سعيد وغيره.
ومعنى كلامه: أنك إذا قومت السلعة بنقد ثم بعتها بنسيئة كان مقصود المشتري شراء دراهم معجلة بدراهم مؤجلة وإذا قومتها بنقد ثم بعتها به فلا بأس، فإن ذلك بيع، المقصود منه السلعة لا الربا.
الدليل الثامن: ما رواه ابن بطة عن الأوزاعي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع (4) » يعني العينة.
وهذا - وإن كان مرسلا - فهو صالح للاعتضاد به ولا سيما وقد تقدم من المرفوع ما يؤكده ويشهد له أيضا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها (5) » .
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (368) ، سنن النسائي البيوع (4517) ، سنن ابن ماجه التجارات (2169) ، موطأ مالك الجامع (1704) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(3) صحيح مسلم المساقاة (1597، 1598) ، سنن الترمذي البيوع (1206) ، سنن أبو داود البيوع (3333) ، سنن ابن ماجه التجارات (2277) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي البيوع (2535) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2059) ، سنن النسائي البيوع (4454) ، مسند أحمد بن حنبل (2/435) ، سنن الدارمي البيوع (2536) .
(5) سنن أبو داود الأشربة (3688) ، سنن ابن ماجه الفتن (4020) .(37/48)
وقوله أيضا فيما رواه إبراهيم الحربي من حديث أبي ثعلبة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أول دينكم نبوة ورحمة ثم خلافة ورحمة ثم ملك ورحمة ثم ملك وجبرية ثم ملك عضوض يستحل فيه الحر والحرير (1) » والحر - بكسر الحاء وتخفيف الراء - هو الفرج، فهذا إخبار عن استحلال المحارم ولكنه بتغيير أسمائها وإظهارها في صور تجعل وسيلة إلى استباحتها وهي الربا والخمر والزنا فيسمى كل منها بغير اسمها، ويستباح بالاسم الذي سمي به وقد وقعت الثلاثة.
وفي قول عائشة (بئسما شريت، وبئسما اشتريت) دليل على بطلان العقدين معا، وهذا هو الصحيح من المذهب، لأن الثاني عقد ربا والأول وسيلة إليه.
وفيه قول آخر في المذهب: أن العقد الأول صحيح لأنه تم بأركانه وشروطه، فطريان الثاني عليه لا يبطله، وهذا ضعيف فإنه لم يكن مقصودا لذاته وإنما جعله وسيلة إلى الربا، فهو طريق إلى المحرم فكيف يحكم بصحته؟ وهذا القول لا يليق بقواعد المذهب.
فإن قيل: فما تقولون فيمن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة؟
قلنا: قد نص أحمد في رواية حرب على أنه لا يجوز إلا أن تتغير السلعة لأن هذا يتخذ وسيلة إلى الربا فهو كمسألة العينة سواء وهي عكسها صورة، وفي الصورتين قد ترتب في ذمته دراهم مؤجلة بأقل منها نقدا لكن في إحدى الصورتين: البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى: المشتري هو الذي اشتغلت ذمته فلا فرق بينهما.
وقال بعض أصحابنا: يحتمل أن تجوز الصورة الثانية إذا لم يكن ذلك حيلة ولا مواطأة بل وقع اتفاقا.
وفرق بينها وبين الصورة الأولى بفرقين:
أحدهما: أن النص ورد فيها فيبقى ما عداها على أصل الجواز.
__________
(1) سنن الدارمي الأشربة (2101) .(37/49)
والثاني: أن التوسل إلى الربا بتلك الصورة أكثر من التوسل بهذه.
والفرقان ضعيفان، أما الأول: فليس في النص ما يدل على اختصاص العينة بالصورة الأولى حتى تتقيد به نصوص مطلقة على تحريم العينة، والعينة فعلة من العين النقد قال الشاعر:
أندان , أم نعتان , أم ينبري لنا ... فتى مثل نصل السيف ميزت مضاربه؟
قال الجوزجاني: أنا أظن أن العينة إنما اشتقت من حاجة الرجل إلى العين من الذهب والورق فيشتري السلعة ويبيعها بالعين الذي احتاج إليها وليست به إلى السلعة حاجة.
وأما الفرق الثاني: فكذلك لأن المعتبر في هذا الباب هو الذريعة، ولو اعتبر فيه الفرق من الاتفاق والقصد لزم طرد ذلك في الصورة الأولى وأنتم لا تعتبرونه.
فإن قيل: فما تقولون إذا لم تعد السلعة إليه بل رجعت إلى ثالث هل تسمون ذلك عينة؟
قيل: هذه مسألة التورق لأن المقصود منها الورق وقد نص أحمد في رواية أبي داود على أنها من العينة وأطلق عليها اسمها.
وقد اختلف السلف في كراهيتها فكان عمر بن عبد العزيز يكرهها وكان يقول " التورق آخية الربا " ورخص فيها إياس بن معاوية.
وعن أحمد فيها روايتان منصوصتان، وعلل الكراهة في إحداهما بأنه بيع مضطر، وقد روى أبو داود عن علي «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المضطر (1) » وفي المسند عن علي قال: «سيأتي على الناس زمان يعض المؤمن على ما في يده ولم يؤمر بذلك قال تعالى: ويبايع المضطرون وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر (3) » وذكر الحديث.
فأحمد - رحمه الله تعالى - أشار إلى أن العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نقد لأن الموسر يضن عليه بالقرض فيضطر إلى أن يشتري منه سلعة ثم
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .
(3) سورة البقرة الآية 237 (2) {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}(37/50)
يبيعها فإن اشتراها منه بائعها كانت عينة، وإن باعها من غيره فهي التورق. ومقصوده في الموضعين الثمن، فقد حصل في ذمته ثمن مؤجل مقابل لثمن حال أنقص منه ولا معنى للربا إلا هذا لكنه ربا بسلم لم يحصل له مقصوده إلا بمشقة ولو لم يقصده كان ربا بسهولة.
وللعينة صورة رابعة - وهي أخت صورها - وهي: أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة ونص أحمد على كراهة ذلك فقال: العينة أن يكون عنده المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باع بنسيئة ونقد فلا بأس. وقال أيضا: أكره للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة فلا يبيع بنقد.
قال ابن عقيل: إنما كره ذلك لمضارعته الربا، فإن البائع بنسيئة يقصد الزيادة غالبا.
وعلله شيخنا ابن تيمية - رحمه الله - بأنه يدخل في بيع المضطر، فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه، فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة وإذا باع بنقد ونسيئة كان تاجرا من التجار.
وللعينة صورة خامسة - وهي أقبح صورها وأشدها تحريما - وهي: أن المترابيين يتواطآن على الربا، ثم يعمدان إلى رجل عنده متاع فيشتريه منه المحتاج ثم يبيعه للمربي بثمن حال ويقبضه منه ثم يبيعه إياه للمربي بثمن مؤجل، وهو ما اتفقا عليه ثم يعيد المتاع إلى ربه ويعطيه شيئا وهذه تسمى الثلاثية لأنها بين ثلاثة، وإذا كانت السلعة بينهما خاصة فهي الثنائية وفي الثلاثية قد أدخلا بينهما محللا يزعمان أنه يحلل لهما ما حرم الله من الربا، وهو كمحلل النكاح فهذا محلل الربا، وذلك محلل الفروج، والله تعالى لا تخفى عليه خافية بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (1) .
__________
(1) ص 99 - 109 جـ 3، ص 17 - 18 من الدرر جـ 5.(37/51)
سئل الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - رحمهم الله -: رجل عليه(37/51)
دين لرجل يحتاج إلى بضاعة أو حيوان ينتفع به أو يتاجر فيه فيطلبه من إنسان دينا فلم يكن عنده، هل للمطلوب أن يشتريه ثم يبيعه له بثمن إلى أجل وهل له أن يوكله في شرائه ثم يبيعه له بعد ذلك بربح اتفقا عليه قبل الشراء؟ .
فأجاب: من كان له عليه دين فإن كان موسرا وجب عليه أن يوفيه وإن كان معسرا وجب إنظاره ولا يجوز قلبه عليه بمعاملة ولا غيرها، وأما البيع إلى أجل ابتداء، فإن كان مقصود المشتري الانتفاع بالسلعة أو التجارة فيها جاز إذا كان على الوجه المباح، وأما إذا كان مقصوده الدراهم فيشتريها بمائة مؤجلة ويبيعها في السوق بسبعين حالة، فهذا مذموم منهي عنه في أظهر قولي العلماء وهذا يسمى التورق قال أبو عمر ابن عبد البر: التورق آخية الربا.
وسئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - عن حكم التورق فأجاب فيما يلي:
من محمد بن إبراهيم إلى المكرم أحمد بن علي الروضان سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: -
وصل كتابك الذي تستفتي فيه عما يتعامل به بعض الناس إذا احتاج إلى نقود وذهب إلى التاجر ليستدين منه، وباع عليه أكياس سكر وغيرها نسيئة بثمن يزيد على ثمنها نقدا فيأخذ المحتاج السكر ويبيعه بالنقص عما اشتراه به من التاجر ليقضي حاجته، وتسأل هل هذا التعامل حرام أم حلال وهل يعتبر من الربا في شيء؟
الجواب: هذه المسألة تسمى مسألة التورق والمشهور من المذهب جوازها، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية إذا لم يكن للمشتري حاجة إلى السلعة بل حاجته في الذهب والورق فيشتري السلعة ليبيعها بالعين(37/52)
الذي احتاج إليها فإن أعاد السلعة إلى البائع فهو الذي لا يشك في تحريمه، وإن باعها لغيره بيعا تاما ولم تعد إلى الأول بحال فقد اختلف السلف في كراهته ويسمونه التورق، وكان عمر بن عبد العزيز يكرهه ويقول التورق آخية الربا، وإياس بن معاوية يرخص فيه، وعن الإمام أحمد روايتان.
والمشهور الجواز وهو الصواب قال في (مطالب أولي النهى) ولو احتاج إنسان لنقد فاشترى ما يساوي مائة بأكثر كمائة وخمسين مثلا ليتوسع بثمنه فلا بأس بذلك، نص عليه وهي مسألة التورق وقال في الاختيارات، قال أبو طالب: قيل للإمام أحمد إن ربح الرجل في العشرة خمسة يكره ذلك قال إذا كان أجله إلى سنة أو بقدر الربح فلا بأس، وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد الله (يعني أحمد بن حنبل) يقول بيع النسيئة إذا كان مقاربا فلا بأس به، وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل لأنه يشبه بيع الأجل وهذا يعم بيع المرابحة والمساومة. . . والله أعلم.
مفتي البلاد السعودية
في 12 \ 5 \ 1386 هـ
وسئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن حكم البيع إلى أجل وبيع التورق والعينة والقرض بالفائدة فأجاب وفقه الله:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وآله وصحبه.
أما بعد فقد سئلت عن حكم بيع كيس السكر ونحوه بمبلغ مائة وخمسين ريالا إلى أجل وهو يساوي مبلغ مائة ريال نقدا.
والجواب عن ذلك أن هذه المعاملة لا بأس بها، لأن بيع النقد غير بيع التأجيل ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة، وهو كالإجماع(37/53)
منهم على جوازها، وقد شذ بعض أهل العلم فمنع الزيادة لأجل الأجل وظن ذلك من الربا، وهو قول لا وجه له وليس من الربا في شيء لأن التاجر حين باع السلعة إلى أجل إنما وافق على التأجيل من أجل انتفاعه بالزيادة، والمشتري إنما رضي بالزيادة من أجل المهلة، وعجزه عن تسليم الثمن نقدا، فكلاهما منتفع بهذه المعاملة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على جواز ذلك، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - «أمر عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن يجهز جيشا فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل (1) » ، ثم هذه المعاملة تدخل في عموم قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) الآية، وهذه المعاملة من المداينات الجائزة الداخلة في الآية المذكورة، وهي من جنس معاملة بيع السلم فإن البائع في السلم يبيع من ذمته حبوبا أو غيرها مما يصح السلم فيه بثمن حاضر أقل من الثمن الذي يباع به المسلم فيه وقت السلم لكون المسلم فيه مؤجلا والثمن معجلا، فهو عكس المسألة المسئول عنها.
وهو جائز بالإجماع، وهو مثل البيع إلى أجل في المعنى، والحاجة إليه ماسة كالحاجة إلى السلم، والزيادة في السلم مثل الزيادة في البيع إلى أجل سببها فيهما تأخير تسليم المبيع في مسألة السلم، وتأخير تسليم الثمن في مسألة البيع إلى أجل، لكن إذا كان مقصود المشتري لكيس السكر ونحوه بيعه والانتفاع بثمنه وليس مقصوده الانتفاع بالسلعة نفسها فهذه المعاملة تسمى مسألة (التورق) ، ويسميها بعض العامة (الوعدة) .
وقد اختلف العلماء في جوازها على قولين، أحدهما أنها ممنوعة أو مكروهة لأن المقصود منها شراء دراهم بدراهم، وإنما السلعة المبيعة واسطة غير مقصودة.
والقول الثاني للعلماء جواز هذه المعاملة لمسيس الحاجة إليها، لأنه
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3357) ، مسند أحمد بن حنبل (2/171) .
(2) سورة البقرة الآية 282(37/54)
ليس كل أحد اشتدت حاجته إلى النقد يجد من يقرضه بدون ربا، ولدخولها في عموم قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} (1) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (2) ولأن الأصل في الشرع حل جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه، ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة، وأما تعليل من منعها أو كرهها لكون المقصود منها هو النقد فليس ذلك موجبا لتحريمها ولا لكراهتها، لأن مقصود التجارة غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل، والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك، وإنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة العينة، فإن ذلك يتخذ حيلة على الربا، وصورة ذلك أن يشتري شخص سلعة من آخر بثمن في الذمة ثم يبيعها عليه بثمن أقل ينقده إياه فهذا ممنوع شرعا لما فيه من الحيلة على الربا، وتسمى هذه المسألة مسألة العينة وقد ورد فيها من حديث عائشة وابن عمر - رضي الله عنهما - ما يدل على منعها، أما مسألة التورق التي يسميها بعض الناس الوعدة فهي معاملة أخرى ليست من جنس مسألة العينة؛ لأن المشتري فيها اشترى السلعة من شخص إلى أجل وباعها من آخر نقدا من أجل حاجته للنقد وليس في ذلك حيلة على الربا لأن المشتري غير البائع، ولكن كثيرا من الناس في هذه المعاملة لا يعملون بما يقتضيه الشرع في هذه المعاملة فبعضهم يبيع ما لا يملك ثم يشتري السلعة بعد ذلك ويسلمها للمشتري، وبعضهم إذا اشتراها يبيعها وهي في محل البائع قبل أن يقبضها القبض الشرعي وكلا الأمرين غير جائز لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك (3) » وقال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك (4) » وقال عليه الصلاة والسلام: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (5) » قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: «كنا نشتري الطعام جزافا فيبعث إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ينهانا أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا (6) » ، وثبت عنه عليه الصلاة
__________
(1) سورة البقرة الآية 275
(2) سورة البقرة الآية 282
(3) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .
(4) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/403) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/22) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(6) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(37/55)
والسلام أيضا أنه «نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1) » .
ومن هذه الأحاديث وما جاء في معناها يتضح لطالب الحق أنه لا يجوز للمسلم أن يبيع سلعة ليست في ملكه ثم يذهب فيشتريها بل الواجب تأخير بيعها حتى يشتريها ويحوزها إلى ملكه، ويتضح أيضا أن ما يفعله كثير من الناس من بيع السلع وهي في محل البائع قبل نقلها إلى ملك المشتري أو إلى السوق أمر لا يجوز لما فيه من مخالفة سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما فيه من التلاعب بالمعاملات وعدم التقيد فيها بالشرع المطهر، وفي ذلك من الفساد والشرور والعواقب الوخيمة ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، نسأل الله لنا ولجميع المسلمين التوفيق للتمسك بشرعه والحذر مما يخالفه.
أما الزيادة التي تكون بها المعاملة من المعاملات الربوية فهي التي تبذل لدائن بعد حلول الأجل ليمهل المدين وينظره فهذه الزيادة هي التي كان يفعلها أهل الجاهلية.
ويقولون للمدين قولهم المشهور إما أن تقضي وإما أن تربي، فمنع الإسلام ذلك وأنزل الله فيه قوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (2) وأجمع العلماء على تحريم هذه الزيادة وعلى تحريم كل معاملة يتوصل بها إلى تحليل هذه الزيادة، مثل أن يقول الدائن للمدين اشتر مني سلعة من سكر أو غيره إلى أجل ثم بعها بالنقد وأوفني حقي الأول، فإن هذه المعاملة حيلة ظاهرة على استحلال الزيادة الربوية التي يتعاطاها أهل الجاهلية لكن بطريق آخر غير طريقهم.
فالواجب تركها والحذر منها وإنظار المدين المعسر حتى يسهل الله له القضاء، كما أن الواجب على المدين المعسر أن يتقي الله ويعمل الأسباب الممكنة المباحة لتحصيل ما يقضي به الدين ويبرئ به ذمته من حق الدائنين.
وإذا تساهل في ذلك ولم يجتهد في أسباب قضاء ما عليه من الحقوق
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(2) سورة البقرة الآية 280(37/56)
فهو ظالم لأهل الحق غير مؤد للأمانة فهو في حكم الغني المماطل، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مطل الغني ظلم (1) » «وقال عليه الصلاة والسلام للواجد: " يحل عرضه وعقوبته (2) » والله المستعان.
ومن المعاملات الربوية أيضا ما يفعله بعض البنوك وبعض التجار من الزيادة في القرض إما مطلقا وإما في كل سنة شيئا معلوما، فالأول مثل أن يقرضه ألفا على أن يرد إليه ألفا ومائة أو يسكنه داره أو دكانه أو بعيره أو سيارته أو دابته مدة معلومة أو ما أشبه ذلك من الزيادات.
وأما الثاني: فهو أن يجعل له كل سنة أو كل شهر ربحا معلوما في مقابل استعماله المال الذي دفعه إليه المقرض سواء دفعه باسم القرض أم باسم الأمانة.
فإنه متى قبضه باسم الأمانة للتصرف فيه كان قرضا مضمونا، ولا يجوز أن يدفع إلى صاحبه شيئا من الربح إلا أن يتفق هو والبنك أو التاجر على استعمال ذلك المال على وجه المضاربة بجزء مشاع معلوم من الربح لأحدهما والباقي للآخر، وهذا العقد يسمى أيضا القراض وهو جائز بالإجماع لأنهما قد اشتركا في الربح والخسران، والمال الأساسي في هذا العقد في حكم الأمانة في يد العامل إذا تلف من غير تعد ولا تفريط لم يضمنه، وليس له عن عمله إلا الجزء المشاع المعلوم من الربح المتفق عليه في العقد وبهذا تتضح المعاملة الشرعية والمعاملة الربوية.
والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري الحوالات (2287) ، صحيح مسلم المساقاة (1564) ، سنن الترمذي البيوع (1308) ، سنن النسائي البيوع (4691) ، سنن أبو داود البيوع (3345) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2403) ، مسند أحمد بن حنبل (2/380) ، موطأ مالك البيوع (1379) ، سنن الدارمي البيوع (2586) .
(2) سنن النسائي البيوع (4689) ، سنن أبو داود الأقضية (3628) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2427) ، مسند أحمد بن حنبل (4/388) .(37/57)
صفحة فارغة(37/58)
مجمل ما ذكر من النقول في العينة والتورق
1 - تطلق العينة ويراد بها بيع إنسان من آخر سلعة لأجل بمائة ريال مثلا، ثم شراؤه إياها منه نقدا بأقل من ذلك، وهي بهذا المعنى من أبرز أنواع البيوع في التحيل على الربا وأظهرها في استغلال حاجة المضطرين. وسميت عينة، لأن المقصد منها الحصول على العين، وهو النقد دون قصد حقيقة البيع وتملك السلعة، وقيل: هي فعلة من العون، لأن البائع يستعين بالمشتري على تحصيل مقاصده، وقيل من العناء، وهو تجشم المشقة.
2 - قال بتحريم العينة بهذا المعنى جمهور العلماء لأدلة:
أ - منها أنها ذريعة قريبة إلى الربا، فكانت حراما، وقد أوضح هذا ابن القيم بوجوه نقلت في الإعداد.
ب - ومنها ما رواه الإمام أحمد في المسند من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعتم بالعينة (1) » . . الحديث ورواه أبو داود في سننه من طريق عطاء الخراساني أن نافعا حدثه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - فذكره.
ج - ومنها ما ذكرته عائشة في قصة زيد بن أرقم وأم ولده ورجوع أم ولده عن أخذ الزيادة من زيد، ولم ينقل أن زيدا رد على عائشة قولها، رضي الله عنهم، ومثل هذا الإنكار من عائشة لا يكون إلا عن توقيف.
د - ومنها قول أنس - رضي الله عنه - سئل عن العينة: " إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله " وقول ابن عباس لما سئل عن حريرة بيعت
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3462) ، مسند أحمد بن حنبل (2/28) .(37/59)
بدراهم، ثم اشتراها من باعها بأقل: (دراهم بدراهم بينهما حريرة، هذا مما حرم الله ورسوله) ومثل هذا القول من أنس وابن عباس - رضي الله عنهم - له حكم المرفوع.
هـ - ومنها ما رواه أبو داود من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (1) » فإنه ينطبق على العينة بالمعنى المتقدم كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم - رحمة الله عليهما -.
وقال الشافعي يجوز بيع العينة بالمعنى المتقدم ولم يثبت الأحاديث الواردة في النهي عنها، وتأول حديث عائشة - رضي الله عنها - بحمله على البيع إلى العطاء وهو أجل مجهول، وقال: إن هذه السلعة كسائر مالي، فلم لا أبيع ملكي بما شئت وشاء المشتري وقال: إن قول عائشة عارضه عمل زيد، ورد طعنه في حديث عائشة - رضي الله عنها - بأن العالية بنت سبيع معروفة برواية ابنها يونس وزوجها.
معارضته قولها بعمل زيد - رضي الله عنهما - بأنه لم يعرف عنه إنكار قولها أو الإصرار على بقائه على العمل بالعينة، ورد قياسه بأنه قياس مع الفارق ومنقوض بمعارضته لقاعدة سد الذرائع ولأحاديث النهي عن العينة.
3 - وتطلق العينة أيضا على ما إذا تواطأ المترابيان على الربا ثم عمد إلى رجل عنده متاع فيشتريه منه المحتاج ثم يبيعه للمربي بثمن حال ويقبضه منه ثم يبيعه إياه المربي بثمن أكثر مؤجل وهو ما اتفقا عليه، ثم يعيد المتاع إلى ربه ويعطيه شيئا وهذه تسمى الثلاثية لأنها بيع ثلاثة، وذكر ابن القيم - رحمه الله - أن هذه الصورة أقبح صور العينة وأشدها تحريما وأنها في البيع شبيهة بصورة المحلل في النكاح.
4 - قال ابن القيم - رحمه الله - فيما إذا باع إنسان سلعة بنقد ثم اشتراها ممن باعها له أولا بأكثر منه إلى أجل أن هذه الصورة شبيهة بالعينة في
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .(37/60)
المقصد لأنه قد ترتب في ذمة كل منهما دراهم مؤجلة بأقل منها نقدا لكن في إحدى الصورتين البائع هو الذي اشتغلت ذمته، وفي الصورة الأخرى المشتري هو الذي اشتغلت ذمته فلا فرق بينهما في الحكم، وذكر أن الإمام أحمد - رحمه الله - نص في رواية حرب أن هذه الصورة لا تجوز وذكر عن بعض الأصحاب احتمال جواز الصورة الثانية ونقل عنهم الفرق بين الصورتين ثم رده، وقال: ليس في النص ما يدل على اختصاص العينة بالصورة الأولى حتى تتقيد به نصوص مطلقة على تحريم العينة.
5 - ذكر ابن القيم أن من صور العينة ما إذا اضطر الإنسان إلى مال فاشترى سلعة ليبيعها حتى يحصل على المال الذي يسد به حاجته وقال: قد نص أحمد في رواية أبي داود على أنها من العينة وأطلق عليها اسمها وذكر أيضا أن هذه الصورة تسمى التورق لأن المقصود منها الورق لسد حاجته، وسبقه إلى ذلك ابن تيمية وتبعهما فيه الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب ورجحوا تحريمها سواء سميت تورقا أم عينة.
6 - من صور العينة عند بعضهم أن يكون عند الرجل أمتعة لا يبيعها إلا نسيئة قصدا للزيادة في الربح، وقد نص الإمام أحمد - رحمه الله - على كراهة ذلك، أما إذا كان يبيع بنقد ونسيئة فلا بأس.
7 - أطلق التورق على ما ذكر في الفقرة الخامسة ومقتضى تعليل تسميته تورقا بأنه بيع يقصد منه الورق لا تملك السلعة ولا الحاجة إلى استهلاكها أنه يطلق على كل صور العينة.
8 - الغالب في العينة والتورق أن يكون عقدهما بين موسر ومحتاج أو مضطر وقد ورد النهي عن استغلال المضطر في البيع، وقد يكون عقدهما أحيانا بين موسرين حرصا من المغبون فيهما على زيادة رأس ماله ليتسع نطاق تصرفه في التجارة ونحوها مثلا.(37/61)
من مسائل السلم.
آراء الفقهاء في حكم بيع دين السلم مع التوجيه والمناقشة.
أ - قال صاحب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع - رحمه الله - (1) .
(فصل)
وأما بيان ما يجوز من التصرف في المسلم فيه وما لا يجوز، فنقول وبالله التوفيق: لا يجوز استبدال المسلم فيه قبل قبضه، بأن يأخذ رب السلم مكانه من غير جنسه لما ذكرنا أن المسلم فيه وإن كان دينا فهو مبيع ولا يجوز بيع المبيع المنقول قبل القبض، ويجوز الإبراء عنه لأن قبضه ليس بمستحق على رب السلم وكان هو بالإبراء متصرفا في خالص حقه بالإسقاط فله ذلك بخلاف الإبراء عن رأس المال، لأنه مستحق القبض حقا للشرع فلا يملك إسقاطه بنفسه بالإبراء على ما ذكرنا.
ب - قال ابن رشد - رحمه الله - في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2) :
مسألة - اختلف العلماء - في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه قبل قبضه فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا، وهم القائلون بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق. وتمسك أحمد وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (3) » وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين: أحدهما إذا كان المسلم فيه طعاما، وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترط في بيعه القبض هو الطعام على ما جاء عليه النص في الحديث.
والثاني: إذا لم يكن المسلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله قبل أن يكون المسلم فيه عرضا، والثمن عرضا مخالفا له، فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئا من جنس ذلك
__________
(1) ج 7 ص 3178.
(2) ج 2 ص 155.
(3) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .(37/62)
العرض الذي هو الثمن وذلك أن هذا يدخله إما سلف أو زيادة وإن كان العوض المأخوذ أكثر من رأس مال السلم، وأما ضمان وسلف إن كان مثله أو أقل وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما لم يجز أن يأخذ فيه طعاما آخر أكثر، لا من جنسه ولا من غير جنسه، فإن كان مثل طعامه في الجنس والكيل والصفة فيما حكاه عبد الوهاب جاز، لأنه يحمله على العوض، وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من الطعام المسلم فيه طعاما من صفته، وإن كان أقل جودة، لأنه عنده من باب البدل في الدنانير، والإحسان: مثل أن يكون له عليه قمح فيأخذ بمكيلته شعيرا، وهذا كله من شرطه عند مالك أن لا يتأخر القبض لأنه يدخله الدين بالدين، وإن كان رأس مال السلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه جاز ما لم يكن أكثر منه، ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة إذا كان مثله أو أقل، وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال السلم، وأما بيع السلم من غير المسلم إليه، فيجوز بكل شيء يجوز به التبايع ما لم يكن طعاما، لأنه يدخله ببيع الطعام قبل قبضه، وأما الإقالة فمن شرطها عند مالك أن لا يدخلها زيادة ولا نقصان فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع ودخلها ما يدخل البيوع، أعني أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال مثل أن يتذرع إلى بيع وسلف، أو إلى وضع وتعجل، أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه، مثال ذلك في دخول بيع وسلف به إذا حل الأجل، فأقاله على أن أخذ البعض وأقال من البعض فإنه لا يجوز عنده فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف، وذلك جائز عند الشافعي وأبي حنيفة، لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع.
ج - قال صاحب المجموع شرح المهذب (1) .
__________
(1) ج 13 ص 119 - 161(37/63)
قال المصنف - رحمه الله -:
(فصل)
يجوز فسخ عقد السلم بالإقالة لأن الحق لهما، فجاز لهما الرضا بإسقاطه، فإذا فسخا أو انفسخ بانقطاع الثمرة في أحد القولين أو بالفسخ في القول الآخر رجع المسلم إلى رأس المال فإن كان باقيا وجب رده، وإن كان تالفا، ثبت بدله في ذمة المسلم إليه، فإن أراد أن يسلمه في شيء آخر لم يجز لأنه بيع دين بدين، وإن أراد أن يشتري به عينا نظرت فإن كان تجمعهما علة واحدة في الربا، كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير لم يجز أن يتفرقا قبل القبض كما لو أراد أن يبيع أحدهما بالآخر عينا بعين، وإن لم تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالحنطة والثوب بالثوب ففيه وجهان. أحدهما يجوز أن يتفرقا من غير قبض كما يجوز إذا باع أحدهما بالآخر عينا بعين أن يتفرقا من غير قبض، والثاني لا يجوز، لأن المبيع في الذمة فلا يجوز أن يتفرقا قبل قبض عوضه كالمسلم فيه، والله تعالى أعلم.
الشرح - الأحكام: الإقالة فسخ وليست ببيع على المشهور من المذهب سواء كان قبل القبض وبعده، وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله - لأنه يقول: هي بيع في حق غير المتعاقدين، فثبتت بها الشفعة، وقال أبو يوسف - رحمه الله -: إن كان قبل القبض فهي فسخ، وإن كان بعد القبض فهي بيع، وقال مالك - رحمه الله -: هي بيع بكل حال.
وحكى القاضي أبو الطيب أنه قول قديم للشافعي - رحمه الله -، وأما أبو حامد فحكاه وجها لبعض أصحابنا، دليلنا أن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع فكان فسخا كالرد بالعيب، إذا ثبت هذا فإن أسلم رجل إلى غيره شيئا في شيء ثم تقايلا في عقد السلم صح، وقد وافقنا مالك - رحمه الله - على ذلك وهذا من أوضح دليل على أن الإقالة فسخ، لأنها(37/64)
لو كانت بيعا لما صح في المسلم فيه قبل القبض، كما لا يصح بيعه، وإن أقاله في بعض المسلم فيه صح في القدر الذي أقاله، وقال ابن أبي ليلى: يكون إقالة في الجميع، وقال ربيعة ومالك: لا يصح، دليلنا أن الإقالة مندوب إليها بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أقال نادما في بيع أقاله الله نفسه يوم القيامة (1) » وما جاز في جميع المبيع جاز في بعضه كالإبراء والإنظار، وإن أقاله بأكثر من الثمن أو أقل منه إلى جنس آخر لم تصح الإقالة، وقال أبو حنيفة: تصح الإقالة، ويجب رد الثمن المسمى في العقد، دليلنا أن المسلم والمشتري لم يسقط حقه من المبيع إلا بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الإقالة، كما لو اشترى منه داره بألف بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الإقالة، كما لو اشترى منه داره بألف بشرط أن يبيعه سيارته بألف.
(فرع) وإن ضمن ضامن عن المسلم إليه المسلم فيه، ثم إن الضامن صالح المسلم عما في ذمة المسلم إليه بمثل رأس مال السلم لم يصح الصلح، لأن الضامن لا يملك المسلم فيه فيعوض عنه، فأما إذا أكد المسلم إليه بمثل رأس مال السلم، قال أبو العباس صح الصلح وكان إقالة، لأن الإقالة هو أن يشتري ما دفع ويعطي ما أخذ، وهذا مثله. (فرع) وإذا انفسخ عقد السلم بالفسخ أو الانفساخ سقط المسلم فيه عن ذمة المسلم إليه، ورجع المسلم إلى رأس مال السلم، فإن كان باقيا أخذه، وإن كان تالفا رجع إلى مثله إن كان له مثل، وإن كان لا مثل له رجع إلى قيمته، وإن أراد أن يسلم في شيء آخر لم يجز لأنه بيع دين بدين.
وإن أراد أن يأخذ ما هو من جنسه جاز أن يأخذ مثله، ولم يجز أن يأخذ أكثر منه ولا أقل منه، ولا يصح أن يتفرقا قبل قبضه، وإن أراد أن يأخذ عنه من غير جنسه إلا أنه لا يصح أن يتفرقا قبل قبضه كما قلنا في
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3460) ، سنن ابن ماجه التجارات (2199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .(37/65)
البيع، وإن أراد أن يأخذ منه عوضا ليس من أموال الربا، كالثياب والدواب، أو كان رأس المال من غير أموال الربا صح ذلك أيضا.
وهل يشترط فيه القبض قبل التفرق؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يشترط ذلك، فلا يفترقان والعوض المعوض في ضمان واحد.
والثاني: لا يشترط ذلك، كما لو اشترى أحدهما بالآخر، وإن اختلفا في قدر رأس مال السلم فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به، وإن اختلفا في قدر المسلم فيه أو الأجل أو في قدره تحالفا، وإن اتفقا على الأجل واختلفا في انقضائه وادعى المسلم انقضاء الأجل وادعى المسلم إليه بقاءه فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، لأن الأصل بقاؤه والله أعلم.
د - قال صاحب المغني - رحمه الله - (1) :
" مسألة " قال (وبيع المسلم فيه من بائعه أو من غيره قبل قبضه فاسد وكذلك الشركة فيه والتولية والحوالة به طعاما كان أو غيره) أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا، وقد «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن» ؛ لأنه مبيع لم يدخل في ضمانه. فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه.
وأما الشركة فيه والتولية فلا تجوز أيضا؛ لأنهما بيع على ما ذكرنا من قبل وبهذا قال أكثر أهل العلم وحكي عن مالك جواز الشركة والتولية، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وأرخص في الشركة والتولية» .
ولنا: أنها معاوضة في المسلم فيه قبل القبض فلم تجز كما لو كانت بلفظ البيع، ولأنهما نوعا بيع فلم يجوزا في السلم قبل قبضه كالنوع الآخر
__________
(1) ص 301 - 303، جـ 4.(37/66)
والخبر لا نعرفه، وهو حجة لنا، لأنه نهي عن بيع الطعام قبل قبضه، والشركة والتولية بيع، فيدخلان في النهي، ويحمل قوله «وأرخص في الشركة والتولية» على أنه أرخص فيهما في الجملة لا في هذا الموضع.
وأما الإقالة: فإنها فسخ وليست بيعا.
وأما الحوالة به فغير جائزة، لأن الحوالة إنما تجوز على دين مستقر والسلم بعرض الفسخ فليس بمستقر، ولأنه نقل للملك في المسلم فيه على غير وجه الفسخ فلم يجز كالبيع، ومعنى الحوالة به أن يكون لرجل طعام من سلم وعليه مثله من قرض أو سلم آخر أو بيع فيحيل بما عليه من الطعام على الذي له عنده السلم فلا يجوز، وإن أحال المسلم إليه المسلم بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا، لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه فلم يجز كالبيع.
وأما بيع المسلم فيه من بائعه فهو أن يأخذ غير ما أسلم فيه عوضا عن المسلم فيه، فهذا حرام سواء كان المسلم فيه موجودا أو معدوما، سواء كان العوض مثل المسلم فيه في القيمة أو أقل أو أكثر، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل فلو جرى المسلم بأخذ الشعير مكان البر جاز، ولم يجز أكثر من ذلك، وهذا يحمل على الرواية التي فيها أن البر والشعير جنس واحد، والصحيح في المذهب خلافه وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه بتعجله ولا يؤخره، إلا الطعام قال ابن المنذر: وقد ثبت أن ابن عباس قال: (إذا أسلم في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه ولا تربح مرتين) رواه سعيد في سننه.
ولنا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (1) » رواه أبو داود وابن ماجه، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع، فلم يجز كبيعه
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .(37/67)
من غيره، فأما إن أعطاه من جنس ما أسلم فيه خيرا منه أو دونه في الصفات جاز، لأن ذلك ليس ببيع، إنما هو قضاء للحق مع تفضل من أحدهما.
قال ابن القيم - رحمه الله - في تهذيب السنن على حديث من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره (1) اختلف الفقهاء في حكم هذا الحديث، وهو جواز أخذ غير المسلم فيه عوضا عنه وللمسألة صورتان إحداهما: أن يعاوض عن المسلم فيه مع بقاء عقد السلم، فيكون قد باع دين السلم قبل قبضه.
والصورة الثانية: أن ينفسخ العقد بإقالة أو غيرها، فهل يجوز أن يصرف الثمن في عوض آخر غير المسلم فيه؟
فأما المسألة الأولى: فمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد - في المشهور عنه - أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، لا لمن هو في ذمته ولا لغيره، وحكى بعض أصحابنا ذلك إجماعا، وليس بإجماع، فمذهب مالك جوازه وقد نص عليه أحمد في غير موضع، وجوز أن يأخذ عوضه عرضا بقدر قيمة دين السلم وقت الاعتياض ولا يربح فيه.
وطائفة من أصحابنا خصت هذه الرواية بالحنطة والشعير فقط، كما قال في المستوعب: ومن أسلم في شيء لم يجز أن يأخذ من غير جنسه بحال في إحدى الروايتين، والأخرى: يجوز أن يأخذ ما دون الحنطة من الحبوب كالشعير ونحوه بمقدار كيل الحنطة لا أكثر منها ولا بقيمتها نص عليه في رواية أبي طالب إذا أسلفت في كيل حنطة فأخذت شعيرا فلا بأس وهو دون حقك، ولا يأخذ مكان الشعير حنطة.
وطائفة ثالثة من أصحابنا: جعلت المسألة رواية واحدة وإن هذا النص بناء على قوله في الحنطة والشعير إنهما جنس واحد، وهي طريقة
__________
(1) ص 111 - 118 ج 3.(37/68)
صاحب المغني.
وطائفة رابعة من أصحابنا: حكوا رواية مطلقة في المكيل والموزون وغيره.
ونصوص أحمد تدل على صحة هذه الطريقة، وهي طريقة أبي حفص الطبري وغيره.
قال القاضي: نقلت من خط أبي حفص في مجموعه: فإن كان ما أسلم فيه مما يكال أو يوزن فأخذ من غير نوعه مثل كيله مما هو دونه في الجودة جاز، وكذلك إن أخذ بثمنه مما لا يكال ولا يوزن كيف شاء.
ونقل أبو القاسم عن أحمد قلت لأبي عبد الله: إذا لم يجد ما أسلم فيه ووجد غيره من جنسه أيأخذه؟ قال: نعم، إذا كان دون الشيء الذي له كما لو أسلم في قفيز حنطة موصلي فقال: آخذ مكانه شلبيا، أو قفيز شعير، فكيلته واحدة لا يزداد، وإن كان فوقه فلا يأخذ. وذكر حديث ابن عباس رواه طاوس عنه: " إذا أسلمت في شيء فجاء الأجل فلم تجد الذي أسلمت فيه فخذ عوضا بأنقص منه ولا تربح مرتين ".
ونقل أحمد بن أصرم: سئل عن رجل أسلم في طعام إلى أجل، فإذا حل الأجل يشتري منه عقارا أو دارا؟ فقال: نعم، يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن.
وقال حرب: سألت أحمد فقلت: رجل أسلم إلى رجل دراهم في بر، فلما حل الأجل لم يكن عنده بر؟ فقال: قوم الشعير بالدراهم فخذ من الشعير فقال: لا يأخذ منه الشعير إلا مثل كيل البر أو أنقص، قلت: إذا كان البر عشرة أجربة يأخذ الشعير عشرة أجربة، قال: نعم.
إذا عرف هذا، فاحتج المانعون بوجوه.
أحدها: الحديث.
والثاني: «نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه» .(37/69)
والثالث: «نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن (1) » وهذا غير مضمون عليه؛ لأنه في ذمة المسلم إليه.
والرابع: أن هذا المبيع مضمون له على المسلم إليه، فلو جوزنا بيعه صار مضمونا عليه للمشتري فيتولى في المبيع ضمانان.
الخامس: أن هذا إجماع كما تقدم.
هذا جملة ما احتجوا به.
قال المجوزون: الصواب جواز هذا العقد، والكلام معكم في مقامين.
أحدهما: في الاستدلال على جوازه، والثاني في الجواب عما استدللتم به على المنع.
فأما الأول: فنقول: قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: (إذا أسلفت في شيء إلى أجل فإن أخذت ما سلفت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه ولا تربح مرتين) . رواه شعبة.
فهذا قول صحابي، وهو حجة، ما لم يخالف.
قالوا: وأيضا فلو امتنعت المعاوضة عليه لكان ذلك لأجل كونه مبيعا لم يتصل به القبض، وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال: لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء (2) » . فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه.
فما الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين السلم بغيره؟
قالوا: وقد نص أحمد على جواز بيع الدين لمن هو في ذمته ولغيره وإن كان أكثر أصحابنا لا يحكون عنه جوازا لغير من هو في ذمته، فقد نص عليه في مواضع حكاه شيخنا أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - عنه.
والذين منعوا جواز بيعه لمن هو في ذمته قاسوه على السلم، وقالوا لأنه
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .(37/70)
دين، فلا يجوز بيعه كدين السلم، وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: أنه قد ثبت في حديث ابن عمر جوازه.
والثاني: أن دين السلم غير مجمع على منع بيعه، فقد ذكرنا عن ابن عباس جوازه، ومالك يجوز بيعه من غير المستسلف.
والذين فرقوا بين دين السلم وغيره لم يفرقوا بفرق مؤثر، والقياس التسوية بينهما.
وأما المقام الثاني: فقالوا: أما الحديث: فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: ضعفه كما تقدم.
والثاني: أن المراد به أن لا يصرف المسلم فيه إلى سلم آخر أو يبيعه بمعين مؤجل، لأنه حينئذ يصير بيع دين بدين وهو منهي عنه، وأما بيعه بعوض حاضر من غير ربح فلا محذور فيه كما أذن فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عمر.
فالذي نهي عنه من ذلك: هو من جنس ما نهي عنه من بيع الكالئ بالكالئ، والذي يجوز منه هو من جنس ما أذن فيه من بيع النقد لمن هو في ذمته بغيره من غير ربح.
وأما نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه: فهذا إنما هو في المعين أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، وأما ما في الذمة فلا اعتياض عنه من جنس الاستيفاء وفائدته سقوط ما في ذمته عنه لا حدوث ملك له، فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة، فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عرضا أو غيره أسقط ما في ذمته، فكان كالمستوفي دينه لأن بدله يقوم مقامه، ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال، والبيع المعروف: هو أن يملك المشتري ما اشتراه، وهذا لا يملكه شيئا، بل سقط الدين من ذمته، ولهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل أنه باعه دراهم بدراهم بل يقال وفاه حقه بخلاف ما لو باعه دراهم معينة(37/71)
بمثلها فإنه بيع، ففي الأعيان إذا عاوض عليها بجنسها أو بعين غير جنسها يسمى بيعا، وفي الدين إذا وفاها بجنسها لم يكن بيعا، فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعا، بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة، ولو حلف ليقضينه حقه غدا فأعطاه عنه عرضا بر في أصح الوجهين.
وجواب آخر: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أريد به بيعه من غير بائعه، وأما بيعه من البائع ففيه قولان معروفان، وذلك لأن العلة في المنع إن كانت توالي الضمانين اطرد المنع في البائع وغيره وإن كانت عدم تمام الاستيلاء، وأن البائع لم ينقطع علقه عن المبيع، بحيث ينقطع طمعه في الفسخ ولا يتمكن من الامتناع من الوفاء إذا رأى المشتري قد ربح فيه لم يطرد النهي في بيعه من بائعه قبل قبضه لانتفاء هذه العلة في حقه، وهذه العلة أظهر وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة، ولا تنافي بين كون العين الواحدة مضمونة له من وجه وعليه من وجه آخر، فهي مضمونة له وعليه باعتبارين، وأي محذور في هذا؟ كمنافع الإجارة فإن المستأجر له أن يؤجر ما استأجره، فتكون المنفعة مضمونة له وعليه وكالثمار بعد بدو صلاحها، له أن يبيعها على الشجر وإن أصابتها جائحة رجع على البائع، فهي مضمونة له وعليه ونظائره كثيرة.
وأيضا: فبيعه من بائعه شبيه بالإقالة وهي جائزة قبل القبض على الصحة.
وأيضا فدين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع، وبيع المبيع لبائعه قبل قبضه غير جائز في أحد القولين، فعلم أن الأمر في دين السلم أسهل منه في بيع الأعيان، فإذا جاز في الأعيان أن تباع لبائعها قبل القبض فدين السلم أولى بالجواز، كما جازت الإقالة فيه قبل القبض اتفاقا، بخلاف الإقالة في الأعيان.
ومما يوضح ذلك: أن ابن عباس لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه، واحتج(37/72)
عليه بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه، وقال " أحسب كل شيء بمنزلة الطعام " ومع هذا فقد ثبت عنه: أنه جوز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح فيه ولم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما، لأن البيع هنا من البائع للبائع الذي هو في ذمته، فهو يقبضه من نفسه لنفسه بل في الحقيقة ليس هنا قبض، بل يسقط عنه ما في ذمته، فتبرأ ذمته، وبراءة الذمم مطلوبة في نظر الشرع لما في شغلها من المفسدة، فكيف يصح قياس هذا على بيع شيء غير مقبوض لأجنبي لم يتحصل بعد، ولم تنقطع علق بائعه عنه؟
وأيضا: فإنه لو سلم المسلم فيه ثم أعاده إليه جاز، فأي فائدة في أخذه منه ثم إعادته إليه؟ وهل ذلك إلا مجرد كلفة ومشقة لم تحصل بها فائدة؟ .
ومن هنا يعرف فضل علم الصحابة وفقههم على كل من بعدهم.
قالوا: وأما استدلالكم بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن: فنحن نقول بموجبه وأنه لا يربح فيه كما قال ابن عباس: " خذ عرضا بأنقص منه ولا تربح مرتين ".
فنحن إنما نجوز له أن يعاوض عنه بسعر يومه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمر في بيع النقود في الذمة: «لا بأس إذا أخذتها بسعر يومها (1) » فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جوز الاعتياض عن الثمن بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وقد نص أحمد على هذا الأصل في بدل العوض وغيره من الديون: أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وكذلك قال مالك: يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه، كما قال ابن عباس لكن مالكا يستثني الطعام خاصة، لأن من أصله: أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز، بخلاف غيره.
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .(37/73)
وأما أحمد: فإنه فرق بين أن يعتاض عنه بعرض أو حيوان أو نحوه دون أن يعتاض بمكيل أو موزون، فإن كان بعرض ونحوه جوزه بسعر يومه كما قال ابن عباس ومالك، وإن اعتاض عن المكيل بمكيل أو عن الموزون بموزون فإنه منعه لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض إذا كان لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين، ولكن جوزه إذا أخذ بقدره مما هو دونه كالشعير عن الحنطة نظرا منه إلى أن هذا استيفاء لا معاوضة كما يستوفى الجيد عن الرديء، ففي العرض جوز المعارضة إذ لا يشترط هناك تقابض، وفي المكيل والموزون منع المعاوضة لأجل التقابض وجوز أخذ قدر حقه أو دونه، لأنه استيفاء، وهذا من دقيق فقهه - رضي الله عنه -.
قالوا: وأما قولكم إن هذا الدين مضمون له فلو جوزنا بيعه لزم توالي الضمانين فهو دليل باطل من وجهين:
أحدهما: أنه لا توالي ضمانين هنا أصلا، فإن الدين كان مضمونا له في ذمة المسلم إليه، فإذا باعه إياه لم يصر مضمونا عليه بحال، لأنه مقبوض في ذمة المسلم إليه، فمن أي وجه يكون مضمونا على البائع بل لو باعه لغيره لكان مضمونا له على المسلم إليه ومضمونا عليه للمشتري، وحينئذ فيتوالى ضمانان.
الجواب الثاني: أنه لا محذور في توالي الضمانين، وليس بوصف مستلزم لمفسدة يحرم العقد لأجلها، وأين الشاهد من أصول الشرع لتأثير هذا الوصف وأي حكم علق الشارع فساده على توالي الضمانين؟ وما كان من الأوصاف هكذا فهو طردي لا تأثير له.
وقد قدمنا ذكر الصور التي فيها توالي الضمانين، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جوز المعاوضة عن ثمن المبيع في الذمة ولا فرق بينه وبين دين المسلم.
قالوا: وأيضا فالمبيع إذا تلف قبل التمكن من قبضه كان على البائع(37/74)
أداء الثمن الذي قبضه من المشتري، فإذا كان هذا المشتري قد باعه فعليه أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني، فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان الآخر، فلا محذور في ذلك.
وشاهده: المنافع في الإجارة والثمرة قبل القطع، فإنه قد ثبت بالسنة الصحيحة التي لا معارض لها إلا وضع الثمن عن المشتري إذا أصابتها جائحة، ومع هذا يجوز التصرف فيها، ولو تلف لصارت مضمونة عليه بالثمن الذي أخذه، كما هي مضمونة له بالثمن الذي دفعه.
قالوا: وأما قولكم: إن المنع منه إجماع فكيف يصح دعوى الإجماع مع مخالفة حبر الأمة ابن عباس وعالم المدينة مالك بن أنس؟
فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة كما تقدم، والواجب عند التنازع: الرد إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
(فصل) وأما المسألة الثانية: وهي إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها فهل يجوز أن يأخذ عن دين المسلم عوضا من غير جنسه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز ذلك حتى يقبضه ثم يصرفه فيما شاء، وهذا اختيار الشريف أبي جعفر وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: يجوز أخذ العوض عنه وهو اختيار القاضي أبي يعلى وشيخ الإسلام ابن تيمية وهو مذهب الشافعي وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون من القرض وغيره. وأيضا، فهذا مال رجع إليه بفسخ العقد فجاز أخذ العوض عنه كالثمن في المبيع.
وأيضا، فحديث ابن عمر في المعاوضة عما في الذمة صريح في الجواز. واحتج المانعون بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (1) » . قالوا: ولأنه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم تجز المعاوضة
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3468) ، سنن ابن ماجه التجارات (2283) .(37/75)
عليه قبل قبضه وحيازته كالمسلم فيه.
قال المجوزون: أما استدلالكم بالحديث: فقد تقدم ضعفه، ولو صح لم يتناول محل النزاع، لأنه لم يصرف المسلم فيه في غيره. وإنما عاوض عن دين السلم بغيره فأين المسلم فيه من رأس مال السلم.
وأما قياسكم المنع على نفس المسلم فيه فالكلام فيه أيضا وقد تقدم: أنه لا نص يقتضي المنع منه ولا إجماع ولا قياس.
ثم لو قدر تسليمه لكان الفرق بين المسلم فيه ورأس مال السلم واضحا، فإن المسلم فيه مضمون بنفس العقد، والثمن إنما يضمن بعد فسخ العقد فكيف يلحق أحدهما بالآخر؟ فثبت أنه لا نص في المنع، ولا إجماع ولا قياس.
فإذا عرف هذا فحكم رأس المال بعد الفسخ حكم سائر الديون لا يجوز أن تجعل سلما في شيء آخر لوجهين:
أحدهما: أنه بيع دين بدين.
والثاني: أنه من ضمان المسلم إليه، فإذا جعله سلما في شي آخر ربح فيه وذلك ربح ما لم يضمن، ويجوز فيه ما يجوز في دين القرض وأثمان المبيعات إذا قسمت فإذا أخذ فيه أحد النقدين عن الآخر وجب قبض العوض في المجلس، لأنه صرف بسعر يومه لأنه غير مضمون عليه، وإن عاوض عن المكيل بمكيل أو عن الموزون بموزون من غير جنسه كقطن بحرير أو كتان وجب قبض عوضه في مجلس التعويض.
وإن بيع بغير مكيل أو موزون كالعقار والحيوان فهل يشترط القبض في مجلس التعويض؟ فيه وجهان أصحهما: لا يشترط، وهو منصوص أحمد. والثاني: يشترط.
ومأخذ القولين: أن تأخير قبض العوض يشبه بيع الدين بالدين فيمنع منه، ومأخذ الجواز وهو الصحيح - أن النساءين ما لا يجمعهما(37/76)
علة، كالحيوان بالموزون جائز للاتفاق على جواز سلم النقدين في ذلك، والله أعلم.
ونظير هذه المسألة: إذا باعه ما يجري فيه الربا كالحنطة مثلا بثمن مؤجل فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة أو مكيلا آخر من غير الجنس مما يمتنع ربا النساء بينهما فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: المنع وهو المأثور عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس، وهو مذهب مالك وإسحاق.
والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وابن المنذر، وبه قال جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين، وهو اختيار صاحب المغني وشيخنا.
والأول: اختيار عامة الأصحاب.
والصحيح: الجواز لما تقدم.
قال عبد الله بن زيد: قدمت على علي بن حسين فقلت له: (إني أجذ نخلي وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل فيقدمون بالحنطة وقد حل الأجل فيوقفونها بالسوق، فأبتاع منهم وأقاصهم؟ قال: لا باس بذلك إذا لم يكن منك على رأي) يعني إذا لم يكن حيلة مقصودة.
فهذا شراء للطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول فصح لأنه لا يتضمن ربا بنسيئة ولا تفاضل.
والذين يمنعون ذلك يجوزون أن يشتري منه الطعام بدراهم، ويسلمها إليه ثم يأخذها منه وفاء أو نسيئة منه بدراهم في ذمته، ثم يقاصه بها ومعلوم أن شراءه الطعام منه بالدراهم التي له في ذمته أيسر من هذا وأقل كلفة، والله أعلم.
قال محمد بن إسماعيل الصنعاني في سبل السلام (1) وعن عمر - رضي
__________
(1) ج 3 ص 44 - 45.(37/77)
الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن بيع الكالئ بالكالئ يعني الدين بالدين» رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف، ورواه الحاكم والدارقطني من دون تفسير، لكن في إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، قال أحمد: لا تحل الرواية عندي عنه ولا أعرف هذا الحديث لغيره وصحفه الحاكم فقال موسى بن عتبة، فصححه على شرط مسلم وتعجب البيهقي من تصحيحه على الحاكم، قال أحمد: ليس في هذا حديث يصح لكن إجماع الناس أنه لا يجوز بيع دين بدين. وظاهر الحديث أن تفسيره بذلك مرفوع، والكالئ من كلاء الدين كلوا فهو كالئ إذا تأخر، وكلاءته إذا أنسأته وقد لا يهمز تخفيفيا، قال في النهاية: هو أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه ولا يجري بينهما تقابض، والحديث دل على تحريم ذلك وإذا وقع كان باطلا.(37/78)
3 - بيعتان في بيعة
آراء الفقهاء في حكم البيعتين في بيعة مع التوجيه والمناقشة:
1 - قال النووي - رحمه الله - في المجموع شرح المهذب (1) :
قال المصنف - رحمه الله -:
(فإن قال بعتك بألف مثقال ذهبا وفضة فالبيع باطل، لأنه لم يبين القدر من كل واحد منهما فكان باطلا، وإن قال: بعتك بألف أو بألفين نسيئة - فالبيع باطل، لأنه لم يعقد على ثمن بعينه، فهو كما لو قال: بعتك أحد هذين العبدين) .
(الشرح) هاتان المسألتان كما قالهما باتفاق الأصحاب وهما داخلتان في النهي عن بيع الغرر، وقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة (2) » رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
__________
(1) ج 9 ص 372.
(2) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) .(37/78)
قال: وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وأبي سعيد وأنس وفسر الشافعي وغيره من العلماء البيعتين في بيعة تفسيرين (أحدهما) أن يقول: بعتك هذا بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة (والثاني) أن يقول: بعتك بمائة مثلا على أن تبيعني دارك بكذا وكذا، وقد ذكر المصنف التفسيرين في الفصل الذي بعد هذا، وذكرهما أيضا في التنبيه وذكرهما الأصحاب وغيرهم (والأول) أشهر، وعلى التقديرين البيع باطل بالإجماع.
(وأما) الحديث الذي في سنن أبي داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا (1) » فقال الخطابي وغيره: يحتمل أن يكون ذلك في قصة بعينها، كأنه أسلف دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فحل الأجل فطالبه فقال: يعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين فهذا بيع ثان قد دخل على البيع الأول فصار بيعتين في بيعة فيرد إلى أوكسهما وهو الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل فسخ الأول كانا قد دخلا في الربا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فرع) في مذاهب العلماء فيمن باع بألف مثقال ذهب وفضة، مذهبنا أنه بيع باطل وقال أبو حنيفة يصح ويكون الثمن نصفين، واحتج أصحابنا بالقياس على ما لو باعه بألف بعضه ذهب وبعضه فضة فإنه لا يصح.
ب - قال عبد الله بن قدامة - رحمه الله - في المغني (2) :
(مسألة) قال (وإذا قال بعتك بكذا على أن آخذ منك الدينار بكذا لم ينعقد البيع وكذلك إن باعه بذهب على أن يأخذ منه دراهم بصرف ذكراه. وجملته: أن البيع بهذه الصفة باطل، لأنه شرط في العقد أن يصارفه بالثمن الذي وقع العقد به والمصارفة عقد بيع فيكون بيعتان في بيعة، قال أحمد هذا معناه، وقد روى أبو هريرة قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة (3) » أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وروي أيضا عن
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .
(2) 233 - 235 ج 4.
(3) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) .(37/79)
عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهكذا كل ما كان في معنى هذا مثل أن يقول: بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا أو على أن تبيعني دارك أو على أن أؤجرك أو على أن تؤجرني كذا أو على أن تزوجني ابنتك أو على أن أزوجك ابنتي ونحو هذا، فهذا كله لا يصح، قال ابن مسعود (الصفقتان في صفقة ربا) وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء، وجوزه مالك وقال: لا ألتفت إلى اللفظ الفاسد إذا كان معلوما حلالا، فكأنه باع السلعة بالدراهم التي ذكر أنه يأخذها بالدنانير.
ولنا: الخبر، وأن النهي يقتضي الفساد، ولأن العقد لا يجب بالشرط لكونه لا يثبت في الذمة فيسقط، فيفسد العقد، لأن البائع لم يرض به إلا بذلك الشرط، فإذا فات فات الرضى به، ولأنه شرط عقدا في عقد لم يصح كنكاح الشغار وقوله (لا ألتفت إلى اللفظ) لا يصح لأن البيع هو اللفظ، فإذا كان فاسدا فكيف يكون صحيحا ويتخرج أن يصح البيع ويفسد الشرط بناء على ما لو شرط ما ينافي مقتضى العقد كما سبق، والله أعلم.
(فصل) وقد روي في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر: وهو أن يقول بعتك هذا العبد بعشرة نقدا أو بخمسة عشر نسيئة، أو بعشرة مكسرة أو تسعة صحاحا، هكذا فسره مالك والثوري وإسحاق وهو أيضا باطل. وهو قول الجمهور لأنه لم يجزم له ببيع واحد، فأشبه ما لو قال بعتك هذا أو هذا، ولأن الثمن مجهول فلم يصح كالبيع بالرقم المجهول، ولأن أحد العوضين غير معين ولا معلوم، فلم يصح كما لو قال بعتك أحد عبيدي، وقد روي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا لا بأس أن يقول: أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا، فيذهب على أحدهما وهذا محمول على أنه جرى بينهما بعد ما يجري في العقد، فكأن المشتري قال أنا آخذه بالنسيئة بكذا فقال: خذه أو قد رضيت ونحو ذلك، فيكون عقدا كافيا، وإن لم(37/80)
يوجد ما يقوم مقام الإيجاب أو يدل عليه لم يصح لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجابا لما ذكرناه وقد روي عن أحمد فيمن قال: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غدا فلك نصف درهم: أنه يصح فيحتمل أن يلحق به هذا البيع فيخرج وجها في الصحة، ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث إن العقد لا يمكن أن يصح لكونه جعالة يحتمل فيها الجهالة بخلاف البيع، ولأن العمل الذي يستحق به الأجر لا يمكن وقوعه إلا على إحدى الصفقتين فتتعين الأجرة المسماة عوضا له، فلا يفضي إلى التنارع وها هنا بخلافه.
(فصل) ولو باعه بشرط أن يسلفه أو يقرضه أو شرط المشتري ذلك عليه فهو محرم والبيع باطل، وهذا مذهب مالك والشافعي، ولا أعلم فيه خلافا إلا أن مالكا قال: إن ترك مشترط السلف بالسلف صح البيع. ولنا: ما روى عبد الله بن عمر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ربح ما لم يضمن وعن بيع ما لم يقبض وعن بيعتين في بيعة وعن شرطين في بيع وعن بيع وسلف (1) » أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وفي لفظ «لا يحل بيع وسلف (2) » ولأنه اشترط عقدا في عقد، ففسد كبيعتين في بيعة، ولأنه إذا اشترط القرض زاد في الثمن لأجله فتصير الزيادة في الثمن عوضا عن القرض وربحا له، وذلك ربا محرم ففسد كما لو صرح به ولأنه بيع فاسد فلا يعود صحيحا كما لو باع درهما بدرهمين ثم ترك أحدهما.
(فصل)
جـ - قال محمد بن علي الشوكاني - رحمه الله - في نيل الأوطار (باب بيعتين في بيعة) (3) .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من باع بيعتين في بيعة فله
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4631) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(3) ص 248 - 249 ج 5.(37/81)
أوكسهما أو الربا (1) » رواه أبو داود وفي لفظ «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيعتين في بيعة (2) » رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه، وعن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة (3) » قال سماك هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنسأ بكذا وهو بنقد بكذا وكذا، رواه أحمد.
حديث أبي هريرة باللفظ الأول في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد قال المنذري: والمشهور عنه من رواية الدراوردي ومحمد بن عبد الله الأنصاري «أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة (4) » انتهى، وهو باللفظ الثاني عند من ذكره المصنف وأخرجه أيضا الشافعي ومالك في بلاغاته، وحديث ابن مسعود أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه، وقال في مجمع الزوائد رجال أحمد ثقات وأخرجه أيضا البزار والطبراني في الكبير والأوسط وفي الباب عن ابن عمر عند الدارقطني وابن عبد البر قوله: «من باع بيعتين (5) » فسره سماك بما رواه المصنف عن أحمد عنه، وقد وافقه على مثل ذلك الشافعي فقال بأن يقول بعتك بألف نقدا أو ألفين إلى سنة فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا، ونقل ابن الرفعة عن القاضي أن المسألة مفروضة على أنه قبل على الإبهام أما لو قال قبلت بألف نقدا أو بألفين بالنسيئة صح ذلك، وقد فسر الشافعي بتفسير آخر فقال: هو أن يقول بعتك ذا العبد بألف على أن تبيعني دارك بكذا أي إذا وجب لك عندي وجب لي عندك، وهذا يصلح تفسيرا للرواية الأخرى من حديث أبي هريرة لا للأولى، فإن قوله «فله أوكسهما (6) » يدل على أنه باع الشيء الواحد بيعتين بيعة بأقل وبيعة بأكثر، وقيل في تفسير ذلك هو أن يسلفه دينارا في قفيز حنطة إلى شهر فلما حل الأجل وطالبه بالحنطة قال بعني القفيز الذي لك علي إلى شهرين بقفيزين، فصار ذلك بيعتين في بيعة لأن البيع الثاني قد دخل على الأول فيرد إليه أوكسهما وهو الأول كذا في
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/398) .
(4) صحيح البخاري الصلاة (368) ، سنن النسائي البيوع (4517) ، سنن ابن ماجه التجارات (2169) ، موطأ مالك الجامع (1704) .
(5) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .
(6) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .(37/82)
شرح السنن لابن رسلان قوله «فله أوكسهما (1) » أي أنقصهما قال الخطابي لا أعلم أحدا قال بظاهر الحديث وصحح البيع بأوكس الثمنين إلا ما حكي عن الأوزاعي وهو مذهب فاسد، انتهى، ولا يخفى أن ما قاله هو ظاهر الحديث لأن الحكم له بالأوكس يستلزم صحة البيع به، قوله " أو الربا " يعني أو يكون قد دخل هو وصاحبه في الربا المحرم إذا لم يأخذ الأوكس بل أخذ الأكثر وذلك ظاهر في التفسير الذي ذكره ابن رسلان، وأما في التفسير الذي ذكره أحمد عن سماك وذكره الشافعي ففيه متمسك من قال يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النسأ وقد ذهب إلى ذلك زين العابدين علي بن الحسين والناصر والمنصور بالله والهادوية والإمام يحيى.
وقالت الشافعية والحنفية وزيد بن علي والمؤيد بالله والجمهور أنه يجوز لعموم الأدلة القاضية بجوازه وهو الظاهر لأن ذلك المتمسك هو الرواية الأولى من حديث أبي هريرة وقد عرفت ما في راويها من المقال، ومع ذلك فالمشهور عنه اللفظ الذي رواه غيره وهو النهي عن بيعتين في بيعة ولا نتيجة فيه على المطلوب، ولو سلمنا أن تلك الرواية التي تفرد بها ذلك الراوي صالحة للاحتجاج لكان احتمالها لتفسير خارج عن محل النزاع كما سلف عن ابن رسلان قادحا في الاستدلال بها على المتنازع فيه، على أن غاية ما فيها الدلالة: على المنع من البيع إذا وقع على هذه الصورة وهي أن يقول نقدا بكذا إلا إذا قال من أول الأمر نسيئة بكذا فقط وكان أكثر من سعر يومه، مع أن المتمسكين بهذه الرواية يمنعون من هذه الصورة ولا يدل الحديث على ذلك فالدليل أخص من الدعوى، وقد جمعنا رسالة في هذه المسألة وسميناها شفاء الغلل في حكم زيادة الثمن لمجرد الأجل وحققناها تحقيقا لم نسبق إليه، والعلة في تحريم بيعتين في بيعة عدم استقرار الثمن في صورة بيع الشيء الواحد بثمنين والتعليق بالشرط المستقبل في
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) ، سنن أبو داود البيوع (3461) ، مسند أحمد بن حنبل (2/432) .(37/83)
صورة بيع هذا على يبيع منه ذاك ولزوم الربا في صورة لقفيز الحنطة: قوله «أو صفقتين في صفقة (1) » أي بيعتين في بيعة.
د - قال صاحب نصب الراية - رحمه الله - في أحاديث الهداية:
الحديث الثالث عشر: «روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صفقتين في صفقة (2) » ، قلت: رواه أحمد في " مسنده " حدثنا حسن، وأبو النضر، وأسود بن عامر، قالوا: ثنا شريك عن سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صفقتين في صفقة (3) » ، قال أسود: قال شريك: هو أن يبيع الرجل بيعا فيقول: هو نقدا بكذا، ونسيئة بكذا، انتهى. ورواه البزار في مسنده عن أسود بن عامر به ورواه الطبراني في معجمه الأوسط حدثنا أحمد بن القاسم ثنا عبد الملك بن عبد ربه الطائي ثنا ابن السماك بن حرب عن أبيه مرفوعا: «لا تحل صفقتان في صفقة» . انتهى.
ورواه العقيلي في ضعفائه من حديث عمرو بن عثمان بن أبي صفوان الثقفي ثنا سفيان عن سماك به مرفوعا: «الصفقة في الصفقتين ربا» ، انتهى. وأعله بعمرو بن عثمان هذا، وقال: لا يتابع على رفعه، والموقوف أولى، ثم أخرجه من طريق أبي نعيم ثنا سفيان به موقوفا، وهكذا رواه الطبراني في معجمه الكبير من طريق أبي نعيم به موقوفا وكذلك رواه أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان به موقوفا، قال أبو عبيد: ومعنى صفقتان في صفقة أن يقول الرجل للرجل: أبيعك هذا نقدا بكذا، أو نسيئة بكذا ويفترقان عليه، انتهى.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه في النوع الثامن والعشرين، من القسم الأول من حديث شعبة عن سماك به موقوفا «الصفقة في الصفقتين ربا» ، وأعاده في النوع التاسع والمائة من القسم الثاني كذلك بلفظ: «لا
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/398) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/398) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (1/398) .(37/84)
تحل صفقتان في صفقة» ، انتهى.
حديث آخر: أخرجه الترمذي، والنسائي عن محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص عن أبي سلمة عن أبي هريرة «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة (1) » ، انتهى. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، قال: وفسره بعض أهل العلم: أن يقول الرجل: أبيعك هذا الثوب نقدا بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كانت العقدة على أحدهما، وقال الشافعي: معناه أن يقول: أبيعك داري هذه بكذا، على أن تبيعني غلامك بكذا، فإذا وجب لي غلامك وجبت لك داري، انتهى. والمصنف فسره بأن يقول: أبيعك عبدي هذا على أن تخدمني شهرا، أو داري هذه على أن أسكنها شهرا قال: فإن الخدمة والسكنى إن كان يقابلها شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، وإلا فهو إعارة في بيع، وقد «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - (عن صفقتين (2) » الحديث، والحديث في الموطأ بلاغ، قال أبو مصعب: أخبرنا مالك أنه بلغه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة (3) » أهـ.
4 - بيع المضطر
أ - جاء في سنن أبي داود (4) .
عن شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي بن أبي طالب - أو قال علي قال: سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (5) ويبايع المضطرون وقد «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمر قبل أن تدرك (6) » في إسناده رجل مجهول.
قال الشيخ: بيع المضطر يكون من وجهين.
أحدهما: أن يضطر إلى العقد من طريق الإكراه عليه فهذا فاسد لا ينعقد.
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/398) .
(3) سنن الترمذي البيوع (1231) ، سنن النسائي البيوع (4632) .
(4) ج 3 ص 47.
(5) سورة البقرة الآية 237
(6) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .(37/85)
والوجه الآخر أن يضطر إلى البيع لدين يركبه أو مؤونة ترهقه فيبيع ما في يده بالوكس من أجل الضرورة، فهذا سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يبايع على هذا الوجه وأن لا يفتات عليه بماله، ولكن يعان ويقرض ويستمهل له إلى الميسرة حتى يكون له في ذلك بلاغ فإن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه جاز في الحكم ولم يفسخ.
وفي إسناد الحديث رجل مجهول لا ندري من هو إلا أن عامة أهل العلم قد كرهوا البيع على هذا الوجه.
قال الشيخ: أصل الغرر: هو ما طوي عنك علمه وخفي عليك باطنه وسره، وهو مأخوذ من قولك طويت الثوب على غرة، أي على كسره الأول، وكل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم، ومعجوزا عنه غير مقدور عليه فهو غرر، وذلك مثل أن يبيعه سمكا في الماء أو طيرا في الهواء أو لؤلؤة في البحر أو عبدا آبقا أو جملا شاردا أو ثوبا في جراب لم يره ولم ينشره أو طعاما في بيت لم يفتحه أو ولد بهيمة لم يولد أو ثمر شجرة لم تثمر في نحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدرى هل تكون أم لا؟ فإن البيع مفسوخ فيها.
وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه البيوع تحصينا للأموال أن تضيع وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها.
ب - قال ابن مفلح في البيع (1) وله شروط:
أحدها الرضى فإن أكره بحق صح، وإن أكره على وزن مال فباع ملكه كره الشراء ويصح على الأصح، وهو المضطر، ونقل حرب تحريمه وكراهته وفسره في روايته فقال: يجيئك محتاج فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين، ولأبي داود عن محمد بن عيسى عن هشيم عن صالح بن عامر - كذا قال محمد قال حدثنا شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي أو قال:
__________
(1) ج 4 ص 5.(37/86)
قال علي: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمرة قبل أن تدرك (1) » .
صالح لا يعرف: تفرد عنه هشيم والشيخ لا يعرف أيضا، ولأبي يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا روح بن حاتم حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال بلغني عن حذيفة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث وفيه «ألا إن بيع المضطرين حرام ألا إن بيع المضطرين حرام (2) » .
الكوثر ضعيف بإجماع قال أحمد أحاديثه بواطيل ليس بشيء وقال ابن هبيرة رأيت بخط ابن عقيل حكى عن كسرى أن بعض عماله أراد أن يجري نهرا، فكتب إليه أنه لا يجرى إلا في بيت لعجوز فأمر أن يشتري منها فضوعف لها الثمن فلم تقبل فكتب كسرى أن خذوا بيتها فإن المصالح الكليات تغفر فيها المفاسد الجزئيات، قال ابن عقيل: وجدت هذا صحيحا فإن الله وهو الغاية في العدل يبعث المطر والشمس فإن كان الحكيم القادر لم يراع نوادر المضار لعموم المصالح، فغيره أولى.
جـ - قال ابن القيم - رحمه الله - بصدد حديثه عن اعتبار القصود في العقود (3) :
الصورة السابعة: إذا اشترى أو استأجر مكرها لم يصح وإن كان في الظاهر قد حصل صورة العقد لعدم قصده وإرادته فدل على أن القصد روح العقد ومصححه ومبطله، فاعتبار القصود في العقود أولى من اعتبار الألفاظ فإن الألفاظ مقصودة لغيرها ومقاصد العقود هي التي تراد لأجلها، فإذا ألغيت واعتبرت الألفاظ التي لا تراد لنفسها كان هذا إلغاء لما يجب اعتباره واعتبارا لما قد يسوغ إلغاؤه، وكيف يقدم اعتبار اللفظ
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .
(2) سنن أبو داود البيوع (3382) ، مسند أحمد بن حنبل (1/116) .
(3) ج 3 ص 106 إعلام الموقعين.(37/87)
الذي قد ظهر كل الظهور أن المراد خلافه؟ بل قد يقطع بذلك على المعنى الذي قد ظهر بل قد يتيقن أنه المراد. هـ
تقدم بعض الكلام في بيع المضطر في الحديث عن العينة والتورق.
5 - بيع الإنسان ما لم يقبض وبيعه ما ليس عنده وذكر آراء الفقهاء في ذلك.
أ - قال صاحب بدائع الصنائع وترتيب الشرائع - رحمه الله - بصدد كلامه عن شروط صحة البيع: ومنها القبض في بيع المشترى المنقول فلا يصح بيعه قبل القبض لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام «نهى عن بيع ما لم يقبض (1) » (1672) والنهي يوجب فساد المنهي ولأنه بيع فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه، لأنه إذا هلك المعقود عليه قبل القبض يبطل البيع الأول فينفسخ الثاني لأنه بناء على الأول، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فيه غرر (1673) وسواء باعه من غير بائعه لأن النهي مطلق لا يوجب الفصل بين البيع من غير بائعه وبيع البيع من بائعه، وكذا معنى الغرر لا يفصل بينهما فلا يصح الثاني والأول على حاله ولا يجوز إشراكه وتوليته لأن كل ذلك بيع اهـ المقصود منه (2) .
ب - قال ابن رشد - رحمه الله - في بداية المجتهد ونهاية المقتصد: (3) .
وأما بيع الطعام قبل قبضه فإن العلماء مجمعون على منع ذلك إلا ما يحكى عن عثمان البتي، وإنما أجمع العلماء على ذلك لثبوت النهي عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (4) » واختلف من هذه المسألة في ثلاثة مواضع أحدها: فيما يشترط فيه القبض من المبيعات. والثاني: في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط. والثالث: في الفرق بين ما يباع من الطعام
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2135) ، صحيح مسلم البيوع (1525) ، سنن الترمذي البيوع (1291) ، سنن النسائي البيوع (4600) ، سنن أبو داود البيوع (3497) ، سنن ابن ماجه التجارات (2227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/356) .
(2) ص 3197 - 3098 ج 7.
(3) ج 2 ص 108 - 111.
(4) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1336) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(37/88)
مكيلا وجزافا، ففيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول - فيما يشترط فيه القبض من المبيعات.
وأما بيع ما سوى الطعام قبل القبض فلا خلاف في مذهب مالك في إجازته، وأما الطعام الربوي فلا خلاف في مذهبه أن القبض شرط في بيعه، وأما غير الربوي من الطعام فعنه في ذلك روايتان: إحداهما: المنع وهي الأشهر، وبها قال أحمد وأبو ثور إلا أنهما اشترطا مع الطعم الكيل والوزن، والرواية الأخرى الجواز، وأما أبو حنيفة فالقبض عنده شرط في كل مبيع ما عدا المبيعات التي لا تنقل ولا تحول من الدور والعقار، وأما الشافعي فإن القبض عنده شرط في كل مبيع، وبه قال الثوري، وهو مروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس، وقال أبو عبيد وإسحاق: كل شيء لا يكال ولا يوزن فلا بأس ببيعه قبل قبضه، فاشترط هؤلاء القبض في المكيل والموزون، وبه قال ابن حبيب وعبد العزيز بن أبي سلمة وربيعة، وزاد هؤلاء مع الكيل والوزن المعدود، فيتحصل في اشتراط القبض سبعة أقوال: الأول: في الطعام الربوي فقط، والثاني: في الطعام بإطلاق. والثالث: في الطعام المكيل والموزون. الرابع: في كل شيء ينقل. الخامس: في كل شيء. السادس: في المكيل والموزون. السابع: في المكيل والموزون والمعدود.
أما عمدة مالك في منعه ما عدا المنصوص عليه فدليل الخطاب في الحديث المتقدم، وأما عمدة الشافعي في تعميم ذلك في كل بيع فعموم قوله عليه الصلاة والسلام «لا يحل بيع وسلف ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك (1) » وهذا من باب بيع ما لم يضمن، وهذا مبني على مذهبه من أن القبض شرط في دخول المبيع في ضمان المشتري، واحتج أيضا بحديث حكيم بن حزام قال: «قلت يا رسول الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ فقال: يا ابن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه (2) »
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4603) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2187) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .(37/89)
قال أبو عمر: حديث حكيم بن حزام رواه يحيى بن أبي كثير عن يوسف بن ماهك أن عبد الله بن عصمة حدثه أن حكيم بن حزام قال: ويوسف بن ماهك وعبد الله بن عصمة لا أعرف لهما جرحة إلا أنه لم يرو عنهما إلا رجل واحد فقط، وذلك في الحقيقة ليس بجرحة وإن كرهه جماعة من المحدثين، ومن طريق المعنى أن بيع ما لم يقبض يتطرق منه إلى الربا، وإنما استثنى أبو حنيفة ما يحول وينقل عنده مما لا ينقل، لأن ما ينقل القبض عنده فيه هي التخلية، وأما من اعتبر الكيل والوزن، فلاتفاقهم أن المكيل والموزون لا يخرج من ضمان البائع إلى ضمان المشتري إلا بالكيل أو الوزن وقد نهي عن بيع ما لم يضمن.
الفصل الثاني - في الاستفادات التي يشترط في بيعها القبض من التي لا يشترط.
وأما ما يعتبر ذلك فيه مما لا يعتبر، فإن العقود تنقسم أولا إلى قسمين: قسم يكون بمعاوضة، وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات، والذي يكون بمعاوضة ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها يخص بقصد المغابنة والمكايسة وهي البيوع والإجارات والمهور والصلح والمال المضمون بالتعدي وغيره، والقسم الثاني لا يختص بقصد المغابنة وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض، والقسم الثالث: فهو ما يصح أن يقع على الوجهين جميعا: أعني على قصد المغابنة وعلى قصد الرفق كالشركة والإقالة والتولية. وتحصيل أقوال العلماء في هذه الأقسام، أما ما كان بيعا ويعوض فلا خلاف في اشتراط القبض فيه، وذلك في الشيء الذي يشرط فيه القبض واحدا واحدا من العلماء، وأما ما كان خالصا للرفق أعني القرض، فلا خلاف أيضا أن القبض ليس شرطا في بيعه، أعني أنه يجوز للرجل أن يبيع القرض قبل أن يقبضه، واستثنى أبو حنيفة مما يكون بعوض المهر والخلع فقال: يجوز بيعهما قبل القبض، وأما(37/90)
العقود التي تتردد بين قصد الرفق والمغابنة، وهي التولية والشركة والإقالة، فإذا وقعت على وجه الرفق من غير أن تكون الإقالة أو التولية بزيادة أو نقصان فلا خلاف أعلمه في هذا المذهب أن ذلك جائز قبل القبض وبعده، وقال أبو حنيفة والشافعي: لا تجوز الشركة ولا التولية قبل القبض، وتجوز الإقالة عندهما لأنهما قبل القبض فسخ بيع لا بيع، فعمدة من اشترط القبض في جميع المعاوضات أنها في معنى البيع المنهي عنه وإنما استثنى مالك من ذلك التولية والإقالة والشركة للأثر والمعنى. وأما الأثر فما رواه من مرسل سعيد بن المسيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ابتاع طعاما فلا يبع حتى يستوفيه (1) » إلا ما كان من شركة أو تولية أو إقالة، وأما من طريق المعنى فإن هذه إنما يراد بها الرفق لا المغابنة إذا لم تدخلها زيادة ولا نقصان وإنما استثنى من ذلك أبو حنيفة الصداق والخلع والجعل، لأن العوض في ذلك ليس بينا إذا لم يكن عينا.
الفصل الثالث: في الفرق بين ما يباع من الطعام مكيلا وجزافا.
وأما اشتراط القبض فيما بيع من الطعام جزافا، فإن مالكا رخص فيه وأجازه وبه قال الأوزاعي ولم يجز ذلك أبو حنيفة والشافعي، وحجتهما عموم الحديث المتضمن للنهي عن بيع الطعام قبل قبضه لأن الذريعة موجودة في الجزاف وغير الجزاف، ومن الحجة لهما ما روي عن ابن عمر أنه قال: «كنا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبتاع الطعام جزافا، فبعث إلينا من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (2) » قال أبو عمر: وإن كان مالك لم يرو عن نافع في هذا الحديث ذكر الجزاف، فقد روته جماعة وجوده عبيد الله بن عمر وغيره، وهو مقدم في حفظ حديث نافع. وعمدة المالكية أن الجزاف ليس فيه حق توفية، فهو عندهم من ضمان المشتري بنفس العقد، وهذا من باب تخصيص العموم بالقياس المظنون العلة، وقد يدخل في هذا الباب إجماع العلماء على منع
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2126) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4604) ، سنن أبو داود البيوع (3495) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4605) ، سنن أبو داود البيوع (3493) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/113) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(37/91)
بيع الرجل شيئا لا يملكه، وهو المسمى عينة عند من يرى فقله (1) من باب الذريعة إلى الربا، وأما من رأى منعه من جهة أنه قد لا يمكنه نقله فهو داخل في بيوع الغرر، وصورة التذرع منه إلى الربا المنهي عنه أن يقول رجل لرجل: أعطني عشرة دنانير على أن أدفع لك إلى مدة كذا ضعفها فيقول له: هذا لا يصلح، ولكن أبيع منك سلعة كذا لسلعة يسميها ليست عنده بهذا العدد، ثم يعمد هو فيشتري تلك السلعة فيقبضها له بعد أن كمل البيع بينهما، وتلك السلعة قيمتها قريبة مما كان سأله أن يعطيه من الدراهم قرضا فيرد عليه ضعفها، وفي المذهب في هذا تفصيل ليس هذا موضع ذكره، ولا خلاف في هذه الصورة التي ذكرنا أنها غير جائزة في المذهب: أعني إذا تقارا على الثمن الذي يأخذ به السلعة قبل شرائها. وأما الدين بالدين، فأجمع المسلمون على منعه، واختلفوا في مسائل هل هي منه أم ليست منه؟ مثل ما كان ابن القاسم لا يجيز أن يأخذ الرجل من غريمه في دين له عليه تمرا قد بدا صلاحه ولا سكنى دار ولا جارية تتواضع، ويراه من باب الدين بالدين، وكان أشهب يجيز ذلك ويقول: ليس هذا من باب الدين بالدين، وإنما الدين بالدين ما لم يشرع في أخذ شيء منه، وهو القياس عند كثير من المالكيين وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، ومما أجاز مالك من هذا الباب وخالفه فيه جمهور العلماء ما قاله في المدونة من أن الناس كانوا يبيعون اللحم بسعر معلوم والثمن إلى العطاء، فيأخذ المبتاع كل يوم وزنا معلوما قال: ولم ير الناس بذلك بأسا، وكذلك كل ما يبتاع في الأسواق، وروى ابن القاسم أن ذلك لا يجوز إلا فيما خشي عليه الفساد من الفواكه إذا أخذ جميعه، أما القمح وشبهه فلا، فهذه هي أصول هذا الباب، وهذا الباب كله إنما حرم في الشرع لمكان الغبن الذي يكون طوعا وعن علم.
__________
(1) لعله: فعله.(37/92)
جـ - قال صاحب المجموع شرح المهذب
(فرع) في مذاهب العلماء في بيع المبيع قبل القبض، قد ذكرنا أن مذهبنا بطلانه مطلقا سواء كان طعاما أو غيره وبه قال ابن عباس ثبت ذلك عنه ومحمد بن الحسن، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن من اشترى طعاما فليس له بيعه حتى أن يقبضه، قال: واختلفوا في غير الطعام على أربعة مذاهب (أحدها) لا يجوز بيع شيء قبل قبضه سواء جميع المبيعات كما في الطعام قاله الشافعي ومحمد بن الحسن (والثاني) يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المكيل والموزون قاله عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد والأوزاعي وأحمد وإسحاق (والثالث) لا يجوز بيع مبيع قبل قبضه إلا الدور والأرض قاله أبو حنيفة وأبو يوسف (والرابع) يجوز بيع كل مبيع قبل قبضه إلا المأكول والمشروب قاله مالك وأبو ثور قال ابن المنذر وهو أصح المذاهب لحديث النهي عن بيع الطعام قبل أن يستوفى.
واحتج لمالك وموافقيه بحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (1) » رواه البخاري ومسلم، وعنه قال: «لقد رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبايعون جزافا يعني الطعام فضربوا أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم (2) » رواه البخاري ومسلم، وعن ابن عباس قال: «أما الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الطعام أن يباع حتى يقبض (3) » قال ابن عباس: وأحسب كل شيء مثله) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم عن ابن عباس قال (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من ابتاع طعاما ما فلا يبعه حتى يقبضه (4) » ، قال ابن عباس: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام) وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكيله» ، رواه مسلم، وفي رواية قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى يستوفى (5) » وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1336) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2137) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3498) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2135) ، صحيح مسلم البيوع (1525) ، سنن الترمذي البيوع (1291) ، سنن النسائي البيوع (4599) ، سنن أبو داود البيوع (3497) ، سنن ابن ماجه التجارات (2227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/221) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1336) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(5) صحيح مسلم البيوع (1528) ، مسند أحمد بن حنبل (2/349) .(37/93)
ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه (1) » ، رواه مسلم قالوا: فالتنصيص في هذه الأحاديث يدل على أن غيره بخلافه قالوا: وقياسا على ما ملكه بإرث أو وصية، وعلى إعتاقه وإجارته قبل قبضه، وعلى بيع الثمر قبل قبضه.
واحتج أصحابنا بحديث حكيم بن حزام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تبع ما لم تقبضه» وهو حديث حسن كما سبق بيانه في أول هذا الفصل، وبحديث زيد بن ثابت: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (2) » ، رواه أبو داود بإسناد صحيح إلا أنه من رواية محمد بن إسحاق بن يسار عن أبي الزناد، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به وهو مدلس وقد قال: عن أبي الزناد والمدلس إذا قال: عن لا يحتج به، لكن لم يضعف أبو داود هذا الحديث، وقد سبق أن ما لم يضعفه فهو حجة عنده فلعله أعضد عنده أو ثبت عنده بسماع ابن إسحاق له من أبي الزناد وبالقياس على الطعام.
(والجواب) عن احتجاجهم بأحاديث النهي عن بيع الطعام من وجهين (أحدها) أن هذا استدلال بداخل الخطاب والتنبيه مقدم عليه، فإنه إذا نهى عن بيع الطعام مع كثرة الحاجة إليه فغيره أولى (والثاني) أن النطق الخاص مقدم عليه وهو حديث حكيم وحديث زيد (وأما) قياسهم على العتق ففيه خلاف سبق فإن سلمناه فالفرق أن العتق له قوة وسراية، ولأن العتق إتلاف للمالية والإتلاف قبض (والجواب) عن قياسهم على الثمن أن فيه قولين فإن سلمناه فالفرق أنه في الذمة مستقر لا يتصور تلفه ونظير المبيع إنما هو الثمن المعين ولا يجوز بيعه قبل القبض، وأما بيع الميراث والموصى به فجوابه أن الملك فيهما مستقر بخلاف المبيع، والله أعلم.
واحتج لأبي حنيفة بإطلاق النصوص ولأنه لا يتصور تلف العقار
__________
(1) صحيح مسلم البيوع (1529) ، مسند أحمد بن حنبل (3/327) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) .(37/94)
بخلاف غيره. واحتج أصحابنا بما سبق في الاحتجاج على مالك وأجابوا عن النصوص بأنها مخصوصة بما ذكرناه (وأما) قولهم: لا يتصور تلفه. فينتقض بالجديد الكثير، والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال المصنف - رحمه الله -:
(وأما الديون فينظر فيها، فإن كان الملك عليها مستقرا كغرامة المتلف وبدل القرض، جاز بيعه ممن عليه قبل القبض لأن ملكه مستقر عليه، فجاز بيعه كالمبيع بعد القبض وهل يجوز من غيره؟ فيه وجهان (أحدهما) يجوز، لأن ما جاز بيعه ممن عليه جاز بيعه من غيره كالوديعة (والثاني) لا يجوز، لأنه لا يقدر على تسليمه إليه لأنه ربما منعه أو جحده وذلك غرر لا حاجة به إليه فلم يجز والأول أظهر لأن الظاهر أنه يقدر على تسليمه إليه من غير منع ولا جحود، وإن كان الدين غير مستقر نظرت فإن كان مسلما فيه لم يجز بيعه لما روي أن ابن عباس - رضي الله عنهما - سئل عن رجل أسلف في حلل دقاق فلم يجد تلك الحلل فقال: آخذ منك مقام كل حلة من الدقاق حلتين من الجل فكرهه ابن عباس، وقال: خذ برأس المال علفا أو غنما، ولأن الملك في المسلم فيه غير مستقر لأنه ربما تعذر فانفسخ البيع فيه فلم يجز بيعه كالمتبع قبل القبض.
وإن كان ثمنا في بيع ففيه قولان قال في الصرف: يجوز بيعه قبل القبض لما روى ابن عمر قال: «كنت أبيع الأول بالبقيع بالدنانير، فآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا بأس ما لم تتفرقا وبينكما شيء (1) » ، ولأنه لا يخشى انفساخ العقد فيه بالهلاك فصار كالبيع بعد القبض، وروى المزني في جامعه الكبير أنه لا يجوز لأن ملكه غير مستقر عليه: لأنه قد ينفسخ البيع فيه بتلف المبيع أو بالرد بالعيب، فلم يجز بيعه كالمبيع قبل القبض، وفي بيع نجوم المكاتب قبل القبض طريقان (أحدهما) أنه على قولين بناء على القولين في بيع رقبته (والثاني)
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/139) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .(37/95)
أنه لا يصح ذلك قولا واحدا وهو المنصوص في المختصر لأنه لا يملكه ملكا مستقرا فلم يصح بيعه كالمسلم فيه.
(الشرح) حديث ابن عمر صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وآخرون بأسانيد صحيحة عن سماك بن حرب عن سعيد عن ابن عمر بلفظه هنا، قال الترمذي وغيره: لم يرفعه غير سماك وذكر البيهقي في معرفة السنن والآثار أن أكثر الرواة وقفوه على ابن عمر (قلت) وهذا لا يقدح في رفعه، وقد قدمنا مرات أن الحديث إذا رواه بعضهم مرسلا وبعضهم متصلا وبعضهم موقوفا مرفوعا كان محكوما بوصله ورفعه على المذهب الصحيح الذي قاله الفقهاء والأصوليون ومحققو المحدثين من المتقدمين والمتأخرين بالبقيع هو بالباء الموحدة، وإنما قيدته لأني رأيت من يصحفه (وقوله) المسلم في حلل هو جمع حلة بضم الحاء وهي ثوبان ولا يكون إلا ثوبان كذا قاله أهل اللغة، والمدق بكسر الدال والجل بكسر - الجيم - وهو الغليظ (وقوله) من غير حاجة إليه يحترز من أساس الدار فإنه يصح بيعه وهو غرر للحاجة، وهذا الاحتراز يكرره المصنف في كتاب البيوع كثيرا.
(أما) الأحكام فقد لخصها الرافعي أحسن تلخيص وهذا مختصر كلامه قال: الدين في الذمة ثلاثة أضرب مثمن وثمن وغيرهما، وفي حقيقة الثمن ثلاثة أوجه (أحدها) أنه ما ألصق به الباء كقولك بعت كذا بكذا والأول مثمن. والثاني ثمن وهذا قول القفال (والثاني) أنه النقد مطلقا والمثمن ما يقابله على الوجهين (أصحهما) أن الثمن النقد والمثمن ما يقابله فإن لم يكن في العقد نقدا وكان العوضان نقدين فالثمن ما ألصقت به الباء والمثمن ما يقابله، فلو باع أحد النقدين بالآخر فلا مثمن فيه على الوجه الثاني ولو باع عرضا بعرض فعلى الوجه الثاني لا ثمن فيه وإنما هو مبادلة، ولو قال بعتك هذه الدراهم بهذا العبد فعلى الوجه الأول العبد ثمن والدراهم مثمن وعلى الوجه الثاني والثالث في صحة هذا العقد وجهان كالسلم في الدراهم والدنانير (الأصح) الصحة في الموضعين،(37/96)
فإن صححناه فالعبد مثمن.
ولو قال: بعتك هذا الثوب بهذا العبد ووصفه صح العقد (فإن قلنا) الثمن ما ألصق به الباء فالعبد ثمن ولا يجب تسليم الثوب في المجلس وإلا ففي وجوب تسليم الثوب وجهان لأنه ليس فيه لفظ السلم لكن فيه معناه. فإذا عرف عدنا إلى بيان الأضرب الثلاثة (الضرب الأول) المثمن وهو المسلم فيه فلا يجوز بيعه ولا الاستبدال عنه، وهل تجوز الحوالة به؟ بأن يحيل المسلم إليه بحقه على من له عليه دين قرض أو إتلاف، أو الحوالة عليه بأن يحيل المسلم من له عليه دين قرض أو إتلاف على المسلم إليه، فيه ثلاثة أوجه (أصحها) لا (والثاني) نعم (والثالث) لا يجوز عليه ويجوز به، هكذا حكموا الثالث وعكسه الغزالي في الوسيط فقال: يجوز عليه لا به ولا أظن نقله ثابتا.
(الضرب الثاني) الثمن فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة ففي الاستبدال عنها طريقان (أحدهما) القطع بالجواز قاله القاضي أبو حامد وابن القطان (وأشهرهما) على قولين (أصحهما) وهو الجديد جوازه (والقديم) منعه، ولو باع في الذمة بغير الدراهم والدنانير (فإن قلنا) الثمن ما ألصقت به الباء صح الاستبدال عنه كالنقدين، وادعى البغوي أنه المذهب وإلا فلا لأن ما ثبت في الذمة مثمنا لم يجز الاستبدال عنه (وأما) الأجرة فكالثمن (وأما) الصداق وبدل الخلع فكذلك إن قلنا أنهما مضمونان ضمان العقد وإلا فهما كبدل الإتلاف.
(التفريع) إن منعنا الاستبدال عن الدراهم فذلك إذا استبدل عنها عرضا فلو استبدل نوعا منها بنوع أو استبدل الدراهم عن الدنانير فوجهان لاستوائهما في الزواج، وإن جوزنا الاستبدال فلا فرق بين بدل وبدل ثم ينظر إن استبدل ما يوافقهما في علة الربا كدنانير عن دراهم اشترط قبض البدل في المجلس، وكذا إن استبدل عن الحنطة المبيعة شعيرا إن جوزنا ذلك، وفي اشتراط تعيين البدل عند العقد وجهان(37/97)
(أحدهما) يشترط وإلا فهو بيع دين بدين (وأصحهما) لا يشترط كما لو تصارفا في الذمة ثم عينا وتقابضا في المجلس، وإن استبدل ما ليس موافقا لها في علة الربا كالطعام والثياب عن الدراهم نظر إن عين البدل في الاستبدال جاز، وفي اشتراط قبضه في المجلس وجهان (صحح) الغزالي وجماعة الاشتراط وهو ظاهر نصه في المختصر وصحح الإمام والبغوي عدمه، قلت: هذا الثاني أصح، وصححه الرافعي في المحرر، وإن لم يعين بل وصف في الذمة فعلى الوجهين السابقين وإن جوزناه اشترط التعيين في المجلس وفي اشتراط القبض الوجهان.
(الضرب الثالث) ما ليس ثمنا ولا مثمنا كدين القرض والإتلاف فيجوز الاستبدال عنه بلا خلاف كما لو كان له في يد غيره مال بغصب أو عارية فإنه يجوز بيعه له، ثم الكلام في اعتبار التعيين والقبض على ما سبق، وذكر صاحب الشامل أن القرض إنما يستبدل عنه إذا تلف، فإن بقي في يده فلا ولم يفرق الجمهور بينهما ولا يجوز استبدال المؤجل عن الحال - يجوز عكسه - وهذا الذي ذكرنا كله في الاستبدال، وهو بيع الدين ممن هو عليه فأما بيعه لغيره كمن له على رجل مائة فاشترى من آخر عبدا بتلك المائة ففي صحته قولان مشهوران (أصحهما) لا يصح لعدم القدرة على التسليم (والثاني) يصح بشرط أن يقبض مشتري الدين بالدين ممن هو عليه وأن يقبض بائع الدين العوض في المجلس. فإن تفرقا قبل قبض أحدهما بطل العقد، ولو كان له دين على إنسان ولآخر مثله على ذلك الإنسان فباع أحدهما ما له عليه بما لصاحبه لم يصح، سواء اتفق الجنس لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الكالئ بالكالئ، هذا آخر كلام الرافعي (قلت: قد صحح المصنف هنا وفي التنبيه جواز بيع الدين لغير من هو عليه وصحح الرافعي في الشرح والمحرر أنه لا يجوز) .(37/98)
(فرع) قال الشيخ أبو حامد في تعليقه في آخر باب بيع الطعام قبل أن يستوفي: إذا باع طعاما بثمن مؤجل فحل الأجل فأخذ بالثمن طعاما جاز عندنا، قال الشافعي: وقال مالك: لا يجوز لأنه يصير في معنى بيع طعام بطعام مؤجل، دليلنا أنه إنما يأخذ منه الطعام بالثمن الذي له عليه لا بالطعام وهذا الذي جزم به أبو حامد تفريعا على الصحيح وهو الاستبدال عن الثمن، وقد صرح بهذا جماعة منهم القاضي أبو الطيب في تعليقه قال صاحب البيان قال الصيمري والعبيدلاني: فلو أراد أن يأخذ ثمن الدين المؤجل عوضا من نقد وعرض قبل حلوله لم يصح (أما) تقديم الدين نفسه فيجوز لأنه لا يملك المطالبة به قبل الحلول فكأنه أخذ العوض عما لا يستحقه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
قال المصنف - رحمه الله -: (والقبض فيما ينقل النقل لما روى زيد بن ثابت «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (1) » وفيما لا ينقل كالعقار والثمر قبل أوان الجذاذ التخلية لأن القبض ورد به الشرع وأطلقه فحمل على العرف، والعرف فيما ينقل النقل وفيما لا ينقل التخلية) .
(الشرح) أما حديث زيد فسبق بيانه قريبا في فرع مذاهب العلماء في بيع المبيع قبل القبض وفي التجار لغتان - كسر التاء مع تخفيف الجيم. وضمها مع التشديد، والجذاذ - بفتح الجيم وكسرها - (أما) الأحكام فقال أصحابنا: الرجوع في القبض إلى العرف وهو ثلاثة أقسام (أحدها) العقار والثمر على الشجرة تقبضه بالتخلية (والثاني) ما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيتان ونحوها فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به سواء نقل إلى ملك المشتري أو موات أو شارع أو مسجد أو غيره. وفيه قول حكاه الخراسانيون أنه يكفي فيه التخلية وهو مذهب أبي حنيفة (والثالث) ما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والمنديل
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(37/99)
والثوب والإناء الخفيف والكتاب ونحوها فقبضه بالتناول بلا خلاف، صرح بذلك الشيخ أبو حامد في تعليقه والقاضي أبو الطيب والمحاملي والماوردي والمصنف في التنبيه والبغوي وخلائق لا يحصون، وينكر على المصنف كونه أهمله هنا مع شهرته ومع ذكره له في التنبيه، والله تعالى أعلم. وقد فحص الرافعي - رحمه الله - كلام الأصحاب وجمع متصرفه مختصرا وأنا أنقل مختصره وأضم إليه ما أهمله إن شاء الله تعالى، قال - رحمه الله -: القول الجملي فيه أن الرجوع فيما يكون قبضا إلى العادة وتختلف بحسب اختلاف المال (وأما) تفصيله فنقول المال إما أن يباع من غير اعتبار تقدير فيه وإما مع اعتبار فيه فهما نوعان، الأول: ما لا يعتبر فيه تقدير إما لعدم إمكانه وإما إمكانه فينظر إن كان المبيع مما لا ينقل كالأرض والدار فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري ويمكنه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه، ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه ويشترط كونه فارغا من أمتعة البائع، فلو باع دارا فيها أمتعة للبائع توقف التسليم على تفريغها وكذا لو باع سفينة مشحونة بالقماش. وحكى الرافعي بعد هذا وجها شاذا ضعيفا عند ذكر بيع الدار المذروعة أنه لا يصح بيع الدار المشحونة بالأقمشة وادعى إمام الحرمين أنه ظاهر المذهب.
ولو جمع البائع متاعه في بيت من الدار وخلى بين المشتري وبين الدار حصل القبض فيما عدا ذلك البيت كذا قاله الأصحاب وكذا نقله المتولي عن الأصحاب. وفي اشتراط حضور البائع عند المبيع في حال الإقباض ثلاثة أوجه (أحدها) يشترط، فإن حضرا عنده فقال البائع للمشتري دونك هذا ولا مانع حصل القبض وإلا فلا، والثاني يشترط حضور المشتري دون البائع (وأصحها) لا يشترط حضور واحد منهما. لأن ذلك يشق، فعلى هذا هل يشترط زمان إمكان المضي؟ فيه وجهان (أصحهما) نعم، وبه قطع المتولي وغيره وفي معنى الأرض الشجر الثابت والثمرة(37/100)
المبيعة على الشجر قبل أوان الجذاذ، والله سبحانه أعلم.
(أما) إذا كان المبيع من المنقولات فالمذهب والمشهور أنه لا تكفي التخلية بل يشترط النقل والتحويل، وفي قول رواه حرملة تكفي التخلية لنقل الضمان إلى المشتري ولا تكفي لجواز تصرفه فعلى المذهب إن كان المبيع عبدا يأمره بالانتقال من موضعه وإن كان دابة ساقها أو قادها (قلت) قال صاحب البيان: لو أمر العبد بعمل لم ينتقل فيه عن موضعه أو ركب البهيمة ولم تنقل عن موضعها فالذي يقتضيه المذهب أنه لا يكون قبضا كما لا يكون غصبا، قال ولو وطئ الجارية فليس قبضا على الصحيح من الوجهين وبهذا قطع الجمهور، وهذا الذي ذكره في الغصب فيه خلاف نذكره في الغصب إن شاء الله تعالى. قال الرافعي: إذا كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع كموات ومسجد وشارع أو في موضع يختص بالمشتري فالتحويل إلى مكان منه كاف في حصول القبض وإن كان في بقعة مخصوصة بالبائع فالنقل من زاوية منه إلى زاوية، أو من بيت من داره إلى بيت بغير إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف ويكفي لدخوله في ضمانه وإن نقل بإذنه حصل القبض وكأنه استعار ما نقل إليه.
ولو اشترى الدار مع أمتعة فيها صفقة واحدة فخلى البائع بينهما وبينه حصل القبض في الدار، وفي الأمتعة وجهان (أصحهما) يشترط نقلها لأنها منقولة كما لو أفردت (والثاني) يحصل فيها القبض تبعا، وبه قطع الماوردي وزاد، فقال: لو اشترى صبرة ولم ينقلها حتى اشترى الأرض التي عليها الصبرة وخلى البائع بينه وبينها حصل القبض في الصبرة (قلت) قال الماوردي: ولو استأجر الأرض من البائع فوجهان (الصحيح) أنه ليس قبضا للأمتعة، والله سبحانه أعلم.
قال الرافعي: ولو لم يتفقا على القبض فجاء البائع بالمبيع فامتنع(37/101)
المشتري من قبضه أجبره الحاكم عليه فإن أصر أمر الحاكم من يقبضه كما لو كان غائبا، قال: ولو جاء البائع بالمبيع فقال المشتري: ضعه فوضعه بين يديه حصل القبض فإن وضعه بين يديه ولم يقل المشتري شيئا أو قال: لا أريده فوجهان (أحدهما) لا يحصل القبض كما لا يحصل الإيداع (وأصحها) يحصل لوجوب التسليم، كما لو وضع المغصوب بين يدي المالك فإنه يبرأ من الضمان فعلى هذا للمشتري التصرف فيه، ولو تلف فمن ضمانه لكن لو خرج مستحقا ولم يجر إلا وضعه فليس للمستحق مطالبة المشتري بالضمان، لأن هذا القدر لا يكفي لضمان الغصب.(37/102)
جـ - قال ابن قدامة - رحمه الله - في المغني:
(فصل) وقبض كل شيء بحسبه فإن كان مكيلا أو موزونا بيع كيلا أو موزونا فقبضه بكيله ووزنه وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة التخلية في ذلك قبض، وقد روى أبو الخطاب عن أحمد رواية أخرى أن القبض في كل شيء بالتخلية مع التمييز، لأنه خلى بينه وبين المبيع من غير حائل فكان قبضا له كالعقار، ولنا ما رواه أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل (1) » . رواه النجاد وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري (2) » . رواه ابن ماجه وهذا فيما بيع كيلا، وإن بيع جزافا فقبضه نقله لأن ابن عمر قال: «كانوا يضربون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه حتى يحوله (3) » وفي لفظ: «كنا نبتاع الطعام جزافا فبعث علينا من يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان في مكانه سواء قبل أن نبيعه (4) » . وفي لفظ: «كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله (5) » رواه مسلم.
وهذا يبين أن الكيل إنما وجب فيما بيع بالكيل وقد دل على ذلك أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا سميت
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (1/62) .
(2) سنن ابن ماجه التجارات (2228) .
(3) صحيح البخاري الحدود (6852) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) .
(4) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4605) ، سنن أبو داود البيوع (3493) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(37/102)
الكيل فكل (1) » رواه الأثرم. وإن كان المبيع دراهم أو دنانير فقبضها باليد وإن كان ثيابا فقبضها بنقلها وإن كان حيوانا فقبضه تمشيته من مكانه، وإن كان مما لا ينقل ويحول فقبضه التخلية بينه وبين مشتريه لا حائل دونه، وقد ذكره الخرقي في باب الرهن فقال: إن كان مما ينقل فقبضه أخذه إياه من راهنه منقولا، وإن كان مما لا ينقل فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه لا حائل دونه، ولأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والتفرق والعادة في قبض هذه الأشياء ما ذكرنا. . . . إلى أن قال:
(مسألة) قال (ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه)
وقد ذكرنا الذي يحتاج إلى قبض والخلاف فيه وكل ما يحتاج إلى قبض إذا اشتراه لم يجز بيعه حتى يقبضه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (2) » متفق عليه، ولأنه من ضمان بائعه فلم يجز بيعه كالسلم ولم أعلم بين أهل العلم خلافا إلا ما حكي عن البتي أنه قال: لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه، وقال ابن عبد البر: وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام وأظنه لم يبلغه هذا الحديث ومثل هذا لا يلتفت إليه، وأما غير ذلك فيجوز بيعه قبل قبضه في أظهر الروايتين ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وسعيد بن المسيب والحكم وحماد والأوزاعي وإسحاق.
وعن أحمد رواية أخرى لا يجوز بيع شيء قبل قبضه اختارها ابن عقيل وروي ذلك عن ابن عباس وهذا قول أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة أجاز بيع العقار قبل قبضه، واحتجوا بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه. وبما روى أبو داود: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم (3) » . وروى ابن ماجه «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن شراء الصدقات حتى تقبض (4) » . وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (1/75) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/22) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(4) سنن ابن ماجه التجارات (2196) ، مسند أحمد بن حنبل (3/42) .(37/103)
بعث عتاب بن أسيد إلى مكة قال: «انههم عن بيع ما لم يقبضوه وعن ربح ما لم يضمنوه» ولأنه لم يتم الملك عليه فلم يجز بيعه كغير المتعين أو كالمكيل والموزون.
ولنا ما روى ابن عمر قال: «كنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير ونبيعها بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم فسألنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: " لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء (1) » . وهذا التصرف في الثمن قبل قبضه وهو أحد العوضين، وروى ابن عمر «أنه كان على بكر صعب - يعني لعمر - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: " بعنيه " فقال: هو لك يا رسول الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع به ما شئت (2) » وهذا ظاهره التصرف في المبيع بالهبة قبل قبضه، واشترى من جابر جمله ونقده ثمنه ثم وهبه إياه قبل قبضه، ولأنه أحد نوعي المعقود عليه فجاز التصرف فيه قبل قبضه كالمنافع في الإجارة فإنه يجوز له إجارة العين المستأجرة قبل قبض المنافع، ولأنه مبيع لا يتعلق به حق توفية فصح بيعه كالمال في يد مودعه أو مضاربه، فأما أحاديثهم فقد قيل لم يصح منها إلا حديث الطعام وهو حجة لنا بمفهومه فإن تخصيصه الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على إباحة ذلك فيما سواه، وقولهم لم يتم الملك عليه ممنوع فإن السبب المقتضي للملك متحقق وأكثر ما فيه تخلف القبض، واليد ليست شرطا في صحة البيع بدليل جواز بيع المال المودع والموروث والتصرف في الصداق وعوض الخلع عند أبي حنيفة.
(فصل) وما لا يجوز بيعه قبل قبضه لا يجوز بيعه لبائعه لعموم الخبر فيه، قال القاضي: لو ابتاع شيئا مما يحتاج إلى قبض فلقيه ببلد آخر لم يكن له مطالبته ولا أخذ بدله وإن تراضيا لأنه مبيع لم يقبض، فإن كان مما لا يحتاج إلا قبض جاز أخذ البدل عنه وإن كان في سلم لم يجز أخذ
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1242) ، سنن النسائي البيوع (4582) ، سنن أبو داود البيوع (3354) ، سنن ابن ماجه التجارات (2262) ، مسند أحمد بن حنبل (2/83) ، سنن الدارمي البيوع (2581) .
(2) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2611) .(37/104)
البدل عنه لأنه أيضا لا يجوز بيعه.
(فصل) وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل القبض لم يجز التصرف فيه قبل قبضه كالذي ذكرنا والأجرة وبدل الصلح إذا كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود، وما لا ينفسخ العقد بهلاكه جاز التصرف فيه قبل قبضه كعوض الخلع والعتق على مال وبدل صلح عن دم العمد وأرش الجناية وقيمة المتلف، لأن المطلق للتصرف الملك وقد وجد لكن ما يتوهم فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود عليه لم يجز بناء عقد آخر عليه تحرزا من الغرر، وما لا يتوهم فيه ذلك الغرر انتفى المانع فجاز العقد عليه وهذا قول أبي حنيفة، والمهر كذلك عند القاضي وهو قول أبي حنيفة لأن العقد لا ينفسخ بهلاكه وقال الشافعي: لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه ووافقه أبو الخطاب في غير المتعين لأنه يخشى رجوعه بانتقاض سببه بالردة قبل الدخول أو انفساخه بسبب من جهة المرأة أو نصفه بالطلاق أو انفساخه بسبب من غير جهتها، وكذلك قال الشافعي في عوض الخلع وهذا التعليل باطل بما بعد القبض فإن قبضه لا يمنع الرجوع فيه قبل الدخول، وأما ما لك بإرث أو وصية أو غنيمة، أو تعين ملكه فيه فإنه يجوز له التصرف فيه بالبيع وغيره قبل قبضه لأنه غير مضمون بعقد معاوضة فهو كالمبيع المقبوض وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ولا أعلم عن غيرهم خلافهم، وإن كان لإنسان في يد غيره وديعة أو عارية أو مضاربة أو جعله وكيلا فيه جاز له بيعه ممن هو في يده ومن غيره لأنه عين مال مقدور على تسليمها لا يخشى انفساخ الملك فيها فجاز بيعها كالتي في يده، وإن كان غصبا جاز بيعه ممن هو في يده لأنه مقبوض معه فأشبه بيع العارية ممن هي في يده وأما بيعه لغيره فإن كان عجزا عن استنقاذه أو ظن أنه عاجز لم يصح شراؤه له، لأنه معجوز عن تسليمه إليه فأشبه بيع الآبق والشارد وإن ظن أنه قادر على استنقاذه ممن هو في(37/105)
يده صح البيع لإمكان قبضه، فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ والإمضاء لأن العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه، ويثبت له الفسخ للعجز عن القبض فأشبه ما لو باعه فرسا فشردت قبل تسليمها أو غائبا بالصفة فعجز عن تسليمه.
قال ابن حجر - رحمه الله - في فتح الباري:
باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك، حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال: الذي حفظناه من عمرو بن دينار سمع طاوسا يقول سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: أما الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: فهو الطعام أن يباع حتى يقبض، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله، حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه (1) » زاد إسماعيل «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (2) » .
باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله والأدب في ذلك
حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: «رأيت الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبتاعون جزافا - يعني الطعام - يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم (3) » .
(قوله) (باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك) لم يذكر في حديثي الباب بيع ما ليس عندك وكأنه لم يثبت على شرطه فاستنبطه من النهي عن البيع قبل القبض ووجه الاستدلال منه بطريق الأولى، وحديث النهي عن بيع ما ليس عندك أخرجه أصحاب السنن من حديث حكيم بن حزام بلفظ قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني البيع ليس عندي أبيعه منه ثم أبتاعه له من السوق؟ فقال:
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4606) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (2/22) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1336) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2137) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4608) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، مسند أحمد بن حنبل (2/7) .(37/106)
«لا تبع ما ليس عندك (1) » أخرجه الترمذي مختصرا ولفظه: «نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما ليس عندي (2) » ، قال ابن المنذر: وبيع ما ليس عندك يحتمل معنيين أحدهما أن يقول أبيعك عبدا أو دارا معينة وهي غائبة فيشبه بيع الغرر لاحتمال أن تتلف أو لا يرضاها، ثانيهما: أن يقول هذه الدار بكذا على أن أشتريها لك من صاحبها أو على أن يسلمها لك صاحبها اهـ.
وقصة حكيم موافقة للاحتمال الثاني: (قوله حدثنا سفيان) هو ابن عيينة وقوله الذي حفظناه من عمر، وكان سفيان يشير إلى أن في رواية غير عمرو بن دينار عن طاوس زيادة على ما حدثهم به عمرو بن دينار عنه كسؤال طاوس من ابن عباس عن سبب النهي وجوابه وغير ذلك.
(قوله عن ابن عباس أما الذي نهى عنه إلخ. .) أي وأما الذي لم أحفظ نهيه فما سوى ذلك " قوله نهى الطعام أن يباع حتى يقبض " في رواية مسعر عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه (3) » قال مسعر وأظنه قال: «أو علفا (4) » وهو بفتح المهملة واللام والفاء (قوله قال ابن عباس: لا أحسب كل شيء إلا مثله، ولمسلم من طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه: وأحسب كل شيء بمنزلة الطعام، وهذا من تفقه ابن عباس، ومال ابن المنذر إلى اختصاص ذلك بالطعام واحتج باتفاقهم على أن من اشترى عبدا فأعتقه قبل قبضه أن عتقه جائز، قال: فالبيع كذلك وتعقب بالفارق وهو تشوف الشارع إلى العتق وقول طاوس في الباب قبله قلت لابن عباس كيف ذاك قال: ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجى، معناه أنه استفهم عن سبب هذا النهي فأجابه ابن عباس بأنه إذا باعه المشتري قبل القبض وتأخر المبيع في يد البائع فكأنه باعه دراهم بدراهم، ويبين ذلك ما وقع في رواية سفيان عن ابن طاوس عند مسلم قال طاوس: قلت لابن عباس لم؟ قال: ألا
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1232) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3503) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) .
(2) سنن الترمذي البيوع (1233) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (3/403) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2133) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4596) ، سنن أبو داود البيوع (3499) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1336) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (1/369) .(37/107)
تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجى، أي فإذا اشترى طعاما بمائة دينار مثلا ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام ثم باع الطعام لآخر بمائة وعشرين دينارا وقبضها والطعام في يد البائع، فكأنه باع مائة دينار بمائة وعشرين دينارا، وعلى هذا التفسير لا يختص النهي بالطعام ولذلك قال ابن عباس: لا أحسب كل شيء إلا مثله ويؤيده نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان، قال القرطبي: هذه الأحاديث حجة على عثمان الليثي حيث أجاز بيع كل شيء قبل قبضه وقد أخذ بظاهرها مالك فحمل الطعام على عمومه وألحق بالشراء جميع المعاوضات، وألحق الشافعي وابن حبيب وسحنون بالطعام كل ما فيه حق توفيه، وزاد أبو حنيفة والشافعي فعدياه إلى كل مشتري إلا أن أبا حنيفة استثنى العقار وما لا ينقل واحتج الشافعي بحديث عبد الله بن عمر وقال: «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربح ما لم يضمن (1) » أخرجه الترمذي (قلت) وفي معناه حديث حكيم بن حزام المذكور في صدر الترجمة، وفي صفة القبض عن الشافعي تفصيل فما يتناول باليد كالدراهم والدنانير والثوب فقبضه بالتناول وما لا ينقل كالعقار والثمر على الشجر فقبضه بالتخلية وما ينقل في العادة كالأخشاب والحبوب والحيوان فقبضه بالنقل إلى مكان لا اختصاص للبائع به، وفيه قول أنه يكفي فيه التخلية. قوله: عقب حديث ابن عمر زاد إسماعيل: فلا يبعه حتى يقبضه، يعني أن إسماعيل بن أبي أويس روى الحديث المذكور عن مالك بسنده بلفظ حتى يقبضه بدل قوله حتى يستوفيه، وقد وصله البيهقي من طريق إسماعيل كذلك، وقال الإسماعيلي: وافق إسماعيل على هذا اللفظ ابن وهب وابن مهدي
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1234) ، سنن النسائي البيوع (4613) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، سنن ابن ماجه التجارات (2188) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .(37/108)
والشافعي وقتيبة (قلت) وقول البخاري زاد إسماعيل يريد الزيادة في المعنى لأن في قوله حتى يقبضه زيادة في المعنى على قوله حتى يستوفيه؛ لأنه قد يستوفيه بالكيل بأن يكيله البائع ولا يقبضه المشتري بل يحبسه عنده لا ينقده الثمن مثلا، وعرف بهذا جواب من اعترضه من الشراح فقال: ليس في هذه الرواية زيادة، وجواب من حمل الزيادة على مجرد اللفظ فقال: معناه زاد لفظا آخر وهو يقبضه وإن كان هو بمعنى يستوفيه، ويعرف من ذلك أن اختيار البخاري أن استيفاء المبيع المنقول من البائع وتبقيته في منزل البائع لا يكون قبضا شرعيا حتى ينقله المشتري إلى مكان لا اختصاص للبائع به. . .
(قوله باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا ألا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله والأدب في ذلك) أي تعزير من يبيعه قبل أن يؤويه رحله ذكر فيه حديث ابن عمر في ذلك وهو ظاهر فيما ترجم له، وبه قال الجمهور لكنهم لم يخصوه بالجزاف ولا قيدوه بالإيواء إلى الرحال، أما الأول فلما ثبت من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه فدخل فيه المكيل وورد التنصيص على المكيل من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا أخرجه أبو داود، وأما الثاني فلأن الإيواء إلى الرحال خرج مخرج الغالب في بعض طرق مسلم عن ابن عمر «كنا نبتاع الطعام فيبعث إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه (1) » ، وفرق مالك في المشهور عنه بين الجزاف والمكيل فأجاز بيع الجزاف قبل قبضه وبه قال الأوزاعي وإسحاق واحتج لهم بأن الجزاف مربى فتكفي فيه التخلية، والاستيفاء إنما يكون في مكيل أو موزون وقد روى أحمد من حديث ابن عمر مرفوعا «من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه (2) » ورواه أبو داود والنسائي بلفظ «نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه (3) » والدارقطني من حديث جابر «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1527) ، سنن النسائي البيوع (4605) ، سنن أبو داود البيوع (3493) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4604) ، سنن أبو داود البيوع (3495) ، سنن ابن ماجه التجارات (2226) ، مسند أحمد بن حنبل (2/111) ، موطأ مالك البيوع (1335) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2124) ، صحيح مسلم البيوع (1526) ، سنن النسائي البيوع (4604) ، سنن أبو داود البيوع (3495) ، سنن ابن ماجه التجارات (2229) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك البيوع (1337) ، سنن الدارمي البيوع (2559) .(37/109)
الطعام حتى يجري فيه صاعان صاع البائع وصاع المشتري (1) » ونحوه للبزار من حديث أبي هريرة بإسناد حسن، وفي ذلك دلالة على اشتراط القبض في المكيل بالكيل وفي الموزون بالوزن، فمن اشترى شيئا مكايلة أو موازنة فقبضه جزافا فقبضه فاسد وكذا لو اشترى مكايلة فقبضه موازنة وبالعكس، ومن اشترى مكايلة وقبضه ثم باعه لغيره لم يجز تسليمه بالكيل الأول حتى يكيله على من اشتراه ثانيا، وبذلك كله قال الجمهور وقال عطاء يجوز بيعه بالكيل الأول مطلقا وقيل إن باعه بنقد جاز بالكيل الأول وإن باعه بنسيئة لم يجز الأول.
والأحاديث المذكورة ترد عليه وفي الحديث مشروعية تأديب من يتعاطى العقود الفاسدة وإقامة الإمام على الناس من يراعي أحوالهم في ذلك والله أعلم، وقوله جزافا مثلثة الجيم والكسر أفصح وفي هذا الحديث جواز بيع الصبرة جزافا سواء علم البائع قدرها أم لم يعلم، وعن مالك التفرقة فلو علم لم يصح وقال ابن قدامة: يجوز بيع الصبرة جزافا لا نعلم فيه خلافا إذا جهل البائع والمشتري قدرها فإن اشتراها جزافا ففي بيعها قبل نقلها روايتان عن أحمد ونقلها قبضها (2) .
يمكن القضاء على جشع التجار الذين يحتالون بأنواع من البيوع المحرمة على استغلال حاجة المضطرين بالأمور الآتية:
أولا: التوعية الشاملة:
يقوم العلماء بتبيين أنواع البيوع المحرمة، ويحذرون الناس من التعامل بها لما فيها من غضب الله وسخطه ولما يترتب عليها من أخطار على الأمة وخاصة المحتاجين، وما ينشأ عنها من أضرار اجتماعية ومالية من توليد الضغائن والأحقاد وتقطيع أواصر المحبة والإخاء وتكبيل من صاروا
__________
(1) سنن ابن ماجه التجارات (2228) .
(2) المغني ج 4 ص 277 - 279(37/110)
فريسة للتحايل في البيوع وسائر المعاملات والتلاعب فيها بكثرة الديون وتراكمها على الضعفاء وشغل القضاة وسائر ولاة الأمور بالخصومات.
ويكون ذلك بإلقاء الخطب والدروس بالمساجد والمحاضرات في النوادي والتليفزيون والإذاعة والمجتمعات العامة وبنشر المقالات في الصحف والمجلات فإن لذلك التأثير البين إن شاء الله على ذوي القلوب الحية والنفوس الطيبة وبه يخف الجشع والاحتيال لأكل الأموال بالباطل.
ثانيا: ينصح الجمهور بالاقتصاد في النفقات فلا يتوسعوا في وسائل الترف، وينصح من عنده رأس مال يتجر فيه ألا يدخل في مداينات أو معاملات محرمة ليتوسع بها في رأس ماله، وليستغن بما آتاه الله وما أباحه له من طرق الاتجار والكسب الحلال عما حرمه الله عليه شكرا لنعمة الله عليه عسى أن يزيده سبحانه وتعالى من فضله.
ثالثا: الأخذ على يد المتلاعبين في المعاملات:
يقوم ولاة الأمور بمراقبة الأسواق العامة والمحلات التجارية لمعرفة ما يجري فيها من المعاملات المحرمة ويأخذون على يد من حصل منه ذلك، فيعزرونه بما يردعه من حبس أو ضرب أو غرامات مالية أو بمصادرة العوض في المعاملة المحرمة إلى أمثال هذا مما يرونه زاجرا للمسيء ولأمثاله الذين لم يستجيبوا للتوعية والإرشاد ولم تؤثر فيهم الدروس والمواعظ فلم يعبأوا بالتحذير ولم يبالوا بالوعيد وصارم الجزاء. وهذا مما يقضي على جشعهم أو يقلله إن شاء الله ويجعلهم على حذر مستمر من الاستغلال السيئ والكسب المحرم.
رابعا: توجيه الزراع إلى بنك التسليف الزراعي ليتعاملوا معه فيأخذوا منه ما يحتاجونه لمزارعهم من الآلات الزراعية وغيرها بأسعار معتدلة تدفع على أقساط مناسبة دون ربا أو إرهاق أو استغلال للظروف.(37/111)
خامسا: توجيه من يريد بناء مسكن له أو من يريد التوسع في بناء مساكن للإسهام في حل أزمة المساكن ولينتفع بذلك، إلى بنك التنمية والاستثمار العقاري ليقدم إليه من المال ما يستعين به في إقامة ما يريد من بناء ثم يسدد ما أخذ أقساطا لا يشق عليه الوفاء بها في مواعيدها دون أن يتقاضى البنك على ذلك منه ربا.
سادسا: إرشاد من يحتاج إلى قرض لشئون أخرى يحتاجها في حياته أن يتقدم إلى البنك الإسلامي أو أحد الأفراد الأغنياء بإبداء حاجته ليعطيه قرضا بلا ربا يسد به حاجته.
هذا ما تيسر إعداده وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا وآله وصحبه وسلم. . .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(37/112)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية
والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين
في شؤونهم الدينية والاجتماعية(37/113)
فتوى رقم 7136
س: الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يعقد اجتماع بهذه المناسبة والناس يتحدثون فيه عن حياة الرسول يؤدون الصلاة ويبوحون بنعت الرسول ويقرأ السلام عليه عن ظهر قلب (انظر إلى صور مما يلقى عن ظهر قلب، الناس يقفون ويضعون أذرعهم على المدة ويلقون السلام على ظهر القلب) .
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: إقامة احتفال بمناسبة مولده - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز لكونه بدعة محدثة لم يفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه الراشدون ولا غيرهم من العلماء في القرون الثلاثة المفضلة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(37/114)
3 - فتوى رقم 43
س: بعض الناس يرون فرض السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة وفيما بعد يبقى مستحبا؟(37/114)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: إن الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض، لأمر الله سبحانه بذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) والأصل في الأمر الوجوب ولما لم يدل الأمر في الآية على التكرار كان وجوب ذلك مرة في العمر وكان تكرارهما مستحبا للأحاديث التي وردت في الترغيب في ذلك إلا في المواضع التي دلت الأحاديث على وجوبها فيها.
س: إذا كان السلام بدعة فهل يجوز منع الناس من السلام على النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -؟
جـ: وليست الصلاة والسلام على رسولنا وعلى إخوانه النبيين بدعة كما ذكره السائل بل هما مشروعان للأدلة المتقدمة، فلا يجوز منع الناس منهما إلا إذا جيء بهما على هيئة لم تكن على عهد السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، مثل أن يأتي بهما المؤذن بعد الأذان جهرا كالأذان أو يجتمع جماعة لذلك في أوقات معينة ليصلوا ويسلموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة، فهذا مما ينكر فيه كيفية الصلاة والسلام لعدم ورود ذلك عن سلفنا الصالح فكان وقوعهما على هذه الهيئة هو البدعة التي تنكر دون أصل
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56(37/115)
الصلاة والسلام.
س: هل الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - منعوا الناس من القيام عند السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
جـ: لم يكن من دأب الصحابة - رضي الله عنهم - القيام عند السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقا لا في وقت زيارة قبره ولا في غيره، ولم يكن من عاداتهم أن يقصدوا إلى قبره للسلام عليه، عليه الصلاة والسلام، كلما دخلوا المسجد النبوي ويقفوا عنده من أجل السلام عليه، لكن جاء عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان إذا جاء من سفر دخل المسجد النبوي فإذا صلى جاء إلى قبره - عليه الصلاة والسلام - فسلم عليه.
س: ألم يكن من دأب الصحابة القيام عند السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومتى يجوز السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - قائما إن السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - يجوز قائما عند الروضة المباركة؟ .
جـ: ليس القيام عند قبره - عليه الصلاة والسلام - حين السلام عليه من أجل السلام حتى يقاس عليه القيام حين السلام عليه في الأمكنة الأخرى بل القيام بقاء على حالته التي انتهى إليها حينما وصل إلى القبر ماشيا، وليس في هذا إنشاء لقيام فالشأن في ذلك شأن زيارة قبور سائر المسلمين يسلم على أهلها من وصل إليها قائما لا من أجل السلام بل لأنه انتهى إليها ماشيا أو راكبا فسلم وهو على حالته التي انتهى بها إليهم.(37/116)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(37/117)
فتوى رقم 2362
س: مضمون السؤال مسألة في ديارهم طريقة مروجة عند عامة المسلمين وبعض من الخواص ينعقد مجلس لذكر ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل سنة، فالأول يقرأ القارئ آيات من القرآن الكريم بحالة القعود وبعدها بعض العلماء يقرر في مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يجري التقرير إلى الاختتام ويقول قوموا لوقت التعظيم أحمد وللقيام، عقيدتهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس من مثل البشر بل هو نور من الله الذاتي وهو حاضر وناظر في كل مكان، وأن يحضره بذاته في كل مجلس ميلاده وهو يسمع كلامهم يقومون ويقولون معا:
يا نبي سلام عليك
يا نبي سلام عليك
يا رسول سلام عليك
يا حبيب سلام عليك
صلوات الله عليك
هل الطريقة المروجة المكتوبة كانت مروجة في قرون الصحابة والتابعين - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - أم لا؟ وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الألفاظ واحترام الرسول - عليه السلام - عند ولادته أمر حسن(37/117)
أم قبيح، سنة أم بدعة سيئة وصواب أم شرك، بينوا ذلك بآثار الصحابة والتابعين - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين -.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: أولا: إقامة مولد للرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعة مخالفة لهديه - صلى الله عليه وسلم - وهدي خلفائه الراشدين وصحابته - رضي الله عنهم أجمعين -، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ولسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فتوى مفصلة في حكم الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ثانيا: اعتقاد أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس كمثل البشر بل هو نور من نور الله الذاتي ليس هذا الاعتقاد صحيحا؛ لأنه مخالف للقرآن فقد بين الله بشريته وما يمتاز به على البشر بقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (2) والبشر مخلوقون كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (3) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} (4) الآية
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) سورة الكهف الآية 110
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الحج الآية 5(37/118)
وقال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (1) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (2) أما الله جل وعلا فهو الأول الذي لا مبدأ لأوليته بين ذلك بقوله جل وعلا {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) وسمى الله نبيه نورا وسراجا منيرا لما بعثه الله به من الهدى والنور الذي هدى الله به من أجاب دعوته عليه الصلاة والسلام، كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (4) .
ثالثا: القول بأنه حاضر وناظر في كل مكان وأنه يحضر بذاته في كل مجلس ميلاده وهو يسمع كلامهم قول باطل.
رابعا: أما نداؤه والاستغاثة به وطلبه المدد والنصر فهذا نوع من أنواع الشرك الأكبر الذي لا يجوز فعله معه - صلى الله عليه وسلم - ولا مع غيره من المخلوقات، لقول الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (5) وقوله عز وجل {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (6) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 45
(2) سورة الأحزاب الآية 46
(3) سورة الحديد الآية 3
(4) سورة المائدة الآية 15
(5) سورة الجن الآية 18
(6) سورة المؤمنون الآية 117(37/119)
فتوى رقم 1122
س: إن الناس يقرءون المولد وسورة يس وسورة الفاتحة لشهداء بدر في سبعة عشر من شهر رمضان مجتمعين في المسجد الحنفي، ثم يدعون لهم، وكذلك يقرأون المولد وسورة يس وسورة الفاتحة، ثم يقرأون الدعاء، فهل هذا الأمر جائز في الشريعة أم لا؟ بينوا بالدلائل تؤجروا عند الله.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
جـ: دلت نصوص الشريعة على سمو قدر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلو منزلته، وأنه خليل الله وحبيبه وأنه خاتم رسله وخيرته من خلقه، وأنه لا يؤمن أحد حتى يكون أحب إليه من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين، وأنه لا شرع إلا ما جاء به وبلغه الأمة، وأنه ما توفاه الله إليه إلا بعد أن أكمل به دينه وأتم به على العباد نعمته.
ودلت نصوص الشريعة أيضا على فضيلة الشهداء شهداء غزوة بدر وغيرها، وعاش بعد غزوة بدر سنوات ولم يعرف عنه أنه قرأ مولدا لنفسه يوم سبعة عشر من رمضان منفردا أو مجتمعا بغيره، ولا أنه قرأ سورة يس وسورة الفاتحة على شهداء بدر ولا(37/120)
غيرهم لا في اليوم السابع عشر من رمضان ولا غيره، ولا منفردا عن الناس ولا مجتمعا بهم، ولم يثبت عنه شيء من ذلك ولا عن أحد من أصحابه، ولو كان مشروعا لنقل عنه وجرى العمل عليه في عهد أصحابه، لأنه لا خير إلا دلنا عليه، والأصل في كل العبادات التوقيف من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكان - صلى الله عليه وسلم - يزور القبور ومنها قبور الشهداء، ويدعو لهم ولم يثبت عنه أنه قرأ مولده، وسورة يس أو سورة أو آية أخرى من القرآن في زيارته للقبور، وحيث لم يثبت عنه شيء من ذلك ولا جرى عليه عمل الصحابة دل ذلك على أن قراءة المولد وسورة يس وسورة الفاتحة لشهداء بدر في اليوم السابع عشر بدعة في نفسها، وتحديد يوم لذلك بدعة أخرى، والاجتماع من أجل عمل البدعة بدعة في بدع مجتمعة، وكذلك فعل ذلك ثم الدعاء بعده بدعة، فعلى المسلم أن يتحرى ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعمل به فإنه لا شرع إلا ما شرعه، وما سواه مما أحدثه الناس من العبادات التي لم يشرعها الله ورسوله كله بدعة. . . وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(37/121)
فتوى رقم 4244
س: إخواني في الله أريد من حضراتكم أن تنوروا قلبي في سؤال حيرني عن الحبيب المصطفى محمد رسول الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام أفضل الصلاة والسلام، إخواني في الله إنني أسمع من بعض الإخوة الشيوخ في مناسبة الموالد يقولون بأنه لولا محمد - عليه الصلاة والسلام - ما خلقت السماوات والأرض، وأن الله خلقه قبل آدم - عليه الصلاة والسلام - بآلاف السنين، وأنه سبحانه وتعالى خلق الشمس من نور جبينه وخلق النجوم من نور أسنانه وكثير من ذلك لا أذكر، وأنه مكتوب على باب الجنة لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولقد سألت بعض العلماء عن هذه الأقوال فصدق بها البعض ونفاها البعض الآخر وتركوني في حيرتي هذه، وإني في حيرة أصدق ذلك أم لا وإني خائف كثيرا وفي حيرة دائما، وإنني أذكر في ليلة ميلاد النبي - عليه الصلاة والسلام - هذا العام ذهبت إلى دار القرآن في عمان لإحياء تلك الليلة المباركة وكان الشيخ حازم أبو غزالة يتلو علينا في سيرة النبي - عليه الصلاة والسلام - ومن جملة ما قال إنه كلما ذهب لزيارة النبي - عليه الصلاة والسلام - يأتي إلى الشباك الحديدي الذي وضع حول قبر الرسول - عليه الصلاة والسلام - ليتبارك به بحجة أنه يزيل الغبار ليغافل الحراس، وأنه ذكر أن أحد أصدقائه قد أحضر له بعض التراب(37/122)
من قبر الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأن رائحة هذا التراب أحلى من رائحة العطر، وحين سمعت هذا الكلام تذكرت حادثة وقعت معي قبل عشرات السنين حينما ذهبت أنا وبعض الأصدقاء لزيارة كنيسة القيامة وقد كان الغرض من الزيارة العبث ومضايقة الأجنبيات من النصارى غفر الله لنا جميعا، ونحن في الكنيسة التقينا بأحد الرهبان وأحضر لنا بعض العطر وقال لنا: هذا الماء الذي تعمد به المسيح عليه وعلى نبينا السلام، ولا أعرف ما الذي ربط بين هاتين المسألتين في ذهني وتعذبت كثيرا جدا، وبعد ذلك أخذ الشيخ ومن حوله في إحياء الذكر ووقف الجميع وراحوا يقفزون ويميلون بحركات شاذة حتى كلام الله لا يكاد يسمع من أفواههم، ولم يرق لي هذا المنظر فخرجت وبدأ الوهم والشك يساورني هل عملت الصواب أم الخطأ، ولقد تكرر هذا الحادث في ليلة القدر وفي جميع المناسبات الدينية، أرشدوني بالله عليكم إني أتعذب كثيرا وأريد أن أسأل فضيلتكم هل يسمح لي أو لأي مسلم أن يشاهد قبر الرسول - عليه الصلاة والسلام - في داخل الشباك؟ لقد أسعدني الحظ وزرت قبر الرسول - عليه الصلاة والسلام - ووقفت عند الشباك ولقد تمنيت أن أكون فراشة لأتمكن من الاقتراب من قبره عليه السلام لا لشيء ولكن لأقترب منه عليه السلام. أنا أؤمن بأن القبر من تراب وأن الله عز وجل ورسوله موجود في قلب كل مؤمن وأتمنى أن أذهب كل يوم وكل ساعة إلى(37/123)
تلك الديار المقدسة لأشاهد قبر رسول الله والروضة الشريفة والكعبة المشرفة ولكن يمنعني من ذلك ضيق المال ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
جـ: أولا: إقامة مولد للرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعة لم يفعلها - صلى الله عليه وسلم - لنفسه ولم يفعلها أحد من خلفائه ولا من صحابته له - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » .
ثانيا: ما ذكره بعض الناس من أن السماوات والأرض ما خلقت إلا من أجل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن خلقه قبل آدم إلخ، كل هذه الأقوال لا حجة لها مع العلم بأنه سيد المرسلين وأفضل الخلق أجمعين، ولكن لا يجوز وصفه بشيء لم يثبت عن الله ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم -.
ثالثا: إذا زار الشخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه يأتي إلى القبر ويسلم على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ولا يقف بعد ذلك للدعاء ولا يمسك الشباك ليتبرك به؛ لأن ذلك بدعة.
رابعا: دعوى أن الشخص أحضر لكم ترابا من تراب قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعوى كاذبة لا أصل لها لأنه لا يستطيع أحد أن
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(37/124)
يأخذ من تراب قبره شيئا مطلقا، ولو قدر أنه فعله أحد لم يشرع التبرك به لأن ذلك لا أصل له ولم يفعله أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم أعلم الناس به وبسنته وأحب له - عليه الصلاة والسلام - ممن بعدهم ولنا فيهم أسوة حسنة.
ونسأل الله أن يمنحنا وإياك العلم النافع والعمل الصالح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(37/125)
من الفتوى رقم 2747
س 1: مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عندنا هنا في شهر ربيع الأول أحد عشر يوما يعمل العلماء فرحا عن مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمعون المسلمين ويفعلون أشياء من الفرح ليوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأما بعض العلماء فيقولون لا خير في ذلك، لذلك أريد أن أسأل ما حكم ذلك وهل عندكم تفعلون شيئا؟
س 2: عن فرح مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الشهر؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ 1، 2: إقامة مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المبتدعة، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما(37/125)
ليس منه فهو رد (1) » وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » وهذا لم يفعله الرسول ولم يأمر به ولم ير أحدا فعله وسكت عنه ولا فعله خلفاؤه من بعده، وهكذا سلف الأمة في القرون الثلاثة المفضلة لم يفعلوه ثم ابتدعت إقامته، وقد كتب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز جوابا مطولا في ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(37/126)
صفحة فارغة(37/127)
صفحة فارغة(37/128)
صفحة فارغة(37/129)
س 3: عندنا هنا إذا مات المسلم يفعلون دعاءه في ذلك اليوم وفي سبعة أيام آتية يفعلون دعاءه وفي أربعين يوما ثلاث مرات، وقال بعض العلماء عندنا هنا نفعل إذا مات المسلم وأدخلناه في قبره نقول صلاة على النبي الكريم ورجعنا إلى البيت لا شيء أبدا من الدعوة ألا يفعلون الدعوة عند الصلاة لذلك نريد أن نفعل إذا مات المسلم عن سنن دعائه؟
جـ: أولا: تخصيص اليوم الأول أو السبعة الأيام أو الأربعين للدعاء للميت لا نعلم له أصلا من الكتاب والسنة ولا من عمل الصحابة - رضي الله عنهم - ولا غيرهم من سلف الأمة بل هو بدعة من البدع المحدثة، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وفي رواية «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » .
ثانيا: يقال حين وضعه في قبره ما روى ابن عمر - رضي الله عنهما - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أدخل الميت القبر قال: " بسم الله وعلى ملة رسول الله (3) » وروي «وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» قال الترمذي هذا حديث حسن غريب.
ثالثا: يستحب أن يقف المتبعون للميت بعد الدفن على قبره ويدعوا له بالمغفرة والثبات لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك.
وأما الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أدخل الميت القبر فلا نعلم لها أصلا.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) سنن الترمذي الجنائز (1046) ، سنن أبو داود الجنائز (3213) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1550) .(37/130)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(37/131)
من الفتوى رقم 3257
س: ما حكم الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - في شهر ربيع الأول تعظيما له عليه الصلاة والسلام؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: تعظيم النبي واحترامه إنما هو بالإيمان بكل ما جاء به من عند الله واتباع شريعته عقيدة وقولا وعملا وخلقا وترك الابتداع في الدين، ومن الابتداع في الدين الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولسماحة الرئيس العام الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كلمة ضافية في حكم الاحتفال بالمولد النبوي.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(37/131)
من الفتوى رقم 3323
س: ما حكم الاحتفال بالمولد النبوي وبليلة الإسراء(37/131)
والمعراج بقصد الدعوة الإسلامية، وشعار الإسلام كما يرى في أندونيسيا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: قد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام بالقول والعمل والجهاد في سبيل الله وهو أعرف بطريق الدعوة إليه ونشرها وإظهار شعائره، ولم يكن من هديه في الدعوة وإظهار شعائر الإسلام الاحتفال بمولده ولا الاحتفال بالإسراء والمعراج، وهو الذي يعرف قدر ذلك ويقدره قدره، وسلك أصحابه - رضي الله عنهم - طريقه، واهتدوا بهديه في الدعوة إلى الإسلام ونشره فلم يحتفلوا بذلك ولا بنظائره من الأحداث الكبار، ولا عرف الاحتفال بذلك عن أئمة الإسلام المعتبرين أهل السنة والجماعة - رحمهم الله -، وإنما عرف ذلك عن المبتدعة في الدين والغلاة فيه كالرافضة وسائر فرق الشيعة وغيرهم ممن قل علمه بالشرع المطهر، فالاحتفال بما ذكر بدعة منكرة لمخالفته لهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين وأئمة السلف الصالح في القرون الثلاثة المفضلة - رضي الله عنهم -، وفد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » وقال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(37/132)
رد (1) » وقال: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (2) » . . الحديث.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(37/133)
من الفتوى رقم 4091
س: ما ترون أبقاكم الله عونا للأمة الإسلامية في تعطيل المدارس والمعامل أو إلقاء الخطب والمحاضرات والمواعظ ونحوها كما هي الحال عندنا في أفريقيا بمناسبة المولد النبوي الشريف؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: الاحتفال بالمولد والتعطيل من أجله بدعة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله ولا أصحابه - رضي الله عنهم -، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(37/133)
فتوى رقم 3783
س: إخواني رئيس وأعضاء لجنة الفتوى عندنا بقرى الريف الأردني وأخص بالذكر بلدي (خرجا) أنهم باستمرار يقرءون سيرة مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على النحو التالي:
(أ) يجتمع ثلة من الرجال وأحيانا يكون بينهم بعض النسوة ويتلون قصة المولد الشريف ويوجد بالقصة كلمات مثل: من كان اسمه محمد يناديه مناد يوم القيامة من قبل الله: قم ادخل الجنة كرامة إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، منها: من صلى على محمد - صلى الله عليه وسلم - ألف مرة حرم الله جسده على النار، منها: لما تزوج عبد الله والد محمد - صلى الله عليه وسلم - بآمنة مات بمكة مائة امرأة لأنهن لم يتزوجن عبد الله، منها لما يصل المقرئ إلى ذكر ولادة أمه تقوم المجموعة وقوفا ويكون المولد تلاوة احتراما لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويوجد أكثر من ذلك وأبلغ في مولد يسمى مولد العروي.
(ب) يضعون كمية من الشعير وسط الجلسة ويأتون ببخور ويحرقونه، وبعد التلاوة كل فرد يأخذ قليلا من الشعير باعتبار أنه قرئ عليه مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهذا يعتبر علاجا لأي مرض مثلا.
(جـ) تقوم ببعض الموالد النساء بالزغاريد بباب الغرفة التي يتلى بها المولد وأمام الرجال سرورا بالتلاوة ولا أحد ينكر ذلك وإنما يوافقون على ذلك، وأنا بدوري أنكر ذلك ولا أقره كما سمعت من فتواكم أكثر من مرة بالإذاعة لكنهم لم يسمعوا مني.(37/134)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: أولا: قراءة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها لمعرفة ما كان عليه من النسك والعبادة قولا وعملا وما كان عليه من الأخلاق الكريمة مشروعة مرغوب فيها، وتخصيص قصة المولد بالقراءة والاجتماع لذلك والمداومة عليه، وتخصيص أوقات لقراءته كل ذلك بدعة ممقوتة لم تكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا القرون الأولى التي شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لها بأنها خير القرون، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وقال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » .
وما ذكرت أنه في قصة المولد التي تقرأ عندكم من الجزاء الأخروي وموت مائة امرأة بمكة حينما تزوج عبد الله بآمنة لأنهن لم يتزوجنه لم يثبت تاريخيا ولا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو ثبت تاريخيا لم تقم به حجة على شرعية الاحتفال بالمولد النبوي.
ثانيا: وضع كمية من الشعير أو غيره وسط الجلسة والتبخير والتحريق وتوزيع ما ذكر رجاء بركته لتلاوة المولد عليه والاستشفاء به والاعتقاد في بركتها بدعة منكرة وفساد في العقيدة.
ثالثا: إعلان النساء سرورهن بالزغاريد عند تلاوة المولد واختلاطهن بالرجال من المنكرات والفتن التي قد تفضي إلى الفاحشة والعياذ بالله.
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(37/135)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(37/136)
من الفتوى رقم 4683
س: ما حكم الاحتفال بالمولد النبوي وهل النبي - صلى الله عليه وسلم - يحضر؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: احترام النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكريمه إنما هو بالإيمان برسالته والعمل بما جاء به من عند الله، أما الاحتفال بمولده فبدعة محدثة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » ولم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحضر بعد وفاته عند أحد من الناس، والأصل عدم ذلك فيجب البقاء معه حتى يقوم دليل على رفعه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(37/136)
فتوى رقم 4755
س: أستفتيكم في عمل مجموعة من المسلمين تقرأ وتعظم في 12 ربيع الأول من كل عام وفي مناسبات الزواج وفي مكان تسمية المولود كتابا يسمى " مولد النبي " من تأليف الشيخ محمد عثمان المرغني وموضوع الكتاب هو سيرة الرسول عليه وعلى آله ألف الصلاة والتسليم، ويزعم كاتبه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحضر في أثناء قراءة هذا الكتاب وفيه بابان أحدهما يقرؤه كبيرهم وبالوقوف، والباب الثاني يفهم منه التوصل بأشخاص مجهولين وهكذا يبدأ: يا رب بهم وبآلهم عجل بالنصر وبالفرج، ولم نعرف مرجع هذين الضميرين لأنه أول بيت في نفس الباب وبالتالي أرجو من سماحتكم في إفتائي هل يصح صلاة شخص خلف هؤلاء الناس، وقد قلت لهم لا يصح تقدير هذا الكتاب بهذه الدرجة ولا بأس بقراءته لكل من أراد السيرة منفردا من غير الشكل الذي نراه ونسمعه. أرجو أن تذيعوا الإجابة عدة أيام كي يمكننا سماعها ودمتم ذخرا لخدمة الإسلام والمسلمين؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - في ربيع الأول أو غيره بدعة ممنوعة، وقراءة ما ألف في مولده في ربيع الأول وفي مناسبة الزواج أو في ولادة أولاد أو في الأسبوع عند تسميتهم وذبح العقيقة عنهم أو(37/137)
نحو ذلك من المناسبات لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه ولا من بعدهم من أئمة الهدى في القرون الثلاثة المفضلة - رضي الله عنهم جميعا - فهي بدعة محدثة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(37/138)
من الفتوى رقم 5005
س: هل يجوز اجتماع ومجالس ثاني عشر يوم ربيع الأول لذكر ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله لنفسه ولا أمر بفعله ولم يفعله أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - له وهم أحرص الناس على تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع سنته، والخير كله في اتباع هديه وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(37/138)
من الفتوى رقم 5591
س: ما حكم الوعظ في يوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الناس وتعريفهم بدينهم ووعظهم بما يرقق قلوبهم مشروع في كل وقت لورود الأمر بذلك مطلقا دون تقييد بوقت معين قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) وقال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقال سبحانه في بيان حال المنافقين وموقف الدعاة منهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} (3) {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} (4) {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} (5) إلى غير ذلك من الآيات فأطلق الله الأمر بذلك ولم يخصه بوقت ويتأكد الوعظ والإرشاد عند وجود ما يقتضيه كخطب الجمع والأعياد لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة النساء الآية 61
(4) سورة النساء الآية 62
(5) سورة النساء الآية 63(37/139)
وكرؤية منكر، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه (1) » وليس مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - في يوم من مقتضيات تخصيص ذلك اليوم بقربة من القرب أو وعظ وإرشاد أو قراءة قصة المولد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخصه بذلك، ولو كان في تخصيصه بذلك خير لكان - صلى الله عليه وسلم - أولى به وأحرص عليه، لكنه لم يفعل، فدل على أن تخصيصه بالوعظ أو بقراءة قصة المولد أو بأي عبادة من البدع، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » وكذا أصحابه لم يفعلوا ذلك وهم أعرف وأعلم بالسنة وأحرص على العمل بها، رضي الله عنهم جميعا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5008) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/20) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(37/140)
فتوى رقم 5723
س: نرجو الإفادة عن التاريخ الصحيح لمولد النبي - صلى الله عليه وسلم -. خططنا لعقد مسابقات قرآنية وذبح خروف وإلقاء محاضرات عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذه المناسبة، نرجو إرشادنا ما إذا كان هذا البرنامج(37/140)
يجوز شرعا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: أولا: ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل في ربيع الأول كما ذكره محمد بن إسحاق وعلماء السير في كتب السيرة.
ثانيا: من البدع الممنوعة إقامة احتفال في ليلة مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ليلتها وعقد مسابقات قرآنية فيها وذبح خرفان وإلقاء محاضرات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه المناسبة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرف بقدر نفسه وما ينبغي أن يكرم به وأعرف بشرع الله تعالى، ولم يثبت عنه أنه احتفل بمولده ولا بمولد نبي من إخوانه السابقين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولا بمولد أحد من صحابته - رضي الله عنهم -، وقد ثبت عنه أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(37/141)
من الفتوى رقم 5782
س: ما حكم الكتاب المسمى بالبردة المديح التي تستعمل(37/141)
في الدعاء في وطننا، وهل هذا الكتاب إذا قرأته تثاب أم لا، وهل قراءة هذا الكتاب تصل إلى النبي كما يقول بعض الناس أم لا؟
الحمد لله وحده الصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: أكثر من قراءة القرآن الكريم ومن ذكر الله بما ثبت من الأذكار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واستغن بذلك عن قراءة البردة ونحوها، فإن التعبد بقراءتها وقراءة أمثالها بدعة محدثة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » وعلى هذا فلا ثواب في قراءتها بل في بعض أبياتها شرك أكبر مثل:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
إلى أن قال:
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(37/142)
من الفتوى رقم 5782
س: ما حكم اجتماع الناس للمولد مع زعمهم أن النبي يحضر مجالسهم وهل هذا الاجتماع يصح شرعا، وماذا ينبغي لنا(37/142)
أن نفعل في يوم مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومتى ولد، من أي يوم، وأي شهر، وأي سنة، وهل النبي - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره الآن أم لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: اجتماع الناس لإحياء ليلة المولد وقراءة قصته ليس مشروعا بل هو بدعة محدثة، وزعمهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحضر مجالسهم كذب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره حياة برزخية يتمتع فيها بنعيم الجنة وليست كحياته في الدنيا فإنه قد توفي وغسل وكفن وصلي عليه صلاة الجنازة ودفن كغيره، وهو أول من يبعث من قبره يوم القيامة، وقد قال الله تعالى مخاطبا إياه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (1) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (2) ، وقال سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (3) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (4) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الزمر الآية 30
(2) سورة الزمر الآية 31
(3) سورة المؤمنون الآية 15
(4) سورة المؤمنون الآية 16(37/143)
من الفتوى رقم 6257
س: هل من السنة في شيء أن يقف الحضور لدى تلاوة أبيات التعظيم في الحفلات التي تقام بمناسبة مولد النبي(37/143)
الشريف؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: إقامة حفلة أو حفلات بمناسبة مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعة محدثة لم يشرعها النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا ولا عملا، ولم يحتفل أصحابه - رضي الله عنهم - بمولده وهم أعرف الناس بقدره وأرعاهم لحقه، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وفي رواية: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » والخير كله في اتباعه - صلى الله عليه وسلم - والاهتداء بهدي خلفائه الراشدين من بعده والشر كله في الإعراض عن منهجهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(37/144)
فتوى رقم 6378
س: قد طلبتم مني توصيف نوع البدعة التي أحدثت في المساجد بمناسبة المولد النبوي، فأقول وبالله التوفيق إن المحدثات في المساجد كثيرة منها إقامة الحفلات فيها من غير اكتراث بالمصلين والقارئين لكتاب الله الكريم مع الرفع(37/144)
بالأصوات، ومنها إنشاء قصيدة بعد الصلاة حيث ينتظر التكبير من الإمام فيقول المنشد:
اللهم صل وسلم على حبيبي محمد عليه السلام
فيقول القوم مثل قوله صوتا واحدا، فيقول المنشد اللهم سهل أمورنا بحياته عليه السلام، وهذه القصيدة تقرأ بقدر 7 دقائق تقريبا، فإن قال قائل من أهل السنة دعوا هذه البدعة ردوا بأنه وهابي يجحد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنها أن يقوم القوم بعد الخروج من صلاة الفجر ويقابل بعضهم بعضا يدعون الله واحدا بعد واحد، وهذا الأخير خاص في مسجد يقال القبى في حارة مدينة، ومنها دفن من يعظمونه في المسجد وغالبا تجاه القبلة قريبا منه وغير ذلك، وفقنا الله وإياكم لما فيه رضاه آمين.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: أولا: ما ذكرته في السؤال كله من المحدثات التي لا يجوز فعلها، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » .
ثانيا: لا يجوز دفن الموتى في المساجد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » متفق على صحته.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(37/145)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(37/146)
فتوى رقم 6524
س: هل يجوز حضور الاحتفالات البدعية كالاحتفال بليلة المولد النبوي، وليلة المعراج، وليلة النصف من شعبان لمن يعتقد عدم مشروعيتها لبيان الحق في ذلك؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: أولا: الاحتفال بهذه الليالي لا يجوز بل هو من البدع المنكرة.
ثانيا: غشيان هذه الاحتفالات وحضورها لإنكارها وبيان الحق فيها وأنها بدعة لا يجوز فعلها مشروع ولا سيما في حق من يقوى على البيان ويغلب على ظنه سلامته من الفتن.
أما حضورها للفرجة والتسلية والاستطلاع فلا يجوز لما فيه من مشاركة أهلها في منكرهم وتكثير سوادهم وترويج بدعهم.(37/146)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(37/147)
من الفتوى رقم 6759
س: يحتفل الناس هنا بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - والطلاب يضربون الدفوف والكبراء يجتمعون في المساجد ويقرءون القرآن وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، هل هذا من الدين؟ وبعض الحكومات يعطلون في هذا اليوم ويؤجرون العاملين هل هذا من الدين أم لا، عرفوني؟ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حثنا على السنة وحذرنا من البدعة وبعض المسلمين لا يحتفلون ولا يذهبون إلى المساجد لكرامة هذا اليوم فهل هم من أهل السنة أم ينكرون كرامة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما حكمه؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: ليس هذا من الدين بل هو بدعة، وينصح من يفعل ذلك ويرشدون بعمارة المساجد بالصلاة ودراسة العلم وتلاوة القرآن ونحو ذلك مما ورد بالشرع عمارة المساجد به، دون تخصيص يوم المولد بشيء من ذلك.(37/147)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(37/148)
من الفتوى رقم 7360
س: هل إقامة المولد النبوي الشريف حلال أم حرام؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: إقامة المولد للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لغيره من البدع المحدثة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(37/148)
فتوى رقم 9102
س: لدينا شيخ وهو عالم بالدين ويقول في مجالس: اذكروا أمواتنا جميعا، لكن عيد ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بدعة، وقد قال رسول الله: «اذكروا موتاكم بالخير (1) » هل هذا حديث عن النبي، وما
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (1019) ، سنن أبو داود الأدب (4900) .(37/148)
الحكم في هذه المجالس؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: أولا: ما ذكر ليس هو نص الحديث، وقد روى أبو داود والترمذي والحاكم والبيهقي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم (1) » لكنه غير صحيح، لأن في سنده عمران بن أنس المكي، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه.
ثانيا: لو صح هذا الحديث لما كان فيه دلالة على عيد ميلاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا على الاجتماع من أجل ذلك، بل على ذكره وذكر غيره من المسلمين بالخير والمعروف مطلقا في أي زمان ومكان دون تحديد إلا فيما حدده الشرع، وهذا حق مأمور به في حق كل مسلم عامة وللنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة كلما ذكر اسمه في الأذان وفي الإقامة للصلاة وبعدهما، وفي التشهد في الصلاة وفي خطب الجمع وغير ذلك دون تخصيص بيوم مولده أو ليلته ودون اجتماع لذلك.
ولهذا لم يجتمع الخلفاء الراشدون لذلك ولا سائر الصحابة - رضي الله عنهم - وهم أعرف بالشرع وأفهم لنصوصه ومقاصده منا، وأحرص على العمل به وعلى أداء حقوق رسوله - صلى الله عليه وسلم - منا، وخير الهدي هديهم، فكانت إقامة حفلات الموالد بدعة في الدين
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (1019) ، سنن أبو داود الأدب (4900) .(37/149)
لمخالفتها هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدي صحابته - رضي الله عنهم -.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(37/150)
فتوى رقم 9126
س: نحن جماعة من حفاظ القرآن الكريم نجتمع كل عام بمناسبة ذكرى مولد سيد البشرية محمد - صلى الله عليه وسلم - في ضريح أحد الأولياء الصالحين الذي يقام فيه موسم سنوي يختن فيه الأطفال ويتصدق فيه الناس على الطلبة بالأشياء والدراهم، وبعد ذهاب الوافدين يقوم الطلبة بجمع الأموال بعضهم كل حسب مستواه وكرمه ومن يبيع الأشياء المتصدق بها بالمزايدة، فيقول أحدهم مثلا ماذا وضعتم يا طلبة في هذا الخمار؟ فيقولون وضعنا فيه الصحة أو الغنى أو صلاح الأولاد. . إلخ، فيباع بثمن غال يساوي أضعاف ثمنه الأصلي ثم يشترون بهذه الأموال الذبائح التي تذبح في هذا الضريح، ويبقى هنا الطلبة مدة أسبوع يختمون القرآن كل ليلة عدة ختمات ويصلون داخل حجرة الضريح مع العلم بأن الضريح داخل الحجرة والحجرة داخل المقبرة العامة. . . ما حكم الله في هذا العمل؟ هل هو عمل يتقرب به إلى الله أم أن هذا(37/150)
العمل لا أصل له في الشريعة؟ أفتونا جزاكم الله خيرا.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: أولا: محمد - صلى الله عليه وسلم - هو نبينا وحبيبنا وسيد ولد آدم ولا فخر، وهو خاتم النبيين والمبعوث للناس عامة وهو أول شافع ومشفع يوم القيامة - عليه الصلاة والسلام - لكن الاحتفال بمولده بدعة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك لنفسه، ولا سنه لأمته، ولا فعله خلفاؤه الراشدون ولا سائر أصحابه - رضي الله عنهم -، وهم أفهم الأمة لشريعته، وأعظم المؤمنين حبا له وأحرصهم على اتباعه وتوقيره، فلو كان الاحتفال بالمولد مشروعا لفعلوه، ولم يثبت ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عنهم فهو بدعة محدثة، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » رواه البخاري ومسلم، هذا وفعله في ضريح أحد الصالحين أو عنده يزيد ذلك ابتداعا في الدين وغلوا في الصالحين، وهذا هو الضلال المبين.
ثانيا: ختان الأطفال سنة من سنن الفطرة، والصدقة في نفسها تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار وكلا الأمرين حث عليه الشرع، ودعا إليه، لكن فعل ذلك في احتفال سنوي عند ضريح صالح من الصالحين وذبح الذبائح عنده بدعة شركية ووثنية جاهلية لما في ذلك من اتخاذ الضريح عيدا وتقريب القرابين إليه استمدادا للبركة منه كما هو ظاهر الحال من القصد إليه سنويا
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(37/151)
للختان عنده، والتصدق عنده بالأموال نقودا أو غيرها والذبح عنده.
وعن ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - قال: «نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ "، قالوا: لا، قال: " فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا: لا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم (1) » رواه أبو داود.
ثالثا: بقاء الطلبة عند الضريح مدة أسبوع يقرءون القرآن، يختمونه عنده كل ليلة عدة ختمات بدعة أخرى، أو قراءة القرآن للأموات على القبر أو القبور من البدع المنكرة.
رابعا: صلاتهم داخل الضريح في الحجرة المبنية له داخل المقبرة ممنوعة شرعا وباطلة، لأن ذلك من اتخاذ القبور مساجد الذي لعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من فعله.
وقد تبين من هذا أن ما ذكرته من الأعمال في السؤال سلسلة من البدع الشركية والمنكرات فعلى من رأى ذلك أن ينكره ويغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وهو أضعف الإيمان، كما ثبت الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (2) » رواه أحمد ومسلم وأبو داود
__________
(1) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3313) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(37/152)
والنسائي والترمذي وابن ماجه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(37/153)
فتوى رقم 8760
س: إلى حضرة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -: 7
وإلى حضرة غوث هذا الزمان وأعوانه وسائر أولياء الله رضي الله تعالى عنهم الفاتحة × 7
اللهم يا واحد يا أحد يا واجد يا جواد. صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد في كل لمحة ونفس بعدد معلوماته وفيوضاته وأمداده % 100
اللهم كما أنت أهله. صل وسلم وبارك على سيدنا وشفيعنا وحبيبنا وقرة أعيننا محمد - صلى الله عليه وسلم - كما هو أهله، نسألك اللهم بحقه أن تغرقنا في لجة بحر الوحدة، حتى لا نرى ولا نسمع ولا نجد ولا نحيا ولا نتحرك ولا نسكن إلا بها، وترزقنا تمام مغفرتك يا الله وتمام نعمتك يا الله وتمام معرفتك يا الله وتمام محبتك يا الله وتمام رضوانك يا الله وصل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه عدد ما أحاط به علمك وأحصاه كتابك. برحمتك يا أرحم الراحمين(37/153)
والحمد لله رب العالمين.
اللهم بارك فيما خلقت وهذه البلدة يا الله وفي هذه المجاهدة يا الله × 7.
اللهم بحق اسمك الأعظم وبجاه سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وببركة غوث هذا الزمان وأعوانه وسائر أوليائك يا الله يا الله رضي الله تعالى عنهم × 3.
بلغ جميع العالمين نداءنا هذا واجعل فيه تأثيرا بليغا × 3.
فإنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير × 3.
ففروا إلى الله × 7.(37/154)
{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (1) × 3.
الفاتحة
هذه الصلوات الواحدية لتنوير القلوب وتزكيتها وللمعرفة بالله سبحانه وتعالما ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
الكيفيات في العمل بهذه الصلوات الواحدية
الأولى: النية الخالصة لوجه الله تعالى لا غير، وأن يكون المرء عند العمل بها على الاهتمام ببذل الوسع في الاستحضار كأنه في حضرة الله سبحانه وتعالى وحضرة رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الحقيقة مع الآداب الظاهرة والباطنة والإجلال والإكرام والتعظيم والمحبة الخالصة البالغة.
الثانية: على مبتدئ العمل بهذه الصلوات الواحدية العمل بها بالأعداد المذكورة هناك أو أكثر في مجلس كل يوم وليلة أي ساعتهما الفارغة عنده، صباحا أو مساء أو غيرهما إلى أربعين، وله اختصار الأربعين بسبعة أيام لكن مع تضعيف الأعداد المذكورة عشرة، فالسبعة سبعين والمائة بألف والثلاثة بثلاثين، وإذا فات قضى ما فاته ثم بعد إتمام الأربعين أو السبعة اتخذها وردا، أي يداوم على العمل بها كل يوم وليلة أي ساعتهما الفارغة عنده، والأحسن في الأعداد للورد بالزيادة من المذكورة لأنها على الأقل والإمداد غالبا بحسب الاستعداد، ولمن اتخذها وردا نقص الأعداد من الكل أو البعض أو نقص بعض وزيادة
__________
(1) سورة الإسراء الآية 81(37/155)
بعض وللمبتدئ وغيره العمل بها جماعة أفضل، والحائض والنفساء لا تقرأ عند العمل بها بالفاتحة، ولا بآيات القرآن بنيته.
الثالثة: من لم يحسن أو لم يمكن على قراءة هذه الصلوات جميعها فليقرأ قبل إمكانه بعضها مكررا قدر مدة قراءة الجميع بأعداد كل وهو ثلاثون دقيقة تقريبا أو إلى فراغ قراءة الجماعة. إن كل العمل بجماعة أو الاكتفاء بقراءة كلمة يا سيدي يا رسول الله مكررا بقدر المدة المذكورة ومن لم يحسن أو لم يمكن ولو على قراءة بعضها، فليمكث قدر تلك المدة مع الاهتمام ببذل الوسع والطاقة عند التكرار أو المكث في تلك المدة، كأنه على الحقيقة في حضرة الله سبحانه وتعالى وحضرة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مع الآداب الظاهرة والباطنة والإجلال والإكرام والتعظيم والمحبة الخالصة والبالغة.
(مهمة) مطلوب مطلبا أكيدا فضلا عمن عمل بهذه الصلوات الواحدية الاهتمام بجد واجتهاد على بذل الوسع والطاقة في تمرين اعتياد قلبه كل حال ووقت ومكان، بإدامة (قلبه بالله وللرسول بالرسول وللغوث بالغوث ويؤتي كل ذي حق حقه مع تقديم الأهم فالمهم ثم الأنفع فالأنفع يعني في عدم الغفلة منها دائما مستمرا، والمراد من (الله) أن ينوي المرء في كل من عمله الظاهري والباطني الموافق للشريعة، أي المرضي عند الله والرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبا كان أو غيره من السنة والمباح بنية العبادة لله تعالى، لا غير أي لا للنفس لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1)
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(37/156)
الذاريات، وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (1) البينة، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بالنيات (2) » ، ولأن الشريعة وجود الأعمال لله تعالى (وبالله) شهود الأعمال الظاهرية والباطنية أنها بحول الله وقوته أي لا حول ولا قوة إلا بالله، قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (3) الصافات 96، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (4) التكوير 29، والحقيقة شهود الأعمال بالله، فمن ادعى وأحس بأن له حولا أو قوة أو فعلا بنفسه فقد أشرك بنفسه الله القائم بنفسه (وللرسول) النية مع النية المذكورة في (لله باتباع) الرسول - صلى الله عليه وسلم - أي النية في عمله الموافق للشريعة أي غير المعاصي بنية العبادة لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (5) النساء 64 (وبالرسول) شهود العمل مما يرضى به الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى وما عنده من النعم الظاهرية والباطنية دينيا كان أو دنيويا أو أخرويا من شفاعته وتربيته - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} (6) آل عمران 103، ولأنه أصل كل موجود والواسطة بين العبد وربه وبعث رحمة للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (7) الأنبياء 107.
وما ذكر من الله بالله وللرسول بالرسول وهو من مقتضى معنى الشهادتين على التحقيق (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله) ويؤتي كل ذي حق حقه، أي إتيان الحقوق التي
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(3) سورة الصافات الآية 96
(4) سورة التكوير الآية 29
(5) سورة النساء الآية 64
(6) سورة آل عمران الآية 103
(7) سورة الأنبياء الآية 107(37/157)
بيننا وبين الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والناس والخلق أجمعين واجبا كانت الحقوق أو غيره من السنة والمباح (وتقديم الأهم فالأهم ثم الأنفع فالأنفع) علينا في إتيان الحقوق التي لا يمكن اقترانه تقديم الأهم فالأهم، فإن كان على حد سواء في الأهم فتقديم الأنفع ثم الأنفع أي الأكثر والأكبر نفعا عند الله سبحانه وتعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والناس والخلق أجمعين - نفعا دينيا ودنيويا وأخرويا.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: أولا: إن ما يسمى بالصلوات الواحدية وما مهد به لها فيه كذب وكثير من البدع والشرك بالله تعالى والغلو في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(1) فمن الكذب ما جاء في السطر الأخير من القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أصل كل موجود، فإنه - صلى الله عليه وسلم - وإن كان أشرف الخلق وأفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس أصل كل موجود ولا من أجله خلق الخلق، بل هو مولود من أبوين كغيره من بني آدم إلا عيسى ابن مريم فإنه لا أب له، وخلق الخلق لعبادة الله وحده كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) .
(2) ومن البدع في ذلك قراءة الفاتحة للنبي - صلى الله عليه وسلم - سبع
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(37/158)
مرات، وقراءتها لغوث الزمان وأولياء الله سبع مرات، فإن ذلك لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » رواه البخاري ومسلم مع ما في ذلك من الشرك في قراءتها لمن سموه غوث الزمان وأعوانه.
وكذا طلب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله في كل لمحة ونفس وبعدد معلوماته وفيوضاته وإمداده وتحديدها بمائة مرة بدعة.
ومن البدع الشنيعة ما جاء في ص 2 من قولهم (نسألك الله بحقه أن تغرقنا في لجة بحر الوحدة حتى لا نرى ولا نسمع ولا نجد ولا نحس ولا نتحرك ولا نسكن إلا بها) فإن ذلك القول بوحدة الوجود والتوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله أن يغرقهم في لجتها حتى يغيبوا عن الوجود فلا يكون لهم سمع ولا بصر ولا إحساس إلا بهذه الوحدة، وهذا هو الكفر الفاضح والضلال المبين.
ومن البدع الشركية أيضا نداؤهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يدركهم واستعانتهم به أن ينظر إليهم نظرة توصلهم إلى الله تعالى وأن يأخذ بأيديهم، يتقربون بهذه الشركيات ونحوها ليزول ما بهم من ضيق وفرقة، وتفرج ما بهم من شدة وبلاء ويرددون هذه الكلمات والأبيات الشركية مرات محدودة، وهيهات أن يجنى من الشوك العنب وأن يستخرج من الحنظل العسل، ومن البدع الشنيعة حث المبتدئ على العمل بالصلوات الواحدية بأعداد محددة إلى
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(37/159)
أربعين يوما ويرخص للمريد أن يختصرها إلى سبعة أيام على أن يضاعف عدد الذكر بها، ثم بعد الأربعين يوما أو الأيام السبعة يتخذها وردا يداوم على العمل بها كل يوم وليلة صباحا ومساء، وما فاته من أعداد العمل بها قضاه، إلى غير ذلك من شرع ما لم يأذن به الله مضاهاة لشرع الله، سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم.
فلينظر العاقل الرشيد كيف شبه عليهم الشيطان حتى وقعوا في الشرك، وكيف زين لهم سوء عملهم حتى اتخذوه عبادة تقربهم إلى الله ويكسبوا بها قوة بعد ضعف ووحدة بعد فرقة وعزة بعد ذل، وكيف استحوذ عليهم الشيطان حتى استفزهم إلى أن يدعوا غيرهم إلى العمل بما وقعوا فيه من الشرك والبهتان، رجاء أن يصلوا إلى الحق عن طريق الباطل وإلى الهدى عن طريق الضلال، وهيهات هيهات سبحانك هذا بهتان عظيم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(37/160)
من الفتوى رقم 1774
س: هل يجوز توزيع طعام على الناس من الأشياء المنذورة للأولياء والصالحين، وهل يجوز الاحتفال بذلك، وهل يجوز رفع العلم لذلك؟(37/160)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: أولا: النذر عبادة، لثناء الله على من وفى به، ووعده سبحانه بحسن جزائه قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (1) وقال: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (2) وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (3) » وإذا كان نذر الطاعة عبادة وجب صرفه إلى الله وحده والإخلاص له فيه وكان صرفه لغير الله من نبي أو ولي أو جني أو صنم أو غير ذلك من المخلوقات شركا، وعلى هذا تكون الذبائح المنذورة لغير الله ميتة يحرم الأكل منها وتوزيعها على الناس ولو ذكر ذابحها اسم الله عليها حين ذبحها، لأن تسميته عليها لا تؤثر في حل الذبيحة ويجب طرحها أو إطعامها للحيوانات.
وأما إن كان المنذور للأولياء والصالحين غير الذبائح من خبز وتمر وحمص وحلوى ونحو ذلك مما لا يتوقف حل أكله على الذبح أو النحر، فينبغي ترك توزيعه على الناس لما في ذلك من ترويج البدع والتعاون على انتشارها والمشاركة في مظاهر الشرك وإقرارها، لكنها في حكم الأموال التي أعرض عنها أهلها وتركوها لمن شاء أخذها فمن أخذ شيئا منها فلا حرج عليه.
__________
(1) سورة الإنسان الآية 7
(2) سورة البقرة الآية 270
(3) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، كتاب الأيمان والنذور (6700) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3806) ، الأيمان والنذور (3807) ، كتاب الأيمان والنذور (3808) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/224) ، باقي مسند الأنصار (6/36) ، كتاب باقي مسند الأنصار (6/41) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .(37/161)
ثانيا: لا يجوز الاحتفاظ بمن مات من الأنبياء والصالحين ولا إحياء ذكراهم بالموالد ورفع الأعلام ولا بوضع السرج والشموع على قبورهم ولا ببناء القباب والمساجد على أضرحتهم أو كسوتها أو نحو ذلك، لأن جميع ما ذكر من البدع المحدثة في الدين ومن وسائل الشرك، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك بمن سبقه من الأنبياء والصالحين ولا فعله الصحابة - رضي الله عنهم - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أئمة المسلمين في القرون الثلاثة التي شهد لها - صلى الله عليه وسلم - بأنها خير القرون من بعده بأحد من الأولياء والصالحين أو الملوك أو الحكام، وكل خير في اتباعه - صلى الله عليه وسلم - واتباع خلفائه الراشدين المهديين ومن اهتدى بهديهم وسلك طريقهم، وكل شر في اتباع المبتدعة والعمل بما أحدثوا من بدع في شؤون الدين، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (2) » متفق على صحته. وثبت عنه أيضا أنه قال - عليه الصلاة والسلام -: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (3) » وثبت عنه أيضا أنه نهى عن تجصيص القبور والقعود عليها والبناء
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(37/162)
عليها، وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (1) » رواه مسلم في صحيحه.
وعن العرباض بن سارية - رضي الله عنه - قال: «وعظنا رسول - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي وأنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة (2) » رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(37/163)
فتوى رقم 167
س: ما حكم الاحتفال بليلة سبع وعشرين ليلة القدر؟
جـ: خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، فهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في رمضان الإكثار من العبادات من صلاة وقراءة(37/163)
القرآن وصدقة وغير ذلك من وجوه البر، وكان في العشرين الأول ينام ويصلي فإذا دخل العشر الأخير أيقظ أهله وشد المئزر وأحيا ليله وحث على قيام رمضان وقيام ليلة القدر فقال - صلى الله عليه وسلم -: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » متفق عليه.
وبين - صلى الله عليه وسلم - أن ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان وأنها في أحد أوتاره فقال - صلى الله عليه وسلم -: «التمسوها في العشر الأواخر في الوتر منه (2) » رواه أحمد في المسند وأخرجه الترمذي وجاء فيه: «التمسوها في تسع يبقين أو سبع يبقين أو خمس يبقين أو ثلاث يبقين أو آخر ليلة (3) » قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن صحيح، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة - رضي الله عنها - الدعاء الذي تدعو به إن وافقت هذه الليلة، فقد روى أحمد في المسند عنها - رضي الله عنها - قالت: «" يا نبي الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟
" قال: تقولين " اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني (4) » وقد أخرجه أيضا النسائي وابن ماجه والترمذي، وقال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن صحيح، هذا هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - في رمضان وفي ليلة القدر، وأما الاحتفال بليلة سبع وعشرين على أنها ليلة القدر فهو مخالف لهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحتفل بليلة القدر فالاحتفال بها بدعة.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (37) ، سنن النسائي الصيام (2202) ، سنن أبو داود الصلاة (1371) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(2) سنن الترمذي الصوم (794) ، مسند أحمد بن حنبل (5/40) .
(3) سنن الترمذي الصوم (794) ، مسند أحمد بن حنبل (5/39) .
(4) سنن الترمذي الدعوات (3513) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3850) .(37/164)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(37/165)
من الفتوى رقم 9761
س: ما حكم الاحتفال بليلة السابع والعشرين من رمضان خاصة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: الاحتفال بليلة السابع والعشرين من شهر رمضان خاصة بدعة محدثة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » رواه البخاري ومسلم، وإنما المشروع إحياؤها بالعبادة والصدقة ونحوها كسائر ليالي العشر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(37/165)
من الفتوى رقم 4990
س: هل يجوز طبخ الطعام والاهتمام به في ليلة المعراج وليلة القدر وإرساله إلى المسجد حتى يدعو الإمام على الطعام(37/165)
لإيصال الثواب على حسب العادة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: لا يجوز تخصيص ما يسمى بليلة المعراج وليلة القدر بما ذكره من الاهتمام بطبخ الطعام ولا إرساله إلى المسجد ليدعو عليه الإمام رجاء وصول الثواب إلى الميت، بل هذا بدعة فينبغي تركه وعدم التزام حالة معينة أو وقت معين للذبح إلا في الأضحى والهدي، والخير كل الخير في اتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(37/166)
من فتاوى سماحة الشيخ \
عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله
س 1: ما حكم الصلاة خلف العاصي كحالق اللحية وشارب الدخان؟
الجواب: اختلف العلماء في هذه المسألة؛ فذهب بعضهم إلى عدم صحة الصلاة خلف العاصي لضعف إيمانه وأمانته، وذهب جمع كبير من أهل العلم إلى صحتها. ولكن لا ينبغي لولاة الأمر أن يجعلوا العصاة أئمة للناس مع وجود غيرهم، وهذا هو الصواب؛ لأنه مسلم، يعلم أن الصلاة واجبة عليه ويؤديها على هذا الأساس، فصحت صلاة من خلفه، والحجة في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الصلاة خلف الأمراء الفسقة: «يصلون لكم فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم (1) » ، وجاء عنه - عليه الصلاة والسلام - أحاديث أخرى ترشد إلى هذا المعنى، وصلى بعض الصحابة خلف الحجاج وهو من أفسق الناس، ولأن الجماعة مطلوبة في الصلاة، فينبغي للمؤمن أن يحرص عليها وأن يحافظ عليها ولو كان الإمام فاسقا، لكن إذا أمكنه أن يصلي خلف إمام عدل فهو أولى وأفضل وأحوط للدين.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (694) ، مسند أحمد بن حنبل (2/355) .(37/167)
س 2: ما حكم بيع ريالات الفضة بريالات الورق متفاضلا؟
الجواب: في هذه المسألة إشكال، وقد جزم بعض علماء العصر بجواز ذلك؛ لأن الورق غير الفضة، وقال آخرون بتحريم ذلك؛ لأن الورق عملة دارجة بين الناس، وقد أقيمت مقام الفضة، فألحقت بها في الحكم، أما أنا فإلى حين هذا التاريخ لم يطمئن قلبي إلى واحد من القولين، وأرى أن الأحوط ترك ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «دع ما يريبك إلى(37/167)
ما لا يريبك (1) » وقوله - عليه الصلاة والسلام -: «ومن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه (2) » وقال - عليه الصلاة والسلام -: «البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس (3) » وعليه: فالأحوط في مثل هذا أن يبيع الفضة بجنس آخر كالذهب أو غيره ثم يشتري بذلك الورق، وإن كان الذي بيده الورق يريد الفضة باع الورق بذهب أو غيره ثم اشترى بذلك الفضة المطلوبة.
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2553) ، سنن الترمذي الزهد (2389) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) ، سنن الدارمي الرقاق (2789) .(37/168)
س 3: إذا كان من حقوق الموظف عند تعيينه بدل ترحيل عائلته من بلدته إلى مقر عمله، ولم يرحل عائلته حقيقة بل زيف سندات واستلم المبلغ، فهل ذلك جائز أم لا؟
الجواب: هذا العمل لا يجوز في الشرع المطهر لأنه اكتساب للمال من طريق الكذب والتدليس، وما كان بهذه المثابة فهو محرم يجب إنكاره والتحذير منه. رزق الله الجميع العافية من ذلك.(37/168)
س 4: إذا كان إنسان له مورد من المال يحصل له شيئا بعد شيء كالموظف والتاجر ونحوهما، وينفق من ذلك ولا يعرف الذي حال عليه الحول، فكيف يصنع بالزكاة؟
الجواب: على مثل هذا أن يحفظ أوقات دخول المال، وأن يقيدها حتى يعرف حول الزكاة، ويجعل للنفقة مالا مخصوصا، كلما نفد جعل مكانه غيره حتى لا يشتبه عليه أمر الزكاة إلا أن تسمح نفسه بإخراج الزكاة عن المال المجتمع عنده كل سنة اعتبارا بأول المال الذي وصل إليه، فلا بأس عليه ولا حاجة إلى أن يحفظ أوقات الوارد لأنه إذا زكا الجميع برأت ذمته براءة كاملة، وما زاد على الزكاة فهو صدقة تطوع وأجر الصدقة معروف وعظيم جعلنا الله وإياكم من المتصدقين.(37/168)
س 5: إذا كان إنسان يرغب العمل بوظيفة وهو يستطيع القيام بعملها والنجاح في المسابقة، ولكن ليس لديه شهادة تخوله الدخول فيها(37/168)
فهل يجوز له تزييف شهادة الدخول في المسابقة وإذا نجح فهل يجوز له الراتب أم لا؟
الجواب: الذي يظهر لي من الشرع المطهر وأهدافه السامية عدم جواز مثل هذا العمل؛ لأنه توصل إلى الوظائف من طريق الكذب والتلبيس وذلك من المحرمات المنكرة ومما يفتح أبوابا من الشر وطرقا من التلبيس، ولا شك أن الواجب على من يسند إليهم أمر التوظيف أن يتحروا الأكفاء والأمناء حسب الإمكان.(37/169)
س 6: ما حكم من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو يستطيع ذلك؟
الجواب: حكمه أنه عاص لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ضعيف الإيمان، وعليه خطر عظيم من أمراض القلوب وعقوباتها العاجلة والآجلة؛ كما قال الله سبحانه: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (3) » وقال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه (4) » ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة نسأل الله أن يوفق المسلمين جميعا للقيام بهذا الواجب العظيم على الوجه الذي يرضيه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79
(3) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .
(4) رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -.(37/169)
س 7: إذا دخل مسابقة الوظائف صديقان قد توفرت فيهما شروط القبول واختير أحدهما عن الآخر، فهل يحل ذلك إذا كان يستطيع القيام بالعمل وهل يباح له الراتب؟(37/169)
الجواب: لا يجوز مثل هذا العمل؛ لما فيه من الكذب والتدليس وفتح أبواب تجرؤ غير الأكفاء على الأعمال بوسائل الكذب والاحتيال على ما لا يباح له.(37/170)
س 8: إذا كان الإنسان يجمع مالا يريد أن يتزوج به، فهل يعفى من الزكاة؟
الجواب: لا تسقط عنه الزكاة بنية الزواج، وهكذا من جمع المال ليوفي به دينا أو يشتري به عقارا ليوقفه أو عبدا ليعتقه بل على الجميع أداء الزكاة إذا حال الحول على المال المجموع؛ لأن الله سبحانه أوجب الزكاة ولم يجعل مثل هذه المقاصد مسقطا لها، والزكاة تزيد المال ولا تنقصه وتزكيه وتزكي صاحبه كما قال الله سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما نقص مال من صدقة (2) » وفق الله الجميع لما فيه رضاه وبراءة الذمة من حقه وحق عباده إنه سميع قريب.
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2588) ، سنن الترمذي البر والصلة (2029) ، مسند أحمد بن حنبل (2/386) ، موطأ مالك الجامع (1885) ، سنن الدارمي الزكاة (1676) .(37/170)
س 9: لعل سماحتكم يذكر المسلمين بما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة في شأن الكعبة؟
الجواب: ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعائشة - رضي الله عنها -: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم وجعلت لها بابين بابا للدخول وبابا للخروج (1) » فترك - صلى الله عليه وسلم - نقض الكعبة وإدخال حجر إسماعيل فيها خشية الفتنة، وهذا يدل على وجوب مراعاة المصالح العامة، وتقديم المصلحة العليا - وهي تأليف القلوب وتثبيتها على الإسلام - على المصلحة التي هي أدنى منها وهي إعادة الكعبة على قواعد إبراهيم. وثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال لعائشة - رضي الله عنها - لما طلبت دخول الكعبة: «صلي في الحجر فإنه من البيت (2) » ".
__________
(1) صحيح البخاري العلم (126) ، صحيح مسلم الحج (1333) ، سنن الترمذي كتاب الحج (876) ، سنن النسائي مناسك الحج (2903) ، سنن أبو داود المناسك (2028) ، سنن ابن ماجه المناسك (2955) ، مسند أحمد بن حنبل (6/102) ، موطأ مالك الحج (813) ، سنن الدارمي المناسك (1868) .
(2) سنن النسائي مناسك الحج (2911) .(37/170)
س 10: ما حكم إزالة الشعر الذي ينبت في وجه المرأة؟
الجواب: هذا فيه تفصيل: إن كان شعرا عاديا فلا يجوز أخذه(37/170)
لحديث: «لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النامصة والمتنمصة (1) » . . الحديث. والنمص: هو أخذ الشعر من الوجه والحاجبين. أما إن كان شيئا زائدا يعتبر مثله تشويها للخلقة كالشارب واللحية فلا بأس بأخذه ولا حرج لأنه يشوه خلقتها ويضرها.
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5205) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2123) ، سنن النسائي الزينة (5101) ، مسند أحمد بن حنبل (6/228) .(37/171)
س 11: ما حكم ضرب الطالبات لغرض التعليم والحث على أداء الواجبات المطلوبة منهن لتعويدهن على عدم التهاون فيها؟
الجواب: لا بأس في ذلك، فالمعلم والمعلمة والوالد كل منهم عليه أن يلاحظ الأولاد وأن يؤدب من يستحق التأديب إذا قصر في واجبه حتى يعتاد الأخلاق الفاضلة وحتى يستقيم على ما ينبغي من العمل الصالح، ولهذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع (1) » فالذكر يضرب والأنثى كذلك إذا بلغ كل منهم العشر وقصر في الصلاة ويؤدب حتى يستقيم على الصلاة، وهكذا الواجبات الأخرى في التعليم وشئون البيت وغير ذلك، فالواجب على أولياء الصغار من الذكور والإناث أن يعتنوا بتوجيههم وتأديبهم لكن يكون الضرب خفيفا لا خطر فيه ولكن يحصل به المقصود.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (495) ، مسند أحمد بن حنبل (2/187) .(37/171)
س 12: امرأة تسأل فتقول: إني أخاف من الرياء وأحذره لدرجة أنني لا أستطيع أن أنصح بعض الناس أو أنهاهم عن أمور معينة مثل الغيبة والنميمة ونحو ذلك، فأخشى أن يكون ذلك رياء مني وأخشى أن يظن الناس في ذلك ويعدوه رياء، فلا أنصحهم بشيء كما أني أقول في نفسي إنهم أناس متعلمون وليسوا في حاجة إلى نصح، فما هو توجيهكم؟
الجواب: هذا من مكائد الشيطان يخذل بها الناس عن الدعوة إلى الله وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك أن يوهمهم أن هذا من الرياء، أو أن هذا يخشى أن يعده الناس رياء، فلا ينبغي لك أيتها(37/171)
الأخت في الله أن تلتفتي إلى هذا، بل الواجب عليك أن تنصحي لأخواتك في الله وإخوانك إذا رأيت منهم التقصير في الواجب أو ارتكاب المحرم كالغيبة والنميمة وعدم التستر عند الرجال، ولا تخافي الرياء، ولكن أخلصي لله واصدقي معه وأبشري بالخير واتركي خداع الشيطان ووساوسه والله يعلم ما في قلبك من القصد والإخلاص لله تعالى والنصح لعباده، ولا شك أن الرياء شرك ولا يجوز فعله، لكن لا يجوز للمؤمن ولا للمؤمنة أن يدع ما أوجب الله عليه من الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفا من الرياء، فعليه الحذر من ذلك وعليه القيام بالواجب في أوساط الرجال والنساء، والرجل والمرأة في ذلك سواء، وقد بين الله ذلك في كتابه العزيز حيثما يقول سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(37/172)
س 13: أرجو أن تفيدونا عن مسألة الشلوخ؛ وهي علامة تعمل بالموس على الوجه، تمييزا لكل قبيلة عن الأخرى، فهل هذا حلال أم حرام؟
الجواب: هذا يسمى في لغة العرب (الوشم) ، وقد نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولعن من فعله، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - «أنه لعن آكل الربا وموكله ولعن الواشمة ولعن المستوشمة (1) » ، ولا فرق بين الوشم في الوجه أو في اليد أو في غيرهما، أما ما مضى عن جهل فالتوبة تكفي في ذلك والحمد لله، وإذا أمكن إزالته بدون مضرة وجب ذلك، أما المستقبل بعدما يعلم المسلم حكم الله فالواجب عليه الحذر مما حرم الله، وهذا يعم الرجال والنساء.
__________
(1) سنن النسائي الزينة (5103) .(37/172)
س 14: بعض المسلمين يشاركون النصارى في أعيادهم، فما توجيهكم؟
الجواب: لا يجوز للمسلم ولا للمسلمة مشاركة النصارى أو اليهود أو غيرهم من الكفرة في أعيادهم، بل يجب ترك ذلك؛ لأن من تشبه بقوم فهو منهم، والرسول - عليه الصلاة والسلام - حذرنا من مشابهتهم والتخلق بأخلاقهم، فعلى المؤمن وعلى المؤمنة الحذر من ذلك، ولا تجوز لهما المساعدة في ذلك بأي شيء؛ لأنها أعياد مخالفة للشرع، فلا يجوز الاشتراك فيها ولا التعاون مع أهلها ولا مساعدتهم بأي شيء، لا بالشاي ولا بالقهوة ولا بغير ذلك كالأواني وغيرها، ولأن الله سبحانه يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) . فالمشاركة مع الكفرة في أعيادهم نوع من التعاون على الإثم والعدوان.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(37/173)
س 15: هل التعاون بالجهر أفضل أم بالسر؟
الجواب: التعاون يكون بالسر ويكون بالجهر، والأصل أنه بالجهر حتى يعلم السامع ما يقال ويستفيد. فالتعاون والإرشاد نصيحة جهرية للمجتمع هذا هو الأصل، إلا إذا اقتضت المصلحة الشرعية عدم الجهر خوفا من الشر من بعض الناس؛ لأنه لو نصح أو وجه جهرا قد لا يقبل وقد يتكبر، فالنصيحة سرا مطلوبة حينئذ، والناصح والموجه والمرشد يتحرى ما هو الأصلح، فإذا كانت النصيحة والدعوة والإعانة على الخير جهرا تنفع الحاضرين وتعم بها المصلحة فعل ذلك، وإذا كانت المصلحة تقتضي أن يكون التناصح في حالة السر فعل ذلك؛ لأن المقصود حصول(37/173)
الخير والنفع للمنصوح وللمجتمع، فالوسيلة المؤدية إلى ذلك هي المطلوبة سواء كانت سرية أو جهرية، والناصح والداعي إلى الله كالطبيب يتحرى الوقت المناسب والكمية والكيفية المناسبة. فهكذا يكون الداعي إلى الله، الناصح لعباده يتحرى ما هو الأنسب وما هو الأصح وما هو الأقرب للنفع.(37/174)
س 16: كيف يكون التعاون على البر والتقوى في البيت إذا كان الأب والأخ الأكبر لا يصلون في المسجد؟
الجواب: هذا من أهم التناصح ومن أوجب التعاون، إذا كان الوالد أو الأخ أو غيرهما من أهل البيت يتعاطى شيئا من المنكر يجب التناصح والتعاون والتواصي بالحق على قدر المستطاع، بالأسلوب الحسن، وتحري الوقت المناسب، حتى يزول المنكر، كما قال تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم (2) » فالوالد له شأن، والوالدة لها شأن، والأخ سواء كان كبيرا أو صغيرا له شأن وكل يعامل بالأسلوب الحسن واللين والرفق بقدر المستطاع حتى يحصل المقصود ويزول المحذور، وعلى الناصح والداعي إلى الله أن يتحرى الأوقات المناسبة والأسلوب المناسب، لا سيما مع الوالدين؛ لأنهما ليسا مثل بقية الأقارب، فلهما شأن عظيم، وبرهما متعين حسب الطاقة، قال الله جل وعلا: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (3) {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (4) الآية، هذا وهما كافران فكيف بالوالدين المسلمين، فإذا كان الوالدان الكافران يصحبهما الولد بالمعروف ويحسن إليهما لعله
__________
(1) سورة التغابن الآية 16
(2) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) ، صحيح مسلم الحج (1337) ، سنن الترمذي العلم (2679) ، سنن النسائي مناسك الحج (2619) ، سنن ابن ماجه المقدمة (2) ، مسند أحمد بن حنبل (2/508) .
(3) سورة لقمان الآية 14
(4) سورة لقمان الآية 15(37/174)
يهديهما بأسبابه، فالمسلمان أولى وأحق بذلك. فإذا كان الوالد يتكاسل عن الصلاة في المسجد أو يتعاطى شيئا من المعاصي الأخرى كالتدخين أو حلق اللحية أو الإسبال أو غير ذلك من المعاصي التي يقع فيها - فإن الواجب على الولد أن ينصح بالحسنى، ويستعين على ذلك بمن يرى من خيار أهل البيت. وهكذا مع الوالدة والأخ الكبير وغيرهما من أهل البيت حتى يحصل المطلوب.(37/175)
س 17: ما العلاج لمن يعصي ويتوب ثم يرجع إلى المعصية؟
الجواب: لا بد من جهاد النفس في لزوم الحق والثبات على التوبة؛ لأن النفس تحتاج إلى جهاد، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} (1) ويقول عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (2) ومعنى قوله سبحانه وتعالى: {جَاهَدُوا فِينَا} (3) أي: جاهدوا أنفسهم، وجاهدوا الكفار، وجاهدوا المنافقين، وجاهدوا العصاة، وجاهدوا الشيطان، فالآية عامة تشمل أنواع الجهاد، ومن ذلك: جهاد النفس؛ لأنه سبحانه حذف المفعول، ولم ينص عليه في الآية، حتى تعم جميع أنواع الجهاد، فالنفس تحتاج إلى تربية وعناية وصبر وجهاد كما يقول الشاعر: -
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن أطمعت تاقت وإلا تسلت
ويقول الآخر: -
والنفس راغبة إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقال الآخر: -
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
هذه ثلاث أبيات جيدة مطابقة لأحوال النفس، فالمؤمن الحازم هو
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 6
(2) سورة العنكبوت الآية 69
(3) سورة العنكبوت الآية 69(37/175)
الذي يجاهد نفسه لله حتى تستقيم على الطريق وتقف عند الحدود وبذلك يهديه الله سبيله القويم وصراطه المستقيم، ويكون المؤمن بذلك من المحسنين الذين قال فيهم سبحانه {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) وقال فيهم عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (2) . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69
(2) سورة النحل الآية 128(37/176)
س 18: «إن الله خلق آدم على صورته (1) » ، هل معنى ذلك أن جميع ما لآدم من صفات تكون لله؟
الجواب: هذا ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، في الصحيحين أنه قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله خلق آدم على صورته (2) » وجاء في رواية أحمد وجماعة من أهل الحديث: «على صورة الرحمن» فالضمير في الحديث الأول يعود إلى الله، قال أهل العلم كأحمد - رحمه الله - وإسحاق بن راهويه وأئمة السلف: يجب أن نمره كما جاء على الوجه الذي يليق بالله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، ولا يلزم من ذلك أن تكون صورته سبحانه مثل صورة الآدمي، كما أنه لا يلزم من إثبات الوجه لله سبحانه واليد والأصابع والقدم والرضا والغضب وغير ذلك من صفاته - أن تكون مثل صفات بني آدم، فهو سبحانه موصوف بما أخبر به عن نفسه أو أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - على الوجه اللائق به، من دون أن يشابه خلقه في شيء من ذلك، كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (3) فعلينا أن نمره كما جاء على الوجه الذي أراده الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غير تكييف ولا تمثيل. والمعنى والله أعلم: أنه خلق آدم على صورته ذا وجه وسمع وبصر، يسمع ويتكلم ويبصر ويفعل ما يشاء، ولا يلزم أن يكون الوجه كالوجه والسمع كالسمع والبصر كالبصر. . . وهكذا لا يلزم أن تكون
__________
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6227) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) ، مسند أحمد بن حنبل (2/315) .
(2) صحيح البخاري الاستئذان (6227) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) ، مسند أحمد بن حنبل (2/315) .
(3) سورة الشورى الآية 11(37/176)
الصورة كالصورة. وهذه قاعدة كلية في هذا الباب عند أهل السنة والجماعة وهي إمرار آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها من غير تحريف ولا تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، بل يثبتون أسماءه وصفاته إثباتا بلا تمثيل وينزهونه سبحانه عن مشابهة خلقه تنزيها بلا تعطيل، خلافا لأهل البدع من المعطلة والمشبهة، فليس سمع المخلوق ولا بصر المخلوق ولا علم المخلوق مثل علم الله عز وجل، وإن اتفقا في جنس العلم، لكن ما يختص به الله لا يشابهه فيه أحد من خلقه، سبحانه وتعالى، ولا يماثله شيء؛ لأن صفاته صفات كاملة لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه، أما أوصاف المخلوقين فيعتريها النقص والزوال في العلم وفي السمع وفي البصر وفي كل شيء. والله ولي التوفيق.(37/177)
صفحة فارغة(37/178)
ذم الغلو والطعن في الولاية بغير حق
تأليف عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى 1265 - 1339 هـ
تحقيق الدكتور \
الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان
مقدمة:
الغلو هو: مجاوزة الحد في كل شيء، بأن يزاد في حمده، أو ذمه، أو حبه، أو بغضه، أو عيبه، أو مدحه، أو قبوله، أو رفضه، أو فعله، أو تركه بغير حق أو دليل مأثور.
وقد حذر الرب جل وعلا من ذلك في سياق إخباره عن أهل الكتاب، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (1) .
وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (2) .
وحذر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أمته من مغبة السقوط فيه، أو ملابسته، أو
__________
(1) سورة النساء الآية 171
(2) سورة المائدة الآية 77(37/179)
الاغترار بأهله ومن افتتن به، وتلون بأوضاره وتلطخ بقذره، فقال: «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو (1) » فهو مدرجة الهلاك وسابلة التمزق، ومطية ذلول لكل عدو حاقد موتور.
وهذا النهي عام في جميع أنواع الغلو: في الاعتقادات، والأعمال، والأقوال، والأمثال، والقليل والكثير، والدقيق والجليل (2) .
وانظر إلى آثاره المريرة الموجعة التي حصدت الأمة حصدا، وقوضت دولة الإسلام، وما سببه من آلام ومصائب، وجلبه من دمار في الماضي والحاضر.
وإنك لتعجب كل العجب من أمة حذرها نبيها - صلى الله عليه وسلم - وخوفها الصالحون من سلفها ونهوها عنه (3) . وهي ترى بعد ذلك نتائجه المؤلمة ونهاياته المروعة ثم تقع فيه وتتهافت عليه وتجري وراءه دون رادع أو زاجر.
اللهم لا تمكر بنا ولا تطمس بصائرنا فنضل الطريق ونشقى في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (4) وقال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (5) .
__________
(1) أخرجه النسائي في المجتبى 5 \ 268 وابن ماجه في السنن رقم 3064 وأحمد في المسند 9 \ 215، 247 بسند صحيح وانظر بقية التخريج في فتح المجيد يسر الله نشره.
(2) ينظر ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم 1 \ 289.
(3) ينظر الدارمي: السنن رقم 144، 145، 222.
(4) سورة الروم الآية 4
(5) سورة يوسف الآية 21(37/180)
المؤلف:
هو العلامة المجاهد الداعية الشيخ \ عبد الله بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب آل مشرف التميمي.
ولد في بلدة الهفوف بمنطقة الأحساء سنة 1265 هـ، وتربى في أحضان جده لأمه الشيخ عبد الوهاب بن أحمد الوهيبي، وحفظ القرآن في سن مبكرة، ولما بلغ الرابعة عشرة من عمره قدم به والده إلى الرياض، فواصل تعليمه في حلقات جده العلامة الكبير \ عبد الرحمن بن حسن، ووالده الشيخ عبد اللطيف، وغيرهما من علماء نجد.
أعماله:
عصفت الفتن والمشاحنات السياسية الهوجاء بنجد بعد وفاة والده الشيخ عبد اللطيف سنة 1293 هـ، فغادر الرياض إلى منطقة الأفلاج في أقصى الجنوب، وبعد ثلاث سنوات أمضاها بعيدا عن وطنه بصحبة الشيخ حمد بن عتيق المقيم هناك عاد إلى الرياض، وأخذ في التدريس والتعليم إلى أن فرض عليه السفر إلى حائل سنة 1308 هـ فاجتهد في بث دعوة التوحيد، ولقي من أهلها كل قبول وترحيب مما أضجر ابن رشيد وأفزعه، وبعد عام كامل قضاه في التعليم والدعوة رجع إلى وطنه، وواصل نشاطه العلمي إلى أن استولى الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل على الرياض، واستعاد السلطة فآزره وقام معه حتى استتب الأمن وعادت البلاد إلى ما كانت عليه، ثم تفرغ للتعليم والإصلاح والتوجيه، بالإضافة إلى كونه مستشارا خاصا للإمام، ومسؤولا عن الشئون القضائية والاحتساب وتوطين البادية.(37/181)
أخلاقه وسجاياه: -
كان - رحمه الله - على جانب عظيم من الورع والتقوى، مهيبا، وقورا، صادق اللهجة شديد الغيرة على حرمات الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، قائما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مصلحا، جوادا، كريما، سخيا، محبوبا.
تلاميذه: -
قرأ عليه الكثير من الطلاب في الرياض وحائل، ومنهم:
1 - الشيخ الجليل \ عبد الله بن حسن بن حسين بن علي آل الشيخ (ت 1378 هـ) .
2 - القاضي الورع الشيخ \ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن حسين (ت 1372 هـ) .
3 - الشيخ الفاضل \ صالح السالم.
4 - العلامة المصلح الكبير الشيخ \ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف (ت 1389 هـ) .
5 - الشيخ المعمر \ عبد العزيز بن صالح بن عبد العزيز المرشد حفظه الله.
وفاته: -
بعد حياة حافلة بالدعوة والجهاد والعمل الصالح توفي - رحمه الله تعالى - في أواخر شهر ربيع الأول سنة 1339 هـ، عن عمر يناهز الخامسة والسبعين وقد أصيب الناس بفقده، وفجعوا بموته، وبكاه القريب والبعيد، رحمه الله رحمة واسعة وجمعنا به في مستقر رحمته.(37/182)
النسخ المعتمدة: -
حصلت عند تحقيق هذه الرسالة على ثلاث نسخ وهي كما يلي.
الأولى: خطية تقع في نحو ورقتين ومصورتها محفوظة لدي برقم 78 \ 6 كتبت بقلم الشيخ محمد بن علي بن عيسى (1) سنة 1338 هـ وعلى الصفحة الأولى منها تملك له مؤرخ سنة 1339 هـ.
وهي نسخة جيدة مكتوبة في حياة المؤلف وبقلم أحد تلاميذه ولذلك جعلتها أصلا.
الثانية: مطبوعة ضمن كتاب الدرر السنية في الأجوبة النجدية جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم - رحمه الله تعالى - في الجزء الخامس الصفحات 274 - 277 من الطبعة الثانية سنة 1385 هـ الصادرة من دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية ورمزت لها بحرف (د) .
الثالثة: مطبوعة أيضا في صدر مجموعة رسائل لأئمة الدعوة صدرت سنة 1346 هـ في مطبعة المنار بإشراف الأستاذ رشيد رضا وعلى نفقة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل - رحمه الله -، وتقع في نحو عشر صفحات من القطع الصغير، وعنها طبعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية سنة 1404 هـ مطابع صقر الجزيرة للأوفست، ورمزت لها بحرف (ط) .
العنوان والتوثيق: -
لا يوجد في النسخة الخطية ونسخة (د) ما يشير إلى اسمها أما نسخة (ط) فسميت: رسالة في الاتباع وخطر الغلو في الدين، وقد اخترت عنوانا آخر أحسب أنه يتلاءم مع موضوعها.
__________
(1) ينظر ترجمة علماء نجد 3 \ 900.(37/183)
والرسالة صحيحة النسبة إلى المؤلف حيث صدرها باسمه وكتبت في حياته وعن طريق أحد تلاميذه فلا مجال للشك فيها.
منهج التحقيق: -
اعتمدت النسخة الخطية أصلا وقابلتها بنسخة (د) و (ط) وأثبت ما بينها من فروق، وما زاد على ما في الأصل جعلته بين حاصرتين وأشرت إليه في موضعه، وقمت بعزو الآيات، وتخريج الأحاديث والآثار، وترجمت للأعلام، وفسرت ما حسبته غامضا، وعلقت باقتضاب على ما رأيت أنه بحاجة إلى ذلك.
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن ينفع بها الجميع. وأن يشرح صدورنا للحق ويهدينا لاتباعه والعمل به، وأن يجنبنا وبلادنا الفتن ما ظهر منها وما بطن إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين.
كتبه
الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
كلية الشريعة بالرياض(37/184)
بسم الله الرحمن الرحيم
النص المحقق
من عبد الله بن عبد اللطيف إلى من يراه من الإخوان، سلك الله بي (1) وبهم صراطه المستقيم، وثبتنا على دينه القويم، وأعاذنا من الأهواء والطرق المفضية بسالكها إلى طريق الجحيم، آمين.
سلام عليكم (2) ورحمة الله وبركاته. أما بعد: -
فالباعث لهذه النصيحة إقامة الحجة على المعاند، والبيان للجاهل والذي نيته وقصده طلب الحق، ولكنه ابتلي بالوساوس والغرور.
تعلمون - وفقنا الله وإياكم - أن الله بعث نبيه (3) - صلى الله عليه وسلم - بالهدى ودين الحق (4) وهو: ما جاء به (5) من البرهان والنور، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (6) وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (7) وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (8) الفتنة: هي الشرك.
__________
(1) (ط) : بنا.
(2) (ط) : سلام الله عليكم.
(3) (ط) : محمدا.
(4) قال تعالى (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) التوبة 63.
(5) (د) : به صلى الله عليه وسلم.
(6) سورة النساء الآية 174
(7) سورة الحشر الآية 7
(8) سورة النور الآية 63(37/185)
وفرض الله علينا الإخلاص في عبادته، واتباع سنة نبيه (1) . ولا يقبل لأحد شيء من الأعمال إلا بالقيام بهذين الركنين: الإخلاص والمتابعة. فالإخلاص: أن يكون العمل (2) لله. والمتابعة: أن يكون متبعا لأمر رسوله، لأن كل عبادة حدها الشرعي (3) : ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي (4) .
ليست العبادة ما درج عليه عرف الناس، وما اقتضته مقاييسهم وعقولهم، لها حد يقف المؤمن والخائف من عقاب الله عنده، وهو ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - (5) ، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (6) » وقال: «من أحدث شيئا ليس عليه أمرنا فهو رد (7) » .
وما خرج أحد عن شريعته وطريقته (8) إلا سلك إحدى الطريقين (9) : -
__________
(1) (ط) : نبيه صلى الله عليه وسلم.
(2) (د) : العمل. ساقطة.
(3) (د) : الشرع. تحريف.
(4) ابن مفلح: الفروع 1 \ 138، وانظر: الانتصار للعلامة عبد الله أبا بطين 32.
(5) (ط) : الرسول صلى الله عليه وسلم.
(6) أخرجه مسلم في الصحيح رقم 1778 وأحمد في المسند 6 \ 146، 180، 256 من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
(7) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 2697 ومسلم في الصحيح رقم 1718 وأحمد في المسند 6 \ 240، 270 من حديث عائشة.
(8) (د) : عن طريقته.
(9) (د) : أحد طريقين. (ط) : إحدى الطريقتين.(37/186)
إما جفاء وإعراض، وإما غلو وإفراط.
وهذه مصائد الشيطان التي يصطاد بها بني آدم (1) ، ولهذا حذر سبحانه من الغلو قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (2) وفي الآية الأخرى: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} (3) .
فلما من الله سبحانه على المسلمين في آخر هذه الأزمان - التي اشتدت فيها غربة الدين - باجتماع المسلمين، ورد لهم الكرة، ولم شعثهم بإمام يدعوهم إلى دين الله وإلى طاعته [1 \ أ] بماله، ونفسه، ولسانه، وهدى الله بسب ذلك من هدى من البادية، وعرفهم الإسلام ورغبهم فيه، ودانو به - وهي من أعظم النعم عليهم وعلى المسلمين عموما أن هداهم لدينه وعرفهم به - وأخرجهم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإسلام وطاعة ربهم، وعرفهم دينهم الذي خلقوا له وتعبدهم الله سبحانه وبحمده به. وقد كانوا قبل ذلك في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، أشقى الناس في الدنيا. من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردي في النار.
فالواجب - علينا وعليكم - معرفة هذه النعمة، والقيام بحق الله تعالى
__________
(1) ينظر ابن القيم: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، مطبوع محقق في مجلدين.
(2) سورة النساء الآية 171
(3) سورة المائدة الآية 77(37/187)
في ذلك، وشكر نعمه عليكم، ولا تكونوا كالذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (1) .
وقال تعالى (2) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (3) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (4) إلى قوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (5) {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (6) {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (7) قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل الفرقة (8) والشناعة.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 100
(2) (د) : وقال. ساقطة.
(3) سورة آل عمران الآية 102
(4) سورة آل عمران الآية 103
(5) سورة آل عمران الآية 105
(6) سورة آل عمران الآية 106
(7) سورة آل عمران الآية 107
(8) (ط) : البدعة.(37/188)
وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (1) الآية (2) .
وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (3) . والآيات في النهي عن التفرق في الدين والاختلاف (4) كثيرة، لكن القصد التنبيه على ما يلقيه الشيطان ويزينه للناس من التفرق والاختلاف.
والذي قصده الله والدار الآخرة يرد ما صدر وما سمع إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (5) .
ولا هنا (6) عمل إلا بدليل وبرهان يطالب (7) به صاحب العمل.
وقد بلغني عن بعض من غره الغرور الطعن (8) في العلماء، ورميهم بالمداهنة وأشباه هذه الأقاويل التي صدت أكثر الخلق عن دين الله
__________
(1) سورة الشورى الآية 13
(2) الآية ليست موجودة في (د) و (ط) .
(3) سورة البينة الآية 4
(4) (د) : والاختلاف. ساقطة.
(5) سورة النساء الآية 59
(6) (د) : هنا. ساقطة.
(7) (د) : يطلب.
(8) (د) : من الطعن.(37/189)
[1 \ ب] وزين لهم الشيطان بسبب ذلك الطعن في الولاية بأمور حقيقتها البهتان، والطعن الباطل (1) .
وقد علمتم ما جاء به [رسول الله] (2) - صلى الله عليه وسلم -، وفرضه من السمع والطاعة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) ولم يستثن سبحانه برا من فاجر.
ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن إنكار المنكر إذا أفضى إلى الخروج عن طاعة ولي (4) الأمر، ونهى عن قتالهم، لما فيه من الفساد، عن عبادة بن الصامت قال: «دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبايعنا، وكان فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في مكرهنا، ومنشطنا، وعسرنا، ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: " إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان (5) » أخرجاه في الصحيحين.
وقوله: «وأن لا ننازع الأمر أهله (6) » دليل على المنع من قتال الأئمة إلا أن يروا كفرا بواحا وهو: الظاهر الذي قد باح به صاحبه (7) .
__________
(1) (د) بالباطل.
(2) إضافة من (د) .
(3) سورة النساء الآية 59
(4) (د) : أولي.
(5) البخاري في الصحيح رقم 7056، 7200 ومسلم في الصحيح رقم 1709 واللفظ له، وأخرجه أحمد في المسند 5 \ 314، 319، 321، ومالك في الموطأ كتاب الجهاد رقم 5، والحميدي في المسند رقم 389 وابن حبان في الصحيح 7 \ 40.
(6) صحيح البخاري الفتن (7056) ، سنن النسائي البيعة (4154) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2866) ، مسند أحمد بن حنبل (3/441) ، موطأ مالك الجهاد (977) .
(7) ينظر ابن حجر: فتح الباري 13 \ 8.(37/190)
فطاعة ولي الأمر وترك منازعته [طريقة أهل السنة والجماعة وهذا] (1) هو (2) فصل النزاع بين أهل السنة وبين الخوارج والرافضة.
وعن حذيفة: بن اليمان، قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «اسمع وأطع للأمير، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك (3) » .
__________
(1) إضافة من (د) .
(2) الأصل و (ط) : هي.
(3) قطعة من حديث أخرجه مسلم في الصحيح رقم 1847 وأحمد في المسند 5 \ 403 وأصله في البخاري، وذكره الدارقطني في كتاب التتبع رقم 53، قال ابن حزم - تعليقا عليه -: أما أمره عليه السلام بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بالحق، وأما إن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على ذلك، والواجب إن وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه. وانظر ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل 5 \ 24، 28.(37/191)
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات مات ميتة جاهلية (1) » .
وعن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية (2) » ، فذكر في هذا الحديث البيعة والطاعة. فالخروج عليهم نقض للعهد والبيعة، وترك طاعتهم ترك للطاعة.
وبهذه الأحاديث وأمثالها عمل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها، وعرفوا أنها من الأصول التي لا يقوم الإسلام إلا بها.
وشاهدوا من يزيد بن معاوية، والحجاج، ومن بعدهم - خلا
__________
(1) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 7053، 7054، 7143 ومسلم في الصحيح رقم 1849، وأحمد في المسند 1 \ 275، 297، 310، والدارمي في السنن رقم 2522.
(2) أخرجه مسلم في الصحيح رقم 1851، وأخرجه أحمد في المسند 3 \ 446 من حديث عامر بن ربيعة.(37/192)
الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - أمورا ظاهرة ليست خفية، ونهوا عن الخروج عليهم والطعن فيهم، ورأوا أن الخارج عليهم خارج عن دعوة المسلمين إلى طريقة الخوارج.
ولهذا لما حج ابن عمر - رضي الله عنهما - مع الحجاج، وطعن في رجله، قيل له: أنبايعك على الخروج على الحجاج، وعزله - وهو أمير من أمراء عبد الملك بن مروان - غلظ الإنكار عليهم، وقال: لا أنزع يدا من طاعة، واحتج عليهم بالحديث الذي تقدم ذكره (1) .
فإذا فهمتم ذلك، فاشكروا نعمة الله عليكم بما من به من إمامة إسلام (2) تدعوكم (3) إليه ظاهرا (4) وباطنا مما سمعتم، وصدقه الفعل من بذل المال والسلاح والقوة وإعانة المهاجرين لأجل دينه لا القصد (5) [2 \ أ] سوى ذلك، يعرف ذلك من عرفه، ولا يجحده إلا منافق مفارق (6) بقلبه ونيته ما اعتقده المسلمون وقاموا به.
وأما الطعن على العلماء، فالخطأ ما يعصم منه أحد، والحق ضالة
__________
(1) ينظر ابن سعد: الطبقات الكبرى 4 \ 185 وما بعدها، وكانت وفاته بمكة سنة 74 هـ رضي الله تعالى عنه.
(2) (د) إسلامية.
(3) (ط) : تدعوهم.
(4) الأصل و (ط) : أو. ولعل المثبت هو الصواب.
(5) (د) (ط) : لقصد.
(6) (د) : فارق.(37/193)
المؤمن، فمن كان عنده (1) علم يقتضي الطعن فليبين (2) جهارا (3) ولا يخف في الله لومة لائم، حتى يعرفوا حقيقة الطعن وموجبه.
واحذروا التمادي في الضلالة، والخروج عن الجماعة، فالحق عيوف (4) والباطل شنوف (5) والشيطان متكئ على شماله يدب (6) بين الأمة بالعداوة والشحناء.
عياذا بالله من فتنة جاهل مغرور، أو خديعة فاجر ذي دهاء وفجور، يميل به الهوى، ويزين له الشيطان طريق الغواية والردى.
والله أسأل أن يثبتنا وإياكم على دينه، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ
__________
(1) (د) : عند. تحريف.
(2) (ط) : فليبينه.
(3) (د) : لهم جهارا.
(4) من عفت الشيء أعافه إذا كرهته.
(5) جمع شنف وهو: النظر إلى الشيء كالكاره له، وشنف له: أبغضه وتنكره. القاموس 2 \ 764.
(6) (د) : يدأب.(37/194)
هدانا، وأن يهب لنا منه (1) رحمة إنه هو الوهاب. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
__________
(1) (ط) من لدنه.(37/195)
صفحة فارغة(37/196)
بعض أنواع الشرك الأصغر
د \ عواد بن عبد الله المعتق (1)
المقدمة:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
نظرا لخطورة الشرك على عقيدة المسلم، ولخفائه عموما والأصغر منه خصوصا، حيث قد يقع فيه البعض وهم لا يشعرون، وذلك مصداقا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل (2) » . . الحديث. نظرا لما ذكرت فقد أحببت أن أكتب لمحة موجزة عن الشرك الأصغر تتلخص فيما يلي:
تمهيد: في التعريف بالشرك وأقسامه.
أنواع الشرك الأصغر: وفيه فصلان:
الفصل الأول: الشرك في النيات والمقاصد:
المبحث الأول: الرياء.
المبحث الثاني: إرادة الإنسان بعمله الدنيا.
الفصل الثاني: الشرك في الألفاظ.
المبحث الأول: الحلف بغير الله.
__________
(1) وردت للباحث ترجمة في العدد '' 29 '' ص 314 من مجلة البحوث الإسلامية.
(2) رواه أحمد في مسنده جـ 4 ص 403 وهو حديث صحيح انظر صحيح الجامع الصغير للألباني حديث 3625.(37/197)
المبحث الثاني: قول ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت ونحوهما.
المبحث الثالث: إسناد بعض الحوادث إلى غير الله.
المبحث الرابع: قول البعض مطرنا بنوء كذا على طريق المجاز، ثم ختمت البحث بذكر بعض النتائج.
وأخيرا أسأله تعالى أن يتقبل صوابه، ويتجاوز عن خطئه، إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(37/198)
تمهيد: في تعريف الشرك وأقسامه:
أولا: تعريف الشرك:
الشرك لغة: تقول شاركته في الأمر وشركته فيه أشركه شركا وشركة بفتح الأول وكسر الثاني فيها، ويخففان بكسر الأول وسكون الثاني، وذلك: إذا صرت له شريكا.
وأشركته: أي جعلته شريكا، قال تعالى: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (1) . أي اجعله شريكي فيه.
والشرك بالتخفيف أغلب في الاستعمال، ويكون مصدرا واسما، جمعه أشراك بمعنى النصيب كما في الحديث: «من أعتق شركا له في عبد (2) » . أي حصة ونصيبا، والشراك: سير النعل على ظهر القدم، يقال: أشركت نعلي وشركتها تشريكا: إذا جعلت لها الشراك.
والشرك بفتحتين حبالة الصائد، الواحدة منها شركة، والشركة أيضا معظم الطريق ووسطه جمعها شرك.
وقال الراغب الأصفهاني في مفرادته:
" الشركة والمشاركة خلط الملكين، وقيل: هو أن يوجد شيء لاثنين فصاعدا، عينا كان ذلك الشيء، أو معنى: كمشاركة الإنسان والفرس
__________
(1) سورة طه الآية 32
(2) رواه البخاري في العتق باب 4 برقم 2268، جـ 4، ص 281، ومسلم كتاب العتق، والإيمان: 47، 48، 51.(37/199)
في الحيوانية. . . . . " (1) .
وعبارة الراغب الثانية في شرح الشركة أعم من الأولى، لأن كون الشيء لاثنين يشمل ما كان لهما ملكا كالمال، أو وصفا كالبياض، أو جزءا ذاتيا كالحيوانية.
ومرجع مادة الشرك: إلى الخلط والضم.
فإذا كان بمعنى الحصة من الشيء يكون لواحد وباقيه لآخر أو آخرين كما في قوله تعالى. . . {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} (2) الآية فالشريك مخالط لشريكه وحصته منضمة لنصيب الآخر.
وإذا كان بمعنى الحبالة فإن ما يقع فيها من الحيوان يختلط بها وينضم إلى ملك الصائد.
وإذا كان بمعنى معظم الطريق فإن أرجل السائرين تختلط آثارها هنالك وينضم بعضها إلى بعض.
وإذا كان بمعنى سير النعل فإن النعل تنضم به إلى الرجل فيخلط بينهما.
ثم إن اجتماع الشركاء في شيء لا يقتضي تساوي أنصبائهم منه، فموسى - عليه السلام - سأل ربه إشراك أخيه في الرسالة وقد أجيب سؤاله لقوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} (3) .
ومعلوم أن حظ هارون من الرسالة دون حظ موسى.
__________
(1) المفردات للراغب الأصفهاني حرف الشين مع الراء ص 380.
(2) سورة الأحقاف الآية 4
(3) سورة طه الآية 36(37/200)
ولهذا تقول: فلان شريك لفلان في دار أو بضاعة ولو لم يكن له إلا معشار العشر، هذا في الحسيات، ومثله في المعنويات تقول: الأبوان شريكان في طاعة ابنهما لهما وإن كان حق الأم في الطاعة أقوى، وتقول: أبنائي شركاء في محبتي، وأنت تحب بعضهم أشد من بعض، هذا تقرير معنى الشرك لغة (1) .
وأما في الشرع: فالشرك: هو كل ما ناقض التوحيد أو قدح فيه مما ورد في الكتاب أو السنة تسميته شركا (2) .
ثانيا: أقسام الشرك: الشرك قسمان:
(الأول) : الشرك الأكبر: وهو أن يجعل الإنسان لله ندا في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته (3) .
حكمه: الشرك الأكبر يخرج من الملة وصاحبه حلال الدم والمال، وفي الآخرة يخلد في النار.
قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (4) الآية.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (5) الآية.
وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (6)
__________
(1) انظر: رسالة في الشرك ومظاهره ص 61 - 62.
(2) انظر عقيدة المؤمن ص 105.
(3) انظر: معارج القبول جـ 2 ص 483 وفتاوى اللجنة جـ 1 ص 516 - 517.
(4) سورة التوبة الآية 5
(5) سورة النساء الآية 48
(6) سورة المائدة الآية 72(37/201)
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (1) .
ضرره: لهذا الشرك أضرار كثيرة منها:
1 - أنه يحبط العمل قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) وقال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) .
2 - أن صاحبه خالد مخلد في النار لا يغفر الله له إلا بالتوبة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) الآية، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار} (5) ، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (6) الآية.
3 - أن هذا المشرك حلال الدم والمال، لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (7)
__________
(1) سورة المائدة الآية 72
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة الزمر الآية 65
(4) سورة النساء الآية 48
(5) سورة المائدة الآية 72
(6) سورة الأنفال الآية 38
(7) سورة التوبة الآية 5(37/202)
الآية. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (1) » ، وتحرم مناكحته لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (2) الآية.
كما تحرم ذبيحته لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (3) الآية. ويستثنى أهل الكتاب، فحرائر نسائهم العفيفات (4) غير المحاربات، وذبائحهم حلال لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (5) الآية.
كما أن المشرك لا يرث ولا يورث بل ماله لبيت المال، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
__________
(1) رواه البخاري في الإيمان باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة جـ 1 ص 70 - 71. ومسلم في الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله برقم 22 إلا أن مسلما لم يذكر '' إلا بحق الإسلام '' وانظر: جامع الأصول حديث 35 جـ 1 ص 245.
(2) سورة البقرة الآية 221
(3) سورة الأنعام الآية 121
(4) انظر المغني لابن قدامة جـ 9 ص 545. وفتح القدير جـ 2 ص 15.
(5) سورة المائدة الآية 5(37/203)
4 - أن المشرك قد ارتكب أعظم جريمة وأفظع ظلم، يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (1) .
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2) .
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك (4) » . الثاني: الشرك الأصغر.
أ - تعريفه: هو كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة للوقوع فيه وجاء في النصوص تسميته شركا (5) .
ب - حكمه: محرم بل وأكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، لكنه لا يخرج من ارتكبه من ملة الإسلام (6) .
ولذا ورد التحذير منه في الكتاب والسنة.
فمن الكتاب قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (7)
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة لقمان الآية 13
(3) رواه البخاري في التوحيد 40، 46 - ومسلم في الإيمان 141، 142. وأبو داود في الطلاق 50 - والترمذي في تفسير سورة الفرقان - 1، 2 - والنسائي في الإيمان 6. وانظر: جامع الأصول حديث 738 جـ 2 ص 285 - ص 286.
(4) انظر: تفسير ابن كثير جـ 1 ص 508، العقيدة في الله ص 238، فتاوى اللجنة جـ 1 ص 517، ص 519 - 520 (3)
(5) فتاوى اللجنة جـ 1 ص 517 وانظر: الكواشف الجلية ص 186.
(6) العقيدة في صفحات ص 41، فتاوى اللجنة جـ 1 ص 518.
(7) سورة الكهف الآية 110(37/204)
وقوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) .
والآية في الأكبر إلا أن السلف كابن عباس كانوا يحتجون بها في الأصغر، لأن الكل شرك (2) .
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (3) .
قال مجاهد: هم أهل الرياء (4) . ومعلوم أن الرياء هو رأس الشرك الأصغر.
ومن السنة قوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (5) » . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر (6) » . . . الحديث.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قال: فقلنا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك الخفي. . . (7) » الحديث.
__________
(1) سورة البقرة الآية 22
(2) تيسير العزيز الحميد ص 522 - 523.
(3) سورة فاطر الآية 10
(4) انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر جـ 1 ص 31.
(5) رواه مسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2985، وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2 ص 426 برقم 4255 وانظر: جامع الأصول حديث 2651.
(6) رواه الإمام أحمد جـ 5، ص 428، 429.
(7) رواه أحمد في المسند جـ 3 ص 30، وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2 ص 427 برقم 4257 وإسناده حسن، انظر مشكاة المصابيح حديث 5333 جـ 2 ص 687 '' الحاشية ''.(37/205)
جـ - ضرره: من أضرار الشرك الأصغر أنه يبطل ثواب العمل، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا، فإنه ينزله منزلة من لم يعمله، فيعاقب على ترك الأمر، فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادة خالصة قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1) الآية. فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به بل الذي أتى به شيء غير المأمور به فلا يصح، ولا يقبل منه. يقول تعالى - في الحديث القدسي -: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري فهو للذي أشرك به وأنا منه بريء (3) » .
كذلك من أضراره أنه وسيلة قد تؤدي بصاحبها إلى الشرك الأكبر.
د - الفرق بينه وبين الشرك الأكبر.
هناك فروق بين الشرك الأكبر والأصغر، منها:
أولا: أن الأكبر لا يغفر الله لصاحبه، وأما الأصغر فتحت المشيئة. ثانيا: الأكبر محبط لجميع الأعمال، وأما الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي قارنه.
ثالثا: أن الأكبر مخرج عن الملة الإسلامية، وأما الأصغر فلا يخرج منها ولذا فمن أحكامه أن يعامل معاملة المسلمين. فيناكح، وتؤكل ذبيحته ويرث ويورث ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.
رابعا: أن الشرك الأكبر صاحبه خالد مخلد في النار، وأما الأصغر فلا
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سبق تخريجه.
(3) انظر الجواب الكافي ص 155. (2)(37/206)
يخلد في النار إن دخلها كسائر مرتكبي الكبائر (1) .
هـ: أنواع الشرك الأصغر. وفيه فصلان:
الفصل الأول: الشرك في النيات والمقاصد. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الرياء.
أولا: تعريفه.
الرياء: لغة: مصدر راءى يرائي، تقول: رائيت الرجل مراءاة ورياء: أي أريته أني على خلاف ما أنا عليه (2) .
وفي الشرع: عرف بتعاريف كثيرة (3) متقاربة في المعنى أولاها: تعريف ابن حجر حيث قال: " الرياء هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس فيحمدوا صاحبها " (4) .
الفرق بين الرياء والسمعة
السمعة: لغة: مشتقة من الإسماع والمراد بها: الذكر. يقال: فعله رياء وسمعة أي ليراه الناس ويسمعوه فيحصل على الصيت والذكر (5) .
وفي الشرع: يراد بها نحو ما يراد بالرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع والرياء بحاسة البصر (6) .
__________
(1) الكواشف الجلية عن معاني الواسطية ص 187، وفتاوى اللجنة جـ 1 ص 518.
(2) انظر: لسان العرب مادة رأي - جـ 1، ص 1094.
(3) انظر: تفسير القرطبي جـ 2، ص 212، قواعد الأحكام جـ 1، ص 147، وتيسير العزيز الحميد ص 464.
(4) فتح الباري جـ 11، ص 336.
(5) انظر: لسان العرب مادة سمع جـ 2 ص 203 - 204 والقاموس المحيط جـ 3 ص 40.
(6) فتح الباري جـ 11، ص 336.(37/207)
ثانيا: حكمه: الرياء إما أن يدخل في أساس العمل أو في تحسينه. فإن دخل في أساس العمل - بمعنى أنه لا يأتي بأصل العبادة كالصلاة والزكاة والصوم إلا رياء ولولا ذلك ما صلى ولا صام ولا ذكر الله - فهو مشرك شركا أكبر وهو من المنافقين الذين قال الله فيهم {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (2) إلى أن قال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (3) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (4) .
وإن دخل في تحسين العمل - بمعنى أن العامل إنما أراد بعمله وجه الله تعالى لكن حسنه رياء كأن يطيل في الصلاة ليراه الناس، أو يرفع صوته بالقراءة أو الذكر ليسمعه الناس فيحمدوه - فإن الرياء في هذه الحالة يعتبر شركا أصغر لا يخرج صاحبه من الملة إذ المراد بالرياء (الذي هو شرك أصغر) هو يسير الرياء الداخل في تحسين العمل المراد به وجه الله تعالى (5) .
لكن هذا الرياء - الذي هو شرك أصغر - هل يبطل العمل الذي قارنه أم لا؟ إن قارن العبادة من بدايتها واستمر فالنصوص الصحيحة تدل
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) سورة النساء الآية 143
(3) سورة النساء الآية 145
(4) سورة النساء الآية 146
(5) انظر: فتاوى اللجنة جـ 1 ص 517 - 518، فتح المجيد ص 369 - 370، 200 سؤال وجواب حافظ حكمي ص 16.(37/208)
على بطلانها كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (1) .
وقوله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (2) » .
وإن كان الدافع للعبادة وجه الله تعالى وحده لكن طرأ عليه نية الرياء، فإن كان خاطرا ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف وإن استرسل معه نقص العمل وحصل لصاحبه من ضعف الإخلاص بحسب ما قام في قلبه من الرياء، لكن لا يحبط العمل على القول الراجح من أقوال العلماء. والله أعلم.
ثالثا: بعض ما ورد من النصوص في ذم الرياء والتحذير منه:
أ - من الكتاب:
يقول عز وجل محذرا من الشرك - ومعلوم أن الرياء من الشرك - {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (3) .
__________
(1) سورة الكهف الآية 110
(2) رواه مسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله حديث 2985 وابن ماجه في الزهد باب 21جـ 2 ص 426 برقم 4255. وانظر: جامع الأصول حديث 2651.
(3) سورة الكهف الآية 110(37/209)
ويقول عز وجل محذرا عباده المؤمنين أن يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى كما يبطل المرائي عمله بالرياء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} (1) الآية.
ويقول عز من قائل مبينا أن الرياء من صفات المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (2) .
ويقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (3) .
قال مجاهد: هم أهل الرياء (4) .
والآية - كما نرى - وعيد لهم بالعذاب الشديد.
ويقول سبحانه متوعدا الساهين عن صلاتهم المرائين فيها بويل وهو واد في جهنم - أعاذنا الله منه -: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (5) {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (6) {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (7) .
ب - من السنة:
1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا - «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته
__________
(1) سورة البقرة الآية 264
(2) سورة النساء الآية 142
(3) سورة فاطر الآية 10
(4) انظر: الزواجر لابن حجر جـ 1 ص 31.
(5) سورة الماعون الآية 4
(6) سورة الماعون الآية 5
(7) سورة الماعون الآية 6(37/210)
وشركه (1) » .
2 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قال: فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل (2) » .
3 - وعن أسامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه (3) » .
4 - وعن شداد بن أوس مرفوعا «من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، وإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي فمن أشرك بي شيئا فإن حشده عمله
__________
(1) رواه مسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2985 وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2، ص 426 برقم 4255، وانظر جامع الأصول حديث 2651.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند جـ 3، ص 30 وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2، ص 427 برقم 4257. وإسناده حسن انظر: مشكاة المصابيح حديث 5333، جـ 2، ص 687 (الحاشية) .
(3) رواه البخاري في بدء الخلق 10، وفي الفتن 17، ومسلم في الزهد 51، وأحمد جـ 5 ص205، 207، 209.(37/211)
قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا عنه غني (1) » .
5 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت بها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء! فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار (2) » .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند جـ 4 ص 126، وأبو داود الطيالسي ص 153، وروى الطبراني في الكبير الحديث إلى قوله (فقد أشرك) برقم 7139 جـ 7، ص 337 - 338. والحاكم في المستدرك، والبيهقي في شعب الإيمان عن شداد بن أوس انظر: كنز العمال حديث 7528، ومشكاة المصابيح حديث 5331.
(2) رواه مسلم برقم 1905 في الإمارة باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، والترمذي برقم 2383 في الزهد باب ما جاء في الرياء والسمعة، والنسائي جـ 6 \ 23 - 24 في الجهاد باب من قاتل ليقال فلان جريء، وانظر جامع الأصول حديث 2645.(37/212)
6 - وعن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به (1) » . ومعناه: من أظهر للناس العمل الصالح ليعظم عندهم أظهر الله سريرته على رؤوس الخلائق (2) .
7 - وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله، أما إني لست أقول: يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا، ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية (3) » . هذه بعض النصوص من الكتاب والسنة، التي تحذر من الرياء، وتبين خطره على عقيدة المسلم.
رابعا: أمثلة لبيان بعض ما يرائي به المراءون:
مما يرائي به المراءون في الغالب ما يلي:
أ - الرياء من جهة البدن: كأن يرائي بإظهار النحول والصفار ليوهم الناس أنه جاد في العبادة كثير الخوف والحزن، أو يرائي بتشعيث الشعر ليظهر أنه مستغرق في هم الدين لا يتفرغ لتسريح شعره، أو يرائي بحلق الشارب واستئصال الشعر ليظهر بذلك تتبع زي العباد
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه جـ 11 ص 288 كتاب الرقاق باب الرياء والسمعة. ومسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2987. وابن ماجه برقم 4260.
(2) انظر: الكفر والمكفرات ص 24.
(3) رواه ابن ماجه في الزهد باب 21 برقم 4205 جـ 2 ص 427، والإمام أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك، وأبو نعيم في الحلية، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان (بنحوه) انظر كنز العمال حديث (7489، 7505) .(37/213)
والنساك، أو يرائي بخفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين ليدلك على أنه مواظب على الصوم.
ب - الرياء من جهة الزي: كإبقاء أثر السجود على جبهته، ولبس الغليظ من الثياب وخشنها مع تشميرها كثيرا ليقال عابد زاهد، أو ارتداء نوع معين من الزي ترتديه طائفة يعدهم الناس علماء ليقال عالم.
ج - الرياء من جهة القول: كالرياء بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار لأجل المحاورة وإظهار غزارة العلم، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، وإظهار الغضب للمنكرات بين الناس، وخفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن ليدل بذلك على الخوف والحزن ونحو ذلك.
د - الرياء بالعمل: كمراءاة المصلي بطول القيام وتطويل الركوع والسجود وإظهار الخشوع ونحو ذلك، وكذلك المراءاة بالصوم والغزو والحج والصدقة ونحو ذلك.
هـ - الرياء بالأصحاب والزائرين: كالذي يتكلف أن يستزير عالما أو عابدا ليقال، إن فلانا قد زار فلانا، ودعوة الناس لزيارته كي يقال: إن أهل الخير يترددون عليه، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ ليقال: لقي فلان شيوخا كثيرين واستفاد منهم فيباهي بذلك.(37/214)
هذه مجامع ما يرائي به المراءون - غالبا - يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد (1) .
خامسا: مضار الرياء:
للرياء مضار كثيرة منها ما يلي:
1 - الرياء إما أن يكون شركا أكبر كرياء المنافقين، أو يكون شركا أصغر، فإن كان شركا أكبر فإن أغلب مضار الشرك الأكبر تعتبر مضارا له.
كعدم المغفرة له إذا مات على هذه الحالة كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) . وكونه من أهل النار كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (3) .
وإن كان شركا أصغر فإنه يحبط العمل الذي يصاحبه لما روى أبو هريرة قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «قال تبارك وتعالى: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (4) » .
2 - كذلك من مضاره أنه وسيلة قد تفضي بصاحبها إلى الشرك الأكبر.
__________
(1) انظر: مختصر منهاج القاصدين ص 215 - 217. مقاصد المكلفين ص 442 - 443. فتح المجيد ص 369 - 370.
(2) سورة النساء الآية 48
(3) سورة النساء الآية 145
(4) رواه مسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2985 وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2، ص 426 برقم 4255، وانظر جامع الأصول حديث 2651.(37/215)
3 - كذلك من مضاره أنه قد يفضي بصاحبه إلى استهزاء الناس به، كما حكي أن طاهر بن الحسين قال لعبد الله بن المروزي: منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبد الله؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم فقال: يا أبا عبد الله: سألناك عن مسألة، فأجبتنا عن مسألتين. وحكى الأصمعي أن أعرابيا صلى فأطال، وإلى جانبه قوم، فقالوا ما أحسن صلاتك! فقال: وأنا مع ذلك صائم.
سادسا: علاجه:
عرفنا آنفا أن من أضرار الرياء إحباط العمل ووسيلة قد تفضي بصاحبها إلى الشرك الأكبر، وإذا كانت هذه حالته فجدير بالمسلم أن يجد في إزالته وأن يبحث عن علاج يقيه هذا المرض الخطير، ومن وسائل علاجه ما يلي:
1 - تعظيم الله سبحانه ومراقبته في كل عمل وتقديم ذلك على تعظيم الناس ومراقبتهم وعدم المبالاة بما يترتب على ذلك من فوت الحمد أو وجود الذم، وذلك أن من أسباب الرياء حب الحمد والخوف من الذم، فيعظم الناس ويراقبهم في عمله ليحصل على المدح والثناء، وإذا انتفى السبب انتفى المسبب.(37/216)
2 - الاستعانة بالله على الإخلاص ودعاؤه والتعوذ به من الرياء. قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (1) فإليه الملجأ والمفر من كل مرض يفسد إخلاصنا ويبطل أعمالنا وهو المستعان وحده في دفع كل مكروه وفي فعل كل مأمور يقول تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) .
كما أرشدنا - عليه الصلاة والسلام - إلى طريقة للتخلص من هذا المرض وذلك بأن نتعوذ به سبحانه وتعالى، ففي الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيها الناس اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ": قالوا: وكيف نتقيه يا رسول الله؟ قال: " قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه (3) » .
3 - معرفة الرياء وأسبابه (4) ، ثم التحرز منه دائما، وذلك أن الإنسان قد يؤتى من جهله، وقد يؤتى من قلة حذره.
4 - معرفة عاقبة الرياء في الدنيا.
فإن مما ينفي الرياء ويكرهه أن يعلم المرائي أن رياءه لن يجلب له نفع الناس، ولن يدفع عنه ضررهم، بل قد يجلب له سخطهم وكراهيتهم ومقتهم له، وذلك معاملة من الله له بنقيض قصده. يقول عمر - رضي
__________
(1) سورة الذاريات الآية 50
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) رواه أحمد في مسنده جـ 4 \ 403 والطبراني عن أبي موسى. كنز العمال حديث 7521، وهو حديث صحيح انظر: صحيح الجامع الصغير للألباني حديث 3625.
(4) أسباب الرياء أرجعها الحارث المحاسبي إلى حب المحمدة وخوف المذمة - انظر: الرعاية للمحاسبي ص 139.(37/217)
الله عنه -: " ومن تزين بما ليس فيه شانه الله ". كما يجلب له كراهية الله وسخطه ومقته وما يترتب على ذلك من التعاسة في الدنيا فيخسر الدنيا والآخرة، فإذا علم المرائي أن هذه هي عاقبة الرياء في الدنيا، وأن النفع والمنع بيد الله وحده فإنه جدير بالحذر من الرياء لانتفاء السبب الدافع إلى الرياء وهو جلب النفع أو دفع الضر، وكذلك الخوف من هذه العاقبة للمرائي.
5 - معرفة عاقبة الرياء في الآخرة.
كذلك مما يدفع الرياء معرفة عاقبته في الآخرة، والتي منها: رد عمله كما في حديث الثلاثة (1) الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة مع أنهم كانوا فعالين للخير إلا أنهم لم يريدوا به وجه الله وإنما أرادوا به العباد، وفضيحته، كما في الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به (2) » .
يقول ابن حجر: قال الخطابي: " معناه: من عمل عملا على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه ويظهر ما كان يبطنه " (3) . فإذا علم الإنسان أن هناك يوم حساب، وعلم شدة حاجته في ذلك اليوم إلى العمل الصالح، وعلم
__________
(1) سبق في النصوص التي تحذر من الرياء ص 16 - 17.
(2) رواه البخاري في صحيحه جـ 11 ص 288 كتاب الرقاق باب الرياء والسمعة. ومسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2987. وابن ماجه برقم 4260.
(3) فتح الباري جـ 11 ص 336.(37/218)
عاقبة الرياء غلب على نفسه الحذر من الرياء كي يقبل عمله وكيلا ينفضح في ذلك اليوم.
6 - كتمان العمل وإسراره.
كذلك ومن وسائل الوقاية من الرياء كتمان العمل وإسراره، حتى لا يخالطه رياء ولا يكون للشيطان مدخل يشوش على صاحبه في نيته.
وقد نص سبحانه وتعالى على أفضلية الصدقة المخفاة على صدقة العلانية في قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (1) «وعد - صلى الله عليه وسلم - المسر بالصدقة حتى لا تعلم شماله ما تنفق - يمينه أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (2) » .
ويروى إنه قيل لبعضهم: ما دواء الرياء؟
قال: كتمان العمل، قيل له: فكيف يكتم العمل؟ قال: ما كلفت إظهاره من العمل فلا تدخل فيه إلا بالإخلاص، وما لم تكلف إظهاره أحب أن لا يطلع عليه إلا الله (3) .
وقد خص العلماء أفضلية الإخفاء بالنوافل دون الفرائض (4) .
واستثنى بعض العلماء أولئك الذين يقتدى بهم، فهؤلاء يستحب في حقهم الإعلان دون الإسرار بشرط أن يأمنوا على أنفسهم الرياء، وقد فصل
__________
(1) سورة البقرة الآية 271
(2) صحيح البخاري الأذان (660) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، موطأ مالك الجامع (1777) .
(3) الكفر والمكفرات ص 38.
(4) تفسير القرطبي جـ 3 \ 332.(37/219)
القول في هذه المسألة العز ابن عبد السلام - رحمه الله - حيث قال: فإن قيل: هل الإخفاء أفضل من الإعلان لما فيه من اجتناب الرياء أم لا؟ فالجواب:
أن الطاعات ثلاثة أضرب: أحدها: ما شرع مجهورا كالأذان والإقامة. . . وإقامة الجمعة والجماعات والأعياد والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. . . فهذا لا يمكن إخفاؤه، فإن خاف فاعله الرياء جاهد نفسه في دفعه إلى أن تحضره نية الإخلاص فيأتي به مخلصا كما شرع.
الثاني: ما يكون إسراره خيرا من إعلانه كإسرار القراءة في الصلاة، أو إسرار أذكارها، فهذا إسراره خير من إعلانه.
الثالث: ما يخفى تارة ويظهر أخرى كالصدقات، فإن خاف على نفسه الرياء. . . كان الإخفاء أفضل من الإبداء لقوله تعالى {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (1) .
ومن أمن الرياء فله حالان:
إحداهما: ألا يكون ممن يقتدى به، فإخفاؤها أفضل إذ لا يأمن الرياء عند الإظهار.
__________
(1) سورة البقرة الآية 271(37/220)
والثاني: أن يكون ممن يقتدى به، فالإبداء أولى لما فيه من سد خلة الفقراء مع مصلحة الاقتداء، فيكون قد نفع الفقراء بصدقته وبتسببه إلى تصدق الأغنياء عليهم، وقد نفع الأغنياء بتسببه إلى اقتدائهم به في نفع الفقراء.
سابعا: في بيان بعض الأمور التي يظن أنها من الرياء وهي ليست منه.
اعلم - رحمك الله - أن هناك أمورا يعملها العبد قد يظنها البعض أنها من الرياء وهي ليست منه، أحببت التنبيه عليها رفعا للبس.
منها ما يلي:
1 - تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس إنما هو ليراه الناس، وكذلك كل تجمل لأجلهم، ولا يقال: إنه من الرياء أو منهي عنه، حيث إن كثيرا من الناس لا يحبون أن يراهم أحد بعين نقص في أي حال، ومن الناس من يؤثر إظهار نعمة الله عليه - كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك في الحديث الذي رواه ابن مسعود أنه قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله(37/221)
حسنا، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس (1) » .
2 - كذلك كتمان الذنوب وعدم إظهارها لا يعتبر من الرياء، بل هو واجب شرعي، لأن الله يكره ظهور المعاصي ويحب سترها فعن ابن عمر مرفوعا قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله (2) » .
3 - كذلك نشاط العبد بالعبادة عند رؤية العابدين، كأن يبيت الرجل مع المتهجدين فيصلون أكثر الليل وعادته قيام ساعة فيوافقهم، أو يصومون فيصوم، ولولا الله ثم هم ما انبعث هذا النشاط، هذا ليس رياء على الإطلاق بل فيه تفصيل، ولمعرفة العبد ذلك عليه في مثل هذه الحالة أن يمثل القوم في مكان يراهم ولا يرونه فإذا رأى نفسه تسخو بالتعبد فهو لله وليس رياء، وإن لم تسخ كان سخاؤها عندهم رياء، وعلى هذا فقس (3) .
__________
(1) رواه مسلم برقم 91 في الإيمان باب تحريم الكبر وبيانه، وأبو داود برقم 4091 في الأدب باب ما جاء في الكبر، والترمذي برقم 1999 في البر والصلة باب ما جاء في الكبر، وانظر: جامع الأصول حديث 8210.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك جـ 4 \ 383 من حديث ابن عمر. والموطأ جـ 2 \ 825 مرسلا في الحدود باب في من اعترف على نفسه بالزنى عن زيد بن أسلم (بنحوه) وانظر جامع الأصول حديث 1926.
(3) انظر: مختصر منهاج القاصدين ص 217 - 224، العقيدة في صفحات ص 44 - 45.(37/222)
4 - كذلك إذا عمل العبد العمل لله خالصا ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين ففرح بفضل الله ورحمته لم يضره ذلك ولم يعد ذلك من الرياء، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1) . وعن أبي ذر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير فيحمده الناس عليه، فقال: " تلك عاجل بشرى المؤمن (2) » .
المبحث الثاني: إرادة الإنسان بعمله الدنيا.
المراد به: هو أن يعمل الإنسان أعمالا صالحة يريد بها الدنيا، إما قصد المال أو الجاه، كالذي يجاهد أو يتعلم العلم ليأخذ مالا، أو ليحتل منصبا، أو يتعلم القرآن، أو يواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، أو نحو ذلك من الأعمال الصالحة لكن نيته الحصول على مصالح دنيوية لا لطلب مرضاة الله.
الفرق بينه وبين الرياء:
قد يظن البعض أن هذا المبحث داخل في الرياء وأن هذا مجرد تكرار وهو ظن خاطئ، وذلك أن المرائي إنما يعمل لأجل المدح والثناء، والمريد بعمله الدنيا يعمل لدنيا يصيبها كالمال أو المنصب (3) .
__________
(1) سورة يونس الآية 58
(2) رواه مسلم في البر 166، وأحمد في مسنده جـ 5 \ ص 156 - 157، ص 68 وابن ماجه في الزهد باب 25 جـ 2 \ 430 برقم 4225.
(3) تيسير العزيز الحميد ص 273 (بتصرف) .(37/223)
حكمه: العمل لأجل الدنيا لا يخلو من ثلاثة أمور:
الأول: أن تكون إرادة العبد من عمله كلها منحصرة في العمل لأجل الدنيا ولولا هذا المقصد لم يعمل، وهذا ليس له في الآخرة نصيب، وذلك أن العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن فإن المؤمن وإن كان ضعيف الإيمان فإنه لا بد أن يريد الله والدار الآخرة وإن كان يريد مع ذلك الدنيا.
الثاني: أن تكون إرادته من عمله وجه الله والدنيا، والقصدان متساويان أو متقاربان، وهذا شرك أصغر مناف لكمال التوحيد يحبط الأعمال التي قارنها، وذلك لأن إخلاص العمل لوجه الله شرط من شروط صحة العبادة، فإذا كان مراد العامل من عمله وجه الله والدنيا فقد اختل شرط الإخلاص ففسد العمل.
الثالث: أن تكون إرادة العبد من عمله وجه الله وحده وأخلص فيه إخلاصا تاما، لكنه يأخذ على عمله جعلا معلوما يستعين به على العمل كالجعالات التي تجعل على أعمال الخير كالمجاهد الذي يترتب على جهاده غنيمة أو رزق، وكالأوقاف التي تجعل على المساجد والمدارس والوظائف الدينية والدنيوية النافعة لمن يقوم بها.
فهذا لا يضر أخذه في إيمان العبد وتوحيده لكونه لم يرد بعمله الدنيا وإنما أراد الدين، وقصده أن يكون ما حصل له معينا له على قيام الدين، ولهذا جعل الله تعالى في الأموال الشرعية كالزكاة وأموال الفيء وغيرها جزءا(37/224)
لمن يقوم بالوظائف الدينية والدنيوية النافعة. والله أعلم.
الأدلة على تحريمه
نظرا لأن العمل لأجل الدنيا مناف للإخلاص، لذا جاء التحذير منه في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، منها ما يلي:
من الكتاب: قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (1) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) .
يخبر سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين أن من قصد بعمله الحصول على مطامع الدنيا فقط فإن الله يوفر له ثواب عمله في الدنيا بالصحة والسرور في الأهل والمال والولد، وهذا مقيد بالمشيئة (3) كما في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} (4) الآية وهؤلاء ليس لهم في الآخرة إلا النار، لأنهم لم يعملوا ما يخلصهم أما أعمالهم التي عملوها فإنها باطلة لا ثواب لها؛ لأنهم لم يريدوا بها الآخرة.
قال قتادة: يقول تعالى: من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة (5) .
__________
(1) سورة هود الآية 15
(2) سورة هود الآية 16
(3) انظر مختصر شعب الإيمان ص 92 (الحاشية) .
(4) سورة الإسراء الآية 18
(5) انظر: تفسير ابن كثير جـ 2 ص 439.(37/225)
وقد سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن هذه الآية، فأجاب بما ملخصه: ذكر عن السلف في معنى هذه الآية أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه:
النوع الأول: من ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وإحسان إلى الناس وترك الظلم ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته أو حفظ أهله وعياله أو إدامة النعمة عليهم، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب، وهذا النوع ذكره ابن عباس.
النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أنها نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالا صالحة، ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة.
النوع الثالث: أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا، مثل أن يحج لمال يأخذه، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم فقد ذكر هذا النوع أيضا في تفسير هذه الآية، وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكتبهم أو رئاستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيرا.
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفره كفرا يخرج عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا(37/226)
عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك يخرجهم من الإسلام بالكلية إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم، وهذا النوع أيضا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره، وكان السلف يخافون منها. قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (1) (2) . والآيتان تتناولان هذه الأنواع الأربعة لأن لفظها عام، لذا يجب الحذر من أن نطلب بعمل الآخرة طمع الدنيا (3) .
ومن السنة:
1 - ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش (10) » . . . الحديث.
__________
(1) سورة المائدة الآية 27
(2) انظر: تيسير العزيز الحميد ص 475 - 476.
(3) انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد ص 102 - 103.
(4) رواه البخاري في الجهاد باب 70، والرقاق باب 10، برقم 2887 و 6435، وابن ماجه في الزهد باب 8 جـ 2 ص 414.
(5) تعس: أي سقط والمراد هنا هلك. (4)
(6) الخميصة: الكساء المربع. (5)
(7) الخميلة: هي القطيفة، وهي ثوب له خمل من أي شيء كان. انظر فتح الباري جـ 11 ص 254. (6)
(8) وانتكس: أي عاوده السقوط. (7)
(9) إذا شيك: أي دخلت فيه شوكة. (8)
(10) فلا انتقش: لم يجد من يخرجها بالمنقاش، فتح الباري جـ 11 ص 254 - 255. (9)(37/227)
والحديث كما نرى: دعاء على من جعل الدنيا قصده وهمه بالتعاسة والانتكاس، وإصابته بالعجز عن انتقاش الشوك من جسده، ولا بد أن يجد أثر هذه الدعوات كل من اتصف بهذه الصفة الذميمة فيقع فيما يضره في دنياه وآخرته كما أنها ذم له بتسميته عبد الدينار والدرهم. . . . وسماه - صلى الله عليه وسلم - عبدا لهذه الأشياء، لأنها استيسرت قلبه واستعبدته، فلا هم له إلا جمعها والحصول عليها ليرضي نفسه وهواه فصار فيه شعبة من العبادة لغير الله، ولم يبق معه حقيقة العبادة لله، ولا حقيقة التوكل عليه (1) .
2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة (2) » .
3 - ويقول - عليه الصلاة والسلام -: «من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله ولا يأتيه منها إلا ما قدر له (3) » والحديثان الأخيران - كما نرى - وعيد لمن أراد بعمله الدنيا: الأول: بأنه لا يجد عرف الجنة يوم القيامة. والثاني: وعيد بالفقر وتشتيت الأمر، أعاذنا الله من ذلك والله أعلم.
__________
(1) العبودية لابن تيمية ص 278 تيسير العزيز الحميد ص 478 الإرشاد ص 103.
(2) أخرجه أبو داود برقم 3664 في العلم باب في طلب العلم لغير الله، وابن ماجه برقم 252 في المقدمة باب الانتفاع في العلم والعمل، وأحمد جـ 2 ص 338 وانظر: جامع الأصول حديث 2648.
(3) رواه الترمذي برقم 2467 في صفة القيامة باب 31 عن أنس بن مالك بسند ضعيف انظر: جامع الأصول حديث 8472، وأحمد: انظر مشكاة المصابيح برقم 5320.(37/228)
الفصل الثاني: الشرك في الألفاظ.
ومنه ما يلي: المبحث الأول: الحلف بغير الله.
مثاله: كقول الرجل: وحياتي، وحياة النبي، والكعبة، والسيد فلان، ونحو ذلك.
حكمه: هو من الشرك الأصغر في الألفاظ، إذا كان الحالف بلسانه ولم يعتقد بقلبه تعظيم من حلف به، وكان عالما الحكم أما إذا كان جاهلا فإنه يعلم، فإن أصر فهو والعالم ابتداء، سواء كل منهما مشرك شركا أصغر.
ومن الشرك الأكبر: إن قام بقلبه تعظيم من حلف به من المخلوقات مثل تعظيم الله، وكان عالما الحكم، أما إذا كان جاهلا فإنه يعلم فإن أصر فهو والعالم ابتداء سواء كل منهما مشرك شركا أكبر (1) .
الأدلة على تحريمه: اتفق الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الحلف بغير الله.
فمن الكتاب: قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: " الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان. . . إلى أن قال: هذا كله
__________
(1) انظر الجواب الكافي ص 158. فتاوى اللجنة (العقيدة) جـ 1 ص 224.
(2) سورة البقرة الآية 22(37/229)
شرك ".
فإن قيل الآية نزلت في الأكبر، قيل: السلف يحتجون بما نزل في الأكبر على الأصغر، كما فسرها ابن عباس - رضي الله عنه - وغيره وذلك لأن الكل شرك (1) .
ومن السنة ما يلي:
1 - وفي الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعا «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب، وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2) » .
2 - وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها ذاكرا ولا آثرا (3) » .
3 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان
__________
(1) تيسير العزيز الحميد ص 522 - 523.
(2) رواه البخاري جـ 3 ص 162، جـ 7 ص 221، ومسلم شرح النووي جـ 11 ص 105 - 106. وأبو داود جـ 3 \ 569 النذور باب 5. برقم 3249، والترمذي ج 3 ص 45 برقم 1573 وقال حديث حسن صحيح.
(3) رواه البخاري جـ 7 ص 221. ومسلم (شرح النووي) كتاب الإيمان جـ 11 ص 104 - 105. وأبو داود جـ 3 \ 570 برقم 3250. والترمذي برقم 1572 جـ 3 \ 45 وقال: حديث حسن صحيح.(37/230)
حالفا فلا يحلف إلا بالله (1) » وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: «لا تحلفوا بآبائكم (2) » .
4 - وعن سعيد بن عبيدة قال: «كنت عند ابن عمر فقمت وتركت رجلا عنده من كندة، فأتيت سعيد بن المسيب فجاء الكندي فزعا فقال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن أعلي جناح أن أحلف بالكعبة؟ قال: ولم تحلف بالكعبة؟ إذا حلفت بالكعبة احلف برب الكعبة، فإن عمر كان إذا حلف قال: كلا وأبي، فحلف بها يوما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحلف بأبيك ولا بغير الله فإنه من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (3) » .
5 - وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم (4) » .
6 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد. . . . . (5) » الحديث.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/76) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(2) رواه البخاري جـ 7 ص 222، ومسلم (بشرح النووي) كتاب الإيمان جـ 11 ص 106.
(3) رواه الإمام أحمد في المسند جـ 2 ص 69، 86 - 87، 125، وأبو داود برقم 3251 جـ 3 ص 570، والترمذي جـ 3 ص 45 - 46 كتاب النذور باب 8 برقم 1574 وقال: حديث حسن.
(4) رواه مسلم (بشرح النووي) كتاب الإيمان باب النهي عن الحلف بغير الله جـ 11 ص 108، والنسائي جـ 7 ص 7 في الإيمان باب الحلف بالطواغيت.
(5) رواه أبو داود برقم 3248 كتاب النذور باب 5 جـ 3 ص 569، والنسائي جـ 7 ص 5 في الإيمان باب الحلف بالأمهات، وإسناده صحيح انظر: جامع الأصول حديث 9282.(37/231)
7 - وعن بريدة مرفوعا «من حلف بالأمانة فليس منا (1) » .
8 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف منكم فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله (2) » .
9 - وعن قتيلة «أن يهوديا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " إنكم تشركون. . . وتقولون: والكعبة " فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة. . . (3) » الحديث.
10 - وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: «حلفت مرة باللات والعزى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم انفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ ولا تعد (4) » .
وقال كعب (5) : " إنكم تشركون في قول الرجل: كلا وأبيك، كلا والكعبة، كلا وحياتك، وأشباه هذا، احلف بالله صادقا أو كاذبا ولا تحلف بغيره " رواه ابن أبي الدنيا في الصمت (6) .
__________
(1) رواه الإمام أحمد جـ 5 ص 352، وأبو داود برقم 3253 جـ 3 ص 571، وإسناده صحيح انظر: جامع الأصول حديث 9284.
(2) رواه البخاري في الأيمان باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت جـ 7 ص 97 - 98، 222، ومسلم كتاب الأيمان جـ 11 ص 106 - 107، والترمذي جـ 4، ص 109 - 110. وأبو داود برقم 3247 جـ 3 ص 568 كتاب الأيمان والنذور باب الحلف بالأنداد، وابن أبي الدنيا في الصمت ص 423 برقم 360 بإسناد صحيح.
(3) أخرجه النسائي جـ 7 ص 6 في الأيمان والنذور باب الحلف بالكعبة، وإسناده صحيح انظر: جامع الأصول حديث 9277.
(4) أخرجه النسائي جـ 7 ص 7 - 8 في الأيمان باب الحلف باللات والعزى وهو حديث حسن. انظر: جامع الأصول حديث 9314.
(5) هو كعب الأحبار.
(6) كتاب الصمت لابن أبي الدنيا برقم 358 ص 422.(37/232)
الإجماع: لقد أجمع العلماء على أن اليمين الشرعية لا تكون إلا بالله أو اسم من أسمائه أو بصفة من صفاته، وأنه لا يجوز الحلف بغيره.
قال ابن عبد البر: (لا يجوز الحلف بغير الله إجماعا) (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشائخ والملوك وغيرهم فإنه منهي عنه غير منعقد باتفاق الأئمة) (2) .
وقال شيخ الإسلام - في موضع آخر: (. . . ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشيء من المخلوقات، وذكروا إجماع الصحابة على ذلك. . .) (3) .
ولا اعتبار بمن قال من المتأخرين: إن النهي على سبيل كراهة التنزيه فإنه قول باطل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (. . . والصحيح أنه نهي تحريم) (4) وكيف يقال ذلك لما أطلق عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كفر أو شرك.
ولهذا اختار ابن مسعود - رضي الله عنه - أن يحلف بالله كاذبا ولا يحلف بغيره صادقا مما يدل على أن الحلف بغير الله أكبر من الكذب مع أن الكذب من المحرمات في جميع الملل، فدل ذلك على أن الحلف بغير الله من أكبر المحرمات (5) .
__________
(1) تيسير العزيز الحميد ص 526.
(2) الفتاوى جـ 11 ص 506.
(3) الفتاوى جـ 1 ص 290.
(4) الفتاوى جـ 1 ص 536.
(5) انظر: تيسير العزيز الحميد ص 526.(37/233)
اعتراض وجوابه.
اعتراض: فإن قيل: إن الله تعالى أقسم بالمخلوقات في القرآن.
الجواب: قيل: ذلك يختص بالله سبحانه وتعالى، فإنه - سبحانه - يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته، فهي دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته، ومشيئته، وغير ذلك من صفات كماله، فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه وتنبيه على شرفه، وأما نحن المخلوقين فليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع كما سبق ذكره (1) آنفا، بل ذلك شرك منهي عنه، وإنا نقسم به سبحانه وتعالى وحده، فيجب علينا التسليم والإذعان لما جاء من عنده سبحانه وتعالى.
أضف إلى ذلك أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالى فلا يضاهى به غيره (2) .
اعتراض: وإن قيل: قد جاء في الحديث: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي الذي سأله عن أمور الإسلام، فأخبره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أفلح وأبيه إن صدق (3) » «وقال للذي سأله عن أحق الناس بحسن الصحبة؟ فقال:
__________
(1) في الأدلة الدالة على تحريم الحلف بغير الله.
(2) انظر: الفتاوى جـ 1 ص 290، وشرح صحيح مسلم للإمام النووي جـ 11 ص 105.
(3) رواه مسلم عن طلحة بن عبيد الله في كتاب الإيمان باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام جـ 1 ص 168، وأخرجه أبو داود عن طلحة بن عبيد الله برقم 392 في الصلاة، وبرقم 3252 في الأيمان والنذور باب في كراهية الحلف بالآباء، وهو حديث صحيح. انظر: جامع الأصول حديث 7، وحديث 9279.(37/234)
" نعم وأبيك لتنبأن. . . (1) » الحديث ". الجواب: قيل: إن العلماء أجابوا عنها بأجوبة منها:
الأول: أن هذه كلمة تجري على اللسان دعامة للكلام لا يقصد بها حقيقة اليمين، كاليمين المعفو عنها من قبل اللغو، قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (2) الآية (3) . والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته بالله سبحانه وتعالى.
الثاني: وقيل: إن هذا - أي الحلف بغير الله - كان في أول الأمر ثم نسخ، فما جاء من الأحاديث فيه ذكر شيء من الحلف بغير الله، فإنما هو قبل النسخ ثم نسخ ذلك ونهي عن الحلف بغير الله.
وهذا الجواب هو الأظهر، يؤيده أن ذلك كان مستعملا شائعا حتى ورد النهي عن ذلك كما في حديث ابن عمر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (4) » .
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: «حلفت مرة باللات والعزى فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثم انفث
__________
(1) رواه مسلم في البر باب بر الوالدين وأنهما أحق به برقم 2548، كما أخرجه ابن ماجه بسند صحيح في كتاب الوصايا باب 4 حديث 2738، انظر: صحيح سنن ابن ماجه للألباني جـ2 صـ110
(2) سورة البقرة الآية 225
(3) آية 225 سورة البقرة، وانظر شرح صحيح مسلم للنووي جـ 11 ص 105، جـ 16 ص 103.
(4) رواه البخاري جـ 3 ص 162، جـ 7 ص 221، ومسلم شرح النووي جـ 11 ص 105 - 106. وأبو داود جـ 3 \ 569 النذور باب 5. برقم 3249، والترمذي ج 3 ص 45 برقم 1573 وقال حديث حسن صحيح.(37/235)
عن يسارك ثلاثا وتعوذ ولا تعد (1) » وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، فما ورد فيه ذكر الحلف بغير الله فهو جار على العادة قبل النهي، لأن ذلك هو الأصل حتى ورد النهي عن ذلك.
هل تنعقد اليمين بغير الله؟ .
الجواب: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشائخ والملوك وغيرهم فإنه منهي عنه غير منعقد باتفاق الأئمة، ولم يتنازعوا إلا في الحلف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، والجمهور على أنه لا تنعقد اليمين لا به ولا بغيره، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2) » . . . . فمن حلف بشيخه أو بتربته أو بحياته أو بحقه على الله. . . أو بالكعبة أو بأبيه أو تربة أو نحو ذلك كان منهيا عن ذلك، ولم تنعقد يمينه باتفاق المسلمين (3) .
المبحث الثاني: قول ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت ونحوهما.
تمهيد: ومن الشرك في الألفاظ أيضا: قول ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وما لي إلا الله وأنت، ونحو ذلك مما فيه مساواة بين الخالق والمخلوق.
__________
(1) أخرجه النسائي جـ 7 ص 7 - 8 في الأيمان باب الحلف باللات والعزى وهو حديث حسن. انظر: جامع الأصول حديث 9314.
(2) رواه البخاري جـ 3 ص 162، جـ 7 ص 221، ومسلم شرح النووي جـ 11 ص 105 - 106. وأبو داود جـ 3 \ 569 النذور باب 5. برقم 3249، والترمذي ج 3 ص 45 برقم 1573 وقال حديث حسن صحيح.
(3) الفتاوى جـ 11 ص 506 وانظر: الفتاوى جـ 1 ص 140، 204، 335 - 336.(37/236)
حكمه: قائل ذلك: إما أن يقوم بقلبه تعظيم لذلك المسوى بينه وبين الله أو لا، فإن قام بقلبه تعظيم لذلك المسوى بينه وبين الله، وكان عالما فهو شرك أكبر، وإن كان جاهلا علم، فإن أصر فهو والعالم ابتداء سواء، كل منهما مشرك شركا أكبر.
وإن لم يقم بقلبه تعظيم لذلك المسوى بينه وبين الله فهو شرك أصغر، فإن كان جاهلا علم، فإن أصر فهو والعالم ابتداءا سواء كل منهما مشرك شركا أصغر (1) .
الأدلة على تحريمه.
الأدلة على تحريم قول ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، ونحوهما كثيرة منها ما يلي: من الكتاب قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) .
قال ابن عباس في هذه الآية: (الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك. . . وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. . . . هذا كله شرك) . رواه ابن أبي حاتم.
والآية نزلت في الشرك الأكبر إلا أنها حجة في الشرك الأصغر كما فسرها ابن عباس وغيره لأن الكل شرك (3) .
__________
(1) فتاوى اللجنة ج 1 ص 224.
(2) سورة البقرة الآية 22
(3) تيسير العزيز الحميد ص 522 - 523.(37/237)
ومن السنة:
ا - عن حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان (1) » .
2 - عن قتيلة بنت صيفي قالت: «إن يهوديا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون والكعبة، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت (2) » .
3 - وعن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: «رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود قلت: إنكم لأنتم القوم لولا إنكم تقولون عزير ابن الله قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، قال: هل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد: فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم 4980 في الأدب باب لا يقال خبثت نفسي وإسناده صحيح، انظر: جامع الأصول حديث 9435.
(2) أخرجه النسائي جـ 7 ص 6 في الأيمان والنذور باب الحلف بالكعبة وإسناده صحيح، انظر جامع الأصول حديث 9277.(37/238)
أنهاكم عنها، فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله وحده (1) مجلة البحوث الإسلامية body {font-family: verdana, arial, helvetica, sans-serif; font-size: 14px;} h1 {font-size:18px} a:link {color:#33c} a:visited {color:#339} /* This is where you can customize the appearance of the tooltip */ div#tipDiv {position:absolute; visibility:hidden; left:0; top:0; z-index:10000; background-color:AntiqueWhite; border:1px solid #336; padding:4px; color:#000; font-size:11px; line-height:1.2;} /* These are optional. They demonstrate how you can individually format tooltip content */ div.tp1 {font-size:12px; color:#336; font-style:italic} div.tp2 {font-weight:bolder; color:#337; padding-top:4px}
مجلة البحوث الإسلامية
تصفح برقم المجلد > العدد السابع والثلاثون - الإصدار: من رجب إلى شوال لسنة 1413هـ > البحوث > بعض أنواع الشرك الأصغر > تعريف الشرك وأقسامه
تمهيد: في تعريف الشرك وأقسامه:
أولا: تعريف الشرك:
الشرك لغة: تقول شاركته في الأمر وشركته فيه أشركه شركا وشركة بفتح الأول وكسر الثاني فيها، ويخففان بكسر الأول وسكون الثاني، وذلك: إذا صرت له شريكا.
وأشركته: أي جعلته شريكا، قال تعالى: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (2) . أي اجعله شريكي فيه.
والشرك بالتخفيف أغلب في الاستعمال، ويكون مصدرا واسما، جمعه أشراك بمعنى النصيب كما في الحديث: «من أعتق شركا له في عبد (3) » . أي حصة ونصيبا، والشراك: سير النعل على ظهر القدم، يقال: أشركت نعلي وشركتها تشريكا: إذا جعلت لها الشراك.
والشرك بفتحتين حبالة الصائد، الواحدة منها شركة، والشركة أيضا معظم الطريق ووسطه جمعها شرك.
وقال الراغب الأصفهاني في مفرادته:
" الشركة والمشاركة خلط الملكين، وقيل: هو أن يوجد شيء لاثنين فصاعدا، عينا كان ذلك الشيء، أو معنى: كمشاركة الإنسان والفرس
__________
(1) رواه الإمام أحمد والدارمي وأبو يعلى والطبراني في الكبير عن طفيل بن سخبره، انظر: كنز العمال حديث 8378.
(2) سورة طه الآية 32
(3) رواه البخاري في العتق باب 4 برقم 2268، جـ 4، ص 281، ومسلم كتاب العتق، والإيمان: 47، 48، 51.(37/239)
في الحيوانية. . . . . " (1) .
وعبارة الراغب الثانية في شرح الشركة أعم من الأولى، لأن كون الشيء لاثنين يشمل ما كان لهما ملكا كالمال، أو وصفا كالبياض، أو جزءا ذاتيا كالحيوانية.
ومرجع مادة الشرك: إلى الخلط والضم.
فإذا كان بمعنى الحصة من الشيء يكون لواحد وباقيه لآخر أو آخرين كما في قوله تعالى. . . {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} (2) الآية فالشريك مخالط لشريكه وحصته منضمة لنصيب الآخر.
وإذا كان بمعنى الحبالة فإن ما يقع فيها من الحيوان يختلط بها وينضم إلى ملك الصائد.
وإذا كان بمعنى معظم الطريق فإن أرجل السائرين تختلط آثارها هنالك وينضم بعضها إلى بعض.
وإذا كان بمعنى سير النعل فإن النعل تنضم به إلى الرجل فيخلط بينهما.
ثم إن اجتماع الشركاء في شيء لا يقتضي تساوي أنصبائهم منه، فموسى - عليه السلام - سأل ربه إشراك أخيه في الرسالة وقد أجيب سؤاله لقوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} (3) .
ومعلوم أن حظ هارون من الرسالة دون حظ موسى.
__________
(1) المفردات للراغب الأصفهاني حرف الشين مع الراء ص 380.
(2) سورة الأحقاف الآية 4
(3) سورة طه الآية 36(37/200)
ولهذا تقول: فلان شريك لفلان في دار أو بضاعة ولو لم يكن له إلا معشار العشر، هذا في الحسيات، ومثله في المعنويات تقول: الأبوان شريكان في طاعة ابنهما لهما وإن كان حق الأم في الطاعة أقوى، وتقول: أبنائي شركاء في محبتي، وأنت تحب بعضهم أشد من بعض، هذا تقرير معنى الشرك لغة (1) .
وأما في الشرع: فالشرك: هو كل ما ناقض التوحيد أو قدح فيه مما ورد في الكتاب أو السنة تسميته شركا (2) .
ثانيا: أقسام الشرك: الشرك قسمان:
(الأول) : الشرك الأكبر: وهو أن يجعل الإنسان لله ندا في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته (3) .
حكمه: الشرك الأكبر يخرج من الملة وصاحبه حلال الدم والمال، وفي الآخرة يخلد في النار.
قال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (4) الآية.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (5) الآية.
وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (6)
__________
(1) انظر: رسالة في الشرك ومظاهره ص 61 - 62.
(2) انظر عقيدة المؤمن ص 105.
(3) انظر: معارج القبول جـ 2 ص 483 وفتاوى اللجنة جـ 1 ص 516 - 517.
(4) سورة التوبة الآية 5
(5) سورة النساء الآية 48
(6) سورة المائدة الآية 72(37/201)
{وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (1) .
ضرره: لهذا الشرك أضرار كثيرة منها:
1 - أنه يحبط العمل قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) وقال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) .
2 - أن صاحبه خالد مخلد في النار لا يغفر الله له إلا بالتوبة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (4) الآية، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار} (5) ، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (6) الآية.
3 - أن هذا المشرك حلال الدم والمال، لقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (7)
__________
(1) سورة المائدة الآية 72
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة الزمر الآية 65
(4) سورة النساء الآية 48
(5) سورة المائدة الآية 72
(6) سورة الأنفال الآية 38
(7) سورة التوبة الآية 5(37/202)
الآية. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله (1) » ، وتحرم مناكحته لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (2) الآية.
كما تحرم ذبيحته لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (3) الآية. ويستثنى أهل الكتاب، فحرائر نسائهم العفيفات (4) غير المحاربات، وذبائحهم حلال لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (5) الآية.
كما أن المشرك لا يرث ولا يورث بل ماله لبيت المال، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
__________
(1) رواه البخاري في الإيمان باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة جـ 1 ص 70 - 71. ومسلم في الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله برقم 22 إلا أن مسلما لم يذكر '' إلا بحق الإسلام '' وانظر: جامع الأصول حديث 35 جـ 1 ص 245.
(2) سورة البقرة الآية 221
(3) سورة الأنعام الآية 121
(4) انظر المغني لابن قدامة جـ 9 ص 545. وفتح القدير جـ 2 ص 15.
(5) سورة المائدة الآية 5(37/203)
4 - أن المشرك قد ارتكب أعظم جريمة وأفظع ظلم، يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (1) .
وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (2) .
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: «سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك (4) » . الثاني: الشرك الأصغر.
أ - تعريفه: هو كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة للوقوع فيه وجاء في النصوص تسميته شركا (5) .
ب - حكمه: محرم بل وأكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، لكنه لا يخرج من ارتكبه من ملة الإسلام (6) .
ولذا ورد التحذير منه في الكتاب والسنة.
فمن الكتاب قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (7)
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة لقمان الآية 13
(3) رواه البخاري في التوحيد 40، 46 - ومسلم في الإيمان 141، 142. وأبو داود في الطلاق 50 - والترمذي في تفسير سورة الفرقان - 1، 2 - والنسائي في الإيمان 6. وانظر: جامع الأصول حديث 738 جـ 2 ص 285 - ص 286.
(4) انظر: تفسير ابن كثير جـ 1 ص 508، العقيدة في الله ص 238، فتاوى اللجنة جـ 1 ص 517، ص 519 - 520 (3)
(5) فتاوى اللجنة جـ 1 ص 517 وانظر: الكواشف الجلية ص 186.
(6) العقيدة في صفحات ص 41، فتاوى اللجنة جـ 1 ص 518.
(7) سورة الكهف الآية 110(37/204)
وقوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1) .
والآية في الأكبر إلا أن السلف كابن عباس كانوا يحتجون بها في الأصغر، لأن الكل شرك (2) .
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (3) .
قال مجاهد: هم أهل الرياء (4) . ومعلوم أن الرياء هو رأس الشرك الأصغر.
ومن السنة قوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (5) » . وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر (6) » . . . الحديث.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قال: فقلنا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك الخفي. . . (7) » الحديث.
__________
(1) سورة البقرة الآية 22
(2) تيسير العزيز الحميد ص 522 - 523.
(3) سورة فاطر الآية 10
(4) انظر: الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر جـ 1 ص 31.
(5) رواه مسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2985، وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2 ص 426 برقم 4255 وانظر: جامع الأصول حديث 2651.
(6) رواه الإمام أحمد جـ 5، ص 428، 429.
(7) رواه أحمد في المسند جـ 3 ص 30، وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2 ص 427 برقم 4257 وإسناده حسن، انظر مشكاة المصابيح حديث 5333 جـ 2 ص 687 '' الحاشية ''.(37/205)
جـ - ضرره: من أضرار الشرك الأصغر أنه يبطل ثواب العمل، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا، فإنه ينزله منزلة من لم يعمله، فيعاقب على ترك الأمر، فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادة خالصة قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1) الآية. فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به بل الذي أتى به شيء غير المأمور به فلا يصح، ولا يقبل منه. يقول تعالى - في الحديث القدسي -: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري فهو للذي أشرك به وأنا منه بريء (3) » .
كذلك من أضراره أنه وسيلة قد تؤدي بصاحبها إلى الشرك الأكبر.
د - الفرق بينه وبين الشرك الأكبر.
هناك فروق بين الشرك الأكبر والأصغر، منها:
أولا: أن الأكبر لا يغفر الله لصاحبه، وأما الأصغر فتحت المشيئة. ثانيا: الأكبر محبط لجميع الأعمال، وأما الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي قارنه.
ثالثا: أن الأكبر مخرج عن الملة الإسلامية، وأما الأصغر فلا يخرج منها ولذا فمن أحكامه أن يعامل معاملة المسلمين. فيناكح، وتؤكل ذبيحته ويرث ويورث ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.
رابعا: أن الشرك الأكبر صاحبه خالد مخلد في النار، وأما الأصغر فلا
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سبق تخريجه.
(3) انظر الجواب الكافي ص 155. (2)(37/206)
يخلد في النار إن دخلها كسائر مرتكبي الكبائر (1) .
هـ: أنواع الشرك الأصغر. وفيه فصلان:
الفصل الأول: الشرك في النيات والمقاصد. وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الرياء.
أولا: تعريفه.
الرياء: لغة: مصدر راءى يرائي، تقول: رائيت الرجل مراءاة ورياء: أي أريته أني على خلاف ما أنا عليه (2) .
وفي الشرع: عرف بتعاريف كثيرة (3) متقاربة في المعنى أولاها: تعريف ابن حجر حيث قال: " الرياء هو إظهار العبادة لقصد رؤية الناس فيحمدوا صاحبها " (4) .
الفرق بين الرياء والسمعة
السمعة: لغة: مشتقة من الإسماع والمراد بها: الذكر. يقال: فعله رياء وسمعة أي ليراه الناس ويسمعوه فيحصل على الصيت والذكر (5) .
وفي الشرع: يراد بها نحو ما يراد بالرياء، لكنها تتعلق بحاسة السمع والرياء بحاسة البصر (6) .
__________
(1) الكواشف الجلية عن معاني الواسطية ص 187، وفتاوى اللجنة جـ 1 ص 518.
(2) انظر: لسان العرب مادة رأي - جـ 1، ص 1094.
(3) انظر: تفسير القرطبي جـ 2، ص 212، قواعد الأحكام جـ 1، ص 147، وتيسير العزيز الحميد ص 464.
(4) فتح الباري جـ 11، ص 336.
(5) انظر: لسان العرب مادة سمع جـ 2 ص 203 - 204 والقاموس المحيط جـ 3 ص 40.
(6) فتح الباري جـ 11، ص 336.(37/207)
ثانيا: حكمه: الرياء إما أن يدخل في أساس العمل أو في تحسينه. فإن دخل في أساس العمل - بمعنى أنه لا يأتي بأصل العبادة كالصلاة والزكاة والصوم إلا رياء ولولا ذلك ما صلى ولا صام ولا ذكر الله - فهو مشرك شركا أكبر وهو من المنافقين الذين قال الله فيهم {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (1) {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} (2) إلى أن قال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (3) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (4) .
وإن دخل في تحسين العمل - بمعنى أن العامل إنما أراد بعمله وجه الله تعالى لكن حسنه رياء كأن يطيل في الصلاة ليراه الناس، أو يرفع صوته بالقراءة أو الذكر ليسمعه الناس فيحمدوه - فإن الرياء في هذه الحالة يعتبر شركا أصغر لا يخرج صاحبه من الملة إذ المراد بالرياء (الذي هو شرك أصغر) هو يسير الرياء الداخل في تحسين العمل المراد به وجه الله تعالى (5) .
لكن هذا الرياء - الذي هو شرك أصغر - هل يبطل العمل الذي قارنه أم لا؟ إن قارن العبادة من بدايتها واستمر فالنصوص الصحيحة تدل
__________
(1) سورة النساء الآية 142
(2) سورة النساء الآية 143
(3) سورة النساء الآية 145
(4) سورة النساء الآية 146
(5) انظر: فتاوى اللجنة جـ 1 ص 517 - 518، فتح المجيد ص 369 - 370، 200 سؤال وجواب حافظ حكمي ص 16.(37/208)
على بطلانها كقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (1) .
وقوله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (2) » .
وإن كان الدافع للعبادة وجه الله تعالى وحده لكن طرأ عليه نية الرياء، فإن كان خاطرا ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف وإن استرسل معه نقص العمل وحصل لصاحبه من ضعف الإخلاص بحسب ما قام في قلبه من الرياء، لكن لا يحبط العمل على القول الراجح من أقوال العلماء. والله أعلم.
ثالثا: بعض ما ورد من النصوص في ذم الرياء والتحذير منه:
أ - من الكتاب:
يقول عز وجل محذرا من الشرك - ومعلوم أن الرياء من الشرك - {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (3) .
__________
(1) سورة الكهف الآية 110
(2) رواه مسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله حديث 2985 وابن ماجه في الزهد باب 21جـ 2 ص 426 برقم 4255. وانظر: جامع الأصول حديث 2651.
(3) سورة الكهف الآية 110(37/209)
ويقول عز وجل محذرا عباده المؤمنين أن يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى كما يبطل المرائي عمله بالرياء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} (1) الآية.
ويقول عز من قائل مبينا أن الرياء من صفات المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (2) .
ويقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (3) .
قال مجاهد: هم أهل الرياء (4) .
والآية - كما نرى - وعيد لهم بالعذاب الشديد.
ويقول سبحانه متوعدا الساهين عن صلاتهم المرائين فيها بويل وهو واد في جهنم - أعاذنا الله منه -: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (5) {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (6) {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (7) .
ب - من السنة:
1 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا - «قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته
__________
(1) سورة البقرة الآية 264
(2) سورة النساء الآية 142
(3) سورة فاطر الآية 10
(4) انظر: الزواجر لابن حجر جـ 1 ص 31.
(5) سورة الماعون الآية 4
(6) سورة الماعون الآية 5
(7) سورة الماعون الآية 6(37/210)
وشركه (1) » .
2 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قال: فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل (2) » .
3 - وعن أسامة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار في الرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه (3) » .
4 - وعن شداد بن أوس مرفوعا «من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، وإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي فمن أشرك بي شيئا فإن حشده عمله
__________
(1) رواه مسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2985 وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2، ص 426 برقم 4255، وانظر جامع الأصول حديث 2651.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند جـ 3، ص 30 وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2، ص 427 برقم 4257. وإسناده حسن انظر: مشكاة المصابيح حديث 5333، جـ 2، ص 687 (الحاشية) .
(3) رواه البخاري في بدء الخلق 10، وفي الفتن 17، ومسلم في الزهد 51، وأحمد جـ 5 ص205، 207، 209.(37/211)
قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا عنه غني (1) » .
5 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمته فعرفها، قال: فما عملت بها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جريء! فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار (2) » .
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند جـ 4 ص 126، وأبو داود الطيالسي ص 153، وروى الطبراني في الكبير الحديث إلى قوله (فقد أشرك) برقم 7139 جـ 7، ص 337 - 338. والحاكم في المستدرك، والبيهقي في شعب الإيمان عن شداد بن أوس انظر: كنز العمال حديث 7528، ومشكاة المصابيح حديث 5331.
(2) رواه مسلم برقم 1905 في الإمارة باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، والترمذي برقم 2383 في الزهد باب ما جاء في الرياء والسمعة، والنسائي جـ 6 \ 23 - 24 في الجهاد باب من قاتل ليقال فلان جريء، وانظر جامع الأصول حديث 2645.(37/212)
6 - وعن جندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به (1) » . ومعناه: من أظهر للناس العمل الصالح ليعظم عندهم أظهر الله سريرته على رؤوس الخلائق (2) .
7 - وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله، أما إني لست أقول: يعبدون شمسا ولا قمرا ولا وثنا، ولكن أعمالا لغير الله وشهوة خفية (3) » . هذه بعض النصوص من الكتاب والسنة، التي تحذر من الرياء، وتبين خطره على عقيدة المسلم.
رابعا: أمثلة لبيان بعض ما يرائي به المراءون:
مما يرائي به المراءون في الغالب ما يلي:
أ - الرياء من جهة البدن: كأن يرائي بإظهار النحول والصفار ليوهم الناس أنه جاد في العبادة كثير الخوف والحزن، أو يرائي بتشعيث الشعر ليظهر أنه مستغرق في هم الدين لا يتفرغ لتسريح شعره، أو يرائي بحلق الشارب واستئصال الشعر ليظهر بذلك تتبع زي العباد
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه جـ 11 ص 288 كتاب الرقاق باب الرياء والسمعة. ومسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2987. وابن ماجه برقم 4260.
(2) انظر: الكفر والمكفرات ص 24.
(3) رواه ابن ماجه في الزهد باب 21 برقم 4205 جـ 2 ص 427، والإمام أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك، وأبو نعيم في الحلية، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان (بنحوه) انظر كنز العمال حديث (7489، 7505) .(37/213)
والنساك، أو يرائي بخفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين ليدلك على أنه مواظب على الصوم.
ب - الرياء من جهة الزي: كإبقاء أثر السجود على جبهته، ولبس الغليظ من الثياب وخشنها مع تشميرها كثيرا ليقال عابد زاهد، أو ارتداء نوع معين من الزي ترتديه طائفة يعدهم الناس علماء ليقال عالم.
ج - الرياء من جهة القول: كالرياء بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار لأجل المحاورة وإظهار غزارة العلم، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، وإظهار الغضب للمنكرات بين الناس، وخفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن ليدل بذلك على الخوف والحزن ونحو ذلك.
د - الرياء بالعمل: كمراءاة المصلي بطول القيام وتطويل الركوع والسجود وإظهار الخشوع ونحو ذلك، وكذلك المراءاة بالصوم والغزو والحج والصدقة ونحو ذلك.
هـ - الرياء بالأصحاب والزائرين: كالذي يتكلف أن يستزير عالما أو عابدا ليقال، إن فلانا قد زار فلانا، ودعوة الناس لزيارته كي يقال: إن أهل الخير يترددون عليه، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ ليقال: لقي فلان شيوخا كثيرين واستفاد منهم فيباهي بذلك.(37/214)
هذه مجامع ما يرائي به المراءون - غالبا - يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد (1) .
خامسا: مضار الرياء:
للرياء مضار كثيرة منها ما يلي:
1 - الرياء إما أن يكون شركا أكبر كرياء المنافقين، أو يكون شركا أصغر، فإن كان شركا أكبر فإن أغلب مضار الشرك الأكبر تعتبر مضارا له.
كعدم المغفرة له إذا مات على هذه الحالة كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) . وكونه من أهل النار كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (3) .
وإن كان شركا أصغر فإنه يحبط العمل الذي يصاحبه لما روى أبو هريرة قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: «قال تبارك وتعالى: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (4) » .
2 - كذلك من مضاره أنه وسيلة قد تفضي بصاحبها إلى الشرك الأكبر.
__________
(1) انظر: مختصر منهاج القاصدين ص 215 - 217. مقاصد المكلفين ص 442 - 443. فتح المجيد ص 369 - 370.
(2) سورة النساء الآية 48
(3) سورة النساء الآية 145
(4) رواه مسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2985 وابن ماجه في الزهد باب 21 جـ 2، ص 426 برقم 4255، وانظر جامع الأصول حديث 2651.(37/215)
3 - كذلك من مضاره أنه قد يفضي بصاحبه إلى استهزاء الناس به، كما حكي أن طاهر بن الحسين قال لعبد الله بن المروزي: منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبد الله؟ قال: دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم فقال: يا أبا عبد الله: سألناك عن مسألة، فأجبتنا عن مسألتين. وحكى الأصمعي أن أعرابيا صلى فأطال، وإلى جانبه قوم، فقالوا ما أحسن صلاتك! فقال: وأنا مع ذلك صائم.
سادسا: علاجه:
عرفنا آنفا أن من أضرار الرياء إحباط العمل ووسيلة قد تفضي بصاحبها إلى الشرك الأكبر، وإذا كانت هذه حالته فجدير بالمسلم أن يجد في إزالته وأن يبحث عن علاج يقيه هذا المرض الخطير، ومن وسائل علاجه ما يلي:
1 - تعظيم الله سبحانه ومراقبته في كل عمل وتقديم ذلك على تعظيم الناس ومراقبتهم وعدم المبالاة بما يترتب على ذلك من فوت الحمد أو وجود الذم، وذلك أن من أسباب الرياء حب الحمد والخوف من الذم، فيعظم الناس ويراقبهم في عمله ليحصل على المدح والثناء، وإذا انتفى السبب انتفى المسبب.(37/216)
2 - الاستعانة بالله على الإخلاص ودعاؤه والتعوذ به من الرياء. قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} (1) فإليه الملجأ والمفر من كل مرض يفسد إخلاصنا ويبطل أعمالنا وهو المستعان وحده في دفع كل مكروه وفي فعل كل مأمور يقول تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) .
كما أرشدنا - عليه الصلاة والسلام - إلى طريقة للتخلص من هذا المرض وذلك بأن نتعوذ به سبحانه وتعالى، ففي الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيها الناس اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل ": قالوا: وكيف نتقيه يا رسول الله؟ قال: " قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه (3) » .
3 - معرفة الرياء وأسبابه (4) ، ثم التحرز منه دائما، وذلك أن الإنسان قد يؤتى من جهله، وقد يؤتى من قلة حذره.
4 - معرفة عاقبة الرياء في الدنيا.
فإن مما ينفي الرياء ويكرهه أن يعلم المرائي أن رياءه لن يجلب له نفع الناس، ولن يدفع عنه ضررهم، بل قد يجلب له سخطهم وكراهيتهم ومقتهم له، وذلك معاملة من الله له بنقيض قصده. يقول عمر - رضي
__________
(1) سورة الذاريات الآية 50
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) رواه أحمد في مسنده جـ 4 \ 403 والطبراني عن أبي موسى. كنز العمال حديث 7521، وهو حديث صحيح انظر: صحيح الجامع الصغير للألباني حديث 3625.
(4) أسباب الرياء أرجعها الحارث المحاسبي إلى حب المحمدة وخوف المذمة - انظر: الرعاية للمحاسبي ص 139.(37/217)
الله عنه -: " ومن تزين بما ليس فيه شانه الله ". كما يجلب له كراهية الله وسخطه ومقته وما يترتب على ذلك من التعاسة في الدنيا فيخسر الدنيا والآخرة، فإذا علم المرائي أن هذه هي عاقبة الرياء في الدنيا، وأن النفع والمنع بيد الله وحده فإنه جدير بالحذر من الرياء لانتفاء السبب الدافع إلى الرياء وهو جلب النفع أو دفع الضر، وكذلك الخوف من هذه العاقبة للمرائي.
5 - معرفة عاقبة الرياء في الآخرة.
كذلك مما يدفع الرياء معرفة عاقبته في الآخرة، والتي منها: رد عمله كما في حديث الثلاثة (1) الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة مع أنهم كانوا فعالين للخير إلا أنهم لم يريدوا به وجه الله وإنما أرادوا به العباد، وفضيحته، كما في الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به (2) » .
يقول ابن حجر: قال الخطابي: " معناه: من عمل عملا على غير إخلاص وإنما يريد أن يراه الناس ويسمعوه جوزي على ذلك بأن يشهره الله ويفضحه ويظهر ما كان يبطنه " (3) . فإذا علم الإنسان أن هناك يوم حساب، وعلم شدة حاجته في ذلك اليوم إلى العمل الصالح، وعلم
__________
(1) سبق في النصوص التي تحذر من الرياء ص 16 - 17.
(2) رواه البخاري في صحيحه جـ 11 ص 288 كتاب الرقاق باب الرياء والسمعة. ومسلم في الزهد باب من أشرك في عمله غير الله برقم 2987. وابن ماجه برقم 4260.
(3) فتح الباري جـ 11 ص 336.(37/218)
عاقبة الرياء غلب على نفسه الحذر من الرياء كي يقبل عمله وكيلا ينفضح في ذلك اليوم.
6 - كتمان العمل وإسراره.
كذلك ومن وسائل الوقاية من الرياء كتمان العمل وإسراره، حتى لا يخالطه رياء ولا يكون للشيطان مدخل يشوش على صاحبه في نيته.
وقد نص سبحانه وتعالى على أفضلية الصدقة المخفاة على صدقة العلانية في قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (1) «وعد - صلى الله عليه وسلم - المسر بالصدقة حتى لا تعلم شماله ما تنفق - يمينه أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (2) » .
ويروى إنه قيل لبعضهم: ما دواء الرياء؟
قال: كتمان العمل، قيل له: فكيف يكتم العمل؟ قال: ما كلفت إظهاره من العمل فلا تدخل فيه إلا بالإخلاص، وما لم تكلف إظهاره أحب أن لا يطلع عليه إلا الله (3) .
وقد خص العلماء أفضلية الإخفاء بالنوافل دون الفرائض (4) .
واستثنى بعض العلماء أولئك الذين يقتدى بهم، فهؤلاء يستحب في حقهم الإعلان دون الإسرار بشرط أن يأمنوا على أنفسهم الرياء، وقد فصل
__________
(1) سورة البقرة الآية 271
(2) صحيح البخاري الأذان (660) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، موطأ مالك الجامع (1777) .
(3) الكفر والمكفرات ص 38.
(4) تفسير القرطبي جـ 3 \ 332.(37/219)
القول في هذه المسألة العز ابن عبد السلام - رحمه الله - حيث قال: فإن قيل: هل الإخفاء أفضل من الإعلان لما فيه من اجتناب الرياء أم لا؟ فالجواب:
أن الطاعات ثلاثة أضرب: أحدها: ما شرع مجهورا كالأذان والإقامة. . . وإقامة الجمعة والجماعات والأعياد والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. . . فهذا لا يمكن إخفاؤه، فإن خاف فاعله الرياء جاهد نفسه في دفعه إلى أن تحضره نية الإخلاص فيأتي به مخلصا كما شرع.
الثاني: ما يكون إسراره خيرا من إعلانه كإسرار القراءة في الصلاة، أو إسرار أذكارها، فهذا إسراره خير من إعلانه.
الثالث: ما يخفى تارة ويظهر أخرى كالصدقات، فإن خاف على نفسه الرياء. . . كان الإخفاء أفضل من الإبداء لقوله تعالى {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (1) .
ومن أمن الرياء فله حالان:
إحداهما: ألا يكون ممن يقتدى به، فإخفاؤها أفضل إذ لا يأمن الرياء عند الإظهار.
__________
(1) سورة البقرة الآية 271(37/220)
والثاني: أن يكون ممن يقتدى به، فالإبداء أولى لما فيه من سد خلة الفقراء مع مصلحة الاقتداء، فيكون قد نفع الفقراء بصدقته وبتسببه إلى تصدق الأغنياء عليهم، وقد نفع الأغنياء بتسببه إلى اقتدائهم به في نفع الفقراء.
سابعا: في بيان بعض الأمور التي يظن أنها من الرياء وهي ليست منه.
اعلم - رحمك الله - أن هناك أمورا يعملها العبد قد يظنها البعض أنها من الرياء وهي ليست منه، أحببت التنبيه عليها رفعا للبس.
منها ما يلي:
1 - تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس إنما هو ليراه الناس، وكذلك كل تجمل لأجلهم، ولا يقال: إنه من الرياء أو منهي عنه، حيث إن كثيرا من الناس لا يحبون أن يراهم أحد بعين نقص في أي حال، ومن الناس من يؤثر إظهار نعمة الله عليه - كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بذلك في الحديث الذي رواه ابن مسعود أنه قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله(37/221)
حسنا، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس (1) » .
2 - كذلك كتمان الذنوب وعدم إظهارها لا يعتبر من الرياء، بل هو واجب شرعي، لأن الله يكره ظهور المعاصي ويحب سترها فعن ابن عمر مرفوعا قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله (2) » .
3 - كذلك نشاط العبد بالعبادة عند رؤية العابدين، كأن يبيت الرجل مع المتهجدين فيصلون أكثر الليل وعادته قيام ساعة فيوافقهم، أو يصومون فيصوم، ولولا الله ثم هم ما انبعث هذا النشاط، هذا ليس رياء على الإطلاق بل فيه تفصيل، ولمعرفة العبد ذلك عليه في مثل هذه الحالة أن يمثل القوم في مكان يراهم ولا يرونه فإذا رأى نفسه تسخو بالتعبد فهو لله وليس رياء، وإن لم تسخ كان سخاؤها عندهم رياء، وعلى هذا فقس (3) .
__________
(1) رواه مسلم برقم 91 في الإيمان باب تحريم الكبر وبيانه، وأبو داود برقم 4091 في الأدب باب ما جاء في الكبر، والترمذي برقم 1999 في البر والصلة باب ما جاء في الكبر، وانظر: جامع الأصول حديث 8210.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك جـ 4 \ 383 من حديث ابن عمر. والموطأ جـ 2 \ 825 مرسلا في الحدود باب في من اعترف على نفسه بالزنى عن زيد بن أسلم (بنحوه) وانظر جامع الأصول حديث 1926.
(3) انظر: مختصر منهاج القاصدين ص 217 - 224، العقيدة في صفحات ص 44 - 45.(37/222)
4 - كذلك إذا عمل العبد العمل لله خالصا ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين ففرح بفضل الله ورحمته لم يضره ذلك ولم يعد ذلك من الرياء، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (1) . وعن أبي ذر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير فيحمده الناس عليه، فقال: " تلك عاجل بشرى المؤمن (2) » .
المبحث الثاني: إرادة الإنسان بعمله الدنيا.
المراد به: هو أن يعمل الإنسان أعمالا صالحة يريد بها الدنيا، إما قصد المال أو الجاه، كالذي يجاهد أو يتعلم العلم ليأخذ مالا، أو ليحتل منصبا، أو يتعلم القرآن، أو يواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، أو نحو ذلك من الأعمال الصالحة لكن نيته الحصول على مصالح دنيوية لا لطلب مرضاة الله.
الفرق بينه وبين الرياء:
قد يظن البعض أن هذا المبحث داخل في الرياء وأن هذا مجرد تكرار وهو ظن خاطئ، وذلك أن المرائي إنما يعمل لأجل المدح والثناء، والمريد بعمله الدنيا يعمل لدنيا يصيبها كالمال أو المنصب (3) .
__________
(1) سورة يونس الآية 58
(2) رواه مسلم في البر 166، وأحمد في مسنده جـ 5 \ ص 156 - 157، ص 68 وابن ماجه في الزهد باب 25 جـ 2 \ 430 برقم 4225.
(3) تيسير العزيز الحميد ص 273 (بتصرف) .(37/223)
حكمه: العمل لأجل الدنيا لا يخلو من ثلاثة أمور:
الأول: أن تكون إرادة العبد من عمله كلها منحصرة في العمل لأجل الدنيا ولولا هذا المقصد لم يعمل، وهذا ليس له في الآخرة نصيب، وذلك أن العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن فإن المؤمن وإن كان ضعيف الإيمان فإنه لا بد أن يريد الله والدار الآخرة وإن كان يريد مع ذلك الدنيا.
الثاني: أن تكون إرادته من عمله وجه الله والدنيا، والقصدان متساويان أو متقاربان، وهذا شرك أصغر مناف لكمال التوحيد يحبط الأعمال التي قارنها، وذلك لأن إخلاص العمل لوجه الله شرط من شروط صحة العبادة، فإذا كان مراد العامل من عمله وجه الله والدنيا فقد اختل شرط الإخلاص ففسد العمل.
الثالث: أن تكون إرادة العبد من عمله وجه الله وحده وأخلص فيه إخلاصا تاما، لكنه يأخذ على عمله جعلا معلوما يستعين به على العمل كالجعالات التي تجعل على أعمال الخير كالمجاهد الذي يترتب على جهاده غنيمة أو رزق، وكالأوقاف التي تجعل على المساجد والمدارس والوظائف الدينية والدنيوية النافعة لمن يقوم بها.
فهذا لا يضر أخذه في إيمان العبد وتوحيده لكونه لم يرد بعمله الدنيا وإنما أراد الدين، وقصده أن يكون ما حصل له معينا له على قيام الدين، ولهذا جعل الله تعالى في الأموال الشرعية كالزكاة وأموال الفيء وغيرها جزءا(37/224)
لمن يقوم بالوظائف الدينية والدنيوية النافعة. والله أعلم.
الأدلة على تحريمه
نظرا لأن العمل لأجل الدنيا مناف للإخلاص، لذا جاء التحذير منه في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، منها ما يلي:
من الكتاب: قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} (1) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) .
يخبر سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين أن من قصد بعمله الحصول على مطامع الدنيا فقط فإن الله يوفر له ثواب عمله في الدنيا بالصحة والسرور في الأهل والمال والولد، وهذا مقيد بالمشيئة (3) كما في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} (4) الآية وهؤلاء ليس لهم في الآخرة إلا النار، لأنهم لم يعملوا ما يخلصهم أما أعمالهم التي عملوها فإنها باطلة لا ثواب لها؛ لأنهم لم يريدوا بها الآخرة.
قال قتادة: يقول تعالى: من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة (5) .
__________
(1) سورة هود الآية 15
(2) سورة هود الآية 16
(3) انظر مختصر شعب الإيمان ص 92 (الحاشية) .
(4) سورة الإسراء الآية 18
(5) انظر: تفسير ابن كثير جـ 2 ص 439.(37/225)
وقد سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب عن هذه الآية، فأجاب بما ملخصه: ذكر عن السلف في معنى هذه الآية أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه:
النوع الأول: من ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وإحسان إلى الناس وترك الظلم ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته أو حفظ أهله وعياله أو إدامة النعمة عليهم، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة نصيب، وهذا النوع ذكره ابن عباس.
النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أنها نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالا صالحة، ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة.
النوع الثالث: أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا، مثل أن يحج لمال يأخذه، أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم فقد ذكر هذا النوع أيضا في تفسير هذه الآية، وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكتبهم أو رئاستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيرا.
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفره كفرا يخرج عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا(37/226)
عبدوا الله أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك يخرجهم من الإسلام بالكلية إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم، وهذا النوع أيضا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره، وكان السلف يخافون منها. قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (1) (2) . والآيتان تتناولان هذه الأنواع الأربعة لأن لفظها عام، لذا يجب الحذر من أن نطلب بعمل الآخرة طمع الدنيا (3) .
ومن السنة:
1 - ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش (10) » . . . الحديث.
__________
(1) سورة المائدة الآية 27
(2) انظر: تيسير العزيز الحميد ص 475 - 476.
(3) انظر: الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد ص 102 - 103.
(4) رواه البخاري في الجهاد باب 70، والرقاق باب 10، برقم 2887 و 6435، وابن ماجه في الزهد باب 8 جـ 2 ص 414.
(5) تعس: أي سقط والمراد هنا هلك. (4)
(6) الخميصة: الكساء المربع. (5)
(7) الخميلة: هي القطيفة، وهي ثوب له خمل من أي شيء كان. انظر فتح الباري جـ 11 ص 254. (6)
(8) وانتكس: أي عاوده السقوط. (7)
(9) إذا شيك: أي دخلت فيه شوكة. (8)
(10) فلا انتقش: لم يجد من يخرجها بالمنقاش، فتح الباري جـ 11 ص 254 - 255. (9)(37/227)
والحديث كما نرى: دعاء على من جعل الدنيا قصده وهمه بالتعاسة والانتكاس، وإصابته بالعجز عن انتقاش الشوك من جسده، ولا بد أن يجد أثر هذه الدعوات كل من اتصف بهذه الصفة الذميمة فيقع فيما يضره في دنياه وآخرته كما أنها ذم له بتسميته عبد الدينار والدرهم. . . . وسماه - صلى الله عليه وسلم - عبدا لهذه الأشياء، لأنها استيسرت قلبه واستعبدته، فلا هم له إلا جمعها والحصول عليها ليرضي نفسه وهواه فصار فيه شعبة من العبادة لغير الله، ولم يبق معه حقيقة العبادة لله، ولا حقيقة التوكل عليه (1) .
2 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة (2) » .
3 - ويقول - عليه الصلاة والسلام -: «من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله ولا يأتيه منها إلا ما قدر له (3) » والحديثان الأخيران - كما نرى - وعيد لمن أراد بعمله الدنيا: الأول: بأنه لا يجد عرف الجنة يوم القيامة. والثاني: وعيد بالفقر وتشتيت الأمر، أعاذنا الله من ذلك والله أعلم.
__________
(1) العبودية لابن تيمية ص 278 تيسير العزيز الحميد ص 478 الإرشاد ص 103.
(2) أخرجه أبو داود برقم 3664 في العلم باب في طلب العلم لغير الله، وابن ماجه برقم 252 في المقدمة باب الانتفاع في العلم والعمل، وأحمد جـ 2 ص 338 وانظر: جامع الأصول حديث 2648.
(3) رواه الترمذي برقم 2467 في صفة القيامة باب 31 عن أنس بن مالك بسند ضعيف انظر: جامع الأصول حديث 8472، وأحمد: انظر مشكاة المصابيح برقم 5320.(37/228)
الفصل الثاني: الشرك في الألفاظ.
ومنه ما يلي: المبحث الأول: الحلف بغير الله.
مثاله: كقول الرجل: وحياتي، وحياة النبي، والكعبة، والسيد فلان، ونحو ذلك.
حكمه: هو من الشرك الأصغر في الألفاظ، إذا كان الحالف بلسانه ولم يعتقد بقلبه تعظيم من حلف به، وكان عالما الحكم أما إذا كان جاهلا فإنه يعلم، فإن أصر فهو والعالم ابتداء، سواء كل منهما مشرك شركا أصغر.
ومن الشرك الأكبر: إن قام بقلبه تعظيم من حلف به من المخلوقات مثل تعظيم الله، وكان عالما الحكم، أما إذا كان جاهلا فإنه يعلم فإن أصر فهو والعالم ابتداء سواء كل منهما مشرك شركا أكبر (1) .
الأدلة على تحريمه: اتفق الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الحلف بغير الله.
فمن الكتاب: قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) . أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: " الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان. . . إلى أن قال: هذا كله
__________
(1) انظر الجواب الكافي ص 158. فتاوى اللجنة (العقيدة) جـ 1 ص 224.
(2) سورة البقرة الآية 22(37/229)
شرك ".
فإن قيل الآية نزلت في الأكبر، قيل: السلف يحتجون بما نزل في الأكبر على الأصغر، كما فسرها ابن عباس - رضي الله عنه - وغيره وذلك لأن الكل شرك (1) .
ومن السنة ما يلي:
1 - وفي الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعا «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب، وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2) » .
2 - وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. قال عمر: فوالله ما حلفت بها منذ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها ذاكرا ولا آثرا (3) » .
3 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان
__________
(1) تيسير العزيز الحميد ص 522 - 523.
(2) رواه البخاري جـ 3 ص 162، جـ 7 ص 221، ومسلم شرح النووي جـ 11 ص 105 - 106. وأبو داود جـ 3 \ 569 النذور باب 5. برقم 3249، والترمذي ج 3 ص 45 برقم 1573 وقال حديث حسن صحيح.
(3) رواه البخاري جـ 7 ص 221. ومسلم (شرح النووي) كتاب الإيمان جـ 11 ص 104 - 105. وأبو داود جـ 3 \ 570 برقم 3250. والترمذي برقم 1572 جـ 3 \ 45 وقال: حديث حسن صحيح.(37/230)
حالفا فلا يحلف إلا بالله (1) » وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: «لا تحلفوا بآبائكم (2) » .
4 - وعن سعيد بن عبيدة قال: «كنت عند ابن عمر فقمت وتركت رجلا عنده من كندة، فأتيت سعيد بن المسيب فجاء الكندي فزعا فقال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن أعلي جناح أن أحلف بالكعبة؟ قال: ولم تحلف بالكعبة؟ إذا حلفت بالكعبة احلف برب الكعبة، فإن عمر كان إذا حلف قال: كلا وأبي، فحلف بها يوما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تحلف بأبيك ولا بغير الله فإنه من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (3) » .
5 - وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم (4) » .
6 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد. . . . . (5) » الحديث.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/76) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(2) رواه البخاري جـ 7 ص 222، ومسلم (بشرح النووي) كتاب الإيمان جـ 11 ص 106.
(3) رواه الإمام أحمد في المسند جـ 2 ص 69، 86 - 87، 125، وأبو داود برقم 3251 جـ 3 ص 570، والترمذي جـ 3 ص 45 - 46 كتاب النذور باب 8 برقم 1574 وقال: حديث حسن.
(4) رواه مسلم (بشرح النووي) كتاب الإيمان باب النهي عن الحلف بغير الله جـ 11 ص 108، والنسائي جـ 7 ص 7 في الإيمان باب الحلف بالطواغيت.
(5) رواه أبو داود برقم 3248 كتاب النذور باب 5 جـ 3 ص 569، والنسائي جـ 7 ص 5 في الإيمان باب الحلف بالأمهات، وإسناده صحيح انظر: جامع الأصول حديث 9282.(37/231)
7 - وعن بريدة مرفوعا «من حلف بالأمانة فليس منا (1) » .
8 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف منكم فقال في حلفه باللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله (2) » .
9 - وعن قتيلة «أن يهوديا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " إنكم تشركون. . . وتقولون: والكعبة " فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة. . . (3) » الحديث.
10 - وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: «حلفت مرة باللات والعزى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم انفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ ولا تعد (4) » .
وقال كعب (5) : " إنكم تشركون في قول الرجل: كلا وأبيك، كلا والكعبة، كلا وحياتك، وأشباه هذا، احلف بالله صادقا أو كاذبا ولا تحلف بغيره " رواه ابن أبي الدنيا في الصمت (6) .
__________
(1) رواه الإمام أحمد جـ 5 ص 352، وأبو داود برقم 3253 جـ 3 ص 571، وإسناده صحيح انظر: جامع الأصول حديث 9284.
(2) رواه البخاري في الأيمان باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت جـ 7 ص 97 - 98، 222، ومسلم كتاب الأيمان جـ 11 ص 106 - 107، والترمذي جـ 4، ص 109 - 110. وأبو داود برقم 3247 جـ 3 ص 568 كتاب الأيمان والنذور باب الحلف بالأنداد، وابن أبي الدنيا في الصمت ص 423 برقم 360 بإسناد صحيح.
(3) أخرجه النسائي جـ 7 ص 6 في الأيمان والنذور باب الحلف بالكعبة، وإسناده صحيح انظر: جامع الأصول حديث 9277.
(4) أخرجه النسائي جـ 7 ص 7 - 8 في الأيمان باب الحلف باللات والعزى وهو حديث حسن. انظر: جامع الأصول حديث 9314.
(5) هو كعب الأحبار.
(6) كتاب الصمت لابن أبي الدنيا برقم 358 ص 422.(37/232)
الإجماع: لقد أجمع العلماء على أن اليمين الشرعية لا تكون إلا بالله أو اسم من أسمائه أو بصفة من صفاته، وأنه لا يجوز الحلف بغيره.
قال ابن عبد البر: (لا يجوز الحلف بغير الله إجماعا) (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشائخ والملوك وغيرهم فإنه منهي عنه غير منعقد باتفاق الأئمة) (2) .
وقال شيخ الإسلام - في موضع آخر: (. . . ذكر غير واحد الإجماع على أنه لا يقسم بشيء من المخلوقات، وذكروا إجماع الصحابة على ذلك. . .) (3) .
ولا اعتبار بمن قال من المتأخرين: إن النهي على سبيل كراهة التنزيه فإنه قول باطل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (. . . والصحيح أنه نهي تحريم) (4) وكيف يقال ذلك لما أطلق عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كفر أو شرك.
ولهذا اختار ابن مسعود - رضي الله عنه - أن يحلف بالله كاذبا ولا يحلف بغيره صادقا مما يدل على أن الحلف بغير الله أكبر من الكذب مع أن الكذب من المحرمات في جميع الملل، فدل ذلك على أن الحلف بغير الله من أكبر المحرمات (5) .
__________
(1) تيسير العزيز الحميد ص 526.
(2) الفتاوى جـ 11 ص 506.
(3) الفتاوى جـ 1 ص 290.
(4) الفتاوى جـ 1 ص 536.
(5) انظر: تيسير العزيز الحميد ص 526.(37/233)
اعتراض وجوابه.
اعتراض: فإن قيل: إن الله تعالى أقسم بالمخلوقات في القرآن.
الجواب: قيل: ذلك يختص بالله سبحانه وتعالى، فإنه - سبحانه - يقسم بما يقسم به من مخلوقاته لأنها آياته ومخلوقاته، فهي دليل على ربوبيته وألوهيته ووحدانيته وعلمه وقدرته، ومشيئته، وغير ذلك من صفات كماله، فهو سبحانه يقسم بها لأن إقسامه بها تعظيم له سبحانه وتنبيه على شرفه، وأما نحن المخلوقين فليس لنا أن نقسم بها بالنص والإجماع كما سبق ذكره (1) آنفا، بل ذلك شرك منهي عنه، وإنا نقسم به سبحانه وتعالى وحده، فيجب علينا التسليم والإذعان لما جاء من عنده سبحانه وتعالى.
أضف إلى ذلك أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به، وحقيقة العظمة مختصة بالله تعالى فلا يضاهى به غيره (2) .
اعتراض: وإن قيل: قد جاء في الحديث: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي الذي سأله عن أمور الإسلام، فأخبره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أفلح وأبيه إن صدق (3) » «وقال للذي سأله عن أحق الناس بحسن الصحبة؟ فقال:
__________
(1) في الأدلة الدالة على تحريم الحلف بغير الله.
(2) انظر: الفتاوى جـ 1 ص 290، وشرح صحيح مسلم للإمام النووي جـ 11 ص 105.
(3) رواه مسلم عن طلحة بن عبيد الله في كتاب الإيمان باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام جـ 1 ص 168، وأخرجه أبو داود عن طلحة بن عبيد الله برقم 392 في الصلاة، وبرقم 3252 في الأيمان والنذور باب في كراهية الحلف بالآباء، وهو حديث صحيح. انظر: جامع الأصول حديث 7، وحديث 9279.(37/234)
" نعم وأبيك لتنبأن. . . (1) » الحديث ". الجواب: قيل: إن العلماء أجابوا عنها بأجوبة منها:
الأول: أن هذه كلمة تجري على اللسان دعامة للكلام لا يقصد بها حقيقة اليمين، كاليمين المعفو عنها من قبل اللغو، قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} (2) الآية (3) . والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته بالله سبحانه وتعالى.
الثاني: وقيل: إن هذا - أي الحلف بغير الله - كان في أول الأمر ثم نسخ، فما جاء من الأحاديث فيه ذكر شيء من الحلف بغير الله، فإنما هو قبل النسخ ثم نسخ ذلك ونهي عن الحلف بغير الله.
وهذا الجواب هو الأظهر، يؤيده أن ذلك كان مستعملا شائعا حتى ورد النهي عن ذلك كما في حديث ابن عمر «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: " ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (4) » .
وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: «حلفت مرة باللات والعزى فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثم انفث
__________
(1) رواه مسلم في البر باب بر الوالدين وأنهما أحق به برقم 2548، كما أخرجه ابن ماجه بسند صحيح في كتاب الوصايا باب 4 حديث 2738، انظر: صحيح سنن ابن ماجه للألباني جـ2 صـ110
(2) سورة البقرة الآية 225
(3) آية 225 سورة البقرة، وانظر شرح صحيح مسلم للنووي جـ 11 ص 105، جـ 16 ص 103.
(4) رواه البخاري جـ 3 ص 162، جـ 7 ص 221، ومسلم شرح النووي جـ 11 ص 105 - 106. وأبو داود جـ 3 \ 569 النذور باب 5. برقم 3249، والترمذي ج 3 ص 45 برقم 1573 وقال حديث حسن صحيح.(37/235)
عن يسارك ثلاثا وتعوذ ولا تعد (1) » وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، فما ورد فيه ذكر الحلف بغير الله فهو جار على العادة قبل النهي، لأن ذلك هو الأصل حتى ورد النهي عن ذلك.
هل تنعقد اليمين بغير الله؟ .
الجواب: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما الحلف بغير الله من الملائكة والأنبياء والمشائخ والملوك وغيرهم فإنه منهي عنه غير منعقد باتفاق الأئمة، ولم يتنازعوا إلا في الحلف برسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، والجمهور على أنه لا تنعقد اليمين لا به ولا بغيره، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2) » . . . . فمن حلف بشيخه أو بتربته أو بحياته أو بحقه على الله. . . أو بالكعبة أو بأبيه أو تربة أو نحو ذلك كان منهيا عن ذلك، ولم تنعقد يمينه باتفاق المسلمين (3) .
المبحث الثاني: قول ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت ونحوهما.
تمهيد: ومن الشرك في الألفاظ أيضا: قول ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وما لي إلا الله وأنت، ونحو ذلك مما فيه مساواة بين الخالق والمخلوق.
__________
(1) أخرجه النسائي جـ 7 ص 7 - 8 في الأيمان باب الحلف باللات والعزى وهو حديث حسن. انظر: جامع الأصول حديث 9314.
(2) رواه البخاري جـ 3 ص 162، جـ 7 ص 221، ومسلم شرح النووي جـ 11 ص 105 - 106. وأبو داود جـ 3 \ 569 النذور باب 5. برقم 3249، والترمذي ج 3 ص 45 برقم 1573 وقال حديث حسن صحيح.
(3) الفتاوى جـ 11 ص 506 وانظر: الفتاوى جـ 1 ص 140، 204، 335 - 336.(37/236)
حكمه: قائل ذلك: إما أن يقوم بقلبه تعظيم لذلك المسوى بينه وبين الله أو لا، فإن قام بقلبه تعظيم لذلك المسوى بينه وبين الله، وكان عالما فهو شرك أكبر، وإن كان جاهلا علم، فإن أصر فهو والعالم ابتداء سواء، كل منهما مشرك شركا أكبر.
وإن لم يقم بقلبه تعظيم لذلك المسوى بينه وبين الله فهو شرك أصغر، فإن كان جاهلا علم، فإن أصر فهو والعالم ابتداءا سواء كل منهما مشرك شركا أصغر (1) .
الأدلة على تحريمه.
الأدلة على تحريم قول ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، ونحوهما كثيرة منها ما يلي: من الكتاب قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) .
قال ابن عباس في هذه الآية: (الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك. . . وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. . . . هذا كله شرك) . رواه ابن أبي حاتم.
والآية نزلت في الشرك الأكبر إلا أنها حجة في الشرك الأصغر كما فسرها ابن عباس وغيره لأن الكل شرك (3) .
__________
(1) فتاوى اللجنة ج 1 ص 224.
(2) سورة البقرة الآية 22
(3) تيسير العزيز الحميد ص 522 - 523.(37/237)
ومن السنة:
ا - عن حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان (1) » .
2 - عن قتيلة بنت صيفي قالت: «إن يهوديا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون والكعبة، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت (2) » .
3 - وعن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: «رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود قلت: إنكم لأنتم القوم لولا إنكم تقولون عزير ابن الله قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، قال: هل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أما بعد: فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن
__________
(1) أخرجه أبو داود برقم 4980 في الأدب باب لا يقال خبثت نفسي وإسناده صحيح، انظر: جامع الأصول حديث 9435.
(2) أخرجه النسائي جـ 7 ص 6 في الأيمان والنذور باب الحلف بالكعبة وإسناده صحيح، انظر جامع الأصول حديث 9277.(37/238)
أنهاكم عنها، فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله وحده (1) » .
4 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده (2) » .
وفي رواية: «أجعلتني لله عدلا؟ بل ما شاء الله وحده (3) » .
وقد اتفق جمهور (4) العلماء على النهي عن هذا القول ونحوه مما فيه تسوية بين الخالق والمخلوق.
وأما قول من قال بالجواز محتجا بقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} (5) وقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} (6) الآية.
فقول مردود، إذ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكره، وقال لمن قال ذلك أجعلتني لله ندا، فمن المحال أن يقال إن ذلك جائز مع إنكار الرسول - صلى الله عليه وسلم - له ونهيه عنه.
__________
(1) رواه الإمام أحمد والدارمي وأبو يعلى والطبراني في الكبير عن طفيل بن سخبره، انظر: كنز العمال حديث 8378.
(2) سنن ابن ماجه الكفارات (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (1/214) .
(3) رواه الإمام أحمد في المسند جـ 1 ص 214. والبيهقي في السنن الكبرى جـ 3 ص 217، وابن أبي الدنيا في الصمت برقم 345 ص 414 بإسناد حسن، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة جـ 1 ص 57 (إسناده حسن) .
(4) انظر: تيسير العزيز الحميد ص 535.
(5) سورة التوبة الآية 74
(6) سورة الأحزاب الآية 37(37/239)
وأما احتجاجهم بالآيات، فقد ذكر العلماء عن ذلك أجوبة منها.
الأول: أن ذلك لله وحده لا شريك له، كما أنه تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته فكذلك هذا.
الثاني: أن في قوله (ما شاء الله وشئت) تشريكا في المشيئة بين مشيئة الله ومشيئة العبد.
وأما الآيتان: فإنما أخبر بهما عن فعلين متغايرين، فأخبر تعالى أنه أغناهم وأن رسوله أغناهم، وهو من الله حقيقة، لأنه الذي قدر ذلك ومن الرسول حقيقة باعتبار تعاطي الفعل، وكذلك الإنعام أنعم الله على زيد بالإسلام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أنعم عليه بالعتق.
وهذا بخلاف المشاركة في الفعل الواحد، فالكلام إنما هو فيه، والمنع إنما هو منه (1) .
كيفية اتقائه:
يمكن اتقاء هذا النوع من الشرك باستبدال الواو بثم، فإذا أردنا أن نقول: ما شاء الله وشئت، نقول: ما شاء الله ثم شئت، وإذا أردنا أن نقول: لولا الله وأنت، نقول: لولا الله ثم أنت ونحوهما. وبذلك يمكن التخلص من هذا الشرك، وذلك لأن الواو تقتضي تسوية المخلوق بالخالق، ومن المعلوم أنه لا يجوز أن نجعل المخلوق مثل الخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
__________
(1) انظر: تيسير العزيز الحميد ص 535 - 536.(37/240)
أما ثم فتقتضي العطف مع الترتيب والتراخي، فمثلا: إذا قلنا: ما شاء الله وشئت إن عطفنا بالواو اقتضى التسوية بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق، أما إذا عطفنا بثم فإنه يقتضي تقديم مشيئة الله وأنها فوق مشيئة المخلوق (1) .
المبحث الثالث: إسناد بعض الحوادث إلى غير الله عز وجل واعتقاد تأثيره فيها.
ومن الشرك في اللفظ إسناد بعض الحوادث إلى غير الله عز وجل واعتقاد تأثيره فيها، كأن يقول مثلا لولا وجود فلان لحصل كذا ولولا يقظة الحارس لدهمنا الجيش، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها نسبة بعض الحوادث إلى أسبابها القريبة، على أنها هي وحدها التي أدت إلى وقوعها.
وليس معنى ذلك نفي تأثير الأسباب في مسبباتها، فإن ذلك جهل بحكمة الله تعالى الذي وضعها وجعلها أسبابا، وإنما المقصود الاعتقاد أن تأثيرها إنما هو بمشيئة الله وحكمته لا أنها مستقلة بالتأثير (2) .
الدليل على تحريمه:
1 - يقول سبحانه وتعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) . يقول ابن عباس في الآية -: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب
__________
(1) دعوة التوحيد محمد خليل هراس ص 65 تيسير العزيز الحميد ص 536.
(2) انظر: دعوة التوحيد محمد خليل هراس ص 65 - 66.
(3) سورة البقرة الآية 22(37/241)
النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول:. . . لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. . . إلى أن قال: هذا كله شرك.
والآية نزلت في الأكبر إلا أنها حجة في الشرك الأصغر - كما فسرها ابن عباس - لأن الكل شرك (1) .
2 - روى ابن أبي الدنيا - في كتابه الصمت - عن ابن عباس أنه قال: (إن أحدكم ليشرك حتى يشرك في كلبه يقول: لولاه لسرقنا الليلة) (2) .
كيفية اتقائه:
للتخلص من هذا الشرك يجب أن نسند الحوادث إلى الله ثم إلى المخلوق، فمثلا إذا أردنا أن نقول: لولا وجود فلان لحصل كذا. نقول: لولا الله ثم وجود فلان لحصل كذا، مع الاعتقاد بأن الأسباب ليست مستقلة بذاتها في التأثير، وإنما يكون تأثيرها بقدرة الله ومشيئته.
المبحث الرابع: قول البعض مطرنا بنوء كذا وكذا على طريق المجاز.
كذلك من الشرك الأصغر في اللفظ قول البعض: مطرنا بنوء كذا وكذا على طريق المجاز، وبيان ذلك: أن يقولها البعض مع عدم اعتقاده بأن
__________
(1) انظر: تيسير العزيز الحميد ص 522 - 523.
(2) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت برقم 359، ص 422 - 423.(37/242)
للنجم تأثيرا في إنزال المطر، وإنما المؤثر هو الله وحده، ولكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، فقوله هذا يعتبر شركا أصغر، لأنه نسب نعمة الله إلى غيره ولأن الله لم يجعل النوء سببا لإنزال المطر فيه، وإنما هو فضل منه ورحمة، يحبسه إذا شاء وينزله إذا شاء (1) .
والدليل على ذلك: ما روي عن زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال: «صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب (2) » .
__________
(1) انظر: فتح المجيد ص 324.
(2) رواه البخاري جـ 2 ص 277 في صفة الصلاة باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، ومسلم برقم 71 في الإيمان باب بيان كفر من يقول مطرنا بالنوء، والموطأ جـ 1 \ 192 الاستسقاء باب الاستمطار بالنجوم، وأبو داود برقم 3906 في الطب باب في النجوم، والنسائي جـ 3 \ 165 في الاستسقاء باب كراهية الاستمطار بالكواكب، وانظر: جامع الأصول حديث 9198.(37/243)
الخاتمة
بسم الله بدأنا، وبحمده والشكر له ختمنا، ونصلي ونسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد:
فإلى القارئ الكريم بعض النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث المتواضع، إنه من دراستي للشرك وأقسامه وبعض أنواع الشرك الأصغر توصلت إلى نتائج منها:
الأولى: أن الشرك قسمان: أكبر: مبيح للدم والمال ومحبط لجميع الأعمال، وفي الآخرة صاحبه مخلد في النار.
وأصغر: محبط للعمل الذي يقارنه، ووسيلة قد تفضي بصاحبها إلى الشرك الأكبر.
الثانية: أن الشرك الأصغر أنواع كثيرة منها: الرياء، وإرادة الإنسان بعمله الدنيا، والحلف بغير الله، وقول ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت ونحوها، وإسناد الحوادث إلى أسبابها القريبة مع اعتقاد تأثيرها فيها، وقول البعض مطرنا بنوء كذا على طريق المجاز.
الثالثة: أن الرياء منه ما هو كفر كرياء المنافقين، ومنه ما هو شرك أصغر كيسير الرياء الداخل في تحسين العمل.
الرابعة: أن الرياء داء له علاج، ومن وسائل علاجه: تعظيم الله ومراقبته في كل عمل، والاستعانة به على الإخلاص ودعاؤه(37/244)
والتعوذ به من الرياء، ومعرفة الرياء وأسبابه، ثم التحرز منه دائما، ومعرفة عاقبة الرياء في الدنيا والآخرة، كذلك كتمان العمل وإسراره.
الخامسة: أن العمل لأجل الدنيا: لا يخلو من ثلاثة أمور:
الأول: أن تكون إرادة العبد من عمله كلها منحصرة في العمل لأجل الدنيا ولولا هذا المقصد لم يعمل، وهذا ليس له في الآخرة نصيب.
الثاني: أن تكون إرادته من عمله وجه الله والدنيا، والقصدان متساويان، أو متقاربان، وهذا شرك أصغر.
الثالث: أن تكون إرادته من عمله وجه الله وحده لكنه يأخذ على عمله جعلا معلوما، يستعين به على العمل وهذا لا بأس به.
السادسة: أن الحالف بغير الله، إما أن يقوم بقلبه تعظيم لمن حلف به مثل تعظيم الله فيعتبر شركا أكبر، فإن كان جاهلا علم فإن أصر فهو والعالم سواء، كل منهما مشرك شركا أكبر، أو لا يقوم بقلبه تعظيم لمن حلف به فيعتبر شركا أصغر، فإن كان جاهلا علم، فإن أصر فهو والعالم سواء، كل منهما مشرك شركا أصغر.
السابعة: اتفاق الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الحلف بغير الله، واتفاق علماء المسلمين على أن اليمين لا تنعقد بما سوى الله.
الثامنة: أن قائل ما شاء الله وشئت إما أن يقوم بقلبه تعظيم لذلك(37/245)
المسوى بينه وبين الله، فيعتبر شركا أكبر، أو لا يقوم بقلبه تعظيم، فيعتبر شركا أصغر، ويمكن اتقاؤه باستبدال الواو بثم، لأنها تقتضي الترتيب مع التراخي.
التاسعة: أن إسناد الحوادث إلى غير الله عز وجل مع اعتقاد تأثيره فيها، كقولنا لولا وجود فلان لحصل كذا يعتبر شركا أصغر، يمكن اتقاؤه بإسناد الحوادث إلى الله ثم إلى المخلوق، فمثلا إذا أردنا أن نقول لولا وجود فلان، نقول لولا الله ثم وجود فلان.
العاشرة: أن قول القائل مطرنا بنوء كذا، وإن لم يعتقد بأن للنجم تأثيرا في إنزال المطر يعتبر شركا أصغر، لأنه نسب نعمة الله إلى غيره، ولأن الله لم يجعل النوء سببا لإنزال المطر، إذ الواجب على الإنسان في مثل هذه الحالة أن يقول مطرنا بفضل الله ورحمته، امتثالا لأمر رسول الله - عليه الصلاة والسلام -، واتقاءا لهذا الشرك.
هذا وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(37/246)
المبادرة والمسابقة إلى الأعمال الصالحة
في ضوء الكتاب والسنة وأثره على
الرعيل الأول من هذه الأمة
الدكتور عبد الله مرحول السوالمة.
أستاذ الحديث وعلومه المساعد بقسم الثقافة الإسلامية
بكلية التربية - جامعة الملك سعود - الرياض
1 - المقدمة:
الحمد لله جاعل الدنيا دار تكليف وابتلاء واختبار، ومجالا فسيحا للتسابق والتنافس في فعل الخيرات وعمل الطاعات، وذلك شحذا للهمم وإذكاء للعزائم، واستغلالا للطاقات في مجال عمارة الأرض والقيام بمهمة الاستخلاف فيها.
قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .
قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} (2) {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (3) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 165
(2) سورة يونس الآية 13
(3) سورة يونس الآية 14(37/247)
وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) . وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (2) .
فالابتلاء والاختبار سنة من سنن الله سبحانه وتعالى في الكون والمجتمعات، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها، ثوابا وعقابا، ورفع المحسنين بعضهم فوق بعض درجات بحسب فضلهم وسبقهم - أيضا - سنة من سنن الله تعالى في الكون والمجتمعات، يظهر ذلك في كثير من آيات القرآن الكريم حول المجتمعات السالفة والخالفة، فقد قال تعالى - مثلا - في فضل زكريا وأهله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (3) .
كما شنع الله سبحانه وتعالى على بعض الأمم السالفة لإعراضهم عن هدى الله، وعدم مسارعتهم إلى الإيمان به فقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (4) {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (5) {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} (6) {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} (7) {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (8) .
__________
(1) سورة الكهف الآية 7
(2) سورة الملك الآية 2
(3) سورة الأنبياء الآية 90
(4) سورة العنكبوت الآية 36
(5) سورة العنكبوت الآية 37
(6) سورة العنكبوت الآية 38
(7) سورة العنكبوت الآية 39
(8) سورة العنكبوت الآية 40(37/248)
وهذا الموضوع موضوع " المبادرة والمسابقة. . . . . . . " موضوع هام، وتكمن أهميته في الجوانب الآتية: -
1 - أنه ذو أهمية كبرى في حياة الأمة أفرادا ومجتمعات، لما يترتب عليه من نتائج في الدنيا والآخرة.
2 - مما يزيده أهمية كونه متعلقا بإبراز جانب مشرق من حياة جيل رباني اعتبر مثالا يحتذى وأثرا يقتفى.
3 - أن كثيرا من الناس اليوم ألهتهم الشواغل الجانبية والمغريات المادية، واجتالتهم الشهوات الدنيوية فقصرت بهم الهمم إذ لم يتشوقوا للسبق، أو المبادرة في عمل الخيرات بل اكتفوا بأقل القليل من الطاعات مع شيء من التباطؤ والتثاقل في كثير من الأحيان، فحسن تنبيههم وتذكيرهم لما هم فيه.
4 - لم يتناول أحد هذا الموضوع - رغم أهميته - ببحث مستقل، لذا أرجو أن يكون هذا البحث نواة طيبة في سبيل معالجة هذه القضية وتدعيمها.
وتتلخص النقاط التي يعالجها البحث بما يلي:
1 - المقدمة: وقد تقدمت.
2 - الندب إلى المبادرة والمسابقة في الكتاب والسنة.
3 - الحض على التسابق والتنافس في الباقيات الصالحات، والتحذير من التنافس في الملذات والشهوات.
4 - الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتعهد أصحابه بالتربية والقدوة حتى يصبح السبق خلقا من أخلاقهم وجزءا غير منفصل عن ذواتهم.(37/249)
5 - تسابق الصحابة - رضي الله عنهم - وتنافسهم في الجهاد بالأموال والأنفس في سبيل الله متحدين بذلك الصعاب بلا ضجر أو ملل.
6 - من نتائج المبادرة والمسابقة وآثارها على الصحابة - رضي الله عنهم -.(37/250)
2 - الندب إلى المبادرة والمسابقة في الكتاب والسنة
لئن كانت المبادرة إلى فعل الطاعات وترك المعاصي والمنكرات مما أمر الله به عباده على مر العصور وتعاقب الرسالات، فإن ذلك كان في الإسلام أوضح وآكد، وذلك لما لهذا الدين من ميزات على غيره، إذ هو آخر الأديان وخاتمها وأشملها زمانا ومكانا وأكثرها أتباعا، ولهذا فإنه لما أمر - صلى الله عليه وسلم - أن يجهر بالدعوة - على الرغم من معاداة المجتمع لما جاء به - بادر وانطلق إلى مكان عال مناديا بأعلى صوته: «يا بني عبد مناف إني نذير، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو، فانطلق يربأ أهله، فخشي أن يسبقوه فعجل يهتف يا صباحاه (1) » .
هكذا يصور الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبعثه ويبين بأنه نذير وأن الأمر أعجل من أن يتريث الإنسان فيه أو يسوف، بل ما على الإنسان إلا الدخول في هذا الدين دون تراخ، وقد جاءت نصوص كثيرة من القرآن والسنة تدعو إلى المبادرة والإسراع إلى الاستجابة لله ولرسوله، ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (2) .
وقوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} (3) .
ففي هاتين الآيتين أمر الله سبحانه عباده المؤمنين بسرعة الاستجابة
__________
(1) صحيح مسلم '' الإيمان '' (1 \ 193) .
(2) سورة الأنفال الآية 24
(3) سورة الشورى الآية 47(37/251)
لله وللرسول مهما كانت ظروفهم ومشاغلهم، وذلك لما في هذه الاستجابة من هدايتهم وصلاحهم وحياتهم حياة طيبة دنيا وآخرة، ونهاهم عن تأخير ذلك أو التباطؤ فيه لئلا يحول بينهم وبين المبادرة إلى الاستجابة حوائل أو يصرفهم عنها صوارف، فيتعرضون إلى عقاب الله أو لومه فيندمون أشد الندم وقد لا ينفعهم - حينئذ - الندم.
وقد جاء عن أبي سعيد بن المعلى - رضي الله عنه - أنه قال: «كنت أصلي فمر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاني فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: " ما منعك أن تأتي؟ ألم يقل الله:. . . . (2) » الحديث.
وهكذا فقد جاءت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة تدعو إلى المبادرة والسبق إلى فعل الخيرات عموما، وأخرى تدعو إلى المبادرة إلى فعل أعمال مخصوصة بأعيانها.
فمن النصوص التي دعت إلى المبادرة إلى فعل الخيرات عموما:
أولا: من القرآن الكريم:
قوله تعالى:. . . {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) .
وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (4) .
__________
(1) صحيح البخاري '' التفسير '' 8 \ 307.
(2) سورة الأنفال الآية 24 (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ}
(3) سورة البقرة الآية 148
(4) سورة المائدة الآية 48(37/252)
والمراد بالاستباق في الآيتين هو المبادرة والمسارعة والاستباق إلى الأعمال الصالحة، كما فسره الطبري (1) .
كما جاءت نصوص كثيرة في الكتاب تحض المسلمين على المبادرة والإسراع إلى التوبة من الذنوب عامة، وأن الإنسان لا يعلم الغيب إذ قد يعاجل بالموت وغيره فلا يستطيع التوبة - حينئذ - أو قد لا تقبل منه، ولهذا فقد جاء الندب إلى الإسراع بالتوبة وبالإنابة إلى الله والإقلاع عن المعاصي فور وقوعها لمن تلبس بشيء منها، وعدم التسويف والتمادي، كما جاء الثناء على من غلبت عليه الخشية من الله سبحانه وتعالى وتاب من قريب، ومما دل على ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (2) .
وقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (3) .
وقوله تعالى:. . . {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُُونَ} (4) .
وقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (5)
__________
(1) التفسير (3 \ 207) ، (10 \ 390) .
(2) سورة آل عمران الآية 133
(3) سورة الحديد الآية 21
(4) سورة النور الآية 31
(5) سورة النساء الآية 17(37/253)
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} (1) .
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (2) .
وقد عاتب الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه الأعمى مسرعا تحدوه الخشية من الله يطلب التذكير والتعليم والاستفتاء فتأخر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - منشغلا عنه ببعض من كان يطمع في إسلامهم من المشركين فأنزل الله العتاب كما هو في صدر سورة عبس.
ثانيا: من السنة النبوية:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا (3) » .
وبين - صلى الله عليه وسلم - هذه الفتن فقال: «بادروا بالأعمال ستا الدجال، والدخان، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة، وخويصة أحدكم (4) » وفي رواية «وخاصة أحدكم (5) » ، والخاصة أو الخويصة: هي الموت (6) 7) .، وأمر العامة: يوم القيامة (7) . .
وقال - صلى الله عليه وسلم - أيضا: «بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا إلى فقر منس، أو غنى مطغ، أو مرض مفسد، أو هرم مفند، أو موت
__________
(1) سورة النساء الآية 18
(2) سورة الأعراف الآية 201
(3) صحيح مسلم '' الإيمان '' باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن (1 \ 110) .
(4) صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2947) ، مسند أحمد بن حنبل (2/324) .
(5) صحيح مسلم '' الفتن '' (4 \ 2267) .
(6) شرح النووي على مسلم (18
(7) شرح النووي على مسلم (18 / 7)(37/254)
مجهز، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر (1) » .
ففي هذه الأحاديث الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم الليل المظلم (2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك (3) » .
وقال أيضا: «التؤدة في كل شيء خير إلا في أعمال الخير للآخرة (4) » .
كما جاءت السنة - أيضا - بالحض على المبادرة والمسارعة إلى الخيرات من فعل الطاعات، وترك المحرمات التي تكفر الذنوب وتستر الزلات، وتحصل الثواب والدرجات، وتدعو - أيضا - إلى الإسراع بالإقلاع عن الخطايا والآثام، فمن هذه النصوص مثلا: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة (5) » .
وقوله: «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان
__________
(1) جامع الترمذي '' الزهد '' باب ما جاء في المبادرة بالعمل (6 \ 592) وقال: غريب حسن لا نعرفه من حديث الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث محرز بن هارون.
(2) شرح النووي على مسلم (2 \ 133) .
(3) اقتضاء العلم العمل (ص 100) ، مستدرك الحاكم (4 \ 306) وصححه هو والذهبي على شرطهما.
(4) المستدرك (1 \ 64) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، السنن الكبرى للبيهقي (10 \ 194) .
(5) صحيح مسلم '' الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار '' (4 \ 4076) .(37/255)
على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح (1) » .
وقوله: «اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن (2) » .
__________
(1) صحيح مسلم '' التوبة '' (4 \ 2104) .
(2) جامع الترمذي '' البر '' (6 \ 122) وقال: حديث حسن صحيح.(37/256)
الندب إلى المبادرة بأعمال مخصوصة بأعيانها
وأما الحض والندب إلى الإسراع والمبادرة في أعمال مخصوصة بأعيانها فهذا كثير في الكتاب والسنة، وسأقتصر على ذكر نماذج من ذلك على سبيل المثال لا الحصر، ومن ذلك:
الجهاد في سبيل الله تعالى:
من المعلوم أن الله سبحانه وتعالى كتب القتال على عباده المؤمنين مع ما في النفوس من كراهية له، ولهذا فإنه سبحانه وتعالى قد أنزل آيات كثيرة تحض على الجهاد وترغب فيه، وتغري المؤمنين بقتال الكافرين وتستجيش مشاعرهم على قتالهم وأمرهم بسرعة الاستجابة والمبادرة إلى النفير على كل حال، وذلك مسارعة إلى لقاء الله سبحانه وتعالى والفوز بجنة عرضها السماوات والأرض ورزق أبدي غير منقطع، كما جاء التشنيع على كل من يتثاقل أو يتباطأ في الخروج إلى الجهاد، وبهذا يصبح القتال المكروه إلى النفوس طبعا من أغلى وأحلى ما يتمناه المسلم، يطير إليه شوقا وفرحا باذلا نفسه رخيصة إلى شاريها دونما أدنى مماطلة، وبهذا يتميز المؤمن الصادق من غيره.
فمن الآيات الدالة على الحض على القتال وعدم التأخر في ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} (1) .
وقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} (2) . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (3)
__________
(1) سورة التوبة الآية 111
(2) سورة النساء الآية 84
(3) سورة الأنفال الآية 65(37/257)
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} (1) . وقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) .
ومن السنة:
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق (3) » .
وقوله: «تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي، وإيمان بي، وتصديق برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم وريحه ريح مسك، والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل (4) » .
وقوله: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها (5) » .
__________
(1) سورة التوبة الآية 38
(2) سورة التوبة الآية 41
(3) صحيح مسلم '' الإمارة '' (3 \ 1517) .
(4) صحيح مسلم '' الإمارة '' (3 \ 1495 - 1496) .
(5) صحيح مسلم '' الإمارة '' (3 \ 1499) .(37/258)
كما جاء الأمر بالمبادرة ببذل المال والتصدق في سبيل الله في الكتاب والسنة.
ففي الكتاب: مثلا:
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (1) .
وقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (2) .
وفي السنة:
ما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغني، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان كذا (3) » وفي رواية لفظ «وأنت صحيح حريص (4) » .
ففي هذه النصوص حث على الإسراع بالتصدق وبذل المال، وتحذير من تأخير ذلك، أو التسويف بالإنفاق استبعادا لحلول الأجل واشتغالا بطول الأمل، والترغيب في المبادرة بالصدقة قبل هجوم المنية وفوات الأمنية، أو قبل نزول الجوائح المالية فيصبح الإنسان فقيرا بعد غناه
__________
(1) سورة البقرة الآية 254
(2) سورة المنافقون الآية 10
(3) صحيح البخاري '' الزكاة '' (3 \ 284) .
(4) صحيح البخاري '' الوصايا '' (5 \ 373) .(37/259)
فيعجز عن التصدق إذ لم يغتنم غناه في المبادرة إلى البذل والعطاء.
كما بينت هذه النصوص أن الصدقة حال الصحة مع وجود مظنة الشح والحرص لما يأمله الإنسان من البقاء والحذر من الفقر أصدق في النية وأعظم للأجر، بخلاف من يئس من الحياة ورأى مصير المال لغيره، فسخاوة المريض بالمال في حال مرضه لا تمحو عنه شيمة البخل إذا لم يكن كذلك في حال صحته (1) .
وقد جاء الأمر - أيضا - بالمبادرة والإسراع في أداء الصلوات الخمس في أوقاتها والتبكير لصلاة الجمعة والتوجه إليها بالقلوب والنية والخشوع، وأن للمبادر إلى ذلك من الأجر والفضل ما ليس لمن تباطأ وتأخر، بل قد يعاتب أو يعاقب المتأخر بحسب حاله.
فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر، ومثل المهجر كمثل الذي يهدي البدنة، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كالذي يهدي الكبش، ثم كالذي يهدي الدجاجة، ثم كالذي يهدي البيضة (3) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: - أيضا - «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير
__________
(1) فتح الباري (3 \ 285) بتصرف.
(2) سورة الجمعة الآية 9
(3) صحيح مسلم '' الجمعة '' (2 \ 587) .(37/260)
لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا (1) » .
ومثل هذا يمكن أن يقال عن باقي العبادات وأعمال الخير والطاعات، فقد جاء الأمر - مثلا - بالإسراع بالحج إذ قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أراد الحج فليتعجل فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة (2) » . وهكذا فقد كان الصحابة ومن بعدهم يحضون على المبادرة، وأقوال الصحابة وأفعالهم في هذا لا تحصى كثرة، وسيأتي شيء منها في البحث وإليك بعض أقوال الصالحين ممن جاء بعدهم:
قال المنذر: سمعت مالك بن دينار يقول لنفسه: ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر، ويحك بادري قبل أن يأتيك الأمر حتى كرر ذلك ستين مرة أسمعه ولا يراني (3) .
وكان الحسن يقول في موعظة: المبادرة المبادرة، فإنما هي الأنفاس لو حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تتقربون بها إلى الله عز وجل، رحم الله امرءا نظر إلى نفسه وبكى على عدد ذنوبه، ثم قرأ هذه الآية: {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} (4) يعني الأنفاس، آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخولك في قبرك إحياء علوم الدين (4 \ 418) وقال الحسن: يتوسد المؤمن ما قدم من عمله في قبره إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا، فاغتنموا المبادرة رحمكم الله في المهلة (5) .
__________
(1) صحيح البخاري '' الأذان '' (2 \ 96) .
(2) مسند أحمد (1 \ 214) .
(3) إحياء علوم الدين (4 \ 418) .
(4) سورة مريم الآية 84
(5) اقتضاء العلم العمل (ص 97) .(37/261)
وكتب محمد بن سمرة السائح رسالة إلى يوسف بن أسباط يحذره فيها التسويف فكان مما قال: وبادر يا أخي فإنك مبادر بك، وأسرع فإنك مسروع بك، وجد فإن الأمر جد، وتيقظ من رقدتك وانتبه من غفلتك، وتذكر ما أسلفت، وقصرت، وفرطت، وجنيت، وعملت، فإنه مثبت محصى فكأنك بالأمر قد بغتك فاغتبطت بما قدمت، أو ندمت على ما فرطت (1) .
__________
(1) اقتضاء العلم العمل (ص 114) .(37/262)
3 - الحض على التسابق والتنافس في الباقيات الصالحات
والتحذير من التنافس في الملذات والشهوات
والمنافسة: مأخوذة من الشيء النفسي، وهو كل ما يتنافس فيه ويرغب، قال تعالى:. . . {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (1) أي: في ذلك فيتراغب المتراغبون (2) . وقال أبو السعود عند قوله تعالى: وسابقوا أي: سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار (3) .
وقال ابن حجر: حقيقة السبق أن يتقدم على غيره في المطلوب (4) .
وظاهر أن التسابق والتنافس في عمل الخير مطلوب محمود إذ لا يمكن تصور سبق ومبادرة دون منافسة، وأما التنافس والتسابق على الدنيا وزهرتها وملذاتها فهذا مذموم منهي عنه.
ولما كانت الدنيا مجالا فسيحا للتسابق بين الناس ليس فقط في مجال الخير وعمل الطاعات بل في شتى المجالات بحسب الأهواء والرغبات - إذ للناس فيما يعشقون مذاهب وأهواء - فقد حرص الإسلام على أن يكون التسابق والتنافس في أعمال الآخرة، وحذر من التنافس في الدنيا وزهرتها فقد قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (5) .
__________
(1) سورة المطففين الآية 26
(2) لسان العرب (6 \ 238) .
(3) تفسير أبي السعود (5 \ 280) .
(4) فتح الباري (9 \ 73) .
(5) سورة القصص الآية 77(37/263)
وقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
وقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (2) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (3) .
وقال أيضا: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (4) .
وقد عاتب الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين إذ استبطأ إسراعهم إلى الخشوع والخوف منه وهم أحب الخلق إليه، وحذرهم من الغفلة وقسوة القلوب فقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (5) .
قال ابن مسعود: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه
__________
(1) سورة يونس الآية 24
(2) سورة الكهف الآية 46
(3) سورة لقمان الآية 33
(4) سورة الحديد الآية 20
(5) سورة الحديد الآية 16(37/264)
الآية إلا أربع سنين) (1) .
كما جاء التحذير في السنة النبوية من فتنة الدنيا والاغترار بها والتنافس فيها والانشغال بها عن المبادرة في الخيرات والتسابق فيها وذلك في نصوص كثيرة منها:
قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (2) » .
وعن عبد الله بن مسعود قال: «نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال: ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها (3) » .
وقد أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبي عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل (4) » وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك (5) .
وقال صلى الله عليه وسلم:. . . . «إني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها (6) » يعني: الدنيا.
وقال مرة لأصحابه: «أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من
__________
(1) صحيح مسلم '' التفسير '' (4 \ 2319) .
(2) صحيح مسلم '' الذكر '' (4 \ 2098) .
(3) جامع الترمذي '' الزهد '' (7 \ 8) وقال: حسن صحيح.
(4) صحيح البخاري الرقاق (6416) ، سنن الترمذي الزهد (2333) ، سنن ابن ماجه الزهد (4114) ، مسند أحمد بن حنبل (2/24) .
(5) صحيح البخاري '' الرقاق '' (11 \ 233) .
(6) صحيح البخاري '' الرقاق '' (11 \ 344) .(37/265)
كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم (1) » .
فقد جاء التحذير في هذه النصوص الكريمة من التنافس في الدنيا مبينة أن الخشية من الغنى والتنافس في الأموال وجمعها أشد خطورة من الفقر، وذلك لأن فتنة الغنى غالبا ما تكون دينية وفتنة الفقر غالبا ما تكون دنيوية، ولهذا فقد جاء الندب إلى التقلل من الدنيا والحذر منها، وأن حال المسلم في الدنيا كحال الغريب عن وطنه أو المسافر لبعض أموره فإن كلا منهما يكون متقللا مقتصرا على ما هو ضروري من متاع أو طعام متطلعا إلى قضاء حاجته، متعلقا بعد الله بوطنه الذي سيرجع إليه.
والنهي عن الاستباق والتنافس هنا هو: في حالة ما إذا كان ليس فيه خدمة للآخرة ولا المصلحة العامة المشروعة وإلا فهو مباح ويكون من قبيل قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا حسد إلا في اثنتين رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل (2) » .
ومن معاني الحسد في الحديث: " الاغتباط " وعلى هذا ترجم البخاري لهذا الحديث. أو هو بمعنى قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} (3) ويؤيده ما جاء في لفظ الحديث عند أحمد «لا تنافس بينكم إلا في اثنتين (4) » . . .
__________
(1) صحيح البخاري '' الجزية والموادعة '' (6 \ 258) .
(2) صحيح البخاري '' فضائل القرآن '' (9 \ 73) .
(3) سورة البقرة الآية 148
(4) المسند (4 \ 105) .(37/266)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضا -: «لا سبق إلا في نصل، أو خف، أو حافر (1) » كما جاء عند أبي داود (2) ، والترمذي (3) ، والنسائي (4) ، والشافعي (5) ، وقال الشافعي: يحرم أن يكون السبق - يعني من أمور الدنيا - إلا في هذا، وهذا داخل في معنى ما ندب الله عز وجل إليه وحمد عليه أهل دينه من الإعداد لعدوه.
__________
(1) سنن الترمذي الجهاد (1700) ، سنن أبو داود الجهاد (2574) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2878) ، مسند أحمد بن حنبل (2/474) .
(2) السنن '' الجهاد '' (3 \ 29) .
(3) الجامع '' الجهاد '' (5 \ 352) .
(4) السنن '' الخيل '' (6 \ 226 - 227) .
(5) الأم (4 \ 230) .(37/267)
4 - الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتعهد أصحابه بالتربية والقدوة حتى يصبح السبق
خلقا من أخلاقهم وجزءا غير منفصل عن ذواتهم
وقد أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه ويحضهم على المبادرة في الخيرات، والتسابق في الطاعات وينمي لديهم هذا الخلق ويعالج ما قد ينشأ عند بعضهم من فتور، أو قصور، أو تطلع زائد إلى الدنيا وزهرتها وذلك في سبيل بناء قاعدة صلبة قادرة على حمل أعباء المهمة الشاقة، مهمة حمل الرسالة وأداء الأمانة، ولهذا نجده - صلى الله عليه وسلم - يوجه أمته توجيها رشيدا محذرا إياهم أن يزدروا نعمة الله عليهم وألا يتشوفوا - دائما - إلى ما عند الآخرين ممن هم فوقهم في المادة والغنى، لئلا يحملهم ذلك على المنافسة والمسابقة للحاق بهم فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه (1) » . وفي لفظ: «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله (2) » .
وعن عقبة بن عامر قال: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصفة فقال: " أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم؟ فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك. قال: أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن عدادهن من الإبل (3) » .
__________
(1) صحيح مسلم '' الزهد والرقائق '' (4 \ 2275) .
(2) صحيح مسلم '' الزهد والرقائق '' (4 \ 2275) .
(3) صحيح مسلم '' صلاة المسافرين '' (1 \ 552) .(37/268)
قال الحافظ ابن حبان: أضمر في الحديث كلمة وهي " لو تصدق بها " أي: فيتعلم آيتين من كتاب الله خير من ناقتين أو ثلاث لو تصدق بها (1) .
ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - استشعر ما بأهل الصفة من فقر وحاجة وانكسار قد يؤثران لو استمرا على نفوسهم بعض التأثير، فأراد أن ينسيهم ما هم فيه، ويرشدهم في الوقت نفسه إلى ما هو خير لهم من المال والغنى بل ومن الدنيا بأسرها، فأرشدهم إلى تعلم القرآن وأخبرهم بما لهم من الأجر والفضل.
وقد قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنائم حنين بين المؤلفة قلوبهم ومسلمة الفتح، ولم يعط الأنصار شيئا فوجد بعض الأنصار في نفسه، وبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجمع الأنصار ليعالج هذا الأمر ويصلح الحال فكان مما قال: «ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم (2) » ؟ وفي لفظ: «أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال وتذهبون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، فبكوا حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا (3) » ، وهكذا فقد صحح الرسول ما بنفوسهم وما التبس عليهم، وربطهم بالله سبحانه وتعالى بدلا من التعلق بالدنيا وزهرتها وذكرهم بما نسوه، وقد ذكر الواقدي: «أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعاهم ليكتب لهم بالبحرين تكون لهم خاصة بعده دون الناس، وهي يومئذ أفضل ما فتح عليه من الأرض، فأبوا وقالوا: لا حاجة لنا بالدنيا (4) » .
__________
(1) الصحيح (1 \ 278) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4330) ، صحيح مسلم الزكاة (1061) ، مسند أحمد بن حنبل (4/42) .
(3) صحيح البخاري '' المغازي '' (8 \ 47، 53) .
(4) فتح الباري (8 \ 51) .(37/269)
ولعله ليس بخاف ما حصل للمخلفين الثلاثة في غزوة تبوك من تأخير التوبة عليهم - مع فضلهم وسبقهم - ومقاطعة المسلمين لهم فضاقت الأرض عليهم بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، فيقول أحدهم وهو كعب - رضي الله عنه - واصفا حالهم: حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي بالتي أعرف، وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالحيطان التي نعرف، وتنكر لنا الناس ما هم الذين نعرف، وهكذا،. . . إلى أن أمروا باعتزال نسائهم وبقوا يبكون لا يكلمهم أحد ولا يرد عليهم سلاما، حتى أذن الله بالتوبة عليهم (1) .
كل هذا لا لحرام اقترفوه ولا لجريمة جنوها سوى أنهم لم يبادروا إلى الخروج معه - صلى الله عليه وسلم - في الغزوة لا لنفاق أو شك في قلوبهم ولكن تسويفا وتباطوءا، وهكذا كانت التربية في تلك الفترة تربية جادة، وكانت المؤاخذة لهؤلاء النفر الثلاثة مختلفة عن المؤاخذة لغيرهم من المنافقين والضعفاء، وذلك لإعداد مجتمع رباني وقاعدة صلبة للقيام بمهام الدعوة والدفاع عن الدين وأهله.
وهكذا بقي الرسول - صلى الله عليه وسلم - يربي أصحابه ويتعهدهم ويغرس في نفوسهم روح السبق والمبادرة على ضوء ما يتنزل من الذكر الحكيم، وكان هو ذاته - صلى الله عليه وسلم - لهم قدوة وأسوة حسنة في القول والفعل حتى أصبح هذا العنصر عنصر المبادرة شيمة من شيمهم، وجزءا لا ينفصل عن ذواتهم، يطيرون إليه مستسهلين كل صعب، مستعذبين كل مر، مستقربين كل بعيد، مستبعدين كل عذر وإن بدا وجيها، متجاهلين كل المعوقات
__________
(1) انظر القصة بتمامها في صحيح البخاري '' المغازي '' (8 \ 113 - 116) .(37/270)
نفسية كانت، أو اجتماعية، أو مادية، متشوفين إلى نظرة كريمة ربانية، متطلعين إلى جنة علية أبدية.
فهذا حنظلة الغسيل - رضي الله عنه - قد ألم بأهله فلما سمع الهيعة في غزوة أحد بادر إلى الخروج جنبا وقد أخبرت زوجته أنها غسلت إحدى شقي رأسه فلما سمع الهيعة خرج فقتل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد رأيت الملائكة تغسله (1) » .
وهذا عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - أحد السابقين الأولين من الأنصار وأحد الأمراء الثلاثة في مؤتة يخاطب نفسه - وقد غازلته عندما أخذ الراية وترددت بعض التردد فتغلب عليها - قائلا (2) :
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة ... ما لي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مطمئنة ... هل أنت إلا نطفة في شنة
يا نفس إلا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
وهكذا يهجم ويقاتل حتى يلتحق بزيد وجعفر شهيدا رضي الله عنهم جميعا.
وهؤلاء البكاؤون الذين بادروا إلى تلبية النداء للنفير رغبة في صحبة البشير النذير - صلى الله عليه وسلم - في الحصول على شرف الجهاد والاستشهاد في سبيل الله تعالى، ولما لم يجدوا مركبا أو وسيلة تحملهم تولوا وأعينهم تفيض من الدمع
__________
(1) الاستيعاب (1 \ 280 - 282) ، أسد الغابة (1 \ 543) .
(2) سيرة ابن هشام مجلد 2 ص 379.(37/271)
حزنا ألا يجدوا ما ينفقون، نعم إنهم جاءوا مسرعين مبادرين غير معتذرين ولا متعللين بالفقر والحاجة، فنظر الله إلى قصدهم وسلامة نيتهم فعذرهم ورفع الحرج عنهم رضي الله عنهم.
وهكذا بفضل التوجيهات الربانية ثم التربية النبوية يتأصل في أذهان الصحابة وفي عقولهم أنهم لا بد وأن يكونوا - دائما - سباقين إلى الخيرات مهما كانت الصعاب أو المعوقات، ولهذا فإنهم كانوا يتألمون بل قد يقفون حائرين - أحيانا - في بعض المواقف التي لم يكتب لهم فيها السبق أو الديمومة عليه، أو تحقيق النصر مما يستدعي معالجة حالاتهم، ومسح آلامهم وتخفيف مصابهم وتطييب مشاعرهم.
فهذا الصحابي الجليل: حنظلة الأسيدي يرمي نفسه بالنفاق عند أبي بكر - رضي الله عنه - ثم عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول: «نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك؟ قال حنظلة: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا نراها رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج، والأولاد، والضيعات، نسينا كثيرا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة (1) » ثلاث مرات.
ويستلم خالد بن الوليد - رضي الله عنه - الراية بعد استشهاد القادة الثلاثة في سرية مؤتة، وبخدعة ذكية ومن غير تول من المعركة يستطيع
__________
(1) صحيح مسلم '' التوبة '' (4 \ 2106) والمعافسة في الحديث هي: معاشرة ومداعبة في حق الأزواج والأولاد، وأما في حق الضيعات: تكون شغلا من زراعة وفلاحة وإصلاح ونحوه.(37/272)
هذا البطل - أن ينجو هو ومن معه بسلامة، وبالرغم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر الناس بما فعل القادة الثلاثة وبما حصل للجيش إلا أن الناس جعلوا يحثون على الجيش التراب عند رجوعهم قائلين لهم: يا فرار فررتم في سبيل الله، ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى (1) » . وما فعل الناس هذا الفعل، وما استقبلوا الجيش هذا الاستقبال إلا لأنه تأصل عندهم أن المسلم ينبغي عليه أن يجاهد ولا ينهزم، فإما أن ينتصر وإما أن ينال الشهادة، ولذا فقد اعتبروا رجوعهم بلا نصر أو شهادة فرارا.
وهؤلاء أهل الحديبية يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الصلح بأن ينحروا هديهم ويحلقوا رؤوسهم، وكرر ذلك عليهم ثلاثا فلم يقم منهم أحد، وإنما لم يفعلوا ذلك ليس عصيانا لأمره - صلى الله عليه وسلم - فهم لم يتنخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ابتدروا نخامته يدلكون بها وجوههم وجلودهم، وما توضأ إلا تزاحموا على وضوئه، وما أمرهم إلا ابتدروا أمره، ولكن الموقف أخذهم هذه المرة وهم ما زالوا يتشوفون إلى بلوغ غايتهم ودخول مكة وإتمام نسكهم، خاصة وأنهم يعتقدون أنهم أهل للغلبة والعزة والنصر، وأنهم على حق وعدوهم على باطل، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما حصل لهم قام دون أن يكلمهم فنحر هديه وحلق رأسه، فما كان منهم إلا أن بادروا إلى فعل ما أمرهم به إذ لم يبق بعد غاية تنتظر (2) .
__________
(1) سيرة ابن هشام (المجلد الثاني ص 382) .
(2) انظر القصة في البخاري '' الشروط '' (5 \ 329 - 333) .(37/273)
5 - تسابق الصحابة - رضي الله عنهم - وتنافسهم في الجهاد
بالأموال والأنفس في سبيل الله متحدين الصعاب بلا ضجر أو ملل
لقد كان الصحابة يبادرون ويسابقون في الطاعات، بل ويتنافسون في ذلك، ومن أمثلة ذلك:
ما فعله الفقراء إذ جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم: أبو ذر، وأبو الدرداء، رضي الله عنهم، فقالوا: «ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلى والنعيم المقيم يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون قال: ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله، تسبحون، وتحمدون، وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين. . . . (1) » الحديث.
وظاهر أنه لم يأت بهؤلاء الصحابة - رضي الله عنهم - الحسد لإخوانهم الأغنياء، لا بل جاء بهم حب المبادرة، والرغبة في السبق والمنافسة في فعل الطاعات، فهم يريدون أن يلحقوا بإخوانهم ليحرزوا من الأجر ما أحرزوه، وهكذا يوجههم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يحقق رغبتهم ويخفف ما بهم، من غير أن يوجههم إلى المنافسة في الدنيا وجمع الأموال، وإن كان بغرض التصدق والطاعات.
" وهؤلاء الأوس والخزرج، كانوا في الجاهلية يتنافسون في العداوة، والبغضاء، والحروب، والثارات، فكان مما صنع الله به لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أنهما أصبحا بعد الإسلام يتصاولان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصاول الفحلين، لا تصنع
__________
(1) صحيح البخاري '' الأذان '' (2 \ 325) ، صحيح مسلم '' المساجد '' (1 \ 416 - 417) .(37/274)
الأوس شيئا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غناء إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذا فضلا علينا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الإسلام، فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك، فقد قتلت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت الخزرج: والله لا تذهبون بها فضلا علينا أبدا، فتذاكروا من رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله فأذن لهم فذهبوا إليه فقتلوه. . . " (1) .
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأسماء بنت عميس - رضي الله عنها - وقد قدمت مع من قدم من الحبشة في السفينة -: «آلحبشية هذه؟ آلبحرية هذه؟ فقالت: نعم. فقال عمر: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منكم فغضبت. . . وقالت: وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. . . فلما أخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس بأحق بي منكم وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أصحاب السفينة هجرتان، قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى، وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا يسألونني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم (2) » -.
وهكذا لا يخفى ما في هذا الخبر من حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على السبق والمبادرة والتنافس في أمور الآخرة، كما لا يخفى ما أصاب هذه الصحابية - عندما قال لها عمر: سبقناكم. . . - من غضب
__________
(1) سيرة ابن هشام (مجلد 2 ص 273 - 275) .
(2) صحيح البخاري '' المغازي '' (7 \ 484) ، صحيح مسلم '' فضائل الصحابة '' (4 \ 1946) .(37/275)
واضطراب نفسي حتى إنها عافت الأكل والشرب ولم تهدأ حتى سمعت قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان لقوله هذا وقع كبير عليها وعلى أصحاب السفينة لدرجة أنهم كانوا يأتونها أرسالا يسمعون منها هذا الخبر ويستذكرونه.(37/276)
نماذج من مبادرات الصحابة وتنافسهم في الجهاد في سبيل الله:
وسأقتصر هنا على ذكر نماذج من جهاد الصحابة بالأموال والأنفس في سبيل الله وتنافسهم في هذا، وذلك لأن النفس والمال هما خير ما يملك الإنسان بعد تقوى الله عز وجل، وهما أكثر ما يحرص عليه الناس في دنياهم، فمن يضحي بنفسه في سبيل الله، ويضحي كذلك بماله يكون من باب أولى أن يبذل ما عداهما، والصحابة - رضوان الله عليهم - بما امتن الله عليهم من معايشة التنزيل ومصاحبة البشير النذير قد سطروا أروع الأمثلة في هذا المجال، وإليك - زيادة على ما ذكر آنفا - نماذج من هذا الجهاد والتنافس فيه.
أولا - الجهاد بالأنفس وحب الاستشهاد في سبيل الله:
زيادة على ما مر من أمثلة كثيرة حول جهاد الصحابة - رضي الله عنهم - بالأنفس فإنني سأذكر هنا - أيضا - نماذج توضح سبقهم وتنافسهم في حب الشهادة.
فقد حرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - الناس على الجهاد يوم بدر وقال: «لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة (1) » فقال عمير بن الحمام: (وفي يده تمرات يأكلهن) بخ بخ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء، ثم قذف التمرات من يده،
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/352) .(37/276)
وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل (1) .
وقد غاب أنس بن النضر - رضي الله عنه - عن بدر فشق عليه ذلك وقال: «لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد أسرع إلى المعركة، وهو يقول: إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ضربة وطعنة ورمية فقالت أخته: فما عرفت أخي إلا ببنانه (2) » .
وقد رصد معاذ بن عمرو بن الجموح أبا جهل في بدر حتى أمكنه الله منه فقطع رجله قال عمرو: (وضربني ابنه - يعني ابن أبي جهل - فطرح يدي، فتعلقت بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنها، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها) (3) .
ولا يخفى مدى صبر هذا الصحابي ومصابرته، إذ أشغله القتال عن يده وبقي يسحبها خلفه، وأخيرا رمى بها.
وهذا عمرو بن الجموح رجل شديد العرج وهو ممن عذر الله، وله أربعة أبناء مثل الأسد يشهدون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشاهد، يصر على الخروج يوم أحد قائلا: (إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة) فقتل شهيدا (4) .
__________
(1) سيرة ابن هشام (المجلد الأول ص 627) .
(2) صحيح البخاري '' الجهاد '' باب قوله تعالى: (من المؤمنين رجال صدقوا) (6 \ 21) ، سيرة ابن هشام (المجلد الثاني ص 83) .
(3) سيرة ابن هشام (المجلد الأول ص 635) .
(4) سيرة ابن هشام (المجلد الثاني ص 90) .(37/277)
ولما طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أصحاب أحد الخروج في اليوم الثاني طلبا للقوم، وقد أصاب المسلمين ما أصابهم من ألم وجراح خرجوا من غير تردد أو تذمر، فقد قال رجل من بني عبد الأشهل: (شهدت أحدا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وأخ لي فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخروج في طلب العدو قلت لأخي: أو قال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت أيسر جرحا فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون) (1) .
وقد كان حسيل بن جابر اليماني " وقيل حسل "، وثابت بن وقش شيخين كبيرين، فبقيا مع النساء والصبيان في غزوة أحد فقال أحدهما لصاحبه: (لا أبا لك ما تنظر؟ فوالله ما بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار، إنما نحن هامة اليوم أو غد، أفلا نأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعل الله يرزقنا شهادة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس ولم يعلم بهما، فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولا يعرفونه (2) .
ولما قرأ أبو طلحة - رضي الله عنه - قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) . قال: (أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبانا جهزوني يا بني فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت
__________
(1) سيرة ابن هشام (المجلد الثاني ص 101) .
(2) سيرة ابن هشام (المجلد الثاني ص 87) .
(3) سورة التوبة الآية 41(37/278)
مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مات ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك فأبى فركب البحر فمات. . . .) (1) .
وقد حضرت أم عمارة نسيبة بنت كعب - رضي الله عنها - أحدا تسقي الماء، فلما انهزم المسلمون انحازت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقامت تباشر القتال، وتذب عنه بالسيف، وترمي عنه بالقوس حتى خلصت الجراحة إليها (2) .
وكانت أم سليم بنت ملحان - رضي الله عنها - ممسكة بخطام جملها صامدة مع من صمد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ومعها خنجر تقول: «إن دنا مني أحد من المشركين بعجته وتقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك فإنك لذلك أهل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أو يكفي الله يا أم سليم (3) » .
وقد بادر أولاد الصحابة - رضي الله عنهم - في الاشتراك في الجهاد، فهذا معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، يقف أحدهما عن يمين عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -، والآخر عن يساره، ويقول كل واحد منهما لعبد الرحمن سرا عن صاحبه: «يا عم هل تعرف أبا جهل؟ فيقول عبد الرحمن: نعم ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ فيقول الشاب: أخبرت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، يقول عبد الرحمن: فتعجبت لذلك، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ابتدراه بسيفيهما
__________
(1) تفسير ابن كثير (2 \ 359) .
(2) عيون الآثار (2 \ 21) .
(3) سيرة ابن هشام (المجلد الثاني ص 446) .(37/279)
فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته (1) » .
وقد سبق أن معاذا قطع رجل أبي جهل، وأن ابن أبي جهل قطع يد معاذ ولا منافاة بين الخبرين، والله أعلم.
(وقد عرض رافع بن خديج على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر فرده لصغر سنه ثم أجازه في أحد، وجاء سمرة بن جندب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرده، فقال سمرة: أجزت رافعا ولو صارعته لصرعته، فصارع رافعا بحضرته فصرعه فأجازه، وكان رافع ابن خمس عشرة سنة وكان راميا) (2) .
وقد «أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيفا يوم أحد فقال: (" من يأخذ مني هذا "؟ فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا. فقال: " من يأخذه بحقه "؟ فأخذه سماك أبو دجانة وقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: " أن تضرب به العدو حتى ينحني "، فأخذه وأخرج عصابة حمراء تسمى عصابة الموت فعصب بها رأسه وجعل يتبختر، وهي علامة، على شدة بأسه واستعداده لإعطاء هذا السيف حقه كما وعد) (3) » .
وهذا «علي - رضي الله عنه - كان قد تخلف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رمدا، فخرج فلحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قال رسول الله: لأعطين هذه الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله
__________
(1) انظر القصة في صحيح البخاري '' فرض الخمس '' (6 \ 246) ، وفي '' المغازي '' (7 \ 307) .
(2) سيرة ابن هشام (المجلد الثاني ص 66) ، الإصابة (2 \ 79) .
(3) انظر صحيح مسلم '' فضائل الصحابة '' (4 \ 1917) ، سيرة ابن هشام (المجلد الثاني ص 66) .(37/280)
يفتح الله على يديه ". قال عمر بن الخطاب: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ، قال: فتساورت لها رجاء أن أدعى لها، وفي بعض الألفاظ: فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها قال: فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجو أن يعطاها، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب فأعطاه إياها وقال: امش على رسلك ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت، فصرخ: يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس؟ . . . . . (1) » إلخ.
ولا يخفى ما في هذه القصة من تسابق الصحابة. وتنافسهم على أخذ الراية والفوز بمحبة الله ورسوله، كما لا يخفى موقف علي - رضي الله عنه - وخروجه إلى الغزو متناسيا ما به من ألم الرمد وغير متعلل بذلك.
وهذا أبو محجن الثقفي - رضي الله عنه -، كان سجينا في بيت سعد بن أبي وقاص أثناء معركة القادسية، وكان سعد مريضا - يومئذ - وفرسه تجول، فتعطش أبو محجن إلى القتال، ولم يصبر عن المسارعة إلى أداء الواجب والاشتراك في المعركة فطلب من زوج سعد أن تخلي سبيله، ويعدها إن سلمه الله أن يأتي ويضع رجله في القيد، وهكذا يخرج أبو محجن على فرس سعد ويبلي بلاء حسنا، فيتعجب الناس له، ثم يعود ويضع رجله في القيد كما وعد (2) .
وهكذا لم يمنع السجن أو القيد هذا البطل من القيام بالواجب، وكان من الممكن أن يقول يكفيني ما أنا فيه من سجن، وقيد، وهم،
__________
(1) صحيح البخاري '' فضائل الصحابة '' (7 \ 70) ، صحيح مسلم '' فضائل الصحابة '' (4 \ 1871 - 1873) ، والنص بشيء من التصرف.
(2) انظر الإصابة (4 \ 173 - 174) .(37/281)
وحزن أن لو كان الأمر أمرا سهلا أو أمر أعذار ومراوغة، ولكنها التربية الجهادية التي أشربها الصحابة أجمعون، ومنهم هذا البطل.
وهكذا فإن حب الشهادة وحب لقاء الله قد سرى في عروقهم، وأشربتها قلوبهم، فكان الواحد منهم يطير إلى الشهادة حامدا الله شاكرا لأنعمه مودعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - داعيا له إذ كان سببا في بلوغه هذه النعمة، فالجراح وآلامها ومفارقة الدنيا والأحباب كل ذلك لا ينسيهم توديعهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
فهذا سعد بن الربيع يقول لمن أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - لينظر هل في الأحياء هو أم في الأموات؟ وذلك في غزوة أحد، قال سعد: (أنا في الأموات فأبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عني السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن الربيع يقول لكم: إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ومنكم عين تطرف، قال الرجل ثم لم أبرح حتى مات) (1) .
وهذه امرأة من بني دينار ينعى لها يوم أحد زوجها، وأخوها، وأبوها وتقول: فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالوا: خيرا يا أم فلان وتقول: أرونيه حتى أنظر إليه؟ فلما رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل (2) ، تريد صغيرة.
وهذا أبو عامر الأشعري - رضي الله عنه - أمير جيش أوطاس أصيب في تلك السرية، وأمر أبا موسى الأشعري بعده وقال له: أقرئ النبي - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) سيرة ابن هشام (المجلد الثاني ص 94 - 95) ، الإصابة (2 \ 26) ، الموطأ (2 \ 466) .
(2) سيرة ابن هشام (المجلد الثاني ص 99) .(37/282)
وقل له: استغفر لي، ثم مات (1) .
ثانيا: الجهاد بالأموال في سبيل الله:
فلم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - ليبذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل الله، ثم يضنوا بأموالهم فلا ينفقونها في سبيل الله، بل إنهم ضربوا أروع الأمثلة في البذل، والعطاء، والتضحية، والبلاء، سواء منهم المقل، أو المكثر، الأنصاري، أو المهاجر، وكيف لا يكونون كذلك وقد كان المهاجرون هجروا أرضهم، وديارهم، وأقرباءهم، وأموالهم وأرخصوها في سبيل الله.
فهذا صهيب - رضي الله عنه - مثلا - تمنعه قريش من الهجرة، فيتخلى لهم عن جميع ماله مقابل أن يخلوا سبيله، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ربح صهيب، ربح صهيب (2) » .
وهؤلاء الأنصار في العقبة الثانية يبايعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن يحموه وإن أدى ذلك إلى مصيبة الأموال وهلاكها وقتل الأشراف والأبناء، ولهم بذلك الجنة (3) . وعندما جاءهم المهاجرون استقبلوهم، وآووهم، وآزروهم كما هو معروف.
ومن الأمثلة على مبادرة الصحابة - رضي الله عنهم - بالمال وجهادهم في ذلك ومنافستهم فيه - زيادة على ما ذكر -.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «سبق درهم مائة ألف درهم قالوا: كيف؟ قال: كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله
__________
(1) صحيح البخاري '' المغازي '' (8 \ 41) .
(2) سيرة ابن هشام (المجلد الأول ص 477) ، الإصابة (2 \ 195) .
(3) سيرة ابن هشام (المجلد الأول ص 446) .(37/283)
فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها (1) » .
فهكذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشجع أصحابه على التنافس في الجهاد بالأموال.
وعن أبي مسعود برواية شقيق عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بالصدقة، فما يجد أحدنا شيئا يتصدق به حتى ينطلق إلى السوق فيحمل على ظهره فيجيء بالمد فيعطيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني لأعرف اليوم رجلا له مائة ألف ما كان له يومئذ درهم (2) » .
ويحث النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه على الصدقة، فيتصدق عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - وغيره من الأغنياء بمال كثير، ويجيء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر، قد كان بات ليلته يجر] بالجرير على صاعين فيترك صاعا لعياله ويتصدق بالآخر، وكان تصدق هؤلاء الصحابة من أغنياء وفقراء كل بحسب طاقته ووسعه شيئا رائعا، مما جعل المنافقين ومرضى القلوب يلمزونهم ويتهمونهم (3) .
وقد «جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة وعوز شديد، فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى رؤي ذلك في وجهه، فخطب الناس وحثهم على الصدقة، فتسابق الناس فجاء رجل من الأنصار بصرة من ورق، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سن في الإسلام
__________
(1) سنن النسائي '' الزكاة '' باب جهد المقل (5 \ 59) .
(2) سنن النسائي '' الزكاة '' باب جهد المقل (5 \ 59) .
(3) انظر صحيح البخاري '' التفسير '' (8 \ 330) ، تفسير أبي السعود (2 \ 581 - 582) .(37/284)
سنة حسن فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء (1) » .
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر - رضي الله عنه - بكل ما عنده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا (2) » .
وقال عمر - رضي الله عنه - في حديث آخر:. . . . إنه - يعني أبا بكر - سباق بالخيرات ما استبقنا خيرا قط، إلا سبقنا إليها أبو بكر (3) .
وهكذا فإن الأمثلة على تسابق الصحابة - رضي الله عنهم - في الجهاد بالأنفس والأموال في سبيل الله كثيرة لا يحصيها عاد، ولا يستقصيها مستقص، ولا يستوعبها ديوان جامع، وليس في هذا فحسب بل كانوا سباقين في جميع الميادين الخيرة وما أكثرها، مبادرين في كل الظروف والأحوال، مما جعلهم يستحقون ثناء الله تعالى، وثناء رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليهم وهم أهل لكل ذلك، فرضي الله عنهم جميعهم وأرضاهم.
__________
(1) صحيح مسلم '' الزكاة '' (2 \ 705) .
(2) سنن أبي داود '' الزكاة '' (2 \ 129) ، جامع الترمذي '' المناقب '' (10 \ 161) وقال: حسن صحيح.
(3) مسند أحمد (1 \ 38) .(37/285)
6 - من نتائج المبادرة والمسابقة وآثارها على الصحابة - رضي الله عنهم -
مما لا شك فيه أن الصحابة - رضي الله عنهم - هم أفضل الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم -، وكان هذا الفضل بسبب السبق إلى الإسلام وشرف صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتضحية بالنفوس وبكل ما هو نفيس لإعلاء كلمة التوحيد، ولا يخفى أن لكل بداية صعوبات إذ مرحلة التكوين أو التأسيس ليست كالمراحل التالية لها، وهكذا فإن السبق والمبادرة إلى فعل الخيرات كان له أثر كبير على حياة الصحابة - رضي الله عنهم - أفرادا، وجماعات، بل وعلى غيرهم سواء ممن عاصرهم وأدركهم من المسلمين، أو لم يعاصرهم وهذا الأمر وإن كان واضحا ظاهرا من خلال ما مر سابقا في هذا البحث إلا أنني سأبرز بعض هذه النتائج والآثار نظرا لما لها من أهمية بالغة في حياة الأمة، فمن هذه الآثار:
أولا - الفوز بالدرجات العلى والمكانة العظيمة في العاجلة والآجلة:
فمن الثابت في الكتاب والسنة واتفاق الأمة أن الصحابة - رضي الله عنهم - هم أفضل الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم -، وهم مع تفضيلهم على غيرهم يتفاضلون - أيضا - فيما بينهم بحسب سبقهم وجهادهم، فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل من غيرهم ممن جاء بعدهم، ولأهل بدر من هؤلاء ما ليس لغيرهم، ولمن أسلم من قبل الفتح وهاجر وجاهد بماله ونفسه من الفضل ما ليس لمن فعل هذا بعد الفتح، وهكذا يوجد أيضا - لبعض الأشخاص من جميع هؤلاء ما لغيرهم بالجملة،(37/286)
وذلك لسبقهم وشدة بلائهم وتضحياتهم.
ولهذا فقد قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) .
وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} (2) {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} (3) {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (4) {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} (5) {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} (6) .
وقال تعالى:. . . . . {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (7) .
وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (8) {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (9) .
وقال الحافظ ابن حجر تعليقا على حديث حذيفة - رضي الله عنه - إذ قال: «يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيدا (10) » . . . (11) قال ابن حجر: قوله: سبقا بعيدا: أي ظاهرا ووصفه بالبعد لأنه غاية شأو السابقين، والمراد أنه خاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام، فإذا تمسك بالكتاب والسنة سبق إلى كل خير، لأن من جاء بعده إن عمل بعمله لم
__________
(1) سورة التوبة الآية 100
(2) سورة الواقعة الآية 10
(3) سورة الواقعة الآية 11
(4) سورة الواقعة الآية 12
(5) سورة الواقعة الآية 13
(6) سورة الواقعة الآية 14
(7) سورة الحديد الآية 10
(8) سورة النساء الآية 95
(9) سورة النساء الآية 96
(10) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7282) .
(11) صحيح البخاري '' الاعتصام '' (13 \ 250) .(37/287)
يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام، وإلا فهو أبعد منه حسا وحكما (1) .
ولقد عرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه - فضله على غيره، وذلك لأنه حائز قصب سبق الأمة إلى الإسلام، وإلى مؤازرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وملازمته ولهذا فقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي (2) » قالها مرتين فما أوذي بعدها (3) .
ولم يزل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مفضلا خديجة - رضي الله عنها - على سائر أزواجه وذلك لسبقها وفدائها الإسلام بنفسها ومالها، وتضحيتها البالغة في ذلك، وهذا ما جعل عائشة - رضي الله عنها - تغار منها إذ قالت: «ما غرت على امرأة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما غرت على خديجة لكثرة ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياها وثنائه عليها، وقد أوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبشرها ببيت لها في الجنة من قصب (4) » .
وقال عمر - رضي الله عنه - لعدي بن حاتم: أسلمت إذ كفروا وأقبلت إذ أدبروا ووفيت إذ غدروا، وعرفت إذ أنكروا فقال عدي: فلا أبالي إذن (5) .
وقال عمر لعدي أيضا: إن أول صدقة بيضت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجوه أصحابه صدقة طيء جئت بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6) ، وقول عمر
__________
(1) فتح الباري (13 \ 257) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3661) .
(3) انظر القصة ومناسبة هذا الحديث في صحيح البخاري '' فضائل الصحابة '' (7 \ 18) .
(4) صحيح البخاري '' نكاح '' (9 \ 336) .
(5) صحيح البخاري '' المغازي '' (8 \ 102) .
(6) صحيح مسلم '' فضائل الصحابة '' (4 \ 1957) .(37/288)
هذا وإن كان فيه تفضيل نسبي، إلا أنه له دلالته بشكل عام.
وهكذا فإنه لا يخفى ما لاقى الصحابة السابقون من الابتلاءات والمحن والمصاعب والفتن، كل هذا وهم صابرون على قلة عددهم وضيق ذات يدهم، فبقيت قافلة الإيمان سائرة، وكذا قافلة الشهداء إلى أن قوي الإسلام واكتمل نوره، واندحر الشرك وعفا أثره، ولهذا استحق هؤلاء السابقون إلى الخيرات السبق إلى رضوان الله وأعلى الدرجات، إذ الجزاء من جنس العمل فهنيئا لهم رضي الله عنهم.
ثانيا - السبق والمبادرة دليل على وجود الخشية من الله عز وجل لدى الإنسان:
فالصحابة - رضي الله عنهم - وإن كانوا أفضل الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - إلا أن الصفة الغالبة عليهم هي الخشية والخوف من الله عز وجل، والسبق غالبا ما يدل دلالة واضحة على هذه الخشية، بل هو أثر من آثارها، فكلما وجد السبق أو تكرر كان ذلك مؤشرا على وجود الخشية وحجمها لدى المبادر، ولهذا يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (1) {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} (2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة (3) » . فالخشية والسبق متلازمان، ويتأثر كل واحد منهما بالآخر ويتجدد به، وهكذا كان الصحابة - رضي الله عنهم -
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 60
(2) سورة المؤمنون الآية 61
(3) جامع الترمذي '' صفة القيامة '' (7 \ 146) وقال الترمذي: حسن غريب.(37/289)
في أغلب أحوالهم مبادرة وخشية.
ثالثا - السابق والمبادر غالبا ما يثبت على سبقه، بل قد يتقدم دون تأخر:
إن من طبائع الناس عموما وعلى اختلاف مذاهبهم وأهوائهم حب الازدياد، فمن كانت الدنيا وشهواتها همه ومطلبه لا يزال يسابق وينافس طلبا للمزيد منها دون كلل أو شبع، ومن كان همه طلب العلم والتفوق فيه على أقرانه لا يزال يدأب ويجهد محاولا البقاء على مستواه دونما تأخر أو تراجع، وطلب الآخرة والمبادرة بالخيرات والسبق فيها من باب أولى أن يحرص على الاستمرار وعدم التراجع، بل يطمع في الازدياد والتقدم دون فتور أو ملل مهما كانت الصعوبات والتضحيات.
فهذا كعب بن مالك - رضي الله عنه -، قد وصل به الحال ما وصل من مقاطعة أصحابه إياه وأمر - أخيرا - باعتزال زوجته وقد جاءه وهو في هذه الحال التي مر ذكرها - كتاب من ملك غسان يدعوه بل يرجوه فيه أن يلحق به، ليواسيه ويعرف له حقه وقدره، ولكنه مع كل هذا أحرق الكتاب، وصبر هو وصاحباه حتى تاب الله عليهم.
وهؤلاء أهل الحديبية مع شدة حبهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتسابقهم على إرضائه وحبه يأخذهم موقف الصلح - كما سبق - ويقفون حائرين لأنهم كانوا يعتقدون أنهم سابقون منصورون فلم يسالموا أو يصالحوا، ويرجعون دون أداء نسكهم ودخولهم مكة.
وهذا بلال، وعمار، وياسر، وسمية، وغيرهم من الضعفاء يسامون أشد ألوان العذاب والابتلاء، فكانوا كلما ألهبت جلودهم السياط، أو(37/290)
الصخور الصماء تطلعوا عليا إلى السماء وكلما ذكرت لهم عبادة الأسياد والآباء ازدادوا لربهم توحيدا وثناء، وهكذا كانوا طوال بقائهم صبرا ومضاء، فرضي الله عنهم وأرضاهم.
رابعا - السبق أو المبادرة فرص ثمينة يفوز بثمراتها المبادرون فيها وإلا فلربما يصرف الإنسان عنها ويندم على فواتها:
ولهذا فقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - سابقين مغتنمين الفرص الطاعات مجندين كل طاقاتهم وقدراتهم لذلك، فكلما لاحت لأحد فرصة في عمل الخير والطاعة سبق إليها من غير انتظار، أو تسويف وذلك خشية من تغير الأحوال وتضييع الفرص إذ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (1) .
وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (2) .
ولهذا فقد قال العلماء: إن المرء إذا لاحت له فرصة في الطاعة فحقه أن يبادر إليها ولا يسوف لئلا يحرمها (3) ، ولقد جاء في الحديث الذي قال فيه - صلى الله عليه وسلم -: «يدخل الجنة سبعون ألفا بغير حساب. . . . . فقال عكاشة ابن محصن: أمنهم أنا يا رسول الله؟ قال: " نعم " فقال آخر: أمنهم أنا؟ قال: " سبقك بها عكاشة (4) » .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 24
(2) سورة الأنعام الآية 110
(3) فتح الباري (8 \ 124) .
(4) صحيح البخاري '' الطب '' (10 \ 155) .(37/291)
وهكذا فقد كان لاستغلال الفرص والمبادرات فيها أكبر الأثر على الصحابة - رضي الله عنهم - وعلى من بعدهم - كما مر -.
خامسا - السبق أو المبادرة إلى الخيرات يلائم الفطرة:
فالإكثار من هذه المبادرات ينمي هذا الخلق عند صاحبه، ويحول بينه وبين الهبوط إلى الرذائل أو المغريات المادية الدنيوية.
والصحابة - رضوان الله عليهم - طلبوا الدنيا وزهدوا فيها في آن واحد، وذلك أنهم طلبوها واشتغلوا بها من جهة أنها عون على شكر الله عليها، ومركب للآخرة فكان طلبهم لها - والحالة هذه - عبادة من جملة عباداتهم، وتركوها وزهدوا فيها من جهة أنها مقتنص للذات، ومآل للشهوات، ومجرد نوال مأكول ومشروب وملبوس ومركوب فحسب، فكان تركهم لها على هذا المعنى أيضا عبادة من جملة عباداتهم، ولهذا فقد كان انشغالهم بها على معنى أنها عبادة، فبادروا إلى كل ما من شأنه أن يعود عليهم وعلى الأمة بالنفع الأخروي.
سادسا - الشعور بالطمأنينة النفسية والغبطة والسرور:
فنظرا لما في المبادرة أو السبق من إرضاء للرب - عز وجل - واتباع لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وإعزاز للإسلام وأهله وإرغام للشيطان وحزبه، فإن المبادرين السابقين بالخيرات يسرون لذلك وتحصل لهم السكينة والطمأينة، بل والغبطة لفعلهم هذا، الأمر الذي يجعلهم يستمرون في عملهم ويزدادون في سبقهم.
وقد ترجم البخاري لحديث: «لا حسد إلا في اثنتين (1) » . . . فقال: باب اغتباط صاحب القرآن، ومما ذكر ابن حجر تعليقا على هذه الترجمة
__________
(1) صحيح البخاري العلم (73) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (816) ، سنن ابن ماجه الزهد (4208) ، مسند أحمد بن حنبل (1/432) .(37/292)
قال: وهذا فعل صاحب القرآن فهو الذي يغتبط، وإذا كان يغتبط بفعل نفسه كان معناه أنه يسر ويرتاح بعمل نفسه، وقيل: معناه: أن غير صاحب القرآن يغتبط صاحب القرآن بما أعطيه من العمل بالقرآن، فاغتباط صاحب القرآن بعمل نفسه أولى إذا سمع هذه البشارة الواردة في حديث الصادق (1) .
فالصحابة - رضي الله عنهم - وإن كان الخوف والخشية من الله - سبحانه وتعالى - خلقا غالبا عليهم ودافعا ملازما لهم يدفعهم - دائما - إلى المبادرة والسبق في الطاعة، إلا أنهم كانوا في الوقت نفسه كلهم أملا ورجاء بالله وتوكلا عليه، واستغناء به عن أحد من خلقه، وطمأنينة بحكمه وقضائه وكان هذا الأمل والاطمئنان كذلك دافعا وحافزا لهم على السبق والمبادرة، الأمر الذي جعلهم يضاعفون جهودهم ويتسابقون إلى فعل الخيرات مما كان له كبير الأثر عليهم وعلى الأمة من بعدهم.
__________
(1) فتح الباري (9 \ 73) .(37/293)
سابعا - المبادرة والمسابقة فيها تنشيط للهمم وإذكاء للعزائم وبعث لروح المنافسة بوجود القدوة:
وهكذا فإن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا روحا نابضة، وقوة متجددة، وصفحة مشرقة لم تزدها الأيام إلا قوة ومضاء ولا الأحداث إلا نصوعا وإشراقا، فكانوا يبادرون إلى كل خير ويتنافسون في الاستباق إليه، ويكفيهم فخرا وعزا أنهم - على رغم ما مروا به من ظروف قاسية - سطروا أروع الأمثلة وأنصعها في بلوغ الكمال الإنساني، إذ من السابقين المضحين(37/293)
منهم تكون نواة لمجتمع رباني نما واتسع فيما بعد بسرعة فائقة حتى عم خيره بقاع الدنيا بأسرها، ولا تزال آثاره باقية بفضل الله تعالى.
فهذا الذي فعلوه وحققوه ليس ضربا من ضروب الأحلام، أو الخيال، أو المحال، لا بل هو مثال واقع محسوس في دنيا الناس وعلى أرضهم، وسنة سنوها وحازوا سبقها فنالوا أجرها وأجر من تبعهم فيها.
وأخيرا فلئن كانت حياة الصحابة - رضي الله عنهم - كلها مليئة بالصور المضيئة المشرقة فإنني لأرجو أن أكون قد وفقت في عرضي لجانب من هذه الجوانب المشرقة من حياتهم، وذلك تذكيرا بجهادهم وسبقهم وتنويها بمنزلتهم وفضلهم.
سائلا الله أن يجزيهم عنا خير الجزاء، وأن يمتن علينا بحسن الاتباع والاقتداء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(37/294)
المراجع
1 - القرآن الكريم.
2 - إحياء علوم الدين: الإمام أبو حامد الغزالي (ت: 505) دار القلم، بيروت، ط 1.
3 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (تفسير أبي السعود) : أبو السعود ابن محمد العمادي (ت: 982 هـ) . تحقيق: عبد القادر عطا. نشر مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.
4 - الاستيعاب في أسماء الأصحاب: أبو عمر يوسف بن عبد البر (ت: 463) مطبعة السعادة، مصر، ط 1، 1328 هـ بهامش الإصابة.
5 - أسد الغابة في معرفة الصحابة: ابن الأثير الجزري (ت: 630 هـ) ، دار الفكر.
6 - الإصابة في تمييز الصحابة: الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت: 852) ، دار صادر، بيروت.
7 - اقتضاء العلم العمل: الخطيب البغدادي (ت: 463) ، تحقيق: محمد ناصر الدين الألباني، ط 5، سنة 1404 هـ.
8 - الأم: محمد بن إدريس الشافعي (ت: 204، دار المعرفة، بيروت، إشراف: محمد النجار.
9 - تفسير القرآن العظيم: إسماعيل بن كثير (ت: 774) ، طبعة دار إحياء الكتب العربية، مصر.(37/295)
10 - تلخيص المستدرك: أبو عبد الله الذهبي (ت: 748) بهامش المستدرك.
11 - جامع البيان عن تأويل القرآن (تفسير الطبري) : أبو جعفر محمد بن جرير (ت: 310) . تحقيق: أحمد شاكر، ومحمود شاكر، نشر مكتبة ابن تيمية، ط 2.
12 - الجامع الصحيح: محمد بن إسماعيل البخاري مع شرح فتح الباري، المطبعة السلفية، القاهرة، 1380 هـ.
13 - الجامع الصحيح: مسلم بن الحجاج النيسابوري: ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي.
14 - الجامع الصحيح: أبو عيسى الترمذي بشرح تحفة الأحوذي. مطبعة المدني، 1383 هـ.
15 - السنن: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني. دار إحياء السنة النبوية.
16 - السنن: أحمد بن شعيب النسائي (ت: 303 هـ) اعتناء وترقيم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، ط 2، بيروت، 1409 هـ.
17 - السنن الكبرى: أحمد بن الحسين البيهقي (ت: 458) ، حيدر آباد الدكن، الهند، ط1، 1314 هـ.
18 - السيرة النبوية: أبو محمد عبد الملك بن هشام. تحقيق: مصطفى السقا وآخرين، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، ط 2، 1375 هـ.
19 - شرح صحيح مسلم: محيي الدين بن شرف النووي (ت: 676 هـ) ، المطبعة المصرية.(37/296)
20 - الصحيح: أبو حاتم محمد بن حبان البستي (ت: 354) ، ترتيب علاء الدين الفارسي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وحسين أسد، مؤسسة الرسالة، ط 1، 1404 هـ.
21 - عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير: ابن سيد الناس، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط 1، 1977 م.
22 - فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني. المكتبة السلفية. القاهرة، 1380 هـ.
23 - لسان العرب: محمد بن مكرم بن منظور، دار صادر، بيروت.
24 - المستدرك على الصحيحين: الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم (ت: 405) ، دار الفكر، بيروت، 1398 هـ.
25 - المسند: أحمد بن حنبل، المكتب الإسلامي، دار صادر، بيروت.
26 - الموطأ: مالك بن أنس، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة(37/297)
صفحة فارغة(37/298)
بطلان أدلة المجاز
بقلم
د. مصطفى عيد الصياصنة
الحديث عن (المجاز) حديث جد دقيق، يتطلب قدرا وافيا من الروية، وإعمال الفكر والبصيرة النافذة، من أجل إدراك ماهيته، والوقوف على ما ادعي من مظاهره، وتبين مآلات القول به ومؤداه.
مذاهب العلماء في قضية المجاز:
ومن المعلوم أن متأخري العلماء، قد انقسموا - بصدد قضية المجاز إلى طرفين ووسط:
(أ) فريق قال بوجود المجاز في اللغة والقرآن معا، ودعم ما ذهب إليه بمجموعة من الأدلة العقلية، كأبي حسن الآمدي صاحب كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) ، وجار الله الزمخشري صاحب (الكشاف) و (أساس البلاغة) ، والفخر الرازي صاحب التفسير، وابن حجر العسقلاني في كتابه، (غراس الأساس) حيث جمع فيه المجازات الواردة في (أساس البلاغة) ، وإن كان أسقط بعضها أحيانا، فإنه زاد عليها مجازات لم يقل بها الزمخشري أحيانا أخرى.(37/299)
وقد كان الإمام الشوكاني في كتابه (إرشاد الفحول) ممن نحا هذا المنحى، بل إنه ذهب إلى اتهام كل من ينكر وقوع المجاز في القرآن أو لغة العرب بالجهل وقلة الاطلاع، قال - رحمه الله -: (المجاز واقع في لغة العرب عند جمهور أهل العلم، وخالف في ذلك أبو إسحاق الإسفرائيني، وهذا يدل أبلغ دلالة على عدم اطلاعه على لغة العرب، وينادي بأعلى صوت، بأن سبب هذا الخلاف، تفريطه في الاطلاع على ما ينبغي الاطلاع عليه، من هذه اللغة الشريفة، وما اشتملت عليه من الحقائق والمجازات التي لا تخفى على من له أدنى معرفة بها، فإن وقوع المجاز وكثرته في اللغة العربية أشهر من نار على علم، وأوضح من شمس النهار.
وكما أن المجاز واقع في لغة العرب، فهو أيضا واقع في الكتاب العزيز، عند الجماهير وقوعا كثيرا، بحيث لا يخفى إلا على من لا يفرق بين الحقيقة والمجاز.
وقد روي عن الظاهرية نفيه عن الكتاب العزيز، وما هذا بأول مسائلهم، التي جمدوا فيها، جمودا يأباه الإنصاف، وينكره الفهم، ويجحده العقل.
وكما أن المجاز واقع في الكتاب العزيز وقوعا كثيرا، فهو أيضا واقع في السنة وقوعا كثيرا، والإنكار لهذا الواقع مباهتة، لا يستحق المجاوبة.
أما ابن جني وشيخه أبو علي الفارسي، فقد توسعا - في القول بالمجاز - توسعا، لم يسبقهما إليه أحد، إذ زعما أن عامة ألفاظ العربية، وأكثر(37/300)
ما ورد فيها من أفعال، إنما هي من قبيل المجاز لا الحقيقة.
(ب) وأنكر فريق وجود المجاز في القرآن الكريم ولغة العرب بالكلية، وممن أنكره أبو إسحاق الأسفرائيني، والإمام ابن تيمية في فتاويه، وتبعه تلميذه ابن القيم في (الصواعق المرسلة) حيث عقد فيه فصلا مطولا بعنوان (فصل في كسر الطاغوت الثالث الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائق الأسماء والصفات، وهو طاغوت المجاز) ، وقد ذكر فيه أكثر من خمسين وجها، في إبطال حجج القائلين بالمجاز، وكشف عواره، وما له من سيئ الأثر على عقيدة المسلم وتوجيه آيات الله في كتابه العزيز (1) .
(ج) أما الفريق الوسط، فقد ذهبوا إلى أن المجاز موجود في اللغة، إلا أن وجوده في القرآن مردود، وممن قال بذلك، محمد بن خويز منداد البصري المالكي، وداود بن علي الأصبهاني، وابن القاص الشافعي ومنذر بن سعيد البلوطي، الذي ذكر ابن تيمية عنه في فتاويه، أنه صنف كتابا في نفيه عن القرآن (2) . وقد قال بقولهم الشيخ محمد أمين الشنقيطي، في رسالته الموسومة بـ (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز) .
وقد ذهب الظاهرية أيضا، إلى نفيه عن الكتاب العزيز، وإن كان الإمام ابن حزم قد اتخذ موقفا متأرجحا، حيث قسم الأسماء الواردة في
__________
(1) انظر: (مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة) نشر إدارات البحوث بالرياض (2 \ 1 - 231) .
(2) الفتاوى لابن تيمية جمع عبد الرحمن بن محمد القاسم (7 \ 89) ، الطبعة الأولى.(37/301)
القرآن إلى ألفاظ تعبدنا بها قولا وعملا، فهذه ليس فيها شيء من المجاز، وألفاظ موضوعة في اللغة لمعنى تعبدنا بالعمل به، دون التزام اسمه، فهذه هي التي يقع فيها المجاز، قال - رحمه الله -: (فكل كلمة نقلها تعالى عن موضوعها في اللغة إلى معنى آخر، فإن كان تعالى تعبدنا بها قولا وعملا، كالصلاة والزكاة والحج والصيام والربا وغير ذلك، فليس شيء من هذا مجازا، بل هي تسمية صحيحة واسم حقيقي لازم مرتب حيث وضعه الله تعالى، وأما ما نقله الله تعالى عن موضوعه في اللغة إلى معنى تعبدنا بالعمل به، دون أن يسميه بذلك الاسم، فهذا هو المجاز، كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} (1) ، فإنما تعبدنا تعالى بأن نذل للأبوين ونرحمهما، ولم يلزمنا تعالى قط أن ننطق - ولا بد - فيما بيننا، بأن للذل جناحا، وهذا لا خلاف فيه، وليس كذلك الصلاة والزكاة والصيام، لأنه لا خلاف في أن فرضا علينا، أن ندعو إلى هذه الأعمال بهذه الأسماء بأعيانها ولا بد) (2) .
والذي يبدو أنه لا ابن حزم ولا الشوكاني من بعده، استطاعا أن يضعا قدميهما على أرض صلبة، فيما يخص مسألة المجاز في القرآن واللغة، لما فاتهم من الوقوف عليه، من الآثار والمفاسد المترتبة على القول به.
ما هو المجاز؟
الكلام - عند القائلين بالمجاز - قسمان: حقيقة ومجاز.
والحقيقة - في منظورهم - هي عبارة عن اللفظ المستعمل فيما وضع له أصلا.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 24
(2) الإحكام في أصول الأحكام \ ابن حزم الأندلسي: (413 - 414) ، طبع مطبعة الإمام بمصر.(37/302)
والمجاز: (هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولا) ، مأخوذا من (الجواز) ، وهو الانتقال من حال إلى حال، ومنه: جاز فلان من جهة كذا إلى جهة كذا، وهو مخصوص - إذا أطلق - بانتقال اللفظ من جهة الحقيقة إلى غيرها.
وتراهم - إذا أرادوا الوصول إلى غاية الدقة في تعريفه - وضعوا له حدا يقول: (إنه اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في اصطلاح التخاطب لعلاقة مع وجود قرينة مانعة من إرادة المعنى الوضعي) .
قالوا: فالأسد والحمار لفظان جعلا في أصل وضعهما، للدلالة على البهيمة المعروفة، فهما - بهذا الاعتبار - حقيقة، ثم إنهما نقلا عن أصل وضعهما، اللذين كانا عليه، إلى معنى جديد للدلالة على الشجاع والبليد، فأصبحا - بعد النقل - مجازا.
وكذلك العين والرأس. هما حقيقة إن دلا على العضوين المعروفين في الإنسان، أما إذا استعملا في غيرهما صارا مجازا، كأن نقول: عين الشمس، وعين الحقيقة، وعين الماء، والعين الذي هو الجاسوس، وكذا رأس الدرب، ورأس المال، ورأس الدولة، ورأس الأمر، ورأس الجبل.(37/303)
بطلان علاماته التي ميزوه بها:
وقد ذكر القائلون بالمجاز علامات يعرف بها المجاز، ويتميز بها - عندهم - عن الحقيقة:
الوضع:
1 - وأول هذه العلامات التي مازوا بها الحقيقة من المجاز: أصل وضع اللفظ، فإذا كان اللفظ قد وضع أصلا للدلالة على معنى معين(37/303)
فهو حقيقة في دلالته على ذلك المعنى، أما إذا دل على معنى آخر - لم يكن قد وضع أصلا للدلالة عليه - فهو مجاز في الدلالة على هذا المعنى الجديد. .
قالوا: ونعرف ذلك بطريق النقل عن أهل اللغة، كأن يقول الواضع: هذا حقيقة، وذاك مجاز، أو يقول: هذا اللفظ مستعمل فيما وضع له، وذاك مستعمل في غير ما وضع له.
والقول بأن العرب قد وضعوا هذا اللفظ المعين، للدلالة على هذا المعنى بالذات دون غيره من المعاني، واستعملوه فيه مدة قصيرة أو طويلة على الحقيقة، ثم نقلوه - بعد ذلك - للدلالة على معنى آخر مستحدث، غير معناه الأول، الذي كانوا وضعوه له، ثم استعملوه فيه على المجاز، ليس إلا عبارة عن دعوى بلا علم، وقول لا يقوم عليه دليل، للأسباب التالية:
(أ) إن ادعاء وضع أي لفظ كان - في أصل وضعه الأول - للدلالة على معنى معين بالذات دون غيره من المعاني، لا يمكن الوصول إليه إلا بطريق الوحي أو خبر الصادق المعلوم بالضرورة صدقه، وأنى لبشر أيا كان - حاشا الأنبياء - ادعاء مثل هذا؟ ؟
إن مثل هذا غيب، لا يمكن لأحد الجزم به، لأن أحدا منا لم يكن مع أهل اللغة الأولين، ليعرف أنهم وضعوا هذا اللفظ - أول ما وضعوه - للدلالة على هذا المعنى المعين بالذات، ولا هم أخبرونا بشيء من هذا عن طريق نص صريح صحيح يمكن الاعتماد عليه أو الركون إليه.
(ب) ثم إن مثل هذا الادعاء مبني على القول بأن ألفاظ اللغة(37/304)
اصطلاحية، بمعنى أن مجموعة من العقلاء قد اجتمعوا، واصطلحوا على أن يطلقوا هذا اللفظ على هذا المسمى، ثم استعملوا - بعد هذا الاتفاق - هذا المعنى في الدلالة على هذا المعنى دون غيره، وبعد مرور فترة من الوقت - طويل أو قصير - اجتمعوا مرة أخرى - كاجتماعهم الأول - وتواطئوا على أن يستعملوا ذلك اللفظ، في معنى آخر غير المعنى الأول - جد عليهم - لاكتشافهم وجود علاقة بين هذا اللفظ، وبين هذا المعنى الجديد، ثم قالوا: هذا اللفظ حقيقة في الدلالة على المعنى الأول، مجاز في الدلالة على المعنى الثاني.
ونحن لا نعلم أحدا تجرأ على القول بمثل هذا القول، إلا ما نقل عن أبي هاشم الجبائي المعتزلي أنه قاله وبسببه خاض معركة كلامية مع صديقه القديم أبي حسن الأشعري، الذي قال في مبدأ اللغات: إنها توقيفية (1) .
(جـ) إن الذي يعرفه الناس جميعا، هو استعمال الألفاظ في معانيها المفهومة منها، وأما أن يكون أهل اللغة قد وضعوا هذا اللفظ لهذا المعنى لا يتعداه إلى غيره، فهذا خلاف المعقول والمنقول.
ففي قوله تعالى - مثلا - {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (2) ، قالوا: الجناح - هنا - مجاز، إذ أن الملك ليس له جناح من ريش، وهذا - بلا شك - قول فاسد، بل هو من أفسد الأقوال، فمن ذا الذي جاءنا بنقل ثابت
__________
(1) نقل هذا القول عنه: ابن تيمية في (الفتاوى) : 7 \ 90) .
(2) سورة فاطر الآية 1(37/305)
متواتر، يفيد أن العرب وضعوا كلمة: (جناح) ، ولم يريدوا بها إلا جناح الطائر ذا الريش لا غير؟
إن ادعاء مثل هذا من المحال، ولا يمكن إلا إذا أتانا عن طريق نقل ثابت صدق، كأن يكون وحيا، أما ما عداه فلا شيء يلزمنا بقبوله ألبتة.
ونحن نعرف - وكل العرب تعرف - أن جناح الملك غير جناح الطائر غير جناح الطائرة، غير جناح البناء، غير جناح الذل، غير جناح اليمين أو اليسار في ميدان السياسة، ومن أراد أن يلزمنا بأن الجناح حقيقة في ذي الريش، مجاز في كل هؤلاء، فعليه الدليل، وأعتقد أن قوله هذا لا يعدو أن يكون قولا بغير علم.(37/306)
التبادر إلى الذهن حين الإطلاق:
والعلامة الثانية التي يتميز بها المجاز عن الحقيقة: (التبادر إلى الذهن) ، فالحقيقة ما تبادر إلى الذهن معناه فور إطلاقه مجردا عن أية قرينة وقيد، والمجاز ما لم يتبادر إلى الذهن معناه عند الإطلاق، بل إن معناه لا يتوصل إليه إلا عن طريق دلالة ما يلازم اللفظ من قرينة أو قيد.
قالوا: فلفظ (الأسد) إذا أطلق، تبادر منه الحيوان المفترس دون الرجل الشجاع.
ولفظ (الرأس) إذا أطلق تبادر إلى الذهن منه رأس الإنسان، دون غيره كرأس المال أو رأس الدرب.
ولذا فإنهما حقيقة في المعنى الأول، مجاز في المعاني الأخرى.
وهذا المعيار - الذي وضعوه - باطل من وجوه:
(أ) إنه مبني على دعوى إمكانية تجريد اللفظ من القرائن بالكلية،(37/306)
والنطق به وحده - هكذا - من غير قرينة تدل على المراد منه فيتبادر حينئذ - منه الحقيقة عند التجرد، وهذه دعوى باطلة، إذ أن اللفظ المطلق عن جميع القيود محال، فهو لا بد أن يكون في كلام متكلم، مقرونا بغيره من الألفاظ، التي تشير إلى مدلوله ومعناه، وهذه قرائن وقيود لا بد منها في كل كلام يفهم معناه.
(ب) إن اللفظ المجرد من كل قيد وقرينة، لا يمكن أن يكون إلا بمثابة الصوت الذي ينعق به، ولا يفيد معنى، فأنت إذا قلت: (افترس الأسد طفلا) و (رأيت أسدا يجز رقاب الفرسان) ، فهمنا من الأولى أنك تريد الحيوان المفترس، ومن الثانية أنك تريد الرجل الشجاع لا غير.
وإذا قلت: (انتظرتك على رأس الدرب) و (وقفت على رأس الجبل) و (قطع الأمير رأس المجرم) فهمنا - وفهم كل عربي مثلنا - أنك تريد من رأس الدرب أوله، ومن رأس الجبل قمته، ومن رأس المجرم هذا العضو المعروف في الإنسان ليس غير، وكل من فهم غير هذا الفهم كان فاسد العقل سقيم الإدراك. إن العرب لم تستعمل الألفاظ إلا مقيدة، ولم يرو أبدا أنهم استعملوا لفظا مطلقا من كل قيد، بل ومن أعلمنا أن العرب وضعوا - أول ما وضعوا - لفظ (الرأس) أو (الأسد) مجردا من كل قرينة، وأنهم عندما وضعوها هكذا مجردة، أرادوا بها هذا المعنى المعين بالذات دون غيره من المعاني الكثيرة، التي يدل عليها ذلك اللفظ؟
إنها مجرد دعوى فارغة، اختلقها خيال مهوم، لا يسندها دليل ثبت، ولا واقع حال.
ولو أني قلت: (رأيت أسدا) و (أبصرت رأسا) ، فمن من العقلاء(37/307)
يستطيع أن يحدد مرادي بلفظي، الأسد والرأس، إذا لم يسمع مني بقية كلامي، بحيث يربط كل عبارة بالسابق واللاحق من ذلك الكلام؟
(ج) إن المتكلم إذا اعتاد أن يعبر بلفظ ما، عن معنى معين مخصوص، صار اعتياده هذا قرينة دالة على إرادته لذلك المعنى، وكذا لو أن أهل بلد أو عصر، اعتادوا إرادة معنى معين، باستخدام لفظ مخصوص له، دون غيره كان عرفهم هذا وما اعتادوه قرينة تكشف عن المعنى المقصود، وهكذا فإن أعراف المتكلم أو المتكلمين في خطابهم قرائن دالة على مرادات ألفاظهم، وبذا لا يكون اللفظ مجردا - إذا أطلق - حيث أضيف إليه عرف المتكلم في استخدامه لهذا اللفظ وعادته بخطابه.
(د) وإذا لم يكن هناك لفظ مجرد من جميع القرائن التجريد الكامل، فإن الذي يسبق إلى فهم المستمع في كل موضع استخدم فيه اللفظ، ما دل عليه دليل في ذلك الموضع.
فأنت إذا قلت: (أشكو من ألم في ظهري) وقلت: (كسر فلان ظهري بعناده) وقلت: (ركبت ظهر الطريق) . سبق إلى فهم كل سامع أنك تريد الظهر الذي في الإنسان في العبارة الأولى، وفي الثانية أنه أتعبك، وفي الثالثة أنك علوته مسافرا، وهذا غير قولك: (سافرت بلا ظهر) وقولك: (أنا خفيف الظهر) ، فإن الذي يسبق إلى أذهاننا من الأولى أنك بلا ركاب تحمل متاعك، ومن الثانية أنك قليل العيال.
فما دام أنه لا بد لكل لفظ من الارتباط بقرينة أو قيد - أيا كانت هذه القرينة أو هذا القيد - وأن الذي يتبادر إلى الذهن منه ما دل عليه من خلال هذه القرينة أو القيد، فقد تبين فساد معيارهم هذا.(37/308)
صحة النفي:
3 - كما جعلوا صحة نفي اللفظ دلالة على مجازيته، فالمجاز - عندهم - يعرف بصحة نفيه، أما الحقيقة فلا يصح نفيها، بمعنى أن اللفظ إذا صح نفيه عما أطلق عليه، كان مجازا، ويكون نافيه صادقا في نفس الأمر، فيصبح أن يقال لمن قال: (رعت الماشية الغيث) : إنها لم ترع الغيث، وإنما رعت النبات، لأن الغيث لا يرعى، وإنما الذي يرعى النبات، وكذلك يقال لمن قال: (رأيت ليثا يجز الرقاب) : إنه ليس بليث، وإنما هو إنسان شجاع.
وهذا القول ساقط من وجوه أهمها:
(أ) إنا لا نعرف من هم الذين يستدل بصحة نفيهم، ليكون معيارا على حقيقة أو مجازية كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل وكلام أي أحد، هل هم أهل اللغة وأرباب اللسان؟ وليس أحد نقل عنهم بأنهم قالوا: إن هذا يصح نفيه وهذا لا يصح، أم هم أهل العرف؟ ونحن نعرف جميعا، أن نفي هؤلاء تابع لعرفهم، فلا يصح أن يكون معيارا في الحكم على اللغة، أم هم أهل الاصطلاح؟ وهؤلاء لا يتعدى نفيهم أن يكون اصطلاحا، وقد اتفقوا عليه فيما بينهم، وقد يتفق غيرهم من أهل الاصطلاح على القول بنقيضه، فتسقط بذلك الحجة، وينتفي البرهان. .
(ب) ونحن لو أردنا مناقشة أصحاب القول بالمجاز، الذين وضعوا هذا المعيار وتبنوه، بلغة العقل ومقدمات المنطق، لقلنا: إنكم تقولون: كل مجاز يجوز نفيه، ونحن وأنتم متفقون على أنه لا شيء في القرآن يجوز نفيه ألبتة، لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. . نتج عن ذلك أن لا شيء من القرآن مجاز، بل ومن قال بأن في(37/309)
القرآن ما يجوز نفيه، حكمنا عليه بالكفر. فبطلت حجتكم.
(ب) ثم إن هذا القول هو الذي ركبه المعطلون، وصولا إلى نفي صفات الخالق الثابتة في الكتاب والسنة، إذ جعلوا يد الله ووجهه وساقه وقدمه واستواءه ونزوله مجازات، يصح نفيها، فقالوا: إنه لا يد له سبحانه، ولا ساق، ولا وجه ولا استواء، ولا نزول، بل ولا عرش ولا كرسي، إلى آخر اعتقاداتهم الفاسدة.(37/310)
اختلاف صيغة الجمع:
4 - وفرقوا بين الحقيقة والمجاز، باختلاف صيغة جمع مفرديهما، فإن لفظ الحقيقة إذا جمع على صيغة، ثم جمع ذلك اللفظ على صيغة أخرى، كان في الحالة الثانية مجازا. .
مثاله: لفظ (الأمر) ، إذا استعمل في القول المخصوص الدال على التكليف، فإنه يجمع على: (أوامر) ، وإذا استعمل في الدلالة على الحال والشأن والفعل، جمع على (أمور) ، فدل ذلك على أنه حقيقة في الأول، مجاز في الثاني.
قالوا: ومنه قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (1) {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (2) فهنا جمع أمر، أوامر، فهو على الحقيقة.
أما في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} (3) {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} (4) فإن جمعه على (أمور) فدل ذلك على كونه مجازا.
وذهب بعضهم إلى أن الحقيقة تجمع، والمجاز لا يجمع (5) .
__________
(1) سورة القمر الآية 49
(2) سورة القمر الآية 50
(3) سورة هود الآية 96
(4) سورة هود الآية 97
(5) الإحكام في أصول الأحكام \ للآمدي: (1 \ 43) .(37/310)
وهذا التفريق الذي وضعوه فاسد لما هو آت: -
(أ) أن اللفظ الواحد قد تكون له جموع مختلفة، مع دلالته فيها جميعا على المفهوم الواحد. فمثلا: لفظ (شيخ) يجمع على عدة جموع، جمعها البيت الآتي:
شيخ , شيوخ , ومشيوخاء , مشيخة ... شيخة , شيخة , شيخان , أشياخ
وزاد صاحب اللسان عليها: مشيخة (بكسر الميم وسكون الشين) ومشيخة (بفتحها وكسر الشين) ومشايخ (1) . وكذا لفظ (عبد) فإنها تجمع على: عبيد، عباد (بكسر العين) ، عبدان (بكسرها) وعبدان (بضمها) وعبدان (بكسرها وتشديد الدال) وأعبد، وعبد (2) .
فإذا كان اللفظ - وهو يدل على المعنى الواحد - يجمع على عدة صيغ، ولم يكن ذلك دالا على خروجه عن حقيقته، فكيف يدل اختلاف هذه الصيغ - مع تعدد المدلولات - على المجاز؟
(ب) ثم إن القول بأن جمع (أمر) على (أوامر) ليس بالمتفق عليه عند أهل اللغة، فإذا كان الجوهري في صحاحه قد أقره، وتبعه في ذلك صاحب اللسان، فإن كثيرا من أهل اللغة لم يقروه، بل واستنكروه (3) ذلك أن (فعل) له عدة جموع، ليس منه (فواعل) ألبتة.
فقد يجمع على (أفعل) ككلب وأكلب، و (فعال) ككعب وكعاب، وعلى (فعول) كقلب وقلوب، وعلى (فعلان) كعبد وعبدان، وشذوذا على (أفعال) كفرخ وأفراخ.
__________
(1) لسان العرب: (4 \ 2373) طبعة دار المعارف بمصر.
(2) اللسان: (4 \ 2776) .
(3) انظر: مختصر الصواعق المرسلة \ لابن القيم: (2) .(37/311)
أما (فواعل) فإنها تكون جمعا لاسم على وزن (فوعل) كجوهر وجواهر أو (فاعل) كطابع وطوابع، أو (فاعلاء) كقاصعاء وقواصع، أو (فاعل) ككاهل وكواهل.
أو يكون جمعا لصفة على وزن (فاعل) لمؤنث عاقل: كحائض وحوائض، أو لمذكر ما لا يعقل: كصاهل وصواهل، أو (فاعلة) كصاحبة وصواحب وفاطمة وفواطم.
(جـ) هذا بالإضافة إلى أن العرب سكتت عن جمع الأمر والنهي، فلم ينطقوا لهما بجمع، لأنها في الأصل مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع إلا إذا تعددت أنواعها (1) .
قلت: وعليه فإن (أوامر ونواهي) جمع لـ (آمرة وناهية) ، كما هو القياس، وليستا جمعا لأمر ونهي.
__________
(1) انظر: الصواعق المرسلة (2 \ 28) .(37/312)
التوقف على المسمى الآخر:
5 - وقالوا: إن المجاز يتوقف على المسمى الآخر، والحقيقة لا تتوقف، ومثلوا لذلك بالآيات التالية: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (1) ، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} (2) {وَأَكِيدُ كَيْدًا} (3) ، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} (4) ، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (5) .
قالوا: فإن إطلاق المكر والكيد والخداع والنسيان على المعنى المقصود
__________
(1) سورة آل عمران الآية 54
(2) سورة الطارق الآية 15
(3) سورة الطارق الآية 16
(4) سورة النساء الآية 142
(5) سورة التوبة الآية 67(37/312)
من الرب، متوقف على استعماله في المعنى المقصود من الخلق، فهو مجاز بالنسبة إليه، حقيقة بالنسبة إليهم، ولذا فإنه لا يحسن إضافة هذه الأمور إلى الله تعالى ابتداء، فيقال: إنه يمكر ويخدع ويكيد وينسى، وإنما يكون إضافتها إليه سبحانه من باب المقابلة لا غير.
وهو أيضا قول مردود لسببين:
(أ) إضافة هذه الأمور وأفعالها إلى الله ابتداء في القرآن الكريم، مع عدم وجود المسمى الآخر، ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (1) ، وقوله {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} (2) وفسر المحال: بالكيد والمكر وقوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} (3) {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (4) .
ففي هذه الآيات جميعا، تم إضافة المكر والكيد والاستدراج إلى الله تعالى ابتداء، مع عدم وجود مسمى آخر، ليكون ذلك - كما زعموا - على سبيل المقابلة، فبطل ادعاؤهم.
(ب) ثم إن هذه الألفاظ لا تدل دوما على معان مذمومة، بل هي تنقسم إلى محمود ومذموم، فما رجع من معانيها إلى الظلم والكذب، كان مذموما لتضمنه للكذب والظلم، وأما ما كان منها بحق وعدل ومجازاة على القبيح، فحسن محمود.
فالمخادع إذا خدع بظلم وباطل، حسن من المجازي له أن يخدعه بحق وعدل، كذا إذا مكر أو استهزأ، كان المكر به والاستهزاء منه عدلا حسنا ومحمودا.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 99
(2) سورة الرعد الآية 13
(3) سورة القلم الآية 44
(4) سورة القلم الآية 45(37/313)
ألم تر كيف أن الصحابة - رضوان الله عليهم - خادعوا كعب بن الأشرف، حتى كفوا شره وقتلوه، وكان هذا الخداع منهم حسنا ومحمودا، لأنه كان في سبيل نصرة الله ودينه؟
ألم تر أيضا، كيف خدع نعيم بن مسعود - رضي الله عنه - المشركين في وقعة الأحزاب، وكان خداعه لهم في منتهى الروعة، وقد استحسنه منه النبي - صلى الله عليه وسلم - وجميع صحبه الكرام؟
وهكذا هذه الألفاظ - إذا أضيفت إلى البارئ سبحانه - فإنها لا تدل إلا على كمال معاني الحق والعدل، غيرها إذا أضيفت إلى المخلوقين، فقد تحتمل إحدى الحالين: الحمد أو الذم، بحسب حالها في كل واقعة وسياق.(37/314)
ما كل ما جاز في اللغة جاز في القرآن:
6 - ثم إنه ليس كل ما جاز وقوعه في اللغة، كان وقوعه جائزا في القرآن الكريم، فهناك أمور كثيرة أجاز العلماء وقوعها في اللغة، ولم يجيزوا وقوعها في القرآن.
(أ) فـ (الرجوع) الذي هو أحد أنواع البديع المعنوي، ويتمثل في نقض السابق باللاحق، بهدف إظهار ما يشعر به المتكلم من وله وحيرة، بديع المعنى في اللغة، ممنوع في القرآن.
ومثاله قول زهير بن أبي سلمى:
قف بالديار , التي لم يعفها القدم ... بلى , وغيرها الأرواح والديم
فقد رجع عن قوله: (لم يعفها القدم) بقوله: (بلى وغيرها الأرواح والديم) ، لأنه قال العبارة الأولى من غير شعور، ثم ثاب إلى رشده(37/314)
وعقله، فرجع إلى الحق، ومثل هذا لا يجوز وقوعه في القرآن الكريم ألبتة.
(ب) و (إيراد الجد في قالب الهزل) جميل في اللغة، غير جائز الوقوع في القرآن أيضا.
ومثاله قول الشاعر:
إذا ما تميمي أتاك مفاخرا ... فقل: عد عن ذا , كيف أكلك للضب؟
فقوله: (كيف أكلك للضب؟) جد في قالب الهزل، إذ يقصد تعييرهم بأكلهم للضب، وهذا مما هو ممنوع في القرآن لاستحالة الهزل فيه، والله تعالى يقول: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} (1) {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} (2) .
(جـ) ومثله (حسن التعليل) ، كقول المتنبي:
لم تحك نائلك السحاب , وإنما ... حمت به , فصبيبها الرحضاء
فهو يدعي أن السحاب قد أصابته الحمى، من الغيرة من كرم الممدوح، فانصب منه العرق، وما هذا الماء الذي يتدفق منه إلا ذلك العرق المتصبب من شدة غيرته. والرحضاء: العرق يكون إثر الحمى.
ولا يخفى أن هذا كذب، لا يجوز وقوع مثله في القرآن، وإن كان بديعا معنويا عند أهل اللغة.
(د) ومنه (الغلو والإغراق في المبالغة) .
والإغراق: ما أمكن عقلا، واستحال عادة، كقول أبي الطيب:
كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
__________
(1) سورة الطارق الآية 13
(2) سورة الطارق الآية 14(37/315)
فوصول الشخص إلى هذه الحال من النحول جائز عقلا، ولكنه ممتنع الوقوع عادة.
والغلو: ما استحال عقلا وعادة، ويكون مقبولا - عند أهل البلاغة - في بعض الأحوال، كاشتماله على حسن تخييل، كقول أبي العلاء المعري:
يذيب الرعب منه كل عضب ... فلولا الغمد يمسكه لسالا
فذوبان السيف وانصهاره، فرقا من الممدوح، مستحيل عقلا وعادة، إلا أن هذا القول مقبول - عند أهل اللغة - لما فيه من جمال تصوير وبديع خيال.
وكلا المظهرين من مظاهر المبالغة: الإغراق والغلو لا يجوز وقوعهما في القرآن، لأن القرآن حق، ليس فيه شيء من المبالغة والغلو.
(هـ) و (تجاهل العارف) من هذه الأمثلة، التي يستحسن وقوعها في اللغة، مع عدم جواز وقوعها في القرآن الكريم، ومثاله قول فاطمة الخزرجية:
أيا شجر الخابور , ما لك مورقا؟ ... كأنك لم تجرع على ابن طريف
وقول الشاعر:
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا: ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر؟
(و) ومنه أخيرا، ما يسمونه (الاستعارة التخييلية) حيث يتخيلون شيئا لا وجود له، بل هو أمر وهمي، ثم يستعيرون له، كقول أبي تمام:
لا تسقني ماء الملام , فإنني ... صب , قد استعذبت ماء بكائي
فقد توهم للملام ماء، فأطلق اسمه عليه، على سبيل الاستعارة التخييلية، ومعلوم أن كلام الله لا يجوز في حقه شيء من مثل هذا التخييل، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
ومن هذا كله، يتبين لنا أن ليس كل ما جاز وقوعه في اللغة، جاز(37/316)
وقوعه في القرآن، لأنه كلام الله سبحانه، وكلام الخالق لا يقاس بكلام المخلوق ولا يخضع لمعاييره.(37/317)
المجاز باطل شرعا ولغة وعقلا:
7 - ثم إن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز، باطل شرعا ولغة وعقلا:
(أ) فالشرع لم يرد بهذا التقسيم، ولا دل عليه، ولا أشار - في شيء من نصوصه - إليه.
(ب) وأهل اللغة لم يصرحوا أبدا، بأن العرب قسموا لغتهم إلى حقيقة ومجاز، ونحن لا نجد مثل هذا القول، لا في كلام الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين، ولا في كلام أئمة اللغة كالخليل وسيبويه والفراء وأبي عمرو بن العلاء والأصمعي. فدل ذلك على أنه أمر ما كانوا يعرفونه ولا يلتفتون إليه.
(جـ) والعقل لا مدخل له في دلالة الألفاظ على معانيها، ولو كانت دلالة كل لفظ على معناه صنعة عقلية لما اختلفت باختلاف الأمم، ولما جهل أحد في الدنيا معنى لفظ من الألفاظ، أيا كان ذلك اللفظ.
وأخيرا. . فهل بقي - بعد هذا كله - في أكف القائلين بالمجاز والحاملين لواءه والمدافعين عنه - من حجج وتعللات، يتعللون بها لإثبات وجوده، وقد تساقطت دعاواهم، وتهافتت أقوى مستنداتهم، وبدت ترهات وتخاييل، في أغلبها لا تسمن شيئا، ولا تغني - في ميزان الحق والنصفة - من جوع.(37/317)
صفحة فارغة(37/318)
الرضاع وأحكامه في الفقه الإسلامي
محمد عودة السلمان
الرضاع: لغة: بفتح الراء وكسرها وإثبات التاء اسم لمص الثدي وشرب لبنه. جاء في لسان العرب: رضع الصبي وغيره يرضع مثال ضرب يضرب لغة نجدية ورضع مثل سمع يرضع رضعا ورضعا ورضاعا ورضاعة فهو راضع والجمع رضع (1) .
وشرعا: اسم لحصول لبن امرأة أو ما حصل منه في معدة طفل أو دماغه (2) .
وقد ثبت تحريم الرضاع للنكاح بكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - وإجماع علماء المسلمين - رحمهم الله -:
(أ) تحريم الرضاع بالكتاب: الراجع إلى كتاب الله العزيز يجد أنه قد حرم الزواج بعدد من النساء بسبب الرضاع، وقد نص الكتاب على حرمتهن في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (3) .
(ب) تحريم الرضاع بالسنة الشريفة: كما جاء الكتاب العزيز ناصا على التحريم بسبب الرضاع، فكذلك جاءت السنة المطهرة مؤكدة لهذا التحريم ومبينة له، ومفصلة للمحارم بسبب الرضاع، وقد ورد أكثر من أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - محرما للرضاع، فقد روي عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة (4) » متفق
__________
(1) لسان العرب، مادة رضع جـ 8 ص 124.
(2) مغني المحتاج للشربيني جـ 3 ص 414.
(3) سورة النساء الآية 23
(4) المغني لابن قدامة جـ 8 ص 139.(37/319)
عليه، وكذلك ما رواه النسائي من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) » .
وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بنت حمزة: «لا تحل لي، يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب وهي ابنة أخي من الرضاع (2) » رواه البخاري ومسلم. وغيرها كثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي جاءت مثبتة لحرمة الرضاع، وهي من الكثرة بمكان.
(جـ) الإجماع: الذي يرجع إلى أقوال العلماء في حكم الرضاع يجد أنهم مجمعون على تحريم الرضاع للنكاح، ولم يشذ أحد منهم عن ذلك، إلا أنهم قد اختلفوا في نوعية هذا الرضاع أو كميته أو زمانه أو كيفية وصول اللبن إلى الجوف، ولم يذكر خلاف إطلاقا عن عدم تحريم الرضاع للنكاح، بل الكل مجمعون على ذلك منذ عهد الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وحتى يومنا هذا، حتى شاع وانتشر وأصبح معلوما من الدين بالضرورة.
وقد اختلف الفقهاء في عدد الرضعات التي تكون ناشرة لحرمة الزواج إلى خمسة أقوال: -
القول الأول:
ذهب الحنفية إلى عدم اشتراط مقدار معين من الرضعات، بل قالوا: كل ما وصل إلى الجوف وفتق الأمعاء وأنشز العظم تنتشر بواسطته الحرمة سواء كان اللبن الواصل قليلا أو كثيرا، وهذا هو رأي الإمام مالك؛ حيث جاء في المدونة: قال سعيد بن سحنون: قلت لعبد الرحمن بن القاسم: أتحرم المصة والمصتان في قول مالك؟ قال: نعم (3) .
وهذا مذهب فريق كبير من الصحابة والتابعين وعدد من العلماء،
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/275) .
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/339) .
(3) المدونة جـ 2 ص 288.(37/320)
فهو قول الإمام علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وحماد والأوزاعي والثوري والليث، حتى زعم الليث أن الإجماع قد انعقد على أن الرضاع يحرم، سواء كان قليلا أو كثيرا ويحرم به كل ما يفطر الصائم (1) .
والقائلون بهذا الرأي احتجوا بعدة أدلة، نذكر منها ما يلي:
أولا: استدلوا بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (2) قالوا: إن الآية هنا عامة تتناول جميع أنواع الرضاع سواء كان قليلا أم كثيرا وأنها لم تنص على مقدار معين من الرضعات.
ثانيا: استدلوا بما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في بنت حمزة: «إنها ابنة أخي من الرضاع (3) » وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لابنة أبي سلمة: «إنها ابنة أخي من الرضاع (4) » (5) ففي هذين الحديثين أطلق الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون تقييد، ولما كانت مطلقة فإنها تتناول كل رضاع سواء كان قليلا أم كثيرا.
ثالثا: استدلوا بما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعائشة لما سألته عن أفلح: «إنه عمك فليلج عليك (6) » (يعني عمها من الرضاع) ، وكذلك «قوله - صلى الله عليه وسلم - لحفصة - رضي الله عنها - عندما سألته عن عمها من الرضاع فقال لها: أري فلانا (7) » (يعني عمها من الرضاع) .
رابعا: وكذلك استدلوا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الرضاعة من المجاعة ولا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء (8) » فقالوا: لم يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك عددا للرضاع المحرم ولو كان هناك عدد لبينه صلوات الله وسلامه عليه، فلما لم يبين دل ذلك على عدم اشتراط العدد (9) .
خامسا: استدلوا بما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - لسهلة بنت سهيل زوجة أبي
__________
(1) المغني جـ 8 ص 140.
(2) سورة النساء الآية 23
(3) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/290) .
(4) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/290) .
(5) المحلى لابن حزم جـ 10 ص 19.
(6) صحيح البخاري النكاح (5239) ، صحيح مسلم الرضاع (1445) ، سنن الترمذي الرضاع (1148) ، سنن النسائي النكاح (3315) ، سنن أبو داود النكاح (2057) ، موطأ مالك كتاب الرضاع (1278) .
(7) صحيح مسلم الرضاع (1444) ، سنن النسائي النكاح (3313) ، مسند أحمد بن حنبل (6/178) ، موطأ مالك الرضاع (1277) ، سنن الدارمي النكاح (2247) .
(8) صحيح البخاري النكاح (5102) ، صحيح مسلم الرضاع (1455) ، سنن النسائي النكاح (3312) ، سنن أبو داود النكاح (2058) ، سنن ابن ماجه النكاح (1945) ، مسند أحمد بن حنبل (6/214) ، سنن الدارمي النكاح (2256) .
(9) المحلى جـ 10 ص 20.(37/321)
حذيفة لما سألته عن سالم: «أرضعيه تحرمي عليه (1) » . ولم يفصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - المقدار الذي يحرم من الرضاع، ولما لم يبين ينصرف اللفظ إلى الجميع قليلا أو كثيرا.
القول الثاني:
وذهب فريق آخر من العلماء إلى أن المصة والمصتين والرضعة والرضعتين لا تنشئ الحرمة، واشترطوا لانتشار الحرمة ثلاث رضعات فأكثر، أما ما كان دون ذلك فلا ينشر الحرمة أبدا، ومن قال بهذا القول أبو عبيدة وأبو ثور، وهو قول داود وابن المنذر، وبه قال سليمان بن يسار وسعيد بن جبير وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه (2) .
وقد استدلوا على رأيهم بما جاء في صحيح الإمام مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تحرم المصة ولا المصتان (3) » . وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان (4) » . فقالوا: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن المرة والمرتين لا تنشر الحرمة، فيبقى ما زاد على ذلك وهو الثلاث، فما زاد وهو أقل الجمع حتى يعتبر في الرضاع.
القول الثالث:
وذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - إلى أن الرضاع لا يحرم إلا ما كان خمس رضعات فأكثر، أما ما كان دون ذلك فلا يمكن أن تنتشر فيه الحرمة (5) ، وهو مذهب ابن حزم الظاهري وبه قال الحنابلة (6) وقد استدلوا بما يلي:
__________
(1) صحيح مسلم الرضاع (1453) ، سنن النسائي النكاح (3323) ، سنن أبو داود كتاب النكاح (2061) ، سنن ابن ماجه كتاب النكاح (1943) ، مسند أحمد بن حنبل (6/201) ، موطأ مالك كتاب الرضاع (1288) ، سنن الدارمي كتاب النكاح (2257) .
(2) انظر بداية المجتهد لابن رشد جـ 2 ص 28، المغني لابن قدامة جـ 8 ص 140، المحلى لابن حزم جـ 10 ص 13.
(3) صحيح مسلم الرضاع (1450) ، سنن الترمذي الرضاع (1150) ، سنن النسائي النكاح (3310) ، سنن أبو داود النكاح (2063) ، سنن ابن ماجه النكاح (1941) ، مسند أحمد بن حنبل (6/247) ، سنن الدارمي النكاح (2251) .
(4) صحيح مسلم الرضاع (1451) ، سنن النسائي النكاح (3308) ، سنن ابن ماجه النكاح (1940) ، مسند أحمد بن حنبل (6/339) ، سنن الدارمي النكاح (2252) .
(5) مغني المحتاج جـ 3 ص 414 وبداية المجتهد جـ 2 ص 38.
(6) المحلى لابن حزم جـ 10 ص 12 والمغني لابن قدامة جـ 8 ص 141.(37/322)
أولا: ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخ من ذلك خمس وصار خمس رضعات معلومات يحرمن، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعمل على ذلك (1) » . رواه مسلم.
ثانيا: وكذلك استدلوا بما «روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره سهلة بنت سهيل عندما جاءت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - تسأله في شأن سالم، فأمرها أن ترضعه خمس رضعات (2) » (3) .
وقالوا بأن آية: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (4) جملة فسرتها السنة وبينت أن الرضاعة المحرمة هي ما كان خمس رضعات، وقالوا: إن صريح ما رويناه يخصص مفهوم ما رووه، فنجمع بين الأخبار ونحملها على صريح ما رويناه، (5) وكذلك احتجوا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحرم المصة ولا المصتان (6) » .
القول الرابع:
وذهب قوم إلى أن الرضاع المحرم ما كان سبع رضعات فأكثر، أما إذا كان أقل من سبع رضعات فإنه لا تثبت به حرمة النكاح، ويجوز الزواج حتى ولو كان الرضاع حصل ست مرات.
وقد ذكر ابن حزم في كتابه المحلى: وقد روي أيضا سبع رضعات لما روي عن عبد الله بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أنها قالت: «إنما يحرم من الرضاع سبع رضعات (7) » .
__________
(1) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5088) ، صحيح مسلم الرضاع (1453) ، سنن النسائي النكاح (3320) ، سنن أبو داود كتاب النكاح (2061) ، سنن ابن ماجه كتاب النكاح (1943) ، مسند أحمد بن حنبل (6/269) ، موطأ مالك كتاب الرضاع (1288) ، سنن الدارمي كتاب النكاح (2257) .
(3) المغني لابن قدامة جـ 8 ص 141.
(4) سورة النساء الآية 23
(5) المغني لابن قدامة جـ 8 ص 141.
(6) صحيح مسلم الرضاع (1450) ، سنن الترمذي الرضاع (1150) ، سنن النسائي النكاح (3310) ، سنن أبو داود النكاح (2063) ، سنن ابن ماجه النكاح (1941) ، مسند أحمد بن حنبل (6/247) ، سنن الدارمي النكاح (2251) .
(7) المحلى لابن حزم جـ 10 ص 12 - 13 (مرجع القول الرابع) .(37/323)
القول الخامس:
وذهب فريق خامس إلى أن الرضاع المحرم يجب أن يكون عشر رضعات معلومات لأجل أن تنتشر بسببهن الحرمة، أما إذا كان دون ذلك فلا يمكن أن يكون ناشرا للحرمة.
وقد احتج هذا الفريق بما روي عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - «أن سهلة بنت سهيل أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت له: إن سالما كان منا حيث علمت، كنا نعده ولدا، وكان يدخل علي، فلما أنزل الله عز وجل فيه وفي أشباهه أنكرت وجه أبي حذيفة إذ رآه يدخل علي، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فأرضعيه عشر رضعات ثم ليدخل عليك كيف شاء فإنما هو ابنك (2) » .
والراجح من هذه الأقوال: هو ما ذهب إليه الحنفية من أن كثير اللبن وقليله محرم للنكاح، دون التقييد بعدد أو مقدار، بل إن الرضعة الواحدة المشبعة تحقق التحريم؛ لأن شبهة البعضية التي هي علة التحريم ناشئة عن نشوء العظم وإنبات اللحم، وهو أمر خفي غير منضبط.
ومن المقرر عند الأصوليين أن علة الحكم إذا لم تكن ظاهرة ولا منضبطة ربط الحكم بما هو مظنة لتلك العلة مما هو ظاهر ومنضبط، وهو في موضوعنا مطلق الرضاع الصادق بمصة واحدة، فقد يكون لها دخل في تكوين جسم الرضيع، هذا في حالة ثبوت واقعة الرضاع قبل الزواج، فإن اكتشف الرضاع بعد الزواج وبعد أن أثقلت الزوجية بالأولاد، فلا بأس بالركوب إلى آراء المذاهب الأخرى حلا للإشكال ودفعا لأشد الضررين وتحقيقا للرحمة الناشئة عن اختلاف الآراء والمذاهب في الشريعة الإسلامية.
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5088) ، صحيح مسلم الرضاع (1453) ، سنن النسائي النكاح (3224) ، سنن أبو داود كتاب النكاح (2061) ، سنن ابن ماجه كتاب النكاح (1943) ، مسند أحمد بن حنبل (6/269) ، موطأ مالك كتاب الرضاع (1288) ، سنن الدارمي كتاب النكاح (2257) .
(2) سورة الأحزاب الآية 4 (1) {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}(37/324)
السن التي يحرم بها الرضاع:
ذهب فريق كبير من علماء السلف الصالح إلى أن الرضاع المحرم هو ما كان خلال مدة الرضاع فقط، وقدروها بسنتين فإذا رضع الرضيع خلال السنتين ثبتت الحرمة، أما إذا رضع بعد انصرام السنتين فلا رضاع ولا حرمة، ولكثرة من قال بهذا الرأي نستطيع أن نقول بشيء من التسامح إنه رأي الجمهور، ومن الذين قالوا به عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأبو هريرة وكافة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - باستثناء أم المؤمنين عائشة، وكذلك قال به الشعبي وابن شبرمة، والأوزاعي والشافعي وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وأبو ثور ورواية عن الإمام مالك وبه قال الجعفرية والزيدية.
وقد استدل هؤلاء بالأدلة التالية:
أولا: بما روي عن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها ووجد عندها رجلا فتغير وجه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت يا رسول الله: إنه أخي من الرضاعة، فقال - عليه الصلاة والسلام -: " انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة (1) » . رواه البخاري ومسلم.
ثانيا: وكذلك استدلوا بما روي عن أم سلمة أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام (2) » . أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
لقد تمسك أصحاب هذا الرأي بالحولين ولم يلتفتوا إلى غيرها من الأمور أبدا، فلو فطم الطفل خلال الحولين أو استغنى عن اللبن خلال الحولين ثم أرضع اعتبر رضاعا ناشرا للحرمة، أما إذا لم يفطم الطفل حتى انصرام الحولين وبقي رضيعا ثم أرضع بعد انصرامها ولو بدقائق لا يعتبر محرما.
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5102) ، صحيح مسلم الرضاع (1455) ، سنن النسائي النكاح (3312) ، سنن أبو داود النكاح (2058) ، سنن ابن ماجه النكاح (1945) ، سنن الدارمي النكاح (2256) .
(2) سنن الترمذي الرضاع (1152) .(37/325)
وقال ابن القاسم صاحب مالك: إذا فطم خلال الحولين ثم أرضع بعد ذلك وقبل انصرام الحولين لا تنتشر الحرمة بهذا الرضاع (1) .
وذهب الإمام مالك في المشهور عنه إلى أن المدة التي تثبت بها الحرمة حولان وشهر، وفي رواية حولان وشهران، وقال: إن الطفل متى ما فطم لا بد له من مدة ليعتاد بها على الأكل بدل اللبن، وإن مدة انقلابه من رضيع إلى طفل يأكل الطعام ويتغذى به تحدد بحوالي شهر أو شهرين، ففي هذه الفترة التي ينتقل بها إذا رضع اعتبر هذا الرضاع ناشرا للحرمة، أما إذا انتهت فعنده يصبح الطفل معتادا على الطعام، لذلك لو رضع بعد انتهائها لا يعتبر هذا الرضاع ناشرا للحرمة سواء طالت المدة بعدها أو قصرت (2) .
إذا يمكننا أن نقول إن الراجح من مذهب الإمام مالك هو حولان وشهران، وذلك هو الأحوط طالما صحت عنه الأقوال الثلاثة، فنقول بالأحوط وهو أكثر المدة التي ذكرها.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن المدة التي تثبت بها الحرمة هي مدة سنتين ونصف، وهي ثلاثون شهرا، فقال: إن الرضاع إذا كان في هذه المدة اعتبر محرما، أما إذا كان بعدها فلا يعتبر محرما، واستدل بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (3) فقال: إن المقصود بالحمل هنا هو حمله مدة الرضاع وليس المقصود به حمل الأحشاء، إذ قد يتأخر الطفل في داخل البطن لمدة سنتين، لهذا نعلم أن الله سبحانه وتعالى أراد بالحمل حمل الفطام وليس حمل الأحشاء.
وقال زفر من فقهاء الحنفية: إن مدة الرضاع التي إذا رضع الطفل
__________
(1) الفتاوى الكبرى لابن تيمية جـ 4 ص 589 (مرجع القول الخامس) .
(2) المدونة جـ 2 ص 289.
(3) سورة الأحقاف الآية 15(37/326)
خلالها اعتبرت ناشرة للحرمة هي ثلاث سنين فما دون، فمتى ما حصل الرضاع خلال هذه المدة اعتبر محرما أما إذا تجاوزها فإنه لا يعتبر محرما. وحجته في ذلك أن المدة هي حولان ثم يتم له حول ليتحول به من حال إلى حال، أي من حال الرضاع والاعتماد على اللبن إلى حالة الاعتماد على الطعام (1) .
وذهب فريق آخر إلى عدم تحديد وقت للرضاع، بل متى حصل الرضاع تثبت به الحرمة، سواء كان في سن الصغر أم الكبر، وهذا مذهب السيدة عائشة، وهو مذهب بعض السلف الصالح، وكذلك من القائلين به ابن حزم الظاهري؛ حيث قال في المحلى: فنحن نوقن ونبت بأن رضاع الكبير يقع به التحريم، وليس في امتناع سائرهن من أن يدخل عليهن (يعني زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم -) بهذه الرضاعة شيء ينكر؛ لأن مباحا لهن أن لا يدخل عليهن من لا يحل له الدخول عليهن (2) .
ولم يكتف بالقول بثبوت الحرمة بواسطة الرضاع في أي وقت، بل شدد التنكير على من خالفه لا سيما الإمام أبو حنيفة ومالك - رحمهما الله -.
ومن القائلين بالتحريم عطاء والليث وداود، وهو قول ابن تيمية، وقد استدلوا ببعض الأدلة، التي نذكر منها ما يلي:
أولا: احتجوا بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (3) .
فقالوا لم يقل الباري عز وجل في حولين ولا في وقت دون وقت، بل
__________
(1) الهداية جـ 1 ص 162 والأحوال الشخصية لمحمد حسين الذهبي ص 356 (مرجع قول الحنفية) .
(2) المحلى لابن حزم جـ 10 ص 162.
(3) سورة النساء الآية 23(37/327)
الآية عامة تتناول جميع الأوقات وكافة الأعمار، وهو عموم لا يجوز تخصيصه إلا بنص يبين أنه مخصص لا بظن ولا بمحتمل بيان فيه.
ثانيا: وكذلك احتجوا بحديث سالم الذي روي من أكثر من طريق، ونكتفي بذكر إحدى الطرق التي ذكروها، وذلك عن طريق مسلم عن عائشة أم المؤمنين «أن سالما مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في بيتهم، فأتت - يعني سهلة بنت سهيل - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن سالما قد بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا وإني أظن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة (1) » .
وسالم هذا كان كبيرا قد بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ما عقلوا من النساء، ومع ذلك قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " أرضعيه "، فلو لم يكن رضاع الكبير محرما لما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - أرضعيه، وطالما حرم الرضاع بعد البلوغ فكما يحرم من في سن الخامسة عشر أو أكثر يحرم من هو في سن الأربعين أو الخمسين.
ثالثا: وكذلك احتجوا بما كانت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -، حيث إنها كانت تدخل الكبير إذا أرضعته إحدى أخواتها حالة كبره، وكانت إذا أرادت إدخال شخص عليها أرسلته إلى إحدى أخواتها أو بنات أختها فترضعه فيدخل عليها.
إلا أن سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - غير عائشة أبين أن يدخل عليهن إلا من رضع وهو في المهد، وقلن لعائشة: والله ما ندري لعلها رخصة لسالم من النبي - صلى الله عليه وسلم - من دون الناس (2) . رواه النسائي وأبو داود وغيرهما.
إلا أن ابن حزم رد على هذا الاعتراض وقال: وهكذا جاء في الحديث
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5088) ، صحيح مسلم الرضاع (1453) ، سنن النسائي النكاح (3323) ، سنن أبو داود كتاب النكاح (2061) ، سنن ابن ماجه كتاب النكاح (1943) ، مسند أحمد بن حنبل (6/201) ، موطأ مالك كتاب الرضاع (1288) ، سنن الدارمي كتاب النكاح (2257) .
(2) المغني لابن قدامة جـ 8 ص 28.(37/328)
أنهن قلن: ما نرى هذا إلا خاصا لسالم وما ندري لعله رخصة لسالم، فإذن هو ظن بلا شك، فإن الظن لا يعارض السنن، قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (1) وشتان بين احتجاج أم سلمة - رضي الله عنها - باختيارها وبين احتجاج عائشة بالسنة الثابتة وقولها: أما لك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة؟ وسكوت أم سلمة يعني برجوعها إلى الحق عن احتياطها (2) .
وهذا رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث ذكر في فتواه ما نصه: ورضاع الكبير تنتشر به الحرمة، بحيث لا يحتشمون للحاجة؛ لقصة سالم مولى أبي حذيفة وهو مذهب عائشة وعطاء والليث وداود ممن يرون أنه ينشر الحرمة مطلقا (3) .
والراجح ما ذهب إليه الجمهور؛ لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (4) ولا شيء بعد التمام، أما دليل زفر فلا اعتبار له؛ لأنه لا معقول في مقابلة النص، وأما دليل أبي حنيفة على الوجه الذي ذكره فلا اعتبار له؛ لأن إجماع المفسرين على أن الأجل المضروب في الآية موزعا على الحمل والفصال لا ثابتا لكل منهما، وقد ثبت طبيا أن الرضاعة في الحولين الأولين هي وحدها السبب في تكوين الطفل وأن الرضاعة بعد الحولين لا تكون وحدها غذاء للطفل.
__________
(1) سورة يونس الآية 36
(2) المحلى لابن حزم جـ 10 ص 128.
(3) الفتاوى الكبرى لابن تيمية جـ 4 ص 589.
(4) سورة البقرة الآية 233(37/329)
كيفية وصول اللبن إلى الجوف:
ذهب فريق من العلماء إلى أن اللبن لا يحرم إلا إذا وصل إلى الجوف عن طريق الرضاع المباشر من ثدي المرأة، أي أن الطفل يجب أن يمتص اللبن من ثدي المرأة مباشرة وبدون واسطة، أما إذا وصل إلى الجوف بطريقة أخرى كأن يحلب اللبن ويصب في فمه - وهذا ما يسمى بالوجور - أو أنه يصب في أنفه - وهذا ما يسمى بالسعوط - فإنه لا يعتبر محرما، ومن القائلين بهذا الرأي ابن حزم حيث ذكر في المسألة (1866) ما نصه: وأما صفة الرضاع المحرم فإنما هو ما امتصه الراضع من ثدي المرأة بفيه فقط، فأما من سقي من لبن امرأة فشربه من إناء أو حلب في فيه فبلعه أو أطعمه بخبز أو في طعام أو صب في فمه أو في أنفه أو في أذنه أو حقن به فكل ذلك لا يحرم شيئا، ولو كان ذلك غذاءه دهره كله.
ثم برهن على قوله حيث قال: وبرهان ذلك قول الله عز وجل: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (1) وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2) » . فلم يحرم الله تعالى ولا رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى نكاحا إلا بالرضاع والرضاعة، والرضاع فقط، ولا يسمى إرضاعا إلا ما أرضعته المرأة المرضعة من ثديها في فم الرضيع، يقال: أرضعته ترضعه إرضاعا ولا يسمى رضاعة ولا إرضاعا إلا ما أخذ المرضع أو الرضيع بفيه الثدي وامتصاصه إياه، تقول رضع يرضع رضاعا ورضاعة، وما عدا كل ذلك مما ذكرنا فلا يسمى شيء منه إرضاعا ولا رضاعة ولا رضاعا، وإنما هو حلب وطعام وسقاء وشرب وأكل وبلع وحقنة وسعوط وتقطير، ولم يحرم الله عز وجل بهذا شيئا (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/275) .
(3) المحلى لابن حزم جـ 10 ص 9.(37/330)
وممن قال قول ابن حزم في كيفية وصول اللبن إلى الجوف: الحنابلة والليث وأبو سليمان وهو قول عطاء، وبه أخذ الشيعة الجعفرية (1) .
وذهب الحنفية والمالكية والشافعية والشعبي (2) إلى أن السعوط والوجور (3) يحرمان كما تحرم الرضاعة، وذلك لأن المقصود من الرضاعة طرد الجوع، وطرد الجوع يحصل بالسعوط والوجور كما يحصل بالرضاع، فلما كانت العلة طرد الجوع وهي حاصلة في كلا الأمرين لذلك تنتشر الحرمة في السعوط والوجور كما تنتشر في الرضاع.
أما إذا اكتحل الصبي باللبن أو صب في عينيه أو أذنيه أو احتقن أو داوى به جائفة (4) أو مأمومة (5) أو قطرة في إحدى السبيلين فإن الحرمة لا تنتشر به ولا يكون محرما، وذلك لعدم وصوله إلى الجوف وكذلك لعدم حصول المقصود منه وهو دفع الجوع وإنبات اللحم وإنشاز العظم.
وذهب محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة إلى أن الحقنة تثبت بها الحرمة، وقال: إن الحقنة تفطر الصائم، فلما فطرت الصائم إذا ثبتت فيها الحرمة (6) .
أما الإمام مالك فلم ينسب إليه قول في ذلك، وقد نقل سحنون أن الاحتقان إذا كان فيه غذاء فإنه ينشر الحرمة وإلا فلا، حيث جاء في المدونة ما نصه: قلت: أرأيت الصبي إذا حقن بلبن امرأة هل تقع الحرمة
__________
(1) المحلى لابن حزم جـ 10 ص 9.
(2) الهداية جـ 10 ص 163 والمدونة جـ 2 ص 288 ومغني المحتاج جـ 3 ص 414.
(3) السعوط أن يصب اللبن في أنف الصبي، أما الوجور فهو صب اللبن في حلق الصبي من غير ثدي.
(4) الجائفة هي الضربة النافذة إلى داخل الجوف.
(5) المأمومة هي الضربة الواصلة إلى أم الدماغ وهي التي في الرأس.
(6) الاختيار في تعليل المختار للموصلي جـ 3 ص 120.(37/331)
بهذا اللبن الذي حقن به في قول مالك، قال مالك في الصائم يحتقن: أن عليه القضاء إذا وصل ذلك إلى جوفه، ولم أسمع من مالك في ذلك شيئا، وأرى إن كان له غذاء رأيت أن يحرم وإلا فلا يحرم إلا أن يكون له غذاء في اللبن (1) .
والراجح ما ذهب إليه الحنفية وغيرهم من أن التغذية بلبن المرضعة محرم، سواء أكان شربا أو وجورا أو سعوطا مادام يغذي الصبي ويسد جوعه ويبلغ قدر رضعة؛ لأنه يحصل به ما يحصل بالإرضاع من إنبات اللحم وإنشاز العظم فيساويه في التحريم.
__________
(1) المدونة جـ 2 ص 188.(37/332)
حكم اللبن إذا خالط غيره أو تبدل طبعه:
إذا خلط اللبن بغيره كالطعام أو الماء أو الشراب، فذهب جماعة من الفقهاء إلى أن الحرمة تنتشر به، سواء كان اللبن غالبا أم مغلوبا، وهو قول الإمام الشافعي والخرقي؛ وذلك لأن أجزاء اللبن حصلت في بطنه فأشبه ما لو كان غالبا.
وذهب جماعة إلى القول بالتفصيل، فقالوا: إن كان اللبن غالبا ثبتت الحرمة، أما إذا كان اللبن مغلوبا فلا تنتشر الحرمة، وعللوا ذلك بأن الحكم يعطى للأكثر، فإذا كان اللبن مغلوبا فلا تنتشر الحرمة، وعللوا ذلك بأن الحكم يعطى للأكثر، فإذا غلب أعطي لغيره. وهذا مذهب أبي ثور والمزني وبه قال الأحناف.
أما إذا اختلط بلبن امرأة أخرى فالحكم للغالب عند أبي يوسف، ولا عبرة بالقليل، وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة.
وذهب زفر ومحمد إلى القول بأن الحرمة تنتشر بينه وبين المرأتين، سواء(37/332)
تساوى اللبن أو زاد بعضه على بعض؛ وذلك لأن اللبن اختلط بجنسه واختلاط الشيء بجنسه لا يستهلكه، ولما كان لبن كل امرأة يحرم على حدة، فكذلك إذا اختلط فيحرمان عليه كلتاهما، وهذا مروي عن أبي حنيفة - رحمه الله -. وقال أبو يوسف: إذا اختلط اللبن وتساوى تنتشر الحرمة من كلتيهما احتياطا.
أما إذا خلط بلبن شاة فلا تنتشر الحرمة إذا كان لبن الشاة هو الغالب عند الحنفية، أما إذا كان لبن المرأة هو الغالب فإنه يكون ناشرا للحرمة.
وأما عند الشافعية فتثبت الحرمة على حسب القاعدة التي مشوا عليها.
أما إذا كان اللبن قد طبخ على النار حتى نضج فلا يكون ناشرا للحرمة سواء كان مختلطا بغيره أم منفردا، وهذا ما أخذ به الحنفية؛ لأن الطبخ أخرجه عن طبعه، وكذلك الشأن لو جعل اللبن جبنا أو أقطا أو أي شيء آخر؛ لأنه أخرجه عن كونه رضاعا، كما أنها لا تنبت لحما ولا تنشز عظما ولا تكفي غذاء للصبي (1) .
والراجح أن اختلاط لبن المرأة بطعام أو شراب أو دواء أو لبن شاة أو غيره وكان غالبا يحرم، وإن لم يكن غالبا فلا يثبت به التحريم.
__________
(1) المغني لابن قدامة جـ 8 ص 144.(37/333)
حكم لبن الميتة:
إذا ماتت امرأة وكان لها لبن فرضع منه طفل انتشرت به الحرمة عند الحنفية وأبي ثور والأوزاعي وأبي القاسم وابن المنذر، وبه قال ابن(37/333)
حزم (1) : واحتجوا بأنه لا فرق بين شربه في حياتها أو بعد مماتها، إلا الحياة أو الموت أو النجاسة، وهذا لا أثر له لأن اللبن لا يموت والنجاسة لا تمنع كما لو حلب في وعاء نجس، ولأنه لو حلب منها في حياتها ثم سقاه بعد موتها لنشر الحرمة، وبقاؤه في ثديها لا يمنع ثبوت الحرمة لأن ثديها لا يزيد على الإناء في عدم الحياة، وذهب الشافعي والخلال إلى أنه لا ينشر الحرمة؛ لأنه لبن ممن ليس بمحل للولادة، فلا يتعلق به التحريم.
والراجح أن لبن الميتة ينشر الحرمة؛ لأنه ارتضاع من امرأة يتحقق به إنبات اللحم وإنشاز العظم.
__________
(1) المغني لابن قدامة جـ 8 ص 144 والمحلى لابن حزم جـ 10 ص 11 مسألة 1867.(37/334)
حكم لبن البكر: -
إذا خرج للبكر لبن فأرضعت به طفلا، فما عليه جمهور الفقهاء أن الحرمة تنتشر بهذا اللبن، وأن الراضع يصير ابنها من الرضاع، وهي أمه من الرضاع، وذلك لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} (1) ولأن لبن المرأة في العادة وجد لغذاء الطفل، فكون خروج اللبن للبكر قليلا إلا أنه جنس اللبن المعتاد، فيكون كما لو ثاب بالوطء، فلو أن هذه البكر أرضعت طفلا وطفلة أصبحت أمهما من الرضاع، وأصبحا أخوين من الرضاع، ولا يجوز لأحدهما أن يتزوج بالآخر، كما أن الذكر لا يجوز له أن يتزوج بها
__________
(1) سورة النساء الآية 23(37/334)
لأنها أمه من الرضاع، ولا بأمها لأنها جدته من الرضاع، ولا ببنتها لأنها أخته من الرضاع، وحرمت البنت على أبيها لأنه جدها من الرضاع، وعلى أخيها لأنه خالها من الرضاع، ولا بابنها لأنه أخوها من الرضاع، وهو قول الشافعي ومالك والثوري وابن حامد والحنفية وغيرهم. والرواية الثانية أن لا تنتشر الحرمة؛ لأنه نادر، لا تجري العادة له لتغذية الأطفال، والنادر لا حكم له (1) .
والراجح أن هذا اللبن ينشر الحرمة؛ لأن ألبان النساء على العموم خلقت لغذاء الأطفال، فإن كان لبن هذه المرأة نادرا فجنسه معتاد.
__________
(1) المغني لابن قدامة جـ 8 ص 149.(37/335)
حكم لبن الرجل: -
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الرجل إذا خرج له لبن وأرضع طفلا فلا حرمة ولا رضاع بينهما ولا تنتشر الحرمة بين من أرضعهما، فلو أرضع طفلين أحدهما ذكر والآخر أنثى فلا يصيران أخوين من الرضاعة، وجاز لأحدهما أن يتزوج من الآخر، كما أنه لا تثبت الحرمة بين الرجل وبين أحدهما، وجاز له أن يتزوج البنت التي أرضعها، كما يجوز للولد الذي رضع منه أن يتزوج بابنته أو أخته أو عمته أو خالته إذا لم يكن هناك مانع آخر.
وذهب الكرابيسي إلى أن الحرمة تنتشر بلبن الذكر، فلو أن رجلا خرج له لبن وأرضع طفلا انتشرت الحرمة بينه وبين من(37/335)
أرضعه، إذا اجتمع طفلان على هذا اللبن تثبت الحرمة بينهما، فلو أرضع ذكرا وأنثى ثبتت الحرمة بينهما وأصبحا أخوين من الرضاعة، وذلك لأنه لبن آدمي فأشبه لبن الآدمية، ولم يجز لأحدهما أن يتزوج بالآخر (1) .
والراجح أن لبن الرجل لا تنتشر به الحرمة؛ لأن نزول اللبن من ثدي الرجل من الأمور النادرة ولم يخلق لغذاء المولود، فلا يتعلق به التحريم.
__________
(1) المغني لابن قدامة جـ 8 ص 144.(37/336)
حكم لبن الفحل (أي زوج المرضعة) : -
ذهب جمهور الفقهاء إلى القول بالحرمة، فلو أرضعت امرأة طفلا فإنه يصبح ابنا من الرضاع لزوجها، ويحرم عليه وعلى أصوله وفروعه وإخوانه وأخواته وأعمامه وعماته، وبه قال علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، واستدلوا بما يلي:
أولا: ما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) » ولما كان الأب من النسب يحرم، فكذلك حرم في الرضاع لعموم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ثانيا: وكذلك احتجوا بما روي عن السيدة عائشة أم المؤمنين في حادثة أفلح أخي أبي القعيس، قالت عائشة: «إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعدما أنزل الحجاب، فقلت: والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن أخا أبي القعيس ليس
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/275) .(37/336)
هو الذي أرضعني ولكن أرضعتني امرأته، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ائذني له فإنه عمك تربت يمينك (1) » ، قال عروة: فبذلك كانت عائشة تأخذ بقول حرموا من الرضاع ما يحرم من النسب (2) .
ثالثا: واستدلوا بما روي أن ابن عباس سئل عن رجل تزوج امرأتين فأرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاما، هل يتزوج الغلام بالجارية فقال: (لا، اللقاح واحد) (3) فابن عباس إذا اعتبر لبن الفحل محرما؛ لأنه أصبح أخاها من أبيها من الرضاع.
وذهب فريق إلى القول بعدم انتشار الحرمة بينهما؛ لأنهم اعتبروا اللبن للمرأة وليس للرجل، وممن أخذ بذلك السيدة عائشة أم المؤمنين وابن الزبير وابن عمر، وكانت عائشة تدخل من أرضعته أخواتها ولم تدخل من أرضعته نساء إخوانها، وقد نسبه صاحب كتاب المبسوط إلى الإمام الشافعي، حيث قال: بناء على أصله إن لبن الفحل لا يحرم (4) ولكن كتب الفقه الشافعي نصت على حرمة لبن الفحل، فقد جاء في مغني المحتاج ما نصه: اعلم أن الحرمة تسري من المرضعة والفحل إلى أصولهما وفروعهما وحواشيهما (5) .
والراجح ما ذهب إليه جمهور الفقهاء.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6156) ، صحيح مسلم الرضاع (1445) ، سنن الترمذي الرضاع (1148) ، سنن النسائي النكاح (3318) ، سنن أبو داود النكاح (2057) ، موطأ مالك كتاب الرضاع (1278) .
(2) المغني لابن قدامة جـ 8 ص 145.
(3) المغني لابن قدامة جـ 8 ص 145.
(4) المبسوط للسرخسي جـ 4 ص 200.
(5) مغني المحتاج جـ 3 ص 418.(37/337)
ما يثبت به الرضاع: -
يثبت الرضاع بالشهادة أو الإقرار:
1 - ثبوت الرضاع بالشهادة:
اختلف الفقهاء في عدد الشهود المقبولين في الشهادة على الرضاع، وفي قبول شهادة النساء، فقد ذهب فريق من الفقهاء إلى القول بقبول شهادة النساء، وقالوا تكفي في ذلك امرأة واحدة إذا كانت مرضية الشهادة، وبنوا حرمة النكاح على هذا الرضاع الذي ثبت بشهادتها، وهذا قول طاوس والزهري والأوزاعي وابن أبي ذئب وسعيد بن عبد العزيز.
واستدلوا بما روي «عن عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بأبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقال: " وكيف وقد زعمت ذلك؟ (1) » . متفق عليه، وفي لفظ رواه النسائي قال: «فأتيته من قبل وجهه فقلت: إنها كاذبة، قال: " كيف وقد زعمت أنها أرضعتكما؟ خل سبيلها (2) » . وهذا يدل على الاكتفاء بشهادة المرأة الواحدة.
وقال الزهري: فرق بين أهل أبيات في زمن عثمان بشهادة امرأة في الرضاع.
وقال الشعبي: كانت القضاة تفرق بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع؛ لأن هذا شهادة على عورة فقبل فيها شهادة النساء المنفردات كالولادة.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الشهادات (2659) ، سنن الترمذي الرضاع (1151) ، سنن النسائي النكاح (3330) ، سنن أبو داود الأقضية (3603) ، مسند أحمد بن حنبل (4/384) ، سنن الدارمي كتاب النكاح (2255) .
(2) صحيح البخاري النكاح (5105) ، سنن الترمذي الرضاع (1151) ، سنن النسائي النكاح (3330) ، سنن أبو داود الأقضية (3603) ، مسند أحمد بن حنبل (4/384) ، سنن الدارمي كتاب النكاح (2255) .(37/338)
وقال الشافعي: تقبل فيه شهادة النساء المنفردات فقبل فيه شهادة المرأة المنفردة كالخبر.
فإذا شهدت المرأة يجب أن تبين؛ لأن نوع لبن الرضاع المحرم يختلف فيه الفقهاء. فمنهم من جعله مرة، ومنهم من قال ثلاث، ومنهم من قال خمس رضعات، ومنهم من قال سبع رضعات، ومنهم من قال عشر رضعات، فإذا لا بد أن تبين المرأة وأن لا تكون لها مصلحة في قولها، أما إذا كانت لها مصلحة في قولها فإنها تكون متهمة فلا تقبل شهادتها.
وذهب الإمام أحمد في رواية عنه إلى قبول شهادة المرأة الواحدة بشرط أن تحلف يمينا، وهو قول إسحاق، وقد روي عن ابن عباس أنه قال في امرأة زعمت أنها أرضعت رجلا وأهله فقال: إن كانت مرضية استحلفت وفارق امرأته، وإن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها (يعني يصيبها برص عقوبة على كذبها) وقد علق على هذا القول ابن قدامة في كتابه المغني بما يلي: وهذا لا يقتضيه قياس ولا يهتدي إليه رأي، فالظاهر أنه لا يقوله إلا توقيفا (1) .
وذهب فريق إلى القول بعدم قبول شهادة المرأة الواحدة، واشترطوا لذلك اثنتين فأكثر حتى تقبل شهادتهما، أما الواحدة فلم يقبلوا شهادتها. وهو قول الحكم ورواية عن الإمام أحمد - رحمه
__________
(1) المغني لابن قدامة جـ 8 ص 161.(37/339)
الله -، وقالوا: إن الرجال أكمل من النساء، ومع ذلك لا تقبل شهادة الرجل الواحد، بل يشترط رجلان في الشهادة، ففي النساء أولى أن يشترط امرأتان، وذهب فريق إلى عدم قبول شهادة النساء في ذلك حتى يبلغن أربعا، وقالوا: كل امرأتين يعتبران عوضا عن رجل.
وذهب الحنفية إلى عدم قبول شهادة النساء منفردات، بل يجب أن تكون الشهادة من رجلين أو رجل وامرأتين، وهو قول عمر بن الخطاب، واحتجوا بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (1) .
فإذا شهد الشهود بين يدي الزوجين بأن بينهما رضاعا ففي هذه الحالة وجبت عليهما الفرقة، سواء حصل بينهما دخول أم لا، غاية ما هنالك أنه إن حصلت الشهادة بعد الدخول يجب أن يقول الزوج: فسخت العقد أو أن الزوجة تقول ذلك، أما إذا كان قبل الدخول فيكفي المفارقة في الأبدان وأن لا يجتمعا (2) .
أما إذا أصرا على زواجهما ولم يفسخاه ووطئها بعد ذلك فإنهما يأثمان، ولكن لا حد عليهما لوجود شبهة، والحد يدرأ بالشبهات
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري جـ 1 ص 271.(37/340)
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ادرءوا الحدود بالشبهات (1) » ووجب على القاضي أن يفرق بينهما، وإذا فرق بينهما القاضي فإن حصل جماع بعد فرقة القاضي لزمهما الحد، أما إذا أخبر الشهود المرأة وحدها بأنه بين زوجها وبينها رضاع وكان الزوج غائبا، فالواجب على المرأة أن لا تمكنه من نفسها ووجب عليها فسخ العقد وإذا لم يفسخاه يفسخه القاضي.
أما إذا سمعت قول الشهود ثم أرادت أن تتزوج بغيره قبل أن يفسخ العقد فلا يجوز لها ذلك. وأما إذا أخبر الزوج وحده بأن بينهما رضاعا فيلزمه مفارقتها، وأن لا يطأها بعد علمه بذلك، وإن وطئها أثم.
ولا يشترط لأداء الشهادة أن تكون هناك خصومة ودعوى؛ لأن الشهادة في هذا من باب الحسبة؛ لأنها تتضمن حرمة البضع وحرمة البضع حق لله تبارك وتعالى، وحق الله تجوز فيه الحسبة بخلاف حق العبد.
والراجح أن شهادة المرضعة وحدها لا تكفي؛ لأنها شهادة على فعل نفسها، ولو فتح هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين زوجين إلا فعلت.
2 - ثبوت الرضاع بالإقرار: -
إذا أقر الرجل بأن زوجته أخته من الرضاعة أو خالته أو عمته وصدقته في ذلك، أو أقرت الزوجة وصدقها الزوج انفسخ العقد،
__________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة جـ 1 ص 272.(37/341)
فإن كان قبل الدخول فلا شيء لها من المهر، أما إذا كان بعد الدخول فلها الأقل من المسمى أو مهر المثل (1) .
أما إذا أقر الزوج وكذبته الزوجة، فإذا قال: إنها أختي من الرضاع أو خالتي أو عمتي وكذبته فيما قال - فإن إقراره ملزم له، فيؤاخذ بإقراره ويلزم به. ولا يقال: إنه إنما أقر لكي يتخلص منها؛ لأنه لو أراد أن يتخلص من الزواج فهو المالك لعقدة النكاح وبيده الطلاق ويستطيع أن يفارقها بالطلاق، لذلك جاز إقراره هنا. إلا أنه إن كان قبل الدخول لزمه نصف المهر، وإن كان بعد الدخول لزمه جميع المهر؛ لأنه ربما قصد من الإقرار تفويت المهر.
أما إذا أقرت الزوجة وكذبها الزوج ففي هذه الحالة لا يعتبر إقرارها؛ لأنها متهمة فيه وربما تريد التخلص من الزوج.
فإذا طلقها الزوج بعد إقرارها وقبل الدخول فلا مهر لها ولا تستحق نصف المهر؛ لأنها أقرت بفساد العقد، وكذلك الشأن لو أقرت بالرضاع ثم ماتت فإنها لا تستحق المهر؛ لأنها أقرت بفساد العقد في حياتها.
وإذا أقر أحد الأولياء العاقدين للنكاح على الرضاع وصدقه الآخر صح الإقرار وانفسخ العقد، وذلك مثل أن يزوج أبو الصغير الصغير من ابنة شخص آخر صغيرة، وتولى العقد أبواهما
__________
(1) البحر الزخار لابن المرتضى جـ 3 ص 270(37/342)
عنهما، ثم اعترفا أن بين الصغيرين رضاعا فسخ العقد، أما إذا أقر أحدهما وأنكر الآخر فإذا كان الشخص المقر معروفا بالعدالة وكان قد فشا منه هذا الخبر قبلت شهادته وقبل إقراره (1) .
__________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة جـ 1 ص 273(37/343)
المحرمات بسبب الرضاع: -
إذا أردنا أن نعرف المحرمات بسبب الرضاع وجب علينا أن نعرف المحرمات بسبب النسب، حتى يمكننا أن نعرف المحارم بسبب الرضاع؛ لأن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - قال: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) » . فمن هذا الحديث نستدل على أن الرضاع يحرم جميع الأصناف التي يحرمها النسب، وهي:
أولا: أم الشخص من الرضاع، سواء كانت التي أرضعته أو أمها حيث تكون جدته من الرضاع أو جدة أمه من الرضاع أو أم أبيه من الرضاع أو جدة أبيه من الرضاع، فهذا يشمل الأم والجدات وإن علون وسواء كن من جهة الأم أو من جهة الأب؛ لأن كل هؤلاء يحرمن من النسب فحرمن من الرضاع.
ثانيا: البنت من الرضاع وبنت البنت وبنت الابن من الرضاع مهما نزلن؛ لأن البنات من النسب يحرمن مهما نزلن، فكذلك البنات من الرضاعة.
ثالثا: الأخت من أي جهة كانت، سواء كانت شقيقة أم
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/275) .(37/343)
أختا لأب أم أختا من جهة الأم، فكل أخت من الرضاع تحرم، فالأخت الشقيقة من الرضاع هي التي رضعت من أم الشخص وهي عند أبيه ولبنها لبن الأب، وأما الأخت من جهة الأب فقط فهي التي رضعت من الأم، وهي عند غير الأب ولبنها من غير الأب، فكل ذلك ينشر الحرمة المؤبدة.
رابعا: بنت الأخت من الرضاع تحرم كما تحرم الأخت من الرضاع، وعلى التفصيل الآنف الذكر في الفقرة الثالثة.
خامسا: بنت الأخ من الرضاع، سواء كان الأخ من جهة الأب واللبن له فقط أو من جهة الأم فقط واللبن فقط لها، أم أن اللبن للأم والأب سواء كانت بنت الأخ قريبة أو بعيدة.
سادسا: العمات، سواء كن شقيقات أم لأب أم لأم، أما عمة العمة أو عمة العم فإنها لا تحرم إلا إذا كانت شقيقة أو لأب، أما إذا كانت لأم فإنها لا تحرم بالنسب، ولما لم تحرم بالنسب فإنها لا تحرم بالرضاع.
سابعا: الخالات، والخالات يحرمن من أي جهة كن، وذلك لأن الخالات النسبيات يحرمن من أي جهة فكذلك الخالات من الرضاع.
ثامنا: خالات الخالات والأخوال، وهؤلاء لا يحرمن إلا إذا كن شقيقات أو لأم، أما إذا كن لأب فقط فإنهن لا يحرمن، فحالتهن بعكس حالة عمات العمات والأعمام، فعمات العمات أو الأعمام(37/344)
لا يحرمن إلا إذا كن متصلات من جهة الأب، أما خالات الخالات فلا يحرمن إلا إذا كن متصلات من جهة الأم (1) .
فكل هذه الأصناف الآنفة الذكر تحرم بسبب الرضاع كما حرمت بسبب النسب، فإذا رضع طفل من امرأة حرمت عليه هي وأمهاتها وجداتها من أي جهة كانت، كما تحرم عليه بناتها وبنات بناتها وبنات أبنائها وإن نزلن، ويحرم عليه أخواتها من أي جهة كن، وكذلك بنات أخواتها وبنات إخوانها من أي جهة، والعمات جميعا وعمات الأب وعمات الأم وعمات الجد وعمات الجدة وعمات الأعمام وعمات العمات إذا كن شقيقات أو لأب فإنهن يحرمن، ويحرم عليه خالاته من الرضاع وخالات أمه وخالات أبيه وخالات أجداده وخالات جداته وخالات أخواله وخالات عماته إذا كن شقيقات أو لأم، أما خالات الخالات من جهة الأب فإنهن لا يحرمن بواسطة الرضاع لأنهن أجنبيات عن الراضع، ويجوز للرجل أن يتزوج بأخت أخيه من الرضاع كما يجوز له أن يتزوج أخت أخيه من النسب لأنه لا علاقة له بها ولا حرمة بينهما.
هؤلاء النسوة اللواتي يحرمن من الرضاع كما يحرمن من النسب وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2) » .
المحرمات من الرضاع بسبب المصاهرة:
__________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة جـ 1 ص 263.
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/275) .(37/345)
المحرمات من الرضاع بسبب المصاهرة ليس كما مضى معنا من حيث عمومه، وأن كل من تحرم بسبب المصاهرة تحرم بسبب الرضاع، لذا يقتضينا البحث أن نتعرف على من من النساء يحرمن بواسطة المصاهرة، ومن منهن يحرمن بواسطة الرضاع، ومن لا يحرمن؛ لأننا إذا رجعنا إلى الحرمة بسبب المصاهرة نجد أنها تنقسم قسمين:
القسم الأول: يحرم بالرضاع كما يحرم بالمصاهرة.
القسم الثاني: يحرم بالمصاهرة ولا يحرم بالرضاع.
فمن النساء اللائي يحرمن من الرضاع ويحرمن من المصاهرة هن أم الزوجة وإن علت وبنتها وإن نزلت، فهؤلاء يحرمن بالمصاهرة والرضاع على حد سواء، فإذا رضعت خديجة من عائشة ثم تزوجت خديجة من علي، فعائشة حرمت على علي حرمة مؤبدة ولا يجوز له أن يتزوجها حتى ولو فارق خديجة بسبب الوفاة أو الطلاق، وتحرم عليه بمجرد العقد على خديجة ولا يشترط الدخول، وهكذا جميع أمهاتها وجداتها مهما علون سواء كان ذلك من جهة الرضاع أو من جهة النسب، فأم خديجة النسبية وجدتها النسبية كذلك لا يجوز له أن يتزوج بواحدة منهن.
ولا يجوز أن يجمع الرجل بين زوجته وأختها من الرضاع أو خالتها أو عمتها من الرضاع، ولم يجوز ذلك إلا الجعفرية في زواج البنت على خالتها أو عمتها من الرضاع، وذلك لأنه يجوز(37/346)
للرجل عندهم أن يتزوج بنت أخت زوجته أو بنت أخيها، غاية ما هنالك أن يأخذ إذن الزوجة إذا كانت عمة أو خالة، أما إذا كانت بنت الأخ هي الأولى وأراد أن يأخذ عمتها أو بنت الأخت أولا وأراد أن يأخذ خالتها لا يجوز له ذلك الجمع، ولا يشترط إذن الزوجة، فهذا عندهم سواء كان في الرضاع أم المصاهرة.
القسم الذي يحرم بالمصاهرة ولا يحرم بالرضاع:
الحالة الأولى:
أم الأخ: لا يجوز للشخص أن يتزوج بأم أخيه نسبا لأنها إما أن تكون أمه أو زوجة أبيه، فالأولى محرمة بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (1) والثانية بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (2) .
أما إذا رضع شخص من امرأة أجنبية فإنها تحل لأخيه، ومثل أم الأخ من الرضاع أم الأخت من الرضاع، وكذلك يجوز للشخص أن يتزوج من الأم النسبية لأخيه من الرضاع لأنه أجنبي عنها.
الحالة الثانية:
إذا أرضعت امرأة أجنبية ولد ولد الرجل، جاز لهذا الرجل أن يتزوجها لأنها أجنبية عنه، وكذلك لو أرضعت زوجة ابن هذا الرجل ولدا، وكان له أم من النسب جاز له أن يتزوجها.
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) سورة النساء الآية 22(37/347)
الحالة الثالثة: -
جدة الولد: إذا أرضعت ولد شخص ما امرأة، فإن أمها لا تحرم عليه وإن كانت جدة ابنه من الرضاع، بخلاف جدة ولده من النسب؛ فإنها إما أن تكون أمه أو أم زوجته، وهما لا يجوز له أن يتزوج بواحدة منهما لأنهما حرمتا بنص الكتاب.
الحالة الرابعة:
أخت ولد الرجل من الرضاع يجوز له أن يتزوج بها؛ لأنها أجنبية عنه، بخلاف أخت ابنه من النسب فهي إما أن تكون بنته أو بنت زوجته فتكون ربيبته، ولا يجوز له أن يتزوج بإحداهما.
الحالة الخامسة:
أم العم من الرضاع أو العمة من الرضاع: وكذلك لا تحرم أم العم من الرضاع أو العمة، فإذا كانت أجنبية فإنها لا تحرم على الشخص لأنها لا صلة لها بابن أخي الشخص الذي أرضعته وهي أجنبية، بخلاف أم العم أو العمة من النسب؛ لأنها إما أن تكون جدته أو زوجة الجد، وكلتاهما لا يجوز له أن يتزوجهما.
الحالة السادسة:
أم الخال أو الخالة من الرضاع: فكما جاز للشخص أن يتزوج بأم عمه أو عمته من الرضاع جاز له أن يتزوج بأم خاله من الرضاع أو أم خالته من الرضاع، فإذا أرضعت خاله أو خالته امرأة جاز أن يتزوج بها.
بقيت مسألة: وهي أنه إذا أرضعت الطفل جدته لأمه أي " أم(37/348)
أمه " فهل تحرم أمه على أبيه أم لا؟
والجواب على ذلك: هو أن أم هذا الطفل لا تحرم على أبيه والسبب في ذلك: لأن الطفل أصبح أخا لأمه من الرضاع، وقد عرفنا أن الشخص يجوز له أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع؛ لأنها أجنبية عنه.(37/349)
صفحة فارغة(37/350)
حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين وقائد المجاهدين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: -
فقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار، على قولين:
أحدهما المنع من ذلك. واحتجوا على ذلك بما يلي: -
أولا: ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة - رضي الله عنها - «أن رجلا من المشركين - كان معروفا بالجرأة والنجدة - أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - مسيره إلى بدر في حرة الوبرة فقال: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع فلن أستعين بمشرك، قالت: ثم مضى حتى إذا كنا في الشجرة أدركه الرجل، فقال له كما قال له أول مرة، فقال: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: ارجع فلن أستعين بمشرك، ثم لحقه في البيداء، فقال مثل قوله، فقال له: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، قال: فانطلق (1) » اهـ.
واحتجوا أيضا بما رواه الحاكم في صحيحه من حديث يزيد بن
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817) ، سنن الترمذي السير (1558) ، سنن أبو داود الجهاد (2732) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2832) ، مسند أحمد بن حنبل (6/149) ، سنن الدارمي السير (2496) .(37/351)
هارون أنبأنا مستلم بن سعيد الواسطي عن خبيب بن عبد الرحمن بن خبيب عن أبيه عن جده خبيب بن يساف قال: «أتيت أنا ورجل من قومي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزوا، فقلت: يا رسول الله: إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لم نشهده معهم، فقال: أسلمتما؟ فقلنا: لا، قال: فإنا لا نستعين بالمشركين قال: فأسلمنا وشهدنا معه. . . الحديث (1) » ، قال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وخبيب صحابي معروف. . اهـ. ذكره الحافظ الزيلعي في نصب الراية ص 423 ج 3 ثم قال: ورواه أحمد وابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه في مسانيدهم والطبري في معجمه من طريق ابن أبي شيبة. قال في التنقيح: ومستلم ثقة وخبيب بن عبد الرحمن أحد الثقات الأثبات، والله أعلم.
ثم قال الزيلعي في حديث آخر: روى إسحاق بن راهويه في (مسنده) : أخبرنا الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو بن علقمة عن سعيد بن المنذر عن أبي حميد الساعدي قال: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد حتى إذا خلف ثنية الوداع نظر وراءه فإذا كتيبة حسناء، فقال: " من هؤلاء "؟ . قالوا: هذا عبد الله بن أبي ابن سلول ومواليه من اليهود، وهم رهط عبد الله بن سلام، فقال: " هل أسلموا "؟ قالوا: لا، إنهم على دينهم، قال: " قولوا لهم: فليرجعوا، فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين» انتهى. ورواه الواقدي في كتاب المغازي، ولفظه: «فقال: " من
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/454) .(37/352)
هؤلاء "؟ قالوا: يا رسول الله: هؤلاء حلفاء ابن أبي من يهود، فقال عليه الصلاة والسلام: " لا ننتنصر بأهل الشرك على أهل الشرك» . انتهى. قال الحازمي في كتاب الناسخ والمنسوخ: وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة: فذهب جماعة إلى منع الاستعانة بالمشركين، ومنهم أحمد مطلقا. وتمسكوا بحديث عائشة المتقدم، وقالوا: إن ما يعارضه لا يوازيه في الصحة، فتعذر ادعاء النسخ. وذهبت طائفة إلى أن للإمام أن يأذن للمشركين أن يغزوا معه، ويستعين بهم بشرطين: أحدهما: أن يكون بالمسلمين قلة، بحيث تدعو الحاجة إلى ذلك.
والثاني: أن يكونوا ممن يوثق بهم في أمر المسلمين. ثم أسند إلى الشافعي أن قال: الذي روى مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد مشركا أو مشركين وأبى أن يستعين بمشرك كان في غزوة بدر.
ثم إنه - عليه الصلاة والسلام - استعان في غزوة خيبر بعد بدر بسنتين بيهود بني قينقاع، واستعان في غزوة حنين سنة ثمان بصفوان بن أمية وهو مشرك، فالرد الذي في حديث مالك إن كان لأجل أنه مخير في ذلك بين أن يستعين به وبين أن يرده كما له رد المسلم لمعنى يخافه - فليس واحد من الحديثين مخالفا للآخر، وإن كان لأجل أنه مشرك فقد نسخه ما بعده من استعانته بالمشركين، ولا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين إذا أخرجوا طوعا ويرضخ لهم، ولا يسهم لهم، ولا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أسهم لهم، قال الشافعي: ولعله - عليه السلام - إنما رد(37/353)
المشرك الذي رده في غزوة بدر رجاء إسلامه، قال: وذلك واسع للإمام أن يرد المشرك ويأذن له. انتهى. وكلام الشافعي كله نقله البيهقي عنه. . اهـ. وقال النووي - رحمه الله - في شرحه لصحيح مسلم ص 198، ص 199 ج 12 ما نصه: قوله: «عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة (1) » هكذا ضبطناه بفتح الباء، وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم، قال: وضبطه بعضهم بإسكانها، وهو موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة. قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فارجع فلن أستعين بمشرك (2) » وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعان بصفوان ابن أمية قبل إسلامه، فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه، وقال الشافعي وآخرون: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به وإلا فيكره، وحمل الحديثين على هذين الحالين، وإذا حضر الكافر بالإذن رضخ له ولا يسهم، والله أعلم. . اهـ.
وقال الوزير ابن هبيرة في كتابه: الإفصاح عن معاني الصحاح ج 2 ص 286 ما نصه: واختلفوا: هل يستعان بالمشركين على قتال أهل الحرب، أو يعاونون على عدوهم؟ : فقال مالك وأحمد: لا يستعان بهم ولا يعاونون على الإطلاق. واستثنى مالك: إلا أن يكونوا خدما للمسلمين فيجوز، وقال أبو حنيفة: يستعان بهم ويعاونون على الإطلاق، ومتى كان حكم الإسلام هو الغالب الجاري عليهم، فإن كان حكم الشرك هو الغالب كره، وقال
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817) ، سنن الترمذي السير (1558) ، سنن أبو داود الجهاد (2732) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2832) ، مسند أحمد بن حنبل (6/149) ، سنن الدارمي السير (2496) .
(2) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817) ، سنن الترمذي السير (1558) ، سنن أبو داود الجهاد (2732) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2832) ، مسند أحمد بن حنبل (6/149) ، سنن الدارمي السير (2496) .(37/354)
الشافعي: يجوز ذلك بشرطين:
أحدهما: أن يكون بالمسلمين قلة وبالمشركين كثرة، والثاني: أن يعلم من المشركين حسن رأي في الإسلام وميل إليه، فإن استعين بهم رضخ لهم ولم يسهم لهم، إلا أن أحمد قال في إحدى روايتيه يسهم لهم، وقال الشافعي: إن استؤجروا أعطوا من مال لا مالك له بعينه، وقال في موضع آخر: ويرضخ لهم من الغنيمة، قال الوزير: وأرى ذلك مثل الجزية والخراج. . اهـ.
القول الثاني: جواز الاستعانة بالمشركين في قتال المشركين عند الحاجة أو الضرورة. واحتجوا على ذلك بأدلة منها: قوله جل وعلا في سورة الأنعام {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) الآية، واحتجوا أيضا بما نقله الحازمي عن الشافعي - رحمه الله - فيما ذكرنا آنفا في حجة أصحاب القول الأول، وسبق قول الحازمي - رحمه الله - نقلا عن طائفة من أهل العلم أنهم أجازوا ذلك بشرطين: -
أحدهما: أن يكون في المسلمين قلة بحيث تدعو الحاجة إلى ذلك.
الثاني: أن يكونوا ممن يوثق بهم في أمر المسلمين، وتقدم نقل النووي عن الشافعي أنه أجاز الاستعانة بالمشركين بالشرطين المذكورين وإلا كره، ونقل ذلك أيضا عن الشافعي الوزير ابن هبيرة، كما تقدم.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119(37/355)
واحتج القائلون بالجواز أيضا بما رواه أحمد وأبو داود عن ذي مخمر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ستصالحون الروم صلحا آمنا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم فتنصرون وتغنمون (1) » الحديث ولم يذمهم على ذلك، فدل على الجواز وهو محمول على الحاجة أو الضرورة كما تقدم.
وقال المجد ابن تيمية في المحرر في الفقه ص 171 جـ 2 ما نصه: (ولا يستعين بالمشركين إلا لضرورة، وعنه: إن قوي جيشه عليهم وعلى العدو ولو كانوا معه ولهم حسن رأي في الإسلام جاز وإلا فلا، انتهى. وقال الموفق في المقنع جـ 1 ص 492 ما نصه: ولا يستعين بمشرك إلا عند الحاجة) .
وقال في المغني ج 8 ص 414، ص 415 (فصل) ولا يستعان بمشرك، وبهذا قال ابن المنذر والجوزجاني وجماعة من أهل العلم وعن أحمد ما يدل على جواز الاستعانة به، وكلام الخرقي يدل عليه أيضا عند الحاجة، وهو مذهب الشافعي، لحديث الزهري الذي ذكرناه وخبر صفوان بن أمية، ويشترط أن يكون من يستعان به حسن الرأي في المسلمين، فإن كان غير مأمون عليهم لم تجز الاستعانة به، لأننا إذا منعنا الاستعانة بمن لا يؤمن من المسلمين مثل المخذل والمرجف فالكافر أولى.
ووجه الأول: ما روت عائشة - رضي الله عنها - قالت: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر حتى إذا كان بحرة الوبرة أدركه رجل من المشركين كان يذكر منه جرأة ونجدة، فسر المسلمون به، فقال: يا رسول
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2767) ، سنن ابن ماجه الفتن (4089) ، مسند أحمد بن حنبل (5/409) .(37/356)
الله: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك. قالت: ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان بالبيداء أدركه ذلك الرجل فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم قال: فانطلق (1) » متفق عليه. ورواه الجوزجاني وروى الإمام أحمد بإسناده عن عبد الرحمن بن خبيب قال: «أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد غزوة أنا ورجل من قومي ولم نسلم، فقلنا: إنا لنستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم، قال: فأسلمتما؟ قلنا: لا، قال: فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين (2) » قال ابن المنذر: والذي ذكر أنه استعان بهم غير ثابت. . اهـ.
وقال الحافظ في التخليص بعد ما ذكر الأحاديث الواردة في جواز الاستعانة بالمشركين والأحاديث المانعة من ذلك ما نصه: ويجمع بينه - يعني حديث عائشة - وبين الذي قبله - يعني حديث صفوان بن أمية - ومرسل الزهري بأوجه ذكرها المصنف، منها: وذكره البيهقي عن نص الشافعي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفرس فيه الرغبة في الإسلام فرده رجاء أن يسلم، فصدق ظنه، وفيه نظر، من جهة التنكير في سياق النفي. ومنها: أن الأمر فيه إلى رأي الإمام، وفيه النظر بعينه، ومنها: أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها، وهذا أقربها وعليه نص الشافعي.
وقال في الفروع ج 6 ص 205 ما نصه: ويكره أن يستعين بكافر
__________
(1) صحيح مسلم الجهاد والسير (1817) ، سنن الترمذي السير (1558) ، سنن أبو داود الجهاد (2732) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2832) ، مسند أحمد بن حنبل (6/149) ، سنن الدارمي السير (2496) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/454) .(37/357)
إلا لضرورة، وذكر جماعة: لحاجة، وعنه: يجوز مع حسن رأي فينا، زاد جماعة وجزم به في المحرر: وقوته بهم بالعدو.
وقال الصنعاني - رحمه الله - في سبل السلام ج 4 ص 49، ص 50 على شرحه لحديث عائشة - رضي الله عنها -: (ارجع فلن أستعين بمشرك) ما نصه: والحديث من أدلة من قال: لا يجوز الاستعانة بالمشرك في القتال، وهو قول طائفة من أهل العلم، وذهب الهادوية وأبو حنيفة وأصحابه إلى جواز ذلك، قالوا: لأنه - صلى الله عليه وسلم - استعان بصفوان بن أمية يوم حنين، واستعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم. أخرجه أبو داود والترمذي عن الزهري مرسلا، ومراسيل الزهري ضعيفة، قال الذهبي: لأنه كان خطاء، ففي إرساله شبهة تدليس، وصحح البيهقي من حديث أبي حميد الساعدي أنه ردهم، قال المصنف: ويجمع بين الروايات بأن الذي رده يوم بدر تفرس فيه الرغبة في الإسلام فرده رجاء أن يسلم، فصدق ظنه، أو أن الاستعانة كانت ممنوعة فرخص فيها، وهذا أقرب، وقد استعان يوم حنين بجماعة من المشركين تألفهم بالغنائم، وقد اشترط الهادوية أن يكون معه مسلمون يستقل بهم في إمضاء الأحكام، وفي شرح مسلم: أن الشافعي قال: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة استعين به وإلا فيكره، ويجوز الاستعانة بالمنافق إجماعا، لاستعانته - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله بن أبي وأصحابه، وهذا آخر ما تيسر نقله من كلام أهل العلم. والله ولي التوفيق وصلى الله على(37/358)
نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد(37/359)
حديث شريف
عن أنس - رضي الله عنه - قال: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انصر أخاك ظالما أو مظلوما. فقال رجل: يا رسول الله: أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره (1) »
رواه البخاري
__________
(1) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .(37/360)
بسم الله الرحمن الرحيم
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (2)
(سورة التوبة)
__________
(1) سورة التوبة الآية 67
(2) سورة التوبة الآية 68(38/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(38/2)
مجلة البحوث الإسلامية
(مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض)
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(38/3)
المحتويات
الافتتاحية:
نداء من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لكافة المسلمين سماحة / الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
حول الخمر والكلونيا اللجنة الدائمة 23
الفتاوى:
فتاوى اللجنة اللجنة الدائمة 85
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 129(38/4)
البحوث:
الرد العادل على جهمي جاهل تحقيق عبد العزيز بن عبد الله الزير 147
أسباب النزول وأثرها في تفسير القرآن الكريم د. عبد الله بن إبراهيم الوهيبي 177
الدعوة إلى الله وأسلوبها المشروع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 201
وظيفة الدولة في الشريعة الإسلامية عثمان جمعة ضميرية 213
عادات وافدة يجب الحذر منها د / محمد بن سعد الشويعر 233
الأخفش الأوسط أمقلد هو أم مجدد د / عبد الكريم بن محمد الأسعد 273(38/5)
صفحة فارغة(38/6)
الافتتاحية
نداء من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
للمسلمين كافة من العرب وغيرهم من كل مكان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فأيها المسلمون في كل قطر، أيها العرب في كل مكان، أيها القادة والزعماء إن المعركة الحالية بين العرب واليهود ليست معركة العرب فحسب بل هي معركة إسلامية عربية، معركة بين الكفر والإيمان، بين الحق والباطل، بين المسلمين واليهود، وعدوان اليهود على المسلمين في بلادهم وعقر دورهم أمر معلوم مشهور، والواجب على المسلمين في كل مكان مناصرة إخوانهم المعتدى عليهم، والقيام في صفهم ومساعدتهم على استرجاع حقهم ممن ظلمهم وتعدى عليهم بكل ما يستطيعون من نفس وجاه وعتاد ومال كل بحسب وسعه وطاقته كما قال عز وجل: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (1) وقال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (2) .
ومواقف اليهود ضد الإسلام وضد بني الإسلام معلومة مشهورة قد سجلها التاريخ وتناقلها
__________
(1) سورة الأنفال الآية 72
(2) سورة التوبة الآية 29(38/7)
رواة الأخبار، بل قد شهد بها أعظم كتاب وأصدق كتاب، ألا وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد قال الله عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (1) فنص الله عز وجل في هذه الآية الكريمة على أن اليهود والمشركين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين.
وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (2) {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} (3) قال أهل التفسير في تفسير هاتين الآيتين الكريمتين: كانت اليهود تستفتح على كفار العرب تقول لهم إنه قد أظل زمان نبي يبعث في آخر الزمان نقاتلكم معه، فلما بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنكروه وكفروا به وجحدوا صفته وبذلوا جهودهم في محاربته والتأليب عليه والقضاء على دعوته حسدا منهم وبغيا وجحدا للحق الذي يعرفونه فأبطل الله كيدهم وأضل سعيهم، ثم إنهم لم يزالوا يسعون جاهدين في الكيد للإسلام والعداء لأهله ومساعدة كل عدو عليهم سرا وجهرا، أليسوا القائلين لكفار أهل مكة: أنتم خير وأهدى سبيلا من محمد وأصحابه؟ أليسوا هم الذين ألبوا كفار قريش ومن سار في ركابهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين يوم أحد؟ أليسوا هم الذين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فأطلعه الله على ذلك وأنجاه من كيدهم؟ أليسوا هم الذين ظاهروا الكفار يوم الأحزاب، ونقضوا العهد في نفس المدينة بين المسلمين؟ حتى أحبط الله كيدهم وأزل جندهم من
__________
(1) سورة المائدة الآية 82
(2) سورة البقرة الآية 89
(3) سورة البقرة الآية 90(38/8)
الكفار وسلط الله عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فقتل مقاتلتهم وسبى ذريتهم ونساءهم وأموالهم، لغدرهم ونقضهم العهد ومشايعتهم لأهل الكفر والضلال على حزب الحق والهدى.
فيا معشر المسلمين من العرب وغيرهم في كل مكان، بادروا إلى قتال أعداء الله من اليهود، وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، بادروا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين والمجاهدين الصابرين، وأخلصوا النية لله، واصبروا وصابروا واتقوا الله عز وجل تفوزوا بالنصر المؤزر أو شرف الشهادة في سبيل الحق ودحر الباطل، وما وعدهم الله من الدرجات العلا والنعيم المقيم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (1) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (2) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (3) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) .
وقال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) وقال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (6) {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (7) {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (8) {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (9) .
__________
(1) سورة الصف الآية 10
(2) سورة الصف الآية 11
(3) سورة الصف الآية 12
(4) سورة الصف الآية 13
(5) سورة التوبة الآية 41
(6) سورة التوبة الآية 19
(7) سورة التوبة الآية 20
(8) سورة التوبة الآية 21
(9) سورة التوبة الآية 22(38/9)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (1) ، أيها المجاهدون لقد بين الله سبحانه في هذه الآيات فضل الجهاد وعاقبته الحميدة للمؤمنين، وأنها النصر والفتح القريب في الدنيا مع الجنة والرضوان من الله سبحانه، والمنازل العالية في الآخرة ودلت الآية الثانية وهي قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (2) على وجوب النفير للجهاد على الشبان والشيوخ إذا دعا الواجب لذلك لإعلاء كلمة الله، وحماية أوطان المسلمين، وصد العدوان عنهم مع ما يحصل بالجهاد للمسلمين من العزة والكرامة والخير العظيم والأجور الجزيلة وإعلاء كلمة الحق وحفظ كيان الأمة والحفاظ على دينها وأمنها، وأخبر سبحانه وتعالى في الآية الثالثة والرابعة أن الجهاد في سبيله أفضل من سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام بالصلاة والطواف ونحو ذلك، وأن أهله أعظم درجة عند الله وأنهم الفائزون، كما أخبر سبحانه أنه يبشرهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، وأخبر في الآية الخامسة أنه مع المتقين والمعنى بنصره وتأييده وحفظه وكلاءته لهم، وقد ورد في القرآن الكريم من الآيات الكريمات في فضل الجهاد والحث عليه والوعد بالنصر للمؤمنين والدمار على الكافرين سوى ما تقدم ما يملأ قلب المؤمن نشاطا وقوة ورغبة صادقة في النزول إلى ساحة الجهاد والاستبسال في نصرة الحق ثقة بوعد الله وإيمانا بنصره ورجاء للفوز بإحدى الحسنيين وهما النصر والمغنم أو الشهادة في سبيل الحق كما قال الله عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} (3) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 123
(2) سورة التوبة الآية 41
(3) سورة التوبة الآية 52(38/10)
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) ، وقال عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) ، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (4) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (5) ، الى أن قال سبحانه: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (6) .
ففي هذه الآيات التصريح من الله عز وجل بوعد عباده النصر على أعدائهم، والسلامة من كيدهم مهما كانت قوتهم وكثرتهم لأنه عز وجل أقوى من كل قوي وأعلم بعواقب الأمور، وهو عليهم قدير وبكل أعمالهم محيط، ولكنه عز وجل شرط لهذا الوعد شرطا عظيما وهو الإيمان به وتقواه ونصر دينه والاستقامة عليه مع الصبر والمصابرة، فمن قام بهذا الشرط أوفى لهم الوعد وهو الصادق في وعده: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} (7) ، ومن قصر في ذلك أو لم يرفع به رأسا فلا يلومن إلا نفسه، وينبغي لك أيها المؤمن المجاهد أن تتدبر كثيرا قوله عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (8) إنها والله كلمة عظيمة ووعد صادق من ملك قادر جليل، إذا صبرت على مقاتلة
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة آل عمران الآية 118
(6) سورة آل عمران الآية 120
(7) سورة الزمر الآية 20
(8) سورة آل عمران الآية 120(38/11)
عدوك وجهاده ومنازلته مع قيامك بتقوى الله عز وجل، وهي تعظيمه سبحانه والإخلاص له وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والحذر مما نهى الله عنه ورسوله، هذه حقيقة التقوى والصبر على جهاد النفس لأن الله سبحانه قد أمر بذلك ورسوله.
ونص سبحانه على الصبر وأفرده بالذكر لعظم شأنه وشدة الحاجة إليه وقد ذكره الله في كتابه الكريم في مواضع كثيرة جدا منها قوله جل وعلا: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) ، وقوله سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (2) ، وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) .
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر (4) » فاتقوا الله معاشر المسلمين والمجاهدين في ميادين الحرب وفي كل مكان واصبروا وصابروا في جهاد النفس على طاعة الله وكفها عن محارم الله، وفي جهادها على قتال الأعداء ومنازلة الأقران وتحمل المشاق في تلك الميادين المهولة تحت أزيز الطائرات وأصوات المدافع، وتذكروا أسلافكم الصالحين من الأنبياء والمرسلين وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين ومن تبعهم من المجاهدين الصادقين، فلكم فيهم أسوة وفيهم لكم عظه وعبرة، فقد صبروا كثيرا وجاهدوا طويلا ففتح الله بهم البلاد، وهدى بهم العباد، ومكن لهم في الأرض، ومنحهم السيادة والقيادة بإيمانهم العظيم وإخلاصهم لمولاهم الجليل، وصبرهم في مواطن اللقاء، وإيثارهم الله والدار الآخرة على الدنيا وزهرتها
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46
(2) سورة الزمر الآية 10
(3) سورة آل عمران الآية 200
(4) صحيح البخاري الرقاق (6470) ، صحيح مسلم الزكاة (1053) ، سنن الترمذي البر والصلة (2024) ، سنن النسائي الزكاة (2588) ، سنن أبو داود الزكاة (1644) ، مسند أحمد بن حنبل (3/94) ، موطأ مالك الجامع (1880) ، سنن الدارمي الزكاة (1646) .(38/12)
ومتاعها الزائل كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) ، وقال جل شأنه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (2) .
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها (3) » ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم «أنه سئل أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله قيل ثم أي يا رسول الله قال: الجهاد في سبيل الله (4) » وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المجاهد في سبيل الله والله أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة (5) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبه من النفاق (6) » ، وسأله صلى الله عليه وسلم رجل عن عمل يعدل فضل الجهاد فقال صلى الله عليه وسلم: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم فلا تفطر وتقوم فلا تفتر فقال السائل ومن يستطيع ذلك يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما إنك لو طوقت ذلك لم تبلغ فضل المجاهدين (7) » الحديث.
والأحاديث في فضل الجهاد والحث عليه وبيان ما وعد الله به أهله من العزة في الدنيا والنصر والعواقب الحميدة، وما أعد لهم في الآخرة من المنازل العالية في دار الكرامة كثيرة جدا، فاتقوا الله يا معشر المسلمين جميعا ويا معشر العرب خصوصا جماعات وفرادى، واصدقوا في جهاد عدو الله وعدوكم
__________
(1) سورة التوبة الآية 111
(2) سورة السجدة الآية 24
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2892) ، صحيح مسلم الإمارة (1881) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1648) ، مسند أحمد بن حنبل (5/339) .
(4) صحيح البخاري الإيمان (26) ، صحيح مسلم الإيمان (83) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1658) ، سنن النسائي مناسك الحج (2624) ، سنن الدارمي الجهاد (2393) .
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (2787) .
(6) صحيح مسلم الإمارة (1910) ، سنن النسائي الجهاد (3097) ، سنن أبو داود الجهاد (2502) .
(7) صحيح البخاري الجهاد والسير (2785) ، مسند أحمد بن حنبل (2/344) .(38/13)
من اليهود وأنصارهم وأعوانهم، وحاسبوا أنفسكم وتوبوا إلى ربكم من كل ما يخالف دين الإسلام من مبادئ وعقائد وأعمال، واصدقوا في مواطن اللقاء، وآثروا الله والدار الآخرة، واعلموا أن النصر المبين والعاقبة الحميدة ليست للعرب دون العجم ولا للعجم دون العرب ولا لأبيض دون أسود ولا أسود دون أبيض، ولكن النصر بإذن الله لمن اتقاه، واتبع هداه، وجاهد نفسه لله وأعد لعدوه ما استطاع من القوة كما أمره بذلك مولاه حيث قال عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) ، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) ، وقال عز وجل يخاطب رسوله الأمين عليه أفضل الصلاة والسلام: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (3) .
فتأمل يا أخي أمر الله لعباده أن يعدوا لعدوهم ما استطاعوا من القوة، ثم تأمل أمره لنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عند مقاتلة الأعداء والقرب منهم أن يقيموا الصلاة ويحملوا السلاح، وكيف كرر الأمر سبحانه في أخذ السلاح والحذر لئلا يهجم عليهم العدو في حال الصلاة لتعرف بذلك أنه يجب على المجاهدين قادة وجنودا أن يهتموا بالعدو وأن يحذروا غائلته وأن يعدوا له ما استطاعوا من قوة وأن يقيموا الصلاة ويحافظوا عليها مع الاستعداد للعدو والحذر من كيده، وفي ذلك جمع بين الأسباب
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2) سورة النساء الآية 71
(3) سورة النساء الآية 102(38/14)
الحسية والمعنوية. وهذا هو الواجب على المجاهدين في زمان ومكان أن يتصفوا بالأخلاق الإيمانية، وأن يستقيموا على طاعة ربهم، ويعدوا له ما استطاعوا من قوة ويحذروا مكائده مع الصبر على الحق والثبات عليه، وهذا هو السبب الأول والأساس المتين والأصل العظيم، وهو قطب رحى النصر وأساس النجاة والفلاح، وهذا هو السبب المعنوي الذي خص الله به عباده المؤمنين وميزهم به عن غيرهم ووعدهم عليه النصر إذا قاموا به مع السبب الثاني حسب الطاقة وهو إعدادهم لعدوهم ما استطاعوا من القوة والعناية بشئون الحرب والقتال والصبر والمصابرة في مواطن اللقاء مع الحذر من مكائد الأعداء.
وبهذين الأمرين يستحقون النصر من ربهم عز وجل فضلا منه وكرما ورحمة وإحسانا ووفاء بوعده وتأييدا لحزبه كما قال عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (1) ، وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (2) ، وقال تعالى: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) ، وقال عز وجل: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (4) ، ومما تقدم أيها الأخ المسلم وأيها الأخ المجاهد تعلم أن ما يتكرر كثيرا في بعض الإذاعات العربية من قولهم (النصر لنا) ، (الله معنا) ، (النصر للعرب) ، (النصر للعرب والإسلام) وما أشبه ذلك أن هذه كلها ألفاظ خاطئة ومخالفة للصواب فليس النصر مضمونا للعرب ولا لغيرهم من سائر أجناس البشر، وإنما النصر معلق بأسبابه التي يوضحها الله في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم، وأسبابه كما تقدم هي: تقوى الله، والإيمان به، والصبر والمصابرة لأعدائه، والإخلاص لله
__________
(1) سورة الروم الآية 47
(2) سورة آل عمران الآية 120
(3) سورة المجادلة الآية 22
(4) سورة الصافات الآية 173(38/15)
والاستعانة به مع الأخذ بالأسباب الحسية وإعداد ما يستطاع من العدة، فينبغي التنبيه لهذا الأمر العظيم والحذر من الألفاظ التقليدية المخالفة للشرع المطهر.
أما المعية فهي قسمان: معية عامة، ومعية خاصة. فأما المعية العامة: فهي لجميع البشر وليست خاصة بأهل الإيمان كما قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) ، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (2) ، فهاتان الآيتان صريحتان في أن الله سبحانه عالم بأحوال العباد مطلع على شئونهم محيط بهم ولا يخفى عليه من أمرهم خافية ولهذا بدأ سبحانه هاتين الآيتين بالعلم وختمها بالعلم تنبيها للعباد على أن المراد بالمعية هو العلم والإحاطة والاطلاع على كل شيء من أمر العباد ليخافوه ويعظموه ويبتعدوا عن أسباب غضبه وعذابه، وليس معنى ذلك أنه مختلط بالخلق أو أنه في كل مكان، كما يقول ذلك بعض المبتعدين الضالين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقولهم هذا باطل بالنص والإجماع بل هو سبحانه وتعالى فوق العرش قد استوى عليه استواء يليق بجلاله لا يشابه فيه خلقه، كما صرح بذلك في كتابه الكريم في سبع آيات من القرآن الكريم منها قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ، وهو سبحانه لا شبيه له ولا مثيل له في جميع صفاته كما قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) ، وقال سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (5)
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة المجادلة الآية 7
(3) سورة طه الآية 5
(4) سورة الشورى الآية 11
(5) سورة الإخلاص الآية 4(38/16)
فهو عز وجل فوق العرش عال فوق خلقه كما أخبرنا بذلك عن نفسه، وعلمه في كل مكان لا يخفى عليه خافية كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} (1) {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (2) ، وقال سبحانه: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (3) .
فهذه الآيات المحكمات وما جاء في معناها كلها ترشد العباد إلى أن ربهم سبحانه فوق العرش، وأعمالهم ترفع إليه وهو معهم بعلمه أينما كانوا لا يخفى عليه منهم خافية، أما المعية الخاصة فهي للأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم بإحسان وهم أهل التقوى والإيمان والصبر والمصابرة وهذه المعية الخاصة تقتضي الحفظ والكلاءة والنصر والتأييد كما قال عز وجل عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال لصاحبه في الغار وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (4) . ولما أرسل الله موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون اللعين قال لهما مثبتا ومطمئنا: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (5) ، وقال عز وجل في كتابه المبين يخاطب المشركين: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (6) ، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (7) ،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 5
(2) سورة آل عمران الآية 6
(3) سورة يونس الآية 61
(4) سورة التوبة الآية 40
(5) سورة طه الآية 46
(6) سورة الأنفال الآية 19
(7) سورة التوبة الآية 123(38/17)
وقال عز وجل: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) ، وقال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة فينبغي أن يكون شعار المسلمين في إذاعاتهم وصحفهم وعند لقائهم لأعدائهم في جميع الأحوال هو الشعار القرآني الإسلامي الذي أرشد الله إليه عباده وذلك بأن يقولوا: الله مع المتقين، الله مع المؤمنين، الله مع الصابرين وما أشبه هذه العبارات حتى يكونوا قد تأدبوا بآداب الله وعلقوا النص بأسبابه التي علقه بها، لا بالعروبة ولا بالوطنية ولا بالقومية ولا بأشباه ذلك من الألفاظ والشعارات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
أيها المجاهد إنك في معركة عظيمة مع عدو لدود عظيم الحقد على الإسلام وأهله، فوطن نفسك على الجهاد والصبر والمصابرة، وأخلص عملك لله، واستعن به وحده وأبشر إذا صدقت في ذلك بإحدى الحسنيين إما النصر والغنيمة والعاقبة الحميدة في الدنيا، وإما الشهادة والنعيم المقيم والقصور العالية والأنهار الجارية والحور الحسان في دار الكرامة، أيها العربي لا تظن أن النصر على عدوك معلق بعروبتك، وإنما ذلك بإيمانك بالله وصبرك في مواطن اللقاء واستقامتك على الحق وتوبتك من سالف ذنوبك وإخلاصك لله من كل أعمالك، فاستقم على ذلك وتمسك بالإسلام الصحيح الذي حقيقته الإخلاص والاستقامة على شرعه والسير على هدي رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم في الحرب والسلم وفي جميع الأحوال.
أيها المسلم أيها المجاهد ما أصاب المسلمين يوم أحد
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46
(2) سورة البقرة الآية 249(38/18)
بسب إخلال بعض الرماة بطاعة القائد العظيم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفشل والتنازع ثم الهزيمة، ولما استنكر المسلمين ذلك أنزل الله في ذلك قوله عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) ، وقال عز وجل: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} (2) ، وقال سبحانه في هذا المعنى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (3) ، ولما أعجب المسلمون بكثرتهم يوم حنين هزموا، ثم أنزل الله عليهم السكينة وأيدهم بجنود من عنده فتراجعوا وصدقوا الحملة على عدوهم واستغاثوا بربهم واستنصروا به فنصرهم وأيدهم وهزم عدوهم كما قال تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} (4) {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} (5) .
فكل ما أصاب المسلمين في الجهاد أو غيره من هزيمة أو جرح أو غير ذلك مما يكرهون فهو بأسباب تقصيرهم وتفريطهم فيما يجب من إعداد القوة والعناية بأمر الحرب، أو بأسباب معاصيهم ومخالفتهم لأمر الله فاستعينوا بالله أيها المجاهدون واستقيموا على أمره وأعدوا لعدوكم ما استطعتم من قوة واصدقوا الله يصدقكم وانصروه ينصركم ويثبت أقدامكم واحذروا الكبر والرياء وسائر المعاصي، واحذروا أيضا التنازع
__________
(1) سورة آل عمران الآية 165
(2) سورة آل عمران الآية 152
(3) سورة الشورى الآية 30
(4) سورة التوبة الآية 25
(5) سورة التوبة الآية 26(38/19)
والاختلاف وعصيان قادتكم في تدبير شئون الحرب وغير ذلك ما لم يكن معصية لله عز وجل عملا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (3) ، أيها المسلمون أيها المجاهدون إليكم نماذج من كلمات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم حين مقابلتهم لجيش الروم يوم اليرموك لما فيها من العبرة والذكرى.
كلام خالد بن الوليد رضي الله عنه: لما جمع خالد رضي الله عنه الجيوش يوم اليرموك لقتال الروم قام فيهم خطيبا فقال: (إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم وإن هذا يوم له ما بعده) ، وقام أبو عبيدة رضي الله عنه في الناس خطيبا قال: (عباد الله انصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، يا معشر المسلمين اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب ومدحضة للعار ولا تبرحوا مصافكم ولا تخطوا إليهم خطوة ولا تبدأوهم بالقتال، وأشرعوا الرماح واستتروا بالدرق والزموا الصمت إلا من ذكر الله في أنفسكم حتى آمركم إن شاء الله تعالى) .
وقام معاذ بن جبل رضي الله عنه في الناس خطيبا ذلك اليوم فجعل يذكرهم ويقول: (يا أهل القرآن ومتحفظي الكتاب وأنصار الهدى والحق إن رحمة الله لا تنال، وجنته لا تدخل بالأماني، ولا يؤتي الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا الصادق المصدق ألم تسمعوا بقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (4) ،
__________
(1) سورة الأنفال الآية 45
(2) سورة الأنفال الآية 46
(3) سورة الأنفال الآية 47
(4) سورة النور الآية 55(38/20)
فاستحوا رحمكم الله من ربكم إن يراكم فرارا من عدوكم وأنتم في قبضته، وليس لكم ملتحد من دونه ولا عز بغيره) .
وقام عمرو بن العاص رضي الله عنه في الناس فقال: يا أيها المسلمون غضوا الأبصار واجثوا على الركب وأشرعوا الرماح، فإذا وثبوا عليكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا إليهم وثبه الأسد فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه ويمقت الكذب ويجزي بالإحسان إحسانا لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفرا كفرا وقصرا قصرا فلا يهولنكم جمعهم ولا عددهم فإنكم لو صدقتموهم الشد تطايروا تطاير أولاد الحجل) ، وقام أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه في الناس فتكلم كلاما حسنا من ذلك قوله: (والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم ولا تبلغن رضوان الله غدا إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة) .
هذه نماذج حية عظيمة نقلتها لكم أيها المجاهدون من كلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعلموا أن النصر في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة لا يدركان بالأماني ولا بالتفريط وإضاعة الواجب، وإنما يدركان بتوفيق الله بالصدق في اللقاء، ومصابرة الأعداء، والاستقامة على دين الله، وإيثار حقه على ما سواه، والله المسئول أن ينصر المسلمين على عدوهم، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يوفق قادتهم للاستقامة على أمره والصدق في جهاد أعدائه، والتوبة إليه من كل ما يغضبه، كما أسأله عز وجل أن يهزم اليهود وأنصارهم وأعوانهم، وأن يكبت أعداء الإسلام أينما كانوا، وأن ينزل بهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين إنه على كل شيء قدير وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه إمام الفاتحين وسيد المرسلين وخير عباد الله أجمعين وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسيرته إلى يوم الدين.(38/21)
صفحة فارغة(38/22)
الخمر والكلونيا
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فبناء على ما تقرر في الدورة التاسعة لهيئة كبار العلماء من إدراج موضوع الخمر والكلونيا، فقد أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على ما يأتي:
أولا: تعريف الخمر لغة وشرعا.
ثانيا: عقوبة من ثبت عليه شرب الخمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين.
ثالثا: خلاف العلماء في أن العقوبة في شرب الخمر هل هي حد أو تعزير مع بيان ما يترتب على ذلك.
رابعا: هل تجوز تجزئة عقوبة شارب الخمر.
خامسا: ما يثبت به شربها من شهادة أو رائحة أو قيء ونحو ذلك.
سادسا: حكم من تكرر منه شربها " القتل أو الجلد ".
سابعا: نجاستها.
ثامنا: هل ينطبق على الكلونيا تعريف الخمر أو لا؟
وما حكم شربها واستعمالها على كل من التقديرين؟
وهل يحكم بنجاستها على تقدير أنها خمر أو لا؟(38/23)
أولا: معنى الخمر لغة وشرعا
1 - المعنى اللغوي: ترجع مشتقات هذه المادة إلى التغطية والستر والإدراك، ذكره أحمد بن فارس بن زكريا وابن الأثير والفيروز آبادي وغير هؤلاء من علماء اللغة.
أ - قال أحمد بن فارس: الخاء والميم والراء أصل واحد يدل على التغطية والمخالطة في ستر، فالخمر الشراب المعروف، قال الخليل: (الخمر معروفة واختمارها إدراكها وغليانها. .) ويقولون: دخل في خمار الناس وخمرهم أي زحمتهم. . والتخمير التغطية، ويقال في القوم إذا تواروا في خمر الشجر: أخمروا، ويقال: خامره الداء إذا خالط جوفه (1) انتهى المقصود منه.
ب - قال ابن الأثير تحت مادة " خمر ": فيه «خمروا الإناء وأوكوا السقاء (2) » التخمير: التغطية، ومنه حديث أويس القرني: أكون في خمار الناس أي في زحمتهم حيث أخفى ولا أعرف. وفيه حديث أم سلمة قال لها وهي حائض: «ناوليني الخمرة» وسميت خمرة لأن خيوطها مستورة بسعفها، وفيه أنه كان يمسح على الخف والخمار أراد به العمامة، لأن الرجل يغطي بها رأسه كما أن المرأة تغطيه بخمارها وذلك إذا كان قد اعتم عمة العرب فأدارها تحت الحنك فلا يستطيع نزعها كل وقت. . إلخ (3) .
جـ - قال الفيروز آبادي تحت مادة " الخمر ": ما أسكر من
__________
(1) معجم مقاييس اللغة.
(2) صحيح البخاري الأشربة (5623) ، صحيح مسلم الأشربة (2012) ، سنن الترمذي الأطعمة (1812) ، سنن أبو داود الصيد (2857) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3410) ، موطأ مالك الجامع (1727) .
(3) النهاية 1 \ 355.(38/24)
عصير العنب، أو عام كالخمرة، وقد يذكر والعموم أصح، لأنها حرمت وما بالمدينة خمر عنب وما كان شرابهم إلا البر والتمر، سميت خمرا لأنها تخمر العقل وتستره، ولأنها تركت حتى أدركت واختمرت ولأنها تخامر العقل أي تخالطه. انتهى المقصود منه (1) .
وجاء هذا المعنى في لسان العرب (2) .
2 - تعريفها اصطلاحا: نذكر فيما يلي تعريفها في المذاهب الأربعة مرتبة:
أ - تعريفها عند الحنفية: قال الزيلعي: هي النيئ من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد.
وقال بعضهم كل مسكر خمر لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (3) » رواه مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم.
وفي لفظ: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (4) » رواه مسلم.
ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة (5) » رواه مسلم وأبو داود والترمذي وجماعة.
وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من الحنطة خمرا وإن من الشعير خمرا ومن الزبيب خمرا ومن العسل خمرا (6) » رواه أبو داود والترمذي وجماعة أخر، ولأنها سميت خمرا لمخامرتها العقل، والسكر يوجد بشرب غيرها فكان خمرا. ولنا
__________
(1) القاموس \ 2 \ 23.
(2) لسان العرب 5 \ 338 وما بعدها.
(3) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(4) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(5) صحيح مسلم الأشربة (1985) ، سنن الترمذي الأشربة (1875) ، سنن النسائي الأشربة (5572) ، سنن أبو داود الأشربة (3678) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3378) ، مسند أحمد بن حنبل (2/526) ، سنن الدارمي الأشربة (2096) .
(6) سنن الترمذي الأشربة (1872) ، سنن أبو داود الأشربة (3676) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3379) .(38/25)
أن الخمر حقيقة اسم للنيئ من ماء العنب المسكر باتفاق أهل اللغة، وغيره يسمى مثلثا وباذقا إلى غير ذلك من أسمائه وتسمية غيرها خمرا مجازا. وعليه يحمل الحديث أو على بيان الحكم إن ثبت، لأنه عليه الصلاة والسلام بعث له لا لبيان الحقائق.
ولا نسلم أنها سميت خمرا لمخامرتها العقل، بل لتخمرها، ولكن سلمنا لأنها سميت بالخمر لمخامرتها العقل لا يلزم منه أن يسمى غيرها بالخمر قياسا عليها، لأن القياس لإثبات الأسماء اللغوية باطل وإنما هو لتعدي الحكم الشرعي. . ألا ترى أن البرج سمي برجا لتبرجه وهو الظهور، وكذا النجم سمي نجما لظهوره ثم لا يسمى كل ظاهر برجا ولا نجما.
وما ذكره في المختصر من تعريف الخمر هو قول أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما إذا اشتد صار خمرا ولا يشترط فيه القذف بالزبد لأن اللذة المطربة والقوة المسكرة تحصل به، وهو المؤثر في إيقاع العداوة والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وأما القذف بالزبد فهو وصف لا تأثير له في إحداث صفة السكر، وله أن الغليان بداية الشدة وكماله بقذف الزبد، لأنه يتميز به الصافي من الكدر وأحكام الشرع المتعلقة بها قطعية كالحد وإكفار مستحلها ونحو ذلك فتناط بالنهاية به.
وقيل يؤخذ في حرمة الشرب بمجرد الاشتداد وفي وجوب الحد على الشارب بقذف الزبد احتياطا (1) .
__________
(1) انظر كتاب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي وبهامشه حاشية الشبلي 6 \ 44.(38/26)
2 - تعريفها عند المالكية:
أ - في المدونة قلت لابن القاسم: هل كان مالك يكره المسكر من النبيذ؟ قال: قال مالك ما أسكر من الأشربة كلها فهو خمر، انتهى المقصود (1) .
ب - وقال الزرقاني: وهي ما خامر العقل، كما خطب بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحضرة الصحابة الأكابر ولم ينكره أحد فشمل كل مسكر، سميت بذلك لأنها تخمر العقل أي تغطيه وتستره، وكل شيء غطى شيئا فقد خمره كخمار المرأة لأنه يغطي رأسها، ويقال للشجر الملتف: الخمر لأنه يغطي ما تحته، أو لأنها تركت حتى أدركت. كما يقال: خمر الرأي واختمر أي ترك حتى يتبين فيه الوجه، واختمر الخبز إذا بلغ إدراكه، ولأنها استقت من المخامرة التي هي المخالطة لأنها تخالط العقل وهذا قريب من الأول، والثلاثة موجودة في الخمر لأنها تركت حتى أدركت الغليان وحد الإسكار وهي مخالطة العقل وربما غلت عليه وغطته قاله أبو عمر (2) .
3 - تعريفها عند الشافعية:
وقال المزني: قال الشافعي: كل شراب أسكر كثيره فقليلة حرام. انتهى المقصود (3) .
وقال الرملي: وحقيقة الخمر المسكر من عصر العنب وإن لم
__________
(1) المدونة 4 \ 410.
(2) الزرقاني على الموطأ \ 4 \ 169.
(3) مختصر المزني مع الأم \ 5 \ 174 والمهذب للشيرازي 2 \ 286.(38/27)
يقذف بالزبد وتحريم غيرها بنصوص دلت على ذلك (1) .
5 - تعريفها عند الحنابلة:
قال ابن قدامة: كل مسكر حرام قليله وكثيره وهو خمر حكمه حكم عصير العنب في تحريمه ووجوب الحد على شاربه، انتهى المقصود (2) .
قال شيخ الإسلام: والخمر التي حرمها الله ورسوله وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجلد شاربها. كل شراب مسكر من أي أصل سواء كان من الثمار كالعنب والرطب والتين، أو الحبوب كالحنطة والشعير، أو الطلول كالعسل أو الحيوان كألبان الخيل، بل لما أنزل الله عليه سبحانه وتعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم تحريم الخمر لم يكن عندهم في المدينة من خمر العنب شيء، لأنه لم يكن في المدينة شجر عنب وإنما كانت تجلب من الشام، وكان عامة شرابهم من نبيذ التمر، وقد تواترت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه وأصحابه رضي الله عنهم أنه حرم كل مسكر وبين أنه خمرا (3) .
__________
(1) المغني \ 9 \ 119.
(2) نهاية المحتاج 8 \ 11.
(3) السياسة الشرعية \ 50.(38/28)
ثانيا: عقوبة من ثبت عليه شرب الخمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين.
1 - روى البخاري في الصحيح بسند عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال (1) » ، وجلد أبو بكر أربعين.
وذكر ابن حجر أن هذا الحديث أخرجه البيهقي في الخلافيات
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6773) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .(38/28)
من طريق جعفر بن محمد القلانسي عن آدم شيخ البخاري فيه بلفظ «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل شرب الخمر فضربه بجريدتين نحوا من أربعين (1) » ، ثم صنع أبو بكر مثل ذلك، فلما كان عمر استشار الناس فقال له عبد الرحمن بن عوف: "أخف الحدود ثمانون ففعله عمر ". ولفظ رواية خالد التي ذكرتها إلى قوله " نحوا من أربعين " وأخرجه مسلم والنسائي أيضا من طريق محمد بن جعفر عن شعبة مثل رواية آدم إلا أنه قال: " وفعله أبو بكر فلما كان عمر - أي في خلافته - استشار الناس فقال عبد الرحمن - يعني ابن عوف -: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر ".
وأخرج النسائي من طريق يزيد بن هارون عن شعبة " فضربه بالنعال نحوا من أربعين " ثم أتي به أبو بكر فصنع به مثل ذلك ". . ورواه همام عن قتادة بلفظ " فأمر قريبا من عشرين رجلا فجلده كل رجل جلدتين بالجريد والنعال " أخرجه أحمد والبيهقي. وهذا يجمع ما اختلف فيه على شعبة وأن جملة الضربات كانت نحو أربعين، لا أنه جلده بجريدتين أربعين، فتكون الجملة ثمانين، كما أجاب به بعض الناس ورواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة بلفظ " جلد بالجريد والنعال أربعين " علقه أبو داود بسند صحيح ووصله البيهقي، وكذا أخرجه مسلم من طريق وكيع عن هشام بلفظ " كان يضرب في الخمر مثله " (2) انتهى المقصود.
2 - أخرج البخاري بسنده عن عقبة بن الحارث «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بنعيمان - أو بابن نعيمان - وهو سكران فشق عليه وأمر من
__________
(1) صحيح مسلم الحدود (1706) ، سنن الترمذي الحدود (1443) ، مسند أحمد بن حنبل (3/115) .
(2) الفتح 12 \ 63 - 64.(38/29)
في البيت أن يضربوه فضربوه بالجريد والنعال وكنت فيمن ضربه (1) » .
3 - أخرج البخاري بسنده عن عمير بن سعيد النخعي قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما كنت لو أقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي إلا شارب الخمر فإنه لو مات وديته وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه.
4 - أخرج البخاري بسنده عن السائب بن يزيد قال: «كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمرة أبي بكر فصدرا من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين (2) » ، وقد علق ابن حجر على قوله: " حتى كان آخر خلافة عمر فجلد أربعين " ظاهره أن التحديد بأربعين إنما وقع في آخر خلافة عمر، وليست كذلك لما في قصة خالد بن الوليد وكتابه إلى عمر رضي الله عنه فإنه يدل على أن أمر عمر بجلد ثمانين كان في وسط إمارته، لأن خالدا مات في وسط خلافة عمر، انتهى المقصود 12 \ 69.
5 - قال ابن حجر: أخرج النسائي بسند صحيح عن أبي سعيد «أتي النبي صلى الله عليه وسلم بنشوان فأمر به فنهز بالأيدي وخفق بالنعال (3) » الحديث.
ولعبد الرزاق بسند صحيح عن عبيد بن عمير أحد كبار التابعين (كان الذي يشرب الخمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وبعض إمارة عمر يضربونه بأيديهم ونعالهم ويصكونه (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6775) ، مسند أحمد بن حنبل (4/8) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6779) ، مسند أحمد بن حنبل (3/449) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (3/34) .
(4) الفتح \ 12 \ 67.(38/30)
6 - قال ابن حجر: وقع في مرسل عبيد بن عمير أحد كبار التابعين فيما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عنه نحو حديث السائب وفيه: (أن عمر جعله أربعين سوطا فلما رآهم لا يتناهون جعله ستين سوطا، فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطا وقال: هذا أدنى الحدود) (1) .
7 - أخرج مالك في الموطأ عن ثور بن يزيد " أن عمر استشار في الخمر فقال له علي بن أبي طالب: نرى أن تجعله ثمانين، فإنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى، فجلد عمر في الخمر ثمانين ".
قال ابن حجر (2) : وهذا معضل، وقد وصله النسائي والطحاوي من طريق يحيى بن فليح عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس مطولا ولفظه: «أن الشراب كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأيدي والنعال والعصا حتى توفي، فكانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم، فقال أبو بكر: لو فرضنا لهم حدا فتوخى نحو ما كانوا يضربون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فجلدهم أربعين حتى توفي، ثم كان عمر فجلدهم كذلك حتى أتي برجل» فذكر قصة وأنه تأول قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (3) وإن ابن عباس ناظره في ذلك واحتج ببقية الآية وهو قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} (4) والذي يرتكب ما حرمه الله ليس بمتق، فقال عمر: ما ترون؟ فقال علي. . " فذكره وزاد بعد قوله:
__________
(1) الفتح 12 \ 69.
(2) فتح الباري مجلد 12 صفحة 69 وما بعدها.
(3) سورة المائدة الآية 93
(4) سورة المائدة الآية 93(38/31)
" وإذا هذى افترى " " وعلى المفتري ثمانون جلدة فأمر عمر فجلده ثمانين " ولهذا الأثر عن علي طرق أخرى، منها ما أخرجه الطبراني والطحاوي والبيهقي من طريق أسامة بن زيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن " أن رجلا من بني كلب يقال له ابن دبره أخبره أن أبا بكر كان يجلد في الخمر أربعين، وكان عمر يجلد فيها أربعين، قال: " فبعثني خالد بن الوليد إلى عمر فقلت: إن الناس قد انهمكوا في الخمر واستخفوا العقوبة، فقال عمر لمن حوله ما ترون؟ قال: " ووجدت عنده عليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف في المسجد فقال علي. . . . "، فذكر مثل رواية ثور الموصلة، ومنها ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة: " أن عمر شاور الناس في الخمر فقال له علي: إن السكران إذا سكر هذى " الحديث. ومنها ما أخرجه ابن أبي شيبة من رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: " شرب نفر من أهل الشام الخمر وتأولوا الآية المذكورة فاستشار عمر فيهم فقلت: أرى أن تستتيبهم فإن تابوا ضربتهم ثمانين ثمانين، وإلا ضربت أعناقهم لأنهم استحلوا ما حرم الله فاستتابهم فتابوا فضربهم ثمانين ثمانين "، وأخرج أبو داود والنسائي من حديث عبد الرحمن بن أزهر في قصة الشارب الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم بحنين وفيه: " فلما كان عمر كتب إليه خالد بن الوليد: إن الناس قد انهمكوا في الشرب وتحاقروا العقوبة، قال وعنده المهاجرون والأنصار، فسألهم واجتمعوا على أن يضربه ثمانين، وقال علي: فذكر مثله ".(38/32)
وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج ومعمر عن ابن شهاب قال: " فرض أبو بكر في الخمر أربعين سوطا وفرض فيها عمر ثمانين "، قال الطحاوي: جاءت الأخبار متواترة عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن في الخمر شيئا. ويؤيده فذكر الأحاديث التي ليس فيها تقييد بعدد: حديث أبي هريرة، وحديث عقبة بن الحارث المتقدمين، وحديث عبد الرحمن بن أزهر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد شرب الخمر فقال للناس: اضربوه فمنهم من ضربه بالنعال ومنهم من ضربه بالعصا ومنهم من ضربه بالجريد ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترابا فرمى به في وجهه (1) » . وتعقب بأنه قد ورد في بعض طرقه ما يخالف قوله وهو ما عند أبي داود والنسائي في هذا الحديث " ثم أتي أبو بكر بسكران فتوخى الذي كان من ضربهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربه أربعين، ثم أتي عمر بسكران فضربه أربعين " فإنه يدل على أنه وإن لم يكن في الخبر تنصيص على عدد معين ففيما اعتمده أبو بكر حجة على ذلك، ويؤيده ما أخرجه مسلم من طريق حضين - بمهملة وضاد معجمة مصغر - بن المنذر " أن عثمان أمر عليا بجلد الوليد بن عقبة في الخمر فقال لعبد الله بن جعفر: اجلده فجلده، فلما بلغ أربعين قال: أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة، وهذا أحب إلي" فإن فيه الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وسائر الأخبار ليس فيها عدد إلا بعض الروايات الماضية عن أنس ففيها نحو أربعين والجمع بينها أن عليا أطلق الأربعين فهو حجة
__________
(1) سنن أبو داود كتاب الحدود (4487) .(38/33)
على من ذكرها بلفظ التقريب، وادعى الطحاوي أن رواية أبي ساسان هذه ضعيفة لمخالفتها الآثار المذكورة، ولأن راويها عبد الله بن فيروز المعروف بالداناج بنون وجيم ضعيف، وتعقبه البيهقي بأنه حديث صحيح مخرج في المسانيد والسنن، وأن الترمذي سأل البخاري عنه فقواه وقد صححه مسلم وتلقاه الناس بالقبول، وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب.
قال البيهقي وصحة الحديث إنما تعرف بثقة رجاله، وقد عرفهم حفاظ الحديث وقبلوهم، وتضعيفه الداناج لا يقبل؛ لأن الجرح بعد ثبوت التعديل لا يقبل إلا مفسرا، ومخالفة الراوي غيره في بعض ألفاظ الحديث لا تقتضي تضعيفه ولا سيما مع ظهور الجمع، قلت: وثق الداناج المذكور أبو زرعة والنسائي، وقد ثبت عن علي في هذه القصة من وجه آخر أنه جلد الوليد أربعين ثم ساق من طريق هشام بن يوسف عن معمر وقال: أخرجه البخاري، وهو كما قال، وقد تقدم في مناقب عثمان وأن بعض الرواة قال فيه: إنه جلد ثمانين وذكرت ما قيل في ذلك هناك، وطعن الطحاوي ومن تبعه في رواية أبي ساسان أيضا بأن عليا قال: " وهذا أحب إلي" أي جلد أربعين مع أن عليا جلد النجاشي الشاعر في خلافته ثمانين، وبأن ابن أبي شيبة أخرج من وجه آخر عن علي أن حد النبيذ ثمانون.
والجواب عن ذلك من وجهين: أحدهما أنه لا تصح أسانيد شيء من ذلك عن علي. والثاني على تقدير ثبوته فإنه يجوز أن ذلك يختلف بحال الشارب(38/34)
وأن حد الخمر لا ينقص عن الأربعين ولا يزيد على الثمانين والحجة إنما هي في جزمه بأنه صلى الله عليه وسلم جلد أربعين، وقد جمع الطحاوي بينهما بما أخرجه هو والطبري من طريق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين " أن عليا جلد الوليد بسوط له طرفان "، وأخرجه الطحاوي أيضا من طريق عروة مثله لكن قال: " له ذنبان أربعين جلده في الخمر في زمن عثمان ".
قال الطحاوي: ففي هذا الحديث أن عليا جلده ثمانين لأن كل سوط سوطان وتعقب بأن السند الأول منقطع فإن أبا جعفر ولد بعد موت علي بأكثر من عشرين سنة، وبأن الثاني في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف، وهو لم يكن في الوقت المذكور مميزا، وعلى تقدير ثبوته فليس في الطريقين أن الطرفين أصاباه في كل ضربه، وقال البيهقي: يحتمل أن يكون ضربه بالطرفين عشرين فأراد بالأربعين ما اجتمع من عشرين وعشرين ويوضح ذلك قوله في بقية الخبر " وكل سنة وهذا أحب إلي " لأنه لا يقتضي التغاير، والتأويل المذكور يقتضي أن يكون كل من الفريقين جلد ثمانين فلا يبقى هناك عدد يقع التفاضل فيه.
وأما دعوى من زعم أن المراد بقوله هذا الإشارة إلى الثمانين فيلزم من ذلك أن يكون علي رجح ما فعل عمر على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وهذا لا يظن به، قاله البيهقي واستدل الطحاوي لضعف حديث أبي ساسان بما تقدم ذكره من قول علي أنه إذا سكر هذى. . . إلخ، قال: فلما اعتمد علي في ذلك على ضرب المثل واستخرج الحد بطريق الاستنباط دل على أنه لا توقيف عنده(38/35)
من الشارع في ذلك، فيكون جزمه بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين غلطا من الراوي، إذ لو كان عنده الحديث المرفوع لم يعدل عنه إلى القياس، ولو كان عند من بحضرته من الصحابة كعمر وسائر من ذكر في ذلك شيء مرفوع لأنكروا عليه، وتعقب بأنه إنما يتجه الإنكار لو كان المنزع واحدا، فأما مع الاختلاف فلا يتجه الإنكار، وبيان ذلك أن في سياق القصة ما يقتضي أنهم كانوا يعرفون أن الحد أربعون، وإنما تشاوروا في أمر يحصل به الارتداع يزيد على ما كان مقررا ويشير إلى ذلك ما وقع من التصريح في بعض طرقه أنهم احتقروا العقوبة وانهمكوا فاقتضى رأيهم أن يضيفوا إلى الحد المذكور قدره إما اجتهادا بناء على جواز دخول القياس في الحدود فيكون الكل حدا، أو استنبطوا من النص معنى يقتضي الزيادة في الحد لا النقصان منه، أو القدر الذي زادوه كان على سبيل التعزير تحذيرا وتخويفا، لأن من احتقر العقوبة إذا عرف أنها غلظت في حقه كان أقرب إلى ارتداعه، فيحتمل أن يكونوا ارتدعوا بذلك ورجع الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك فرأى علي الرجوع إلى الحد المنصوص وأعرض عن الزيادة، لانتفاء سببها، ويحتمل أن يكون القدر الزائد كان عندهم خاصا بمن تمرد وظهرت منه أمارات الاشتهار بالفجور، ويدل على ذلك أن بعض طرق حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عند الدارقطني وغيره فكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف تكون منه الزلة جلده أربعين، قال: وكذلك عثمان جلد أربعين(38/36)
وثمانين، وقال المازري لو فهم الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم حد في الخمر حدا معينا لما قالوا فيه بالرأي كما لم يقولوا بالرأي في غيره، فلعلهم فهموا أنه ضرب فيه باجتهاده في حق من ضربه. انتهى.
وقد وقع التصريح بالحد المعلوم فوجب المصير إليه، ورجح القول بأن الذي اجتهدوا فيه زيادة على الحد إنما هو التعزير على القول بأنهم اجتهدوا في الحد المعين، لما يلزم منه من المخالفة التي ذكرها كما سبق تقريره. وقد أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج أنبأنا عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول: " كان الذي يشرب الخمر يضربونه بأيديهم ونعالهم فلما كان عمر فعل ذلك حتى خشي فجعله أربعين سوطا فلما رآهم لا يتناهون جعله ثمانين سوطا وقال هذا أخف الحدود ". والجمع بين حديث علي المصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين وأنه سنة، وبين حديثه المذكور في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه بأن يحمل النفي على أنه لم يحد الثمانين أي لم يسن شيئا زائدا على الأربعين ويؤيده قوله: " وإنما هو شيء صنعناه نحن " يشير إلى ما أشار به على عمر، وعلى هذا فقوله: " لو مات لوديته " أي في الأربعين الزائدة، وبذلك جزم البيهقي وابن حزم ويحتمل أن يكون قوله: " لم يسنه " أي الثمانين لقوله في الرواية الأخرى: " وإنما هو شيء صنعناه " فكأنه خاف من الذي صنعوه باجتهادهم أن لا يكون مطابقا، واختص هو بذلك لكونه الذي كان أشار بذلك واستدل له ثم ظهر له أن الوقوف عند ما كان الأمر عليه أولا أولى فرجع إلى ترجيحه وأخبر بأنه لو أقام(38/37)
الحد ثمانين فمات المضروب وداه للعلة المذكورة، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: " لم يسنه " لصفة الضرب وكونها بسوط الجلد أي لم يسن الجلد بالسوط وإنما كان يضرب فيه بالنعال وغيرها مما تقدم ذكره أشار إلى ذلك البيهقي، وقال ابن حزم أيضا: لو جاء عن غير علي من الصحابة في حكم واحد أنه مسنون وأنه غير مسنون لوجب حمل أحدهما على غير ما حمل عليه الآخر فضلا عن علي مع سعة علمه وقوة فهمه، وإذا تعارض خبر عمير بن سعيد وخبر أبي ساسان فخبر أبي ساسان أولى بالقبول؛ لأنه مصرح فيه برفع الحديث عن علي، وخبر عمير موقوف على علي، وإذا تعارض المرفوع والموقوف قدم المرفوع.
وأما دعوى ضعف سند أبي ساسان فمردودة، والجمع أولى مهما أمكن من توهين الأخبار الصحيحة، وعلى تقدير أن تكون إحدى الروايتن وهما فرواية الإثبات مقدمة على رواية النفي، وقد ساعدتها رواية أنس على اختلاف ألفاظ النقلة عن قتادة، وعلى تقدير أن يكون بينهما تمام التعارض فحديث أنس سالم من ذلك.(38/38)
ثالثا: خلاف العلماء في أن العقوبة في شرب الخمر هل هي حد أو تعزير مع بيان ما يترتب على ذلك:
اختلف أهل العلم في عقوبة شارب الخمر على قولين: أحدهما أنها حد. والثاني أنها تعزير. والذين قالوا بأنها حد اختلفوا على قولين هما المشهوران، منهم من قال: بأنه ثمانون، ومنهم من قال: بأن الحد أربعون، وما زاد على ذلك يرجع فيه إلى اجتهاد الإمام فإن رأى(38/38)
الزيادة زاد وإلا فلا. وفيما يلي بيان هذه الأقوال مع الأدلة والمناقشة:
القول الأول: أنه تعزير، قال الحافظ ابن حجر أن الطبري وابن المنذر حكوا عن طائفة من أهل العلم أن الخمر لا حد فيها وإنما فيها التعزير.
واستدلوا بأحاديث الباب فإنها ساكتة عن تعيين عدد الضرب وأصرحها حديث أنس ولم يجزم فيه بالأربعين في أرجح الطرق عنه وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا ابن جريج ومعمر سئل ابن شهاب: كم جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر؟ فقال: لم يكن فرض فيها حدا، كان يأمر من حضره أن يضربوه بأيديهم ونعالهم حتى يقول لهم ارفعوا، وورد أنه لم يضربه أصلا وذلك فيما أخرجه أبو داود والنسائي بسند قوي عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقت في الخمر حدا قال ابن عباس: وشرب رجل فسكر فانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حاذى دار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك ولم يأمر فيه بشيء " وأخرج الطبري من وجه آخر عن ابن عباس: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر إلا أخيرا، ولقد غزا تبوك فغشى حجرته من الليل سكران فقال: ليقم إليه رجل فيأخذ بيده حتى يرده إلى رحله.
والجواب: إن الإجماع انعقد بعد ذلك على وجوب الحد لأن أبا بكر تحرى ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ضرب السكران فصير حدا واستمرا عليه. وكذلك استمر من بعده، وإن اختلفوا في العدد(38/39)
وجمع القرطبي بين الأخبار بأنه لم يكن أولا في الشرب حد وعلى ذلك يحمل حديث ابن عباس في الذي استجار بالعباس، ثم شرع فيه التعزير على ما في سائر الأحاديث التي لا تقدير فيها، ثم شرع الحد ولم يطلع أكثرهم على تعينيه صريحا مع اعتقادهم أن فيه الحد المعين ومن ثم توخى أبو بكر ما فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقر عليه الأمر، ثم رأى عمر ومن وافقه الزيادة على الأربعين إما حدا بطريق الاستنباط وإما تعزيرا. انتهى المقصود من كلام ابن حجر (1) .
القول الثاني: أنها حد وأنه ثمانون، وهو مذهب الحنفية والمالكية والمقدم عند الحنابلة، ففي بداية المبتدي: وحد الخمر والسكر إلى ثمانين سوطا (2) ، وفي قوانين الأحكام الفقهية: وهو ثمانون جلدة للحر (3) ، وقال ابن قدامة: إحداهما أنه ثمانون، وبهذا قال مالك والثوري وأبو حنيفة ومن تبعهم (4) . انتهى.
واستدل لهذا بإجماع الصحابة فإنه روي " أن عمر استشار الناس في حد الخمر فقال عبد الرحمن بن عوف: اجعله كأخف الحدود ثمانين، فضرب عمر ثمانين وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام "، وروي عن علي في المشورة " أنه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى فحدوه حد المفتري " روى ذلك الجوزجاني والدارقطني وغيرهما انتهى من كلام ابن قدامة (5) .
__________
(1) فتح الباري 12 \ 72.
(2) البداية 2 \ 111.
(3) قوانين الأحكام الفقهية \ 391.
(4) المغني 9 \ 141.
(5) المغني 9 \ 141.(38/40)
ونوقش هذا الدليل بما يلي:
أولا: أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم حجة لا يجوز تركه بفعل غيره ولا ينعقد الإجماع على ما خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزير يجوز فعلها إذا رآه الإمام ذكر هذا الوجه ابن قدامة (1) .
ثانيا: إن عليا أشار على عمر بذلك ثم رجع علي عن ذلك واقتصر على الأربعين، لأنها القدر الذي اتفقوا عليه في زمن أبي بكر، مستندين إلى تقدير ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الذي أشار به فقد تبين من سياق قصته أنه أشار بذلك ردعا للذين انهمكوا، لأن في بعض طرق القصة كما تقدم " أنهم احتقروا العقوبة " (2) .
القول الثالث: إنه أربعون، وما زاد عن ذلك يرجع فيه إلى اجتهاد الإمام، وبهذا قال الشافعي وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد وبه قال أبو ثور وداود ومن وافقهم من أهل العلم، قال الشيرازي وقال الشافعي وأبو ثور وداود: الحد في ذلك أربعون - ومضى إلى أن قال - فإن رأى الإمام أن يبلغ بحد الحر ثمانين وبحد العبد أربعين جاز (3) ، انتهى.
وقال ابن قدامه: والرواية الثانية أن الحد أربعون، وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي (4) ، انتهى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وهذا أوجه القولين (5) .
__________
(1) المغني 9 \ 142.
(2) الفتح 12 \ 73.
(3) المهذب 18 \ 448.
(4) المغني 9 \ 142.
(5) السياسة الشرعية \ 50.(38/41)
واستدل لهذا القول بما روى أبو ساسان قال: " لما شهد على الوليد بن عقبة قال عثمان لعلي: دونك ابن عمك فاجلده، قال: قم يا حسن فاجلده، قال: فيما أنت وذاك ول هذا غيري، قال: ولكنك ضعفت وعجزت ووهنت، فقال: قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده، وعلي يعد ذلك فعد أربعين وقال: «جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين، وكل سنة (1) » أخرجه البيهقي.
وأخرج مسلم عن حصين بن المنذر قال: " شهدت عثمان بن عفان أتي بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم، فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر وشهد آخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيؤها حتى يشربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال: أمسك ثم قال: «جلد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة، وهذا أحب إلي (2) » .
وأما كون الزيادة عن الأربعين راجعة إلى رأي الإمام فقد استدلوا لذلك ما رواه أبو وبرة الكلبي قال: " أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه فأتيته ومعه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلي وطلحة والزبير رضي الله عنهم، فقلت: إن خالد بن الوليد رضي الله عنه يقرأ عليك السلام ويقول إن الناس قد
__________
(1) سنن أبو داود الحدود (4481) ، سنن ابن ماجه الحدود (2571) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) ، سنن الدارمي الحدود (2312) .
(2) صحيح مسلم الحدود (1707) ، سنن أبو داود الحدود (4480) ، سنن ابن ماجه الحدود (2571) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) ، سنن الدارمي الحدود (2312) .(38/42)
انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه، قال عمر: هم هؤلاء عندك فسلهم، فقال: تراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانين، فقال عمر: بلغ صاحبك ما قالوا، فجلد خالد ثمانين وجلد عمر ثمانين وقال: وكان عمر إذا أتي بالرجل الضعيف الذي كانت منه الزلة جلده أربعين " (1) .
وأما بيان ما يترتب على القول بأنها تعزير وحد، فعلى القول بأنها حد لا يدخله العفو والإسقاط والصلح، لأنه من حقوق الله جل وعلا وإذا مات المضروب ثمانين عند من يقول بذلك وأربعين عند من يقول بهذا فإنه يموت هدرا لا دية له، وعلى القول بأنها تعزير يدخله العفو والإسقاط والصلح من جهة أصلية عند من يقول بأنه تعزير، وما ذاد على الأربعين ففيه الدية، وفيما يلي نقول عن أهل العلم في ذلك:
1 - قال الشيرازى: فإن جلده أربعين ومات لم يضمن، لأن الحق قتله وإن جلده ثمانين ومات ضمن نصف الدية، لأن نصفه حد ونصفه تعزير وسقط النصف بالحد ووجب النصف بالتعزير. انتهى المقصود (2) .
2 - قال الخرقي: مسألة فإن مات في جلده فالحق قتله يعني ليس على أحد ضمان قال ابن قدامة. وهذا قول مالك
__________
(1) المهذب ومعه الشرح 18 \ 48 وما بعدها.
(2) المهذب 2 \ 287.(38/43)
وأصاحب الرأي وبه قال الشافعي إن لم يزد على الأربعين، وإن زاد على الأربعين فمات فعليه الضمان، لأن ذلك تعزير إنما يفعله الإمام برأيه وفي قدر الضمان قولان:
أحدهما: نصف الدية، لأنه تلف من فعلين مضمون وغير مضمون فكان عليه نصف الضمان، والثاني: تقسط الدية على عدد الضربات كلها فيجب من الدية بقدر زيادته على الأربعين، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: " ما كنت لأقيم حدا على أحد فيموت فأجد في نفسي منه شيئا إلا صاحب الخمر ولو مات وديته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه لنا ".
ولنا أنه حد وجب لله فلم يجب ضمان من مات به كسائر الحدود، وما زاد على الأربعين قد ذكرنا أنه من الحد وإن كان تعزيرا فالتعزير يجب وهو بمنزلة الحد.
وأما حديث علي فقد صح عنه أنه قال: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وأبو بكر أربعين وثبت الحد بالإجماع فلم يعد فيه شبهة (1) .
__________
(1) المغني 9 \ 145.(38/44)
رابعا: هل تجوز تجزئة عقوبة شارب الخمر؟
الكلام في تجزئة عقوبة شارب الخمر مبني على الكلام في أن العقوبة هل حد أو تعزير - وقد سبق بيانه - فعلى القول بأنها تعزير يقال بجواز التجزئة، لأن التعزير يدخله الاجتهاد وكذلك القول فيما زاد عن الأربعين عند من يقول بأن الحد أربعين وما زاد(38/44)
عليها فهو تعزير، وعلى القول بأنها حد وإن الحد لا يدخله الاجتهاد لا تجوز التجزئة.
ونظرا إلى أن الحكم بتجزئة العقوبة أو عدمها ينبني على قاعدة أصولية وهي تمييزها ما يدخله الاجتهاد وما لا يدخله، فإننا ننقلها عن بعض علماء الأصول في ذلك، ومنها يتحدد ما فيه للاجتهاد وما لا مجال فيه للاجتهاد.
قال الشاطبي: مجال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات.
وبيانه أن نقول: لا تخلو أفعال المكلف وتروكه إما أن يأتي فيها خطاب من الشارع أو لا، فإن لم يأت فيها خطاب فإما أن يكون على البراءة الأصلية ويكون فرضا غير موجود والبراءة الأصلية في الحقيقة راجعة إلى خطاب الشارع بالعفو أو غيره.
وإن أتى فيها خطاب فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو في الإثبات أو لا، فإن لم يظهر له قصد البتة فهو قسم المتشابهات، وإن ظهر فتارة يكون قطعيا وتارة يكون غير قطعي.
فأما القطعي فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الإثبات وليس محلا للاجتهاد وهو قسم الواضحات، لأنه واضح الحكم حقيقة والخارج عنه مخطئ قطعا.
وأما غير القطعي فلا يكون كذلك إلا مع دخول احتمال فيه(38/45)
أن يقصد الشارع معارضة أو لا فليس من الواضحات بإطلاق، بل بالإضافة إلى ما هو أخفى فيه كما أنه يعد غير واضح بالنسبة إلى ما هو أوضح منه، لأن مراتب الظنون في النفي والإثبات تختلف بالأشد والأضعف حتى تتنهي إما إلى العلم وإما إلى الشك إلا أن هذا الاحتمال تارة يقوى في إحدى الجهتين وتارة لا يقوى، فإن لم يقو رجع إلى قسم المتشابهات، والمقدم عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وإن قوي في إحدى الجهتين فهو قسم المجتهدات وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه في نفسه وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين.
فإن كان المقدم عليه من أهل الاجتهاد فواضح في حقه في النفي أو في الإثبات إن قلنا أن كل مجتهد مصيب، وأما على قول المخطئة فالمقدم عليه إن كان مصيبا في نفس الأمر فواضح وإلا فمعذور.
وقد تقرر من هذا الأصل أن قسم المتشابهات مركب من تعارض النفي والإثبات إذا لو لم يتعارضا لكان من قسم الواضحات، وأن الواضح بإطلاق لم يتعارض فيه نفي مع إثبات بل هو إما منفي قطعا وإما مثبت قطعا، وأن الإضافي إنما صار إضافيا لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين فيقرب عند بعض من أحد الطرفين وعند بعض من الطرف الآخر، وربما جعله بعض الناس من قسم المتشابهات فهو قسم غير مستقر في نفسه، فلذلك صار إضافيا لتفاوت مراتب الظنون في القوة والضعف ويجري مجرى النفي في أحد الطرفين إثبات ضد الآخر فيه، فثبوت(38/46)
العلم مع نفيه نقيضان كوقوع التكليف وعدمه، وكالوجوب وعدمه، وما أشبه ذلك وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان كالوجوب مع الندب أو الإباحة أو التحريم وما أشبه ذلك، وهذا الأصل واضح في نفسه غير محتاج إلى إثباته بدليل، ولكن لا بد من التأنيس فيه بأمثلة يستعان بها على فهمه وتنزيله والتمرن فيه إن شاء الله فمن ذلك أنه نهى عن بيع الغرر ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير في الهواء، والسمك في الماء، وعلى جواز بيع الجبة التي حشوها مغيب عن الأبصار، ولو بيع حشوها بانفراده لامتنع، وعلى جواز كراء الدار مشاهرة مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين، وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث، وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات في مقدار الري، فهذان طرفان في اعتبار الضرر وعدم اعتباره، لكثرته في الأول وقلته مع عدم الانفكاك عنه في الثاني، فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهي متوسطة بين الطرفين آخذة بشبهة من كل واحد منهما فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة ومن منع مال إلى الجانب الآخر.
- ومضى في ذكر الأمثلة إلى أن قال - ولعلك لا تجد خلافا واقعا بين العقلاء معتدا به في العقليات أو في النقليات - لا مبنيا على الظن ولا على القطع - إلا دائرا بين طرفين لا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف (1) .
__________
(1) الموافقات 4 \ 157.(38/47)
ونظرا إلى أن الحدود لا تثبت إلا بتوقيف في أصلها وكيفيتها فلا يدخل اجتهاد، أما العقوبات التي تعتبر تعزيرا لا حدودا فإنها محل اجتهاد الإمام فيجوز فيها التجزئة إذا رأى المصلحة في ذلك.(38/48)
خامسا: ما يثبت به شربها من شهادة أو رائحة أو قيء ونحو ذلك.
يثبت شرب الخمر بشهادة الشهود والإقرار والرائحة والسكر والقيء، ونظرا إلى أن الرائحة والقيء من قرائن الأحوال التي يثبت بها الشرب عند من يقول بالاستدلال بها على ذلك فإننا نذكر نقولا عن أهل العلم بالعمل بالقرائن، ثم نذكر أدلة العمل بها من الكتاب والسنة وطائفة من أمثلة العمل بها وبعد ذلك نتكلم على هذه الأدلة الخمسة مبينين خلاف العلماء في كل دليل ومستندهم مع المناقشة:
أ - أما كلام العلماء فمن ذلك ما جاء في معين الحكام قال بعض العلماء: على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهو قوة التهمة ولا خلاف في الحكم بها وقد جاء العمل بها في مسائل اتفق عليها الطوائف الأربع انتهى.
وقال ابن فرحون نقلا عن ابن العربي ما يتفق مع هذا الكلام (1) .
وقال ابن القيم: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى
__________
(1) معين الحكام - \ 161- 2 تبصرة الحكام 2 \ 101 على هامش فتاوى عليش.(38/48)
والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما.
والنوع الثاني فهم الواجب في الواقع وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلي معرفة حكم الله ورسوله - ومضى في ذكر الأدلة والأمثلة إلى أن قال - ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم ونسبه إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله. انتهى (1) .
ب - وأما ما يدل على ذلك من الكتاب فمنه قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (2) {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (3) {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (4) .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله على هذه الآية: يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين وكذب الآخر؛ لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على
__________
(1) إعلام الموقعين 1 \ 94 - 95.
(2) سورة يوسف الآية 26
(3) سورة يوسف الآية 27
(4) سورة يوسف الآية 28(38/49)
أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب، لأن كون القميص مشقوقا من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها وهي تنوشه من خلفه، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها قرينة أقوى منها فإن عارضها قرينة أقوى منها بطلت وذلك في قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (1) لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب جعلوا على قميصه دم سخلة ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب، ولاشك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له، ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرنية أقوى منها وهي عدم شق القميص فقال: سبحان الله! متى كان الذئب حليما يأكل يوسف ولا يشق قميصه؟! ، ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (2)
وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن (3) انتهى.
والأظهر أن تكذيب يعقوب لبنيه في دعواهم أن الذئب أكل يوسف ليس من أجل كون الدم ليس دم إنسان، ولا من أجل كون الثوب لم يخرق، لأن هذين الأمرين منقولا عن بني إسرائيل ونحوهم وأخبارهم لا تصدق ولا تكذب ولا يعتمد عليها إلا بدليل يدل على صحتها، وإنما كذبهم لأمر آخر إما لكون الرؤيا
__________
(1) سورة يوسف الآية 18
(2) سورة يوسف الآية 18
(3) أضواء البيان 3 \ 69 - 70 ويرجع إلى تبصرة الحكام لابن فرحون 2 \ 101.(38/50)
التي رآها يوسف في سجود الكواكب والشمس والقمر له لم تتحقق بعد، وإما لوحي أوحاه الله إليه عرف منة ما يدل على كذبهم في دعواهم.
ج - وأما الأدلة من السنة فمن ذلك:
1 - أنه صلى الله عليه وسلم حكم باللوث في القسامة وجوز للمدعين أن يحلفوا خمسين يمينا ويستحقوا دم القتيل في حديث حويصة ومحيصة.
2 - أنه صلى الله عليه وسلم أمر الزبير أن يقرر عم حيي بن أخطب بالعذاب على إخراج المال الذي غيبه وادعى نفاده فقال: «العهد قريب والمال أكثر من ذلك» .
3 - أنه صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط أن يدفع اللقطة إلى واصفها وجعل وصفه لعفاصها ووكائها قائما مقام البينة.
4 - حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده بالقافة وجعلها دليلا على ثبوت النسب وليس فيها إلا مجرد الأمارات والعلامات.
5 - ابنا عفراء تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: أرياني سيفيكما، فلما نظر فيهما قال لأحدهما: هذا قتله، وحكم له بسلبه (1) .
د - وأما المسائل التطبيقية للعمل بها فقد ذكر صاحب معين الحكام وابن فرحون والإمام ابن القيم مسائل كثيرة نذكر
__________
(1) تبصرة الحكام 2 \ 103.(38/51)
منها ما يلي:
الأولى: أن الفقهاء كلهم يقولون بجواز وطء المرأة إذا أهديت إليه ليلة الزفاف وإن لم يشهد عنده عدلان من الرجال أن هذه فلانة بنت فلان التي عقدت عليها، وإن لم يستنطق النساء أن هذه امرأته، اعتمادا على الظاهرة المنزلة منزلة الشهادة.
الثانية: أن الناس قديما وحديثا لم يزالوا يعتمدون في الصبيان والإماء المرسل معهم الهدايا، وأنها مرسلة إليهم فيقبلون أموالهم ويأكلون الطعام المرسل به، ونقل القرافي أن خبر الكافر في ذلك كاف.
الثالثة: أنهم يعتبرون إذن الصبيان في الدخول إلى المنزل.
الرابعة: أن الضيف يشرب من كوز صاحب البيت ويتكئ على وسادته ويقضي حاجته في مرحاضه من غير استئذان ولا يعد متصرفا في ملكه بغير إذنه.
الخامسة: جواز أخذ ما يسقط من الإنسان إذا لم يعرف صاحبه مما لا يتبعه كالفلس والتمرة والعصا التافهة الثمن ونحو ذلك.
هـ - وأما الأدلة التي يستدل بها على شربها فقد سبق أنها الشهادة والإقرار والرائحة والقيء والسكر، فأما الشهادة فيشترط(38/52)
أن لا يقل عدد الشهود عن رجلين تتوفر فيهما شروط الشهادة ويزيد أبو حنيفة وأبو يوسف على هذا بأن تكون الرائحة قائمة وقت تحمل الشهادة، ويخالفهما محمد فلا يشترط ذلك.
وأما الإقرار فيكفي مرة واحدة في المذاهب الأربعة، ويرى أبو يوسف أن كل إقرار يسقط بالرجوع فعدد الإقرار فيه كعدد الشهود فلا بد من الإقرار مرتين عنده، وأما الرائحة فالمقدم في مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه لا يجب الحد بوجود الرائحة، وبها قال أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى، ويخالفهم مالك رحمه الله فيرى وجوب الحد بوجود الرائحة، وقوله هذا رواية عن أحمد رحمه الله.
وكذلك القيء لا يعتبر وجوده دليلا شرعيا عند أبي حنيفة، وهو مذهب الشافعي رحمه الله ورواية عن أحمد رحمه الله، ويخالفهم مالك رحمه الله وهو الرواية الثانية في مذهب أحمد رحمه الله وهو القول بوجوب الحد اعتمادا على القيء.
وأما السكر فالشافعي ومن وافقه يرون عدم حده، والرواية المقدمة في مذهب أحمد ومن يقول بها من العلماء أنه يحد.(38/53)
وفيما يلي نقول عن فقهاء الإسلام في ذلك مع أدلتهم ومناقشتها:
1 - جاء في البداية وشرحها الهداية (ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة وجاءوا به سكران فشهد الشهود عليه بذلك فعليه الحد وكذلك إذا أقر وريحها موجودة) لأن جناية الشرب قد ظهرت ولم يتقادم العهد والأصل في قوله عليه الصلاة والسلام(38/53)
«من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه (1) » .
وإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: يحد، وكذلك إذا شهدوا عليه بعد ما ذهب ريحها، والسكر لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: يحد، فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق غير أنه مقدر بالزمان عنده اعتبارا بحد الزنا، وهذا لأن التأخير يتحقق بمضي الزمن والرائحة قد تكون من غيره كما قيل:
يقولون لي أني شربت مدامة ... فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا
وعندهما يقدر بزوال الرائحة لقول ابن مسعود رضي الله عنه فيه: فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه.
ولأن قيام الأثر من أقوى دلالة القرب، وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره، والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل وإنما تشتبه على الجهال. وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد رحمه الله كما في حد الزنا على ما مر تقريره، وعندهم لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة، لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود رضي الله عنه، وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا.
فإن أخذه الشهود وريحها توجد منه وهو سكران فذهبوا به من مصر إلى مصر فيه الإمام فانقطع ذلك قبل أن ينتهوا به صرف قولهم جميعا، لأن هذا عذر كبعد المسافة في حد الزنا والشاهد
__________
(1) سنن أبو داود الحدود (4485) .(38/54)
لا يتهم في مثله.
(ولا حد على من وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها) لأن الرائحة محتملة وكذا الشرب قد يقع عن إكراه أو اضطرار. ويثبت الشرب بشهادة شاهدين ويثبت بالإقرار مرة واحدة، (وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يشترط الإقرار مرتين وهو نظير الاختلاف في السرقة. . ولا تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال) لأن فيها شبهة البدلية وتهمة الضلال والنسيان. انتهى (1) .
وقال ابن الهمام على قول صاحب الهداية: (والرائحة قد تكون من غيره. . فظهر أن رائحة الخمر مما تلتبس بغيرها فلا يناط شيء من الأحكام بوجودها ولا بذهابها، ولو سلمنا أنها لا تلتبس على ذوي المعرفة فلا موجب لتقييد العمل بالبينة بوجودها، لأن المعقول تقييد قبولها بعدم التهمة والتهمة لا تتحقق في الشهادة بسبب وقوعها بعد ذهاب الرائحة بل بسب تأخير الأداء تأخيرا يعد تفريطا وذلك منتفي في تأخير يوم ونحوه وبه تذهب الرائحة.
أجاب المصنف وغيره بما حاصله: أن اشتراط قيام الرائحة لقبول الشهادة عرف من قول ابن مسعود، وهو ما روى عبد الرزاق حدثنا سفيان الثوري عن يحيى بن عبد الله التميمي الجابر عن أبي ماجد الحنفي قال: " جاء رجل بابن أخ له سكران إلى عبد الله بن مسعود فقال عبد الله: ترتروه ومزمزوه واستنكهوه
__________
(1) البداية ومعها الهداية 2 \ 111، 112.(38/55)
ففعلوا، فرفعه إلى السجن ثم عاد به من الغد ودعا بسوط ثم أمر به فدقت ثمرته بين حجرين حتى صارت درة ثم قال للجلاد: اجلد وأرجع يدك وأعط كل عضو حقه ".
ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني ورواه إسحاق بن راهويه أخبرنا جرير عن عبد الحميد عن يحيى بن عبد الله الجابر به.
ودفع بأن محل النزاع كون الشهادة لا يعمل بها إلا مع قيام الرائحة، والحديث المذكور عن ابن مسعود ليس فيه شهادة منع من العمل بها لعدم الرائحة وقت أدائها بفعل ولا إقرار إنما فيه أنه حده بظهور الرائحة بالترترة والمزمزة، والمزمزة: التحريك بعنف والترترة والتلتلة: التحريك، وهما بتاءين متتاليتن من فوق، قال ذو الرمة يصف بعيرا:
بعيد مساف الخطو غوج شمردل ... تقطع أنفاس المهارى تلاتله
أي حركاته، والمساف جمع مسافة. والغوج بالغين المعجمة الواسع الصدر، ومعنى تقطيع تلاتله أنفاس المهارى: أنه إذا باراها في السير أظهر في أنفاسها الضيق والتتابع لما يجهدها، وإنما فعله لأن بالتحرك تظهر الرائحة من المعدة التي كانت خفت وكان ذلك مذهبه، ويدل عليه ما في الصحيحين: " عن ابن مسعود أنه قرأ سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا أنزلت فقال عبد الله: والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت فبينما هو يكلمه إذ وجد منه رائحة الخمر فقال: أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب فضربه الحد.(38/56)
وأخرج الدارقطني بسند صحيح " عن السائب بن يزيد عن عمر بن الخطاب أنه ضرب رجلا وجد منه ريح الخمر " وفي لفظ " ريح شراب ".
والحاصل أن حده عند وجود الريح مع عدم البينة والإقرار لا يستلزم اشتراط الرائحة مع أحدهما، ثم هو مذهب لبعض العلماء منهم مالك وقول للشافعي ورواية عن أحمد والأصح عن الشافعي وأكثر أهل العلم نفيه، وما ذكرناه عن عمر يعارض ما ذكرنا عنه أنه عزر من وجد منه الرائحة ويترجح لأنه أصح وإن قال ابن المنذر ثبت عن عمر أنه جلد من وجد رائحة الخمر حدا تاما، وهو أن الأصل في الحدود إذا جاء صاحبها مقرا أن يرد ويدرأ ما يستطيع فكيف يأمر ابن مسعود بالمزمزه عند عدم الرائحة ليظهر الريح فيجده، فإن صح فتأويله أنه كان رجلا مولعا بالشراب مدمنا عليه فاستجاز ذلك فيه (1) انتهى.
ويمكن أن يقال أنه إنما أمر بترترته ومزمزته لكونه لم يأت تائبا وإنما جاء به عمه ليقام عليه الحد فأراد ابن مسعود أن يستثبت في وقوع الشرب منه بالعمل المذكور لتظهر الرائحة.
__________
(1) فتح القدير 4 \ 180.(38/57)
2 - قال ابن فرحون:
ويجب الحد على من وجدت منه رائحة الخمر أو قاءها وحكم به عمر رضي الله تعالى عنه وفي حديث ماعز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم(38/57)
قال: «أشربت خمرا قام فاستنهكه فلم يجد منه ريح خمر (1) » قال اللخمي: فيه دليل أن الرائحة يقضى بها، دليل آخر أن إقرار السكران غير لازم (مسألة) قال اللخمي رحمه الله تعالى: ذهب مالك رضي الله تعالى عنه وجماعة من أصحابه أن الحد يجب على من وجد منه ريح السكر، والدليل على ذلك ما روي عن السائب بن يزيد أنه حضر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو يجلد رجلا وجد منه ريح شراب فجلده الحد تاما، والدليل من جهة المعنى أن هذا معنى يعلم به صفة ما شرب المكلف وجنسه فوجب أن يكون طريقا إلى إثبات الحد، وأصل ذلك الرؤية، لما شربه بل الرائحة أقوى من معرفة حال المشروب من الرؤية، لأن الرؤية لا يعلم بها الشراب أمسكر هو أم لا وإنما يعلم ذلك برائحته.
(فصل) والكلام في ذلك يتعلق بثلاثة أمور، الأول: فيمن يجب استنكاهه. الثاني: فيمن يثبت ذلك بشهادته. الثالث: فيما يجب بذلك إذا تيقن رائحة المسكر أو أشكلت.
الأول: فيمن يجب استنكاهه، وذلك فيما يرى الحاكم منه تخليطا في قول أو مشي يشبه السكران، ففي الموازية من رواية أصبغ عن ابن القاسم أنه إذا رأى ذلك منه أمر باستنكاهه قال: لأنه قد بلغ إلى الحاكم فلا يسعه إلا تحققه، فإذا ثبت الحد حد أمامه.
(مسألة) وكذلك لو شم منه رائحة ينكرها، أو أنكرها بحضرته من ينكرها قال الباجي: فعندي أن قد تعين عليه استنكاهه
__________
(1) صحيح مسلم الحدود (1695) .(38/58)
وتحقق حاله، لأن هذه صفة ينكر بها حاله ويستراب بها، ويقوى بها الظن في وجوب الحد عليه فيجب بذلك اختباره وتحقق حاله كالتخليط في الكلام والمشي.
(مسألة) فإن لم يظهر منه شيء من هذه الأحوال - يريد التخليط في القول والمشي - لم يستنكه رواه أصبغ عن ابن القاسم في العتبية والموازية قال: ولا يتجسس عليه، فلا يجوز التجسس على الناس والتعرض لهم من غير ريبه.
الثاني: فيمن يثبت ذلك بشهادته، قال القاضي أبو الوليد: فأما من يثبت ذلك عليه بشهادته فإنه يحتاج إلى معرفة صفتهم وعددهم، فأما صفتهم فقد قال القاضي أبو الحسن في كتابه: إن صفة الشاهدين على الرائحة أن يكونا ممن خبر شربها في وقت ما، إما في حال كفرهما أو شرباها في إسلامهما فجلدا ثم تابا حتى يكون ممن يعرف الخمر بريحها، قال القاضي أبو الوليد: هذا عندي فيه نظر، لأن من هذه صفته معدوم قليل ولو لم تثبت الرائحة إلا بشهادة من هذه صفته لبطلت الشهادة بها في الأغلب، وقد يكون من لم يشربها قط يعرف رائحتها معرفة صحيحة بأن يخبره عنها المرة بعد المرة من قد شربها أنها هي رائحة الخمر حتى يعرف ذلك كما يعرفها الذي قد شربها.
(مسألة) وأما العدد فلا يخلو أن يكون الحاكم أمر الشهود بالاستنكاه أو فعلوا هم ذلك ابتداء، فإن كان الحاكم أمرهم بذلك فقد روى ابن حبيب عن أصبغ أنه يستحب أن يأمر شاهدين به(38/59)
الحد، وإن كان الشهود فعلوا ذلك من قبل أنفسهم فلا يجزئ أقل من اثنين كالشهادة على الشرب، وقد روى ابن وهب عن مالك رضي الله تعالى عنه أنه إن لم يكن مع الحاكم إلا واحد فليرفعه إلى من هو فوقه، قال القاضي أبو الوليد رحمه الله تعالى: وما رواه ابن حبيب عن أصبغ مبني على أن الحاكم يحكم بعلمه فلذلك جاز عنده علم من استنابه وإلا فقد يجب أن لا يحد في ذلك حتى يشهد عنده فيه شاهدان.
الثالث: فيما يجب بشهادة الاستنكاه، ولا يخلو أن يكون الشهود متيقنين للرائحة أو شاكين فيها فإن كانوا متيقنين للرائحة فلا يخلو أن يتفقوا على أنها رائحة مسكر أو على أنها غير رائحة مسكر أو يختلفوا في ذلك، فإن اتفقوا على أنها غير رائحة مسكر فلا نعلم في المذهب خلافا في وجوب ترك الحد، وإن اتفقوا على أنها رائحة مسكر وجب الحد عليه، وإن اختلفوا في ذلك فقال بعضهم: رائحة مسكر، وقال بعضهم: ليس برائحة مسكر فقد قال ابن حبيب: إذا اجتمع منهم اثنان على أنها رائحة مسكر حد، ووجه ذلك أن الشهادة قد قامت وكملت ولا يؤثر في ذلك نفي من نفى مقتضاها كما لو شهد شاهدان أنهما رأياه شرب خمرا وقال آخران: لم يشرب خمرا.
(مسألة) فإن شك الشهود في الرائحة هل هي رائحة مسكر أو غيره نظرت حاله فإن كان من أهل السفه نكل، وإن كان من أهل العدل خلي سبيله حكاه ابن القاسم في العتبية(38/60)
والموازية، ووجه ذلك أن من عرف بالسفه والشر والتخليط خيف أن يكون ما شك فيه مما حرم عليه ووجب أن يزجر عن التسمية بذلك لكي لا يتطرق بذلك إلى إظهار معصية وأما من كان من أهل العدل فتبعد عنه الريبة والله سبحانه وتعالى أعلم.
مسألة: قال القاضي أبو الوليد رحمه الله تعالى: فإذا ثبت ذلك فإن الحد يتعلق بما يقع به النظر من تجاوز الشراب من الفم إلى الحلق.
مسألة: ولو شهد شاهدان أنه قاء خمرا وجب عليه الحد، لأنه لا يتقيئها حتى يشربها، وقد روي نحو هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وسيأتي في باب القضاء بالسياسة صفة الشهادة وصفة الضارب والضرب وما يضاف إلى الحد إن شاء الله تعالى.
3 - جاء في المنهاج وشرحه نهاية المحتاج: "ويحد بإقراره وشهادة رجلين" أو علم السيد دون غيره كما مر نظيره في السرقة "لا بريح خمر" وهيئة "سكر وقيء" لاحتمال أنه احتقن أو أسعط بها أو أنه شربها لعذر من غلط أو إكراه، أما حد عثمان بالقيء فاجتهاد له " ويكفي في إقرار وشهادة شرب خمرا " أو شرب مما شرب منه غيره فسكر، وسواء أقال وهو مختار عالم أم لا، كما في نحو بيع وطلاق؛ إذ الأصل عدم الإكراه والغالب من حال الشارب علمه بما يشرب.
"وقيل يشترط في كل من المقر والشاهد أن يقول: شربها وهو(38/61)
عالم به مختار لاحتمال ما مر كالشهادة بالزنا؛ إذ العقوبة لا تثبت إلا بتعيين، وفسر الأول بأن الزنا قد يطلق على مقدماته كما في الخبر على أنهم سامحوا في الخمر لسهولة حدها ما لم يسامحوا في غيرها لا سيما مع أن الابتداء بكثرة شربها يقتضي التوسع في سبب الزجر عنها فوسع فيه ما لم يوسع في غيره.
ويعتبر على الثاني زيادة من غير ضرورة احترازا من الإساغة والشرب لنحو عطش أو تداو (1) انتهى.
__________
(1) المنهاج وشرحه نهاية المحتاج 8 \ 16.(38/62)
4 - وقال ابن قدامة:
ولا يجب الحد حتى يثبت شربه بأحد شيئين: الإقرار والبينة ويكفي في الإقرار مرة واحدة في قول عامة أهل العلم؛ لأنه حد لا يتضمن إتلافا فأشبه حد القذف، وإذا رجع عن إقراره قبل رجوعه، لأنه حد لله سبحانه فقبل رجوعه عنه كسائر الحدود ولا يعتبر مع الإقرار وجود الرائحة.
وحكي عن أبي حنيفة: لا حد عليه إلا أن توجد رائحة، ولا يصح لأنه أحد بينتي الشرب فلم يعتبر معه وجود الرائحة كالشهادة، ولأنه قد يقر بعد زوال الرائحة عنه، ولأنه إقرار بحد فاكتفي به كسائر الحدود.
(فصل) ولا يجب الحد بوجود رائحة الخمر من فيه في قول أكثر أهل العلم منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي، وروى أبو طالب عن أحمد أنه يحد بذلك وهو قول مالك، لأن ابن مسعود(38/62)
جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر.
وروي عن عمر أنه قال: إني وجدت من عبيد الله ريح شراب فأقر أنه شرب الطلا، فقال عمر: إني سائل عنه فإن كان يسكر جلدته. ولأن الرائحة تدل على شربه فجرى مجرى الإقرار.
والأول أولى، لأن الرائحة يحتمل أنه تمضمض بها وحسبها ماء فلما صارت إلى فيه مجها وظنها لا تسكر، أو كان مكرها أو أكل نبقا بالغا أو شرب شراب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لم يجب الحد الذي يدرأ بالشبهات وحديث عمر حجة لنا فإنه لم يحده بوجود الرائحة ولو وجب ذلك لبادر إليه عمر.
(فصل) وإن وجد سكران أو تقيأ الخمر فعن أحمد لا حد عليه لاحتمال أن يكون مكرها أو لم يعلم أنها تسكر وهذا مذهب الشافعي، ورواية أبي طالب عنه في الحد بالرائحة يدل على وجوب الحد ها هنا بطريق الأولى، لأن ذلك لا يكون إلا بعد شربها فأشبه ما لو قام البينة عليه بشربها.
وقد روى سعيد حدثنا هشيم حدثنا المغيرة عن الشعبي قال: " لما كان من أمر قدامة ما كان جاء علقمة الخصي فقال: أشهد أني رأيته يتقيؤها، فقال عمر: من قاءها فقد شربها فضربه الحد".
وروى حصين بن المنذر الرقاشي قال: شهدت عثمان وأتي بالوليد بن عقبة فشهد عليه حمران ورجل آخر، فشهد أحدهما أنه(38/63)
رآه شربها وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها فقال لعلي: أقم عليه الحد، فأمر علي عبد الله بن جعفر فضربه، رواه مسلم. وفي رواية له " فقال عثمان لقد تنطعت في الشهادة وهذا بمحضر من علماء الصحابة وسادتهم ولم ينكر فكان إجماعا، ولأنه يكفي في الشهادة عليه أنه شربها ولا يتقيؤها أو لا يسكر منها حتى شربها. "
(فصل) وأما البينة فلا تكون إلا رجلين عدلين مسلمين يشهدان أنه مسكر ولا يحتاجان إلى بيان نوعه، لأنه لا ينقسم إلى ما يوجب الحد وإلى ما لا يوجبه بخلاف الزنا فإنه يطلق على الصريح وعلى دواعيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العينان تزنيان واليدان تزنيان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه (1) » فلهذا احتاج الشاهدان إلى تفسيره، وفي مسألتنا لا يسمى غير المسكر مسكرا فلم يفتقر إلى ذكر نوعه ولا يفتقر في الشهادة إلى ذكر عدم الإكراه ولا إلى ذكر علمه أنه مسكر، لأن الظاهر الاختيار والعلم وما عداهما نادر بعيد فلم يحتج إلى بيانه ولذلك لا نعتبر ذلك في شيء من الشهادات ولم يعتبره عثمان في الشهادة على الوليد بن عقبة ولا اعتبره عمر في الشهادة على قدامة بن مظعون ولا في الشهادة على المغيرة بن شعبة، ولو شهدا بعتق أو طلاق لم يفتقر إلى ذكر الاختيار كذا ها هنا (2) انتهى.
وجاء في حاشية المقنع على قوله: "وهل يجب الحد بوجود
__________
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6243) ، صحيح مسلم القدر (2657) ، سنن أبو داود النكاح (2152) ، مسند أحمد بن حنبل (2/344) .
(2) المغني 9 \ 143 وما بعدها.(38/64)
الرائحة على روايتين" إحداهما: لا يحد، وهو قول عامة أهل العلم منهم الثوري وأبو حنيفة والشافعي، وعنه يحد وهو قول مالك، لأن ابن مسعود رضي الله عنه جلد رجلا وجد منه رائحة الخمر وعنه يحد إذا لم يدع شبهة. قال ابن أبي موسى: وهي أظهر عن أحمد واختارها ابن عبدوس في تذكرته والشيخ تقي الدين.
ووجه الأول أنه يحتمل أنه تمضمض بها أو ظنها ماء فلما صارت في فيه مجها أو ظنها لا تسكر أو كان مكرها (1) انتهى.
وجاء في الإنصاف على قول ابن قدامة "وهل يحد بوجود الرائحة على روايتين" وأطلقهما في مسبوك الذهب وتجريد العناية ونهاية ابن رزين إحداهما: لا يحد وهو المذهب صححه المصنف والشارح وابن منجا في شرحه وصاحب الخلاصة والتصحيح وغيره، وجزم به في الوجيز والمنور. . والرواية الثانية: يحد إذا لم يدع شبهة. قال ابن أبي موسى في الإرشاد: هذه أظهر عن الإمام أحمد رحمه الله واختارها ابن عبدوس في تذكرته والشيخ تقي الدين رحمه الله وقدمها في المستوعب، وعنه يحد وإن ادعى شبهة ذكرها في الفروع وذكر هذه المسألة في باب حد الزنا وأطلقا في تجريد العناية، ونقل الجماعة عن الإمام أحمد رحمه الله: يؤدب برائحته واختاره الخلال كالحاضر مع من شربه.
فائدتان: إحداهما لو وجد سكران وقد تقيأ الخمر فقيل: حكمه حكم الرائحة، وقدمه في الفصول وجزم به في الرعاية
__________
(1) المقنع ومعه الحاشية 3 \ 471.(38/65)
الكبرى.
وقيل: يحد هنا وإن لم نحده بالرائحة، واختاره المصنف والشارح وهو ظاهر كلامه في الإرشاد، وهذا المذهب على ما اصطلحناه في المقدمة وأطلقهما في الفروع.
والثانية: يثبت شربه للخمر بإقراره مرة على الصحيح من المذهب كحد القذف، جزم به في الفصول والمذهب والحاوي الصغير والمغني والشرح وقدمه في الفروع.
وعنه مرتين، واختاره القاضي وأصحابه وصححه الناظم واختاره ابن عبدوس في تذكرته وقدمه في المحرر والنظم والرعايتين وجزم به في المنور وغيره، وجعل أبو الخطاب أن بقية الحدود لا يثبت إلا بإقراره مرتين. وقال في عيون المسائل في حد الخمر بمرتين، وإن سلمناه فلأنه لا يتضمن إتلافا بخلاف حد السرقة، قال في الفروع: ولم يفرقوا بين حد القذف وغيره، لأنه حق آدمي كالقود فدل على رواية فيه قال وهذا متجه.
ويثبت أيضا شربها بشهادة عدلين مطلقا على الصحيح من المذهب، وقيل ويعتبر قولهما، عالما بتحريمه واختياره وأطلقهما في الرعاية الكبرى (1) انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والحد واجب إذا قامت البينة أو اعترف الشارب، فإن وجدت منه رائحة الخمر أو رئي وهو يتقايؤها ونحو ذلك فقد قيل لا يقام عليه الحد،
__________
(1) الإنصاف 10 \ 233.(38/66)
لاحتمال أنه شرب ما ليس بخمر أو شربها جاهلا بها أو مكرها ونحو ذلك.
وقيل: يجلد إذا عرف أن ذلك مسكر وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة كعثمان وعلي وابن مسعود وعليه تدل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي اصطلح عليه الناس وهو مذهب مالك وأحمد في غالب نصوصه (1) انتهى.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وحكم عمر وابن مسعود رضي الله عنهما ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة بوجوب الحد برائحة الخمر من في الرجل أو قيئه خمرا، اعتمادا على القرينة الظاهرة (2) انتهى.
__________
(1) السياسة الشرعية \ 51.
(2) الطرق الحكمية 6.(38/67)
سادسا: حكم من تكرر منه شربها "القتل أو الجلد".
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: أحدهما: أنه يقتل وبه قال ابن حزم ومن وافقه من أهل العلم.
والثاني: أنه لا يقتل، وبه قال جمهور أهل العلم وفيما يلي بيان القولين مع الأدلة والمناقشة.
القول الأول: أن شارب الخمر إذا شرب ثم حد ثم شرب ثم حد ثم شرب ثم حد ثم شرب الرابعة قتل وهذا يقول به ابن حزم ومن يوافقه من أهل العلم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقيل هو محكم وقد يقال: هو تعزير يفعله الإمام عند الحاجة وقال أيضا:(38/67)
وطائفة يقولون إذا لم ينتهوا عن الشرب إلا بالقتل جاز ذلك) انتهى المقصود (1) .
والحجة لهذا القول:
1 - قال ابن حزم: نا أحمد بن قاسم، نا أبو قاسم بن محمد بن قاسم، نا جدي قاسم بن أصبغ، نا الحارث - هو ابن أبي أسامة - نا عبد الوهاب بن عطاء، أنا قرة بن خالد عن الحسن بن عبد الله بن النصري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: " ائتوني برجل أقيم عليه حدا في الخمر فإن لم أقتله فأنا كاذب) انتهى.
وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه (2) » . قال عبد الله: ائتوني برجل قد شرب الخمر في الرابعة فلكم علي أن أقتله.
وأجيب عن هذا الحديث بأنه منقطع فلا حجة لهم فيه قال ابن حجر: وهذا منقطع، لأن الحسن لم يسمع من عبد الله بن عمر كما جزم به ابن المديني وغيره فلا حجة فيه، وإذ لم يصح هذا عن عبد الله بن عمرو لم يبق لمن رد الإجماع على ترك القتل متمسك حتى ولو ثبت عن عبد الله بن عمرو لكان عذره أنه لم يبلغه النسخ، وعد ذلك من نزره المخالف، وقد جاء عن
__________
(1) الفتح \ 12 \ 80 - 2 السياسة الشرعية \ 49 - 50.
(2) سنن الترمذي كتاب الحدود (1444) ، سنن أبو داود الحدود (4482) ، سنن ابن ماجه الحدود (2573) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) .(38/68)
عبد الله بن عمرو أشد من الأول فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند لين قال: لو رأيت أحدا يشرب الخمر واستطعت أن أقتله لقتلته (1) انتهى.
2 - عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شربوا الخمر فاجلدوهم ثم إذا شربوا فاجلدوهم ثم إذا شربوا الرابعة فاقتلوهم (2) » رواه الخمسة إلا النسائي، قال الشوكاني: قال البخاري: هو أصح ما في هذا الباب، وأخرجه أيضا الشافعي والدارمي وابن المنذر وابن حبان وصححه من حديث أبي هريرة، وأخرجه ابن أبي شيبة من رواية أبي سعيد والمحفوظ أنه عن معاوية وأخرجه أبو داود من رواية أبان العطار وفيه فإن شربوا يعني بعد الرابعة فاقتلوهم. ورواه أيضا أبو داود من حديث ابن عمر قال: وأحسبه قال في الخامسة ثم إن شربها فاقتلوه، قال: وكذا في حديث غطيف في الخامسة. انتهى (3) .
3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاضربوا عنقه (4) » . رواه الخمسة إلا الترمذي.
وأجيب عن هذه الأحاديث وما في معناها أن القتل منسوخ وأدلة النسخ:
__________
(1) مجموع الفتاوى 34 \ 217.
(2) سنن الترمذي كتاب الحدود (1444) ، سنن أبو داود الحدود (4482) ، سنن ابن ماجه الحدود (2573) ، مسند أحمد بن حنبل (4/95) .
(3) نيل الأوطار 7 \ 325.
(4) سنن النسائي الأشربة (5662) ، سنن أبو داود الحدود (4484) ، سنن ابن ماجه الحدود (2572) ، مسند أحمد بن حنبل (2/504) ، سنن الدارمي الأشربة (2105) .(38/69)
1 - قال الترمذي: إنما كان هذا في أول الأمر ثم نسخ بعد، هكذا روى محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد الرابعة فاقتلوه قال ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه ولم يقتله (1) » . وأخرجه النسائي أيضا.
2 - عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه، فأتي برجل قد شرب فجلده ثم أتي به فجلده ثم أتي به فجلده، ورفع القتل وكان رخصة (2) » . رواه أبو داود وذكره الترمذي بمعناه وأخرجه أيضا الشافعي وعبد الرزاق، وعلقه الترمذي وأخرجه أيضا الخطيب عن ابن إسحاق عن الزهري عن قبيصة، قال سفيان بن عيينة حدث الزهري بهذا وعنده منصور بن المعتمر ومخول بن راشد فقال لهما: كونا وافدي أهل العراق بهذا الحديث. وقبيصة بن ذؤيب من أولاد الصحابة ولد عام الفتح وقيل إنه ولد أول سنه من الهجرة، ولم يذكر له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعده الأئمة من التابعين وذكروا أنه سمع الصحابة، قال المنذري: وإذا ثبت أن مولده أول سنة من الهجرة أمكن أن يكون سمع من النبي صلى الله عليه وسلم وقد قيل أنه أتي به النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام يدعو له. وذكر عن الزهري أنه كان إذا ذكر قبيصة بن ذؤيب قال: كان من علماء هذه الأمة، وأما أبوه ذؤيب بن حلحلة
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الحدود (1444) ، سنن أبو داود الحدود (4482) ، سنن ابن ماجه الحدود (2573) ، مسند أحمد بن حنبل (4/96) .
(2) سنن أبو داود الحدود (4485) .(38/70)
فله صحبة. انتهى. ورجال الحديث مع إرساله ثقات وأعله الطحاوي بما أخرجه من طريق الأوزاعي أن الزهري راويه قال: بلغني عن قبيصة ولم يذكر أنه سمع منه.
وعورض بأنه رواه ابن وهب عن يونس قال: أخبرني الزهري أن قبيصة حدثه أنه بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويونس أحفظ لحديث الزهري من الأوزاعي، وأخرج عبد الرزاق عن ابن المنكدر مثله. انتهى (1) من كلام الشوكاني.
وقال ابن حجر: وأخرجه الخطيب في المبهمات من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري وقال فيه: «فأتي برجل من الأنصار يقال له نعيمان فضربه أربع مرات فرأى المسلمون أن القتل قد أخر وأن الضرب قد وجب» .
وقال ابن حجر على قوله " بلغه ": والظاهر أن الذي بلغ قبيصة ذلك صحابي، فيكون الحديث على شرط الصحيح، لأن إبهام الصحابي لا يضر. وله شاهد أخرجه عبد الرزاق عن معمر قال: حدثت به ابن المنكدر فقال: ترك ذلك، قد «أتي النبي صلى الله عليه وسلم بابن نعيمان فجلده ثلاثا ثم أتي به في الرابعة فجلده ولم يزد (2) » . ووقع عند النسائي من طريق محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر عن جابر «فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل منا قد شرب في الرابعة فلم يقتله» .
وأخرجه من وجه آخر عن محمد بن إسحاق بلفظ: «فإن عاد
__________
(1) نيل الأوطار 7 \ 326.
(2) صحيح البخاري الحدود (6775) ، مسند أحمد بن حنبل (4/8) .(38/71)
الرابعة فاضربوا عنقه، فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد رفع (1) » انتهى.
القول الثاني:
أنه لا يقتل وأن القتل منسوخ وهذا قول جمهور العلماء، وفيما يلي بيان بعض من قال بذلك مع الأدلة والمناقشة.
قال الشوكاني: ذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل الشارب وأن القتل منسوخ، قال الشافعي: والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره يعني حديث قبيصة بن أبي ذؤيب، ثم ذكر أنه لا خلاف في ذلك بين أهل العلم، وقال الخطابي: قد يراد بالأمر الوعيد ولا يراد به الفعل وإنما يقصد به الردع والتحذير وقد يحتمل أن يكون القتل في الخامسة واجبا ثم نسخ بحصول الإجماع من الأمة على أن لا يقتل. انتهى.
وحكى المنذري عن بعض أهل العلم أنه قال: أجمع المسلمون على وجوب الحد في الخمر وأجمعوا على أنه لا يقتل إذا تكرر منه إلا طائفة شاذة قالت: يقتل بعد حده أربع مرات للحديث وهو عند الكافة منسوخ. انتهى.
وقال الترمذي أنه لا يعلم في ذلك اختلافا بين أهل العلم في القديم والحديث، وذكر أيضا في آخر كتابه الجامع في العلل أن جميع ما فيه معمول به عند البعض من أهل العلم إلا حديث "إذا سكر فاجلدوه" المذكور في الباب، وحديث الجمع بين الصلاتين
__________
(1) الفتح 12 \ 80.(38/72)
انتهى (1) .
وقال ابن حجر: وأما ابن المنذر فقال: كان العمل فيمن شرب الخمر أن يضرب وينكل به، ثم نسخ بالأمر بجلده، فإن تكرر ذلك أربعا قتل، ثم نسخ ذلك بالأخبار الثانية وبإجماع أهل العلم إلا من شذ ممن لا يعد خلافه خلافا، انتهى (2) .
وقال شيخ الإسلام: والقتل عند أكثر العلماء منسوخ. انتهى (3) .
وقال شيخ الإسلام أيضا: وقد روي من وجوه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شربها فاجلدوه ثم إن شربها فاجلدوه ثم إن شربها في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه (4) » فأمر بقتل الشارب في الثالثة أو الرابعة وأكثر العلماء لا يوجبون القتل بل يجعلون هذا الحديث منسوخا وهو المشهور من مذاهب الأئمة وبعد ذكره للقول بالقتل ودليله قال: والحق ما تقدم - ثم ذكر حديث عبد الله الحمار الثابت في الصحيح وسيأتي ذكره (5) .
وقال ابن حزم وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم لا قتل وذكروا ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص. انتهى (6) .
__________
(1) نيل الأوطار 7 \ 326 - 327.
(2) فتح الباري 12 \ 80.
(3) السياسة الشرعية.
(4) مسند أحمد بن حنبل (2/214) .
(5) مجموع الفتاوى 4 \ 217.
(6) المحلى 11 \ 366.(38/73)
الأدلة
الدليل الأول:
روى ابن حزم بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شرب الرجل فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد الرابعة فاقتلوه فأتي برجل منا فلم يقتله (1) » . ونوقش بأنه لا يصح، لأنه لم يروه عن ابن المنكدر أحد متصلا إلا شريك القاضي وزياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق عن ابن المنكدر، وهما ضعيفان ذكر ذلك ابن حزم.
وقد يجاب عن ذلك أولا: بأن زيادا صدوق وثبت في روايته عن ابن إسحاق لا مطعن فيها عند أئمة الحديث. وقد يجاب عن ذلك ثانيا: (2) بأن الضعف الذي ادعاه بعض أئمة الحديث في شريك وبعضهم في زياد يزول هنا بمتابعة أحدهما للآخر في رواية هذا الحديث عن محمد بن إسحاق، كما تزول تهمة التدليس من ابن إسحاق برواية قبيصة بن ذؤيب الآتية، لأن المدلس إذا تابعه غيره من المعتبرين صار حديثه حسنا لغيره.
الدليل الثاني:
ما رواه ابن حزم بسنده عن ابن شهاب أن قبيصة بن ذؤيب حدثه أنه بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لشارب الخمر: «إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاقتلوه. فأتي برجل قد شرب ثلاث مرات فجلده ثم أتي
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/191) .
(2) المحلى 11 \ 369.(38/74)
به في الرابعة فجلده ووضع القتل عن الناس (1) » .
وناقشه ابن حزم بأنه منقطع ولا حجة في المنقطع.
وقد مضى الجواب عن ذلك في الكلام على درجة هذا الحديث عند الاستدلال به على النسخ.
الدليل الثالث:
ما رواه ابن حزم عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب «أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشرب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فوالله ما علمته إلا يحب الله ورسوله (2) » .
وناقش ابن حزم هذا الحديث قائلا: وأما حديث زيد بن أسلم الذي من طريق معمر عنه فمنقطع، ثم لو صح لما كانت فيه حجة لأنه ليس فيه أن ذلك كان بعد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل فإذ ليس ذلك فيه فاليقين الثابت لا يحل تركه للضعيف الذي لا يصح ولو صح لكان ظنا فسقط التعليق به جملة.
ولو أن إنسانا يجلده النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر ثلاث مرات قبل أن يأمر بقتله في الرابعة لكان مقتضى أمره صلى الله عليه وسلم استئناف جلده بعد ذلك ثلاث مرات ولا بد، لأنه عليه الصلاة والسلام حين لفظ بالحديث المذكور أمر في المستأنف بضربه إن شرب ثم بضربه إن شرب ثانية ثم بضربه ثالثة ثم بقتله رابعة هذا نص حديثه وكلامه
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/211) .
(2) صحيح البخاري الحدود (6780) .(38/75)
عليه الصلاة والسلام، فإنما كان يكون حجة لو بين أنه أتي به أربع مرات بعد أمره عليه الصلاة والسلام بقتله في الرابعة، وهكذا القول سواء بسواء في حديث عمر الذي من طريق سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم.
وأجيب عن ذلك بما يلي:
أولا: هذا الحديث أخرجه البخاري في الصحيح فقال: حدثنا يحيى بن بكير حدثني الليث قال حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب «أن رجلا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا وكان يضحك رسول الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فوالله ما علمته إلا أنه يحب الله ورسوله (1) » .
قال ابن حجر على هذا الحديث: وفيه ما يدل على نسخ الأمر الوارد بقتل شارب الخمر إذا تكرر منه إلى الرابعة أو الخامسة، فقد ذكر ابن عبد البر أنه أتي به أكثر من خمسين مرة. انتهى (2) .
ثانيا: أن بعض الصحابة عمل بالناسخ فأخرج عبد الرزاق في مصنفه بسند لين عن عمر بن الخطاب أنه جلد أبا محجن الثقفي في الخمر ثمان مرار، وأورد نحو ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وأخرج حماد بن سلمة في مصنفه من طريق أخرى رجالها
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6780) .
(2) فتح الباري 12 \ 78.(38/76)
ثقات أن عمر جلد أبا محجن في الخمر أربع مرار ثم قال له: "أنت خليع"، فقال: أما إذ خلعتني فلا أشربها أبدا. انتهى، ذكر ذلك ابن حجر (1) .
ثالثا: سبق نقول عن أهل العلم بالقول بالنسخ، وذكر الشافعي أنه مما لا اختلاف فيه.
رابعا: إذا كان ثابتا فقد مضى حديث جابر عند الترمذي والنسائي وفيه بيان أن القتل كان متقدما وأن تركه كان متأخرا.
الدليل الرابع:
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو نفس بنفس (2) » .
وجه الدلالة أنه لا يجوز أن يقتل أحد لم يذكر في هذا الخبر، ذكر ذلك ابن حزم، وقد يجاب عن ذلك بأن هذا مسلم لو لم يرد دليل يدل على القتل وقد ورد، ويناقش ذلك بتسليم ورود القتل ولكنه نسخ وقد تقدم بيان ذلك.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) فتح الباري 12 \ 80 \ 81.
(2) سنن الترمذي كتاب الفتن (2158) ، سنن النسائي تحريم الدم (4019) ، سنن أبو داود الديات (4502) ، سنن ابن ماجه الحدود (2533) ، مسند أحمد بن حنبل (1/70) ، سنن الدارمي الحدود (2297) .(38/77)
سابعا: نجاسة الخمر
اختلف أهل العلم في نجاسة الخمر فمنهم من قال إنها نجسة، ومنهم من قال إنها طاهرة، وفيما يلي ذكر نقول عن أهل العلم لكل قول مع بيان أدلتهم ومناقشتها:
القول الأول: أنها نجسة، وممن قال بهذا القول جمهور العلماء:
أ - جاء في الهداية أنها نجسة نجاسة غليظة كالبول لثبوتها(38/77)
بالدلائل القطعية (1) .
ب - قال القرطبي: فهم الجمهور من تحريم الخمر واستخباث الشرع لها وإطلاق الرجس عليها والأمر باجتنابها الحكم بنجاستها (2) . انتهى.
جـ - قال ابن العربي على قوله رجس هو النجس - إلى أن قال: ولا خلاف في ذلك بين الناس إلا ما يؤثر عن ربيعة أنه قال: أنها محرمة وهي طاهرة كالحرير عند مالك وهو محرم مع أنه طاهر انتهى المقصود (3) .
د - قال ابن قدامة: والخمر نجسة في قول عامة أهل العلم، انتهى المقصود (4) .
هـ - قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والحشيشة المسكرة حرام ومن استحل السكر منها فقد كفر، بل في أصح قولي العلماء أنها نجسة كالخمر، والخمر كالبول والحشيشة كالعذرة. انتهى (5) .
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والأثر والمعنى.
أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (6) .
وجه الدلالة ما ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله
__________
(1) الهداية على البداية \ 4 \ 109 ويرجع إلى بدائع الصنائع \ 5 \ 113.
(2) تفسير القرطبي \ 688 \ 6.
(3) أحكام القرآن لابن الوليد \ 3 \ 651.
(4) المغني \ 9 \ 152.
(5) مختصر الفتاوى \ 499.
(6) سورة المائدة الآية 90(38/78)
تعالى قال: يفهم من هذه الآية الكريمة أن الخمر نجسة العين لأن الله تعالى قال: إنها رجس، والرجس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس، وقيل أن أصله من الركس وهو العذرة والنتن، قال بعض العلماء: ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنة {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} (1) لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه أن خمر الدنيا ليس كذلك، ومما يؤيد هذا أن كل الأوصاف التي مدح بها الله تعالى خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا كقوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} (2) وقوله {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} (3) بخلاف خمر الدنيا ففيها غول يغتال العقول، وأهلها يصدعون أي يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها (4) . انتهى المقصود.
وأما السنة فما رواه البخاري وغيره عن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت: «يا نبي الله إنا بأرض قوم من أهل الكتاب أفنأكل في آنيتهم قال: أما ما ذكرت من أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها (5) » .
وفي لفظ لأحمد عن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت يا رسول الله: «إن أرضنا أرض أهل كتاب وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف أصنع بآنيتهم وقدورهم قال: إن لم تجدوا غيرهما فارحضوها واطبخوا فيها واشربوا (6) » . وعنه من طريق أخرى قال: «قلت يا رسول الله: إنا أهل سفر نمر باليهود والنصارى والمجوس
__________
(1) سورة الإنسان الآية 21
(2) سورة الصافات الآية 47
(3) سورة الواقعة الآية 19
(4) أضواء البيان.
(5) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5478) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1930) ، سنن الترمذي الأطعمة (1797) ، سنن ابن ماجه الصيد (3207) ، سنن الدارمي السير (2499) .
(6) سنن أبو داود الأطعمة (3839) ، سنن ابن ماجه الصيد (3207) ، مسند أحمد بن حنبل (4/194) ، سنن الدارمي السير (2499) .(38/79)
ولا نجد غير آنيتهم قال فإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها واشربوا (1) » .
وجه الدلالة ما ذكره الخطابي بقوله: والأصل في هذا أنه إذا كان معلوما من حال المشركين أنهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر. فإنه لا يجوز استعمالها إلا بعد الغسل والتنظيف (2) .
وقد يناقش ذلك بأن الأمر بغسلها من أجل أنهم يأكلون من لحم الخنزير لا من أجل نجاسة الخمر.
وقد يجاب عن ذلك بأن نجاسة الخمر كانت متقررة عند الصحابة ولهذا سأل أبو ثعلبة الخشني عن المخرج من ذلك وكان السؤال عن أمرين والجواب عنهما ولو لم تكن الخمر نجسة لما أمر بغسل الإناء الذي شرب فيه الخمر.
وأما الأثر فروى ابن عساكر في تاريخه بسنده عن عمر رضي الله عنه كتب إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه بلغني أنك تدلك بالخمر والله قد حرم ظاهر الخمر وباطنها وقد حرم مس الخمر كما حرم شربها فلا تمسوها أجسادكم فإنها نجس (3) .
وأما المعنى: -
1 - أن الله تعالى حرمها لعينها فكانت نجسة كالخنزير (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5488) ، سنن الترمذي الصيد (1464) ، سنن أبو داود الأطعمة (3839) ، سنن ابن ماجه الصيد (3207) ، سنن الدارمي السير (2499) .
(2) عون المعبود 3 \ 728.
(3) التاريخ الكبير 5 \ 105.
(4) المغني 9 \ 152 ويرجع لبدائع الصنائع 5 \ 113.(38/80)
2 - إن من تمام تحريمها وكمال الردع عنها الحكم بنجاستها حتى يتقذرها العبد فكيف عنها قربا بالنجاسة وشربا بالتحريم فالحكم بنجاستها يوجب التحريم (1) .
القول الثاني: أنها طاهرة، قال القرطبي بعد ذكره لقول من قالها إنها نجسة قال: وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة، وأن المحرم إنما هو شربها، وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة. قال ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم، ولنهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه كما نهى عن التخلي في الطريق (2) . انتهى.
وقد يناقش هذا الاستدلال بالوجوه الآتية:
الوجه الأول: قد يقال المواضع التي أريق فيها الخمر ليست مواضع للصلاة بل هي مسالك استطراق فإما أن يقال بأنه لا يشق الاحتراز منها أو لا، وعلى القول بأنه لا يشق الاحتراز منها ووطئها المار فإنه يطهره ما بعده، فروى الإمام أحمد وأبو داود أن امرأة قالت لأم سلمة: «إني أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطهره ما بعده (3) » ، وروى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وطئ أحدكم
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي 2 \ 651.
(2) أحكام القرآن 6 \ 388.
(3) سنن الترمذي الطهارة (143) ، سنن أبو داود الطهارة (383) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (531) ، مسند أحمد بن حنبل (6/290) ، موطأ مالك الطهارة (47) ، سنن الدارمي الطهارة (742) .(38/81)
بنعله الأذى فإن التراب لهما طهور (1) » . وفي لفظ: «إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورها التراب (2) » .
وروى أبو داود أيضا عن امرأة من بني عبد الأشهل قالت: «يا رسول الله إن لنا طريقا إلى المسجد منتنة كيف نفعل إذا تطهرنا؟ قال: أوليس بعدها طريق أطيب منها، قالت: قلت: بلى، قال: فهذه بهذه (3) » . وروى الترمذي مثله عن أم سلمة.
الوجه الثاني: قد يقال إن إراقتها في الأسواق فيه زجر بليغ ليرى الناس الخمر التي تعلقت بها نفوسهم تراق فيبادروا إلى الامتثال فمن كان عنده شيء منها عرف أنه لا ينتفع به بأي وجه من وجوه الانتفاع.
الوجه الثالث: وقد يقال إن الخمر لما أريقت في الطرقات ضربتها الرياح وخالطها التراب فزالت منها المادة المسكرة فتكون متخللة بنفسها، وقد ذكر العلماء أن الخمر إذا تخللت بنفسها أنها طاهرة، وقد مضى الكلام مفصلا على ذلك في البحث الذي أعد في موضوع " الاستحالة " والذي بحثه المجلس في دورته التاسعة.
الوجه الرابع: وقد يقال إنها قليلة بحيث يسهل التحرز منها بالنسبة لمن يمر مع الطريق الذي أريقت فيه.
الوجه الخامس: أن التغوط في الأسواق لا يتناسب مع المروءة ولأنه لو ساغ لكل أحد أن يتغوط في السوق لأدى ذلك إلى ضرر
__________
(1) سنن أبو داود الطهارة (385) .
(2) سنن أبو داود الطهارة (385) .
(3) سنن أبو داود الطهارة (384) ، مسند أحمد بن حنبل (6/435) .(38/82)
على الناس واستمر الناس عليه إلى الأبد وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليهم لعنتهم» .
وبناء على ذلك لا يقال لو كانت نجسة لنهى عن إراقتها في الأسواق كنهيه صلى الله عليه وسلم عن التغوط في الأسواق.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/83)
ثامنا: هل ينطبق على الكلونيا تعريف الخمر أو لا؟
وما حكم شربها واستعمالها على كل من التقديرين؟
وهل يحكم بنجاستها على تقدير أنها خمر أو لا؟
كل أنواع الكلونيا تحتوي على كحول فيما نعلم ولكن نسبة هذا الكحول متفاوتة وليس كل ما فيه كحول يسكر شاربه، وعلى هذا إذا بلغت نسبة الكحول في نوع من أنواعها حدا يجعل كثيرها مسكرا فإنه ينطبق عليها تعريف الخمر عند جمهور الفقهاء فتسمى خمرا أيضا، ويحرم شرب قليلها وكثيرها، ويحد شاربها، ويجري فيها الخلاف في نجاستها، ولا ينطبق عليها تعريف الخمر عند أبي حنيفة ومن يوافقه من أهل العلم فلا تسمى خمرا ولكن يحرم شرب الكثير منها دون القليل.
وإذا لم تبلغ درجة أن يسكر شرب كثيرها فلا ينطبق عليها تعريف الخمر عند جميع الفقهاء ولا تسمى خمرا ولا يحرم شربها ولا استعمالها للتطهير ولا لطيب رائحتها ولا يحكم بنجاستها.(38/83)
وتقدير النسبة التي إذا بلغتها يكون كثيرها مسكرا يتوقف على تحليلها ويرجع إلى رأي أهل الخبرة في ذلك هذا ما تيسر ذكره.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/84)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(38/85)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 884
س: يقول بعض العلماء إنه وردت أحاديث في فضيلة نصف شعبان وصيامه وإحياء ليلة النصف منه، هل هذه الأحاديث صحيحة أو لا؟ إن كان هناك صحيح فبينوه لنا بيانا شافيا، وإن كان غير ذلك فأرجو منكم الإيضاح، أثابكم الله؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
جـ: وردت أحاديث صحيحة في فضيلة صوم أيام كثيرة من شعبان إلا أنها لم تخص بعضا من أيامه دون بعض، فمنها ما في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان، فكان يصوم شعبان كله إلا قليلا (1) » ، وفي حديث أسامة بن زيد أنه «قال للنبي صلى الله عليه وسلم: " لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان، قال: ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع الأعمال فيه إلى رب العالمين فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم (2) » . رواه الإمام أحمد والنسائي.
ولم يصح حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام يوم بعينه من شعبان، أو كان يخص أياما منه بالصوم، لكن وردت أحاديث ضعيفة في قيام ليلة النصف من شعبان وصيام نهارها، منها ما رواه ابن ماجه في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا كان ليلة نصف شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه ألا كذا حتى يطلع الفجر (3) » . وقد صحح ابن حبان بعض ما ورد من الأحاديث في فضل
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1969) ، صحيح مسلم الصيام (1156) ، سنن الترمذي الصوم (768) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1601) ، سنن أبو داود الصوم (2434) ، مسند أحمد بن حنبل (6/242) ، موطأ مالك الصيام (688) .
(2) سنن النسائي الصيام (2357) ، مسند أحمد بن حنبل (5/201) .
(3) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1388) .(38/86)
إحياء ليلة النصف من شعبان، من ذلك ما رواه في صحيحه عن عائشة أنها قالت: «فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت فإذا هو في البقيع رافع رأسه، فقال: أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله، فقلت يا رسول الله: ظننت أنك أتيت بعض نسائك فقال: " إن الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب (1) » وقد ضعف البخاري وغيره هذا الحديث.
وأكثر العلماء يرون ضعف ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان وصوم يومها، وقد عرف عند علماء الحديث تساهل ابن حبان في تصحيح الأحاديث، وبالجملة فإنه لم يصح شيء من الأحاديث التي وردت في فضيلة إحياء ليلة النصف من شعبان وصوم يومها عند المحققين من علماء الحديث، وكذا أنكروا قيامها وتخصيص يومها بالصيام، وقالوا إن ذلك بدعه، وعظم جماعة من العباد تلك الليلة اعتمادا على ما ورد من الأحاديث الضعيفة واشتهر عنهم ذلك فتابعهم عليه الناس، تحسينا للظن بهم، بل قال بعضهم لفرط تعظيمه لليلة النصف من شعبان إنها الليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن وأنها يفرق فيها كل أمر حكيم، وجعل ذلك تفسيرا لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (2) {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (3) وهذا من الخطأ المبين، ومن تحريف القرآن عن مواضعه، فإن المراد بالليلة المباركة في الآية ليلة القدر، لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (4) وليلة القدر في شهر رمضان للأحاديث الواردة في ذلك، لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (5) .
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (739) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1389) ، مسند أحمد بن حنبل (6/238) .
(2) سورة الدخان الآية 3
(3) سورة الدخان الآية 4
(4) سورة القدر الآية 1
(5) سورة البقرة الآية 185(38/87)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(38/88)
السؤال الأول من الفتوى رقم 7929
س: سؤالي عن ليلة النصف من شعبان هل هذه الآية التي في سورة الدخان {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (1) هل المقصود بها ليلة النصف من شعبان أم المراد بها ليلة القدر سبع وعشرين من رمضان المبارك، وهل يستحب في ليلة النصف من شعبان العبادة والذكر والقيام وقراءة القرآن وصيام يوم أربعة عشر من شعبان؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: أولا: الصحيح أن الليلة المذكورة في هذه الآية هي ليلة القدر وليست ليلة النصف من شعبان.
ثانيا: لا يستحب تخصيص ليلة النصف من شعبان بشيء من العبادة مما ذكرت أو غيره، بل هي كغيرها من الليالي الأخرى وتخصيصها بشيء من العبادات بدعة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الدخان الآية 4(38/88)
فتوى رقم 9760
س: إن أبي قد أوصاني في حياته أن أعمل صدقة حسب استطاعتي وذلك ليلة النصف من شعبان من كل سنة وفعلا كنت أعملها إلى حد الآن، غير أن بعض الناس لاموني على ذلك يقولون: قد لا يجوز ذلك، فهل هذه الصدقة ليلة النصف من شعبان جائزة حسب وصية أبي أم غير جائزة أفتونا جزاكم الله خيرا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: تخصيص هذه الصدقة بنصف شعبان من كل سنة بدعة غير جائزة ولو أوصى بذلك والدك، وعليك أن تنفذ هذه الصدقة لكن لا تخص بها النصف من شعبان بل اجعلها كل سنة في شهر من شهور السنة دون تخصيص شهر معين، والأفضل في رمضان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/89)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 10803
س: في اليوم العاشر من المحرم بعض الناس يوسعون الطعام على أهله ويبينون الخطباء فضائله الدينية والدنيوية ماذا حيثية، وهكذا بعض الناس يقولون بالتجارب طعمه البركة في المال؟(38/89)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: المشروع صيام اليوم العاشر من شهر المحرم مع اليوم التاسع أو الحادي عشر، وإذا حث الخطيب أو المدرس الناس على ذلك وبين فضله فهو خير، أما التوسعة على الأهل في الطعام ذلك اليوم بقصد أن ذلك مما شرع تفضيلا له فهو بدعة، وما ورد في فضل التوسعة فيه على الأهل من الأحاديث لم يصح.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/90)
السؤال الأول من الفتوى رقم 7465
س: ما هو حكم الذبح في وقت محدد وزمن معلوم من كل سنة حيث إنه يوجد عدد كثير من الناس يعتقدون أن الذبح في 27 رجب و 6 من صفر و 15 من شوال و10 من محرم أن هذا قربة وعبادة إلى الله عز وجل، فهل هذه الأعمال صحيحة وتدل عليها السنة أم أنها بدعة مخالفة للدين الإسلامي الصحيح ولا يثاب عليها فاعلها؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: العبادات وسائر القربات توقيفية لا تعلم إلا بتوقيف من الشرع، وتخصيص الأيام المذكورة من تلك الشهور بالذبائح فيها لم يثبت فيه نص من كتاب ولا سنة صحيحة، ولا عرف ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم، وعلى هذا فهو بدعة محدثة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » رواه البخاري ومسلم.
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(38/90)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/91)
السؤال الأول من الفتوى رقم 5738
س: الاحتفالات بالأعياد الدينية: مولد النبي صلى الله عليه وسلم - النصف من شعبان - إلخ حسب المناسبات هل ذلك جائز؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
(أ) الاحتفال بالأعياد البدعية لا يجوز.
(ب) في السنة عيدان عيد الأضحى وعيد الفطر، ويشرع في كل منهما إظهار الفرح والسرور وفعل ما شرعه الله سبحانه فيهما من الصلاة وغيرها.
(ج) لا يجوز أن يقام احتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ولا بمولد غيره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولم يشرعه لأمته، وهكذا أصحابه رضي الله عنهم لم يفعلوه، وهكذا سلف الأمة من بعدهم في القرون المفضلة لم يفعلوه، والخير كله في اتباعهم.
(د) الاحتفال بليلة النصف من شعبان بدعة، وهكذا الاحتفال بليلة سبع وعشرين من رجب التي يسميها بعض الناس بليلة الإسراء والمعراج كما تقدم في فقرة (ج) ، والله المستعان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/91)
فتوى رقم 2008
س: يوجد لدينا بعض إخواننا المسلمين أقاموا لأنفسهم ولأولادهم أعياد ميلاد فما هو رأي الإسلام في هذه الأعياد؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: الأصل في العبادات التوقيف، فلا يجوز لأحد أن يتعبد بما لم يشرعه الله، لقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » ، وقوله: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » ، وأعياد الموالد نوع من العبادات المحدثة في دين الله فلا يجوز عملها لأي أحد من الناس مهما كان مقامه أو دوره في الحياة، فأكرم الخلق وأفضل الرسل عليهم الصلاة والسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لم يحفظ عنه أنه أقام لمولده عيدا ولا أرشد إليه أمته، وأفضل هذه الأمة بعد نبيها خلفاؤها وأصحابه ولم يحفظ عنهم أنهم أقاموا عيدا لمولده أو لمولد أحد منهم رضوان الله عليهم والخير في اتباع هديهم وما استقوه من مدرسة نبيهم صلى الله عليه وسلم، يضاف إلى ذلك ما في هذه البدعة من التشبه باليهود والنصارى وغيرهم من الكفرة فيما أحدثوه من الأعياد والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(38/92)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 5289
س: إن ابني يقيم حاليا مع والدته، ووالدته تعمل له سنويا في موعد ولادته ما يسمى بـ (عيد ميلاد) وهي حفلة تتخللها المأكولات والشموع بعدد سنين عمره كل شمعة تمثل سنة يقوم الطفل بإطفائها ثم تبدأ الحفلة، فما حكم الشرع في ذلك؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: لا يجوز إقامة عيد ميلاد لأحد؛ لأنه بدعة، وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » ولأنه تشبه بالكفار في عملهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «من تشبه بقوم فهو منهم (2) » ، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) سنن أبو داود اللباس (4031) .(38/93)
فتوى رقم 11104
س: عندنا هنا في جنوب إفريقيا إذا كان الشاب أو الشابة قد بلغ من العمر 21 (إحدى وعشرين) سنة، الناس يحتفلون ويقرءون القرآن الكريم ويطبخون أنواعا من الأطعمة ويجتمعون ويعطون البالغ من العمر 21 سنة مفتاحا، فهل تجوز هذه الأشياء في الإسلام، وما حكم هذه الأفعال في الإسلام؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: إن ما ذكرته من الاحتفال وقراءة القرآن إذا بلغ الشاب أو الشابة(38/93)
واحدا وعشرين عاما لا أصل له في الشريعة، بل هو بدعة وتشبه بمن لديكم من النصارى، فقد ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » رواه مسلم وأحمد في المسند، وروى أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تشبه بقوم فهو منهم (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) سنن أبو داود اللباس (4031) .(38/94)
السؤال الخامس من الفتوى رقم 7912
س: في أي يوم بالضبط يحتفل المسلمون بعيد الأم، وهل حقيقة أنه يوم ازدادت فاطمة الزهراء؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: لا يجوز الاحتفال بما يسمى عيد الأم ولا نحوه من الأعياد المبتدعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » وليس الاحتفال بعيد الأم من عمله صلى الله عليه وسلم ولا من عمل أصحابه رضي الله عنهم ولا من عمل سلف الأمة وإنما هو بدعة وتشبه بالكفار.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(38/94)
فتوى رقم 9403
س: أنا إمام أحد المساجد في جدة، وقد ألقيت خطبة في بعث الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرت فيها أن الاحتفال بمولد الرسول بدعة من البدع المستحدثة في الدين، وفي الأسبوع الثاني كانت الخطبة في أسبوع المساجد وكان عنوان الخطبة عمارة المساجد وذكرت فيها العناية بالمساجد وتعميرها وفرشها مستنبطا ذلك من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد الصلاة تقدم إلي أحد المصلين قائلا: يا عمي الشيخ تحدثت إلينا في الأسبوع الماضي عن مولد الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرت أن الاحتفال به بدعة، أحب أن أسألك سؤالا: فقلت له تفضل أجيبك حسب الاستطاعة، فقال ما هو حكم الشرع في الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم وبعيد مولد الأطفال وعيد الأم وأسبوع الشجرة وأسبوع المرور واليوم الوطني للمملكة وأسبوع المساجد أليست بدعة؟ ، فلماذا تحاربون الاحتفال بمولد الرسول مع العلم أنه أعظم رجل عرفته البشرية جمعاء وهو أحق وأهل لذلك ولا تنكرون على هذه الاحتفالات الأخرى بل تشجعونها وخاصة أنتم أيها السعوديون.
فبينت له ذلك مستعينا بالله وقلت له: المقصود من أسبوع المساجد حث المسلمين على نظافتها والعناية بها، فقال لي: انظر إلى الشوارع آيات الله مكتوبة على الورق والقماش ويمزعها الهواء وترمى في الطرقات وأماكن القاذورات أليس هذا حراما وخاصة في أسبوع المساجد، انظر يا عمي الشيخ إلى هذه القطعة من القماش مكتوب عليها: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) مرمية في الحديقة ويصب عليها وايت النفايات إنا لله وإنا إليه راجعون، إنني أنقل لكم كلام الشخص حرفيا
__________
(1) سورة التوبة الآية 18(38/95)
حسب ما تكلم به علي، وفعلا أخذت القطعة المكتوبة عليها وغسلتها وأحرقتها.
فقال لي يا عمي الشيخ أنا لا أريد منك شيئا إنما الذي أرجوه أن تتكلموا أنتم يا خطباء المساجد وأصحاب الكلمة المسموعة، ولكن أنتم يا خطباء السعودية لا تستطيعون ذلك، إذا قالت الحكومة: هذا حرام قلتم: حرام، وإذا قالت: هذا حلال قلتم: حلال، وأنت أول واحد تقول لي هذا عمل خير وتشجع المسلمين إلى فعل الخير أنا لا يمكن أقنع بهذا الكلام إلا بفتوى شرعية من كبار العلماء ولا تنس يا شيخ أن الساكت على الحق شيطان أخرس والسلام عليك. انتهى.
لذا أرجو الفتوى الشرعية في الأعياد المذكورة بالصفحة الأولى مفصلة وبالدليل لكل موضوع على حدة والله يحفظكم.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: أولا: العيد اسم لما يعود من الاجتماع على وجه معتاد إما بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع أو نحو ذلك فالعيد يجمع أمورا منها: يوم عائد كيوم عيد الفطر ويوم الجمعة، ومنها: الاجتماع في ذلك اليوم ومنها: الأعمال التي يقام بها في ذلك اليوم من عبادات وعادات.
ثانيا: ما كان من ذلك مقصودا به التنسك والتقرب أوالتعظيم كسبا للأجر، أو كان فيه تشبه بأهل الجاهلية أو نحوهم من طوائف الكفار فهو بدعة محدثة ممنوعة داخلة في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » رواه البخاري ومسلم، مثال ذلك: الاحتفال بعيد المولد وعيد الأم والعيد الوطني لما في الأول من إحداث عبادة لم يأذن بها الله، ولما في ذلك من التشبه بالنصارى ونحوهم من الكفرة ولما في الثاني
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(38/96)
والثالث من التشبه بالكفار، وما كان المقصود منه تنظيم الأعمال مثلا لمصلحة الأمة وضبط أمورها كأسبوع المرور وتنظيم مواعيد الدراسة والاجتماع بالموظفين للعمل ونحو ذلك مما لا يفضي به التقرب والعبادة والتعظيم بالأصالة، فهو من البدع العادية التي لا يشملها قوله صلى الله عليه وسلم: " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد " فلا حرج فيه بل يكون مشروعا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/97)
فتوى رقم 1308
س: سمعت أحد حجاج بيت الله الحرام يقول إن أي حمامة بالمدينة المنورة إذا قرب أجل موتها تطير إلى مكة المكرمة وتشق سماء الكعبة المشرفة كوداع لها ثم تموت بعد أن تطير مسافة من الأميال فهل هذا صحيح أم لا؟ أفيدونا.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: ليس لحمام المدينة ولا لحمام مكة ميزة تخصها دون غيرها من الحمام سوى أنه لا يجوز صيده ولا تنفيره لمحرم بالحج أو العمرة أو غير محرم ما دام في حرم مكة أو في حرم المدينة، فإذا خرج عنهما حل صيده لغير المحرم بالحج أو العمرة كسائر الصيد، لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} (1) ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم مكة فلم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار لا يختلى
__________
(1) سورة المائدة الآية 95(38/97)
خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها " الحديث رواه البخاري، وقوله صلى الله عليه وسلم: «"إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها (1) » رواه مسلم، فمن ادعى أن أي حمامة بالمدينة المنورة إذا دنا أجلها طارت إلى مكة ومرت بهواء الكعبة فهو جاهل قد ادعى شيئا لا أساس له من الصحة فإن الآجال لا يعلمها إلا الله، قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (2) ووداع الكعبة إنما يكون بطواف من حج أو اعتمر حولها، فدعوى أن الحمام يعلم دنو أجله، وأنه يودع الكعبة بالطيران فوقها دعوى كاذبة لا يجرؤ عليها إلا جاهل يفتري الكذب على الله وعلى عباده والله المستعان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1362) .
(2) سورة لقمان الآية 34(38/98)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 7753
س: ما حكم خلع النعال عند التحية في الشريعة الغراء، لأن بعض العلماء يبيحون ذلك ويستدلون بقوله تعالى في سورة طه عند قوله: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} (1) وهل هذا صحيح؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: لا يجوز اتخاذ خلع النعال عند التحية سنة ومشروعا في الدين، وخلع النعال في شريعة موسى عليه السلام منسوخ بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أمرنا بالصلاة بالنعال.
__________
(1) سورة طه الآية 12(38/98)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/99)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 9418
س: هل تجوز الصلاة خلف إمام يعقد التمائم للناس، ثم إذا نزل القحط يأمر الناس بشراء كبش أو بقرة لتذبح ويأكلها الصبيان عند القحط من أجل أن ينزل المطر، هل تجوز الصلاة خلف إمام يفعل النذر والذبح لغير الله تعالى؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: أولا: تجوز الصلاة خلف الذي يكتب التمائم من القرآن والأدعية المشروعة ولا ينبغي له أن يكتبها لأنه لا يجوز تعليقها، وأما إذا كانت التمائم تشتمل على أمور شركية فلا يصلى خلف الذي يكتبها، ويجب أن يبين له أن هذا شرك والذي يجب عليه البيان هو الذي يعلمها، والنذر لغير الله شرك، والذبح لغير الله شرك، لقول الله سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (1) ، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {لَا شَرِيكَ لَهُ} (3) الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله من ذبح لغير الله (4) » والنذر داخل في قوله تعالى: {وَنُسُكِي} (5)
ثانيا: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بشراء كبش أو بقرة لتذبح ويأكلها الصبيان عند القحط من أجل أن ينزل المطر، وإنما المشروع في ذلك صلاة
__________
(1) سورة البقرة الآية 270
(2) سورة الأنعام الآية 162
(3) سورة الأنعام الآية 163
(4) صحيح مسلم الأضاحي (1978) ، سنن النسائي الضحايا (4422) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(5) سورة الأنعام الآية 162(38/99)
الاستسقاء والدعاء والاستغفار والصدقة على الفقراء بل ذلك بدعة لا أساس لها في الشرع المطهر، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(38/100)
السؤال الأول من الفتوى رقم 9554
س: عندنا في مصر بئر بسيناء يقال إن نبي الله أيوب قد أمره الله أن يركض برجله فيها حينما كان مبتلى فشفاه الله تعالى، وأصيبت عندنا امرأة بمرض فأرادت أن تذهب إلى البئر لتركض فيها كما صنع نبي الله أيوب صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز لها أن تغتسل من هذه البئر طلبا للاستشفاء أم يصير هذا شركا واستعانة بغير الله؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: لا صحة لذلك، ولم يعلم المحل الذي اغتسل فيه أيوب فلا يجوز لها أن تذهب إلى ما زعم أنه بئر أيوب.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/100)
السؤال الأول من الفتوى رقم 6639
س: يضع بعض من الناس أماناتهم وحاجاتهم عند قبور الصالحين(38/100)
ظنا منهم أنهم يتولون حراستها فلا تسرق ولا تنهب ولا تؤخذ.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: اعتقاد أن الموتى يقومون بحراسة ما يوضع على قبورهم من الأمانات كفر بواح وشرك في الربوبية يستوجب من مات عليه الخلود في النار، ووضع الأمانات أو الحاجات الأخرى على القبور للحفظ أو البركة كله لا يجوز.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/101)
السؤال الرابع من الفتوى رقم 3596
س: ما حكم الشرع في الولائم التي تقدم إلى الأولياء سنويا حيث عندنا يقام كل عام على الأولياء ولائم تكلف الناس كثيرا ويرى ضعفاء العقول أنه واجب عليهم القيام بذلك؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: لا يجوز عمل ولائم باسم الأولياء، لأن هذا من البدع المحدثة، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ولا يجوز للمسلم حضورها لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، وقد نهى الله جل وعلا عنه بقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) .
وإن كان المقصود بإقامة الولائم التقرب إلى الأولياء بذلك طمعا في
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) سورة المائدة الآية 2(38/101)
شفاء المرضى وشفاعتهم يوم القيامة أو حصول المدد منهم للأحياء الذين أقاموا الولائم فهذا شرك أكبر لأن ذلك عبادة لهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/102)
السؤال الأول من الفتوى رقم 8821
س: إذا ضاع من الإنسان شيء، وقال: " إنه على رجعه لقادر" 200 مرة فهل يرجع له ما فقده أو لا؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: لم يثبت ذلك في كتاب الله ولا في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة، ولا هو من الأسباب العادية التي يسترجع بها المفقود، بل هو من استعمال القرآن في غير ما أنزل من أجله، مع ما في ذلك من التحديد بعدد، والتحديد به أمر توقيفي لا يعلم بالعقل، وكان استعمال ذلك بدعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " رواه البخاري ومسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/102)
السؤال الخامس من الفتوى رقم 6542
س: ما مدى صحة قولهم علي كرم الله وجهه؟(38/102)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: لا أصل لتخصيص ذلك بعلي رضي الله عنه وإنما هو من غلو المتشيعة فيه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/103)
السؤال الرابع من الفتوى رقم 9123
س: أهل مصر يدعون أن رأس الحسين عندهم وأهل العراق يدعون مسجدا يسمونه المشهد الحسيني ولا أدري، ما صحة ذلك، وأين يوجد قبر الحسين على أرجح أقوال العلماء؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: الحسين رضي الله عنه قتل في العراق في المحرم سنة 61 هـ ودفن جسده في العراق، أما دعوى أن رأسه نقل إلى مصر ودفن هناك فلا نعلم له أصلا، وقد أنكر ذلك بعض المحققين من أهل العلم ولا يضرك جهلك بذلك، وإنما المشروع لك ولغيرك من المسلمين الترضي عنه وعن سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم جميعا (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) انظر رأس الحسين لشيخ الإسلام ابن تيمية ص4 وما بعدها طبعة السلفي الصالح محمد نصيف.(38/103)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 9478
س: قد ذكروا لي أن هناك في الجزائر من يسمون بالقبوريين الذين يعتقدون عقائد فاسدة، منها: طوافهم حول القبر على السيارة ثلاث مرات معتقدين بعدم إلحاق الضرر بالركاب، ومنها: دعاء إمام في الحجر التي يجعلها وسادة للميت ويقرأ في دعائه إنك يا فلان تأتيك هذه الأسئلة ويذكرها ويقول: إذا سئلت فأجب بهذه الأسئلة ولا تعجز عن الإجابة فتكون من الهالكين وإذا أجبت عنها ضمنت لك الجنة ووفقت إلى الصواب إلى آخر معتقداتهم؟
المطلوب: ما حكم فعلهم هذا، وهل تجوز الصلاة وراءهم والمعاملة معهم مع الاضطرار وبالعكس؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: ما ذكرته من أفعالهم من البدع الممنوعة شرعا وطوافهم حول القبر منكر وشرك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/104)
السؤال الأول والثاني من الفتوى رقم 5845
س1: أنا مسلم من أب وجد وأيضا من قلب وإيمان وعمل، أعمل لكل ما نص به الإسلام إلا ما أجهله، لي صديق من الإخوة المسلمين ولي صديق في الطريقة العلوية المنتسب لشيخ ابن علوه المستغني الذي ملك عدة زوايا (مساجد الزهد) وغيرهم من طريق " حمداوه " الذين يلحسون النار(38/104)
ويسحرون الحلوة، وكذلك طريق عساوة، عملهم يداعبون الحيات ويسحرون ويبيعون الحجوب تقيهم أي تقي الناس من الحيات وتمنعهم من الجن وو و. . إلخ، ولي أخ مناضل في حزب جبهة التحرير الوطني وآخر في الكشافة الإسلامية، أي طريق الأصح من هذه الطرق؟ . وهل ما تعمله هذه الطرق ومتخذو هذه الطرق يجازون أم يحاسبون، وما الدليل؟ أنا من هؤلاء لا أعرف من هو الصحيح ومن هو الخاطئ، دلوني على الصواب وهذا يرجع لعدم تمكني في الفقه الإسلامي أو ترشدوني لما فيه الخير من هذه الخرافات إن كانت خرافات.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: الطريقة الصحيحة هي طريقة الإسلام التي جاء بها كتاب الله تعالى وبينها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره، والشهادة لله بالوحدانية ولرسوله بالرسالة إلى الناس أجمعين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والاجتهاد في نصرة دين الإسلام، والصبر على الأذى في سبيل حمايته ونشره، ولزوم جماعة المسلمين، والحب في الله، والبغض في الله ونحو ذلك مما جاء في القرآن وفي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
فمن كان على هذه الطريقة فطريقته هي الصحيحة، ومن كان موافقا لشيء منها ومخالفا لآخر منها ففيه من الخير والصواب بقدر ما وافقها فيه، ومن الخطأ والشر بقدر ما خالفها فيه.
أما السحر وكتابة الحجب وتعليق التمائم والكهانة فكلها لا يجوز.(38/105)
س2: ما حكم حمل الجنازة مع أناشيد البردة - البوصيري - وأكل طعام أهل الجنازة؟
جـ: قراءة قصيدة البردة أو غيرها من قرآن أو أناشيد أمام الجنازة بدعة محدثة فهي ممنوعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(38/106)
فتوى رقم 999
س: مضمون السؤال أنه وصل إليه ورقة تتضمن أن الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية رأى النبي صلى الله عليه وسلم لما تهيأ للنوم وأنه أخبره بكثرة الفساد في الناس، وأخبره أنه يموت من أمته كل جمعة مائة وستون ألفا على غير الإسلام، وأخبر ببعض أمارات الساعة وقرب قيامها، وأمره أن يعلن الوصية للناس، وأخبره بالعدة الجميلة لمن يصدقها ويجتهد في نشرها وبالوعيد لمن يكذبها ويكتمها ولا يبلغها الناس. . . إلخ ما ذكر في الرؤيا.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: من الممكن عقلا، الجائز شرعا، أن يرى المسلم في منامه النبي صلى الله عليه وسلم على هيئته وصورته التي خلقه الله عليها، فتكون رؤيا حقا، فإن الشيطان لا يتمثل به لقوله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي (1) » رواه الإمام أحمد والبخاري من طريق أنس ولكن قد يكذب الإنسان فيدعي زورا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم على صورته التي خلقه الله عليها والتي
__________
(1) صحيح البخاري التعبير (6994) ، مسند أحمد بن حنبل (3/269) .(38/106)
نقلت إلينا نقلا صحيحا، وقد يرى في منامه شخصا على غير الصفة الخلقية للنبي صلى الله عليه وسلم، ويخيل إليه الشيطان أنه النبي صلى الله عليه وسلم، وليس به فتكون الرؤيا كاذبة.
والرؤيا المنسوبة إلى الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية إن لم تصح نسبتها إليه كانت مصطنعة مفتراة وهذا هو الظاهر، فإنه لا يزال مدع مجهول يسمي نفسه الشيخ أحمد، ويدعي أنه رأى هذه الرؤيا وقد توفي الشيخ أحمد خادم الحجرة من زمن طويل كما أخبر بذلك أهله وأقرب الناس إليه حين سئلوا عن ذلك، وأنكروا نسبة هذه الرؤيا إليه وهم ألصق الناس به وأعرفهم بحاله، وإن صحت نسبتها إليه فهي إما كذب منه وافتراء على النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أضغاث أحلام وخيال كاذب، وتلبيس من الشيطان على الرائي، وليست رؤيا صادقة، والذي يدل على أنها كذب وبهتان أو خيال وزور ما اشتملت عليه مما يتنافى مع الواقع وشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما منافاتها للواقع فإنها لا تزال تدعى وتنشر مرات بعد وفاته، وقد أنكر أهله وألصق الناس به نسبتها إليه حينما سئلوا عن ذلك.
وأما منافاتها للشريعة الإسلامية، فلما اشتملت عليه من الأمور الآتية:
أولا: الإخبار فيها عن تحديد عدد من مات من هذه الأمة على غير الإسلام من الجمعة إلى الجمعة، وهذا من أمور الغيب التي لا يعلمها البشر، إنما يعلمها الله ومن يظهره عليها من رسله في حياتهم وقد انقطعت الرسالة من البشر بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (1) وقال:
__________
(1) سورة النمل الآية 65(38/107)
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (1) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (2) ، وقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (3) .
ثانيا: إخباره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: " أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة ولم أقدر أن أقابل ربي والملائكة " فإنه من الزور والأخبار المنكرة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم أحوال أمته بعد وفاته، بل لا يعلم منها أيام حياته في الدنيا إلا ما رآه بنفسه أو أخبره به من اطلع عليه من الناس، أو أظهره الله عليه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا، ثم قرأ. . . إلى أن قال: ألا إنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ أن فارقتهم (6) » رواه البخاري.
وعلى تقدير أنه يعلم أحوال أمته بعد وفاته فلا يلحقه بذلك حرج، ولا يصيبه من وراء كثرة ذنوبهم ومعاصيهم إثم ولا خجل، وقد ثبت في حديث الشفاعة العظمى أن أهل الموقف كفارا ومسلمين يستشفعون بالأنبياء واحدا بعد آخر حينما يشتد بهم هول الموقف فيعتذر كل منهم عن الشفاعة لهم عند الله ثم ينتهي أهل الموقف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه أن يشفع لهم عند الله فيستجيب لهم ولا يمنعه من الشفاعة لهم كثرة معاصيهم أو
__________
(1) سورة الجن الآية 26
(2) سورة الجن الآية 27
(3) سورة الأحزاب الآية 40
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3349) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2860) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2423) ، مسند أحمد بن حنبل (1/253) .
(5) سورة الأنبياء الآية 104 (4) {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}
(6) سورة المائدة الآية 117 (5) {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}(38/108)
كفر الكافرين منهم ولا يخجل من ذلك، بل يذهب فيسجد تحت العرش ويحمد ربه ويثني عليه بمحامد يعلمه إياها حتى يأمره أن يرفع رأسه وأن يشفع لهم، وبعد ذلك ينصرفون للحساب والجزاء. . ولم يمنعه شيء من ذلك من لقاء ربه ومقابلة الملائكة، ولم يلحقه منه عار.
ثالثا: إخباره بالجزاء العظيم الذي يترتب على كتابة هذه الوصية ونقلها من محل إلى محل أو من بلد إلى بلد، وتعيين جزاء الأعمال وتحديده من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله، وقد انقطع الوحي إلى البشر بوفاة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، فادعاء العلم بذلك باطل وقد ادعاه الشيخ أحمد المزعوم حيث قال في الوصية المكذوبة: (ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد ومن محل إلى محل بني له قصر في الجنة) وقال: (ومن يكتبها وكان فقيرا أغناه الله، أو كان مدينا قضى الله دينه، أو كان عليه ذنب غفر الله له ولوالديه) فهو كاذب في ذلك.
وكذا إخباره عن الوعيد الشديد الذي يصيب من لم يكتبها ويرسلها وتعيينه إياه بأنه يحرم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ويسود وجهه في الدنيا والآخرة، حيث قال فيها: (ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة) وقال: (ومن لم يكتبها من عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة) فهذا أيضا من الغيب الذي لا يعلم تحديده إلا الله، فإخباره به وقد انقطع الوحي إلى البشر رجم بالغيب وكذب وزور، وكذا قوله فيها: (ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار ومن يكذب بها كفر) فهذا أيضا زور وبهتان، فإن التكذيب بالرؤيا الصادرة من غير الأنبياء لا يعد كفرا بإجماع المسلمين.
رابعا: إن كل ما أخبر به من الوعد والوعيد على سبيل التعيين(38/109)
والتحديد يتضمن تشريعا بالحث على كتابة الوصية وإبلاغها ونشرها بين الناس للعمل بها واعتقاد ما فيها رجاء المثوبة التي حددها، ويتضمن تشريع تحريم كتمانها والتفريط في إبلاغها ونشرها والتحذير من ذلك خشية أن يحيق بمن كتمها أو فرط في نشرها ما أخبر به من الوعيد الشديد بحرمانه من الشفاعة واسوداد وجهه.
خامسا: عدم التناسب بين ما أخبر به الجزاء والأعمال، وهو دليل الوضع والكذب في الأخبار، إلى غير هذه الأمور من الأكاذيب فيجب أن يحذر المسلم هذه الوصية المزعومة ويعمل على القضاء عليها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/110)
فتوى رقم 3919
س: نحن دائما يأتينا رسائل من أماكن مجهولة ويقال فيها أشياء كثيرة مثل: إن الدنيا قد قربت انتهاؤها وعلينا بصدقة كذا وكذا، وهل تلك الصدقات فقط تنجينا من عذاب الآخرة أو يؤخر قيام الساعة؟ وفي هذه الأيام بالذات جاءتنا رسالة من جمهورية السنغال مكتوبة باللغة الفرنسية بدون ختم أو إشارة الجهة الصادرة، فيها إمام المدينة المنورة يقال له الشيخ أحمد بأنه رأى في المنام بعد قراءته القرآن الكريم صباح الجمعة في المسجد النبوي الشريف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: قد مات بين الجمعة الماضية وهذه 6000 ولم يدخل أحد منهم الجنة بسبب عدم إعطاء الأغنياء الزكاة(38/110)
والصدقات لمستحقيها، وعدم طاعة النساء لرجالهن، والأبناء لأولياء أمورهم، وكذلك لأن المسلمين لا يفكرون بالله، ولا يحجون، وقال له أيضا بأنه قد اقتربت الساعة وقفل باب الغفران وانتهاء الدنيا، ولذلك يجب علينا صيام أيام الاثنين مدة شهر وقراءة القرآن لأن القرآن أيضا سيرفع إلى السماء، وقال: علامة ذلك ظهور نجم مختلف كل الاختلاف بالنجوم الباقية. والشمس أيضا ستقف في كبد السماء دلالة على ذلك، وقال: من هذا البلاغ أن يبلغه إلى إخوانه وإذا بلغه سيرزقه الله من حيث لا يحتسب، وإذا كان مديونا قضى الله ديونه وسيكون يوم القيامة مع النبي في الجنة إذ كل من بلغ هذا البلاغ فلينم مسرورا أو يتمنى الموت إن كانوا صادقين، وهل الجنة تنال بدون جهد وكد أو كسب بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقالوا أيضا كل من سمع هذا البلاغ ولم يبلغ عاش فقيرا ومديونا، ومات مع المنافقين وأشبه من أهل النار، كنا نعتقد ونؤمن بالله، دخولنا الجنة وأرزاقنا في هذه الدنيا من فضل الله ورحمته تعالى ويعذبنا في الدنيا والآخرة بعدله، لا بجمالنا ومالنا وأولادنا، بل بالخوف الذي يجعلنا نطيع الله ونقرأ القرآن ونفهم الآيات البينات، بجعلنا نرجو رحمته في الدنيا والآخرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) صدق الله العظيم وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) صدق الله العظيم.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 200
(2) سورة المائدة الآية 3(38/111)
ومثل هذه الأشياء تجعل الذين يريدون الدخول في هذا الدين يتشككون زيادة على أعمالنا تجاههم بما ينافي الروح الإنسانية والإسلامية؛ لأن الآن نرى في البلدان الإسلامية المسلمين ولا نرى الإسلام، وفي بلدان غير الإسلام نرى الإسلام ولا نرى المسلمين.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: ليس للمدينة المنورة إمام يقال له الشيخ أحمد، وإنما فيها إمارة وجهاز حكومي إداري كامل يتولى شئون الإدارة، وللمسجد النبوي إمام الآن هو فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح ولا نعلم إماما للمسجد من سنين طويلة يقال له الشيخ أحمد، والقصة التي كتب لكم عنها ووزعت في نشرات قصة مكذوبة مصطنعة وقد كتب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مقالا واسعا بين فيه أنها مكذوبة مصطنعة وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/112)
صفحة فارغة(38/113)
صفحة فارغة(38/114)
صفحة فارغة(38/115)
صفحة فارغة(38/116)
صفحة فارغة(38/117)
صفحة فارغة(38/118)
فتوى رقم 4495
س: أفيد سماحتكم علما بأنني قد طالعت كتاب " القول الجلي في حكم التوسل بالنبي والولي " تأليف السلفي محمد بن أحمد بن محمد بن عبد السلام خضر، وقد قام بتصحيحه وإضافة بعض تعليقات عليه فضيلة الشيخ إسماعيل الأنصاري وقد طبع هذا الكتاب من نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية ففي صفحة " 12 " وكذا ما روى ابن أبي الدنيا بسنده عن ثابت عن أنس قال: " دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ثقيل فلم نبرح حتى قبض فبسطنا عليه ثوبه. . . قال: فكشفت الثوب عن وجهه فما برحنا حتى أكلنا معه ". أرجو رأيكم الكريم في هذه الواقعة، وهل يمكن إرجاع الأرواح بدعوة ولي من الأولياء كما أرجو أن تفصلوا هذه المسألة على ضوء الكتاب والسنة راجيا من المولى عز وجل أن يوفقنا وإياكم ويسدد خطانا وخطاكم ويجعل آخرتكم خيرا من الأولى؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ1: أولا: هذه القصة لا نعلم لها أصلا وعلى فرض صحتها فيمكن أن يقال إن القبض الذي حصل قبض حسب علمهم وأن روحه لم تقبض حقيقة وهذا قد يقع لمن أصيب بسكتة قلبية مثلا ولكن روحه لم تخرج فيحصل له سكون فترة ثم يزول هذا السكون ويعقبه حركة فيظن بعض الناس أن روحه ردت إليه بعد قبضها وهي لم تقبض حقيقة.
ثانيا: رد روح شخص معين إلى جسده بعد قبض الله لها ممكن بقدرة(38/119)
الله عز وجل لكن إثبات وقوعه يحتاج إلى دليل.
ثالثا: ورد في القرآن أدلة تدل على رد أرواح بعض المخلوقات لحكم أرادها الله تعالى ومن ذلك ما جاء في قصة قتيل بني إسرائيل، قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (1) {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} (2) الآية، ومن ذلك رد روح عزير وحماره بعد مائة سنة، قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) . ومن ذلك رده جل وعلا أرواح الطيور في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (4) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 72
(2) سورة البقرة الآية 73
(3) سورة البقرة الآية 259
(4) سورة البقرة الآية 260(38/120)
فتوى رقم 8856
س: ما معنى " مضلات الفتن "، وما معنى قول بعضهم: إن هذه الفتنة هي من الله إلى عبده؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: أولا: مضلات الفتن هي الفتن التي تصيب الناس فتنحرف بهم عن سواء السبيل وتصدهم عن الصراط المستقيم، كالشبه التي تضل الإنسان عن الحق وتنحرف به عن جادة الصواب وكدعاة السوء الذين يلبسون الحق بالباطل، ويموهون على ضعاف النفوس فيستهوونهم بما أوتوا من فصاحة وقوة بيان وكالمرض أو الفقر الذي يتبرم به المرء، ويضيق منه صدره، فيسخط على قضاء الله وقدره، وكالغنى الذي يغتر به كثير من الناس، ويحدثهم به الشيطان فيصطفيهم ويصدهم عن الصراط السوي، ونحو ذلك مما يفتن المسلم عن دينه ويصد الكافر عن الهداية.
ثانيا: الذي قد يكون في ظاهره فتنة ومحنه كالفقر والمرض وتسلط الخصوم، وهو في الحقيقة وواقع الأمر منحة ونعمة، فقد يكون سببا للتوبة إلى الله، والهداية والتوفيق، وتحول الإنسان إلى خير وسعة بعد ما كان ضيق الصدر متبرما بالحياة فتفضي به الشدة إلى سهولة، والبلاء إلى راحة وسعادة، فيجب على المسلم الصبر والرجوع إلى الله في كشف الضر عسى أن يجعل له من أمره يسرا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/121)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 5775
س: هل هذا الحديث صحيح " إنه سيأتي يوم ينتصر المسلمون على اليهود حتى الحجر الذي يختفي فيه يهودي يتكلم وينادي بأنه تحتي يهودي فاقتله ".
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم ثم يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله (1) » رواه البخاري، وعن ابن عمر أيضا رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله (2) » رواه أحمد والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ينزل الدجال في هذه السبخة بمر قناة فيكون أكثر من يخرج إليه النساء حتى إن الرجل ليرجع إلى حميمه وإلى أمه وابنته وأخته وعمته يوثقها رباطا مخافة أن تخرج إليه ثم يسلط الله المسلمين عليه فيقتلونه ويقتلون شيعته حتى إن اليهودي ليختبئ تحت شجرة أو حجر فيقول الحجر أو الشجرة للمسلم: هذا يهودي تحتي فاقتله (3) » رواه أحمد في مسنده وكذا رواه ابن ماجه عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن المسيح الدجال.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الإمام أحمد 2 \ 67 و122 و131 و149و398 و417 و530 و4 \ 217 والبخاري برقم 3593 وبألفاظ برقم 2925 و3593 ومسلم برقم 2921 و2922 والترمذي في الجامع برقم 2237.
(2) صحيح البخاري المناقب (3593) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2921) ، سنن الترمذي الفتن (2236) .
(3) الإمام أحمد 2 \ 67 وبألفاظ 3 \ 191 و4 \ 338 وابن ماجه برقم 4128.(38/122)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 6951
س: يأجوج ومأجوج اللذان ورد ذكرهما في القرآن هل وجدا على ظهر الأرض أو في عالم غير عالمنا وهل هما من جنس البشر أو لا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: هما من جنس البشر من أولاد آدم أبي البشر عليه السلام وعائشان على هذه الأرض في الجانب الأقصى منها شرقا، وقال الله تعالى عن ذي القرنين: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} (1) {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} (2) {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا} (3) {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} (4) {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} (5) {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} (6) {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} (7) {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} (8) {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} (9) {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} (10) {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} (11) فذو القرنين ومن مر بهم غربا وشرقا كلهم من البشر من ذرية آدم، وإن أردت التوسع فاقرأ قصة ذي القرنين - سورة الكهف - وتفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي وغيرها من كتب التفسير المعتمدة لتفهم القصة وتعرف منها جواب سؤالك عن معرفة واسعة.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «" يقول الله تعالى: (يا آدم فيقول: (لبيك
__________
(1) سورة الكهف الآية 89
(2) سورة الكهف الآية 90
(3) سورة الكهف الآية 91
(4) سورة الكهف الآية 92
(5) سورة الكهف الآية 93
(6) سورة الكهف الآية 94
(7) سورة الكهف الآية 95
(8) سورة الكهف الآية 96
(9) سورة الكهف الآية 97
(10) سورة الكهف الآية 98
(11) سورة الكهف الآية 99(38/123)
وسعديك والخير في يديك) قال: يقول: (أخرج بعث النار) فيقول: (وما بعث النار؟) قال: (من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين) فذاك حينئذ يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) فاشتد ذلك عليهم فقالوا يا رسول الله: أينا ذلك الرجل قال: " أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج ألفا، ومنكم رجل (1) » . . " الحديث. رواه البخاري ومسلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) يقول الله تعالى: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك. . . فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار. .) . أخرجه البخاري، رقم 3348، 4741، 6530، 7483، ومسلم رقم 222، وأحمد في المسند 3 \ 32 من حديث أبي سعيد الخدري. وأخرجه أحمد في المسند 1 \ 388 من حديث ابن مسعود وأخرجه 2 \ 166 من حديث ابن عمر. وأخرجه 4 \ 432، 435 من حديث عمران بن حصين.(38/124)
السؤال الثاني من الفتوى رقم 6667
س: ما هي الفتنة التي يقولها عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل المشرق يقول: «ألا إن الفتنة هاهنا ألا إن الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان (1) » ؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: المراد بالفتنة هنا الكفر، وجاء في رواية مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأس الكفر نحو المشرق (2) » قال: الإيجي قوله: " رأس الكفر " أي معظمه في المشرق. انتهى.
__________
(1) صحيح البخاري فرض الخمس (3104) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2905) ، سنن الترمذي المناقب (3953) ، مسند أحمد بن حنبل (2/118) ، موطأ مالك الجامع (1824) .
(2) مسلم رقم 2 وابن منده في الإيمان برقم 434 و 435 و 437.(38/124)
ونقل عن القاضي عياض ما نصه: قيل يعني بالمشرق فارس، لأنها حينئذ دار معظمة، ورد بقوله في بقية الحديث (أهل الوبر) وفارس ليسوا بأهل الوبر، وقيل: يعني نجد مسكن ربيعة ومضر وهي مشرق لقوله في حديث ابن عمر حين قال صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في يمننا وشامنا، قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله، قال: هنالك الزلازل والطاعون وبها يطلع قرن الشيطان (1) » وفي الآخر حين قال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر (2) » وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له، ولدعائه على مضر في غير موطن، ويقول حذيفة لا تدع مضر عبدا لله إلا فتنوه وقتلوه، وكذا قال لهم حذيفة حين دخلوا على عثمان وملأوا الحجرة والبيت: لا تبرح ظلمة مضر لكل عبد لله مؤمن فتفتنه فتقتله، وقيل: يعني ما وقع بالعراق في الصدر الأول من الفتنة الشديدة كيوم الجمل وصفين وحروراء وفتن بني أمية وخروج دعاة بني العباس وارتجاج الأرض فتنة وكل ذلك كان بشرق نجد والعراق، وجاء في حديث الخوارج " يخرج قوم من المشرق " والكفر على هذا كفر نعمة، وقيل: يعني الكفر حقيقة ورأسه الدجال لأنه يخرج من المشرق. انتهى.
وقال النووي في شرح مسلم على قوله صلى الله عليه وسلم: «حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر (3) » : وأما قرنا الشيطان فجانبا رأسه، وقيل هما جمعاه اللذان يغريهما بإضلال الناس، وقيل شيعتاه من الكفار والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر كما قال في الحديث الآخر: «رأس الكفر نحو المشرق (4) » وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم حين
__________
(1) البخاري برقم 1037 و 7094، والترمذي برقم 3948.
(2) البخاري برقم 1006 و 6393 ومسلم في الصحيح برقم 675 وأبو داود برقم 1442 والنسائي في المجتبى 2 \ 201.
(3) صحيح البخاري بدء الخلق (3302) ، صحيح مسلم الإيمان (51) ، مسند أحمد بن حنبل (4/118) .
(4) صحيح البخاري بدء الخلق (3301) ، صحيح مسلم الإيمان (52) ، سنن الترمذي الفتن (2243) ، مسند أحمد بن حنبل (2/506) ، موطأ مالك الجامع (1810) .(38/125)
قال ذلك ويكون حين يخرج الدجال من المشرق، وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة ومثار الكفرة الترك الغاشمة العاتية الشديدة البأس (1) . انتهى.
والظاهر أن الحديث يعم بجميع المشرق الأدنى والأقصى والأوسط ومن ذلك فتنة مسيلمة وفتنة المرتدين من ربيعة ومضر وغيرهما في الجزيرة العربية.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 2 \ 34.(38/126)
ما يفعل وقت الفتن
السؤال الأول من الفتوى رقم 7703
س: هل هذا الزمان هو المقصود من قول الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سأله صحابي: ماذا أفعل عندما تكثر الفتن والفرقة؟ فقال له ردا على سؤاله: «اعتزل الناس واجلس في بيتك (1) » ، وفي الصحيح في كتاب الفتن باب كيف الحال إذا لم يكن خليفة: - الحديث فيما ما معناه أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم عند نزول النوازل بالاعتزال وقال: «ولو أن تعض على أصل شجرة (2) » نرجو توضيح هذا الحديث وأقوال العلماء فيه؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: في الصحيحين وغيرهما واللفظ للبخاري عن أبي إدريس الخولاني
__________
(1) سنن ابن ماجه الفتن (3962) ، مسند أحمد بن حنبل (3/493) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3606) ، صحيح مسلم الإمارة (1847) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4244) ، سنن ابن ماجه الفتن (3979) ، مسند أحمد بن حنبل (5/387) .(38/126)
أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله: إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: " نعم وفيه دخن " قلت: وما دخنه؟ قال: " قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر " قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: " نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها " قلت: يا رسول الله: صفهم لنا، قال: " هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: " فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (1) » والزمن ليس خاصا بهذا الزمان وإنما هو عام في كل زمان ومكان من عهد الصحابة رضي الله عنهم زمن الفتنة والخروج على عثمان رضي الله عنه.
والمراد من اعتزال الناس زمن الفرقة ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح عن الطبري أنه قال: متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزابا فلا يتبع أحد في الفرقة ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك خشية من الوقوع في الشر، ومتى وجد جماعة مستقيمة على الحق لزمه الانضمام إليها وتكثير سوادها والتعاون معها على الحق لأنها والحال ما ذكر هي جماعة المسلمين بالنسبة إلى ذلك الرجل وذلك المكان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3606) ، صحيح مسلم الإمارة (1847) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4244) ، سنن ابن ماجه الفتن (3979) ، مسند أحمد بن حنبل (5/387) .(38/127)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/128)
السؤال الأول والثاني والرابع من الفتوى رقم 9818
س1: هل من فضائل هذه الأمة شهادتهم على الأمم يوم القيامة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
جـ: نعم.
س2: هل طلوع الشمس من مغربها وعندها لا تقبل توبة عاص ولا إيمان من كافر حيث يغلق باب التوبة؟
جـ: نعم.
س4: هل من علامات الساعة رفع الأمانة والإيمان من القلوب؟
جـ: نعم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(38/128)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
البعض يقصرون ثيابهم ولكنهم يجعلون السراويل طويلة فما الصواب في ذلك؟
س: بعض الناس يقومون بتقصير ثيابهم إلى ما فوق الكعب ولكن السراويل تبقى طويلة فما حكم ذلك؟
جـ: الإسبال حرام ومنكر سواء كان ذلك في القميص أو الإزار، أو السراويل، أو البشت وهو: ما تجاوز الكعبين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار (1) » . . ". رواه البخاري.
وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان فيما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (2) » ، خرجه مسلم في صحيحه وقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: «إياك والإسبال فإنه من المخيلة» ، وهذه الأحاديث تدل على أن الإسبال من كبائر الذنوب ولو زعم فاعله أنه لم يرد الخيلاء لعمومها وإطلاقها، أما من أراد الخيلاء بذلك فإثمه أكبر وذنبه أعظم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة (3) » ، ولأنه بذلك جمع بين الإسبال والكبر نسأل الله العافية من ذلك.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر لما قال له: «يا رسول الله إن إزاري يرتخي إلا أن أتعاهده فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إنك لست ممن يفعله خيلاء (4) » ، فهذا الحديث لا يدل على أن الإسبال جائز لمن لم يرد به الخيلاء، وإنما يدل على أن من ارتخى عليه إزاره أو سراويله من غير قصد الخيلاء فتعهد ذلك
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5330) ، مسند أحمد بن حنبل (2/498) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي الزكاة (2563) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/162) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3665) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) ، موطأ مالك الجامع (1696) .
(4) صحيح البخاري اللباس (5784) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، مسند أحمد بن حنبل (2/147) .(38/129)
وأصلحه فإنه لا إثم عليه.
وأما ما يفعله بعض الناس من إرخاء السراويل تحت الكعب فهذا لا يجوز، والسنة أن يكون القميص ونحوه ما بين نصف الساق إلى الكعب عملا بالأحاديث كلها. والله ولي التوفيق.(38/130)
وجوب التوبة والتحلل من مظلمة الناس
س: كنت جاهلا ولقد من الله علي بالإسلام وكنت قبل ذلك ارتكبت بعض المظالم والأخطاء وسمعت حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول: «من كانت عنده مظلمة لأخيه في عرض، أو في أي شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم (1) » . . " إلخ. كيف تنصحونني والحالة هذه؟
جـ: لقد شرع الله لعباده التوبة من جميع الذنوب قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (3) وقال جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (4) وقال صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (5) » ، فمن اقترف شيئا من المعاصي فعليه أن يبادر بالتوبة، والندم، والإقلاع، والحذر، والعزم الصادق ألا يعود من ذلك تعظيما لله سبحانه، وإخلاصا له، وحذرا من عذابه، والله يتوب على التائبين، فمن صدق في التوجه إلى الله عز وجل، وندم على ما مضى وعزم عزما صادقا أن لا يعود وأقلع منها تعظيما لله، وخوفا منه فإن الله يتوب عليه ويمحو عنه ما مضى من الذنوب فضلا منه وإحسانا سبحانه وتعالى، ولكن إذا كانت المعصية ظلما للعباد فهذا يحتاج إلى أداء
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2449) ، مسند أحمد بن حنبل (2/435) .
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة التحريم الآية 8
(4) سورة طه الآية 82
(5) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .(38/130)
الحق، فعليه التوبة مما وقع بالندم والإقلاع والعزم أن لا يعود، وعليه مع ذلك أداء الحق لمستحقيه أو بتحلله من ذلك، كأن يقول لصاحب الحق سامحني يا أخي، أو اعف عني، أو يعطيه حقه للحديث الذي أشرت إليه وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كانت عنده لأخيه مظلمة فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ من حسناته بقدر مظلمته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه (1) » رواه البخاري في صحيحه.
فالواجب على المؤمن أن يحرص على البراءة والسلامة من حق أخيه بأن يرده إليه، أو يتحلله منه، وإن كان عرضا فلا بد من تحلله منه أيضا إن استطاع، فإن لم يستطع أو خاف من مغبة ذلك كأن يترتب على إخباره شر أكثر فإنه يستغفر له، ويدعو له، ويذكره بالمحاسن التي يعرفها عنه بدلا مما ذكره عنه من السوء في المجالس التي اغتابه فيها ليغسل السيئات الأولى بالحسنات الآخرة ضد السيئات التي نشرها سابقا، ويستغفر له، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2449) ، مسند أحمد بن حنبل (2/435) .(38/131)
حكم مصافحة النساء من وراء حائل
س: الأخ الذي رمز لاسمه: رع - ق - 1 من المعهد العلمي بحوطة بني تميم بالمملكة العربية السعودية يسأل عن حكم مصافحة المرأة الأجنبية إذا كانت عجوزا، وكذلك يسأل عن الحكم إذا كانت تضع على يدها حاجزا من ثوب ونحوه.
جـ: لا تجوز مصافحة النساء غير المحارم مطلقا، سواء كن شابات أم عجائز، وسواء كان المصافح شابا أم شيخا كبيرا لما في ذلك من خطر الفتنة لكل منهما، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لا أصافح النساء (1) » ، وقالت عائشة رضي الله عنها: «ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد
__________
(1) سنن الترمذي السير (1597) ، سنن النسائي البيعة (4181) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2874) ، مسند أحمد بن حنبل (6/357) ، موطأ مالك الجامع (1842) .(38/131)
امرأة قط، ما كان يبايعهن إلا بالكلام (1) » ، ولا فرق بين كونها تصافحه بحائل أو بغير حائل لعموم الأدلة، ولسد الذرائع المفضية إلى الفتنة، والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4891) ، صحيح مسلم الإمارة (1866) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2941) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2875) ، مسند أحمد بن حنبل (6/270) .(38/132)
حكم التبول واقفا
س: هل يجوز أن يبول الإنسان واقفا علما أنه لا يأتي الجسم والثوب شيء من ذلك؟
جـ: لا حرج في البول قائما ولا سيما عند الحاجة إليه إذا كان المكان مستورا لا يرى فيه أحد عورة البائل، ولا يناله شيء من رشاش البول لما ثبت عن حذيفة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم: " أتى سباطة قوم فبال قائما (1) » ، متفق على صحته، ولكن الأفضل البول عن جلوس لأن هذا هو الغالب من النبي صلى الله عليه وسلم وأستر للعورة، وأبعد عن الإصابة بشيء من رشاش البول.
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (224) ، صحيح مسلم الطهارة (273) ، سنن الترمذي الطهارة (13) ، سنن النسائي الطهارة (18) ، سنن أبو داود الطهارة (23) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (305) ، مسند أحمد بن حنبل (5/402) ، سنن الدارمي الطهارة (668) .(38/132)
حكم الاجتماع في دعاء ختم القرآن الكريم
س: ما حكم الاجتماع في دعاء ختم القرآن العظيم؟ وذلك بأن يختم الإنسان القرآن الكريم ثم يدعو بقية أهله أو غيرهم إلى الدعاء معه جميعا، دعاء جماعيا لختم القرآن العظيم حتى ينالهم ثواب ختم القرآن الكريم الوارد عن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله، أو غيره من الأدعية المكتوبة في نهاية المصاحف المسماة بدعاء ختم القرآن العظيم، فهل يجوز الاجتماع على دعاء القرآن العظيم سواء كان ذلك في نهاية شهر رمضان المبارك أو غيره من المناسبات؟ فهل يعتبر هذا الاجتماع بدعة أم لا؟ وهل ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء مخصص لختم القرآن العظيم؟ نرجو توضيح ذلك مع ذكر الدليل.(38/132)
ج: لم يرد دليل على تعيين دعاء معين فيما نعلم ولذلك يجوز للإنسان أن يدعو بما شاء، ويتخير من الأدعية النافعة كطلب المغفرة من الذنوب، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، والاستعاذة من الفتن، وطلب التوفيق لفهم القرآن الكريم على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى والعمل به وحفظه ونحو ذلك، لأنه ثبت عن أنس رضي الله عنه: (أنه كان يجمع أهله عند ختم القرآن ويدعو) ، أما النبي صلى الله عليه وسلم: فلم يرد عنه شيء في ذلك فيما أعلم.
أما الدعاء المنسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فلا أعلم صحة هذه النسبة إليه، ولكنها مشهورة بين مشايخنا وغيرهم، لكني لم أقف على ذلك في شيء من كتبه، والله أعلم.(38/133)
طريقة حفظ القرآن
س: أرشدوني إلى الطريقة التي تعينني على حفظ كتاب الله؟
جـ: نوصيك بالعناية بالحفظ، والإقبال على ذلك، واختيار الأوقات المناسبة للحفظ كآخر الليل، أو بعد صلاة الفجر، أو في أثناء الليل، أو في بقية الأوقات التي تكون فيها مرتاح النفس حتى تستطيع الحفظ، ونوصيك باختيار الزميل الطيب الذي يساعدك ويعنيك على الحفظ والمذاكرة مع سؤال الله التوفيق، والإعانة، والتضرع إليه أن يعينك، وأن يوفقك وإن يعيذك من أسباب التعويق، ومن استعان بالله صادقا أعانه الله ويسر أمره.(38/133)
فضل حفظ القرآن
س: إنني كثيرا ما أحفظ آيات من القرآن الكريم ولكن بعد فترة أنساها، وكذلك عندما أقرأ آية لا أعلم هل قراءتي صحيحة أم لا؟ ثم(38/133)
أكتشف بعد ذلك أنني كنت مخطئا، دلوني لو تكرمتم.
جـ: المشروع لك يا أخي أن تجتهد في حفظ ما تيسر من كتاب الله، وأن تقرأ على بعض الإخوة الطيبين في المدارس، أو في المساجد، أو في البيت وتحرص على ذلك حتى يصححوا لك قراءتك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (1) » رواه البخاري رحمه الله في صحيحه، فخيار الناس هم أهل القرآن الذين تعلموه، وعلموه الناس، وعملوا به.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: «أيحب أحدكم أن يذهب إلى بطحان فيأتي بناقتين عظيمتين في غير إثم ولا قطيعة رحم "، فقالوا: يا رسول الله كلنا يحب ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: " لأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين عظيمتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل (2) » أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وهذا يبين لنا فضل تعلم القرآن الكريم، فأنت يا أخي عليك بتعلم القرآن على الإخوان المعروفين بإجادة قراءة القرآن حتى تستفيد وتقرأ قراءة صحيحة.
أما ما يعرض لك من النسيان فلا حرج عليك في ذلك، فكل إنسان ينسى كما قال عليه الصلاة والسلام: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون (3) » وسمع قارئا يقرأ فقال صلى الله عليه وسلم: «رحم الله فلانا لقد أذكرني آية كذا كنت قد أسقطتها (أنسيتها) (4) » ، والمقصود أن الإنسان قد ينسى بعض الآيات ثم يذكر أو يذكره غيره، والأفضل أن يقول: (نسيت) بضم النون وتشديد السين، أو أنسيت لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقولن أحدكم نسيت
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (803) ، سنن أبو داود الصلاة (1456) ، مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (401) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (572) ، سنن النسائي السهو (1244) ، سنن أبو داود الصلاة (1020) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/379) ، سنن الدارمي الصلاة (1498) .
(4) صحيح البخاري فضائل القرآن (5038) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (788) ، سنن أبو داود الصلاة (1331) ، مسند أحمد بن حنبل (6/62) .(38/134)
آية كذا بل هو نسي (1) » يعني: أنساه الشيطان. أما حديث: «من حفظ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم (2) » ، فهو حديث ضعيف عند أهل العلم لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والنسيان ليس باختيار الإنسان، وليس في طوقه السلامة منه، والمقصود أن المشروع لك حفظ ما تيسر من كتاب الله عز وجل وتعاهد ذلك وقراءته على من يجيد القراءة حتى يصحح لك أخطاءك. وفقك الله ويسر أمرك.
__________
(1) صحيح البخاري فضائل القرآن (5039) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (790) ، سنن الترمذي القراءات (2942) ، سنن النسائي الافتتاح (943) ، مسند أحمد بن حنبل (1/417) ، سنن الدارمي الرقاق (2745) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/328) .(38/135)
تسببت في قتل نفسها لكنها تابت قبل أن تموت
س: لي أخت متزوجة ولديها ثلاثة أطفال، وهي على خلاف دائم مع زوجها، وكانت أيضا على خلاف مع والدها، والسبب زوجها الذي كان يعاملها معاملة قاسية جدا مما اضطرها إلى ترك البيت، وذهبت إلى بيت أمها المطلقة والمتزوجة من إنسان آخر. وزوج أمها يعاملها هو الآخر معاملة سيئة.
فقلت أنا - أخوها - وأخذت لها شقة لتسكن فيها معي، وكانت كثيرا ما تذهب إلى أمها، ومرة أجبرها زوج أمها أن تذهب وترمي أولادها عند زوجها ففعلت ذلك إرضاء لأمها.
وفي أحد الأيام حصل خلاف بينها وبين زوج أمها وخرجت إلى شقتها متأثرة جدا بما مر بها من مصائب، وأبعد أولادها عنها، فقامت وأخذت حبوبا من الثلاجة وأكلتها جميعا تريد أن تقضي على حياتها، فأخذتها إلى المستشفى وأعطيت العلاج اللازم، وقبل وفاتها أحست أنها في أيامها الأخيرة فتابت، وأخذت تستغفر كثيرا عما فعلته، وكانت تطلب منا أن ندعو لها بالمغفرة.(38/135)
وأراد الله وتوفيت فماذا يكون حالها بعد ذلك؟ وهل يجوز لي أن أقوم بالصدقة والحج عنها؟ علما بأنني نذرت أن أقوم بهذه الأعمال طيلة حياتي إن شاء الله، أفيدوني جزاكم الله خيرا.
جـ: ما دامت أختك المذكورة قد تابت إلى الله سبحانه وتعالى وندمت على ما فعلته من أسباب الانتحار فإنه يرجى لها المغفرة، والتوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، كما صحت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا تصدقت عنها، أو استغفرت لها ودعوت لها يكون ذلك حسنا، وذلك ينفعها وتؤجر عليه أنت.
وما نذرته من الطاعات فعليك أن توفي به لأن الله سبحانه مدح الموفين بالنذور في قوله عز وجل في مدح الأبرار: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (1) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (2) » رواه الإمام البخاري في صحيحه.
__________
(1) سورة الإنسان الآية 7
(2) صحيح البخاري الأيمان والنذور (6696) ، كتاب الأيمان والنذور (6700) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1526) ، سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3806) ، الأيمان والنذور (3807) ، كتاب الأيمان والنذور (3808) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3289) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2126) ، مسند أحمد بن حنبل (6/224) ، باقي مسند الأنصار (6/36) ، كتاب باقي مسند الأنصار (6/41) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1031) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2338) .(38/136)
حكم السلام بالإشارة باليد.
س: ما حكم السلام بالإشارة باليد؟
جـ: لا يجوز السلام بالإشارة، وإنما السنة السلام بالكلام بدءا وردا.
أما السلام بالإشارة فلا يجوز لأنه تشبه ببعض الكفرة في ذلك، ولأنه خلاف ما شرعه الله، لكن لو أشار بيده إلى المسلم عليه ليفهمه السلام لبعده مع تكلمه بالسلام فلا حرج في ذلك، لأنه قد ورد ما يدل عليه، وهكذا لو كان المسلم عليه مشغولا بالصلاة فإنه يرد بالإشارة كما صحت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.(38/136)
حديث السبعة وهل هو خاص بالرجال؟
س: الأخ الذي رمز لاسمه ب - ع - ق - أمن المعهد العلمي في(38/136)
حوطة بني تميم بالمملكة العربية السعودية يقول في سؤاله: هل حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله خاص بالذكر؟ أم من عمل عمل هؤلاء من النساء يحصل على الأجر المذكور في الحديث؟
جـ: ليس هذا الفضل المذكور في هذا الحديث خاصا بالرجال بل يعم الرجال والنساء، فالشابة التي نشأت في عبادة الله داخلة في ذلك، وهكذا المتحابات في الله من النساء داخلات في ذلك، وهكذا كل امرأة دعاها ذو منصب وجمال إلى الفاحشة فقالت: إني أخاف الله داخلة في ذلك، وهكذا من تصدقت بصدقة من كسب طيب لا تعلم شمالها ما تنفق يمينها داخلة في ذلك، وهكذا من ذكر الله خاليا من النساء داخل في ذلك كالرجال، أما الإمامة فهي من خصائص الرجال، وهكذا صلاة الجماعة في المساجد تختص بالرجال، وصلاة المرأة في بيتها أفضل لها كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ولي التوفيق.(38/137)
حكم لبس المعاطف الجلدية
س: تعرضنا في الآونة الأخيرة إلى نقاش حاد في قضية لبس المعاطف الجلدية، ومن الإخوان من يرى أن هذه المعاطف تصنع - عادة - من جلود الخنازير، وإذا كانت كذلك فما رأيكم في لبسها؟ وهل يجوز لنا ذلك دينيا، علما أن بعض الكتب الدينية: كالحلال والحرام للقرضاوي، والدين على المذاهب الأربعة قد تطرقا إلى هذه القضية، إلا أن إشارتهما كانت عرضية إلى المشكلة، ولم يوضحا ذلك بجلاء.
جـ: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دبغ الجلد فقد طهر (1) » ، وقال: «دباغ جلد الميتة طهورها (2) » ، واختلف العلماء في ذلك هل يعم
__________
(1) صحيح مسلم الحيض (366) ، سنن الترمذي اللباس (1728) ، سنن النسائي الفرع والعتيرة (4241) ، سنن أبو داود اللباس (4123) ، سنن ابن ماجه اللباس (3609) ، مسند أحمد بن حنبل (1/270) ، موطأ مالك الصيد (1079) ، سنن الدارمي الأضاحي (1985) .
(2) سنن النسائي الفرع والعتيرة (4244) .(38/137)
هذا الحديث جميع الجلود؟ أم يختص بجلود الميتة التي تحل بالذكاة؟ ولا شك أن ما دبغ من جلود الميتة التي تحل بالذكاة كالإبل والبقر والغنم طهور يجوز استعماله في كل شيء في أصح أقوال أهل العلم، أما جلد الخنزير والكلب ونحوهما مما لا يحل بالذكاة ففي طهارته بالدباغ خلاف بين أهل العلم، والأحوط ترك استعماله عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (1) » ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .(38/138)
حكم مخالطة من لا يتمسكون بشعائر الإسلام
س: هذه رسالة وردتنا من السائل: س - أ - ع. من العراق محافظة أديالي، وهي رسالة طويلة قد ضمنها مشكلة يقع فيها كثير من الناس، يقول: أنا شاب مسلم أعبد الله وأريد أن أعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن المشكلة أنني أعيش في وسط قوم أكثرهم لا يصلون ولا يصومون ولا يتصدقون، ويعملون بالبدع ومحدثات الأمور، ويحلفون بغير الله، وبعض الناس يكفر بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم باللفظ، وأنا شاب أدرس في المرحلة المتوسطة وأكثر طلابها سيئو الأخلاق لا يفعلون أوامر الله، وتوجد معنا فتيات غير محجبات، والمدارس كذلك حتى أصبح فعل الشر سهلا، وارتكاب المحرم ميسورا، وأمور يطول شرحها لكن والدي لا يسمح لي أن أترك الدراسة، وأنا أرغب أن أترك هذه المدرسة، وأبتعد عن هذا الجو وأعمل في الزراعة، وأعبد الله بعيدا عن شر الناس لكن والدي لا يسمح لي بذلك، وأريد أن أسأل هل يجوز لي أن أترك المدرسة؟ وهل يجوز لي السفر من هذه البلاد إلى بلاد أخرى ولو لم يرض والدي؟ أفيدوني أفادكم الله.(38/138)
جـ: إذا كان الحال ما ذكره السائل فالواجب عليك ترك هذه المدرسة، والحذر من شرها، والبعد عنها وعن أهلها حفاظا على دينك، وحذرا على عقيدتك وأخلاقك من هؤلاء السيئين من طلبة وطالبات ومجتمع سيئ عليك أن تبذل وسعك في الانتقال إلى مدرسة سليمة، أو إلى بلدة سليمة، أو إلى مزرعة، أو إلى ما تكون فيه بعيدا عن الخطر على دينك وعلى أخلاقك، هذا هو الواجب عليك ولو لم يرض والدك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (1) » ولقوله صلى الله عليه وسلم أيضا: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (2) » . فالجلوس بين أهل الشر وأهل الشرك، وتاركي الصلوات وبين الفتيات المتبرجات والسافرات فيه خطر عظيم على العقيدة والأخلاق فلا يجوز للمسلم البقاء على هذه الحال، بل يجب عليه أن يحذر هذا المجتمع ويبتعد عنه إلى مجتمع أصلح وأسلم لدينه ولو بالسفر من بلد إلى بلد آخر كمكة والمدينة للدراسة في المسجد الحرام والمسجد النبوي لوجود مدرسين فيهما من أهل العلم والفضل والعقيدة السلفية، سواء رضي والداه أم لم يرضيا، لأن الطاعة لهما إنما تكون في المعروف لا في المعاصي كما تقدم والله المستعان.
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/131) .(38/139)
معاملة المسلم لغير المسلم
س: ما هو الواجب على المسلم تجاه غير المسلم سواء كان ذميا في بلاد المسلمين، أو كان في بلاده، أو المسلم يسكن في بلاد ذلك الشخص غير المسلم. والواجب الذي أريد توضيحه هو: المعاملات بكل أنواعها ابتداء من إلقاء السلام، وانتهاء بالاحتفال مع غير المسلم في أعياده، وهل يجوز اتخاذ صديق عمل فقط؟ أفيدونا أثابكم الله.
جـ: إن من المشروع للمسلم بالنسبة إلى غير المسلم أمورا متعددة(38/139)
منها: الدعوة إلى الله عز وجل بأن يدعوه إلى الله ويبين له حقيقة الإسلام حيث أمكنه ذلك، وحيث كانت لديه البصيرة لأن هذا هو أعظم الإحسان وأهم الإحسان الذي يهديه المسلم إلى مواطنه، وإلى من اجتمع به من اليهود أو النصارى أو غيرهم من المشركين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر وأمره أن يدعو إلى الإسلام: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (2) » متفق على صحته.
وقال عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (3) » رواه مسلم في صحيحه. فدعوته إلى الله وتبليغه الإسلام ونصيحته في ذلك من أهم المهمات ومن أفضل القربات.
ثانيا: لا يجوز أن يظلمه في نفس، ولا في مال، ولا في عرض إذا كان ذميا، أو مستأمنا، أو معاهدا فإنه يؤدي إليه الحق، فلا يظلمه في ماله لا بالسرقة، ولا بالخيانة، ولا بالغش، ولا يظلمه في بدنه لا بضرب ولا بغيره لأن كونه معاهدا، أو ذميا، في البلد، أو مستأمنا يعصمه.
ثالثا: لا مانع من معاملته في البيع والشراء والتأجير ونحو ذلك فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه اشترى من الكفار عباد الأوثان، واشترى من اليهود وهذه معاملة، وقد توفي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام اشتراه لأهله.
رابعا: في السلام لا يبدؤه بالسلام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام (4) » خرجه مسلم في صحيحه وقال: «إذا سلم
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(3) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(4) صحيح مسلم السلام (2167) ، سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2700) ، مسند أحمد بن حنبل (2/346) .(38/140)
عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (1) » ، فالمسلم لا يبدأ الكافر بالسلام ولكن يرد عليه بقوله: وعليكم؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم (2) » ، متفق على صحته، هذا من الحقوق المتعلقة بين المسلم والكافر، ومن ذلك أيضا حسن الجوار إذا كان جارا تحسن إليه ولا تؤذيه في جواره، وتتصدق عليه إذا كان فقيرا، تهدي إليه، تنصح له فيما ينفعه لأن هذا مما يسبب رغبته في الإسلام ودخوله فيه، ولأن الجار له حق قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه (3) » ، متفق على صحته، وإذا كان الجار كافرا كان له حق الجوار، وإذا كان قريبا وهو كافر صار له حق الجوار، وحق القرابة، ومن المشروع للمسلم أن يتصدق على جاره الكافر وغيره من الكفار غير المحاربين من غير الزكاة لقول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (4) وللحديث الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: «أن أمها وفدت عليها بالمدينة في صلح الحديبية وهي مشركة تريد المساعدة فاستأذنت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هل تصلها؟ فقال: صليها (5) » . اهـ.
أما الزكاة فلا مانع من دفعها للمؤلفة قلوبهم من الكفار لقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} (6) الآية. أما مشاركة الكفار في احتفالاتهم بأعيادهم فليس للمسلم أن يشاركهم في ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6258) ، صحيح مسلم السلام (2163) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3301) ، سنن أبو داود الأدب (5207) ، سنن ابن ماجه الأدب (3697) ، مسند أحمد بن حنبل (3/218) .
(2) صحيح البخاري الاستئذان (6258) ، صحيح مسلم السلام (2163) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3301) ، سنن أبو داود الأدب (5207) ، سنن ابن ماجه الأدب (3697) ، مسند أحمد بن حنبل (3/218) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6015) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (2/85) .
(4) سورة الممتحنة الآية 8
(5) صحيح البخاري الهبة وفضلها والتحريض عليها (2620) ، صحيح مسلم الزكاة (1003) ، سنن أبو داود الزكاة (1668) ، مسند أحمد بن حنبل (6/355) .
(6) سورة التوبة الآية 60(38/141)
شكر المحسن على إحسانه
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ موسى توري مدير مدرسة التهذيب بساحل العاج، زاده الله من العلم والإيمان. . آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فقد وصلني كتابك الكريم المؤرخ 4 \ 8 \ 1394هـ وصلك الله بهداه، وما تضمنه من الأسئلة كان معلوما، وهذا نصها وجوابها:
1 - أيجوز أن يقال للمحسن شكرا أو بارك. . . إلى آخره؟
جـ: لا حرج أن يقول الإنسان لأخيه إذا أحسن إليه شكرا لك، أو شكر الله عملك، أو أنت مشكور، أو ما يشابه هذه الألفاظ لقول الله سبحانه: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (1) فأمر الله سبحانه الولد أن يشكر ربه ويشكر والديه فدل ذلك على مشروعية شكر الله سبحانه، وشكر المحسن من الناس، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يشكر الناس لم يشكر الله (2) » ، وفي لفظ: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس (3) » ، وصح عنه عليه السلام أنه قال: «من صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه (4) » . أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد جيد، وشكر المحسن من جنس الدعاء.
أما قولك: (أو بارك) فلم يتضح لي مرادك منها، فإن كان المراد الدعاء له بالبركة فلا بأس، أما إن كان المراد معنى آخر فأرجو الإفادة عنه حتى
__________
(1) سورة لقمان الآية 14
(2) سنن الترمذي البر والصلة (1955) ، مسند أحمد بن حنبل (3/32) .
(3) سنن أبو داود الأدب (4811) ، مسند أحمد بن حنبل (2/303) .
(4) سنن النسائي الزكاة (2567) ، سنن أبو داود الأدب (5109) ، مسند أحمد بن حنبل (2/68) .(38/142)
نجيبك على ذلك.
2 - من عادتنا إذا انتهينا من الأكل نقول - بعد أن حمدنا الله - لآبائنا وأمهاتنا وكبرائنا: بارك أو شكرا لك يا فلان، نتداوله بيننا. أيجوز ذلك إلى آخره؟
جـ: الجواب عن هذا السؤال يتضح من جواب الذي قبله، وهو أنه لا حرج في شكر المحسن والدعاء له بالبركة بل ذلك مشروع لما تقدم من الأدلة، وفي صحيح مسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم: زار بعض أصحابه فأكل عندهم طعاما فلما أراد الخروج قالت زوجة صاحب البيت: يا رسول الله ادع لنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " اللهم بارك لهم فيما رزقتهم واغفر لهم وارحمهم (1) » . والله يحفظكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (2042) ، سنن الترمذي الدعوات (3576) ، سنن أبو داود الأشربة (3729) ، مسند أحمد بن حنبل (4/190) ، سنن الدارمي الأطعمة (2022) .(38/143)
نلعب الورق (البلوت) والفائز منا يحصل على مائتي ريال فهل هذا حرام؟
س: كثيرا ما نلعب مع بعض ذوي الأموال الكثيرة الورق (البلوت) والفائز منا يعطيه هؤلاء 200 ريال فهل هذا حرام ومن القمار؟
جـ: هذه اللعبة على الوجه المذكور حرام ومن القمار، والقمار هو الميسر المذكور في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) .
فالواجب على كل مسلم أن يتقي الله، ويحذر هذه اللعبة وغيرها من أنواع القمار ليفوز بالفلاح وحسن العاقبة والسلامة مما يترتب على هذه
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91(38/143)
اللعبة من الشرور الكثيرة المذكورة في الآيتين.(38/144)
حكم استعمال الطبول والأناشيد في المناسبات
س: إننا في بعض المناسبات وغيرها نستعمل الطبول مع الأناشيد ونمضي بعض الليالي بذلك، ولكن أنكر علينا مرة أحد الناس، هل عملنا هذا منكر، أعني: استعمالنا للطبول والأناشيد، علما أن الأناشيد التي نرددها ليست من الكلام الفاحش، أفتوني جزاكم الله خيرا.
جـ: لا نعلم شيئا يبيح استعمال الطبول بل ظاهر الأحاديث الصحيحة يدل على تحريم استعمالها كسائر آلات الملاهي من العود والكمان وغيرهما، ومن ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف (1) » ، ولفظ المعازف يشمل الأغاني وجميع آلات اللهو.
__________
(1) سنن أبو داود اللباس (4039) .(38/144)
معنى (وهب المسيئين منا للمحسنين)
س: الأخت التي رمزت لاسمها بـ: ف - س - ص. من عنيزة في المملكة العربية السعودية تقول في سؤالها: ما معنى هذا الدعاء: (وهب المسيئين منا للمحسنين) ؟
جـ: معناه الطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعفو عن المسيئين من المسلمين بأسباب المحسنين منهم، ولا حرج في ذلك لأن صحبة الأخيار ومجالستهم من أسباب العفو عن المسيء المسلم، فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل الجليس الصالح كحامل المسك، إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ومثل جليس السوء كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحا خبيثة (1) » ، ولكن لا يجوز للمسلم أن يعتمد على مثل هذه
__________
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5534) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2628) .(38/144)
الأمور لتكفير سيئاته، بل يجب عليه أن يلزم التوبة دائما من سائر الذنوب، وأن يحاسب نفسه ويجاهدها في الله حتى يؤدي ما أوجب الله عليه، ويحذر ما حرم الله عليه، ويرجو مع ذلك من الله سبحانه العفو والغفران، وأن لا يكله إلى نفسه ولا إلى عمله، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سددوا وقاربوا وأبشروا، واعلموا أنه لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله، قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل (1) » ، وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6463) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2816) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5034) ، سنن ابن ماجه الزهد (4201) ، مسند أحمد بن حنبل (2/514) .(38/145)
رجل مسلم أسعف رجلا غير مسلم هل يصبح أخا له؟
س: رجل مسلم أسعف رجلا غير مسلم هل يصبح أخا له؟
جـ: إسعاف المسلم لغيره من المسلمين والكفار غير الحربيين لا يكون أخا له ولا محرما له إن كان المسعف امرأة، ولكنه يؤجر على ذلك لما فيه من الإحسان، ولو كان المسعف كافرا لقول الله عز وجل: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (1) وقوله عز وجل:. . . {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (3) » ، وقوله: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته (4) » ، وهذان الحديثان في حق المسلم، وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تصل أمها وكانت كافرة وذلك في وقت الهدنة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة، أما الكفار الحربيون فلا تجوز مساعدتهم بشيء، بل مساعدتهم على المسلمين
__________
(1) سورة البقرة الآية 195
(2) سورة الممتحنة الآية 8
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن أبو داود الأدب (4946) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .
(4) صحيح البخاري المظالم والغصب (2442) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2580) ، سنن الترمذي الحدود (1426) ، سنن أبو داود الأدب (4893) .(38/145)
من نواقض الإسلام لقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (1) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 51(38/146)
ما حكم الاستماع إلى الراديو ونحوه؟
س: ما حكم الاستماع إلى الراديو ونحوه، إذا كان ما تسمعه أو تشاهده ليس فيه أمر محرم؟
جـ: لا حرج في سماع ما يذاع من الراديو من القرآن، أو الأحاديث المفيدة، أو الأخبار المهمة، وهكذا لا حرج فيما يسجل من القرآن الكريم، أو الأحاديث المفيدة والنصائح ونحو ذلك.
وأنصح بالعناية بسماع إذاعة القرآن، وبرنامج نور على الدرب لما في ذلك من الفوائد العظيمة.(38/146)
احكم استماع بعض البرامج المفيدة التي تتخللها الموسيقى؟
س: ما حكم استماع بعض البرامج المفيدة كأقوال الصحف ونحوها التي تتخللها الموسيقى؟
جـ: لا حرج في استماعها والاستفادة منها مع قفل المذياع عند بدء الموسيقى حتى تنتهي لأن الموسيقى من جملة آلات اللهو، يسر الله تركها والعافية من شرها.(38/146)
الرد العادل على الجهمي الجاهل
من رسائل العلامة المجدد الثاني شيخ الإسلام عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب 1193 - 1285هـ.
تحقيق الفقير إلى عفو ربه \ عبد العزيز بن عبد الله الزير آل حمد.
المقدمة: -
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(38/147)
أما بعد: -
فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - «افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة (1) » وفي لفظ، «والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل يا رسول الله من هم؟ قال: هم الجماعة (2) » .
فوقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فافترقت هذه الأمة واختلفت وتنازعت فيما بينها فخرج أهل البدع من جهمية ومعطلة، فتركوا العمل بالكتاب والسنة في باب الأسماء والصفات، واتبعوا أهواءهم وما تميل إليه عقولهم وما توحيه إليه شياطينهم قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (3) .
__________
(1) أخرجه أبو داود كتاب السنة حديث (4596) ، والترمذي كتاب الإيمان حديث (2642) وقال: (حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح) ، وأحمد في المسند (2 \ 332) ، وابن حبان في الإحسان حديث (6214) ، الحاكم (1 \ 128) وقال: (صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه ابن ماجه كتاب الفتن حديث (3992) ، وابن أبي عاصم (1 \ 32) والحديث قد صححه الألباني انظر: الصحيحة، حديث (1492) .
(3) سورة القصص الآية 50(38/148)
واقتضت رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن تكون بها طائفة منصورة تدعى بطائفة أهل السنة والجماعة، سائرين على ما سار عليه سلف الأمة من الاعتصام بالكتاب والسنة. وهذا مصداق لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك (1) » .
فأهل السنة والجماعة هيأهم الله عز وجل ليقفوا في وجوه أولئك المبتدعة الزائغين المنحرفين عن صراطه وعن نهج نبيه صلى الله عليه وسلم وليبينوا للناس أن الفيصل فيما يقع بينهم من اختلاف إنما هو الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، متبعين في ذلك قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (2) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والمحدثات فإن كل محدثة بدعة (3) » .
__________
(1) أخرجه مسلم كتاب الإمارة حديث (1920) .
(2) سورة النساء الآية 59
(3) أخرجه أحمد في المسند (4 \ 126، 127) ، وأبو داود في كتاب السنة حديث (6407) ، والترمذي في أبواب العلم حديث (2676) وقال: (حديث حسن صحيح) . والحديث قد صححه جماعة من أهل العلم منهم الضياء والحصروي والبزار والبغوي والحاكم وقال: صحيح ليس له علة ووافقه الذهبي.(38/149)
ومن هذا المنطلق أدرك سلف الأمة عظم الأمانة التي حملهم الله إياها لتبليغ العلم من ناحية وخطر البدعة على السنة من ناحية. فألفوا الكتب وجمعوا المصنفات ليذبوا عن هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، حتى إن بعضهم اعتبر الرد على أهل البدع أفضل من الجهاد، فيقول يحيى بن يحيى التيمي: (الذب عن السنة أفضل من الجهاد) (1) . . اهـ.
واعتبر البعض الآخر أن الرد على أهل البدع هو من الجهاد فيقول شيخ الإسلام ابن تيمية (الراد على أهل البدع مجاهد) (2) . اهـ.
ولقد كان لأئمة الدعوة السلفية في الجزيرة العربية دور بارز ومجال واسع في الرد على أهل البدع وكشف شبهاتهم وضلالاتهم للناس ونشر العقيدة السلفية في أوساطهم.
وممن كان له دور بارز في هذا المجال العلامة العالم الرباني الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله. فلقد وفقني الله عز وجل بمنه وكرمه أن أقف على نسخة خطية من إحدى رسائل الشيخ للرد على أحد هؤلاء المبتدعة الضلال، فقمت بتحقيقها حسب الوسع والطاقة. فما كان في عملي هذا من توفيق وسداد فهو من الله وحده، وما كان فيه من خطأ فهو من نفسي والشيطان.
وفي الختام أشكر الله عز وجل المان بكل خير، ثم أشكر كل من ساعدني ووجهني لإخراج تلك الرسالة وأخص منهم فضيلة الشيخ إسماعيل بن عتيق الذي تفضل مشكورا بإعارتي هذه
__________
(1) مجموع الفتاوى (ج4 \ 13) .
(2) مجموع الفتاوى (ج4 \ 13) .(38/150)
المخطوطة لتحقيقها.
وأشكر كذلك الأخ الشيخ عبد السلام البرجس آل عبد الكريم الذي أمدني بما لديه من معلومات عن هذه الرسالة.
أسأل الله العلي القدير أن يجعلنا بكتابه عاملين وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم متمسكين وللأئمة الخلفاء الراشدين المهديين متبعين ولآثار سلفنا وعلمائنا مقتفين. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه راجيا عفو ربه: -
عبد العزيز بن عبد الله الزير آل حمد
الرياض 27 \ 1 \ 1413 هـ.
كلية أصول الدين.(38/151)
ترجمة موجزة للشيخ عبد الرحمن - رحمه الله -
اسمه ومولده: -
هو العلامة الشهير صاحب التاريخ الحافل بالجهاد والكفاح والإمام الرباني والمجدد الثاني الشيخ عبد الرحمن بن حسن حفيد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ولد سنة 1193 هـ في بلدة الدرعية.
نشأته: -
لما قتل والد الشيخ عبد الرحمن في إحدى الوقائع تربى في أحضان جده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وذلك في بلدة الدرعية موطن الدعوة ومهد علمائها، فكان هذا له الأثر الكبير في إقباله على العلم فحفظ القرآن الكريم وهو في التاسعة من عمره وقرأ على جده عدة كتب ككتاب التوحيد مثلا، ولازم دروس العلم فترة طويلة حتى جعله الله - عز وجل - من الذين أراد بهم خيرا ففقههم في الدين.
شيوخه: -
منهم جده شيخ الإسلام، والشيخ حمد بن ناصر بن معمر، والشيخ عبد الله بن فاضل، والشيخ عبد الله بن الإمام محمد، والشيخ عبد الرحمن بن خميس وغيرهم.(38/152)
تلاميذه: -
ابنه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ حسن بن حسين آل الشيخ، والشيخ حمد بن عتيق، والشيخ عبد الرحمن بن مانع، والشيخ محمد بن عبد الله بن سليم وغيرهم.
مؤلفاته: -
1 - فتح المجيد.
2 - قرة عيون الموحدين.
3 - الرد على داود بن جرجيس.
4 - مجموعة كبيرة وكثيرة من الرسائل والفتاوى.
وفاته: -
توفي - رحمه الله - عشية يوم السبت في اليوم الحادي عشر من ذي القعدة سنة 1285 هـ ودفن في مقبرة العود بالرياض.
التعريف بالمخطوطة: -
هي نسخة واحدة فريدة حصلت عليها من لدن فضيلة الشيخ إسماعيل بن سعد بن عتيق - حفظه الله -.
وعدد صفحاتها إحدى عشرة صفحة.
وعدد الأسطر في كل صفحة: ما بين 15 - 17 سطرا.
وعدد الكلمات في كل سطر: ما بين 9 إلى 10 كلمات.
وتاريخ نسخها سنة 1274هـ.
وأما ناسخها فهو: شارع بن محمد بن عبد الرحمن السلولي.
طبعاتها: -
طبعت هذه الرسالة ضمن كتاب " مجموعة التوحيد" في(38/153)
الهند، وتسمى بـ (الطبعة الهندية أو الحجرية) ، وتعتبر هذه الطبعة في عداد المخطوطات لندرتها ثم أعيدت طباعة هذا الكتاب "مجموعة التوحيد" والحاوية لهذه الرسالة سنة 1346هـ، وذلك بالمطبعة المنيرية بمصر.
ثم طبعت مرة أخرى ضمن كتاب (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) للشيخ عبد الرحمن بن قاسم.
وهذه الطبعة أيضا قد خلت من التحقيق والتوثيق.
ولقد قمت بمقابلة بين النسخة الخطية الأصل وبين طباعتها.
فرمزت إلى طبعة (مجموعة التوحيد) التي طبعت بالهند بحرف (ح) ، والتي طبعت بمصر بحرف (م) .
ورمزت إلى طبعة (الدرر السنية) بحرف (د) .
التعريف بالرسالة: -
1 - موضوعها: -
هذه الرسالة تبحث في بعض المسائل الاعتقادية، ولقد ركز المؤلف - رحمه الله - في هذه الرسالة على خمس مسائل سئل عنها
المسألة الأولى: - في الاسم واشتقاقه.
المسألة الثانية: - في الفرق بين القضاء والقدر والمعاني التي تطلق على القضاء في القرآن.
المسألة الثالثة: - الرد على من زعم أن الأدلة الدالة على استواء الله على عرشه لا تمنع أن يكون مستويا على غيره.
المسألة الرابعة: - في علو الله وإثبات صفاته.(38/154)
المسألة الخامسة: - في المعية وأنه لا تنافي بينهما وبين آياته الدالة على استوائه على عرشه.
2 - سبب تأليفه لهذه الرسالة: -
لقد كان الداعي لتأليف هذه الرسالة الموجزة هو ما ذكره المؤلف - رحمه الله - في مقدمة هذه الرسالة حيث قال: " فقد وردت علينا أسئلة من عمان صدرت من جهمي جاهل يستعجز بها بعض المسلمين فينبغي أن نجيب عنها بما يفيد طالب العلم. . ".
3 - توثيق نسبة الرسالة إلى المؤلف: -
تتأكد لنا نسبة هذه الرسالة إلى المؤلف بعدة أمور هي: -
أ - ما وجدت على طرة المخطوطة من نسبة هذه الرسالة إلى الشيخ عبد الرحمن حيث قال ناسخها:
" قال شيخنا عبد الرحمن بن حسن سلمه الله تعالى آمين مجيبا عن أسئلة صدرت من جهمي جاهل من أهل دبي فأفاد سلمه الله تعالى وهداه وحفظه وتولاه وأسعده ولا أشقاه آمين آمين. . ".
ب - أن الشيخ عبد الرحمن بن قاسم - رحمه الله - قد ذكر تلك الرسالة في (الدرر السنية) ووضعها من ضمن مؤلفات الشيخ عبد الرحمن بن حسن وفتاواه.
ج - أن جامع كتاب (مجموعة التوحيد) قد ذكرها أيضا من ضمن مؤلفات الشيخ وفتاواه. وتلك المجموعة معروفة(38/155)
لدى علماء الدعوة، فلم ينكروا الرسالة بل أقروها.
فمن هذه الأمور يتبين صحة نسبة هذه الرسالة إلى الشيخ رحمه الله.
4 - عنوان الرسالة: -
لم أجد عنوانا معينا لهذه الرسالة يمكن أن تعرف وتتميز به ولكني وجدت في فهرس الطبعتين اللتين قد طبعتا هذه الرسالة الإشارة إليها بـ (جواب الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن أسئلة صدرت من جهمي من أهل عمان) . أو نحو من هذا، وبما أنه لم يرد لها عنوان يميزها فقد سميتها بـ (الرد العادل على الجهمي الجاهل) .
منهجي في التحقيق: -
1 - اتخذت من النسخة الخطية أصلا في تحقيق هذه الرسالة فقمت بقراءتها قراءة فاحصة.
وبعد نسخها قابلتها بالمطبوعتين وهما (مجموعة التوحيد) بطبعتيها و (الدرر السنية) .
2 - وقد اتبعت جميع ما في النسخة الخطية (الأصل) إلا ما رأيته حريا بالتصحيح، فإن كانت الكلمة في (الأصل) المخطوطة ثابتة إلا أنها مصحفة أو أخطأ الناسخ في كتابتها قمت بتصحيحها.
وأما في حالة إكمال نقص وقع في الأصل فإني أضعه بين(38/156)
معقوفتين هكذا [] تنبيها إلى أنه من إضافتي وأنبه على هذه في الهامش.
3 - إني قد غيرت ما اصطلح عليه كاتب النسخة في رسم بعض الألفاظ. فلم أتابعه على ذلك بل أعدت كتابة النص بما هو متعارف عليه في عصرنا من الإملاء مثل: (ملايكة = ملائكة) (جبرائيل = جبريل) .
4 - عزوت الآيات إلى سورها.
5 - خرجت الأحاديث الواردة في الرسالة والحكم عليها من خلال كلام الأئمة والحفاظ. وذلك حسب الوسع والطاقة.
6 - خرجت ما كان في الرسالة من آثار.
7 - عرفت ببعض الأعلام الواردين فيها، وكذلك الفرق.
8 - عرفت بالرسالة والنسخة المخطوطة.
9 - الإشارة إلى بدء أوراق المخطوطة ليسهل الرجوع إليها.(38/157)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد النبي الصادق الأمين وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
أما بعد: -
فقد وردت علينا أسئلة من عمان (1) صدرت من جهمي جاهل (2) يستعجز بها بعض المسلمين، فينبغي أن نجيب عنها بما يفيد طالب العلم وأما [ما] (3) لا فائدة (4) فيه لا يحتاج إلى الاشتغال بالجواب عنه. فمما ينبغي أن نجيب عنه.
قوله: إن الاسم مشتق من السمو أو من السمة، واشتقاق الاسم من هذين ذكره العلماء (5) في كتبهم لكن يتعين أن نسأله عن كيفية هذا الاشتقاق (6) الذي يذكره العلماء فيطلب (7) منه الجواب عن هذين الأمرين، وإن كانا مذكورين في كتب النحاة وغيرهم، وقد ذكره في فتح المجيد لشرح (8) كتاب التوحيد.
__________
(1) في ديباجة الرسالة ذكر أنه (من أهل دبي) .
(2) في المطبوعة، (م) ، (د) (ضال) .
(3) ما بين المعقوفتين ساقطة من الأصل المخطوط والسياق يقتضي إثباتها.
(4) في المطبوعة م، د (وما لا فائدة) وهي أصح فتحذف الإضافة.
(5) في المطبوعة (د) زيادة لفظ (رحمهم الله تعالى) .
(6) في المطبوعة (ح) زيادة: '' وما معنى الاشتقاق ''.
(7) في المطبوعة (م، د) (فتطلب) .
(8) في المطبوعة (د) (شرح) .(38/158)
وأما سؤاله عن الفرق بين القضاء والقدر.
فالقدر أصل من أصول الإيمان كما في سؤال جبريل (1) وما أجابه به (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله قال: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره (3) » . وفي الحديث الصحيح «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة (4) » أي جرى بما يكون مما يعلم الله تعالى، فإنه تعالى يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (5) وأما القضاء فيطلق في القرآن ويراد به إيجاد المقدر كقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (6) وقوله:
__________
(1) في المطبوعة (د) بزيادة، لفظ (عليه السلام) .
(2) سقطت من المطبوعة (ح) : '' به ''.
(3) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في الإيمان باب بيان الإيمان والإسلام (1 \ 36) حديث (8) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وبنحوه البخاري في الإيمان باب سؤال جبريل أن النبي صلى الله عليه وسلم (1 \ 33) حديث (50) ومسلم في المصدر السابق (1 \ 39 حديث 9) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) أخرجه أبو داود في السنة باب القدر (5 \ 76ح \ 4700) ، والترمذي في القدر (حديث 2155) وقال: (حديث غريب من هذا الوجه) وأيضا في التفسير حديث (3319) وقال حديث حسن غريب. والبيهقي في الكبرى باب ما ترد به شهادة أهل الأهواء (10 \ 204) والآجري في الشريعة صفحة 177 وابن جرير في التفسير (29 \ 16) من حديث عبادة بن الصامت. والحديث قد سكت عنه أبو داود. وصححه العلامة محدث العصر الشيخ ناصر الدين الألباني انظر صحيح الجامع حديث (2018) .
(5) سورة سبأ الآية 3
(6) سورة فصلت الآية 12(38/159)
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} (1) (2) ويطلق ويراد به (3) الإخبار بما سيقع مما قدر كقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} (4) .
أخبرهم في كتابهم أنهم يفسدون في الأرض مرتين. ويطلق ويراد به الأمر والوصية كما قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (5) أي أمر ووصى ويطلق ويراد به الحكم كقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} (6) ويطلق ويراد به القدر ونحو ذلك.
وأما ما زعمه (7) من أن الأدلة الدالة على استواء الله، على عرشه لا تمنع أن يكون مستويا على غيره فالجواب أن نقول: -
قد أجمع أهل السنة والجماعة قديما وحديثا على أنه لا يجوز أن يوصف الله (8) بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن وصفه بغير ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو جهمي ضال مضل يقول على الله بلا علم.
__________
(1) سورة سبأ الآية 14
(2) في المطبوعة (م) . زيادة كلمة الآية.
(3) في المطبوعة (ح) : '' بها ''.
(4) سورة الإسراء الآية 4
(5) سورة الإسراء الآية 23
(6) سورة الزمر الآية 75
(7) في الأصل: (وأما زعمه) ، والمثبت من (د) ، (ح) وفي المطبوعة (م) (وأما ما تزعمه) .
(8) في المطبوعة (ح) : '' بما لا يصف ''.(38/160)
وقد ذكر سبحانه استواءه على عرشه في سبعة مواضع من كتابه في سورة الأعراف (1) ، وفي سورة يونس (2) ، وفي سورة الرعد (3) ، وفي سورة طه (4) ، وفي سورة الفرقان (5) ، وفي سورة السجدة (6) ، وفي سورة الحديد (7) ، ولم يذكر تعالى أنه استوى على غير العرش، ولا ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم فعلم أنه ليس من صفاته التي يجوز أن يوصف بها، فمن أدخل في صفات الله ما لم يذكر في كتاب الله وسنة (8) رسوله فهو جهمي يقول على الله ما لا يعلم.
(وقد دلت الآيات على علوه على جميع المخلوقات التي أعلاها وأعظمها عرشه) (9) قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (10) ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (11) ، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (12)
__________
(1) قوله تعالى: '' ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار '' الآية رقم (54) .
(2) قوله تعالى: '' ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه '' الآية رقم (3) .
(3) قوله تعالى: '' ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر '' الآية رقم (2) .
(4) قوله تعالى: '' الرحمن على العرش استوى '' الآية رقم (5) .
(5) قوله تعالى: '' ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا '' الآية رقم (59) .
(6) قوله تعالى: '' ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع '' الآية رقم (4) .
(7) قوله تعالى: '' ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها '' الآية رقم (4) .
(8) في المطبوعة (م) و (د) (ولا سنة) .
(9) ما بين القوسين ليست في المطبوعة (م) و (د) .
(10) سورة المعارج الآية 4
(11) سورة فاطر الآية 10
(12) سورة النحل الآية 50(38/161)
{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (1) ، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (2) ، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (3) ، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (4) ، علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، لا يجوز أن يوصف إلا بذلك كله [لـ] كماله (5) تعالى في أوصافه، فله الكمال المطلق في كل صفة وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} (6) فذكر العرش عند هذه الصفة من أدلة فوقيته تعالى كما هو صريح فيما تقدم من الآيات.
وكقوله تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} (7) الآية، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في معنى قول الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} (8) الآية، «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء (9) » .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 55
(2) سورة النساء الآية 158
(3) سورة البقرة الآية 255
(4) سورة سبأ الآية 23
(5) ما بين المعقوفتين ساقطة من الأصل والسياق يقتضي إثباتها.
(6) سورة غافر الآية 15
(7) سورة الشورى الآية 5
(8) سورة الحديد الآية 3
(9) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء باب ما يقول عند النوم حديث (2713) ، وأبو داود في الأدب باب ما يقول عند النوم حديث (5051) ، والترمذي في الدعوات باب ما جاء في الدعاء. . حديث (3400) وقال: (حديث حسن صحيح) ، وابن ماجه في الدعاء باب ما يدعو به إذا أوى إلى فراشه حديث (3873) ، وأحمد في المسند (2 \ 381، 404) من حديث أبي هريرة.(38/162)
فقوله: «فليس فوقك شيء (1) » نص في أنه تعالى فوق جميع المخلوقات، وهو الذي ورد عن الصحابة والتابعين من المقررين وغيرهم في معنى قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2) أن معنى استوى استقر وارتفع وعلا (3) بمعنى واحد، لا ينكر هذا إلا جهمي زنديق يحكم على الله وعلى أسمائه وصفاته بالتعطيل، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
والنصوص الدالة على إثبات الصفات كثيرة جدا وقد صنف أهل السنة من المحدثين والعلماء مصنفات كبارا من (4) ذلك (كتاب السنة لعبد الله بن الإمام أحمد) ذكر فيه أقوال الصحابة والتابعين والأئمة، و (كتاب التوحيد لإمام الأئمة محمد بن خزيمة) و (كتاب السنة للأثرم) صاحب الإمام أحمد و (كتاب عثمان بن سعيد الدارمي في رده على المريسي) و (كتاب
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2713) ، سنن الترمذي الدعوات (3481) ، سنن أبو داود الأدب (5051) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3831) ، مسند أحمد بن حنبل (2/536) .
(2) سورة طه الآية 5
(3) في المطبوعة (م) و (د) (وكلها) .
(4) في المطبوعة (م) (ومن) .(38/163)
السنة للخلال) (1) و (كتاب العلو للذهبي) وغير ذلك مما لا يحصى كثرة (2) ولله الحمد والمنة.
ونذكر بعض الأحاديث الصحيحة الصريحة في المعنى، فمن ذلك ما في الصحيح عن النواس بن سمعان (3) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي [فإذا تكلم] (5) » .
__________
(1) هو أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد الخلال المتوفى سنة 311 هـ.
(2) في الأصل (كثيرة) ، والمثبت من المطبوعة (م، د) .
(3) هو ابن خالد الكلابي أو الأنصاري صحابي مشهور سكن الشام.
(4) أخرجه ابن خزيمة في التوحيد باب صفة تكلم الله بالوحي (1 \ 248 ح \ 206) وابن أبي عاصم في السنة حديث (515) ، وابن جرير الطبري في تفسيره (22 \ 91) ، وابن أبي حاتم كما عزاه له ابن كثير في تفسيره (3 \ 537) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (1 \ 326) جميعهم من طريق نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن ابن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس. . الحديث. ونعيم بن حماد صدوق سيئ الحفظ كما قال الحافظ في التقريب (ص 564) ، والوليد بن مسلم ثقة كثير التدليس والتسوية، كما قال الحافظ في التقريب، وباقي رجال الإسناد ثقات، قال الذهبي في الميزان (4 \ 268) : (قال أبو زرعة الدمشقي عرضت على دحيم حديثا حدثناه نعيم بن حماد، عن الوليد عن مسلم عن ابن جابر عن ابن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان (إذا تكلم الله بالوحي) فقال دحيم: لا أصل له.) . وقال ابن كثير في تفسيره (3 \ 537) : (وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول ليس هذا الحديث بالتام عن الوليد بن مسلم) . وقال العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني في ظلال الجنة صفحة (227) '' إسناده ضعيف''.
(5) (4) أخذت السماوات منه رجفة (أو قال: رعدة شديدة) خوفا من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: " قال الحق وهو العلي الكبير " فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل(38/164)
ففي هذا الحديث التصريح بأن جبريل ينزل بالوحي من فوق السماوات السبع فيمر بها كلها نازلا إلى حيث أمره الله، وهذا صريح بأن الله تعالى فوق السماوات على العرش (1) بائن من خلقه كما قال عبد الله بن المبارك: لما قيل له «بما نعرف ربنا؟ قال: " بأنه على عرشه بائن من خلقه» وهذا قول أئمة الإسلام
__________
(1) في المطبوعة (م، د) (على عرشه) .(38/165)
قاطبة خلافا للجهمية والحلولية، والفلاسفة، وأهل الوحدة وغيرهم من أهل البدع.
فرحم الله أهل السنة والجماعة المتمسكين بالوحيين.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله [عنه] (1) أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق: أن رحمتي سبقت غضبي فهو عنده فوق العرش (2) » وفي حديث
__________
(1) ما بين المعقوفتين ساقطة من الأصل المخطوط.
(2) أخرجه البخاري في التوحيد باب قول الله تعالى: (بل هو قرآن مجيد) حديث (7554) من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظه. وبنحوه أخرجه أيضا البخاري في المصدر السابق في عدة مواضع حديث (3194 و 7404، 7422، 7453، 7553) ومسلم في التوبة باب سعة رحمة الله. . حديث (2751) .(38/166)
العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه «أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر سبع سماوات وما بينهما ثم قال: " وفوق ذلك بحر، بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال ما بين أضلافهن وركبهن كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ظهورهن العرش ما بين أعلاه وأسفله كما بين سماء إلى سماء والله فوق ذلك (2) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب السنة باب في الجهمية حديث (4724) - والترمذي في كتاب التفسير باب ومن سورة الحاقة حديث (3320) وقال (حديث حسن غريب) - وابن خزيمة في التوحيد باب ذكر استواء خالقنا حديث (144) - وابن أبي عاصم في السنة (1 \ 253) - واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة حديث (650 3 \ 389) - وأبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة حديث (204 / 2 \ 566) كلهم عن طريق (عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب عن عبد الله بن عميرة عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب) . وعمرو بن أبي قيس صدوق له أوهام - التقريب (ص 426) . وسماك بن حرب صدوق وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة وقد تغير بآخره فكان ربما يلقن، التقريب (ص 255) . وعبد الله بن عميرة بفتح أوله كوفي قال الذهبي: (فيه جهالة. وقال البخاري: لا يعرف له سماع من الأحنف بن قيس له عن العباس حديث المزن رواه عنه سماك بن حرب ورواه عن سماك الوليد بن أبي ثور وجماعة..) . قال ابن حجر: (عبد الله بن عميرة مقبول من الثانية روى له أبو داود وابن ماجه والترمذي) . ولقد عده ابن حبان في الثقات. لكن لا يلتفت إلى توثيقه له لما عرف عن ابن حبان من تساهله في توثيق المجاهيل. انظر في ميزان الاعتدال (2 \ 469) ، والتقريب (ص 316) ، والثقات (5 \ 42) . الأحنف بن قيس هو: ابن معاوية بن حصين التميمي السعدي أبو بحر ثقة مات سنة (67) وقيل (72) روى له الجماعة، التقريب (ص 96) ، التهذيب (1 \ 191) . ولقد تابع عمرو بن أبي قيس في رواية هذا الحديث عن سماك جماعة منهم: - أ - الوليد بن أبي ثور: - أبو داود في كتاب السنة باب في الجهمية حديث (4723) ، وابن ماجه في المقدمة باب فيما أنكرت الجهمية حديث (193) ، والإمام أحمد (1 \ 207) ، وذكره ابن خزيمة في التوحيد (1 \ 236) واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3 \ 390) ، والآجري في الشريعة (ص 292) ، وأبو جعفر بن أبي شيبة في العرض (ص 55) ، والعقيلي في الضعفاء الكبير (2 \ 284) . والوليد هذا هو الوليد بن عبد الله بن أبي ثور الهمداني الكوفي، قال ابن معين في التاريخ (ليس بشيء) ، وقال العقيلي في الضعفاء الكبير: (حدثنا محمد بن عثمان قال سألت ابن نهير عن الوليد بن أبي ثور فقال: كذاب) وقال ابن حجر: (ضعيف) . انظر في التاريخ لابن حصين (2 \ 632) ، والضعفاء الكبير (4 \ 319) والتقريب (ص 55) . ب - شعيب بن خالد: - أحمد في المسند (1 \ 206) ، الحاكم في المستدرك (2 \ 378) ، وأبو جعفر بن أبي شيبة في العرض (ص 55) وشعيب بن خالد هذا قال عنه الحافظ ابن حجر: (ليس به بأس) التقريب (ص 267) ، ولكن الراوي عن شعيب بن خالد وهو يحيى بن العلاء قال عنه الإمام أحمد بن حنبل: (كذاب يضع الحديث وقال الدوري عن ابن معين: (ليس بثقة) وقال أبو حاتم عن ابن حصين (ليس بشيء) وقال عمرو بن علي والنسائي والدارقطني: (متروك الحديث) . انظر الجرح والتعديل (9 \ 179) ، التهذيب (11 \ 261) . ج - إبراهيم بن طهمان: - رواه أبو داود في كتاب السنة باب في الجهمية حديث (4725) - والبيهقي في الأسماء والصفات 2 \ 158 والآجري في الشريعة (ص 292) . قال ابن حجر: (إبراهيم بن طهمان ثقة يغرب وتكلم فيه للإرجاء، ويقال: رجع عنه، التقريب (ص 90) . د - أبو خالد الدالاني: - رواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة (2 \ 569) وإسناده مرسل وأبو خالد هو: - يزيد بن عبد الرحمن الدالاني الأسدي الكوفي صدوق يخطئ كثيرا وكان يدلس، التقريب (ص 636) . والحديث قد صححه جمع من أهل العلم منهم: الترمذي في (5 \ 396) حيث قال عند رواية عمرو بن أبي قيس (حديث حسن غريب) . - وقال الحاكم عند رواية يحيى بن العلاء (2 \ 378) (صحيح الإسناد) وتعقبه الذهبي فقال (يحيى بن العلاء واه) . - وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3 \ 192) وقد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه إلا بما نقله العدل عن العدل موصولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم والإثبات مقدم على النفي، والبخاري إنما نفى معرفة سماعه من الأحنف لم ينف معرفة الناس بهذا فإذا عرف غيره كإمام الأئمة ابن خزيمة ما ثبت به الإسناد كانت معرفته وإثباته مقدما على نفي غيره وعدم معرفته) . - وابن القيم في تهذيب السنن (7 \ 92، 93) . - والعلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن حيث قال في فتح المجيد (ص 441) : (وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما ولا عبرة بقول من ضعفه لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها وصرفها عن ظواهرها) . ولقد ذكر الأخ الشيخ عبد الله الجديع في كتاب فتيا وجوابها صفحة (72) أن هذا الحديث في سياقه نكارة من وجهين فقال - حفظه الله -: (الأول: تشبيه الملائكة بالتيوس فإن الأوعال جمع وعل وهو تيس الجبال وإن كان هذا اللفظ يستعار للأشراف من الناس فإنه هاهنا على الأصل بقرينة ذكر الاختلاف بأنها من خواص ما يجتر من الحيوان. الثاني: أكثره تذكر الأظلاف والركب مؤنثة وهو معنى منكر في حق الملائكة وقد أنكره الله تعالى على المشركين) ثم قال حفظه الله: (فتحسين الترمذي لعلة المعنى خارج عن الإسناد وكذلك احتجاج من احتج به من الأئمة ينبغي حمله على معنى مناسب، ويمكن القول بأن إيرادهم له في صدد الرد على الجهمية وإثبات العقيدة السلفية ليس احتجاجا بمجرده وإنما لكونه ورد بإثبات أصل دلت عليه نصوص أخرى معلومة الصحة وهو إثبات الفوقية والاستواء للعلي الأعلى جل وعلا وهم لم يحتجوا به لمعنى آخر مما ذكرنا سوى هذا المعنى والله أعلم) اهـ. ولقد حكم العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني بضعف هذا الحديث، انظر ظلال الجنة في تخريج السنة (1 \ 254) .
(2) في الأصل المخطوط (بحرين) وهو تحريف والتصويب من المصادر المخرجة. (1)(38/167)
صفحة فارغة(38/168)
صفحة فارغة(38/169)
وفي حديث ابن مسعود الذي رواه عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال: «بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام وبين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام وبين الكرسي والماء خمسمائة عام والعرش فوق الماء والله تعالى فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم (1) » .
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (9 \ 228) حديث (8987) ، والدارمي في الرد على المريسي (ص 105) وأيضا في الرد على الجهمية (ص21) ، وابن خزيمة في التوحيد (1 \ 242، 243) ، وأبو الشيخ الأصبهاني في العظمة (2 \ 688) ، والبيهقي في (الأسماء) (2 \ 145) . كلهم من طريق حماد بن سلمة به. قال البيهقي عن هذا الأثر في كتابه (العلو) صفحة (45) (إسناده صحيح) . وقال ابن القيم في (اجتماع الجيوش الإسلامية) (ص 254) (وذكر سنيد بن داود بإسناد صحيح عنه..) فذكره. وقال العلامة الشيخ ناصر بعد أن ذكر في كتابه مختصر العلو عن أئمة من أهل العلم صفحة (104) (وسندهم جيد) .(38/170)
والجهمية جحدوا هذه النصوص وعاندوا في التكذيب فصاروا بذلك كفارا عند أكثر أهل السنة والجماعة، وهذا القدر الذي ذكرناه (1) كاف في بيان ما عليه أهل السنة والجماعة من علو الله تعالى على جميع المخلوقات واستوائه على عرشه، وقد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على ذلك، ولو ذهبنا نذكر ما ورد في كل (2) ذلك لاحتمل مجلدا، فالحمد لله الذي حفظ على الأمة دينها في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (3) وينقل (4) العلماء الذين هم في هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل وهدانا إلى ذلك فأبطل الله بالعلماء كل بدعة وضلالة حدثت في هذه الأمة، فيالها من نعمة ما أجلها في حق من تلقى الحق بالقبول وعرفه ورضي به. نسأل الله تعالى أن يجعلنا شاكرين ذاكرين (5) لنعمه المثنين بها عليه فله الحمد لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثني عليه خلقه.
وأهل السنة والجماعة عرفوا ربهم بما تعرف به إليهم من صفات كماله اللائقة بجلال الله فأثبتوا له تعالى ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل، وعرفوه بأفعاله وعجائب
__________
(1) في المطبوعة (م) (ذكرنا) .
(2) في الأصل المخطوط (حمل) ولعل الصواب ما أثبته.
(3) ما بين القوسين ساقطة من المطبوعة (د) .
(4) لقد تحرف في الأصل إلى (ويفعلها) وهو خطأ والتصويب من المطبوعة (م) ، (د) .
(5) ساقطة من المطبوعة (م) و (د) .(38/171)
مخلوقاته وبما أظهره لهم من عظيم قدرته وبما أسبغه عليهم من عظيم نعمه فعبدوا ربا أحدا صمدا إلها واحدا، وهو الله الذي الألوهية وصفه، فالخلق خلقه والملك ملكه لا شريك له في ألوهيته ولا في ربوبيته ولا في ملكه تعالى وتقدس {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (1) {مَلِكِ النَّاسِ} (2) {إِلَهِ النَّاسِ} (3) فنزهوه (4) عما تنزه عنه وعن كل ما فيه عيب ونقص وعن كل ما وصفته (5) به الجهمية وأهل البدع مما لا يليق بجلاله وعظمته، فعظموه من صفات الكمال وصاروا إنما يعبدون عدما، لأنهم وصفوه بما ينافي الكمال ويوقع في النقص العظيم فشبهوه بالناقصات تارة وبالمعدوم تارة فهم أهل التشبيه كما عرفت من حالهم وضلالهم ومن جهلهم.
وأما ما أورده هذا الجهمي الجاهل من آيات العلم كقوله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (6) وقوله {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} (7) فلا منافاة بين استوائه على عرشه وإحاطة علمه بخلقه والسياق يدل على ذلك.
أما الآية الأولى فهي مسبوقة بقوله تعالى:
__________
(1) سورة الناس الآية 1
(2) سورة الناس الآية 2
(3) سورة الناس الآية 3
(4) في المطبوعة (م ود) ونزهوه.
(5) (به) ليست في المطبوعة (م) .
(6) سورة الحديد الآية 4
(7) سورة المجادلة الآية 7(38/172)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} (1) ذكر استواءه على عرشه، وذكر إحاطة علمه بما في الأرض والسماوات ثم قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (2) أي بعلمه المحيط بما كان وما يكون.
وأما الآية الثانية فهي كذلك مسبوقة بالعلم وختمها تعالى به فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} (3) إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (4) فعلم أن المراد علمه بخلقه، وأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (5) وهذا المعنى الذي ذكرنا هو الذي عليه المفسرون من الصحابة والتابعين والأئمة وصحيح أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية وأهل البدع فحرموا معرفة الحق لانحرافهم عنه وجهلهم به وبالقرآن والسنة كما قال العلامة ابن القيم (6) .
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بشرائع الإيمان (7) ومن
__________
(1) سورة الحديد الآية 4
(2) سورة الحديد الآية 4
(3) سورة المجادلة الآية 7
(4) سورة المجادلة الآية 7
(5) سورة الطلاق الآية 12
(6) في المطبوعة (د) زيادة لفظ (رحمه الله) . النونية لابن القيم (2 \ 730) .
(7) في المطبوعة (م) (ما سواه) .(38/173)
المعلوم أنه لا يقبل الحق إلا من طلبه وأما أهل البدع فأشربوا في قلوبهم ما وقعوا فيه من البدع والضلال، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فإذا عرف ذلك فيتعين أن نسأل هذا الجهمي وغيره من المبتدعين عن أمور لا يسع المسلم أن يجهلها لأن الإسلام يتوقف على معرفتها فمن ذلك:
ما معنى كلمة الإخلاص (لا إله إلا الله) ؟
وما الإلهية المنفية بلا النافية للجنس؟ وما خبرها؟
وما معنى الإلهية التي تثبت لله وحده دون من سواه (1) ؟
وما أنواع التوحيد؟ وألقابه؟ وأركانه؟
وما معنى الإخلاص الذي أمر الله به عباده، وأخبرهم أنه له وحده؟
وما تعريف العبادة التي خلقوا لها؟
وما أقسام العلم النافع والذي لا يسع أحدا جهله؟
وما معنى اسم الله تعالى الذي لا يتسمى (2) بهذا الاسم غيره؟
وما صفة اشتقاقه من المصدر الذي هو معناه؟
(وما أصل الدين الذي لا يحصل دين الإسلام إلا به) (3) ؟
__________
(1) في (الأصل) : '' وأما ''، وهو تحريف.
(2) في المطبوعة (م ود) (لا يسمى) .
(3) ما ين القوسين ساقطة من المطبوعة (م ود) .(38/174)
فالجواب عن هذا مطلوب والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
(سنة 1274 هـ الخميس ص ف ر (1)) (2) .
__________
(1) هكذا في الأصل المخطوط. ولعل الكتاب يرمز لها إلى شهر (صفر) .
(2) ما بين القوسين ساقطة من المطبوعة (م ود) .(38/175)
صفحة فارغة(38/176)
أسباب النزول وأثرها في تفسير القرآن الكريم
بقلم
الدكتور
عبد الله بن إبراهيم الوهيبي
- بيان أهمية الموضوع:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين الذي أرسله للعالمين بشيرا ونذيرا ونزل عليه القرآن تنزيلا ليخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان، ويهديهم إلى صراط مستقيم ويبين لهم المنهاج الذي يسيرون عليه في حياتهم، والشرع الذي يحتكمون إليه عند اختلافهم ويجيب على أسئلتهم كما في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} (1) (البقرة: 219) . ويحل مشاكلهم كما في «قصة هلال بن أمية حينما قذف زوجته بشريك بن سحماء فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم " البينة أو حد في ظهرك " فقال هلال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حد في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق فأنزل الله تعالى: (3) »
__________
(1) سورة البقرة الآية 219
(2) رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما مطولا. راجع فتح الباري (8 \ 449 - تفسير سورة النور) .
(3) سورة النور الآية 6 (2) {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}(38/177)
الآيات (النور: 6 - 9) ففرج عن هلال ما كان فيه من الضيق والحرج، ودفع عنه حد القذف، وحل مشكلته مع زوجته بتشريع اللعان بينهما سترا عليهما لعدم قيام البينة على أحدهما، مما تقدم يتضح أن بعض آيات القرآن الكريم نزلت للإجابة على سؤال أو حل مشكلة أو بيان حكم حادثة، فكان ذلك سببا لنزولها، فمعرفة سبب النزول له أهمية كبيرة نجملها فيما يلي: -
1 - فهم معنى الآية، ومعرفة المراد منها وإزالة الإشكال الوارد عليها.
2 - إبراز الحكمة التي قصدها الشارع من الحكم.
3 - معرفة تاريخ التشريع والأحوال الاجتماعية السائدة حين نزول الأحكام التشريعية، والتدرج في تشريع بعض الأحكام لطفا بالعباد ومراعاة لتأصل بعض العادات في النفوس.
4 - مبادرة الشارع إلى حل المشاكل التي ضاق أصحابها بها ذرعا، فيأتي الفرج الإلهي بعد الشدة، فيكون لهذا أثر طيب في النفوس.
5 - معرفة الأحداث التاريخية التي حدثت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم من جهاده وأعماله ومواقف المؤمنين بدعوته والجاحدين لها، فهي مصدر هام من مصادر السيرة النبوية.
6 - معرفة أسباب النزول تيسر حفظ الآية وتثبتها في الذهن لارتباط الأسباب بمسبباتها، والأحكام بالحوادث، والحوادث بالأشخاص والأزمان والأماكن التي حدثت فيها، فمعرفة هذه تعين على استذكار الآية وانتقاشها في الذهن وفهم معناها، وهذا ما يسمى في علم النفس بتداعي المعاني حيث يذكر الإنسان الأشياء بذكر ما يقارنها.(38/178)
مما تقدم تتضح أهمية أسباب النزول، وفي هذا البحث سنبين معناها وأثرها في تفسير بعض آيات القرآن الكريم والمؤلفات فيها.(38/179)
معنى أسباب النزول: -
لفظ أسباب النزول مركب إضافي من كلمتين سأتكلم عن هاتين الكلمتين من الناحية اللغوية، ثم أخلص منها إلى الناحية الاصطلاحية المقصودة هنا، فالأسباب جمع سبب والسبب كل ما يتوصل به إلى غيره، قال صاحب القاموس المحيط: " والسبب الحبل وما يتوصل به إلى غيره ويجمع على أسباب، وأسباب السماء مراقيها أو نواحيها أو أبوابها، وقطع الله به السبب الحياة ". وقال صاحب لسان العرب بعد كلام طويل: " السبب هو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، ثم استعير إلى كل ما يتوصل به إلى شيء كقوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (1) (البقرة: 166) أي الوصل والمودات ".
قلت: وقد استعير السبب إلى الحادثة التي من أجلها نزلت آية أو آيات من القرآن، لأنه يتوصل به إلى تفسير الآية والوقوف على قصتها وإزالة الإشكال عنها.
والنزول: مصدر نزل ينزل نزولا وهو الحلول والانحطاط من أعلى، قال الراغب الأصفهاني في مفرداته: " نزل: النزول في الأصل هو الانحطاط من علو، يقال: نزل عن دابته ونزل في مكان كذا حط رحله فيه، وأنزله غيره، قال تعالى: {أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} (2) (المؤمنون: 29) ونزل بكذا وأنزله بمعنى، وإنزال الله نعمه ونقمه على الخلق إعطاؤهم إياها، وذلك إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن، وإما بإنزال أسبابه والهداية إليه كإنزال الحديد واللباس ونحو ذلك ".
__________
(1) سورة البقرة الآية 166
(2) سورة المؤمنون الآية 29(38/179)
ونزول القرآن على قسمين:
الأول: ما نزل ابتداء من غير سبب، وهو أكثر القرآن.
والثاني: ما نزل مرتبطا بسبب، وهو أقل القرآن.
ومن هذا التمهيد أنتقل إلى الاصطلاحي لسبب النزول: وهو الحادثة التي تقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أو السؤال يوجه إليه فتنزل الآية أو الآيات أيام وقوع ذلك مبينة لحكم تلك الحادثة أو مجيبة على ذلك السؤال ومعنى التقييد بأيام وقوع ذلك أن الحادثة أو السؤال لا يعتبران سببا لنزول الآية أو الآيات إلا إذا نزلت عقب ذلك مباشرة، كما في حادثة خولة بنت ثعلبة التي ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت فنزلت بسببها آيات الظهار في أول سورة المجادلة (1) ، أو تأخر نزولها يسيرا لحكمة، كما في حادثة الإفك، فقد نزلت الآيات بعدها بشهر كما رواها البخاري عن عائشة في حديث طويل نقتطف منه قول السيدة عائشة رضي الله عنها «وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني (2) » الحديث.
أما الحوادث القديمة، وقصص الأنبياء السابقين، فلا تعتبر أسبابا للنزول، لأنها لم تقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لذا أخذ على الواحدي جعله قدوم الأحباش إلى البيت الحرام بالفيلة سببا لنزول سورة الفيل. قال السيوطي في الإتقان (1 \ 31) : (والذي يتحرر في سبب النزول، أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه ليخرج ما ذكره الواحدي في تفسيره في سورة الفيل من أن سببها قصة قدوم الحبشة به، فإن ذلك ليس من أسباب النزول في شيء بل هو من باب الإخبار عن الوقائع الماضية كذكر قصة قوم نوح، وعاد، وثمود، وبناء
__________
(1) انظر تفصيل تلك الحادثة في أسباب النزول للواحدي ص 433.
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر تفسير النور (8 \ 454) وأسباب النزول للواحدي (333) .(38/180)
البيت، ونحو ذلك) .
وكذلك ذكره في قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (1) (النساء: 125) سبب اتخاذه خليلا، فليس ذلك من أسباب نزول القرآن كما لا يخفى ".
وهذا لا يمنع من أن يكون لبعض هذه القصص والأخبار الماضية أسباب نزول كما روى الواحدي «عن سعد بن أبي وقاص في نزول قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (2) (يوسف: 3) قال: أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا، فأنزل الله تعالى {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (3) إلى قوله {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (4) » (5) (يوسف: 1 - 3) .
فيلحظ هنا أن سبب النزول هو قول الصحابة رضي الله عنهم لو قصصت علينا.
وهذا القول حادثة وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت بعدها الآيات، وليس السبب ما تحدثت الآيات عنه من قصة يوسف، لأنها وقعت في الأزمان الماضية.
__________
(1) سورة النساء الآية 125
(2) سورة يوسف الآية 3
(3) سورة يوسف الآية 1
(4) سورة يوسف الآية 3
(5) أسباب النزول للواحدي (ص 273) وتفسير ابن كثير (2 \ 467) .(38/181)
أثر أسباب النزول في التفسير:
يرى بعض الناس أنه لا فائدة في أسباب النزول، فهي مجرد تاريخ يذكر فلا جدوى من ذكرها والاهتمام بدراستها، وهذا رأي ليس بصحيح فلأسباب النزول فوائد كثيرة، من تدبرها علم أهميتها حتى لقد قال الواحدي: " لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها " (1) . وقال الإمام ابن تيمية: " معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية
__________
(1) راجع: كتابه '' أسباب النزول '' (ص 5) .(38/181)
فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب " (1) وقال ابن دقيق العيد: " معرفة سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن " (2) .
لذا نجد العلماء جعلوا من شروط المفسر أن يكون عالما بأسباب النزول وسنبين مدى أهميتها وأثرها في التفسير فيما يلي: -
أولا: إزالة الإشكال الوارد على الآية: ولذلك أمثلة كثيرة نذكر منها ما يلي:
1) قال تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (3) (سورة البقرة: 158) .
فقد فهم عروة بن الزبير عدم فرضية السعي بين الصفا والمروة، لأن نفي الجناح يفهم منه عدم التكليف، فسأل عن هذا خالته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فبينت له أن الأمر ليس كما فهم، واستدلت على ذلك بسبب نزول الآية، وهو ما روي عن عروة بن الزبير - رضي الله عنهما - قال: «سألت عائشة رضي الله عنها: (أرأيت قول الله تعالى: الآية. فوالله ما على أحد جناح ألا يطوف بالصفا والمروة) قالت: (بئسما قلت يا ابن أختي إن هذه لو كانت على ما أولتها كانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها أنزلت في الأنصار كانوا قبل أن يسلموا يهلون " لمناة " الطاغية التي كانوا يعبدونها عند " المشلل " وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: يا رسول الله. إن كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة فأنزل الله عز وجل: الآية، قالت عائشة: " وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) راجع مقدمته في أصول التفسير (ص 13) .
(2) منهج الفرقان لمحمد علي سلامة (1 \ 36) .
(3) سورة البقرة الآية 158
(4) راجع: جامع الأصول لابن الأثير (2 \ 15) وقد نسبه إلى البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود والنسائي ومالك.
(5) سورة البقرة الآية 158 (4) {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}(38/182)
الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما (1) » .
فبالرجوع إلى سبب نزول الآية زال الإشكال عنها الذي أدى إلى فهم عدم شرعية السعي، وأن من تركه لا إثم عليه، والأمر خلاف هذا فليس لأحد أن يترك السعي بينهما كما دل على ذلك سبب النزول.
2) قال تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) (البقرة: 189) فالقارئ لهذه الآية الكريمة يشكل عليه نفي البر في إتيان البيوت من الخلف لأنه لا يعرف أن أحدا يرى أن في إتيان البيوت من الخلف برا - أي خيرا - ولكنه إذا رجع إلى سبب النزول وعرف أن الأنصار كانوا إذا حجوا لا يأتون بيوتهم إلا من الخلف، ويرون أن في ذلك برا، وقد عابوا رجلا حج ودخل بيته من بابه، فنزلت هذه الآية تنفي ما اعتقدوه وتثبت أن البر والخير في تقوى الله، لا في إتيان البيوت من ظهورها كما اعتقدوا، بل عليهم أن يأتوا البيوت من أبوابها «عن البراء رضي الله عنه قال: (نزلت هذه الآية فينا، كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لم يدخلوا من قبل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها. فجاء رجل من الأنصار فدخل من قبل بابه، فكأنه عير بذلك فنزلت: (4) » فبالرجوع إلى سبب النزول يزول الإشكال.
3) قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (5) الآية: 93 من سورة
__________
(1) سورة البقرة الآية 158 (5) {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}
(2) سورة البقرة الآية 189
(3) رواه البخاري في صحيحه كتاب الحج - 18 - بهذا اللفظ وفي كتاب التفسير مختصرا - راجع فتح الباري (3 \ 621) كما رواه مسلم في صحيحه كتاب التفسير (4 \ 2319) .
(4) سورة البقرة الآية 189 (3) {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}
(5) سورة المائدة الآية 93(38/183)
المائدة.
هذه الآية قد أشكلت على جماعة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكانوا يرون أن الخمر مباحة ويحتجون بالآية، ولكن عمر بن الخطاب عارضهم في ذلك، ورد ابن عباس عليهم بسبب نزول الآية، روى الدارقطني عنه: (أن عمر بن الخطاب أتي برجل من المهاجرين الأولين وقد شرب، فأمر به أن يجلد فقال: لم تجلدني؟ بيني وبينك كتاب الله، فقال عمر: وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ فقال له: إن الله عز وجل يقول في كتابه: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (1) الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم اتقوا وآمنوا، ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين، شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد، فقال عمر: ألا تردون عليه ما يقول؟ فقال ابن عباس: إن هؤلاء الآيات أنزلت عذرا للماضين، وحجة على المنافقين؛ لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} (2) الآية (المائدة: 90) ثم قرأ حتى أنفذ الآية الأخرى، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإن الله قد نهاه أن يشرب الخمر، فقال عمر رضي الله عنه: صدقت، ماذا ترون؟ قال علي رضي الله عنه: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة، فأمر به عمر فجلد ثمانين جلدة ".
وروى الترمذي عن البراء قال: «مات رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تحرم الخمر، فلما حرمت الخمر، قال رجال: كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر، فنزلت الآية (3) » . .) قال الترمذي: (هذا حديث حسن
__________
(1) سورة المائدة الآية 93
(2) سورة المائدة الآية 90
(3) سنن الترمذي (5 \ 254) كتاب التفسير، وراجع أسباب النزول للواحدي ص 204 وجامع الأصول لابن الأثير (2 \ 120) .(38/184)
صحيح) .
فسبب نزول الآية قد أزال الإشكال عنها، حيث خصها بمن مات من الصحابة وهم يشربون الخمر قبل تحريمها، وبه رد ابن عباس على من أخطأ في فهم الآية، فلولا سبب النزول لبقي هؤلاء على خطئهم حيث فهموا من الآية العموم.
4) قوله تعالى {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (1) (سورة الطلاق: 4) فقد أشكل على بعض الناس المراد من الشرط في الآية، حتى فهموا منه أن الآيسة لا عدة عليها إلا إذا ارتابت في الحيض.
فهذا فهم خاطئ، ولكن بالرجوع إلى سبب النزول يتبين أن المراد بالشرط مخالف لذلك الفهم، وسبب نزولها ما أخرجه الحاكم عن أبي بن كعب " أنه لما نزلت الآية في سورة البقرة في عدد النساء، قالوا بقي عدد لم تذكر، وهي عدد الصغار والكبار وأولات الأحمال فنزلت الآية (2) .
فبين السبب أن المراد بالشرط إن ارتبتم في حكمهن لا حيضهن كما هو الظاهر من الآية.
ثانيا - أن أسباب النزول تعين على معرفة الحكمة التي من أجلها شرع الحكم.
وذلك أن سبب النزول يحكي الملابسات والظروف والأوضاع التي كان الناس عليها قبل تشريع الحكم، فبالرجوع إليه نتعرف على الحكمة التي قصدها الشارع، ومن الأمثلة على ذلك:
1 - قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (3) (سورة
__________
(1) سورة الطلاق الآية 4
(2) لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي (4 \ 172) .
(3) سورة البقرة الآية 223(38/185)
البقرة: 223) . فسبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله «أن يهود كانت تقول إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول) فنزلت الآية (1) » .
2 - ما رواه البخاري «عن ابن عباس في سبب نزول قوله تعالى: (سورة النساء: 19) قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك (3) » .
3 - ما رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: «أتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين، فقالوا: تعال نطعمك ونسقيك خمرا، وذلك قبل أن تحرم الخمر، قال: فأتيتهم في حش - والحش البستان - فإذا رأس جزور مشوي عندهم، وزق من خمر، قال: فأكلت وشربت معهم، قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، قال فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به فجرح أنفي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأنزل الله عز وجل في - يعني نفسه - شأن الخمر: (5) » (سورة المائدة: 90) .
فبالرجوع إلى أسباب نزول هذه الآيات تتبين الحكم العظيمة من تشريع هذه الأحكام.
ففي الآية الأولى التيسير على الناس في جماع نسائهم على أي وجه كان ما دام في موضع الحرث، وإبطال لما ألقاه اليهود في أذهان الصحابة من
__________
(1) صحيح البخاري (11 \ 36) تفسير سورة البقرة.
(2) صحيح البخاري (11 \ 55) تفسير سورة النساء.
(3) سورة النساء الآية 19 (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ}
(4) صحيح مسلم (4 \ 1877) كتاب فضائل الصحابة رقم الحديث (43) .
(5) سورة المائدة الآية 90 (4) {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(38/186)
الوهم الباطل.
وفي الآية الثانية رفع الظلم عن النساء، حيث كان الناس في الجاهلية يحرمونهن من الميراث مستغلين ضعفهن، وعجزهن، ويضطهدونهن ويسيئون عشرتهن إذا أرادوا التخلص منهن، حتى يفتدين، فحرم الإسلام ذلك إلا إذا أتين بفاحشة مبينة.
وفي الآية الثالثة تحريم الخمر، لأنها تسبب أضرارا كثيرة ومفاسد عظيمة، ومن ضمنها ما حدث بين الصحابة من اعتداء بعضهم على بعض لما شربوها.
فلولا أسباب النزول ما اهتدينا إلى هذه الحكم النافعة على وجه التفصيل، ومعرفة هذه الحكم تزيد المؤمن إيمانا، وثقة في دينه وما شرعه الله له من الأحكام النافعة المبنية على مقاصد عظيمة، وترغب الكافر في الإيمان إذا تبين له سمو التشريع الإسلامي ويسره وسهولته وما اشتمل عليه من المنافع والمصالح والمقاصد الحسنة، وكثير من الناس قد أدهشهم ذلك، فكان سببا في إيمانهم.
ثالثا: أن أسباب النزول تفيدنا في معرفة التدرج في تشريع بعض الأحكام والمراحل التي مرت بها، ومعرفة هذا مهم للدعاة خصوصا الذين يدعون إلى الإسلام في بلاد الكفر فعليهم أن يتدرجوا معهم في تعليم الإسلام والدعوة إليه وتطبيق تعاليمه.
ويدل على ذلك ما رواه الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت التي في البقرة: الآية. فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت التي في النساء:
__________
(1) سنن الترمذي (5 \ 253) تفسير سورة المائدة. وراجع: أسباب النزول للواحدي ص (200) والدر المنثور (1 \ 252) .(38/187)
فدعي عمر فقرئت عليه ثم قال: اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت التي في المائدة إلى قوله: فدعي عمر فقرئت عليه. فقال: انتهينا انتهينا (4) » .
فسبب نزول هذه الآيات بين لنا أن تحريم الخمر كان على التدريج، فآية البقرة بينت أن إثم الخمر أكبر من نفعها ولم تحرمها، فالعاقل يدرك من هذا أن ما كان إثمه أكبر من نفعه فالأولى تركه.
ثم نزلت آية النساء تنهى عن قربان الصلاة حالة السكر، وفي هذا تقليل لأوقات شرب الخمر، وتعويد للمسلمين على تركها في بعض الأوقات ثم نزلت آيتا المائدة (91، 90) فحرمتها، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (6) فالاستفهام إنكاري بمعنى النهي أي انتهوا، فلذا لما قرئت على عمر رضي الله عنه قال: انتهينا انتهينا. وبعد نزول هاتين الآيتين أراق الصحابة الخمر في الطرق وكسروا دنانها وانتهوا منها، وفي التدرج في تحريم الخمر لطف من الله بعباده حيث لم يفاجئهم بالتحريم من أول لحظة لشيء كانوا يحبونه ويتعلقون به.
وفي هذا درس للدعاة أن يتعلموا من منهج الله في تشريع الأحكام حيث راعى شعور الناس وما ألفوه من العادات فلم يحرم ذلك دفعة، لئلا يؤدي إلى نفورهم، أو حرجهم، وإنما تدرج معهم في ذلك، فقد بقي الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة عشر سنين تنزل عليه الآيات التشريعية بالتدريج حتى
__________
(1) سورة البقرة الآية 219 (1) {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}
(2) سورة النساء الآية 43 (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}
(3) سورة المائدة الآية 91 (2) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}
(4) سورة المائدة الآية 91 (3) {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}
(5) سورة المائدة الآية 90
(6) سورة المائدة الآية 91(38/188)
أكمل الله للمؤمنين دينهم وأتم عليهم نعمته.
رابعا: أن أسباب النزول تعين على معرفة اسم من نزلت فيه الآية، وفي هذا تعيين المبهم ومن أمثلته: -
1 - قوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} (1) (سورة الأحزاب: 37) .
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه (أنها أنزلت في شأن زينب بنت جحش وزيد بن حارثة) (2) . فإن هذا المنعم عليه زيد بن حارثة رضي الله عنه، وقد دلنا على ذلك سبب النزول.
2 - قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (3) (المجادلة: 1) .
روى الحاكم في مستدركه (2 \ 481) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع له ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك) ، قالت عائشة: (فما برحت حتى نزل جبريل عليه السلام بهؤلاء الآيات: (5) » قال: وزوجها أوس بن الصامت. هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
فسبب النزول بين اسم المجادلة وهي خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت، فمعرفة ذلك تفيدنا في التعرف على الظروف والملابسات التي أحاطت بنزول الآية، وهذا مما يعين على فهمها ووضوح معناها، ويمكن الاستفادة من ذلك في دراسة تاريخ القرآن.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 37
(2) صحيح البخاري (12 \ 147) تفسير سورة الأحزاب، ولباب النقول في أسباب النزول للسيوطي 24 ص 140.
(3) سورة المجادلة الآية 1
(4) سنن النسائي كتاب الطلاق (3460) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2063) .
(5) سورة المجادلة الآية 1 (4) {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}(38/189)
هذا والأمثلة على أثر أسباب النزول في تفسير القرآن كثيرة وقد اكتفيت بما تقدم رغبة في الاختصار، وللمزيد من ذلك يمكن الرجوع إلى المؤلفات المتخصصة في أسباب النزول.(38/190)
المؤلفات في أسباب النزول:
1 - أسباب النزول، لأبي الحسن ابن المديني (ت 234 هـ) . وهو أول من ألف في أسباب النزول ولكن كتابه لم يصل إلينا (1) .
2 - القصص والأسباب التي نزل من أجلها القرآن، لأبي مطرف عبد الرحمن بن محمد بن عيسي بن فطيس القرطبي (ت 402 هـ) (2) .
3 - أسباب النزول، للواحدي (ت 468هـ) وهو أول كتاب يصل إلينا في أسباب النزول، فقد جمع فيه أسباب النزول مرتبة على ترتيب سور القرآن، مروية بالإسناد غالبا، وقد طبع عدة طبعات أحسنها طبعة (دار الكتاب الجديد) بتحقيق الأستاذ سيد صقر، كما قام بتحقيقه الشيخ عصام بن عبد المحسن الحميدان، وقد اعتمد على تحقيق الأستاذ سيد صقر، أثنى على دقة تحقيقه وقلة الأخطاء، إلا أنه لم يستوف تخريج الأحاديث، وهو الأهم، فكانت زيادته على هذا التحقيق هو استيفاء التخريج على طريقة المحدثين (3) ، وقد اعتمد على كتاب الواحدي من جاء بعده ممن ألف في أسباب نزول القرآن.
4 - أسباب النزول، لأبي المظفر محمد بن أسعد الحليمي (ت 567 هـ) وقد جمع فيه بين أسباب النزول والتفسير والقصص، ويقع في (152) ورقة وتوجد منه نسخة مصورة في جامعة الإمام محمد بن سعود
__________
(1) راجع: الإتقان للسيوطي (1 \ 28) وطبقات المفسرين للداودي (1 \ 285) .
(2) راجع: الإتقان للسيوطي (1 \ 28) وطبقات المفسرين للداودي (1 \ 285) .
(3) راجع مقدمة تحقيقه لأسباب النزول للواحدي، طبع دار الإصلاح بالدمام عام 1411 هـ.(38/190)
الإسلامية، ونسختان بجامعة أم القرى (1) .
5 - أسباب النزول لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي (ت 597 هـ) (2) .
6 - تقريب المأمول في ترتيب أسباب النزول، لإبراهيم بن عمر الجعبري (ت 732 هـ) وقد اختصر فيه أسباب النزول للواحدي بحذف أسانيدها ولم يزد عليه شيئا، وتوجد منه نسخة خطية بدار الكتب المصرية (3) .
7 - العجب العجاب في بيان الأسباب لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) قال عنه السيوطي: (إنه مات عنه مسودة فلم نقف عليه كاملا) (4) ، ويوجد منه نسخة مصورة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في (201) ورقة، وقد وصل فيه إلى أوائل سورة النساء. وقد جمع فيه الأسباب التي ذكرها الواحدي مختصرة بحذف أسانيدها مع تخريجها والحكم عليها بالصحة والضعف، وزاد عليها كثيرا من الأسباب التي لم يذكرها الواحدي.
8 - لباب النقول في أسباب النزول، للسيوطي، (ت 911 هـ) وقد جمع في كتابه ما ذكره الواحدي مع حذف الأسانيد وزاد عليه بعض الأسباب ويمتاز عليه بتبيين الصحيح من الأسباب من غيره، وعزوها إلى من خرجها من أصحاب الكتب المعتبرة، وهو مطبوع بدار التحرير للطبع
__________
(1) راجع: أسباب النزول وأثرها في التفسير رسالة ماجستير للباحث عصام بن عبد المحسن الحميدان (ص 178) .
(2) راجع: مقدمة تحقيق أسباب النزول للواحدي ص (23) . كشف الظنون (1 \ 76) .
(3) راجع: الإتقان (1 \ 28) . ومقدمة تحقيق أسباب النزول للواحدي (ص 23) .
(4) راجع: الإتقان (1 \ 28) . ومقدمة تحقيق أسباب النزول للواحدي (ص 23) .(38/191)
والنشر بالقاهرة سنة 1382 هـ.
9 - إرشاد الرحمن لأسباب النزول والنسخ والمتشابه وتجويد القرآن لعطية الله الشافعي الأجهوري (ت 1190 هـ) يوجد منه نسخة مصورة في جامعة الملك سعود بالرياض، وهو كتاب جامع لأسباب النزول وغيرها مما هو مذكور في عنوانه، وقد اختصر فيه مؤلفه كتاب الواحدي بحذف أسانيده وضم إليه كتاب السيوطي " لباب النقول " حتى يكمل بعضهما الآخر، ولم يضف إلى ذلك شيئا جديدا إلا مجرد النقل والجمع.
10 - أسباب التنزيل لأحمد بن علي بن أحمد الحنفي المصري، يوجد منه نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية، وهو اختصار لكتاب الواحدي وذلك بحذف أسانيده، ولم يزد عليه شيئا فهو قليل الفائدة.
11 - مع نزول القرآن لمحمد محمد خليفة، تحدث في أول الكتاب عن نزول القرآن من حيث المكان والزمان، وأول ما نزل وآخر ما نزل، وكيفية الإنزال وطريقته وصور الوحي، وقد اختص معظم الكتاب بذكر أسباب النزول ورتبها حسب موضوعاتها، فبدأ بذكر الأسباب التي تدور حول مواقف المنافقين، ثم الأسباب التي تدور حول مواقف اليهود والنصارى والكفار، ثم ما دار حول أحكام شرعية، أو مبادئ اجتماعية أو سياسية، وهكذا. ويذكر الأسباب بدون أسانيد ولا يشير إلى المراجع، ولم يذكر في كتابه المصادر التي رجع إليها وهو مطبوع بمكتبة النهضة المصرية سنة 1971 م.
12 - أسباب النزول عن الصحابة والمفسرين للمرحوم الشيخ عبد الفتاح(38/192)
القاضي رئيس لجنة مراجعة المصاحف بالأزهر، وقد بدأه بتمهيد بين فيه معنى أسباب النزول وفوائدها، وبعض القواعد المتعلقة بها، ثم شرع في ذكر أسباب النزول مرتبة على ترتيب سور القرآن بدون إسناد، وقد اقتصر على الصحيح منها الملائم لروح الآيات وسياقها ولا يصادم أصلا من أصول العقيدة ولا يعارض نصا من نصوص الشريعة كما قال في التمهيد.
13 - أسباب نزول القرآن للدكتور حماد عبد الخالق حلوة، تحدث فيه عن تاريخ أسباب النزول ومصادرها ومناهج المؤلفين في الحديث والتفسير والتاريخ في عرض أسباب النزول والحديث عنها، ويقع هذا الكتاب في جزأين، الناشر له مكتبة الطليعة بأسيوط بمصر سنة 1980م.
14 - الصحيح المسند من أسباب النزول لمقبل بن هادي الوادعي وهو بحث مختصر خرج فيه بعض أسباب النزول ورتبه على ترتيب سور القرآن، وقدم له بمقدمة قصيرة ذكر فيها أهمية أسباب النزول وبعض قواعدها باختصار، وقد طبع سنة 1400 هـ، والناشر له مكتبة المعارف بالرياض.
15 - جامع النقول في أسباب النزول وشرح آياتها لابن خليفة عليوي، بدأ كتابه بمقدمة بين فيها معنى أسباب النزول وفوائدها وبعض القواعد المتعلقة بها، ثم شرع في جمع أسباب النزول بدون أسانيد، مرتبة على ترتيب سور القرآن وقد اعتمد في ذلك على كتاب الواحدي، وعضده بالنقل من (لباب النقول) للسيوطي. وكتب التفسير، وفي جمعه لهذه الأسباب لم يفرق بين الصحيح منها من الضعيف وقد اقتصر على جمع ما في الكتب دون تمحيص، مع ذكر أقوال المفسرين(38/193)
في الآية والأحكام المستنبطة منها بأدلتها، وهو مطبوع في جزأين بمطابع الإشعاع بالرياض سنة 1404 هـ.
16 - أسباب النزول، أسانيدها وأثرها في التفسير. رسالة دكتوراه، لجمعة سهل، تقدم بها إلى جامعة أم القرى، وتوجد بمكتبتها المركزية مطبوعة بالإستنسل.
17 - أسباب النزول وأثرها في التفسير، لعصام بن عبد المحسن الحميدان حصل به على درجة الماجستير. سنة 1406 هـ من كلية أصول الدين بالرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، تقع هذه الرسالة في مجلدين، تناول الباحث فيها أهمية أسباب النزول وقواعدها وأثرها في التفسير، واختص القسم الأكبر من الرسالة بذكر الصحيح والضعيف من أسباب النزول مرتبا حسب ترتيب سور القرآن، معتمدا في ذلك على كتابي " أسباب النزول " للواحدي " ولباب النقول " للسيوطي، مع تخريج ما ذكره من الأسباب والحكم عليها، وهي رسالة جيدة ومفيدة وأسلوبها شيق.
هذه المؤلفات الخاصة بجمع أسباب النزول - حسب علمي - وبجانبها أبحاث عن أسباب النزول ضمن كتب علوم القرآن، كما فعل الزركشي في كتابه " البرهان في علوم القرآن " فقد ضمنه بحثا مختصرا عن أسباب النزول. تحدث فيه عن معناها وفوائدها، وطريق معرفتها والتعبير عنها، وتعدد النازل والسبب واحد وعكسه، وهل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب، وقد سبقه إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير، وقد نحا هذا النحو من ألف فيما بعد في علوم القرآن، كالسيوطي في " الإتقان " والشيخ محمد علي سلامة في " منهج الفرقان " والشيخ الزرقاني(38/194)
في " مناهل العرفان " والدكتور الكومي والدكتور القاسم في " مذكرات في علوم القرآن " والدكتور صبحي الصالح في " مباحث علوم القرآن " والشيخ مناع القطان في " مباحث في علوم القرآن " كما تحدث عنها الشاطبي في " الموافقات " والشيخ القاسمي في مقدمة تفسيره " محاسن التأويل "، والشيخ ابن عاشور في مقدمة تفسيره " التحرير والتنوير ".
حاجة أسباب النزول إلى التمحيص:
وهذه المؤلفات الخاصة بجمع أسباب النزول قد حوت ثروة كبيرة من أسباب نزول القرآن تحتاج إلى دراسة وتمحيص من جهة الإسناد، لأنه قد اختلط فيها الصحيح بالضعيف، ودخلت فيها بعض الإسرائيليات والموضوعات، كما تحتاج إلى دراسة متنها لوجود تعارض في بعضها يحتاج إلى توفيق بين الروايات المختلفة، كما أن بعضها يحتوي على أخبار وحوادث غير صحيحة ولا تتفق مع الآية ولا تصلح سببا لنزولها، كما في قصة ثعلبة بن حاطب، وقد ذكرها أكثر المفسرين وملخصها «أن ثعلبة بن حاطب قال للرسول صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يرزقني مالا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه "، ولكن ثعلبة كرر الطلب على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم ارزق ثعلبة مالا فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود، وأنزل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (1) التوبة [103] فأرسل رجلين إلى ثعلبة ليأخذا منه الصدقة، فتردد في الدفع وقال: ما هذه إلا أخت الجزية فأنزل الله فيه قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (2) {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (3) الآيات من التوبة [75، 77] فلما علم جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فلم يقبلها، فمات الرسول صلى الله عليه وسلم فأتى أبا بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم فلم يقبلوها، ثم مات ثعلبة في خلافة عثمان» ،
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
(2) سورة التوبة الآية 75
(3) سورة التوبة الآية 76(38/195)
فهذه الرواية رواها أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه، وقد رواها عنه الطبري في تفسيره (14 \ 370 - 374) والواحدي في الأسباب (ص 252) والبغوي في تفسيره (3 \ 124) وفي أسانيدهم علي بن يزيد الألهاني قال عنه أبو حاتم: " ضعيف الحديث حديثه منكر "، وقال أبو زرعة " ليس بالقوي " وقال البخاري: " منكر الحديث " (1) .
وقد ضعف ابن حزم إسناد هذه القصة وأبطل معناها فقال: " وهذا باطل لا شك، لأن الله تعالى أمر بقبض زكوات أموال المسلمين وأمر عليه الصلاة والسلام عند موته أن لا يبقى في جزيرة العرب دينان، فلا يخلو ثعلبة من أن يكون مسلما ففرض على أبي بكر وعمر قبض زكاته ولا بد ولا فسحة في ذلك، وإن كان كافرا ففرض أن لا يقر في جزيرة العرب فسقط هذا الأثر بلا شك وفي رواته معان بن رفاعة والقاسم بن عبد الرحمن وعلي بن يزيد - وهو أبو عبد الملك الألهاني - وكلهم ضعفاء. ومسكين بن بكير ليس بالقوي (2) كما ضعفها السيوطي (3) .
فهذه القصة باطلة، لأن ما ورد فيها من معنى مخالف لأصل من أصول الشريعة، وهو أن التائب تقبل توبته ولو بلغت ذنوبه عنان السماء، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والإسلام يجب ما قبله، قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (4) (الأنفال: 38) ثم كيف يأتي بزكاة ماله للنبي صلى الله عليه وسلم فيردها ثم لأبي بكر فيردها ثم لعمر فيردها، فهل يعقل أن يحصل مثل هذا والله قد أمر بقبض زكاة المسلمين {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (5) (التوبة: 103) . وهذه القصة يرددها أهل الوعظ والإرشاد دون
__________
(1) راجع: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (6 \ 208) وميزان الاعتدال للذهبي (2 \ 161) .
(2) راجع كتابه المحلى (11 \ 208) .
(3) راجع كتابه: لباب النقول في أسباب النزول (ص 97) .
(4) سورة الأنفال الآية 38
(5) سورة التوبة الآية 103(38/196)
نظر إلى بطلان سندها ومتنها ومخالفتها لأصل من أصول الشريعة، وقد ذكرتها هنا حتى يتنبهوا إلى ذلك.
من هذا وغيره يتبين لنا أن أسباب النزول تحتاج إلى كثير من الدراسة والتمحيص والمناقشة، فليس كل ما جمع من الأسباب صحيحا وقد قام بعض الباحثين بدراسة بعض أسباب النزول سندا ومتنا والحكم عليها، كما فعل الوادعي في بحثه، والحميدان في رسالته للماجستير، وأملي أن تتوسع هذه الدراسة المفيدة حتى تغطي جميع ما روي في أسباب النزول ففي ذلك خدمة عظيمة لكتاب الله وفائدة كبيرة لدارسي تفسيره.(38/197)
المراجع
1 - إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود. مجلدان طبع بولاق - بالقاهرة 1275 هـ.
2 - الإتقان في علوم القرآن للسيوطي جزءان مصطفى الحلبي بالقاهرة - ط \ 3 - 1370 هـ - 1951 م.
3 - الأعلام للزركلي - طبع دار العلم للملايين - بيروت - ط \ 5 - 1980 م.
4 - البرهان في علوم القرآن للزركشي أربعة أجزاء. عيسى الحلبي ط \ 2 - 1391 هـ \ 1972 م.
5 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير، أربعة أجزاء مطبعة دار إحياء الكتب العربية - لعيسى الحلبي بالقاهرة.
6 - جامع البيان في تفسير القرآن، لابن جرير الطبري رجعت إلى طبعتين: دار المعارف بتحقيق محمود شاكر وأخيه، وطبعة الحلبي الثانية 1373 هـ - 1954 م.
7 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، عشرون جزءا - دار الكاتب العربي. ط3 - 1387 هـ.
8 - جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير (ت606 هـ) تحقيق عبد القادر الأرناؤوط - نشر مكتبة الحلواني ط \ 1 - 1389 هـ.
9 - الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (327) طبع دائرة المعارف بحيدر أباد الدكن - الهند - ج 1 \ 1 - 1372 هـ.
10 - الدر المنثور للإمام السيوطي، طبعة إيرانية.
11 - سنن الترمذي (ت297 هـ) طبع مصطفى الحلبي - بمصر - ج \ 1 - 1385 هـ.
12 - سنن الدارقطني (ت 385) تحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني(38/198)
طبع شركة الطباعة الفنية المتحدة بمصر 1386 هـ.
13 - صحيح البخاري، طبع دار الشعب - بالقاهرة، 1379.
14 - صحيح مسلم، بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي. طبع عيسى الحلبي، بالقاهرة - ط \ 1 - 1375 هـ \ 1955 م.
15 - طبقات المفسرين للداودي (ت 945 هـ) تحقيق علي محمد عمر - مطبعة الاستقلال الكبرى - ط \ 1 - 1392 هـ.
16 - فتح الباري - شرح صحيح البخاري - للحافظ ابن حجر العسقلاني، ثلاثة عشر جزءا، المطبعة السلفية، بالقاهرة.
17 - القاموس المحيط للفيروزآبادي المطبعة الحسينية المصرية - 1332هـ - 1919 م.
18 - كشف الظنون لحاجي خليفة - طبع وكالة المعارف بإستنبول 1364 هـ.
19 - لسان العرب لابن منظور، المطبعة الأميرية، بالقاهرة - ج \ 1 - 1300 هـ.
20 - معالم التنزيل، للبغوي، بهامش تفسير ابن كثير، مطبعة المنار، - بالقاهرة - 1945 م.
21 - المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني، المطبعة الفنية الحديثة بالقاهرة.
22 - مقدمة في أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية. المطبعة السلفية - بالقاهرة - ط \ 2 - 1385 هـ.
23 - منهج الفرقان في علوم القرآن لمحمد علي سلامة، مطبعة شبرا - 1938 م. بالقاهرة.
24 - المحلى لابن حزم (ت 456 هـ) تحقيق أحمد محمد شاكر - طبع دار(38/199)
التراث بالقاهرة.
25 - ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي (ت 748 هـ) تحقيق علي محمد البجاوي طبع دار المعرفة - بيروت.
يضاف إلى ذلك الكتب الخاصة بجمع أسباب النزول، وقد سبق بيان طبعاتها عند الحديث عن المؤلفات في أسباب النزول.(38/200)
الدعوة إلى الله وأسلوبها المشروع
لسماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله قائد الغر المحجلين وإمام الدعاة إلى رب العالمين، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله وأبناء كرام في هذا المكان المبارك في مكة المكرمة وفي رحاب البيت العتيق، للتناصح والتواصي بالدعوة إلى الله عز وجل وبيان ثمراتها وفوائدها وأسلوبها، أسال الله جل وعلا أن يجعله لقاء مباركا وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأن يولي عليهم خيارهم ويصلح قادتهم، وأن يرزقهم جميعا الفقه في الدين والاستقامة عليه، إنه جل وعلا جواد كريم، ثم أشكر القائمين على جامعة أم القرى وعلى رأسهم الأخ الكريم معالي الدكتور راشد بن راجح مدير هذه الجامعة على دعوته لي لهذا اللقاء، وأسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه وأن يبارك في جهود الجميع ويكللها بالصلاح والنجاح وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن وطوارق المحن إنه سميع قريب.
أيها الإخوة في الله عنوان هذه المحاضرة (الدعوة إلى الله سبحانه وأسلوبها المشروع) : الدعوة إلى الله شأنها عظيم وهي من أهم الفروض والواجبات على المسلمين عموما وعلى العلماء بصفة خاصة، وهي منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام وهم الأئمة فيها عليهم الصلاة والسلام، فالدعوة إلى الله طريق الرسل وطريق أتباعهم إلى يوم القيامة والحاجة إليها بل الضرورة معلومة، فالأمة كلها من أولها إلى آخرها بحاجة شديدة(38/201)
بل في ضرورة إلى الدعوة إلى الله والتبصير في دين الله والترغيب في التفقه فيه والاستقامة عليه والتحذير مما يضاده أو يضاد كماله الواجب، أو ينقص ثواب أهله ويضعف إيمانهم فالواجب على أهل العلم بشريعة الله أينما كانوا أن يقوموا بمهمة الدعوة لأن الناس في أشد الضرورة إلى ذلك في مشارق الأرض ومغاربها، ونحن في غربة من الإسلام وقلة من علماء الحق وكثرة من أهل الجهل والباطل والشر والفساد.
فالواجب على أهل العلم بالله وبدينه أن يشمروا عن ساعد الجد وأن يستقيموا على الدعوة وأن يصبروا عليها يرجون ما عند الله من المثوبة، ويخشون مغبة التأخر عن ذلك والتكاسل عنه، والله سبحانه وتعالى أوجب على العلماء أن يبينوا، وأوجب على العامة أن يقبلوا الحق وأن يستفيدوا من العلماء وأن يقبلوا النصيحة يقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) فأحسن الناس قولا من دعا إلى الله وأرشد إليه وعلم العباد دينهم وفقههم فيه وصبر على ذلك وعمل بدعوته ولم يخالف قوله فعله ولا فعله قوله، هؤلاء هم أحسن الناس قولا وهم أصلح الناس وأنفع الناس للناس وهم الرسل الكرام والأنبياء وأتباعهم من علماء الحق، فالواجب على كل عالم وطالب علم أن يقوم بهذا العمل حسب طاقته وعلمه وقد يتعين عليه إذا لم يكن في البلد أو في القبيلة أو في المكان الذي وقع فيه المنكر غيره، فإنه يجب عليه عينا أن يقول الحق وأن يدعو إليه، وعند وجود غيره يكون فرض كفاية إذا قام به البعض كفى وإن سكتوا عنه أثموا جميعا، فالواجب على أهل العلم بالله وبدينه أن ينصحوا لله ولعباده وأن يقوموا بواجب الدعوة في بيوتهم، ومع أهليهم، وفي مساجدهم، وفي طرقاتهم، وفي بقية أنحاء قريتهم وبلادهم، وفي مراكبهم من طائرة أو سيارة أو قطار أو غير ذلك،
__________
(1) سورة فصلت الآية 33(38/202)
فالدعوة مطلوبة في كل مكان أينما كنت والحاجة ماسة إليها أينما كنت، فالناس في الطائرة محتاجون وفي السيارة محتاجون وفي القطار محتاجون وفي السفينة محتاجون إلى غير ذلك، وأهلك كذلك يلزمك أن تعنى بهم أولا، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (1) وقال عز وجل لنبيه وخليله محمد عليه الصلاة والسلام: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (2) وقال سبحانه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (3) {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (4) فالواجب على طالب العلم أن يعنى بأهله ووالديه وأولاده وإخوانه إلى غير ذلك يعلمهم ويرشدهم ويدعوهم إلى الله ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر كما قال عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (5) ثم قال سبحانه: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (6) يعني من كان بهذه الصفة فهو المفلح على الحقيقة على الكمال.
وقد أمر الله بالدعوة في آيات ورغب فيها سبحانه كما في قوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} (7) الآية، وقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (8) وأخبر سبحانه أن الدعوة إلى الله على بصيرة هي سبيل النبي صلى الله عليه وسلم وهي سبيل أتباعه من أهل العلم كما قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (9) فالواجب علينا جميعا أن نعنى بهذه المهمة أينما كنا، والواجب على أهل العلم كما
__________
(1) سورة التحريم الآية 6
(2) سورة طه الآية 132
(3) سورة مريم الآية 54
(4) سورة مريم الآية 55
(5) سورة آل عمران الآية 104
(6) سورة آل عمران الآية 104
(7) سورة فصلت الآية 33
(8) سورة النحل الآية 125
(9) سورة يوسف الآية 108(38/203)
تقدم أن يعنوا بها غاية العناية ولا سيما عند شدة الضرورة إليها في هذا العصر، فإن عصرنا يعتبر عصر غربة للإسلام، لقلة العلم والعلماء بالسنة والكتاب ولغلبة الجهل، وكثرة الشرور والمعاصي وأنواع الكفر والضلال والإلحاد، فالواجب حينئذ يتأكد على العلماء في الدعوة إلى الله وإرشاد الناس إلى ما خلقوا له من توحيد الله وطاعته وأداء واجبه وترك معصيته يقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) ويقول عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) وهذه العبادة تحتاج إلى بيان، وهذه العبادة هي التي خلقنا لها وأمرنا بها وبعثت الرسل عليهم الصلاة والسلام لبيانها وللدعوة إليها، فلا بد من بيانها للناس من أهل العلم وهي الإسلام والهدى وهي الإيمان والبر والتقوى، هذه هي العبادة التي خلقنا لها أن نطيع الله ونطيع رسوله صلى الله عليه وسلم في الأوامر والنواهي وأن نخصه سبحانه وتعالى بالعبادة دون كل ما سواه، وهذه الطاعة تسمى عبادة لأنك تؤديها بذل وخضوع لله، والعبادة ذل وخضوع لله عز وجل وانكسار بين يديه بطاعة أوامره وترك نواهيه وأصلها وأساسها توحيده والإخلاص له وتخصيصه بالعبادة وحده دون كل ما سواه والإيمان برسله عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم خاتمهم وإمامهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام ثم فعل ما أوجب الله من بقية الأوامر وترك ما نهى الله عنه، هذه هي العبادة وهذه هي التقوى وهذه هي الإسلام الذي قال الله فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4) وهي الإيمان أيضا الذي قال الله فيه جل
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة آل عمران الآية 19(38/204)
وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «الإيمان بضع وسبعون شعبة (2) » . . . الحديث " أفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، هذا هو الإيمان وهو الهدى وهو الإسلام وهو العبادة التي خلقنا لها وهو البر. . . فهي ألفاظ متقاربة المعني، معناها طاعة الله ورسوله والاستقامة على دين الله، فمن استقام على دين الله فقد اتقى ومن استقام على دين الله فقد آمن به ومن استقام على دين الله فقد أخذ بالإسلام وأخذ بالهدى كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (3) ومن استقام على دين الله فهو على البر الذي قال فيه سبحانه: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (4) الآية، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (5) وقال سبحانه: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (6) فالدعوة إليه سبحانه هي دعوة إلى البر وإلى التقى وإلى الإيمان وإلى الإسلام وإلى الهدى، فعليك أيها العالم بالله وبدينه أن تنبه إلى هذا الأمر وأن تشرحه للناس وتوضح لهم حقيقة دينهم ما هو الإسلام؟ ما هو الإيمان؟ ما هو البر؟ ما هو التقوى؟ هو طاعة الله ورسوله، هو العبادة التي خلقنا لها، سماها الله إسلاما وسماها إيمانا وسماها هدى في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} (7) وسماها برا في قوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (8) {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (9) {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (10) إلى غير ذلك، وسماها الله إسلاما في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (11) وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (12) فالدعوة إلى الله جل وعلا دعوة إلى هذا الأمر، دعوة إلى عبادة الله التي خلقنا لها، دعوة إلى
__________
(1) سورة النساء الآية 136
(2) صحيح مسلم الإيمان (35) ، سنن الترمذي الإيمان (2614) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5005) ، سنن أبو داود السنة (4676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (57) ، مسند أحمد بن حنبل (2/414) .
(3) سورة النجم الآية 23
(4) سورة البقرة الآية 177
(5) سورة البقرة الآية 189
(6) سورة الانفطار الآية 13
(7) سورة النجم الآية 23
(8) سورة البقرة الآية 189
(9) سورة البقرة الآية 177
(10) سورة الانفطار الآية 13
(11) سورة آل عمران الآية 19
(12) سورة آل عمران الآية 85(38/205)
الاستقامة على ذلك، دعوة إلى طاعة الله ورسوله، دعوة إلى الإسلام، دعوة إلى البر، دعوة إلى الإيمان والمعنى أنك تدعو الناس إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له وطاعة أوامره وترك نواهيه وهذا الذي تدعو إليه يسمى إسلاما، ويسمى عبادة، ويسمى تقوى، ويسمى طاعة الله ورسوله، ويسمى برا، ويسمى هدى، ويسمى صلاحا وإصلاحا، كلها أسماء متقاربة المعنى.
فعلى الدعاة إلى الله وهم العلماء أن يبسطوا للناس هذا الأمر وأن يشرحوه وأن يوضحوه أينما كانوا مشافهة في خطب الجمعة وفي الدروس وفي المواعظ العامة، وفي المناسبات التي تحصل بينهم، يبينون للناس هذه الأمور ويوضحونها للناس وينتهزون الفرص في كل مناسبة، لأن الضرورة تدعو إلى ذلك والحاجة الشديدة تدعو إلى ذلك لقلة العلم والعلماء وكثرة الحاجة والضرورة إلى البيان، وهكذا يكون التعليم والتوجيه من طريق المكاتبات ومن طريق المؤلفات ومن طريق الإذاعة ووسائل الإعلام ومن طريق المكالمات الهاتفية، لا يتأخر العالم عن أي طريق يبلغ فيه العلم، تارة بالكتب وتارة بالخطب في الجمع وفي الأعياد وغيرها، وتارة بتأليف الرسائل التي تنفع الناس فالواجب أن يكون وقت العالم معمورا بالدعوة والخير وأن لا يشغله شاغل عن دعوة الناس كتعريفهم بدين الله، أن تكون أوقاته معمورة بطاعة الله والدعوة إلى سبيله والصبر على ذلك كما صبر الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) فمن أراد من أهل العلم أن يكون من أتباعه على الحقيقة فعليه بالدعوة إلى الله على بصيرة حتى يكون من أتباعه على الحقيقة، ينفع الناس وينفع نفسه ثم له بذلك مثل أجورهم ولو كانوا ملايين، هذه نعمة عظيمة وفائدة كبيرة لك
__________
(1) سورة يوسف الآية 108(38/206)
يا عبد الله الداعي إلى الله لك مثل أجور من هداه الله على يديك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » وهذا أمر عظيم من دعا إلى خير فله مثل أجر فاعله، دعوت كافرا فأسلم يكون لك مثل أجره، دعوت مبتدعا فترك البدعة يكون لك مثل أجره، دعوت إنسانا يتعامل بالربا فأطاعك يكون لك مثل أجره، دعوت إنسانا يتعاطى المسكر فأجابك يكون لك مثل أجره، دعوت إنسانا عاقا لوالديه فأطاعك وبر والديه يكون لك مثل أجره، دعوت إنسانا يغتاب الناس فترك الغيبة يكون لك مثل أجره، وهكذا، هذا خير عظيم «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (2) » . . وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (3) » وهذا الحديث من أصح الأحاديث، وقد رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. فأنت يا عبد الله إن دعوت إلى خير فلك مثل أجور المهتدين على يديك وإن دعوت إلى شر فعليك مثل أوزارهم وآثامهم، نسأل الله العافية.
وفي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي لما بعثه لخيبر: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (4) » وهذه الفائدة العظيمة، واحد من اليهود يهديه الله على يده خير له من حمر النعم، وأنت كذلك ذهبت إلى قرية من القرى أو مدينة من المدن أو قبيلة من القبائل فدعوتهم إلى الله وهدى الله على يديك واحدا خير لك من حمر النعم، والمقصود خير من الدنيا وما عليها، وهكذا لو كنت في بلاد فيها كفار فدعوتهم وهداهم الله على يديك لك مثل أجورهم ولك بكل واحد خير من حمر النعم، وهنا كفار
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(2) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(3) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(4) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(38/207)
يوجدون من العمال فإذا تيسر للعالم الذهاب إليهم ودعوتهم فهداهم الله على يديه أو هدى بعضهم يكون له مثل أجورهم فالدعوة إلى الله في كل مكان لها ثمراتها العظيمة مع الكفار، ومع العصاة، ومع غيرهم، قد يكون غير عاص لكن عنده كسل وعدم نشاط فإذا سمع دعوتك زاد نشاطه في الخير ومسابقته إلى الطاعات فيكون لك مثل أجره.
أما أسلوب الدعوة فبينه الرب جل وعلا وهو الدعوة بالحكمة أي بالعلم والبصيرة، بالرفق واللين لا بالشدة والغلظة، هذا هو الأسلوب الشرعي في الدعوة، إلا من ظلم، فمن ظلم يعامل بما يستحق لكن من يتقبل الدعوة ويصغي إليها أو ترجو أن يتقبله لأنه لم يعارضك ولم يظلمك فارفق به، يقول جل وعلا في كتابه العظيم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) فالحكمة هي العلم، قال الله قال رسوله، والموعظة الحسنة الترغيب والترهيب تبين ما في طاعة الله من الخير العظيم وما في الدخول في الإسلام من الخير العظيم وما عليه إذا استكبر ولم يقبل الحق إلى غير ذلك، أما الجدال بالتي هي أحسن فمعناه بيان الأدلة من غير عنف عند وجود الشبهة لإزالتها وكشفها، فعند المجادلة تجادل بالتي هي أحسن وتصبر وتتحمل، كما في الآية الأخرى، يقول سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (2) فالظالمون لهم شأن آخر لكن ما دمت تستطيع الجدال بالتي هي أحسن وهو يتقبل أو ينصت أو يتكلم بأمر لا يعد فيه ظالما ولا معتديا فاصبر وتحمل بالموعظة والأدلة الشرعية والجدال الحسن يقول الله سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (3) ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «البر حسن الخلق (4) » .
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة العنكبوت الآية 46
(3) سورة البقرة الآية 83
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2553) ، سنن الترمذي الزهد (2389) ، مسند أحمد بن حنبل (4/182) ، سنن الدارمي الرقاق (2789) .(38/208)
وقد أثنى الله على النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدعوة فقال جل وعلا: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (1) ونبينا صلى الله عليه وسلم أكمل الناس في دعوته، وأكمل الناس في إيمانه لو كان فظا غليظ القلب لانفض الناس من حوله وتركوه فكيف أنت؟ فعليك أن تصبر، وعليك أن تتحمل، ولا تعجل بسب أو كلام سيئ أو غلظة، وعليك باللين والرحمة والرفق، ولما بعث الله موسى وهارون لفرعون ماذا قال لهما؟ قال سبحانه: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2) فأنت كذلك لعل صاحبك يتذكر أو يخشى، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه (3) » وهذا وعد عظيم في الرفق ووعيد عظيم في المشقة ويقول عليه الصلاة والسلام: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (4) » ويقول صلى الله عليه وسلم «عليكم بالرفق فإنه لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (5) » .
فالواجب على الداعي إلى الله أن يتحمل وأن يستعمل الأسلوب الحسن الرقيق اللين في دعوته للمسلمين والكفار جميعا، لا بد من الرفق مع المسلم ومع الكافر ومع الأمير وغيره، ولا سيما الأمراء والرؤساء والأعيان فإنهم يحتاجون إلى المزيد من الرفق والأسلوب الحسن لعلهم يقبلون الحق ويؤثرونه على ما سواه وهكذا من تأصلت في نفسه البدعة أو المعصية ومضى عليه فيها السنون يحتاج إلى صبر حتى تقتلع البدعة وحتى تزال بالأدلة، وحتى يتبين له شر المعصية وعواقبها الوخيمة فيقبل منك الحق ويدع المعصية.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) سورة طه الآية 44
(3) صحيح مسلم الإمارة (1828) ، مسند أحمد بن حنبل (6/258) .
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2592) ، سنن أبو داود الأدب (4809) ، سنن ابن ماجه الأدب (3687) ، مسند أحمد بن حنبل (4/366) .
(5) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/222) .(38/209)
فالأسلوب الحسن من أعظم الوسائل لقبول الحق، والأسلوب السيئ العنيف من أخطر الوسائل في رد الحق وعدم قبوله وإثارة القلاقل والظلم والعدوان والمضاربات، ويلحق بهذا الباب ما قد يفعله بعض الناس من المظاهرات التي تسبب شرا عظيما على الدعاة، فالمسيرات في الشوارع والهتافات والمظاهرات ليست هي الطريق للإصلاح والدعوة، فالطريق الصحيح بالزيارة، والمكاتبات بالتي هي أحسن فتنصح الرئيس والأمير وشيخ القبيلة بهذا الطريق لا بالعنف والمظاهرة، فالنبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة لم يستعمل المظاهرات ولا المسيرات ولم يهدد الناس بتخريب أموالهم واغتيالهم، ولا شك أن هذا الأسلوب يضر الدعوة والدعاة ويمنع انتشارها ويحمل الرؤساء والكبار على معاداتها ومضادتها بكل ممكن، فهم يريدون الخير بهذا الأسلوب لكن يحصل به ضده فكون الداعي إلى الله يسلك مسلك الرسل وأتباعهم ولو طالت المدة أولى به من عمل يضر الدعوة ويضايقها أو يقضي عليها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فالنصيحة مني لكل داع إلى الله أن يستعمل الرفق في كلامه وفي خطبته وفي مكاتباته وفي جميع تصرفاته حول الدعوة يحرص على الرفق مع كل أحد إلا من ظلم، وليس هناك طريق أصلح للدعوة من طريق الرسل فهم القدوة وهم الأئمة وقد صبروا، صبر نوح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وصبر هود، وصبر صالح، وصبر شعيب، وصبر إبراهيم، وصبر لوط، وهكذا غيرهم من الرسل ثم أهلك الله أقوامهم بذنوبهم وأنجى الله الأنبياء وأتباعهم، فلك أيها الداعية أسوة في هؤلاء الأنبياء والأخيار، ولك أسوة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي صبر في مكة وصبر في المدينة على وجود اليهود عنده والمنافقين ومن لم يسلم من الأوس والخزرج حتى هداهم الله وحتى يسر الله إخراج اليهود وحتى مات(38/210)
المنافقون بغيظهم، فأنت لك أسوة بهؤلاء الأخيار، فاصبر وصابر واستعمل الرفق ودع العنف ودع كل سبب يضيق على الدعوة ويضرها ويضر أهلها، واذكر قوله تعالى يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (1) الآية.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح وحسن الدعوة إليه، وأن يوفق علماءنا جميعا في كل مكان ودعاة الحق في كل مكان للعلم النافع والبصيرة والسير على المنهج الذي سار عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام في الدعوة إليه وإبلاغ الناس دينه، إنه جل وعلا جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 35(38/211)
صفحة فارغة(38/212)
وظيفة الدولة في الشريعة الإسلامية
بقلم \ عثمان جمعة ضميرية (1)
تمهيد:
اقتضت إرادة الله تعالى أن تختم الرسالات السماوية برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، برسالة إلهية شاملة جامعة، ودعوة عالمية خالدة، تهدف إلى صلاح الفرد والمجتمع وإلى خير الإنسانية جميعها.
ودعوة هذا شأنها لا بد أن تنظم العلاقة بين الفرد وخالقه، وبين الفرد وأخيه في المجتمع، وبين الفرد والمجتمع كله، وهكذا جاءت الدعوة الإسلامية منظمة لهذه العلاقات كلها في إطار دعوة التوحيد، التي تحقق الكرامة الإنسانية والحق والخير والعدالة للناس كافة. وفي الوقت نفسه جاءت هذه الدعوة الإلهية لتشمل نشاط الإنسانية بكل جوانبه، فهي لم تعن بالناحية الروحية مثلا وتهمل الجانب العقلي، كما أنها لم تعن بواحد منهما على حساب الجسم، وإنما كانت تهتم بكل جوانب الكيان البشري: روحا وعقلا وجسما، كما أنها لم تنظم العلاقة بين الأفراد فحسب، بل شملت بتنظيمها العلاقة الدولية للمسلمين، وهذا ينبئ أن الإسلام ليس دينا عقديا فحسب، لا شأن له بالدنيا والدولة، بل هو دين ودولة، فهما متلازمان، فالدولة من الدين، والدين بجملة أحكامه لا بد له من دولة تقيمه وتحميه، وقد بدا هذا الأمر ملازما للدعوة الإسلامية منذ أول عهدها، وقد عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحقيق هذا الفكرة بالهجرة إلى المدينة المنورة، التي أصبحت نواة الدولة الإسلامية الجديدة، ومنها امتدت إلى مختلف البقاع (2) .
__________
(1) وردت ترجمة للباحث في العدد 16 الصفحة (297) .
(2) انظر: منهج الإسلام في الحرب والسلام، تأليف عثمان جمعة ضميرية، ص (7 - 8) .(38/213)
المقصود بالدولة في هذا البحث:
ولن نقصد من الدولة في بحثنا هذا ما يقصده علماء القانون الدستوري الوضعي حين يعرفون الدولة بأنها: (جماعة من الناس استقر بهم المقام على وجه الدوام في إقليم معين، وتسيطر عليهم هيئة حاكمة تتولى شئونهم في الداخل والخارج) (1) .
وإنما نقصد عندما نطلق اسم الدولة في هذا البحث: الحاكم، أو ولي الأمر الذي يمثل الدولة، ويقوم بتنفيذ حكم الله تعالى في الأرض.
والولي في اللغة: يطلق على الصديق والنصير والمحب، وهو يستعمل في معنى الفاعل، وفي معنى المفعول.
والولاية بالكسر: السلطان، والولاية بالفتح: النصرة، ويقال: تولى العمل أي: تقلده.
وفي الاصطلاح: الولاية هي الكلمة العامة التي أطلقها المسلمون على سلطة الحكم، وتشمل أجزاء كثيرة ومراتب عديدة، تتم بها إدارة الدولة وسياسة الحكم، ورعاية الأمة ومصالحها، من الإمامة العظمى أو الخلافة حتى أصغر الولايات أو الوظائف، كما نسميها في هذا العصر (2) .
ويطلق ولي الأمر في الاصطلاح على الولاة الذين يتولون أمور الرعية، وهم الأمراء وأصحاب السلطة، كما يطلق على العلماء أيضا.
واختلف في المراد بأولي الأمر في قول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (3) .
__________
(1) نظام الحكم الإسلامي، للدكتور محمود حلمي، ص (9) .
(2) آراء ابن تيمية في الدولة، للشيخ محمد المبارك ص (26 و 33) .
(3) سورة النساء الآية 59(38/214)
فقيل: إنهم الأمراء والولاة، وقد أخرج هذا الطبري عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرج نحوه عن ميمون بن مهران وغيره، وهو ما يرجحه البخاري، إذ ترجم لأول باب في كتاب الأحكام من الصحيح فقال: باب قول الله تعالى:. . . {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) ثم أورد حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني (2) » .
ويتأيد هذا المعنى بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة (3) » .
وقيل: إنهم العلماء، ونقل هذا عن مجاهد وعطاء والحسن وأبي العالية، وعن جابر رضي الله عنه قال: هم أهل العلم والخير (4) .
* وقد جمع بعض العلماء، بين المعنيين فقالوا: إن المراد بهم: الأمراء والعلماء، لأن الاسم يتناولهما، فللأمراء تدبير أمر الجيش والقتال. . .، وللعلماء حفظ الشريعة وبيان ما يجوز وما لا يجوز. وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (وأولو الأمر: أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل الفهم والكلام، ولهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس) .
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) أخرجه البخاري في الأحكام، 13 \ 111 ومسلم في الإمارة: 3 \ 1466.
(3) انظر فتح الباري: 13 \ 121.
(4) انظر فتح الباري: 8 \ 254، تفسير الفخر الرازي: 10 \ 144، تفسير الطبري: 5 \ 95.(38/215)
* ولقد أجمعت الأمة الإسلامية - إلا من شذ - على وجوب إقامة ولي الأمر (الحاكم أو الخليفة) شرعا، والأدلة على ذلك كثيرة من النصوص الشرعية كقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته (1) » .
*وعمدة الأدلة، بعد النصوص الشرعية، في إثبات وجوب الإمامة هو الإجماع، فهو دليل قاطع على ذلك منذ عهد الصحابة، لأن الصحابة عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بادروا إلى بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر بعد ذلك.
كما أن نصب الإمام ضروري لدفع أضرار الفوضى، ولتنفيذ كثير من الواجبات الدينية التي لا يتولاها آحاد الأمة، ولن يتحقق العدل الكامل إلا بوجود إمام للمسلمين وبوجود خلافة لحمل كافة الناس على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية، والدنيوية الراجعة إلى الأخروية أيضا، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأحكام: 13 \ 111 من فتح الباري ومسلم في الإمارة: 3 \ 1459.(38/216)
المهمة الأساسية للدولة المسلمة:
* وإذا قامت الدولة الإسلامية التي يمثلها ولي الأمر، فإنها تضطلع بالواجب الأساس، وهو تطبيق شريعة الله تعالى وإفراده بالعبودية والحاكمية، تحقيقا لمقتضى الخلافة في الأرض، إذ أن الله تعالى إنما(38/216)
استخلف الإنسان في هذه الأرض ليقيم فيها حكم الله تعالى وشريعته، فالله سبحانه وتعالى هو الحاكم والمشرع وحده، حيث قال سبحانه:. . . {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (1) والسنة عند التحقيق راجعة إلى الكتاب الكريم.
*والدولة المسلمة هي الدولة التي تحقق العبودية لله تعالى وتطبق شرعه وأحكامه في كل مجالات الحياة، وترجع الأمر كله لله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} (2) ، ولا تقوم هذه الدولة إلا بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله تعالى وفق ما قرره من شريعة مبينة، إذ أن التشريع والحاكمية من أخص خصائص الألوهية، فيجب أن يفرد بها الله تعالى.
(وقد بت الإسلام في مسألة الحاكمية القانونية وقضى أنها لله تعالى وحده، الذي لا يقوم هذا الكون، ولا تسير شئونه إلا حاكميته الواقعية، والذي له حق الحاكمية على الناس من غير مشارك ولا منازع، وذلك ما بينه القرآن الكريم وأبدأ في ذكره وأعاد في ما لا يكاد يعد ويحصى من آياته الكريمة، وبقوة من البيان لا يمكن أن يؤتى بمثلها لإثبات أمر ما، فقال سبحانه:. . . {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (3) وقال: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (4) وقد عبر عن الانحراف عن حكم الله تعالى بالكفر الصريح، فقال:. . . {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (5) .
__________
(1) سورة يوسف الآية 40
(2) سورة الأعراف الآية 54
(3) سورة يوسف الآية 40
(4) سورة الأعراف الآية 3
(5) سورة المائدة الآية 44(38/217)
*ويتضح من هذا وضوحا تاما أن الإسلام والإيمان إنما هما عبارة عن التسليم بحاكمية الله القانونية والإذعان لها، وما الجحود بها إلا كفر صريح (1) .
__________
(1) نظرية الإسلام وهديه في السياسة..لأبي الأعلى المودودي ص (256 - 257) .(38/218)
وولي الأمر يقوم بوظيفتين:
الأولى: إقامة الدين الإسلامي وتنفيذ أحكامه، والثانية: القيام بسياسة الدولة التي رسمها الإسلام، على أننا نستطيع أن نكتفي بالقول بأن وظيفة الخليفة هي إقامة الإسلام لأن الإسلام - كما علمنا - دين ودولة، فإقامة الإسلام هي إقامة للدين وقيام بشئون الدولة في الحدود التي رسمها الإسلام.
*وقد جاءت الآيات القرآنية الكريمة تبين أن وظيفة الدولة الإسلامية - أو وظيفة ولي الأمر - هي أن تقيم المآثر والمكارم التي يجب أن تتحلى بها الحياة البشرية، وتبث الخير، وتبذل جهد المستطاع في رقيها وتعميم ميراثها، وأن تستأصل وتنفي عن الأرض كل ما يبغضه الله من الفواحش والمنكرات، وتطهرها من شوائبها وأدناسها، وأن تقيم الصلاة وتأخذ الزكاة، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن تسوس أمور الناس في حدود ما أنزل الله تعالى.
*وقد أجمل الدكتور محمد عبد الله العربي - رحمه الله - هذه الوظائف التي نصت عليها الآيات القرآنية الكريمة: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) فقال:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104(38/218)
أول ما يفرضه هذا الإرشاد الإلهي على المجتمع الإسلامي هو إقامة هيئة تضطلع بأداء وظائف ثلاث:
الوظيفة الأولى: هي الدعوة إلى الخير، والدعوة إلى الخير إذا قامت بها الهيئة ذات السلطان في المجتمع فليس معناها مجرد الدعوة، بل العمل الإيجابي على تحقيق مقتضيات الخير للمجتمع، وإذن فالدولة الإسلامية لن تكون إلا دولة خيرة، دولة شعارها تحقيق فلاح المجتمع الإنساني في كل آفاقه.
والوظيفة الثانية: هي الأمر بالمعروف، والمعروف هو كل الأصول الكلية التي فرضها الله تعالى لصالح المجتمع الإسلامي، وكل ما يبنى عليها ويتفرع منها.
والوظيفة الثالثة: هي النهي عن المنكر، والمنكر هو كل ما نهت عنه النصوص والأصول الكلية، وكل ما يقاس عليها في إلحاق الضرر بالمجتمع (1) .
وليس هذا حصرا لكل وظائف الدولة، وإنما هو بيان إجمالي لها، لأن الدولة تقوم بكثير من الواجبات والوظائف الإيجابية والسلبية.
* يقول الأستاذ المودودي: (إن الدولة التي يريدها الإسلام ليس لها غاية سلبية فقط، بل لها غاية إيجابية أيضا، أي ليس من مقاصدها المنع من عدوان الناس بعضهم على بعض، وحفظ حرية الناس، والدفاع عن الدولة فحسب، بل الحق أن هدفها الأسمى هو نظام العدالة الاجتماعية الصالح الذي جاء به كتاب الله، وغايتها في ذلك النهي عن جميع المنكرات التي ندد بها الله تعالى بها في آياته، واجتثاث شجرة الشر من
__________
(1) النظم الإسلامية، د. محمد عبد الله العربي: 1 \ 122، مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية: 1 \ 155.(38/219)
جذورها، وترويج الخير المرضي عند الله تعالى، المبين في كتابه، ففي تحقيق هذا الغرض تستعمل القوة السياسية تارة، ويستفاد من منابر الدعوة والتبليغ العام تارة أخرى، ويستخدم لذلك وسائل التربية والتعليم طورا، ويستعمل لذلك الرأي العام والنفوذ الاجتماعي طورا آخر، كما تقتضيه الظروف والأحوال. فمن الظاهر أنه لا يمكن لمثل هذا النوع من الدولة أن تحدد دائرة عملها، لأنها شاملة محيطة بالحياة الإنسانية بأسرها، وتطبع كل فرع من الفروع الحياة الإنسانية بطابع نظريتها الخلقية الخاصة وبرنامجها الإصلاحي الخاص، فليس لأحد أن يقوم في وجهها ويستثني أمرا من أموره قائلا: إن هذا أمر شخصي خاص لكي لا تتعرض له الدولة.
وبالجملة: إن الدولة الإسلامية تحيط بالحياة الإنسانية وبكل فرع من فروع الحضارة وفق نظريتها الخلقية وبرنامجها الإصلاحي) (1) .
ويقول أيضا: (ليست المهمة الحقيقية التي تتولاها الدولة الإسلامية في الأرض هي أن تعمل على إقامة الأمن والدفاع عن حدود البلاد أو رفع مستوى معيشة الأهالي، فما هذا هو الغرض الأقصى والغاية العليا من وراء قيام الدولة الإسلامية، فإن الميزة التي تميزها عن سائر الدول غير المسلمة هي أن تعمل على ترقية الحسنات التي يريد الإسلام أن يحلي بها الإنسانية، وتستنفذ جهودها في استئصال السيئات التي يريد الإسلام أن يطهر منها الإنسانية) (2) .
* فالدولة الإسلامية لا تقتصر وظيفتها على الوظيفة التقليدية، وهي حفظ الأمن الداخلي والخارجي وإقامة مرفق القضاء، ولا على التدخل أو
__________
(1) نظرية الإسلام وهديه في السياسة.. للمودودي ص (45 - 46) .
(2) نظرية الإسلام السياسية للمودودي ص (277 - 278) .(38/220)
الإشراف على الحياة الاقتصادية، ولكنها تتجاوز ذلك إلى التدخل لتنسيق الحريات الفردية في مجال الأخلاق بغية تأمين حياة خلقية أرقى، وفسح المجال لنمو الحياة الخلقية والروحية في الاتجاهات الخلقية السامية، وبذلك يدخل العنصر الأخلاقي في جملة العناصر التي تكون الدولة وأهدافها (1) .
* وليس هناك ما يحد من اختصاصات الدولة ووظائفها، إذ أنها تقوم بعمل يؤدي إلى جلب المصالح ودفع المضار، وإلى إقامة القسط في حقوق الله وحقوق العباد، ولتكون كلمة الله هي العليا، وليكون الدين كله لله.
ومن أجل ذلك تمارس الدولة أو ولاة الأمور عددا من الأعمال يمكن توزيعها في عدة ولايات، كولاية الحرب والقضاء والمال وغيرها، وهذا التوزيع والاختصاصات راجع إلى عرف الناس وليس له حد في الشرع (2) .
__________
(1) آراء ابن تيمية في الدولة، للأستاذ محمد المبارك ص (67، 68) .
(2) آراء ابن تيمية ص (53) ، النظريات السياسية د. محمد ضياء الدين الريس ص (279) .(38/221)
واجبات الخليفة:
وقد عدد الماوردي، وكذلك القاضي أبو يعلى الفراء، واجبات الخليفة أو الإمام بما يعتبر أساسا لكثير من وظائف الدولة الإسلامية، ففي الأحكام السلطانية للماوردي يقول:
والذي يلزم الإمام من الأمور العامة عشرة أشياء:
الأول: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع، أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروسا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.(38/221)
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين. حتى تعم النصفة، فلا يعتدي ظالم ولا يضعف مظلوم.
الثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم، ليتصرف الناس بالمعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.
الرابع: إقامة الحدود، لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف أو استهلاك.
الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة، حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرما أو يسفكون لمسلم أو معاهد دما.
السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة، ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله.
السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا أو اجتهادا، من غير خوف ولا عسف.
الثامن: تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه في وقته لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع: استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال، لتكون الأعمال مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة.
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض، تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح (1) .
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي ص 15و16، وبالنص نفسه في الأحكام لأبي يعلى الفراء.(38/222)
وظائف الدولة، تفصيلا:
وإذا أردنا شيئا من التفصيل والتنظيم لهذه الوظائف التي عددها العلماء قلنا: إن الدولة تقوم بالوظائف التالية:
أولا: الوظيفة الدينية:
* وهي أهم الوظائف وأولاها، بل إن إقامة الإمامة نفسها وظيفة دينية، يقوم بها مجموع الأمة الإسلامية، والمقصد الأول من إنزال الشريعة هو حفظ الدين، يقول الشاطبي، رحمه الله:
" تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: " أحدها " أن تكون ضرورية، و " الثاني " أن تكون حاجية، " والثالث " أن تكون تحسينية.
والضرورية معناها: أنه لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين. . . ومجموع الضروريات خمسة وهي: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل، وقد قال العلماء: إنها مراعاة في كل ملة من الملل (1) .
ويقول الغزالي: " ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم (2) .
فالاتفاق حاصل بين العلماء على أن الدين له المرتبة الأولي بين هذه الضروريات، ولما كان واجب الدولة أن تحقق المصلحة بحفظ هذه الضروريات كان من أول وظائفها حماية الدين ونشره وذلك بنشر عقيدة
__________
(1) انظر: الموافقات للشاطبي: 2 \ 8 - 10.
(2) انظر: المستصفى للغزالي: 1 \ 287 ومعه فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت.(38/223)
التوحيد التي تحرر البشر من الوثنية والعبودية لغير الله تعالى، بكل صورها.
وإلى هذه الوظيفة أشار الماوردي بقوله عن الواجب الأول للإمام: (حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة) .
* وليس معنى هذا أن سائر الوظائف لا علاقة لها بالدين، لأن الإسلام يمزج بين الدين والحياة وبين الوظيفة الدينية وغيرها من الوظائف، مزجا رائعا متكاملا، حتى أن كل الوظائف التي تقوم بها الدولة أصبحت وظائف دينية، يقول ابن القيم - رحمه الله- عن ولاية القضاء وولاية الحرب والحسبة والمال، يقول (1) :
" جميع هذه الولايات، في الأصل، ولايات دينية ومناصب شرعية، فمن عدل في ولاية من هذه الولايات وساسها بعلم وعدل، وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان، فهو من الأمراء الأبرار العادلين، ومن حكم فيها بجهل وظلم فهو من الظالمين المعتدين {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (2) {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (3) .
__________
(1) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن القيم ص (279 - 280) .
(2) سورة الانفطار الآية 13
(3) سورة الانفطار الآية 14(38/224)
ثانيا: الوظيفة الخلقية:
* حيث تقوم الدولة بتنظيم حياة المجتمع الخلقية بإزالة المنكرات التي تفسد الأخلاق، والتي حرمتها الشريعة، وتقوم بتهيئة الجو الصالح لارتقاء الناس خلقيا، وتهذيب نفوسهم، والتدخل في أعمال الأفراد الضارة بأخلاق الناس المفسدة لهم.
*وهذه الوظيفة هي التطبيق العملي لأصل جامع كبير وهو (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وعليه يتوقف صلاح أمر الدين والدنيا، وقد(38/224)
تواردت الآيات الكريمات والأحاديث الشريفة صريحة في الدعوة إليه، فقال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) .
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) . . . الخ.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (3) » . وقال أيضا: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم (4) » .
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: " يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (5) ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه (6) » .
*وانطلاقا من هذا المبدأ العظيم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نشأت ولاية الحسبة وولاية المظالم، لتقوم كل منهما بأداء هذا الغرض في صورة رسمية نيابة عن الدولة التي تتولى هذه المهمة عندما يتقاعس عنها
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) سورة الحج الآية 41
(3) أخرجه مسلم في الإيمان برقم (78) : 1 \ 69.
(4) أخرجه أبو داود في الملاحم: 6 \ 118 من تهذيب السنن، والترمذي في الفتن: 6 \ 391، وقال: حديث حسن، وأخرجه أحمد في المسند: 5 \ 388، قال المنذري: وأخرجه ابن ماجه مرسلا، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. وانظر: فيض القدير للمناوي: 6 \ 131.
(5) سورة المائدة الآية 105
(6) أخرجه أبو داود في الملاحم: 6 \ 187، والترمذي في الفتن: 6 \ 388، وابن ماجه في الفتن: 2 \ 1327،. وابن حبان برقم (1837) والبغوي في شرح السنة: 14 \ 344. وإسناده صحيح.(38/225)
الأفراد، ويقول ابن خلدون عن ولاية الحسبة: (هي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يعين لذلك من يراه أهلا له، فيتعين فرضه عليه، ويتخذ الأعوان على ذلك، ويبحث عن المنكرات، ويعزر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة) (1) .
__________
(1) انظر مقدمة ابن خلدون، ص (225) .(38/226)
ثالثا- الوظيفة السياسية:
*تقوم الدولة أيضا بوظيفة سياسية، فهي مسئولة عن تطبيق النظام السياسي في الإسلام وتنفيذ قواعده ومبادئه، حيث يشاور ولي الأمر أهل الحل والعقد، ولا يقطع أمرا دون مشورتهم، كما أن عليه أن ينظم علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول، ويوفد السفارات ويستقبل السفراء، ويعقد المعاهدات، وعليه أن يحافظ أيضا على الأمن الداخلي في البلاد ويكفل كل أسبابه ليهيئ لشعبه حياة مستقرة آمنة.
*وحسبنا هذه الإشارة إلى هذه الوظيفة، مع الإشارة إلى أن هناك مؤلفات خاصة كتبها علماؤنا في القديم والحديث لبيان أصول النظام السياسي الإسلامي وقواعده.(38/226)
رابعا - الوظيفة الاجتماعية:
*ومن وظائف الدولة الإسلامية أيضا: الوظيفة الاجتماعية، إذ يجب على الدولة أن تقوم بإيجاد الوسائل التي يتحقق بها العمران، وتوفر أسباب المعيشة للناس، وبها تكثر الثروة وينمو الإنتاج، وهذا مما يدل دلالة(38/226)
قاطعة على أن الإسلام دين إنشاء وتعمير، وتهمه شئون الدنيا، في إطار الدين، كما تهمه شئون الدين نفسه.
*وقد نص العلماء على وجوب القيام بكثير من الأعمال والصنائع التي تهيئ للمجتمع حياة طيبة اجتماعية، وتضمن له التقدم والازدهار والحفاظ على الصحة والعلاقات والروابط الاجتماعية العامة، والقيام بالصناعات والحرف الضرورية للمجتمع، ويجبر من يمتنع عن ذلك ممن يتعين للقيام بهذه المهن الضرورية، وتضمن الدولة نفقات كثيرة من هذه الواجبات.(38/227)
خامسا الوظيفة الثقافية والتربوية:
* وتقوم الدولة أيضا بوظيفة تربوية وثقافية، حيث تهيئ للمواطنين كل أسباب التعليم والثقافة، وتربيهم على المبادئ الإسلامية، ومن هنا أوجب علماء الإسلام القيام بكثير من فروض الكفاية فيما يتعلق بالجانب التربوي والتعليمي.
قال النووي، رحمه الله: (ومن فروض الكفاية: القيام بإقامة الحج وحل المشكلات في الدين، والقيام بعلوم الشرع كالتفسير والحديث والفقه بحيث يصلح من يقوم به للقضاء. . .) (1) .
وقال الغزالي (أما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا، كالطب، إذ هو ضروري في حالة بقاء الأبدان، وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات، وكذلك أصول الصناعات) (2) .
" وفي تبيين المحارم "، من كتب الحنفية، يقول: (وأما فرض الكفاية
__________
(1) المجموع للنووي: 1 \ 44 - 45.
(2) عن النظريات السياسية للريس ص (274) .(38/227)
من العلم: فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا، (كالطب والحساب والنحو واللغة والقراءات، وأسانيد الحديث، وقسمة المواريث، والكتابة والمعاني والبيان والبديع والأصول ومعرفة الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، وأصول الصناعات والفلاحة والحياكة والسياسة والحجامة) (1) .
*وتكفل الدولة القيام بهذه الفروض، ولها في ذلك أسوة حسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو رئيس الدولة الإسلامية الأولى، حيث كان يشجع التعليم باللقاء مع أصحابه وتعليمهم وإرشادهم وتربيتهم، وقد طلب من أسرى بدر المشركين أن يعلم كل واحد منهم، ممن لم يجد الفداء، عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.
__________
(1) حاشية ابن عابدين 1 \ 42.(38/228)
سادسا: الوظيفة الدفاعية:
* الدفاع عن الدين والوطن، وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله تعالى، من أهم الواجبات للدولة الإسلامية، فهي تقوم بهذه الوظيفة مستهدفة حماية حرية نشر العقيدة الإسلامية وتأمين حدود الدولة من أي اعتداء خارجي، وفي هذا ضمان لإزالة كل العقبات التي تقف في طريق تحرير الإسلام للإنسان من كل عبودية لغير الله تعالى، ولذا كان أصل القتال المشروع هو الجهاد في سبيل الله " ومقصوده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن منع هذا قوتل - باتفاق المسلمين - وأما من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنساء والصبيان، والراهب والشيخ الكبير والأعمى، والزمن، ونحوهم، فلا يقتل عند الجمهور من العلماء، إلا أن يقاتل بقوله أو فعله، وإن كان بعضهم يرى(38/228)
إباحة قتل الجميع لمجرد الكفر، إلا النساء والصبيان لكونهم مالا للمسلمين، والأول هو الصواب، لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار الدين ".
* وقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان إذا بعث جيشا قال: انطلقوا باسم الله، لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا صغيرا ولا امرأة (1) » .
وقال لخالد بن الوليد رضي الله عنه: «لا تقتلن امرأة ولا عسيفا (2) » .
وإلى هذه الوظيفة أشار الماوردي عن الواجب الخامس للإمام، فقال: " تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا تظهر الأعداء بغرة، فينتهكون فيها محرما، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهدا دما ".
وقال: " السادس - من واجبات الإمام -جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة، ليقام بحق الله في إظهار الإسلام على الدين كله " (3) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجهاد: 3 \ 418. قال يحيى بن معين: خالد بن الغزار ليس بذاك. ولحديث شواهد يتقوى بها.
(2) أخرجه أبو داود في الجهاد: 4 \ 13، وابن ماجه في الجهاد برقم (2842) 2 \ 948، وعزاه المنذري للنسائي في السنن الكبرى. وإسناده صحيح. والعسيف هو: الأجير.
(3) الأحكام السلطانية للماوردي، ص (15) .(38/229)
سابعا: الوظيفة القضائية وإقامة العدل:
*العدل قوام العالمين، لا تصلح الدنيا والآخرة إلا به، ومن هنا كان من واجب الدولة أن تقيم العدل، وقد أوجب الإسلام على المسلمين أن(38/229)
يعدلوا في شئونهم كلها، حتى مع الأعداء، فقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (1) .
وقال سبحانه:. . . {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (2) .
*والقضاء من أعظم الفرائض التي اهتم بها علماء المسلمين، ونوهوا بجليل خطره، ووضعوا لمن يتولاه الشروط الدقيقة الخاصة، وحددوا اختصاصات القاضي، وعنوا بإجراءات التقاضي وواجبات القاضي، ونظموا كل ما يتعلق بالنظم القضائية.
* والغرض من القضاء: إقامة العدل، ورفع الخصومات، وتنفيذ أحكام الشريعة، والأخذ على أيدي أهل الفساد، وإعطاء كل ذي حق حقه، ليستتب الأمن وتصان مصالح المجتمع، ويتفرغ الناس لما يصلحهم دينا ودنيا.
*يقول ابن خلدون: " وأما القضاء، فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة، لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسما للتداعي، وقطعا للتنازع " (3) .
*وكتاب سيدنا عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء أصل في ذلك، وفيه جملة طيبة من قواعد القضاء وأحكامه، وفيه يقول:
" أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي
__________
(1) سورة النساء الآية 58
(2) سورة المائدة الآية 8
(3) مقدمة ابن خلدون، ص (220) .(38/230)
إليك لأنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وآس بين الناس في وجهك ومجلس عدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين. . .
ويتفرع عن القضاء ولاية المظالم، " وهي وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء، وتحتاج إلى علو يد وعظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين، وتزجر المعتدي ".(38/231)
ثامنا - الوظيفة الإدارية:
تقوم الدولة بنشاط إداري يشمل - بصفة عامة -جميع أوجه إقامة المصالح وجلبها، ومنع المفاسد ودرئها، وذلك سواء بالأعمال ذات الطبيعة الاجتهادية، أو بالأعمال ذات الطبيعة القضائية، وهي الفصل في الخصومات، أو بالأعمال الإدارية المحضة، ومشارفة الأمور ومراقبة سير العمل.
*وإن عمل الإدارة في النظام الإسلامي: أن تطبق الشريعة الإسلامية فيها تقوم به من عمل بإنشاء المراكز للأفراد، أو بإصدار الأوامر الملزمة لهم أو بغيره، كمنح المزايا أو تغيير الوصف أو تقييده، وبإصدار القواعد التنظيمية اللازمة لتطبيق الشريعة، ويصح أن يكون عمل الإدارة تنفيذا ماديا.(38/231)
وليس الفصل تاما بين السلطة القضائية والإدارية، إذ لا يمتنع أن تقوم السلطة الإدارية بإصدار الأحكام في منازعات قضائية، وإن قام عمل شبه مستقر على أن هناك أمورا يقوم بها الوالي - ممثلا للسلطة الإدارية -وأخرى يقوم بها القاضي، وليس لذلك حد في الشرع، إذ أن العرف والأحوال يحكمان في ذلك.
ويشير الماوردي إلى هذه الوظيفة بقوله: " استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال. . ".
ويقول: ". . أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة ".(38/232)
تاسعا: الوظيفة الاقتصادية:
تلكم هي أهم الوظائف العامة التي تضطلع بها الدولة، ولما كان تدخل الدولة في المجال الاقتصادي قد ازداد في هذا العصر، واتسعت سلطات الدولة في هذا المجال، فمن المناسب أن نخصص لوظيفة الدولة من الناحية الاقتصادية بحثا برأسه لما لذلك من أهمية بالغة، ونسأل الله تعالى أن يعين على التمام.
والحمد لله رب العالمين.(38/232)
عادات وافدة يجب الحذر منها
بقلم د. محمد بن سعد الشويعر (1)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام المهتدين، وسيد الأولين والآخرين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: -
فيقول صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قيل: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن (2) » قال الراوي: أي فمن المعني غيرهم.
ومن العادات الوافدة على المجتمع الإسلامي وينميها بعض المثقفين في البيئات الإسلامية يدرك المتابع للأمور أن هناك أشياء سار فيها الناس تقليدا لمنحى يغاير منحى الإسلام، ففي شهر أبريل مثلا الذي اقترن بكذبة أبريل المشهورة لدى المثقفين ثقافة غربية، والتي نراها متفشية في كثير من دول الإسلام حيث اعتادها بعضهم واقترنت بهذا الشهر كلازمة من لوازمه أحيانا بالمزاح ويسمونها الكذبة البيضاء، وطورا بالجد، فيقع بذلك مشكلات عديدة، وأمور لا تحمد عقباها.
__________
(1) وردت ترجمة للباحث في العدد التاسع، في الصفحة (289) في مجلة البحوث الإسلامية.
(2) رواه مسلم.(38/233)
كما يلمس المسافر لبلاد الغرب من يتشاءم من الرقم (13) ، بحيث إنه من المألوف وجود عمارات يغفل في مصاعدها الرقم (13) ، كما يتجاهلون ذلك الرقم في أدوار المباني، وفي أرقام الدور، وفي الهواتف وكل ما له صلة بالإنسان في تعامله، وبكل أسف سرت هذه العادة في ديار الإسلام، حيث لاحظت في إحدى المدن في دولة إسلامية وجود عمارة لا يضاء الدور (13) ليلا مما يدل على أنه غير مسكون وأمثال هذا كثير، سواء كانت كلمات وافدة تقال باللسان، مثل نجا من الموت بأعجوبة، أو تصرفا بين الناس ككذبة أبريل، أو لعبة للأطفال ترسخ نتائجها مع الحدث المقترنة به، كبابا نويل، أو حادثة ترتبط بحياة الإنسان، ولادة ونجاحا، وغيرها من المناسبات ذات الأثر الراسخ كشموع عيد الميلاد، ومظاهر رأس السنة الميلادية، وإطفاء الأنوار في ليلتها، وغير ذلك من أمور بدأ يستحسنها الناس مبدئيا، ثم يقلدونها عملا.
ومثل ذلك ما يتشاءم منه بعضهم من أمور لأنه يرمز إلى حادثة بعينها، وجذور عميقة يجب ترسيخها في النفوس، وهي تعني عندهم أمرا يتغاير عما ترمي إليه تعاليم الإسلام، وغير هذا من أمور كثيرة يلمسها المتابع أثرا في الأجيال، وثقافة يهتم بها وينميها نوعيات من أبناء المسلمين - كما أسلفنا - ممن درس في بلاد الغرب، وتشبع بثقافتهم، ونسي منبعه الأساسي في الثقافة، ومرتكزه المكين في الدين والعلم، ثم يتبعهم في ذلك(38/234)
بعض العوام من باب التقليد، ذلك الأساس الذي يستمد من مصادر علوم الإسلام، وما أبانه علماء المسلمين، أشياء صائبة، فيما يجب على المسلم اعتقاده، والعمل بموجبه، في أمور حياته، وما يعود عليه في أخراه بالأجر والجزاء الدائم.
والمسلمون أمة أصيلة في منبع ثقافتها، ومكينة في حسن توجيهها، ولذا فإنه يجب على كل فرد أن يمحص كل أمر يمر به حتى لا يخدع ويطعن في دينه من حيث يدري أو لا يدري، وحتى لا يرسخ في أذهان الناشئين ما ليس له أصل في معتقد دينهم، وأساس نجاتهم وسعادتهم.
بل الأدهى من ذلك، ما يكون فيه محاربة للدين، وخروج على تعاليمه، وما يجب أن يكون عليه منهج أبنائه، والناس لا يتبصرون في النتائج، ونضرب لذلك مثلا بما يوجد على ألسنة كثير من أبناء المسلمين في كلمات تباعدهم عن الدين، ويستمرئونها كلاما فيما بينهم، ونقلا في وسائل الثقافة، وترديدا في وسائل الإعلام وهم عنها غافلون، وبعض العلماء من حولهم لا ينتبهون إلى ذلك، إخلالا برسالة الله التي حملهم إياها رب العزة والجلال، كالحلف بغير الله، ودعاء القبور، والتماس المدد من أصحابها، وسب الدين والتطاول على رب العزة والجلال، والعتب على قضاء الله وقدره، عندما يموت عزيز لديهم، أو تنزل بهم مصيبة، وبدع الموالد وغير هذا من أمور كثيرة بدأ يكبر أثرها، وتتسع دائرتها. ولذا فقد كانت أمانة العلم،(38/235)
ومسئولية القلم تحتمان علي وعلى كل قادر المشاركة في هذه الزاوية تنبيها وتوضيحا وهو جهد المقل، في إبانة بعض الأمور التي يجب على المسلم أن يحذر منها، وأن ينتبه لخطرها على عقيدته التي هي أعظم شيء يجب أن يحرص عليه اهتماما وتطبيقا لعظم المسئولية على أهل العلم، وأرباب التعلم والفكر، في تجلية مسببات هذه الأمور، ولفت نظر الغافل إليها، وإبانة ما وراءها من نتائج، مع الاهتمام بالإشارة إلى المعالم التي تحذر ناشئة المسلمين من الركون إليها دون وعي أو روية بحيث تصبح صغائر الأمور (1) مع الزمن لديهم كبائر، ومع توسع المدارك تكون الأمور التي أخذت تقليدا ثقافة راسخة، وجزءا من العادات التي يصعب التخلص منها كما يقول الشاعر: -
وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عوده أبوه
وجزى الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب خيرا فقد أوضح في كتابه: "كتاب التوحيد" أمورا كثيرة مهمة في عقيدة المسلم الحريص، ولما كنت لا أزال طالب علم، وفي الساحة من هو أعلم مني وأقدر فقد أحببت أن أشارك من هذا المنطلق بما توصلت إليه بعد أن استعنت بالله ورأيت بدء هذا الموضوع بالرقم ثلاثة عشرة الذي يتشاءم به كثيرا من الناس.
وكان مبعث هذا وجهة نظر دارت بيني وبين أخ كريم،
__________
(1) ورد في الحديث التحذير من محقرات الذنوب، وهي ما يتهاون به الإنسان ويحتقره لصغره.(38/236)
عندما مررنا بتلك البناية في أحد الشوارع في مدينة كبيرة، وكانت جولة ليلية، تخللها حديث ذو شجون، فقال هذا الأخ: ارفع رأسك إلى هذه البناية، وأخبرني عما تلاحظ فيها.
فرفعت رأسي، ثم أعدت النظر إلى المتحدث قائلا: لم ألحظ شيئا، إنها بناية جميلة سامقة الارتفاع في السماء تتلألأ الأنوار من داخلها، فتزيدها جمالا، وتضفي عليها ثوبا قشيبا، هو حلية المباني الحديثة وبهاؤها.
قال: ألم يلفت نظرك فيها شيء؟ قلت: أبدا، ولكن أعني عما تريد؟ .
قال: انظر إلى أدوارها ولاحظ واحدا غير مضاء وحدد رقمه في المبني.
فأعدت النظر وبدأت أطبق ما قال، وإذا بي أخرج بالنتيجة: إنه الدور الثالث عشر غير مضاء من بين أدوار هذه البناية المتعددة، فقلت له عن هذه النتيجة.
قال: ألا تعلم أن كثيرا من بلاد الغرب والشرق لا يسكنون الدور الثالث عشر، ويتشاءمون منه فنبهني صاحبي إلى أمر مهم بدأت عدواه تستشري في كثير من ديار المسلمين، ومنها هذا المعتقد الذي أصله قديم في بلاد النصارى، قدم صراع الإسلام مع النصرانية.
وما ذلك إلا أن التشاؤم عندهم في بلاد الغرب يقترن بالتشاؤم من يوم الجمعة. وساقوا ذلك ضمن ما ساقوا من أمور(38/237)
هي من قشور ثقافتهم، إلى بلاد الإسلام، حيث تلقف ذلك نفر من أبناء المسلمين، فدفعوه إلى بني جلدتهم بضاعة مزجاة، طغى أثره عند ذوي الثقافة المحدودة والقصور العلمي.(38/238)
يوم الجمعة:
لكن لما كان يوم الجمعة في البيئة الإسلامية له مكانة راسخة مقترنة بما جاء في فضل هذا اليوم من نصوص شرعية، فإن المستعمرين من الغربيين لم يستطيعوا اقتلاع مكانته من قلوبهم سواء لدى الطبقة المتعلمة المرتبطة بهم أو لدى العامة والفلاحين وأبناء البوادي، واكتفوا في تخفيف مكانته، بجعله يوم عمل، ونقل الإجازة الأسبوعية إلى يوم الأحد الذي هو راحة النصارى في كل مكان، مما جعل بعض المرتبطين بهم ثقافة - من أبناء الإسلام - يتهاونون في أداء صلاة الجمعة مثلما حصل من مثقفي النصارى، بإهمالهم الذهاب إلى الكنائس يوم الأحد.
وأخذا من دلالة الآية الكريمة: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (1) تراهم يجدون ويجتهدون في التماس المداخل التي تزعزع عقيدة المسلم وتضعف الوازع الديني في قلبه شيئا فشيئا، مساهمة في نقض عرى الإسلام الذي أخبر عنه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويكبر فرق هذه الدائرة اتساعا كلما غفل المسلمون عن دينهم، وكلما تساهل المدركون عن مكافحة الأمور الوافدة على منهج الإسلام السليم، والخارجة عن إطار تعاليمه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 120(38/238)
ولا شك أن مبعث ذلك ضعف الوازع الديني وقلة النهل من منبع العلم الشرعي.
فالنصارى عندما استعمروا بلاد المسلمين سكتوا عن التشاؤم من يوم الجمعة حتى لا يثيروا الرأي العام المسلم رغم أن هذا اليوم يمثل هزيمة لهم في كثيرا من معاركهم مع المسلمين، لأنه بشارة خير ترتبط بكل فتح إسلامي.
فصلاح الدين الأيوبي دخل القدس في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب عام 583هـ (1) ، بعد استسلامها، وإذلال الله للصليبيين، حيث عبر والمسلمون معه شكرهم لله جل وعلا على هذا النصر أن صلى بهم أول جمعة على منبر صنع لهذا الغرض قبل عشرات السنين، وجيء به من حلب لهذه الغاية.
كما كان دخول المسلمين لمدن الشام مع القائد أبي عبيدة بن الجراح، ثم بعد مجيء عمر بن الخطاب رضي الله عنه لاستلام القدس في أيام الجمع من عام 13هـ.
ثم فيما بعد كان دخول المسلمين لكبريات المدن في فلسطين من ديار الشام التي استرجعت من الصليبيين، حيث كانت صلاة الجمعة تمثل احتفالا جماهيريا وشكرا لله بنصرهم عليهم.
كما كان دخول محمد الفاتح القسطنطينية بعدما فتحها الله على يديه يوم الجمعة حيث صلى في أكبر كنائسها - أيا صوفيا - بعدما حولها إلى مسجد وطمس كل ما فيها من صور وتماثيل.
__________
(1) راجع الكامل لابن الأثير في التاريخ عن أحداث ذلك العام.(38/239)
كل هذا يتم في غالبية الوقائع بين المسلمين والنصارى، حيث يهتم المسلمون بيوم الجمعة عقيدة وعبادة وصلاة، فينوه الخطباء بما أفاء الله عليهم من النصر شكرا لله، وعرفانا بنعمه عليهم وتبيانا للمسلمين ما يجب عليهم من النصر شكرا لله وعرفانا بنعمه عليهم وتبيانا للمسلمين ما يجب عليهم أداؤه؛ لأن بالشكر تدوم النعمة.
وبالتتبع لهذا ولغيره مما رصد تأريخه يتضح أن يوم الجمعة بالنسبة للمسلمين ما هو إلا بشارة خير، أما الصليبيون فإنهم يرونه نذير شؤم حسبما رصده مؤرخوهم، وشددوا فيه؛ لأن رايتهم فيه مهزومة ومع هذا لم يجدوا بغيتهم التي لا تزال جذورها في بعض ديار المسلمين باقية ويذكيها عقول رضعت لبانهم رغم ذهاب المستعمر وانتهاء سلطته العسكرية، إلا بجعل يوم الجمعة يوم عمل، وتحويل عطلة الأسبوع إلى يومي السبت والأحد، السبت لمكانته عند اليهود والأحد لمكانته عند النصارى وذلك من أجل محاولة إشغال المسلمين عن وظيفة الجمعة حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أن من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، هداهم الله إليه بعد أن غفلت عنه اليهود والنصارى: فاليهود اتخذوا السبت، والنصارى اتخذوا الأحد (1)
__________
(1) راجع فضل يوم الجمعة في جامع الأصول جـ9 ص424.(38/240)
الرقم ثلاثة عشر: -
وقد بقي الرقم ثلاثة عشر رمزا للتشاؤم في مجتمعاتهم، وسرى أثره إلى بعض ديار المسلمين، حيث نقرأ بين حين وآخر، لكبار(38/240)
الكتاب في بعض المجتمعات الإسلامية، ممن يعتبرون رعيلا أولا في ريادة القلم، وتوجيه الكلمة، يذكرون دور هذا الرقم مقرونا بالتشاؤم، واهتمام بعضهم بمسحه من أرقام تعاملهم، بل ويشددون في التنفير منه.
فإن أخذ أحدهم رقما هاتفيا تحاشى أن يبدأ أو ينتهي بثلاثة عشر وإن أعطي رقما لسيارته أو منزله حرص جاهدا ألا يكون فيه هذا الرقم، وهكذا شئون تعامله العديدة.
وبصرف النظر عن جذور ذلك الرقم عند النصارى، واقترانه بهزائم الصليبيين أمام المسلمين في حروبهم العديدة، كما سنوضح نماذج من ذلك، فإن الإسلام ينهى عن التشاؤم، حيث يقول صلى الله عليه وسلم «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل. قالوا: يا رسول الله وما الفأل؟ قال: " كلمة طيبة (1) » أخرجه البخاري ومسلم.
كما يأمر بحسن التوكل على الله، وتسليم الأمور إليه، فالله يحب المتوكلين، كما أن من أركان الإيمان الستة: (الإيمان بالقدر خيره وشره) .
وعن الرقم ثلاثة عشر، فقد جاءت فكرته عندهم، من جمع أرقام الآحاد والعشرات والمئات والألوف، إن كان في الرقم ألوفا من كل سنة ميلادية، حصل فيها انهزام للصليبيين في حروبهم
__________
(1) البخاري في الفتح 1 \ 139 ومسلم في صحيحه 7 \ 31.(38/241)
أمام جيوش المسلمين، ليصبح الرقم 13، هو حاصل الجمع، وهذا فيه مداخل التنجيم والتشاؤم من مطالع النجوم الذي ينهى عنه الإسلام.
ولكي يدرك المسلم هذا السر الذي رسخه مؤرخوهم القدامى، وبثوا في قلوب قادتهم التخوف من هذا الرقم، وما يحمل من نذائر شؤم أيده المنجمون عندهم، وأن عليهم ألا يقدموا على أي معركة، يبرز في مجموع سنواتها الرقم 13، ويشتد الأمر إذا اقترن هذا الرقم مع يوم الجمعة، لما في ذلك من نذارة الهزيمة، إذ لذلك نماذج في حياتهم، من حيث التشاؤم بالطالع والزاجر، كما كانت تعتقد العرب في جاهليتها، حيث مقت ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذرت منه تعاليم الإسلام، إبعادا وتشديدا.
وسأورد هنا على سبيل المثال لا الحصر، النماذج التالية: -
1 - في عام 524هـ ذكر ابن الأثير في تاريخه أن عماد الدين زنكي أمر عسكره أن يتجهزوا للغزو، وقصد حلب، فقوي عزمه على قصد حصن الأثارب، ومحاصرته لشدة ضرره على المسلمين، وكان من به من الفرنج يقاسمون حلب على جميع أعمالها، ويضيقون عليهم معيشتهم، فأظفره بمن فيه، وتسلم الحصن عنوة، وضعفت قوى الصليبيين بعد ذلك حيث انهزموا في كثير من ديار المسلمين بالشام (1) .
__________
(1) انظر الكامل 10 \ 662.(38/242)
وهذا التاريخ يوافق بالإفرنجي عام 1129 م ولو جمعنا أرقام هذا العام لخرجت 13 هكذا (9+2+1+1=13) .
2 - ذكر الدكتور سالم الرشيدي في كتابه محمد الفاتح الذي قدم لطبعته الثانية الشيخ علي الطنطاوي:
أ - أن العثمانيين حاصروا أمير جزيرة لسبوس الجنوبي عام 867 هـ، وكان فيها المؤرخ جان دوكاس الذي ينتمي لإحدى الأسر البيزنطية العريقة في السيادة (الإمبراطورية) فدكوا أسوارها بالمدافع، وسقطت في أيديهم، وانهزم النصارى، وقد روي أن المذكور قد كتب تاريخه في ذلك العام. فنفث فيه سمومه ضد المسلمين (1) .
وهذه السنة تعتبر في نظر ذلك الكاتب نهاية الدولة البيزنطية على أيدي المسلمين عام 1462 م الذي هو عام 867 هـ، وبجمع أرقام ذلك التاريخ الميلادي، يخرج ثلاثة عشر (2+6+4+1=13) .
ب - أن السلطان محمد الفاتح، قد استولى على القسطنطينية عاصمة الرومان، حيث سقطت أمام جيوشه عام 857 هـ بعد حصار طويل وقوي، تهاوت معه قلاع الصليبيين وقوتهم، وكان فتحا مبينا للمسلمين، واستبشروا به، وتحولت معه أكبر كنائس النصارى في هذه المدينة المسماة (أيا صوفيا) إلى مسجد، صلى فيه محمد الفاتح بمن معه من المسلمين الجمعة
__________
(1) انظر ص 12 من هذا الكتاب.(38/243)
الأولى في تاريخ هذه المدينة، حيث أصبحت من هذا التاريخ قاعدة إسلامية تهز حصون الصليبيين وتقض مضاجعهم - أسطامبول -، أي مدينة الإسلام.
وكان من المحصورين فيها، وممن شهد سقوطها المؤرخ (جورج فرانترتس) صديق الإمبراطور قسطنطين وأمينه، وصاحب مشورته الذي يعتد برأيه، وهو رجل حقود انعكس تاريخه على كل منافس له، فكيف بمن استولى على بلده (1) .
وهذه السنة توافق بالميلادي عام 1453 م، وبجمع هذه الأرقام يخرج الناتج ثلاثة عشر، (3+5+4+1=13) .
3 - أما نشاط الدولة الأموية في الأندلس ومجيء عبد الرحمن الداخل الذي أصبحت جذور أعماله وتمكينه للقاعدة الإسلامية هناك قوية مما أزعج الإفرنج فقد كان في عام 134 هـ بعد قيام الدولة العباسية في بغداد، وسقوط الدولة الأموية في دمشق، وهذا التاريخ يوافق في تاريخ الإفرنج عام 1183 م وبجمع أرقام هذا التاريخ يخرج الناتج ثلاثة عشر (3+8+1+1=13) .
4 - أما الرجل الثاني في توطيد أركان دولة الإسلام في الأندلس القائد المظفر الذي لم تنهزم له راية أمام الإفرنج، حتى أنه ألجأهم إلى جبال البرانس في الشمال، وحقد عليه مؤرخوهم، كما ذكر ذلك المؤرخ: محمد عبد الله عنان في كتابه (دولة الإسلام في الأندلس) فهو عبد الرحمن الناصر بن الحكم، وقد استهل حروبه
__________
(1) انظر ص 11 من هذا الكتاب.(38/244)
معهم عام 300 هـ.
وهذا التاريخ يوافق بتاريخ الإفرنج عام 913 م. وبجمع أرقامه يصبح التاريخ ثلاثة عشر (3+1+9=13) مع أن رقمي الآحاد والعشرات أيضا هما رقما 13 وهكذا لو سرنا مع وقائع التاريخ والحروب الصليبية فإننا سنجد ارتباطا وثيقا بين الحوادث التي اهتم بها مؤرخوهم، وبين هذا الرقم، الذي اعتبروه شؤما عليهم، لأن كل راية لهم ترفع أمام راية الإسلام تسقط بتوفيق الله، ودولتهم أمام زحف المسلمين تتزحزح، وعزمهم أمام مكانة الإسلام وعزته ينخذل.
ولنأخذ أمثلة أخرى، ففي عام 13 هـ حيث فتحت مدن الشام: دمشق، بيسان، طبرية وغيرها حسبما ثبت تاريخيا، حيث طرد الروم من الشام إلى الأبد، عندما قال أحد قوادهم سلام عليك يا سوريا سلاما لا رجعة بعده أبدا، فإنها توافق بتاريخهم الميلادي 634 م وبجمع أرقام هذا التاريخ تظهر النتيجة 13 (4+3+6 = 13) (1) .
وحوادث عام 579 هـ، حيث غزا صلاح الدين الأيوبي، بلاد الكرك وطرد الصليبيين منها، وفيها تم حصار قلعة البيرة بالشام واستلام صاحبها، وهي من معاقل الصليبيين الهامة لقربها من القدس (2) ، فإن تلك السنة توافق في تاريخ الإفرنج
__________
(1) راجع حوادث هذا العام عند الطبري وابن كثير وابن الأثير.
(2) راجع حوادث هذا العام في الكامل لابن الأثير.(38/245)
عام 1183 م، ومجموع أرقامها 13 (3+8+1+1 =13) وهلم جرا ذلك أن من يتتبع أهم الوقائع بين المسلمين والنصارى، منذ فجر الإسلام فإنه سيرى أن من رحمة الله بعباده المسلمين أن تتم غلبتهم عليهم في سنوات يأتي مجموع أرقامها ثلاثة عشر، مما يجسمه مؤرخوهم، ويجعلونه يوما أسود في حياتهم، يرتبط بدلالة هذا الرقم 13 الذي يتوارثونه جيلا بعد جيل، على أنه مصدر شؤم لهم، يتناذرون عنه وترسخ نتائجه في أذهانهم جيلا بعد جيل أما نحن معاشر المسلمين فيجب أن نخالفهم، كما هي سنة رسول صلى الله عليه وسلم بالأمر بمخالفة أهل الكتاب - من اليهود والنصارى - حيث نبتهج بتلك السنوات التي تمثل هذا الرقم، لأنها تبعث النشوة في المسلمين، لما تحقق فيها من مواقف مشرفة، حيث ارتفعت فيها راية الإسلام، وعلا صوت الحق الذي جاء من عند الله فارتفع الأذان مناديا بإقامة الصلاة، وحث الناس على عبادة الله وحده وهذا مما يغيظ أعداء الله من الإنس والجن. فعلى شباب الإسلام أن يعي ذلك جيدا، حتى يفهم تاريخ أمته ليرسخ في الأذهان، حتى لا يكون مثقفو الأمة مقلدين لغيرهم فإن عليهم ألا يتكلموا بما لا يعرفون معناه، ولا يميلون مع ما لا يدركون نتائجه البعيدة من تاريخ الأمة وأمجادها.
وألا يفتحوا باب التشاؤم الذي نهت عنه تعاليم الإسلام لأن من سن في الإسلام سنة سيئة فإن عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.(38/246)
مفهوم الشموع: -
حتى يكون الفرد في البيئة الإسلامية بعيدا عما يخالف منهج دينه فإن عليه أن يتجافى عن أسلوب حياة وأعمال أهل الملل الأخرى المغايرة لدين الإسلام عقيدة وعملا وما ذلك إلا أن الركون إلى صغائر الأمور، مما يجري على عظائم الأشياء، فيتبلد الإحساس، ويخفى ميزان تعاليم الدين ثم يبدأ من هذا نزع عرى الإسلام واحدة بعد أخرى. حيث أبان صلى الله عليه وسلم بأن بني إسرائيل لم يتسع فيهم نطاق الشر إلا بعد التساهل في الصغائر وتهاون العلماء في الإبانة عما كان سببا في إفساد الملة.
ومن هنا نرى أوربا في نهضتها الحديثة عندما اتجهت للعلمانية وكان شعارهم ماديا مع مضمون الكلمة: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ثم لما نقمت الطبقة المتعلمة على تسلط رجال الكنيسة بعد الثورة الفرنسية، كانت الحرب على رجال الكنيسة شديدة بالسخرية، والإشاعة، ثم تضافرت الجهود لتقلص دور الكنيسة، ولما قامت الثورة البلشفية بعد الحرب العالمية الأولى عام 1917م الموافق لعام 1336 هـ اشتد الصراع بين الشيوعيين، ومنهم موسوليني في إيطاليا، وبين البابا بيوس الثاني عشر لأن الشيوعية كانت ضد كل دين مهما كان، والدين الإسلامي في الدرجة الأولى حيث ناصبته العداء، واستعملت ضده الحيل والمكائد فكان من نتيجة ذلك الصراع الذي قصد منة الحد من سلطة الكنيسة، باعتبارها رمزا(38/247)
للتخلف كما قال أحد كبار المفكرين الغربيين في العصر الحاضر (ديكارت) في حكمه على رجال الدين في الكنيسة: ماذا نفعل بهذه الرءوس النخرة، التي عشعش فيها التخلف؟ .
فلجأ المتعصبون لمعتقدهم إلى ربط الناس في الصغر ومع النساء بالذات، لأنهن أكثر تأثرا في الناشئة بأمور ذات جذور في العقيدة التي يدينون لها، وحرص المبشرون منهم - الأصح أن يقال المنصرون -إلى نقلها لديار الإسلام على هيئات شتى: ضمن عادات وتقاليد وطقوس في مناسبات عديدة.
وهذا مدخل يحسن بكل مسلم الحذر منه، حتى لا يكون بداية لدلالة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا بد أن يقع، لأنه خبر من الصادق المصدوق، الذي يعلمه ربه أمورا هي من المعجزات ودلائل النبوة، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قيل يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن (1) » . . وحديثنا الآن عن الشموع التي أصبحت تقليدا لدى كثير من المسلمين، هي عادة من العادات التي يجب الحذر منها، الصغائر التي يحسن عدم الركون إليها لأن وراءها أمورا عظيمة، ذلك أننا نلمس اتجاها بدأت تكبر دائرته في بعض المجتمعات الإسلامية، وذلك بإشاعة عادة إطفاء الشموع وإشعالها في أعياد
__________
(1) رواه البخاري ومسلم(38/248)
ميلاد الأبناء والبنات، حيث يهيأ احتفال على مائدة طعام أو حلوى، ويوقد في وسطها شموع، في الغالب تكون ثلاث شمعات، وهذه تكون في الموائد الكبيرة، والحفلات الرسمية أما في أعياد ميلاد الأبناء فإن الشموع التي تهيأ تكون بعدد سنوات من يراد الاحتفال بعيد ميلاده، ليختار زميلا له يشعلها، ويأتي هو لينفخها واحدة بعد الأخرى ليطفئها، ويشعل شمعة جديدة، بمثل هذا الاعتقاد إطفاء عدد ما مضى من السنوات وإضاءة السنة الجديدة في حياته التي بدأت من ذلك اليوم، أما الشمعات الثلاث المتصدرة للمائدة فتبقى مشتعلة، كما هي العادة أيضا في الحفلات الرسمية والفندقية ذات البال.
وهذا الأمر معتقد نصراني كما هو معتقد بوذي، ولست أدري أيهما الأقدم ولا أيهما أخذ من الآخر، وإن كان لكل منهما دلالة معينة.
وفي أسفاري لاحظت عند البوذيين، وفي أكبر معابدهم في نيبال حيث منشأ البوذية ومعقلها أن اعتقاد إشعال ثلاث الشمعات المستمر، يرمز إلى حربة بوذا التي قتل بها الوحوش في الأدغال وجاء بها إلى معبده - قبل ستة آلاف سنة كما يقولون - على ظهر الفيل، فاعترضه أسد فقتله بها أيضا حتى وصل إلى مدينة (تلهوا) ، فاستقبله الناس، وأقام بها فترة يتعبد تحت شجرة فارتبطت العقيدة عندهم بالرمز الثلاثي في الحربة، ثم(38/249)
في الشموع في معابدهم، لاقترانه ببوذا، وما تعلق به في أسطورة القوة التي لا تقهر.
والباحثون في أصول المعتقدات يرون أن البوذية قد وجدت قبل الميلاد بما يقارب خمسة قرون، أما لدى النصارى فإن الشموع الثلاث التي تتصدر الموائد والمناسبات فإنما هو رمز لمعتقد راسخ في ديانتهم: الأب والابن وروح القدس وهو التثليث الذي مقتهم الله به، وأبان جل وعلا كفرهم بسبب ذلك فقال عز من قائل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1) .
فإيقاد الشموع في هاتين الملتين يرمز إلى تأصيل العقيدة: الأولى للربط ببوذا والثانية لتمكين عقيدة التثليث، وكلتا العقيدتين فاسدتان، وتتباينان مع منهج الإسلام وعقيدة الوحدانية مع الله عز وجل.
وبين النصرانية والبوذية تقارب من حيث التعلق بشخصية بوذا، وأن لديه قدرة فوق قدرات الناس، وأنه يخلص البشر ويتحمل عنهم، وأن لديه معجزات خارقة، والنصرانية تؤله يسوع الذي هو الأقنوم الثاني من الثالوث، من حيث رفع مكانته عن البشر، وأنه جاء لتخليص البشرية من الشرور والفداء بنفسه، علاوة على ما جاء به من معجزات خارقة للمألوف
__________
(1) سورة المائدة الآية 73(38/250)
كإحياء الموتى، وإيجاده من الطين على هيئة الطير بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله (1) .
ولفساد عقائدهم ولاتباعهم علماء الضلال، فإنهم لم يربطوا هذا الأمور بالله جل وعلا، بل زين لهم الغلو فيهم، ورفعوا عيسى عليه السلام إلى درجة الألوهية.
ويأتي وضع الشموع، وتقديمها كقرابين في المعابد عند هاتين الملتين كجزء من المعتقد الديني للقربات التي تقدم للآلهة التي يميلون إليها، ورمز لطرد الشرور، قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} (2) .
ولذا كانت صناعة الشموع، والاتجار فيها بجوار المعابد البوذية، والكنائس النصرانية، وغيرها، تحظى بازدهار كبير، ويغالي رجال الكنيسة في الشموع: تلوينا وحجما حيث توقد في المناسبات وفي ذكرى الوفيات، فيوقد عن كل شخص ذكرا كان أو أنثى من الشموع بعدد الأيام التي كانت المناسبة من أجلها ولو حكم الإنسان عقله وفحص الأمر بمنظور مادي حسب واقعهم، فإنها أموال تهدر، ولا ينال الفقير منها شيء، يمكن الانتفاع به.
وما الشموع التي جاء ذكرها في الشروط العمرية التي أخذها عمر بن الخطاب رضي الله عنه على نصارى الشام بالامتناع عنها
__________
(1) اقرأ الآيتين الكريمتين 49 من آل عمران، 110 من سورة المائدة.
(2) سورة فاطر الآية 8(38/251)
وسميت بالسرج على القبور والمعابد (1) إلا من هذا المعتقد، كما أنها هي الشعانين التي نبه إليها ابن كثير رحمه الله في تاريخه، وأنها تتخذ في الكنائس، وتغيير الاسم لا يغير المسمى، وإنما يرتبط الأمر بما يرمي إليه من اعتقاد.
ذلك أن كثيرا من الأمور التي يعملها أهل الكتاب وغيرهم، في مآتمهم وموالدهم ومناسباتهم، قد سرت لكثير من المجتمعات الإسلامية، واتخذها بعض أبناء المسلمين تقليدا عندهم، بحكم الاختلاط لشعوب تدين بغير الإسلام، وتسير على طقوس لم تكن من تعاليم دين الإسلام، ولا ضمن منهجه الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وحرص على تحذير الأمة منه، في مثل قوله الكريم «خالفوا اليهود (2) » ، عندما رآهم يصومون يوم عاشوراء، فأمر بصوم يوم قبله أو يوم بعده لمخالفتهم، كما أمر بالصلاة في النعال، إذا تأكد الإنسان من طهارتها، مخالفة لليهود.
وما اتخاذ الشموع في المعابد والمناسبات، وما يتصدر الولائم من شموع مثلثة، إلا منهج يرمز لمعتقد لدى أصحاب تلك الديانات، هو من المخالفات لما تدعو إليه تعاليم الإسلام: سلامة في العقيدة وتعلقا بالقلب إذ الشموع تعني قداسة دينة، ترتبط بوجدانيات عقدية مستمدة من دلالة النور والظلمة لدى
__________
(1) يمكن الرجوع في هذا لكتاب الشروط العمرية لابن قيم الجوزية رحمه الله.
(2) رواه أبو داود.(38/252)
الديانة المنوية القديمة، المرتبطة بالزرادشتية.
أما في الإسلام فإنها تعني منفعة من المنافع كجزء من مخلوقات الله المسخرة للانتفاع ومصلحة الإنسان في حياته، لأن الإنسان لا يقدسه إلا عمله الصالح.
والنصارى عند الساعة الثانية عشرة، من ليلة رأس السنة الميلادية يقومون بإطفاء شمعة ترمز للسنة الماضية المنتهية وإشعال شمعة جديدة تمثل السنة الجديدة، والتي أقبلت بعد إطفاء الماضية، ويتبع ذلك إطفاء الأنوار في الفترة بين الحالتين.
وأساس هذا الاعتقاد، كما لوحظ في واحدة من كبريات كنائسهم، ذات الشهرة أن ما يعتقدونه قبرا لعيسى عليه السلام، يكون فيه شخص مختف، وعند إطفاء الأنوار في الساعة الثانية عشرة، حيث يصبح ما حول هذا الموقع في ظلام دامس، وبحركة تمثيلية لا يدريها المحيطون بالمكان، يفتح ذلك المختفي شباكين في غرفة القبر، يمينا وشمالا، ليضيء شمعة بحركة خاطفة يبتهج لها من في هذا المكان، لأنه قد وقر بأذهانهم، حسب المعتقد الذي يرسخه أحبارهم ورهبانهم، بأن المزعوم يقوم من قبره في تلك اللحظة، ليسلم عليهم، ويشملهم بغفرانه عن خطايا السنة الماضية، ويبارك لهم سنتهم الجديدة، وهذا يرتبط باعتقادهم أن يسوع قدم نفسه فداء للبشرية ولخلاصها.(38/253)
ولذا فإن كثيرين ممن يرون نور الشمعة التمثيلي يغمى عليهم، لما علق بأذهانهم من أمور تأصلت جذورها منذ الصغر، خاصة وأن تقليد إطفاء الأنوار، وإضاءة شمعة سرى أثره في البيوت وتعود عليه الصغار عقيدة وترسيخا.
ولكي يكون المسلم بعيدا عن هذه المعتقدات، ولو قال عن نفسه إنني لا أرمي لما يرمون إليه فإنه مدعو لنبذ كل خصلة ليس عليها توجيه رسالة الإسلام، ولا خاتم تعاليمه، ومأمور بنبذ كل أمر يرمز لتوجيه عقدي لدى الأمم الأخرى، سواء أحاط المرء بما يرمون إليه، أو لم يحط به، لأن «من تشبه بقوم فهو منهم (1) » ، حيث جاء في حديث الذبابة «أن رجلا قيل له: قرب، قال ماذا أقرب؟ - أي ليس عندي شيء أقربه - قيل: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا، فدخل النار (2) » .
وارتياح القلب لأي أمر هو من معتقد الأمم المناوئة لمبادئ الإسلام والمخالف لما يدعو إليه يدخل في حكم الرضا، والتقريب القليل، وهو من المحادة لله، وهذا من اطمئنان القلب لما يعتقده المحادون لله، والركون إليه من الإحداث في الدين الذي اعتبره رسول الله صلى الله عليه وسلم مردودا على صاحبه عندما قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » .
والمسلم لكي يستبرئ لدينه، عليه أن يحذر ما فيه شبهة
__________
(1) جزء من حديث شريف رواه أحمد عن ابن عمر وأبو داود روى هذا القدر منه.
(2) جزء من حديث شريف رواه الإمام أحمد عن طارق بن شهاب.
(3) متفق عليه عن عائشة.(38/254)
ويكون الانتباه والحذر أشد عندما يكون الأمر عليه دلاله واضحة من معتقد، وفيه رمز للولاء والاتباع، ألم يقل سبحانه: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) قال بعض العلماء ومن الموادة راحة القلب بما يفعله المحادون لله ولرسوله.
__________
(1) سورة المجادلة الآية 22(38/255)
بابا نويل وما يرمز إليه: -
يهتم الداعون لكل واحدة من الديانات المختلفة على وجه الأرض، بتبني مؤثر يتوقعونه فعالا في جذب الناس لما يعتقدونه، ويتفننون في الأساليب التي يخيل إليهم أنها تربط الآخرين بوشيجة النحلة التي يتحمسون لها. وكل منهم يحسب نفسه على الحق -عدا المسلمين - ويدافع عن باطله بما يتوقعه معينا في تحقيق ما يصبو إليه، ولفت النظر لما يعتقده.
فالنصارى مثلا الذين طغى عليهم الجهل، كما جاء في تفسير سورة الفاتحة بأن: الضالين هم النصارى يعبدون الله على جهل وضلال (1) .
وفي حديث عدي بن حاتم بعد ما أسلم وسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية الكريمة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) «قال: يا رسول الله: إنا لسنا نعبدهم،
__________
(1) من حديث رواه مسلم في صحيحه.
(2) سورة التوبة الآية 31(38/255)
قال " أليسوا يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه "؟ قال: بلى، فقال صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم (1) » .
فهذه الفئة وجد الأدعياء والكذابون مدخلا إلى نفوسهم، باسم العاطفة الدينية، لرقة قلوبهم، وغلبة الجهل عليهم.
واغتنم الفرصة كل دعي، وصاحب هدف ليضل الصغار قبل الكبار، ومن هنا كثرت في بيئاتهم ما يريدون به ربط قلوب الصغار لمعتقد بابا نويل، باسم الخوارق والإتيان بالمعجزات، حيث جسم شكله أمامهم كدمية يلعب بها الصغار، وتهدى مع رأس السنة الميلادية، وترسيخ هذا الزائر كشخصية ذات بال لا تأتي إلا مع عيد الميلاد لتحمل الهدايا، وتفد بكل ما يوعد به هذا الصغير، والصغار إذا وعدوا بشيء تعلقوا به، ورسخ في قلوبهم ما يرتبط به.
وعندما يحين ذلك الموعد يكون السعيد منهم من يرى هذا الموعود، الذي يتخيلون أوصافه شيخا كبيرا بلحيته الكثة البيضاء التي ترمز للجو البارد لأنه يأتي متدثرا بملابسه الثقيلة، مع السنة الجديدة في مطلع شهر يناير من كل عام، وهذا الموعد يقترن بتاريخ ميلاد المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، أي 25 ديسمبر، وبداية السنة الجديدة 1 يناير وهو
__________
(1) راجع تفسير هذه الآية عند ابن كثير رحمه الله ج2.(38/256)
شدة البرد في فصل الشتاء، وتكاثر سقوط الثلوج في ديارهم الباردة.
ولما كان كل شيء له قداسته في قلب الصغير يسمونه بابا، كالأب ورجل الكنيسة والرجل المسن وكبير أساقفة الكنيسة.
فإن بابا نويل، الشخصية الأسطورية، يلتف الأطفال حوله ليلاطفهم ويقص عليهم حكايات خيالية عن المولد وما يقترن بعقيدة التثليث، الذي أبان الله جل وعلا في كتابه الكريم عن تكفير من يعتقد ذلك، وبما قالوه على الله جلت أسماؤه وتقدست صفاته، من أمور شنيعة تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وشخصية بابا نويل، لم تكن واحدة تتنقل، وإنما هي في كل مكان موجودة، حيث يحرص رهبان الكنائس على تهيئه أشخاص من الدعاة لنحلتهم، والمتشبعين بتعاليم عقيدتهم ليؤدوا هذا الدور، بملابس وأشكال موحدة لتكون الصورة المرتسمة في أذهان الصغار، سواء كانت مباشرة، أو عن طريق وسائل الإعلام ثابتة.
وهذا شبيه بما ينميه بعض الصوفية في بيئات إسلامية، عن الخضر عليه السلام ونزوله: نوعية في اللباس وتوقيتا زمنيا. ولعل الفرق الصوفية قد أخذوا هذا المنهج من النصارى مثل كثير من العادات التي سرت بالعدوى والتقليد، نتيجة لضعف الفقه بشرع الله وقلة الوازع الديني.
ولما كان الصليب يتربع على صدر بابا نويل، كجزء من(38/257)
العقيدة التي يراد ترسيخها، فإنه يروي للأطفال بعضا من الحكايات المتعلقة بما تدعو إليه النصرانية، منها ما ينسب إلى قسطنطين قيصر الملك بن هيلانه، الذي كثر عدوه، وكاد ملكه يذهب باختلاف رعاياه وأنصاره من الروم عليه، فأراد أن يحملهم على شريعة ينظم بها مسلكهم، ويؤلف فرقتهم فاستشار من لديه من أهل النظر، فوقع اختيارهم على أن يتعبد القوم بطلب دم ليكون ذلك أقوى لارتباطهم معه، وأوكد لجدهم في نصره، فوجدوا اليهود يزعمون أن في بعض تواريخهم خبرا عن رجل كان منهم وفيهم، هم أن ينسخ حكم التوراة، وينفرد بالتأويل فيها، فعمدوا إليه وهو في نفر ممن المطلوب فيهم فصلبوه، وما عندهم تحقيق بكونه ذلك المطلوب بعينه، إلا فقدهم إياه من حينئذ.
وهذه الحكاية قد تفتق عنها حيلة من قسطنطين المذكور، حيث عمد إلى من وجد من أمة عيسى عليه الصلاة والسلام وقد اختلفت دعاويها بعد المسيح بأربعين سنة، والتفت إليهم غير محسوسين في الأرض، لا يظفر بواحد منهم إلا قتل ومثل به، فاستخرج قسطنطين ما تبقى من رسم الشريعة التي بأيدهم، وجمع عليه وزراءه فأثبت ما شاء، وما رآه موافقا لاختياره كالقول بالصلوبية، ليتعبد قومه بطلب دم، والقول بترك الختان، لأنه شأن قومه، ثم اختلق رؤيا قال: إنها حدثت له في منامه، وذلك أول شيء أظهره من هذا الأمر فجمع أنصاره ورعاياه من(38/258)
الروم، وذلك بعد المسيح بمائتين وثلاث وثلاثين سنة، وعلى رأس سبع سنين من مدة ملكه فلما اجتمع إليه أنصاره ورعاياه، ذكر لهم أنه كان يرى في منامه آتيا أتاه، فيقول له: بهذا الرسم تغلب، ويعرض عليهم هيئة الصليب، فأعظمت ذلك العامة، وانقطعت لما سمعت منه، ولكي يمكن رؤياه هذه، فقد بعث إلى امرأة في عصره كاهنه، وكانت ذات بأس وقوة، فشهدت له أنها رأت مثل ما رأى، فقوي تصديق العامة، فأخرج الصليب من موقع كنيسة الغمامة بالقدس وجعله شعارا من ذات الوقت.
وفي كتب الحوار مع النصارى والرد عليهم نماذج من تلك القصص الخرافية. والحكايات الخيالية، التي تتكرر مع أسطورة بابا نويل تمثيلا وحوارا. . في وسائل الإعلام المختلفة، وفي أماكن أخرى، ثم على هيئه قصص تتناقلها الأمهات لأولادهن، ويلتئم شمل الصغار في حلقات مع العجائز لتقترن بهذا الاسم، وفي هذا الوقت الذي يرونه موسما دينيا، يقصدون فيه إشعال الجذوة في النفوس كل سنة، يساعد على ذلك الجو البارد والإجازات، حيث يلتئم الجمع أمام المدافئ للتلقي، ومن ثم تزجية الوقت من أي مصدر جاءت: قصصا يعاد قراءتها، وحكايات تسترجعها العجائز من الذاكرة، ووسيلة إعلامية تتحدث بلسان هذه الأسطورة الموسمية: بابا نويل الذي لا يأتي له ذكر إلا في هذا الموعد(38/259)
السنوي.
فيكون من ذلك ما يلبي رغبات النفوس الصغيرة، ويؤصل جذورا يريدونها أن تبقى متمسحة لهذا المعتقد، لربطه بأمور محببة للقلوب، من هدايا ووعود طيبة، وأمنيات مرغوبة، وانتصارات في مواقف، وإشاعة للمحبة بين الناس. علاوة على رغبتهم بتصدير هذه البضاعة لأطفال المسلمين لجذبهم للنصرانية، كجزء من مهمة التبشير، ولذا تأثر بهم بعض المسلمين الذين ينقصهم الوعي والإدراك وكثر من يدعي منامات مماثلة في المجتمع الإسلامي، ولعل هذا من تلبيس الشيطان مستغلا الكذابين وضعاف الإيمان ليبث بواسطتهم قصصا تخلخل مكانة الإيمان من النفوس المسلمة، هذه الأمور، وتلك الحكايات كثيرة جدا، وامتلأت بها بطون الكتب، بين تأييد حسب المعتقد، وإنكار في سبيل الرد عليها، وتوضيح زيفها.
وأذكر في هذا الموقف بعضا من تلك الحكايات الخرافية، والأمور التي يراد ترسيخها على أنها معجزات من رجال هذه النحلة العقدية على مر العصور حيث ذكر أحمد بن عبد الصمد الخزرجي المتوفى عام 582 هـ الموافق لعام 1186 م في حواره مع أحد القساوسة ضمن رسالة سماها: مقامع الصلبان. . وهو في الأندلس، بعدما تخلص من سجنهم، وكان عمره 22 عاما، فبعث بهذا الرد الذي يشمل محاورة ونقاشا مع ذلك القس الذي كان يريد تحويله عن عقيدة الإسلام.(38/260)
وقد أبان في ذلك الرد قصصا منها قوله: -
1 - في ليلة النصف من شهر أغشت يعظمون تلك الليلة تعظيما شنيعا إلى اليوم وسبب ذلك ما يصفه قساوستهم للناس، في قصة أسطورية عن نزول مريم من السماء، على دون أذفونش بجامع طليطلة، وأنها كست رأسه بتحلية، وجسمه بثياب (1) .
2 - وما يروونه من روايات يدعونها في زيتونة وادي آش، ويزعمون في توقف أرض شنت دمنقة، ووادي بسطر، والنور الجديد في عيدهم، والنور الذي ينزل ببيت المقدس ليلة رأس السنة إلى غير ذلك من الهذيانات والمخاريق التي لا تجوز إلا عليهم، ولا يتعبد بها من جهال العالم غيرهم (2) .
3 - وأنهم يحدثون الناس بنماذج من القصص التي تعتمد على الحيلة، بحجة أنها من المعجزات، فتنطلي على البسطاء حيث قال: وصف لي عن صليب في بعض مشاهدهم المعظمة عندهم، يمشي إليه الناس ليعجبوا منه، وهو واقف بين السماء والأرض لأن الحديث عنه في الكنائس متواتر للسيطرة على العقول فسأل أحد رؤسائهم عنه يهوديا كان كاتبا له، فقال تؤمنني وأعلمك السر، قال: نعم فقال: إنها حيلة، فاستكشفه إياها، فقال: إن ذلك الصليب الذي يظنه الناس معلقا، تمسكه أحجار المغناطيس من جهاته الأربع، فأمر الرئيس أن
__________
(1) مقامع الصلبان ص 167.
(2) مقامع الصلبان ص 168(38/261)
يخلي له المكان يوما، لينفرد بهذا المشهد، فدخل وحده، وأمر وبحفر جانب واحد من الحائط، فاستخرج منه حجرا من المغناطيس موازيا للصليب، فمال إلى جهة واحدة، ثم استخرج مثله من الجانب الثاني، فاضطرب الصليب، وفهم الرئيس الأمر، وانصرف (1) .
4 - وذكر عن بعض مشاهد النصارى المعظمة عندهم حكاية تقول: إن يد الله تخرج لهم في يوم واحد من السنة من وراء ستر، يرونها عيانا، وكانت جزءا من المعتقد، فحكى أن رجلا ممن أبغض النصرانية بعد أن عرف أساليب رجال الكنيسة، اعتنق دينا آخر، وكان قد حظي عند بعض رؤساء النصارى بالأندلس، لوصلة كانت بينهما يرعاها الرئيس، وفي مجيئه يوما إليه، رغب إليه الرئيس أن يعود للنصرانية لأنها دينه، وبدأ يوضح مزاياها، وأسرارها من واقع القصص التي تأصلت في ذهنه، وقال له ألا ترى الأعجوبة ظهور يد الله لنا في يوم معلوم من السنة، لا يكرم بها أحد غير النصارى؟ فقال له الرجل: لقد رضيت في هذا الأمر بشهادتك، وصدقتك عليه، فابحث عنه فإن كان ما يزعم هؤلاء القسيسون حقا، فسوف أعود إلى دينك، فخالط الرئيس الشك، فلما دنا ذلك اليوم، الذي تظهر فيه اليد، سافر بنفسه نحو المشهد، وقرب مالا يهديه هناك، فبدر إليه الأساقفة، وقربوه لتقبيل اليد.
__________
(1) مقامع الصلبان ص 174(38/262)
فلما ظهرت اليد له من وراء الستر، وضع يده فيها وأمسكها بشدة، فصاحوا به يقولون: اتق الله الآن تخسف بك الأرض، والآن تقع عليك السماء، الآن ترسل عليك الصواعق فقال: دعوا هذا عنكم، فإن هذه اليد لا أحل يدي عنها، حتى أعلم أحقا ما تصنعون فيها أم باطلا؟
فلما رأوا إلحاحه لم يبق منهم إلا اثنان، وهرب الباقون، فأسرا إليه القول، وقالا: ما تبغي من ذلك، أصبوت عن دين آبائك؟ قال: لا، قالا: أتريد أن تحل رباطا منذ ألف سنة، أو نحوها، قال: لا، معاذ الله، ولكني أريد أن أقف على سر هذه اليد، قالا: هي يد أسقف دون الستر واقف، قال: أحب أن أراه، قالا: أنت وذاك. فكشفا الستر فرأى قسا مجرود الخدين، موقفا وراء الستر، فلما عاينه الرئيس أرسل يده وخرج إلى عسكره. فقال للرجل: ماذا تأمرني به الآن في ديني، بعدما عاينت الأمر بنفسك؟ فقال: رأيك خرجت منه ففهم الرجل وسكت (1) .
وغير هذا من القصص التي هي من مهمة بابا نويل لترسيخها في الناشئة، وتأصيل مكانة القساوسة الذين يمثلهم بابا نويل حتى لا يكذبهم أحد، ولا يناقشهم مناقش، لأن تعاليمهم تقضي بالطاعة العمياء، والأخذ بدون نقاش.
وبكل أسف سرت عند كثير من أصحاب الطرق الصوفية
__________
(1) مقامع الصلبان ص 173(38/263)
وغلاتهم نماذج من هذه القصص مع تحوير في دلالة الصليب إلى أمور تنطلي على بعض المسلمين وذلك مع غياب الوعي لتعاليم الإسلام فأفسدوا عليهم دينهم بأمور ما أنزل الله بها من سلطان. ولذا فإن دور المسلم يجب أن يركز على نبذ هذا التقليد الذي يجر لما هو أبعد من كونه يهدف لتسلية الصغار وإيناسهم، مع عدم السماح بإظهار مثل هذا في البيئات الإسلامية، حتى لا يرسخ هدفه في أذهان أطفال المسلمين، فيكبر معهم، ليباعدهم عن دينهم الحق، ويصدهم عن مصادره الصافية الصادقة التي لا يتطرق إليها الشك أو التأويل، لأنها من الله، وما كان من الله فلا مراء فيه ولا جدال.(38/264)
أبعاد كذبة أبريل: -
واحدة من العادات التي يتبعها عادات كثيرة سيئة لأن محورها الكذب، والكذب من أشر الخصال، وأسوأ مداخل الآفات.
يتعمد بعض الناس في أبريل الكذب على سبيل المزاح أحيانا، أو على سبيل المداعبة، ونشر المقالب فيما بين الناس، إما تندرا أو تفضيلا أو مزج ذلك بنواحي أخرى من أساليب الحياة، وقد يكون من بين تلك الحالات ما له حدان كالسيف ظاهر وباطن، فالظاهر المزاح كما يحصل بين الناس اقترانا بهذا الشهر، فإن كشفت الحالة أصبحت من الأكاذيب التي يجد لها مقترفها تفسيرا بأنه في شهر أبريل، وهذه من أكاذيبه، التي(38/264)
لا شيء فيها، وما هدف القائل من وراء ذلك إلا توثيق الصلة الأخوية بإزالة الحواجز، وإن لم تكشف سكت عن ذلك الأمر واعتبره مكسبا، حيث يصبح الأمر حقيقة راسخة سواء كان ذلك الأمر قولا باللسان، أو عملا بالجوارح مهما كان نوعها وينطبق في هذه الحالة المثل العامي عندنا: (الصديق المزاح إن شيف وإلا راح) . والباطن منبعث من العقيدة التي تهدف لأمور من وراء الكذب فكم سمعنا عن سرقات حصلت لدى بعض الناس، ومن بعض من يعدونهم أصدقاء، وكم قيل لنا أو قرأنا عن أثار سيئة تركها هذا التقليد: سلوكيا وخلقيا واجتماعيا.
وما ذلك إلا أن كذبة أبريل عادة قد نشأت في بلاد الغرب، من منطلق يرتبط تاريخيا بهذا الشهر، الذي هو من أشهر الرومان، وهو الشهر الرابع من سنتهم الشمسية، وهو واحد من أشهر الربيع الذي تتفتح فيه الأزهار وتتزاوج الطيور، وتستيقظ الحيوانات من بياتها الشتوي الطويل، لتسعى في طلب الرزق، ثم التخزين لبيات آخر، ومثل ذلك الإنسان في سعيه.
وفي تتبع الكتب التي تهتم بالعقائد، وما طرأ على الديانات من دخائل نرى الغربيين خاصة من كتاب ومؤرخين يتحاملون على رجال الكنيسة وما يفرضونه على المجتمع عندهم من أمور، فضلا عن تشكيك بعضهم في صحة الديانة النصرانية لمخالفتها ما يمليه العقل، وما تتطلبه الحياة الحاضرة، ولذا كثر نقاد(38/265)
كتابهم المقدس وصحة وصدق روايته، يقابل ذلك جهود قوية لإثبات الأسس التاريخية للديانة النصرانية، وصراعهم هذا يتسم بالكذب كل من جانبه ليؤصل ما قصد إليه، يقول ديورانت عن هيرود الأكبر: كانت أخلاقه مثالا من أخلاق عصره الذي أنجب كثيرا من الرجال الذين كانوا أذكياء لا خلاق لهم، قادرين لا ضمير لهم، متحدثين لا صدق عندهم، شجعانا مجردين من الشرف، فلقد كانوا صورة مصغرة من أغسطس في بلاد اليهود (1) .
كما كانت أسس الصراع بين اليهودية والنصرانية ورجال الدين فيها تنطلق من قاعدة راسخة في الكذب، ولذا حركت الحرب الأهلية في فرنسا هذه الجذور فصارت ثورة أوربية ضد تسلط رجال الكنيسة وسلطتهم، ورجال محاكم التفتيش.
وقد توسع بول ديورانت في قصة الحضارة، في الأجزاء المخصصة لعصر الإيمان، مما تناول الصراع بين اليهود والنصارى، وقيصر المسيح، حيث أبان كما أبان غيره من الدارسين، أن كبار رجال الكنيسة عرف عنهم تعمد الكذب على الناس، وأن واحدا من أكبر القائمين على إحدى الكنائس، أراد أن يبرر لأكاذيبه لما كثرت واكتشفت، بأننا في فصل الربيع، وهو الفصل الذي تبتهج فيه الحيوانات والطيور، بالطريقة الخاصة بها، وسائر المخلوقات أيضا لها أساليبها الخاصة في
__________
(1) قصة الحضارة 11: 164.(38/266)
التعبير عن فرحها ومرحها، ونحن البشر الذين يمر بنا فصل بين فصلين: بين الشتاء وثلوجه وبرده، وما يتركه لدى الناس من كآبة، وبين الصيف الذي يلفح الناس بحره، فعلينا أن نعبر عن أنفسنا بهذا الأسلوب الذي يعتبر من الكذب الأبيض (1) فكان مثل هذا التعليل قاعدة استحسنها بعض الناس الذين يكذبون لمآرب، ويستمرئون الكذب لمصالح ولست أدري من أين جاءهم التقسيم هذا عن الكذب: الأبيض والأسود، إذ الكذب واحد وهو نقل الشيء على غير صورته.
ونحن المسلمين ندين الله بما جاء في مصدر التشريع في عقيدة الإسلام، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقت الكذب، وأن الله لا يحب الكاذبين وأنه من علامات النفاق حيث أبانت شريعة الإسلام، كما جاء في القرآن الكريم عن سوء عاقبة المنافقين وأنهم في الدرك الأسفل من النار ولا نصير لهم، لأنهم يكذبون، ويفترون، ويخادعونه وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.
يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر (2) » . فهذه من علاماته البارزة التي تدل عليه.
ولذا فإن مفهوم الكذب الذي يترتب عليه التعدي على الأموال
__________
(1) قصة الحضارة 11: 164.
(2) متفق عليه بلفظ: وإذا وعد أخلف. . . الخ(38/267)
والأعراض، وإيقاع المظالم على الآخرين والاستهانة بهم وترويعهم، مما يمقته الإسلام، وينهى عن التحلي به، وهو واحد، فلا فرق فيه بين كذب أبيض ولا أسود، ولا أخضر ولا أحمر، ولا غيرها من الألوان، حيث نهى صلى الله عليه وسلم عن الكذب على الصبيان وعلى الحيوان، فضلا عن الإنسان.
وتبرير كذبة أبريل ما هو إلا موسم يريدون منه، تنشيط هذه العادة، وترسيخها لدى الناس، وحماية ما يصدر عنهم من أغاليط وافتراءات، ولتعويد الآخرين هذا المنهج الذي أنكره مفكروهم، ولذا سميت صفة التعامل الحسن والصدق في القول بالأخلاق التجارية، ونبل الأخلاق وقوة التحمل بالأخلاق التجارية.
وإذا رجعنا إلى ما ذكره ديورانت في موسعة قصة الحضارة، عن رجال الكنيسة، وشهرتهم بالكذب، وهو شاهد من ملتهم عليهم، لرأينا ذلك متأصلا من جذور وثنية، سبقت الديانة النصرانية، فقد أخذوا ذلك عن الديانة الزرادشتية، وعن تعدد الآلهة عند الرومان، حيث تجري احتفالات دينية يتباكون فيها حزنا على موت بعض الآلهة في معتقدهم، لعدة أيام، ثم تضج أسواقهم بعد ذلك بأصوات الفرح ببعث ما يؤلهون من قبره وأن ما قيل ما هو إلا كذب (1) .
وهذا مصدر من مصادر فكرة هذه الكذبة المتعارف عليها،
__________
(1) قصة الحضارة 11: 146 - 163.(38/268)
وإن كان لم يحدد شهرا بعينه، إلا أنه قال في العيد الربيعي، ومعلوم أن شهر أبريل في الربيع.
أما محمد عبد الله عنان المؤرخ الأندلسي الشهير، فإنه قد ذكر في كتابه: نهاية الأندلس أشياء في نهاية تاريخ العرب بالأندلس، في الكتابين الثالث والرابع، من مأساة الموريسكيين أو العرب المنتصرين حيث اعتبر من مراحل الاضطهاد والتنصير الإجباري: ديوان التحقيق النصراني، ومتابعة المسلمين، وذروة الاضطهاد التي أوجبت ثورة الموريسكيين، حيث كانوا يتخفون بدينهم أكثر من مائة عام، فكانوا ينتهجون في ملاحقة المسلمين أساليب عديدة تعتمد كلها على الكذب في المتابعة والتحقيق، والمحاكاة الحاقدة على الإسلام ودفعهم المسلمين على الكذب، الذي هو منهجهم في تعاملهم مع المسلمين ومع بني جلدتهم ومع كل ديانة تخالف الكاثوليكية وما يجب أن تسير عليه.
ذلك أننا لو تتبعنا جزئيات كتب التاريخ، فإننا سنجد نماذج كثيرة جزئية وكلية، تفصح عن أساسيات هذا المنهج العقدي في كل بلاد لا ترتبط بالإسلام عقيدة وشريعة، إذ له جذور بوثنيات تنافي الإسلام بل إن الإسلام يحارب ذلك الأسلوب الذي تنفر منه كل الكائنات الحية، لأنه يخالف الفطرة السليمة، الإ أن بعض البشر الذين انقادوا للشيطان وغواياته قد انجذبوا إلى كل أمر يغضب الله عز وجل.
ولذا كان القرآن الكريم، وهو المصدر الأول للشريعة(38/269)
الإسلامية، وهو أمكن وأصدق من أي قول بشري، يؤكد أن أهل الكتاب: وهم اليهود والنصارى، كان من أعمالهم: تحريف الكلم عن مواضعه، وليس هذا على الناس فيما بينهم، حتى تلتمس لهم المعاذير، كما نرى من قولهم: هذه كذبة أبريل، أو هذه كذبة بيضاء، أو لا نريد غير المزاح، وما إلى ذلك.
إذ هذا يهون أمره أمام ما هو أكبر منه، فلقد كذبوا على الله، وعلى رسل الله وغيروا في شرع الله الذي شرع لهم قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} (1) وقال سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} (2) . وعن رسل الله قال الله عنهم: {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} (3) .
والقرآن الكريم مليء بما يفصح عن نوايا نفوسهم، وما نطقت به ألسنتهم، وما لقنوه للمشركين، ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبارات التكذيب، مما ينبغي معه أن يبتعد المسلم عن الكذب جدا أو هزلا، وأن ينتهج دربا يخالف دربهم، لأنه يتحلى بعقيدة تباين عقيدتهم ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر المسلم بمخالفتهم في كل أمر أو فعل، وألا يصدر في أحواله إلا عما هو مختوم بخاتم الإسلام، ومطبوع بطابع تعاليمه التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم طاهرة نقية.
__________
(1) سورة الزمر الآية 32
(2) سورة الأعراف الآية 37
(3) سورة القمر الآية 25(38/270)
والمسلم مأمور بعدم التساهل في الصغائر، لأنها تجر إلى الكبائر، ومأمور بالابتعاد عن أعداء دينه ومنهجهم، لأن ذلك يجر إلى محبتهم وموالاتهم، ومأمور بأن يعرض كل ما يعترضه على مصدري التشريع في دينه: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما خالفها يجب نبذه، وما رآه المؤمنون حسنا فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحا فهو قبيح، والشاعر يقول: -
كل المصائب مبداها من الصغر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(38/271)
صفحة فارغة(38/272)
الأخفش الأوسط أمقلد هو أم مجدد؟
بقلم
د \ عبد الكريم بن محمد الأسعد
ترجمة الأخفش وأضواء على شخصيته العلمية:
عاش الأخفش الأوسط في فترة ازدهار الدولة العباسية العلمي زمن المهدي والرشيد حيث سادت الجو العلمي العام آنذاك المظاهر الآتية:
كان القرآن الكريم بين أيدي النحويين، وقارئوه معهم، والبادية الفصيحة حولهم، والقبائل بين ظهرانيهم تحيط بالبصرة والكوفة ومنها يأخذون ما يريدون، كما كان النحاة يذهبون إلى الأعراب الفصحاء يسألونهم عن كلمة أو يسمعون أحاديثهم أو ينقلونها من أفواه حاملي المأثور وحافظيه منهم، ثم يروونها عنهم.
كانت حلقات الدرس تعقد في المساجد، ومجالس المناظرة تقام في(38/273)
دواوين الملوك والأمراء وبيوت علية القوم وأعيانهم، وكان الأعراب يجوسون خلال هذه الحلقات والمجالس ويقفون فيها على دروس النحويين ومناظراتهم.
ظهرت حاجة الخلفاء والأمراء والعظماء آنذاك للعلماء لتأديب أولادهم أو تزيين مجالسهم بما لا يقل عن حاجة العلماء إلى أموالهم.
انتشرت الأفكار الفلسفية ونشط الناس لدراستها، فتجلى الاعتزال، وظهر أثره القوي في علوم الدين، وساد الجدل فيها، وعم المنطق، وسيطر حتى على بعض الخلفاء كالمأمون وغيره.
تأثر البحث اللغوي والنحوي حينذاك بالعلوم العقلية وما فيها من العلل والبراهين، مما أخرجه إلى حد كبير عن النقل والسماع المحض، كذلك تأثر اللغويون والنحويون بهذا الجو تأثرا عميقا ظهر في مناهجهم في الدرس وطرائقهم في التفكير والتوجيه والتحليل.
وقد اشترك في لقب " الأخفش " كثيرون من مختلف الأمصار، أشهرهم ثلاثة، هم:
1 - أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد، الأخفش الأكبر، أو الكبير، النحوي البصري، المتوفى سنة 157 هـ، أو سنة 177 هـ، وكان من أكابر علماء العربية ومقدميهم، أخذ عنه أبو عبيدة معمر بن المثنى، كما أخذ عنه سيبويه.
2 - أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي -صاحبنا - الأخفش الأوسط، المتوفى سنة 211 هـ، أو سنة 214هـ، وسنفصل القول عنه بعد قليل.
3 - أبو الحسن علي بن سليمان، الأخفش الأصغر، أو الصغير المتوفى سنة(38/274)
315 هـ ببغداد، قرأ على ثعلب والمبرد واليزيدي، ورحل إلى مصر ثم إلى حلب فبغداد، قال المرزياني: إنه " لم يكن بالمتسع في الرواية للأخبار والعلم بالنحو، وما علمته صنف شيئا ولا قال شعرا، وكان إذا سئل عن مسألة في النحو ضجر وانتهر من يواصل مساءلته " (1) لكن ياقوت ذكر أن له كتاب " التثنية والجمع " وكتاب " شرح سيبويه " وكتاب "تفسير رسالة كتاب سيبويه " (2) .
وقد تعارف الباحثون على أن لقب " الأخفش " إذا أطلق انصرف إلى الأخفش الأوسط دون سواه، لأنه أشهر الأخافش على الإطلاق، فإطلاقه عن القيد يغني لشهرته عن لزوم تقييده به دائما، في حين لا غنى عن تقييد غيره على وجه الدوام بما ينبغي أن يقيد به من خاص لقبه.
سكن سعيد بن مسعدة البصرة، مولى لمجاشع بن دارم من تميم، فقطعت نشأته في بني مجاشع بينه وبين فارسيته، وأزالت حياته في البصرة اللكنة عن لسانه، وجعلته يلتزم بالتعبير الفصيح ويحرص على نقاء اللغة وينكر ما ألف الناس استعماله من العامية أو من غير العربية.
وقد حملته دواعي الدين وطلب الرفعة على الدرس والتحصيل، فحضر حلقات العلم في مساجد البصرة وأجاد فنون اللغة والنحو إجادة عظيمة، لقنه علم ذلك أعلام المعرفة في عصره، فقد أخذ عنه طائفة جليلة من العلماء مثل:
- عيسى بن عمر المتوفى سنة 1949 هـ الذي تلقى منه القراءة والنحو والصرف واللغة.
- وأبي عمرو بن العلاء المتوفى سنة 154 هـ الذي أفاد منه في القراءة وعلوم العربية، لكن أكثر ما نقله عنه على قلته جاءه منها بتوسط غيره
__________
(1) انظر القفطي، إنباه الرواة 278:2.
(2) انظر ياقوت، معجم الأدباء 248:13.(38/275)
بينهما، فقد كان يقول مثلا " زعم يونس عن أبي عمرو بن العلاء ".
- ويونس بن حبيب المتوفى سنة 182 هـ الذي أفاد منه ونقل عنه في النحو والصرف واللغة، وفي القراءة والتفسير، وفى الرواية عن العرب والشعراء، وفي معاني الشعر.
- وأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 209 هـ أو سنة 213 هـ الذي اتهم الأخفش بأن كتابه في معاني القرآن صورة مغيرة لكتاب (1) معمر فيها.
- وأبي زيد الأنصاري البصري المتوفى سنة 214هـ أو سنة 215هـ الذي أفاد منه في الصرف وفي لغات العرب، التي كان يروي عنه كثيرا منها.
أما تلمذة الأخفش للخليل المتوفى سنة 160هـ أو سنة 170هـ، ففي جمهرة المصادر القديمة أن الأخفش لقي من لقيه سيبويه عنهم، والخليل كما هو معروف من هؤلاء، بل هو أهمهم وأكثرهم أثرا في سيبويه.
وبعض هذه المصادر ينفي ذلك، قال ابن جني نقلا عن أستاذه أبي علي: " كان الأخفش مع الخليل في بلد واحد فلم يحك عنه حرفا " (2) .
وأغلب الظن عندي أن الأخفش قد تلمذ للخليل مرتين إحداهما مباشرة في العروض والأخرى في النحو بطريق غير مباشر، فقد كان الأخفش شديد العناية بالعروض والنحو معا، لذلك طلبهما عند أربابهما وأصحاب العلم الواسع فيهما، ولم يكن آنذاك من هو أعلم بهما من الخليل أستاذ سيبويه.
أما العرض فلم يكن ثم من فكر فيه وشغل باختراعه ثم اشتغل به آنذاك سوى الخليل، لهذا لازمه الأخفش لتلقي هذا العلم الجديد على
__________
(1) انظر الزبيدي، طبقات النحويين واللغويين 73.
(2) ابن جني، الخصائص 311:3.(38/276)
يديه، يدل على ذلك ويؤكده ما أجمعت عليه الروايات من أن عروض الخليل لم يأت إلا من طريق الأخفش، وأن هذا زاد في العروض فيما بعد بحر الخبب (1) .
وأما النحو فقد كان الميدان في درسه واسعا، والمشتغلون به كثيرون، وجلهم متميز قوي متمكن منه ومن اللغة أيضا، من هنا طرق الأخفش فيهما كل باب، وجلس إلى جميع المشاهير فيهما في زمانه وسمع منهم وتلمذ لهم، ويبدو أن انشغاله بالتلقي عن أساتذته الجهابذة في النحو، واستغراقه في ذلك كل الوقت لم يكن يسمح له بالحضور في حلقة الخليل النحوية وأن اكتفاءه بما يفيده منهم، لم يكن ليجعله حريصا على غيرهم، فاكتفى لذلك بأن يقصد حلقة الخليل في دروس العروض التي تفرد بها والتي لم يكن ليجدها عند غيره ليتلقى عنه هذا العلم وحده بشكل مباشر.
أما النحو وغيره من علوم الآلة وكذلك اللغة فقد تلقى ما تلقاه منها عن الخليل من طريقين غير مباشرين، أحدهما: ما كان يسمعه من أساتذته من علم الخليل، والثاني: طريق كتاب سيبويه الذي كان معرضا لآراء أستاذه الخليل والذي كانت عامة الحكاية فيه عنه.
إن التأمل فيما ذكرته أكثر المصادر وفيما نقله ابن جني عن الفارسي قادني في محاولة التوفيق بينهما بما يجعلهما يسلمان مما يظهر عليهما لأول وهلة من التناقض إلى قول ما قلت، فأبو علي في أغلب ظني قصد إلى نفي تلقي الأخفش النحو والصرف واللغة - وهي العلوم التي كان أبو علي يهتم بها ويكاد يقصر علمه عليها - عن الخليل على نحو مباشر، ولم يقصد إلى نفي تلقي العروض - الذي لم يكن معنيا به - عنه على هذا النحو، أما
__________
(1) انظر وفيات الأعيان 381:2.(38/277)
الجمهور فقد أطلق القول إطلاقا وعممه تعميما، ولكنه لم يحدد أي الدرسين كان من الأخفش على الخليل مباشرة وأيهما كان عن طريق الكتاب وغيره.
ومن أساتذة الأخفش سيبويه المتوفى سنة 161هـ أو سنة 188هـ أو سنة 194هـ. وكان الأخفش أحفظ تلاميذه وأعلمهم حتى نعت لذلك بصاحب سيبويه أو صاحب كتاب سيبويه، وقد روى عن سيبويه كتابه بل كان الطريق الوحيدة إليه إذ لا يعرف أحد سواه قرأه على سيبويه أو قرأه سيبويه عليه، وقد جعل هذا الصلة بينهما عميقة وأواصر الصداقة منعقدة وملازمة الأخفش لسيبويه مستمرة.
ومن أساتذة الأخفش الذين أخذ عنهم نحوا أو غيره بمقدار أو بآخر أبو الخطاب الأخفش، وقعنب بن أبي قعنب المعروف بأبي السمال العدوي البصري القارئ، وأبو مالك عمرو بن كركرة النميري، وحماد بن الزبرقان، وكانا بصريين، وعلي الجمل وهو نحوي مغمور كان بالمدينة وضع كتابا في النحو (1) منه، وأبو شمر المعتزلي الذي اكتسب الأخفش منه علما بالكلام وحذفا للجدل وتأثر بآرائه الاعتزالية في كتابه " معاني القرآن " مما جعله يؤول آيات الصفات وينفي الرؤية ويؤول آياتها وينحو هذا النحو في غير ذلك من آيات العقيدة في القرآن الكريم.
وقد انفرد السيوطي (2) بالقول إنه حدث عن الكبلي والنخعي وهشام بن عروة. وكان يكثر من استعمال " بعضهم " وممن عناهم بهذا اللفظ الحسن البصري وبعض أساتذته المعروفين كسيبويه وأبي عمرو بن العلاء.
__________
(1) انظر طبقات النحويين واللغويين 73.
(2) انظر السيوطي، بغية الوعاة 590:1.(38/278)
وكان للأخفش وراء هؤلاء أساتذة آخرون لا نعرف عنهم شيئا لأنه لم يصرح بأسمائهم في كتبه، وإنما كان يعبر عنهم بضمير الجماعة أو بالمفسرين أو بأهل التأويل أو بالنحويين أو بالجماعة أو بمن أثق به أو بعض أهل العلم، ولم توضح قرينة من نقوله عنهم أو نحوها، أو يذكر أحد من مترجميه أو شراحه من عنى بهذه التعبيرات.
أما تلاميذ الأخفش فقد كان الكسائي رأس الكوفيين وأحد القراء المشهورين المتوفى سنة 189 هـ في مقدمتهم، بدأت الصلة بينهما بعد المناظرة المشهورة التي جرت بين الكسائي وسيبويه في المسألة الزنبورية، وحين مر سيبويه بالبصرة مخذولا عرف الأخفش خبره مع الكسائي ثم مضى إلى الأهواز فما كان من الأخفش إلا أن تزود وركب سمارية (أي سفينة) توجه بها إلى بغداد ثم توجه إلى مسجد الكسائي وجلس في حلقته وكان فيها الفراء وأبو الحسن علي بن المبارك المعروف بالأحمر وهشام بن معاوية الضرير وابن سعدان من الكوفيين، وسأله عن مائة مسألة فأجاب الكسائي عنها بجوابات خطأه الأخفش في جميعها حتى أراد أصحاب الكسائي الوثوب عليه فمنعهم وعرفه وقام إليه وعانقه وأجلسه إلى جانبه وطلب إليه أن لا يفارقه فأجابه إلى طلبه حتى إذا ما اتصلت الأيام وتوطدت الصلة بينهم سأله أن يؤلف كتابا في معاني القرآن فألفه فجعله الكسائي له إماما وعمل عليه كتابا في المعاني (1) ، ثم إن الأخفش عاد إلى البصرة وجاء الكسائي إليها وسأله أن يقرأ عليه كتاب سيبويه فأقرأه فوجه إليه الكسائي خمسين دينارا أو سبعين (2) .
ومن تلاميذه أيضا هشام بن معاوية الضرير المتوفى سنة 209 هـ الذي كان بين تلاميذ الكسائي في حلقته في مسجده ببغداد حين جاء
__________
(1) انظر إنباه الرواة 37:2.
(2) انظر نزهة الألباء 134.(38/279)
الأخفش إليه.
وممن درس على الأخفش وروى عنه الجرمي المتوفى سنة 225 هـ ورفيقه المازني المتوفى سنة 236 هـ أو سنة 247 هـ أو سنة 249 هـ وقد أخذا عنه الكتاب (1) .
ومن تلاميذه أبو حاتم السجستاني المتوفى سنة 250 هـ أو سنة 255 هـ الذي روى عنه ودرس عليه كتاب سيبويه مرتين، ومرد علم أبي حاتم بالنحو إنما هو إليه، لكنه اشتهر بأنه كان حسودا ذماما فنال أستاذه الأخفش من اتهاماته نصيب، ولعل السبب في تحامل أبي حاتم على الأخفش على الرغم من أن هذا كان أستاذا له أنه طعن في فهم تلميذه للغة القرآن فرد عليه السجستاني بعنف (2) ورماه ببعض المثالب وشيء من العيوب.
ومن تلاميذه الرياشي اللغوي المقتول بالبصرة سنة 257 هـ وقد تلمذ للأخفش وروى عنه، لكنه قرأ الكتاب على تلميذه المازني (3) .
ومنهم أبو عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني المتوفى سنة 288 هـ وقد اشتهرت روايته مسألتين في اللغة عن الأخفش، كما كثرت روايته عنه في كتابه " معاني الشعر " (4) .
وانفرد أبو الطيب (5) اللغوي وتابعه السيوطي (6) بالقول إن من تلاميذ الأخفش أبا العباس الناشئ ولكن لم تعرف له في كتب النحو مسائل تؤكد ذلك.
وذكرا (7) أيضا أن التوزي المتوفى سنة 230هـ يعد في تلاميذه وقد قال التوزي نفسه إنه روى عن الأخفش، ونص ابن دريد على أخذه عنه، كما ذكر أبو حاتم أنه حضر ذات يوم مجلس الأخفش وعنده التوزي،
__________
(1) انظر نزهة الألباء 134.
(2) انظر الخصائص 301:3، 308، 309.
(3) انظر إنباه الرواة 369:2.
(4) انظر ابن جني، المنصف 135:1، والسيوطي، المزهر 1: 512-518.
(5) انظر أبا الطيب اللغوي، مراتب النحويين 85.
(6) انظر البغية 590:1.
(7) انظر مراتب النحويين 75، والمزهر 2: 407-408.(38/280)
وأنهما ناقشاه.
أما الزيادي المتوفى سنة 249 هـ فقد ذكر أنه أفاد من الأخفش في سؤال وجهه إليه عن قولهم: " مررت برجل قائم زيد أبوه، أأبوه بدل أم صفة؟ " (1) .
وقد تلمذ قطرب المتوفى على المشهور في عام 206 هـ للأخفش، لكن أخذه عنه كان قليلا لا يعدو عدة مسائل.
ومن تلاميذ الأخفش:
اليزيدي (2) المتوفى سنة 225، وقد روى عنه كتابه: " معاني القرآن " وعرض عليه. والطوال (3) المتوفى سنة 243 هـ الذي روى عنه وتابعه في مسائل عديدة (4) والجاحظ (5) المتوفى سنة 255 هـ. وقد تحدث في كتبه أكثر من مرة عن الأخفش وعلمه بالشعر، وعن علاقته بطلابه.
وقد خلف الأخفش مؤلفات عديدة في فنون متنوعة، منها في النحو والصرف واللغة: المقاييس، المسائل الصغيرة، الاشتقاق، معاني الشعر، الأصوات، لامات القرآن، التصريف، الواحد والجمع في القرآن، البسيط، هي جميعا مفقودة.
ووصلنا من مصنفاته أربعة غير تامة هي:
كتاب " معاني القرآن " الذي ألفه في بغداد بناء على طلب الكسائي.
كتاب " المسائل الكبير " في النحو الذي صنفه في بغداد أيضا بعد أن سأله هشام الضرير بخاصة عن فروع نحوية، وبعد أن رأى اهتمام تلاميذه الكوفيين جميعا بالمسائل المتفرقة في النحو والصرف (6) .
كتاب " الأوسط " في النحو.
كتاب " العروض والقوافي ".
__________
(1) انظر الخصائص 428: 2.
(2) انظر إنباه الرواة 41: 2، وابن رشيق، العمدة 105: 2، الجاحظ، الحيوان 63: 1.
(3) انظر إنباه الرواة 41: 2، وابن رشيق، العمدة 105: 2، الجاحظ، الحيوان 63: 1.
(4) انظر المغني 492: 2، ت محمد محي الدين عبد الحميد، والسيوطي، همع الهوامع 66: 1.
(5) انظر إنباه الرواة 41: 2، وابن رشيق، العمدة 105: 2، الجاحظ، الحيوان 63: 1.
(6) انظر طبقات النحويين واللغويين 73 - 74.(38/281)
وقد أوردت المصادر نقولا كثيرة من أكثر كتب الأخفش النحوية واللغوية المفقودة، وذكر بعض المصنفين أسماء بعضها، فقد نقل على سبيل المثال من كتابه " الواحد والجمع في القرآن " في الهمع والمزهر (1) ، ومن كتابيه " المسائل الصغير " و " البسيط " في الأشباه والنظائر (2) وذكر ابن جني في الخصائص كتابه " المقاييس " (3) .
ولقد عاش الأخفش ملء السمع والبصر، فقد صحب سيبويه، وكان أبرع تلاميذه على الإطلاق، أخذ عنه كل ما عنده، وحرص على أن يقرأ عليه الكتاب مدققا فيه مستفسرا منه عن كل مشكلاته (4) ، وحين برع التلميذ في النحو ناظر أستاذه كما أن الأستاذ إدركا منه لما آل إليه الأخفش من سعة العلم عرض عليه أشياء لاعتقاده أنه أعلم منه الآن بعد أن كان سيبويه أعلم (5) ، وقد زاد تبجيل سيبويه له من تواضعه لأستاذه، فهو القائل له " إنما ناظرتك لأستفيد لا لغيره " (6) فيجيبه سيبويه: " أتراني أشك في هذا " (7) .
هكذا كان الأخفش على علم دقيق بمنهج سيبويه وبمحتويات كتابه، وهكذا كانت ثقة سيبويه بالأخفش وبعمق فهمه عظيمة، فسيبويه أعظم النحاة وإمامهم آنذاك، والأخفش تلميذه في كتابه، ومستشاره في بعض ما وضع فيه، وحامله إلى الناس وحافظه للأجيال بعده، وهو في الوقت نفسه العالم بهفواته التي جرى كثير منها على لسانه بعد وفاة سيبويه أمام طلابه، مما حمل الكسائي الكوفي - وكان أحدهم - على أن يرى أنه لم يكن في البصريين من هو أعلم من الأخفش بالكتاب؛ لأنه الذي نبه على عواره (8) .
كذلك كانت مصنفات الأخفش النحوية مصادر اعتمد عليها
__________
(1) انظر الهمع 27: 1، والمزهر 149: 2.
(2) انظر السيوطي، الأشباه والنظائر 18: 1، 6: 2، 25.
(3) انظر الخصائص 2: 1.
(4) انظر عبد الأمير الورد، منهج الأخفش الأوسط 85.
(5) انظر أبا الطيب اللغوي، مراتب النحويين 69.
(6) السيرافي، أخبار النحويين البصريين 49.
(7) السيرافي، أخبار النحويين البصريين 49.
(8) انظر مراتب النحويين 68.(38/282)
العلماء بعده، فكتابه "المسائل الكبير" مثلا مصنف ضخم عول عليه ابن السراج النحوي البغدادي المتوفي سنة 316هـ في كتابه المعروف "الأصول" وأخذت أيضا كتب النحو المعتمدة نقولا كثيرة منه (1) .
لكل هذا كان من الطبيعي أن يتعرض الأخفش من معاصريه أو غيرهم لما يتعرض له الأعلام من الأعلام في المعتاد، فوجهت إليه من بعضهم سهام الطعن، ونسبت إلى صياغاته في مؤلفاته المثالب؛ فقد قيل فيه مثلا: إنه كان يتزيد في حب المال، وإن آية ذلك حرصه على أن لا يقرئ كتاب سيبويه للكسائي والجرمي والمازني إلا بالأجر الوفير، وإنه كان يبهم في كتبه ويغمض في أساليبها حتى ضج من ذلك الكبار كالجاحظ المتوفى سنة 255هـ الذي ناقش الأخفش في سبب جعل كتبه في النحو غير مفهومة (2) ، ولامه على ذلك لوما شديدا ودعاه إلى تبسيطها، وقد أجابه الأخفش قائلا: "أنا رجل لم أضع كتبي هذه لله، وليست هي من كتب الدين، ولو وضعتها هذا الوضع الذي تدعوني إليه - يقصد الوضع السهل - قلت حاجاتهم إلي فيها، وإنما كانت غايتي المنالة. . وإنما قد كسبت في هذا التدبير، إذ كنت إلى التكسب ذهبت" (3) . وكثعلب الكوفي المتوفى سنة 291هـ الذي قال لابن الخياط النحوي البغدادي المتوفى سنة 320هـ عن كتاب الأخفش: "المسائل الكبير" في النحو: "ويحك صاحبك هذا مجنون يتكلم بما لا يفهم" (4) فأجابه: "هذا رجل أشرف على بحر فهو يتكلم منه بما يريد" (5) .
ولقد حملت صعوبة كتبه وتعقيد أساليبها المصنفين على الاهتمام البالغ بمعالجة ما فيها من الوعورة والحرص على إبانة مقصودها، فكتاب "الأوسط" مثلا جعل المبرد البصري المتوفى سنة 285هـ يحرص على
__________
(1) انظر مثلا: الهمع 172: 1.
(2) انظر الجاحظ، الحيوان 63: 1.
(3) الحيوان 92: 1.
(4) طبقات النحويين واللغويين 74.
(5) طبقات النحويين واللغويين 74.(38/283)
إيضاحه لأهميته، فصنع عليه كتابا سماه "معنى كتاب الأوسط للأخفش " وكأني بمبرمان النحوي البغدادي المتوفى سنة 326هـ قد رأى أن هذا الكتاب المهم الذي يظهر آخر ما استقر عليه الأخفش من الآراء - لأنه الكتاب الذي عاد فيه إلى موافقة سيبويه في عدد من أقواله التي كان خالفه فيها من قبل والذي نص فيه على أن ما عاد إليه هو آخر قوليه (1) - مازال يحيط به الغموض، وأن شرح أستاذه المبرد لم يكن كافيا ولا شافيا في الكشف عن مكنوناته، فانصرف بدوره إلى شرحه مرة أخرى وإلى تجليته في صورة واضحة لا لبس فيها ولا التواء.
وقد تحامل عليه أيضا أبو حاتم السجستاني فنسب إليه أنه وضع كتابه في النحو من كتاب علي الجمل نحوي المدينة المغمور، وأنه أخذ كتاب أبي عبيدة في معاني القرآن وادعاه لنفسه بعد أن غير فيه وبدل، وأنه كان يحتج بشعر بشار المتوفى سنة 167 هـ في كتبه لا لشيء إلا ليدرأ عنه شر لسانه (2) .
ومما يشكك في أن يكون احتجاج الأخفش بشعر بشار حقيقة وحقا مقطوعا بهما: أن غير أبي حاتم قد روى أن الاحتجاج بشعر بشار إنما كان من سيبويه (3) لا من الأخفش، ثم إن هذا الشك قد تحول عندنا إلى ما يشبه اليقين حين رأينا أن الأخفش قد توفي سنة 211هـ أو سنة 214هـ ولا يعقل أن يكون احتجاجه بشعر بشار مخافة لسانه وبين سنتي وفاتهما نصف قرن من الزمان تقريبا.
أما ما زعمه أبو حاتم من أن الأخفش وضع كتابه في النحو من كتاب علي الجمل فإنه يبدو لي أن أبا حاتم انتهز إحدى الفرص ليرمي الأخفش بهذا، فقد رأى الأخفش يقول في كتابه "الزيت رطلان بدرهم"
__________
(1) انظر مثلا الهمع، 196: 2، والتصريح 333: 2.
(2) انظر إنباه الرواة 37: 2.
(3) انظر الأصفهاني، الأغاني 3: 203 - 204.(38/284)
في حين كان الزيت لا يذكر في البصرة لأنه ليس بإدام أهلها، فأسرع أبو حاتم إلى اتهامه بالنقل الحرفي - عن علي الجمل وهو النحوي الضعيف وعن كتابه في النحو الذي لم يكن شيئا فذهب - حتى للأمثلة التي لا تستعمل في بيئة الأخفش وأبي حاتم البصرية (1) .
أما أن الأخفش قد أخذ كتاب أبي عبيدة في معاني القرآن وادعاه لنفسه بعد أن غير فيه وبدل على حد قول أبي حاتم فأحسن جواب على هذا ما روي من أن أبا حاتم قال للأخفش حين رأى كتابه في معاني القرآن: أي شيء هذا الذي تصنع؟ من أعرف بالغريب؟ أنت أو أبو عبيدة؟ فأجابه: أبو عبيدة، فقاله له السجستاني: هذا الذي تصنع ليس بشيء، فأجاب الأخفش: الكتاب لمن أصلحه وليس لمن أفسده (2) .
وينبغي لنا مع هذا كله أن نتحفظ في قبول ما وجهه أبو حاتم على وجه الخصوص إلى أمانة الأخفش العلمية من المطاعن، وأن لا ننظر إليه بمعزل عما يكنه أبو حاتم في نفسه للأخفش من التحامل والضغينة لسبب شخصي هو ما رماه به من سوء فهمه لمعاني القرآن، بالإضافة إلى أن أبا حاتم نفسه كان بطبيعته طعانا حقودا كثير الافتراء للمثالب والعيوب يرمي بها غيره بالحق والباطل.
ولا يصح أيضا في النظر السليم أن يقبل ما زعم من محاولة الأخفش ادعاء كتاب سيبويه استنادا إلى ما كان بينهما من صلة شخصية وثيقة وعلاقة علمية عميقة، فقد جاء هذا الاتهام في قصة غريبة ذكرتها بعض الروايات، وفحوى هذه القصة أن كتاب سيبويه آل إلى الأخفش بعد موت صاحبه وربما في حياته، وأن الأخفش أخذ يقصد بعد سيبويه
__________
(1) انظر مراتب النحويين 100.
(2) انظر طبقات النحويين واللغويين 73.(38/285)
لقراءته عليه؛ لأنه كان أعلم الناس به وأكثرهم اطلاعا عليه، كما اشتهر عنه استحسانه له ورأيه بأنه لا نظير له في حسنه وصحته وجمعه لأصول النحو وفروعه، وقد علم بهذا الجرمي والمازني فيمن علم فخشيا أن ينتحله، واتفقا على أن السبيل إلى إظهاره ومنع الأخفش من ادعائه هو قراءته عليه بالأجرة، فأرغباه بها مجزية، فقبل، وشرعا في ذلك وأخذا الكتاب عنه ومن ثم أعلنا أنه لسيبويه وأشاعا ذلك (1) .
إن هذا الزعم لم يثبت على وجه القطع وإن ثبتت قراءة الجرمي والمازني الكتاب على الأخفش، ذلك أنه كان من الممكن أن يكون حب الأخفش للمال ورغبته فيه وميله للاستكثار منه سببا يحمله على أن يضن بإقراء كتاب سيبويه لمن يرغب في ذلك من الطلاب إلا بأجر كبير وداعيا له على أن يخفيه حتى يحمل الراغبين فيه على الانصياع لرغبته في هذا الأجر ولا سيما أنه وحده المالك للنسخة الوحيدة منه، فإنه ليس من الضروري في حكم العقل أن يكون ذلك سببا قطعيا نتهمه من أجله بمحاولة انتحال الكتاب، إذ لا رابط بين الأمرين على وجه لازب. إن هذا الاتهام الذي لم تجمع عليه الروايات ولم يردده أكثرها ملفق في غلبة الظن وهو إن كان صدر من الجرمي والمازني فإنه لا يخلو أن يكون مسببا من الحسد الطبيعي الذي لا يستغرب بين كبار العلماء أو أن مبعثه سبب أو آخر من الأسباب الشخصية.
وأيا ما كان الداعي فإن مرد هذا الأمر كله إنما هو بدون شك إلى ما كان عليه الأخفش من منزلة عليا وما اتصف به من اقتدار وتفوق ونبوغ في درس اللغة والنحو مما أنفس معاصريه وغيرهم وأوجدهم وأحفظهم عليه.
__________
(1) انظر نزهة الألباء 134.(38/286)
وفي ظني أن حرص الأخفش على المال واتخاذه الوسيلة للحصول عليه عن طريق إغماض المعاني وإبهام المباني حتى يحتاج إليه في إدراك المقاصد فيعمد إلى التعلم بالأجر الذي يريد - إنما كان منه لكي لا يصير إلى ما صار إليه الخليل، وقد عرف أنه عاش فقيرا في خص من خصاص البصرة لا يشعر به أحد وأصحابه يكسبون بعلمه وكتبه الأموال (1) ، أو إلى ما صار إليه سيبويه الذي لم يسعفه الحظ في الوصول إلى الثروة والجاه في حياته كما اشتهى، وليصبح في وصوله إلى مراده منهما كالكسائي والفراء فيهيء لنفسه العيش الكريم والمنزلة اللائقة مثلهما.
ويؤكد هذا المعنى ما هو معروف من قصة الأخفش مع الكسائي، حين ذهب الأخفش من البصرة إلى بغداد؛ ليثأر لأستاذه سيبويه من خصمه الكسائي، الذي هزمه بغير وجه حق في المناظرة الشهيرة في المسألة الزنبورية في دار الرشيد بحضرته وحضرة وزيره وعلية القوم معهم، ولم يكن سيبويه نفسه ليذهب إلى بغداد ليناظر الكسائي شيخ الكوفيين إلا طمعا في مثل ما رآه عليه من قرب للخلفاء والأمراء والوزراء ونحوهم، وإلا رغبة فيما يؤدي إليه هذا في العادة من نعيم ورفاهية فارهة ونفوذ علمي كان الكسائي ورؤساء النحاة الكوفيين يتمتعون بها جميعا، كذلك لم يكن تلميذه الأخفش - وهو البصري الأصيل كأستاذه - ليتحول بعد وصوله بغداد ولقائه بالكسائي وترحيب هذا به من العداء له بخاصة والخلاف مع الكوفيين بعامة إلى نقيض ذلك تماما لولا ميله إلى مثل ما مال إليه سيبويه من قبل ورغبته فيما رغب فيه، وقد تحقق له على كل حال ما لم يتحقق لأستاذه، فعاشر العظماء في بغداد وعاش مع الكبراء، واختلط بهم، وعلم أولادهم، وأقام المناظرات في مجالسهم، وأفاد منهم مالا
__________
(1) انظر نزهة الألباء 135.(38/287)
وجاها، كما استفادوا منه وأولادهم علما ومعرفة، كذلك مازج نحاة الكوفة الميقيمين في بغداد وخالطهم وأقرأ شيخهم الكسائي كتاب سيبويه سرا، وانتهى به الأمر إلى الاتفاق فيما بعد معهم في شطر كبير من آرائهم ومذاهبهم، وإلى الاختلاف مع قومه وأهله من البصريين اختلافا نجده ماثلا في طائفة كثيرة من المسائل النحوية المبثوثة في الأمهات وغيرها.
هذا هو الأخفش وهذه هي صورته العلمية ومنزلته العقلية عرضناها فيما سبق من مناقشات، ومن خلال ما أوردنا أيضا في ترجمته من أخبار ومعلومات، وهي جميعا تلقي عليه الضوء ساطعا، وتعد مدخلا حسنا للشروع في درس نحوه درسا على مقدار من التفصيل يناسب طبيعة مثل هذا البحث، لنتمكن من أن نتبين في خاتمة المطاف حقيقة وضعه بين النحاة، ولنعرف درجته في الفن، ولنجيب بعد ذلك على تساؤل مفاده: هل كان الأخفش نحويا كبيرا يسير على وتيرة نظرائه من الكبار فحسب، أم أنه حاول التجديد وأراد أن يشق طريقا مستقلا مميزا خاصا به، أم أنه كان بين بين، يقلد تارة ويجدد أو يحاول التجديد تارة أخرى؟(38/288)
دراسات الأخفش النحوية:
أ) تمهيد:
ما زال الأخفش في نظرنا - على الرغم من وجود بعض الدراسات المستقلة عنه وعن نحوه - محتاجا إلى تجلية موقفه من خلال تمحيص ما جرت به أقلام الباحثين ودار في أبحاثهم ودراساتهم عنه، وكذلك من خلال معاودة درس فروعه ومناقشة آرائه وتقويم دراساته لاجتلاء حقيقة اتجاهاته، وللكشف عن قدراته ومن ثم بيان منزلته ووضعه في(38/288)
موضعه الصحيح من تاريخ النحو والنحاة، وذلك على نحو جديد يظهر معه وجه الحق على ما ينبغي له من الوضوح والإنصاف.
وهناك حقيقتان لا بد بادئ ذي بدء من التذكير بهما:
أولاهما: ما تقرر في الأذهان واستقر في الأفهام وأفاض الباحثون في بيانه من أن العربية لغة خصبة تمتاز بتنوع لهجاتها وتعدد لغاتها، وأنها ثرية بمنظومها غنية بمنثورها، ثرية بأفانين القول وبديع المعاني فيهما، تجد فيها الشعر الرائع والنثر الرفيع والحكمة الفائقة والمثل الدقيق، وأن القرآن الذي نزل بهذه اللغة يتميز بوفرة قراءاته وتنوع درجات هذه القراءات، وبأنه سنام الفصاحة وذروة البلاغة.
والثانية: ما هو معروف من أن موقف نحاة البصرة ونحاة الكوفة في دراساتهم النحوية لم يكن واحدا، بل كان متمايزا ومتفاوتا، وأن كلا من الفريقين على وجه العموم وبعض مشاهير النحاة وأعلامهم من كل فريق على وجه الخصوص - قد اتخذوا مواقف مختلفة ومستقلة من الموروثات اللغوية والتزموا أطرا خاصة بفرقهم أو بأنفسهم. وقد أكثر الدارسون من بيان هذا كله إلى جانب إسهامهم في إيضاح الأسس العامة التي التقى عليها جمهور الفريقين، وهم لا يخرجون عن القول بأن موقف النحاة البصريين من الأخذ بأصول الاحتجاج في النحو كان متشددا في حين كان موقف الكوفيين متساهلا.
ولقد أصبح هذا القول مستقرا في الأذهان متداولا على الألسنة مسجلا في الكتب. والحق أن هذه القسمة الضيزى التي أرادوا لها أن تكون قاطعة صائبة دقيقة شاملة - ليست كذلك؛ لأن طبيعة الاتجاهات العلمية العامة تنفر من مثل هذا التحديد الصارم والتقسيم الحاسم الذي(38/289)
يراد له أن يلبس لباس القانون الجازم الذي لا يند عنه مخالف ولا يشذ عن إطاره فرد واحد.
ونحن إذا أمعنا النظر في هذا التقسيم بشكل موضوعي وأدرنا فيه النظر الفاحص، وأمعنا في تحليله وتقليبه وطبقناه على أرض الواقع نجد أنه ليس دقيقا، بل ليس صوابا، لما فيه من تعميم يوقع الباحثين في الخلط أو الخطأ.
والحق أن كل إمام من أئمة المدرستين كان له اتجاه عام في دراساته النحوية يوافق فيه أهل مدرسته من أكثر الوجوه، ولكنه في الوقت نفسه كان يخالفهم أو يتفرد من بينهم في وجوه أخرى خاصة وفي مواقف ومسائل بأعيانها، ولولا هذا لما كان إماما ولما استحق هذا اللقب، فالأمر عند كل واحد من هؤلاء لا يقتصر على التقليد المطلق لأهل بلده فقط ولا على الاجتهاد المتفرد الذي يسلخه دائما عن الطابع العام لمدرسته التي ينتسب إليها، وإنما هو مزيج من هذا وذاك فهو تارة مقلد وأخرى متفرد.
والتمايز بين هؤلا الأعلام إنما يكون بكثرة التقليد وغلبته على التجديد عند أحدهم، فيسلك لذلك في المقلدين، أو بظهور التجديد ظهورا بينا متمايزا في طائفة حسنة من مسائله، فيسلك لذلك في المجددين، أو بمراوحته بين هذا الموقف وقسيمه فيكون في هذا الفريق باعتبار وفي الآخر باعتبار مخالف.
ونحن نجد في كتب النحو وأبحاثه أمثلة كثيرة لهذا، فسيبويه إمام البصريين مثلا كانت له آراء خالفه فيها أشياخه، والفراء شيخ مدرسة الكوفة كان له مذهب انحرف فيه عن مذهب الكسائي شيخ الكوفيين قبله في غير ما موطن، ولنحوينا الأخفش الأوسط آراء خالف فيها أستاذه(38/290)
سيبويه بل ربما نقضها وأخرى خالف فيها سائر البصريين، كما أنه أخذ في بعض الأحيان ببعض رأي سيبويه في المسألة الواحدة ورفض بعضه، وروي له في بعض المسائل قولان تابع سيبويه في أحدهما وخالفه في الآخر، وله أيضا مواقف عاد فيها إلى موافقة سيبويه في عدد من الآراء، كان خالفه فيها من قبل، وذكر أن ما عاد إليه هو آخر قوليه (1) ، كذلك كانت له مذاهب وآراء كثيرة اتفق فيها مع الكوفيين، مما يسمح بأن يعد واحدا ممن فتحوا أبواب الدرس النحوي أمامهم في وقت مبكر ومهدوا لهم طريقه حتى أصبح له طابعه الخاص الذي عرف به فيما بعد.
إن فضل الأخفش على نحو الكوفيين واضح، فقد صنف لهم كتاب "المسائل الكبير" في النحو بعد أن سأله هشام بن معاوية الضرير الكوفي عن مسائل عملها وفروع فرعها، وبعد أن رأى أيضا اهتمام تلاميذه الكوفيين جميعا بالمسائل المتفرقة في النحو والصرف واعتمادهم عليها فلم يعرفوا أكثر مما أورده الأخفش لهم (2) في هذا الكتاب.
ولقد كان لإقراء الأخفش (3) الكسائي الكوفي كتاب سيبويه أثر في العلاقة العلمية بين الرجلين، فقد تقوت هذه العلاقة بذلك واتصلت، ومن ثم أثرت في نحو الكسائي أولا، وفي نحو الأخفش أيضا، فكان التأثير بذلك متبادلا بين الأستاذ وتلميذه. كذلك ظهر تأثير الأخفش في تلميذه الفراء الكوفي ظهورا واضحا في كتاب "معاني القرآن" الذي عمله الفراء على كتاب الأخفش وكتاب الكسائي (4) فيها.
وهكذا كان شأن سائر الأئمة في الدرس النحوي واللغوي على مر الأيام والعصور. ولنلق الآن نظرة فاحصة على مسائل الأخفش وآرائه ومواقفه، وهي مبثوثة في كتب النحو، وأكثر من أن تحصى، وسنختار في
__________
(1) انظر مثلا الهمع 196: 2، والتصريح 333: 2.
(2) انظر طبقات النحويين واللغويين 73.
(3) انظر نزهة الألباء 134.
(4) انظر إنباه الرواة 37: 2.(38/291)
دراستنا الآتية نماذج لكل ما أسلفنا القول فيه في هذا التمهيد، وسوف نعرض من خلال هذه النماذج مواقف الأخفش من القراءات القرآنية، ومن لغات العرب، ومن أصول النحو وفروعه، لنرى ما إذا كان يعد في المقلدين فحسب، أو في المجددين وحدهم، أو أنه كان بين هؤلاء وهؤلاء يجدد تارة ويقلد غالبا، أو يفعل عكس ذلك.(38/292)
ب) القراءات القرآنية وموقف البصريين والكوفيين بعامة منها:
مما عيب به البصريون الإسراف في التأويل والتقدير في آيات القرآن التي تخالف أقيستهم وقواعدهم في حين رغب الكوفيون عن هذا إلا في الضرورة.
وفي ظني أن البصريين، وكذلك الكوفيون الذين فعلوا ذلك، إنما فعلوه جميعا لغرض طبيعي هو محاولة إقامة التناسب وإزالة التنافر بين النص وقانونهم النحوي، ولا يلزم أن يكون ذلك لخطأ النص وفساده بل هو إظهاره عن طريق التأويل والتقدير لما في حقيقة هذا النص من التطابق مع قانونه خلافا للتناقض الظاهر بينهما، فيصح النص وكذلك القاعدة ويزول ما يبدو بينهما من تناقض غير حقيقي ويظهر الانسجام بين ما أولوه ووجهوه وقدروه وبين ما قعدوه وقننوه، وفي التمثيل لذلك نذكر قول البصريين: إن الجملة الاسمية إذا وقعت جوابا للشرط وجب ربطها بالفاء وقد تنوب عنها إذا الفجائية، ولما عورضت قاعدتهم هذه بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} (1) أولوا الشاهد في الآية وقالوا إن "إذا" فيها ليست شرطية وإنما هي ظرف زمان لخبر المبتدأ بعدها، لأنها لو كانت شرطية هنا لوجب اقتران جوابها بالفاء (2) .
ولما عورضوا أيضا بقوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} (3)
__________
(1) سورة الشورى الآية 39
(2) انظر الهمع 60: 2، ويرى الأخفش أن الآية على حذف الفاء وأن إذا شرطية خلافا للبصريين.
(3) سورة البقرة الآية 180(38/292)
وفيها جواب الشرط جملة اسمية غير مقترنة بالفاء أو بإذا الفجائية وكان من غير الممكن القول بأن "إن" غير شرطية لأن "إن" غير "إذا" ذهبوا بذكاء إلى أن جواب الشرط محذوف وهو مقترن بالفاء وفاقا لقاعدتهم، وأن التقدير "كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت الوصية للوالدين إن ترك خيرا فليوص".
ونسوق في التمثيل لذلك أيضا قوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} (1) الذي خرجه سيبويه وجمهور البصريين على تقدير فعل محذوف مماثل للفعل المذكور؛ لأن قاعدتهم لا تجيز دخول إن الشرطية على اسم، في حين أعرب القراء وجمه
ور الكوفيين الذين يجيزون تقديم الفاعل الاسم الظاهر على فعله - "امرؤ" فاعلا متقدما لفعل الشرط المؤخر المذكور، وأعرب الأخفش البصري "امرؤ" مبتدأ وما بعده خبرا والجملة الاسمية (2) شرطا لإن، فمجيء شرط إن جملة اسمية من قواعده المقررة.
ومع أن إعراب الأخفش ثم إعراب الكوفيين أوضح وأسلس من إعراب جمهور البصريين وإمامهم؛ لأن ما لا يحتاج إلى تقدير خير مما يحتاج إليه كما يقال - فإن ذلك لا يعني أن إعراب البصريين خطأ، كما لا يعني أن مبعث ما فعلوه هو أن نص الآية كما هو غير مستقيم يحتاج إلى تأويل وتقدير لإقامته.
والأوجه في هذه الآية ونحوها أن ينبني ترجيح أحد الإعرابين على قسيمه على المفاضلة بينهما باعتبار أن الأفضل والمفضول صحيحان، وأن الأولى لا يقتضي بطلان غير الأولى، ومن ثم لا يسوغ القول إن تقدير سيبويه ومن تابعه وتوجيههم للآية هو تخطئة لها أو التواء بها لتنسجم مع القاعدة النحوية لمجرد التمسك بالصنعة وحدها أو التحمل في تطبيق قواعدها.
__________
(1) سورة النساء الآية 176
(2) انظر العدوي، حاشيته على شرح الشذور 55: 1.(38/293)
ولقد رمي البصريون أيضا بأنهم -خلافا للكوفيين - لم يستفيدوا في تقرير قواعد النحو وتحرير مسائله من جميع القراءات القرآنية التي تتمثل فيها أفصح لغات العرب حتى إن شذت، مع أن هذه القراءات في كل الأحوال أقوى بكثير من سائر المرويات التي احتجوا بها والتي ليست بقرآن، ومع أن القرآن نفسه بصرف النظر عن قراءاته يعد - كما لا يخفى - الينبوع الأعظم والبرهان الأقوم في مبانيه ومعانيه على حد سواء.
وقد استدل الرامون على ما قالوا بمواقف النحاة البصريين في كثير من المسائل النحوية، ومن هذه المسائل على سبيل المثال:
قول البصريين تبدل الهمزة من حرف المد الزائد الواقع بعد ألف فعائل أو مفاعل نحو عجائز وصحائف، والأصل عجاوز وصحايف؛ لأن مفرده عجوز وصحيفة، ولا تبدل منه إذا كان أصليا مثل معايب جمع عيب ومعاون جمع عون فلا يقال فيهما معائب (1) ومعائن.
ولما أوردت عليهم قراءة نافع "لكم فيها معائش" قالوا إنها ضعيفة في القياس (2) ، على الرغم من أن نافعا من القراء السبعة وقد روى قراءته العديد من الثقات.
وقول بعضهم لا يجوز تسكين لام الطلب بعد ثم إلا في ضرورة (3) الشعر مع أن جمهور السبعة قرأ قوله تعالى: {ثُمَّ لِيَقْطَعْ} (4) ، وقرأ حمزة والكسائي من السبعة وغيرهما قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا} (5) بالسكون، وليس في الآيتين ضرورة شعرية.
وقول طائفة منهم لا يجوز صوغ اسم التفضيل من أفعل الرباعي إلا شذوذا (6) وحين أورد عليه قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} (7) وفيه أقسط وأقوم المصوغان من أقسط وأقام الرباعيين،
__________
(1) انظر الهمع 22: 2، وابن الأنباري، البيان في غريب إعراب القرآن 355: 1.
(2) انظر الهمع 22: 2، وابن الأنباري، البيان في غريب إعراب القرآن 355: 1.
(3) انظر المغني 294 - 295 ت د. مازن المبارك وزميله.
(4) سورة الحج الآية 15
(5) سورة الحج الآية 29
(6) انظر حاشية العدوي 170: 2.
(7) سورة البقرة الآية 282(38/294)
قالوا: إن أقسط مصوغة من قسط الثلاثي بصرف النظر عن أن معنى قسط هو جار ولم يعدل وأن هذا نقيض المعنى المراد في الآية، وقالوا: إن أقوم صحيحة فصيحة ولكن هذا لا يمنع من الحكم بشذوذها هنا حتى لو كانت في القرآن.
ويبدو أن البصريين - كما يظهر من هذه النماذج الثلاثة التي ذكرناها ومن نحوها لم يستقصوا وجوه قراءات القرآن على ما ينبغي قبل أن يقرروا قواعدهم ويحرروا ضوابطهم، مما جعلهم يعمدون إلى مثل ما رأينا من الأحكام، حين رأوا قواعدهم تقصر عن شمول بعض القراءات المعتد بها.
إن ما سبق حمل مخالفي البصريين وأخصامهم على أن يعيبوا عليهم شدة حفاظهم على قواعدهم، وتمسكهم بها كما وضعت، وركوبهم متن الشطط في جعلها أهم من قبول المسموع والإقرار به كما هو، وتخطئتهم ما يعجزون عن تأويله من الشواهد المختلفة، وحملهم أيضا على أن يرموهم بالمبالغة في التكلف لكي لا تنتقض هذه القواعد بشاهد حتى لو كان من القرآن الكريم، ودفعهم كذلك إلى أن يستنكروا زعم بعض البصريين أن القراءات المخالفة لقوانينهم إن لم تكن ظنا فهي تخليط ربما تولد من خطأ كتاب المصاحف في الرسم، وأن القرآن يجب أن يستمد قراءاته من قواعدهم، مع أن الواجب هو أن يستمدوا قواعدهم من الكتاب العزيز وأن يدينوا له بالإذعان؛ لأنه أفصح كلام عرفه اللسان العربي المبين.
على أن كتب النحو والقراءات القديمة والحديثة قد تضمنت ردودا مستفيضة على هذه الاتهامات التي وجهت إلى البصريين ودفاعا حسنا عن مسلك جمهورهم، ويمكن أن أضيف إلى هذه الردود أن ما نسب(38/295)
إليهم حتى لو صح بعضه وكان حقا في طرف من الشواهد والآيات فإنه ليس موقفا مستمرا على الدوام لا يفارقهم أجمعين ولا يفارقونه في جميع أحوالهم، فقد رأينا لبعض أئمة البصريين كسيبويه والأخفش مواقف من القراءات - وغيرها - تتسم بالاعتدال والحرص على الاستفادة منها أيا كانت درجتها وعدم إهدار واحدة منها، فهما - وقد حذا حذوهما أيضا كثير من البصريين - قد أكثرا من الاحتجاج بالقراءات القرآنية في كتبهما، كما كثر عندهما توجيه ما لا يجري من القراءات على مقاييس قومهما وقوانينهم توجيها رفيقا لا قسر فيه أو عنتا أو غلوا ولا تنافر فيه أو إخلالا أو إبعادا.
ولا يغض من هذا ما حدث أحيانا منهما أو من غيرهما من نحاة مدينتهما، فهو قليل من كثير، لا يغير من حقيقة الحكم عليهما وصوابه فيهما وفيمن تشبه في مسلكه بهما من سائر البصريين. صحيح أن سيبويه قد أطلق على بعض القراءات أوصاف القبح أو الرداءة أو الضعف أو الشذوذ (1) حتى ليظن أنه قد خطأها لذلك، لكن هذا - فيما أرى - لا يعني بالضرورة أن تكون هذه القراءات خطأ أي غلطا، فهذه الأوصاف في حقيقة الأمر شيء، والخطأ بمعنى الغلط شيء آخر، والقراءة المتصفة بواحد من هذه الأوصاف تعد صحيحة، ويقال في المعتاد للصحيح الكثير مطرد، في حين يطلق الشاذ على الصحيح القليل أو النادر، وكلاهما فصيح مقبول، وإنما يقاس على المطرد منهما ويحفظ الشاذ ولا يقاس عليه.
ولقد حدث أيضا أن بعض الكوفيين - الذين ينسب إليهم في العادة الانسجام الدائم مع كل القراءات والقبول الكامل بها كما هي
__________
(1) انظر نماذج من ذلك في كتاب ''سيبويه والقراءات'' للدكتور أحمد مكي الأنصاري 11 - 37.(38/296)
وإقامة قواعدهم عليها - وقف عند بعض الحروف فقدر وأول ما لا يلزم تقديره وتأويله في الحقيقة، ومن هؤلاء الكسائي، فهو مثلا حين رأى المضارع محذوف النون في قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ} (1) قال إنها حذفت على تقدير لام الأمر، ورتب على ذلك قاعدة نحوية عامة هي حذف لام الأمر من الفعل المضارع بشرط تقديم الفعل "قل" عليه، بينما رأى البصريون - ورأيهم أيسر - أن الفعل المضارع يجزم في جواب الأمر ترتيبا على الآية ونحوها من قولنا: "ائتني أكرمك" دون تأويل أو تقدير (2) .
ولقد كان الكسائي أيضا من أوائل من خطأوا القراء ومنعوا القراءة ببعض الحروف، من ذلك أنه لم يجز قراءة جمهور السبعة الفعل "يكون" في قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (3) بالرفع على جعل الكلام مكتفيا بقوله تعالى: {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ} (4) ثم قال: " فيكون " أي فيكون ما أراد الله على الاستئناف أو عطف الجمل، ورأى أن الصواب هو النصب على عطف " فيكون " عطف نسق على الفعل المنصوب بـ"أن" وهو "يقول" (5) ، وهو ما قرأ به ابن عامر من السبعة.
وقد حذا الفراء حذو أستاذه الكسائي فأنكر عددا من القراءات وخطأ قراءها، فقد اعترض مثلا على قراءة عاصم - من السبعة - والأعمش لكلمة "يؤده" بسكون الهاء في قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} (6) وقال إن الجزم ليس في الهاء وإنما هو فيما قبلها، وإن ما حدث من عاصم ومن شاكله من القراء خطأ أو توهم.
وقد صحح الفراء في بعض الأحيان ما خطأه الكسائي من
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 31
(2) انظر سيبويه، الكتاب 452: 1.
(3) سورة يس الآية 82
(4) سورة يس الآية 82
(5) انظر الفراء، معاني القرآن 1: 74 - 75.
(6) سورة آل عمران الآية 75(38/297)
القراءات، قال مثلا: قرأ الكسائي وابن عامر من السبعة "يكون" في قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (1) - بالنصب؛ لأنها مردودة؛ أي معطوفة على فعل قد نصب بـ"أن" وهو "نقول" وأكثر القراء على الرفع، والرفع صواب، وذلك أن تجعل الكلام مكتفيا عند قوله تعالى: "إذا أردناه أن نقول له كن" فقد تم الكلام، ثم قال "فسيكون ما أراد الله"، وإنه لأحب الوجهين إلي، وإن كان الكسائي لا يجيز الرفع في الآية ويذهب إلى النسق (2) .
كذلك اتفق أئمة البصريين والكوفيين أحيانا على موقف واحد دون خلاف، فعلوا هذا مثلا في قراءة أبي جعفر "ليجزي قوما بما كانوا يكسبون" ببناء الفعل "يجزي" للمجهول، وهي قراءة شاذة، ومع ذلك أخذ بها الكوفيون وكذلك الأخفش البصري وأقاموا عليها قاعدتهم القاضية بجواز إنابة غير المفعول به مع وجوده عن الفاعل وطردوها، ولم يخطئ سيبويه والبصريون أيضا هذه القراءة الشاذة لكنهم ذهبوا إلى أن الاستدلال بها إنما يتم على أن نائب الفاعل هو ضمير مستتر يعود إلى مصدر الفعل المبني للمجهول وهو الجزاء وليس الجار والمجرور، كما قال بذلك الأخفش والكوفيين، أو على أن الجار والمجرور هو نائب الفاعل كما قال هؤلاء، لكن على وجه الاستثناء لأن هذه القراءة تعد عندهم مقبولة كما هي مقبولة عند الأخفش والكوفيين، فلا يسعهم رفضها، لكنهم يحفظونها فلا يقيسون عليها لشذوذها وهي في ذلك تشبه عندهم ما يكون في ضرورات الشعر، في حين يقيس عليها الفريق الآخر مع عدم تواترها ولا يحملها محمل الضرورة (3) .
وهذا على كل حال اختلاف بين الكوفيين والأخفش وبين جمهور
__________
(1) سورة النحل الآية 40
(2) انظر الفراء، معاني القرآن 1: 74 - 75.
(3) انظر ابن هشام، شرح الشذور 164، ومحمد محي الدين عبد الحميد، منتهى الأرب 164.(38/298)
البصريين في التوجيه لا في القراءة.
وهكذا يتضح من كل ما سقناه: أنه لم يكن لكل واحدة من المدرستين على حدة، ولا لأحد من رؤسائهما وأعلامهما على التعيين - خط واحد ثابت في ذلك الوقت المبكر في موضوع القراءات لا يحيد عنه ولا يخالفه.
وأن القراءات التي وقف عندها النحاة بصريين كانوا أو كوفيين واستشكلوها هي في حقيقة الأمر قليلة إذا قيست بمجموع القراءات، وهي لا تعدو أن تكون حروفا معدودة لا يصح من أجلها أن يعمم الحكم بأن فريقا كان يخطئ القراءات وفريقا آخر يقبلها. والأليق أن يلتمس لهم جميعا العذر فيما فعلوا فيقال: إن من وقف منهم عند قراءة إنما وقف رغبة منه في التحري الدقيق للفظ القرآن ونطقه.
وقد سار أيضا على نهج الرعيل الأول من البصريين والكوفيين كسيبويه والأخفش والكسائي والفراء واقتدى بهم في مواقفهم المتنوعة من القراءات من بعدهم من النحاة في المدارس المتعاقبة، ففعلوا مثل ما فعل هؤلاء، اعترضوا تارة على بعض القراءات وتشددوا في حملها على الانسجام مع قواعدهم، وتوسعوا تارة أخرى في الاحتجاج بها وفي اتخاذها على إطلاقها مصادر لقواعدهم دون النظر إلى درجتها، واتفقوا فيها تارة ثالثة على آراء متطابقة لا فرق بينها.(38/299)
جـ) موقف الأخفش من القراءات:
لم يخرج الأخفش عن الإطار العام الذي التزم البصريون والكوفيون على حد سواء في موضوع القراءات، والتزم به كما التزموا، وعد القراءات(38/299)
كما عدوها أساسا قويا من الأسس التي تبنى عليها قواعد النحو وقوانينه، شريطة أن تكون كل قراءة مهما كانت درجتها مطابقة لإحدى لغات العرب حتى لو كانت هذه اللغة أقل فصاحة من غيرها، فإذا جاءت قراءة ما غير مطابقة لأية لغة من لغاتهم فهي مرفوضة، لذلك قبل الأخفش جميع القراءات التي تطابقت مع لغات العرب وعدوها تراثا لا يمكن رده، من ذلك:
قراءة الجمهور "يرشدون" بفتح الياء وضم الشين وماضيه رشد بفتح الشين، وقراءة آخرين "يرشدون" بفتح الياء والشين، وماضيه رشد بكسر الشين، وقراءة غيرهم "يرشدون" بضم الياء وكسر الشين، وماضيه أرشد، وهي جميعا لغات (1) .
قراءة بعضهم "الوقود" بفتح الواو بمعنى الحطب، وقراءة آخرين الوقود بضمها بمعنى المصدر وهو التوقد. قال الأخفش: الوقود بفتح الواو: الحطب والوقود بضمها الفعل، وقال أيضا: حكي أن بعض العرب يجعل الوقود والوقود جميعا بمعنى الحطب والمصدر، وذهب إلى أن الأول أكثر (2) .
قراءة يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق وأبي السمال "اشتروا" بكسر الواو لالتقاء الساكنين، كما يكسرون في غير هذا الموضع على الأصل عند التقائهما، وهو في الآية لغة شاذة، وضم الواو هو اللغة المطردة وعليه القراءة الأفشى (3) .
وقد رفض الأخفش (4) قراءة "إن هذين لساحران" (5) بالياء في "هذين" والألف في "ساحران" التي قرأ بها اللغويان النحويان أبو عمرو بن العلاء من السبعة وعيسى بن عمر، والتي قرأ بها أيضا الحسن البصري
__________
(1) انظر العكبري، التبيان في إعراب القرآن 1: 153 - 154.
(2) انظر أبا جعفر النحاس، إعراب القرآن 201: 1، وابن منظور، لسان العرب 194: 1.
(3) انظر التبيان في إعراب القرآن 32: 1، ومكي بن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن 26: 1.
(4) انظر أبا جعفر النحاس، إعراب القرآن 43: 3.
(5) من الآية 63 من سورة طه، وهي مرسومة في المصحف ''إن هذان لساحران''.(38/300)
وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعاصم الجحدري، وهي من القراءات المشهورة المعتد بها والمطابقة لقواعد العربية المجمع عليها والموافقة للقياس النحوي المبني على لغة قوية اطرد سماعها، وذلك لأنها لم توافق رسم المصحف.
وهو قد فضل قراءة على أخرى لموافقتها رسم المصحف وذلك في قوله تعالى: "الصراط"، فقد روي عن ابن كثير وأبي عمر السين والصاد، وقرأ ابن عباس بالسين (1) ، ففيه على هذا لغتان، وقد اختار الأخفش قراءة الصاد لأنها كتبت كذلك في جميع القرآن، فهي تطابق الرسم القرآني في حين تخالف قراءة السين رسم المصحف.
وقد اشترط الأخفش أيضا لقبول أية قراءة أن تكون منسجمة المعنى مع السياق، وهو يردها إذا لم تكن كذلك، فعل هذا مثلا في قوله تعالى: {لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} (2) ، فقد ذكر أن بعضهم يقرأ بتثقيل الصاد، وإنما معنى تثقيلها المتصدقون، وليس التصدق بالمعنى المقصود، وإنما المقصود التصديق (3) .
وكان الأخفش يستقصي وجوه الإعراب والقراءات معا في آي القرآن على أكمل وجه وأدقه وأوضحه مما يدل على سعة اطلاعه وواسع إحاطته بالأمرين معا.
فهو إذا وجد في آية وجها إعرابيا لم يقرأ به أصلا، أو وجد آية لم يعرف لقراءة فيها وجهها من اللغة، فإنه ينص على ذلك صراحة، فقد ذهب مثلا في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (4) إلى أن "عدة" بالرفع، وإن شئت نصبت على تقدير "فليصم عدة" إلا أن النصب لم يقرأ (5) ، وذهب أيضا في قوله تعالى:
__________
(1) انظر التبيان في إعراب القرآن 8: 1، وأبا جعفر النحاس، إعراب القرآن 174: 1.
(2) سورة الصافات الآية 52
(3) انظر أبا جعفر النحاس، إعراب القرآن 421: 3.
(4) سورة البقرة الآية 184
(5) انظر مكي بن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن 86: 1.(38/301)
1 - (كأنه جمالات صفر) إلى أن ابن عباس قرأ "جملات" بضم الجيم، وأن هذا الوجه لا يعرف.
وخلاصة القول أن ما مضى من حديث القراءات يفضي بنا إلى أن نقرر مطمئنين أنه لم يكن لأخفشنا في هذا الموضوع موقف متميز تفرد به، وأنه كان كغيره من أئمة النحاة في البلدين مقلدا لأساتذته سائرا على نهجهم العام، مشاركا لأضرابه لم يخرج عن خطهم غالبا، ولم يبدع - فيما أعرف - موقفا يخالف المأولف من مواقفهم.(38/302)
د) لغات العرب وموقف البصريين والكوفيين بعامة منها:
احتج النحاة من المصرين بالمنظوم والمنثور من كلام العرب الموثوق بعربيتهم من الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين ومخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وطرحوا كلام المولدين والمحدثين بعدهم، وذكر الثقات أن آخر من يحتج بهم إبراهيم بن هرمة المتوفى سنة 176هـ.
وقد رفض بعض غلاة النحويين البصريين القدامى قبول جميع شعر جرير والفرزدق والأخطل ومن في طبقتهم مع أنهم يعدون في الإسلاميين، فإذا وجدوا شيئا من شعرهم لا ينطبق على القواعد التي قرروها لحنوهم، وأخبار عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي في تلحين الفرزدق مشهورة، وقد تزيد بعض هؤلاء النحاة فلحنوا بعض فحول الجاهلية، فهذا عيسى بن عمر مثلا يقول: أساء النابغة بقوله:
في أنيابها السم ناقع
وكان عليه أن يقول "ناقعا" (1) ، وهذا اللغوي ابن فارس أيضا يتابعهم فيقول: "والشعراء أمراء الكلام يقصرون الممدود ولا يمدون المقصور ويقدمون ويؤخرون ويومئون ويشيرون ويختلسون ويعيرون ويستعيرون، فأما لحن في إعراب أو إزالة كلمة عن نهج صواب فليس لهم ذلك، ولا معنى لقول
__________
(1) انظر طبقات النحويين واللغويين 41.(38/302)
من يقول: إن للشاعر عند الضرورة أن يأتي في شعره بما لا يجوز، ولا معنى لقول من قال:
ألم يأتيك والأنباء تنمي
، وهذا وإن صح وما أشبهه من قوله:
لما جفا إخوانه مصعبا
وقوله:
قفا عند مما تعرفان ربوع
فكله غلط وخطأ وما جعل الله الشعراء معصومين يوقون الخطأ والغلط، فما صح من شعرهم فمقبول وما أبته العربية وأصولها فمردود" (1) .
ولقد أوقع المغالون من النحويين القدامى ومن تابعهم أنفسهم بهذا الذي قالوه وفعلوه في تناقض شديد، إذ لو قبلنا منهم أن نصم أمثال هؤلاء الشعراء الكبار باللحن في موطن فمن يضمن لنا سلامتهم من اللحن في مواطن أخرى كان هؤلاء النحاة قد اتخذوا منها سندا في تقرير أصل من أصولهم أو تأييد رأي من آرائهم.
ولو أن النحاة واللغويين البصريين المتشددين قالوا في كل كلام لا ترضاه مقاييسهم وقواعدهم: هو لغة أقل فصاحة، لكان ذلك موقفا حسنا؛ لأن لغات القبائل تتفاوت في مستوى الفصاحة، فلغة أزد عمان مثلا دون لغة هذيل، وهذه أقل من لغة قريش، وهكذا.
ولم تكن نظرة هؤلاء النحاة البصريين إلى القبائل العربية أفضل من نظرتهم إلى من ذكرنا من الشعراء، فهم لم يكونوا يعتدون بكل هذه القبائل، وهم لم ينظروا إليها على حد سواء، كما فعل الكوفيون، بل كان جل اعتمادهم على القبائل الضاربة في كبد الجزيرة؛ مثل قيس وأسد وتميم وهذيل وبعض كنانة وطيء.
كذلك كان نحاة البصرة إذا وجدوا في الشواهد المنظومة - وهي تشكل معظم مادة الشواهد النحوية - ما لا ينطبق على ضوابطهم وأعيتهم الحيل في توجيهها وتأويلها حملوها على الضرورة الشعرية سواء
__________
(1) ابن فارس، الصاحبي 468 - 469.(38/303)
كان للشاعر منها مندوحة أو لم يكن.
ولقد أدى هذا المسلك وذلك إلى سقوط الاحتجاج عند البصريين بمجموع غير يسير من شعر القبائل المعتد بها والمعتمد عليها في الشاهد، فقد ترك البصريون الاحتجاج بكلامها؛ لأنها لم تسكن حيث يريدون، هذا بالإضافة إلى الضرورة الشعرية التي منعتهم أيضا من الاستشهاد بكثير.
أما الكوفيون فقد قبلوا كل لغة وشاهد، حتى الشعر المصنوع والمنسوب لغير قائله قبلوه، واكتفوا كذلك بالشاهد الواحد، وباللغة الشاذة واللفظ الذي لم يطرد في الاستعمال ما دام فصيحا ليس فيه لحن صريح، وبنوا على كل ذلك أحكامهم واستنبطوا منها قواعدهم وأقاموا عليها أقيستهم، بل لقد رخصوا بالقياس النظري على مقتضى الرأي أحيانا إذا أعوزهم الشاهد، كذلك اعتدوا بلغات الأعراب وأشعارهم ممن فسدت فيهم السليقة بسبب الاختلاط بالحضر، فعل ذلك مثلا شيخ الكوفيين الكسائي الذي اعتمد على كلام أعراب الحطمية الذين يسكنون قرب بغداد في الاحتجاج لرأيه في مناظرته الشهيرة في المسألة الزنبورية مع شيخ البصريين سيبويه الذي أنف من الاحتجاج بكلامهم، وفعل مثل هذا وأكثر منه غير الكسائي من سائر مشاهير الكوفيين وأعلامهم.
وقد أدى كل ما سبق بالكوفيين إلى أن يقل عندهم التأويل والحكم بالشذوذ والضرورات خلافا للبصريين الذين كثر عندهم ذلك.
وإنه ليمكننا في ضوء ما قررناه أن نقول: إننا نستطيع أن نشبه البصريين بالمحافظين المتمسكين بالقديم الثابت، والكوفيين بالمجددين الذين يتلمسون التوسع ويجرون وراء الابتكار.(38/304)
على أن النحاة البصريين القدماء ومن تابعهم واصطبغ نحوه بمذهبهم - وكذلك اللغويون - لم يكونوا يجمعون على الالتزام الدائم بموقفهم الصارم في تحكيم قوانينهم في المأثور من كلام العرب، فقد كان منهم من يخالف موقفه موقف قومه العام قليلا أو كثيرا، وكان منهم أيضا من يخالف فعله قوله في بعض الأحايين، ومن هذا وذاك:
أنهم قالوا مثلا بعدم جواز إدخال "أل" على كل وبعض، لكنهم استعملوها معهما غير آبهين لقيدهم، وكتب النحو القديمة مليئة بمصطلح "بدل البعض من الكل" و"بدل الكل من الكل" جرى ذلك على ألسنة النحاة البصريين القدماء وفيهم سيبويه والأخفش وأضرابهما، وعلى ألسنة من بعدهم من مقدميهم وغيرهم مما لا تخطئه العين في هذه الكتب.
وأنهم قالوا أيضا: لا تستعمل كلمات كافة وقاطبة وطرا ومعا وعامة إلا منصوبة ومجردة من أل والإضافة، لكنهم لم يتحرجوا في استعمالها في كتبهم على خلاف ما قرروه، من ذلك قول الزمخشري: "ولقد ندبني ما بالمسلمين من الأرب إلى معرفة كلام العرب لإنشاء كتاب في الإعراب محيط بكافة الأبواب" (1) وقول الرازي "الكافة: الجميع من الناس" (2) .
وقال سيبويه: "وأما بلى فتوجب بها بعد النفي، وأما نعم فعدة وتصديق" (3) لكنه استعمل في الوقت نفسه نعم موضع بلى فأوجب بها بعد النفي (4) .
ومنع الحريري أن تلتقي "بينما" بإذ مع أن كتب العربية مشحونة بهذا الاستعمال، ولكن الحريري نفسه لم يلتزم بما منع، بل لقد أكثر من مخالفة ما منعه، فقد قال مثلا في إحدى مقاماته: "فبينما أنا تحت طراف،
__________
(1) الزمخشري، المفصل، خطبة الكتاب.
(2) الرازي، مختار الصحاح 574.
(3) سيبويه، الكتاب 312: 2.
(4) انظر الكتاب 227: 1.(38/305)
مع رفقة ظراف، وقد حمي وطيس الحصباء. . . إذ هجم علينا شيخ" (1) ، وقال في مقامة أخرى: "وبينما نحن في فكاهة أطرب من الأغاريد. . إذ احتف بنا ذو طمرين" (2) ، وقال مثل ذلك في سائر المقامات.
__________
(1) مقامات الحريري، المقامة المكية 119.
(2) مقامات الحريري، المقامة الشيرازية 305.(38/306)
هـ) موقف الأخفش من لغات العرب:
علينا بعد الصورة العامة السابقة التي عرضناها لمواقف النحويين البصريين القدامى من لغات العرب أن ننظر في نحو الأخفش نفسه - وهو منهم - لنزداد معرفة بموقفه من هذه اللغات، فمن مسائل الأخفش:
نقله كسر الشين في قوله تعالى: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (1) عن بني تميم أهل نجد، ونقله تسكينها عن أهل الحجاز.
روايته عن بعض العرب طفق يطفق من باب ضرب والمصدر طفوق إلى جانب اللغة المطردة على ألسنتهم وهي طفق يطفق من باب فرح يفرح والمصدر طفق، وكلا اللغتين فصيح (2) .
حكايته عن العرب أنهم يقولون: "آخذه الله بذلك وواخذه الله، لغتان" (3) .
قبوله من بكر بن وائل سكان شرق الجزيرة، والبصريون لا يطمئنون إلى لغتهم لمجاورتهم النبط والفرس، ومن عبد القيس، والبصريون لا يأخذون بلغتهم لأنهم كانوا من سكان البحرين مخالطين للهند والفرس، ومن أهل اليمن الذين لا يحتج بهم أصلا لمخالطتهم الهند والحبشة وولادة الحبشة فيهم، ومن أزد عمان الذين لم يحتج بهم البصريون لمخالطتهم الهند
__________
(1) سورة البقرة الآية 60
(2) انظر ابن هشام، شرح شذور الذهب 192.
(3) انظر مكي بن أبي طالب، مشكل إعراب القرآن 122: 1.(38/306)
والفرس، ومن بني قشير الذين سكنوا اليمامة، والبصريون لا يأخذون عن أهلها لمخالطتهم تجار الأمم المقيمين عندهم، ومن حاضرة الحجاز مخالفا في ذلك منهج قومه البصريين في عدم أخذهم منها شيئا لأن الذين نقلوا اللغة صادفوا أهلها حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم (1) .
فقد احتج مثلا مع الكوفيين على عمل "لعل" الجر ببيت كعب بن سهم الغنوي:
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت جهرة ... لعل أبي المغوار منك قريب
وهو من بني عقيل بن كعب (2) من سكان البحرين.
وقبل أيضا لغة بني قشير "سخين" بالخاء للسكين (3) ، وجمعها سخاخين. ونقل قراءة أهل المدينة الشاذة "قيما" بتخفيف الياء مع تسكينها وفتح القاف في قوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا} (4) ، وقبل هذه القراءة الشاذة بل إنها حسنة ولم أسمعها من العرب (5) .
يتضح من هذه المسائل أن الأخفش احترم لغات العرب جميعا احتراما تاما ورآها الأصل الأول الذي يركن إليه، لذلك نقلها، سواء في ذلك ما سمعه من العرب بنفسه أو ما رواه عمن سمع من العرب أو ما لم يسمعه أو يروه وإنما وجد له تعلة فحسب يتعلل بها لقبوله من قراءة شاذة ونحو ذلك.
وقد قبل هذه اللغات كلها سواء أكانت مما يقبله قومه البصريون أم يرفضونه، وهو بهذا يجدد في موقفه ويخرج عن النمط التقليدي المحافظ لقومه ليقف مع الكوفيين في اتجاههم العام إلى الاحتجاج بكل لغة مهما كانت درجتها من الفصاحة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عدم
__________
(1) انظر السيوطي، الاقتراح 19 - 20.
(2) انظر المغني 286: 1 ت محمد محي الدين عبد الحميد.
(3) انظر لسان العرب 13: 207.
(4) سورة الأنعام الآية 161
(5) انظر عبد الفتاح القاضي، القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب 45.(38/307)
تعصبه لأهل بلده وعلى انفتاحه وإباحته ما حرموه والأخذ بما تركوه والإقرار بما أنكروه عن قصد وإرادة لا يشوبها تردد أو إحجام وعلى استعداده لقبول ما يعتقده حقا من مواقف منافسيهم حتى لو كان قومه يرونه غير ذلك، أو للانفراد بجديد لم يقل به غيره أو يسمع به هو وسواه من هذه اللغات.
على أن الأخفش خالف في الوقت نفسه بعض ما سمع من العرب الثقات مما يعني أنه كان يتخذ أحيانا موقفا مستقلا يرجح فيه ما يرى رجحانه من لغة على أخرى مع فصاحتهما واحترامه لهما، من ذلك:
النسب إلى "شية" ونحوها مما هو محذوف الفاء معتل اللام، فقد قال في النسب إليها "وشيي" على وزن "فعلي" برد فاء الكلمة وتسكين عينها وكسر لامها لمناسبة ياء النسب مع بقائها ياء، خلافا لما سمع من ناس من العرب يحتج بقولهم، على ما حكاه الأخفش نفسه عن يونس من أن حمادا الراوية حدثه أنهم يقولون في النسب إلى شية " شيوي " على وزن " علوي" بوضع الفاء موضع اللام ثم النسب، وقد خالف الأخفش في صيغته سيبويه أيضا الذي رأى أن النسب إلى شية هو "وشوي" على وزن "فعلي" برد فاء الكلمة وفتح عينها وقلب لامها واوا مكسورة (1) .
__________
(1) انظر نزهة الألباء 41.(38/308)
الأخفش في سائر دراساته النحوية:
أ) الحدود والتعاليل:
عني الأخفش بتطوير حدود أساتذة سيبويه وإخراجها عن الفطرة البسيطة إلى شيء من المفهوم الفلسفي المركب، وتقريبها من الحدود المنطقية الصريحة القائمة على ما يدخله الجنس ويخرجه الفصل والعرض(38/308)
الخاص والعرض العام، يظهر هذا على سبيل المثال في حده الاسم بأنه "ما جاز فيه نفعني وضرني" (1) يريد أنه ما جاز أن يخبر عنه، في حين عرفه سيبويه تعريفا يسيرا عن طريق التمثيل له فحسب فقال: "الاسم رجل وفرس وحائط" (2) .
وللأخفش إسهام في التعليل أيضا وهو في حقيقته مجاوزة مجرد النقل إلى العقل وتركيب ذهني وسبك فلسفي للأسباب يخرج بها عن العفوية اللغوية.
ومن تعليلات الأخفش العقلية تعليله لإضافة اسم الزمان إلى الفعل بقوله: "إنما أضيفت أسماء الزمان إلى الأفعال لأن الأزمنة كلها ظروف للأفعال والمصادر، والظروف أضعف الأسماء فقووها بالإضافة إلى الأفعال" (3) .
وقد امتدت عناية الأخفش بالتعليل المنطقي وإمعانه فيه حتى شمل عنده تعليل ما لم يقع في اللغة، من ذلك تعليله امتناع الفعل المضارع من الجر الذي علله سيبويه من قبل بشكل أيسر وأدنى إلى الواقع اللغوي بقوله: "وليس في الأفعال المضارعة جر، لأن المجرور داخل في المضاف إليه معاقب للتنوين وليس ذلك في هذه الأفعال" (4) ، لكن الأخفش أدلى بعلة جديدة أطول وأشد غموضا وأكثر تفلسفا فقال: "لم يدخل الأفعال جر لأنها أدلة، وليست الأدلة بالشيء الذي تدل عليه، وأما زيد وعمرو وأشباه ذلك فهو الشيء بعينه، وإنما يضاف إلى الشيء بعينه لا إلى ما يدل عليه، وليس يكون جر في شيء من الكلام إلا بالإضافة (5) .
وعلى الرغم من كل هذا فقد ظهر في نحو الأخفش معالجات
__________
(1) انظر الزجاجي، الإيضاح في علل النحو 49.
(2) الكتاب 2: 1.
(3) انظر الإيضاح 114.
(4) الكتاب 3: 1.
(5) انظر الإيضاح 109.(38/309)
لبعض الظواهر النحوية واللغوية استوحى فيها أساليب العربية في تركيب الكلام وذوق المعاني بعيدا عن منطق العلة وتفلسف البراهين وتعقيدات الجدل، وهو منهج كان الكوفيون يرتضونه ويميلون إليه كثيرا ويعملون به، ومن آيات ذلك:
قوله بزيادة "إن" بعد "ما" النافية في قول فروة بن مسيك (1) المرادي:
وما إن طبنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا (2)
وهي في هذه الحال تمنع "ما" عنده من نصب الخبر (3) .
وقوله بزيادة أصبح وأمسى وكان بين ما وفعل التعجب (4) .
وزيادة كاد في غير (5) التعجب نحو: ما أصبح أبردها، وما أمسى أدفأها، وما كان أصح علم من تقدما، وقوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} (6) .
فقد حرص الأخفش في هذه الأمثلة ونحوها على أن لا تكون الزيادة في بنية الجملة عبثا بل محكومة بضابط لا مفر من مراعاته وهو أن لا تؤدي بحال إلى الخروج عن الذوق وإلى تعمية المعنى، وأن تكون لفائدة هي؛ التوكيد عن طريق تثبيت المعنى وتقوية المبنى وليس لمجرد التجميل ونحوه، وأن تكون كذلك ظاهرة المعنى لا غموض فيها يدعو إلى افتعال تفسير لوجودها أو تأويل للمراد منها بل هي بسيطة تتلاءم مع الفهم الواضح لمقصود أصحابها من تركيب كلامهم وترتيب نظامه.
وقوله بحذف حرف "قد" قبل الفعل الماضي ليصح (7) وقوعه حالا في قوله تعالى: {جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} (8) .
وقوله بحذف الاسم المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه في قوله
__________
(1) وقيل إنه لعمرو بن قعاس، وينسب أيضا للكميت ''انظر هارون، معجم شواهد العربية 386: 1''.
(2) الطب: العادة ''انظر الفيروزآبادي، القاموس المحيط 100: 1''.
(3) انظر المغني 38 ت د. مازن المبارك وزميله.
(4) انظر الهمع 129: 1، وشرح الأشموني للألفية 241: 1، وشرح ابن عقيل للألفية 249: 1.
(5) انظر الهمع 129: 1، وشرح الأشموني للألفية 241: 1، وشرح ابن عقيل للألفية 249: 1.
(6) سورة طه الآية 15
(7) انظر المغني 430: 2 ت محمد محي الدين عبد الحميد.
(8) سورة النساء الآية 90(38/310)
تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} (1) ، ومثل هذا في التنزيل وغيره كثير، ومع ذلك فقد رأى الأخفش أن هذا الحذف مقصور على السماع وأن القياس على المسموع ممنوع، في حين رأى ابن جني أن الحذف (2) مقيس لكثرة المسموع منه في القرآن والشعر من جهة ولسعة المجاز في العربية واستمراره على ألسنة العرب من جهة أخرى.
وقوله بحذف الاسم المشاف إليه في قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (3) أي لكل أمة، وفي قول جرير:
يا تيم تيم عدي لا أبا لكم ... لا يوقعنكم في سوأة عمر
أي يا تيم عدي تيم (4) عدي.
وقوله بحذف الاسمين المضاف والمضاف إليه معا في قول القائل "ضربي زيدا قائما" فقد قدر الأخفش الجملة "ضربي زيدا ضربه قائما" فحذف خبرا مضافا وضميرا مضافا إليه في حين قدر سائر النحاة الجملة "ضربي زيدا حاصل إذ كان قائما" للماضي و"إذا كان قائما" للمستقبل، فحذفوا خبرا وظرفا وفعلا ناقصا واسمه أو فعلا تاما وفاعله، وهو فيما صنع أكثر منهم انسجاما مع الأصل المقرر القاضي بأنه ينبغي تقليل المحذوف ما أمكن لتقل مخالفة الأصل (5) .
وقوله بحذف الفعل المضارع وفاعله بعد (لات) فقد رأى الأخفش أن (لات) لا تعمل شيئا فإذا جاء بعدها منصوب فهو مفعول بفعل مضارع هو أرى محذوف مع فاعله، فمعنى "لات حين مناص" لا أرى حين مناص، أو لات أرى حين مناص، وبينهما فرق في إلحاق التاء بلا على أنها حرف للتأنيث، وفي تركها على أنها حرف (6) زائد.
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) انظر الخصائص 451: 2، 452 والهمع 51: 2.
(3) سورة البقرة الآية 148
(4) انظر ابن يعيش، شرح المفصل 21: 3.
(5) انظر الهمع 106: 1.
(6) انظر ابن يعيش، شرح المفصل 109: 1، وشرح ابن عقيل للألفية 275: 1.(38/311)
وقوله بحذف الجار أولا ثم حذف الضمير الذي كان مجرورا به ثم انتصب بعد حذف الجار، من قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} (1) فالأصل "لا تجزي فيه" ثم حذفت "في" فصار "لا تجزيه" ثم حذف الضمير منصوبا لا مخفوضا (2) .
وقد حرص الأخفش في هذه المسائل ونحوها على مثل الموقف الذي حرص عليه في أمثلة الزيادة، فالحذف عنده كالزيادة، كلاهما محكوم بضرورة عدم الإخلال بالمعنى، وهو مثلها قد يكون في الحروف، والأسماء، وفي الفعل، وكذلك في أشباه الجمل على نحو ما مثلنا لها جميعا.
__________
(1) سورة البقرة الآية 48
(2) وعن سيبويه أن الجار والمجرور حذفا دفعة واحدة ''انظر المغني 617: 2 ت محمد محي الدين عبد الحميد.(38/312)
ب) العوامل:
حذا الأخفش في موقفه من العامل حذو سابقيه من رؤساء نحاة البصرة كالخليل وسيبويه فأخذ به كما أخذوا، وفعل فعلهم في عد الإعراب أثرا يجلبه العامل ظاهرا أو مقدرا، وقد حمله هذا كما حملهم على تقدير العامل إن لم يجده ظاهرا نحو: سقيا ورعيا، فقد جعلوا تقديرهما: سقاك الله سقيا ورعاك الله رعيا، ثم قاسوا عليهما ما كان مثلهما نحو: الليل الليل، والله الله في أمري (1) .
ورأى الأخفش كسائر البصريين أن العامل ينبغي أن يتقدم على معموله، فإذا تأخر عنه بطل عمله فيه، لذلك لم يجز عندهم تقدم الحال على المبتدأ الذي خبره جملة فعلية فعلها عامل في الحال نحو "راكبا زيد جاء" وذلك لبعد الحال عن العامل، لكن الأخفش أجاز على ضعف "راكبا جاء زيد" لأن الحال وإن تقدمت على عاملها فهي ملتصقة به (2) .
__________
(1) انظر ابن يعيش، شرح المفصل 30: 2.
(2) انظر خالد الأزهري، التصريح 381: 1.(38/312)
87 - وذهب كالبصريين إلى أن تغيير العامل لا يؤثر في عمله مادام معناه ملتزما، فتخفيف إن مثلا لا يمنع من إعمالها، فيقال: إن زيدا لمنطلق، بإعمالها على المعنى دون إضمار للاسم، وعلى هذا قراءة الحرميين وأبي بكر "إن كل نفس لما عليها حافظ" بإرادة معنى الثقيلة فتعمل عملها، ومثل ذلك تخفيف كأن ولكن، فتعمل جميعا مخففة كما تعمل غير مخففة (1) .
هذه جملة من متابعات الأخفش التقليدية في قضية العامل، وهي لا تميزه عن غيره في هذا الموضوع بشيء، لكنه تميز في بعض الأحيان بمواقف كان لها وضع خاص يلفت النظر ويخرج به عن المعتاد والمألوف.
فهو مثلا قد قرر مستقلا أن زيادة "إن" في قولنا "ما إن هذا زيد" تحول دون نصب الخبر بما (2) .
وهو قد ناقض نفسه ونقض قاعدته التي وضعها حين قرر أن الحرف الأصلي هو الذي يعمل، ثم لم يلبث أن أعمل "أن" في قوله تعالى: {وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ} (3) وفي قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} (4) فنصب بها الفعلين مع زيادتها مستخدما القياس الواضح على عمل "من" في قولك "ما أتاني من أحد" مع زيادتها، وعلى عمل الباء الزائدة في "ليس زيد بقائم" (5) .
وهو قد تفرد بإجازة إعمال الظرف والجار والمجرور مطلقا أي سواء اعتمدا على نفي أو استفهام أو موصوف أو موصول أو صاحب خبر أو حال أو لم يعتمدا، وذلك لشبهها بالفعل في القوة، نحو: ما في الدار أحد، أفي الدار زيد؟ ، مررت برجل معه صقر، جاء الذي في الدار أبوه، زيد عندك أخوه، مررت بزيد عليه جبة، ونحو: عندك زيد، فقد رفع
__________
(1) انظر ابن هشام، شرح الشذور 286، وشرح الأشموني للألفية 1: 293 - 294.
(2) انظر ابن هشام، شرح الشذور 286، وشرح الأشموني للألفية 1: 293 - 294.
(3) سورة البقرة الآية 246
(4) سورة الأنفال الآية 34
(5) انظر العكبري، التبيان 197: 1، والسيوطي، الأشباه والنظائر 237: 2، والتصريح 233: 2.(38/313)
كل منهما عن الأخفش اسما ظاهرا على الفاعلية" (1) .
__________
(1) انظر ابن يعيش، شرح المفصل 14: 8، والمغني 443 - 444 ت محمد محمد الدين عبد الحميد.(38/314)
ج) المقاييس:
كان الأخفش يتشدد في القياس في بعض المسائل كقومه البصريين، ومع هذا فقد كان مكثرا من استعماله مولعا به كما يقول ابن جني (1) ، لذلك ألف فيه كتابه "المقاييس" وتزيد في تطبيقه على طائفة كبيرة من مسائل النحو والصرف حتى ظهر في شطر من أقيسته التسمح كالكوفيين، فقد كان يسارع إذا قيل له مثلا: ابن مثل كذا من كذا مما لم تبن العرب مثله إلى تكلف بناء ذلك ويقول: إنما سألتني أن أمثل لك، وكان يبني جميع ما يسأل عنه ويقول: مسألتك ليست بخطأ وتمثيلي عليها صواب فإن أبي صاحبك فقل له: فلو جاء فكيف ينبغي أن يكون؟ فإنه لا يجد بدا من الرجوع إليك.
وبهذا تمادى الأخفش في استعمال القياس حتى جاءت له مواقف فيه تجاوز بها القصد فاصطنع الصيغ وصنعها، وطرد القياس في الباب الواحد وأجاز في كل أفراده ما يجوز لأحدها أو بعضها بالسماع تسمحا، وقاس شيئا على شيء شبيه به شبها بعيدا، كما قاس كالكوفيين على الشاهد الواحد أو القليل النادر، مع أنه كان من الواجب أن يقف تسامحه عند الحدود التي لا يؤذن فيها للقياس بأن تكون علته خفية أو بأن يتجاوز السماع أو يضاده، لأن المراد في الحقيقة من القياس أنه إذا ورد شيء ولم يعلم كيف تكلموا به فإنك تقيسه لا أنك تقيسه مع وجود السماع (2) .
ولعل مرد تشدد الأخفش في القياس النحوي في بعض الأحيان كالبصريين وتسامحه فيه في أحيان أخرى اقتداء بالكوفيين هو إلى انتقاله من البصرة إلى بغداد واتصاله بالكوفيين فيها وتأثره بآرائهم وتسمحاتهم،
__________
(1) انظر ابن جني، المنصف 176: 1، 180.
(2) انظر التصريح 73: 2.(38/314)
ثم عودته إلى البصرة وإقامته فيها وانقطاعه بذلك عن مشافهة الكوفيين، مما أعاده ثانية إلى شيء من منهج البصريين المتشددين.
ومن مواقف الأخفش المتنوعة إزاء القياس وفيها ما تشدد فيه، وما تساهل، وما تجاوز بتساهله الحد:
- منعه إيلاء إن وأخواتها معمول (1) خبرها مع إجازة غيره ذلك قياسا على ما سمع من قول الشاعر:
فلا تلحني فيها فإن بحبها ... أخاك مصاب القلب جم بلابله
- إجازته تثنية الأعداد غير المائة والألف وجمعها قياسا على قول الشاعر:
فلن تستطيعوا أن تزيلوا الذي رسا ... لها عند عال فوق سبعين دائم (2)
وفي حين لم يجز غيره من البصريين هذا القياس وعدوا البيت شاذا يحفظ ولا يقاس عليه (3) .
- إجازته إعراب ثاني العدد المركب إذا أضيف مع إبقاء الأول على بنائه قياسا على إحدى لغات العرب، فتقول: هذه خمسة عشرك، بفتح التاء ورفع الراء، وأخذت خمسة عشرك، بفتح التاء ونصب الراء، ونظرت إلى خمسة عشرك، بفتح التاء وجر الراء (4) .
- إبقاؤه عمل إن بعد تخفيفها قياسا (5) على إبقاء العرب عمل يكون بعد جزمها وحذف نونها للتخفيف مع بعد ما بينهما، وجعل منه تخفيف أهل المدينة إن وإعمالها في قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} (6) .
- قبوله الأشعار الشاذة واتخاذها أصلا للقياس، كما جرى في
__________
(1) انظر الهمع 135: 1.
(2) قصد الشاعر بالسبعين سبع سماوات وسبع أرضين ''انظر الشنقيطي، الدرر اللوامع 18: 1''.
(3) انظر الهمع 43: 1.
(4) انظر ابن يعيش، شرح المفصل 114: 4.
(5) انظر الصبان، حاشيته على شرح الأشموني 288: 1.
(6) سورة هود الآية 111(38/315)
قول الشاعر:
فزججتها بمزجة ... زج القلوص أبي مزاده (1)
فقد جوز الأخفش وتابعه الكوفيون الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به قياسا على هذا البيت، فأقاموا عليه قاعدتهم هذه وطردوها، في حين ذهب سيبويه إلى أنه لا يجوز الفصل بينهما إلا بالظرف في الشعر فحسب (2) .
ومع مواقف الأخفش هذه كانت له مواقف أخرى التزم بها في القياس جانب الاعتدال، وابتعد فيها عن التسمح وعن المغالاة والإبعاد على حد سواء وأدار القياس فيها بكفاءة وفقا لمقاييس المفهومات المتماثلة، واعتمد في الترجيح بين الأحكام القياسية على الذوق اللغوي والإحساس العميق بالمعاني، ومن ذلك:
- قياسه رفع الابتداء للمبتدأ والخبر سويا على إعمال إن في اسمها وخبرها معا واعتباره هذا الحكم في المقيس أقيس وأوجه وأحسن مما ذهب إليه سيبويه من أن المبتدأ مرفوع بالابتداء وأن الخبر مرفوع (3) بالمبتدأ؛ لأنه أقرب إلى التوجيه الظاهر.
- قياسه بقية أفراد الباب على الفعلين القلبيين المتعديين "علم ورأى" الذين سمع (4) من العرب تعديتهما بالهمزة إلى أكثر من مفعول.
- حكمه بزيادة أكاد في غير التعجب (5) في نحو قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} (6) قياسا على زيادة أصبح وأمسى السماعية في باب التعجب في قول العرب: "ما أصبح أبردها، وما أمسى أدفأها" وقياسا على زيادة "كان" أم الباب القياسية بين ما وفعل التعجب كقول
__________
(1) زججتها: طعنتها، القلوص: الناقة.
(2) انظر ابن يعيش، شرح المفصل 22: 3.
(3) انظر الهمع 94: 1.
(4) انظر ابن يعيش، شرح المفصل 7: 65 - 66.
(5) انظر الهمع 129: 1.
(6) سورة طه الآية 15(38/316)
ابن مالك: "ما كان أصح علم من تقدما" (1) والسماعية في غيره (2) ، وقد فتح ذلك الباب للكوفيين ليقيسوا (3) بدورهم بقية أفعال باب "كان" بناء على التماثل بين أم الباب وبقية أفراده في العمل من جهة، وعلى عدم انتقاص المعنى بزيادة كل واحدة منها من جهة أخرى.
__________
(1) انظر ألفية ابن مالك، باب كان وأخواتها.
(2) انظر شرح ابن عقيل للألفية 1: 249 - 250.
(3) انظر شرح الأشموني للألفية 1: 241 - 242.(38/317)
الأخفش بين البصريين والكوفيين:
تأسس النحو على يد أهل البصرة الأوائل، فهم الذين وضعوا قواعده وقننوا قوانينه وأقاموا أسسه، ثم أسلموه لأهل الكوفة الذين شرعوا في الاشتغال به بعد مدرسة البصرة بنحو قرن كانوا في خلاله مشغولين بالسير والتراجم والأخبار والأشعار ونحو ذلك.
ويعد الأخفش واحدا من أعلام مدرسة البصرة المقدمين، وأكبر أئمتها بعد سيبويه، وهو نحوي عظيم ملأ الدنيا نحوا ولغة وخلد ذكره بما ترك من آثار وآراء ومواقف في الدرس النحوي واللغوي، فهو لم يكن دارسا معتادا ممن طواهم التاريخ فلا يذكرهم الناس إلا لماما، وإنما هو واحد من أبرز المشاهير الخالدين، بل هو أحد من تميزوا فيهم.
ويؤكد منهج الأخفش العام بصريته، وذلك على الرغم من خروجه المتكرر على بعض قواعد مدرسته البصرية، ومحاولته المستمرة الإتيان بجديد في بعض جوانب البحث النحوي، واشتهاره بالإكثار من مخالفة قومه البصريين ولا سيما أستاذه سيبويه أو بالزيادة عليهم وبمتابعة الكوفيين له في هذه المخالفات والزيادات، أو بمتابعته الكوفيين في آرائهم في كثير من الأحيان.
وكان من المفروض أن يلتزم الأخفش كغيره من نحاة البصرة بخط قومه البصريين التزاما دقيقا، وينهج نهجهم، فلا يحيد عنه ولا(38/317)
يخرج منه، ولكنه ذهب إلى بغداد لينتقم من الكسائي الكوفي لهزيمة أستاذه سيبويه إمام البصريين أمامه في المناظرة الشهيرة في المسألة الزنبورية، فكان ذهابه نقطة التحول الرئيسة في حياته العلمية، إذ لم يلبث أن انقلب هدفه بعد وصوله إلى عاصمة الخلافة ولقائه مع الكسائي، ونسي أو تناسى ما جاء من أجله وأصبحت الدنيا همه، وتوارى الغرض العلمي من زيارة بغداد ليحل محله الغرض الدنيوي، لما رآه فيها مما لم يألف رؤيته في البصرة من دعة العيش ورفاهة، ومن النفوذ الذي شاهد النحاة الكوفيين ينعمون به والمجد الذي عاينهم يتقلبون في أعطافه إلى جوار الخلفاء العباسيين، الذين أحبوهم وقربوهم؛ لأنهم كانوا شيعة لهم، في حين كان البصريون شيعة للأمويين فتطلع إلى أن يصبح مثلهم وينعم بنحو ما ينعمون به فيقضي سائر أيام حياته في خير ونعمة لن يتاحا له لو بقي في مدينته البصرة.
وهكذا تحول الأخفش من نحوي بصري الهوى والالتزام إلى صديق للكسائي رأس الكوفيين وللفراء إمامها ولغيرهما من أقطابهم، واستحال تحرشه بهم محبة لهم وتعلقا بهم وتقربا منهم، ثم إن الكوفيين أنفسهم لم يكرهوا ذلك، بل قربوه وصادقوه وبجلوه، وقرأ عليه الكسائي كتاب سيبويه سرا، وأطعمه بالمال وقربه منه ووكل إليه أمر تدريس أولاده، بل أتاح له أن يقوم فيما بعد بتأديب أولاد الخلفاء العباسيين وغيرهم من الأمراء والوجهاء.
كل هذا جعل هوى الكوفيين يتسرب إلى نفسه، والميل إليهم يملأ قلبه فشرع يقف معهم في آرائهم أو يقفون معه في آرائه، وكثر خروجه على قومه واختلافه معهم ومخالفته لأحكامهم، ومال إلى اللين والتساهل في(38/318)
مواقفه كالكوفيين، ورجع عن كثير من آرائه السابقة إرضاء لهم أو قناعة بهم، واستمر على هذا إلى أن عاد فيما بعد إلى موطنه في البصرة فعاد إليه شيء من الالتزام ومقدار من التشدد وعدم التسمح، ولعل في هذا ما يفسر اضطراب آرائه في شطر لا بأس به من فروع النحو ومسائله.
وقد تمكن الأخفش بذكائه وعلمه الواسع بلغات العرب، وبإفساحه المجال لهذه اللغات جميعا حتى للشاذ منها، وبكثرة اعتراضه على الخليل وسيبويه. . أقول: لقد تمكن بكل هذا من أن ينفذ إلى آراء مبتكرة، ومن أن يتبوأ مكانته العليا في الدرس النحوي في البصرة، بل في الكوفة أيضا التي يعد ذا تأثير فيها؛ لأنه كان أستاذ الكسائي رأس الكوفيين، الذي أقرأه كتاب سيبويه كما ذكرنا؛ ولأن الكوفيين حملوا عنه لغاته وآرائه ومخالفاته، ومضوا يتوسعون فيها ويضيفون إليها، فتكونت من حصيلة ذلك كله ومن غيره مدرستهم، وأصبح الأخفش بمثابة من أقام الأساس لها، وهذا يجعل القول بأن ديدنه كان مخالفة قومه البصريين ومتابعة أخصامهم الكوفيين فحسب - غير دقيق، فهو الذي فتح لتلميذيه الكسائي والفراء قطبي الكوفيين أبواب الخلاف واسعة على قطبي البصريين الخليل وسيبويه بما بسط من وجوهه، فتابعاه في كثير منها، ثم مضيا ومن بعدهما من نحاة الكوفة يتخذون من آرائه منطلقا إلى آرائهم الخاصة بهم.
وفي كتب النحو فيض من الفروع التي وافق فيها الكسائي والفراء بخاصة والكوفيون بعامة - الأخفش في رأيه، أو في بعض رأيه، والتي تابع الأخفش فيها الكوفيين، والتي خالف فيها سيبويه وجمهور البصريين، والتي زاد فيها عليهم، والتي وقف فيها موقفا مستقلا، وغير ذلك، من(38/319)
هذه الفروع.
ذهب الأخفش - ويتبعه الفراء - إلى أن الضمير في لولاي ولولاك ولولاه مبتدأ، وقد أناب العرب فيها الضمير المخفوض عن الضمير المرفوع، فأنابوا لولاي عن لولا أنا، ولولاك عن لولا أنت، ولولاه عن لولا هم قياسا على إنابتهم ضمير الرفع عن ضمير الجر في قولهم: ما أنا كأنت، خلافا لسيبويه الذي ذهب إلى أن لولاه جارة لهذه الضمائر (1) .
- وذهابه إلى جواز دخول الواو على خبر كان وأخواتها إذا كان جملة؛ نحو: كان محمد ولا حق عنده، وليس شيء إلا وفيه نقص، قياسا على قول الشاعر:
ما كان من بشر إلا وميتته ... محتومة لكن الآجال تختلف
وعلى قول آخر:
ليس شيء إلا وفيه إذا ما ... قابلته عين البصير اعتبار
خلافا لسيبويه، الذي لا يجيز ذلك ويؤول ما جاء منه عن العرب على حذف الخبر (2) .
- وذهابه إلى أن لا سيما من أدوات الاستثناء، خلافا لسيبويه وجمهور البصريين في أن سي اسم لا النافية للجنس مبني على الفتح، وما بعدها إما مجرور بإضافة سي إليه وعد ما زائدة، وإما مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وما موصولة بمعنى الذي والتقدير لا سي الذي هو زيد، وإما منصوب على التمييز (3) .
- وزيادته على البصريين في العوامل المعنوية، ففي حين رأوها اثنين هما الابتداء في المبتدأ، والتجرد من الناصب والجازم في المضارع المرفوع، أضاف إليهما العامل في الخبر، فهو معنوي عنده، وهو الابتداء،
__________
(1) انظر ابن يعيش، شرح المفصل 3: 122.
(2) انظر الهمع 1: 116.
(3) انظر الهمع 1: 234.(38/320)
والعامل في النعت والتوكيد والبدل وهو معنوي عنده لأنه التبعية للمنعوت والمؤكد والمبدل منه (1) .
- ومتابعته الكوفيين في جواز إلغاء العامل مع تقدمه على المعمول سواء أكان هذا العامل فعلا أم حرفا، فيجوز القول: ظننت زيد قائم، قياسا على قول كعب بن زهير:
أرجو وآمل أن تدنو مودتها ... وما إخال لدينا منك تنويل
وعلى قول غيره:
كذاك أدبت حتى صار من خلقي ... أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
وكذلك ورد قول الشاعر:
لولا فوارس من ذهل وأسرتهم ... يوم الصليفاء لم يوفون بالجار
على إلغاء (2) عمل "لم".
- تجويزه اشتقاق صيغة التعجب من غير الفعل الثلاثي مباشرة نحو: ما أتقنه وما أخطأه، كما جوز ذلك مباشرة من العاهات نحو: ما أعوره وما أعرجه، وتبعه فيهما الكسائي، خلافا لسيبويه وجمهور البصريين (3) .
- وتجويزه - وتبعه الكوفيون - حذف الجزء الثالث من جمع؛ مثل: فرزدق، فيقولون: فرادق، خلافا لسيبويه والبصريين الذين يرون القياس في جمعه فرازق بحذف الحرف الرابع (4) .
- ذهابه إلى أن وزن "هجرع" بمعنى الطويل، و"هبلع" بمعنى الأكول "هفعل" بزيادة الهاء فيهما؛ لأن الأولى مشتقة عنده من الجرع أي المكان السهل، والثانية مشتقة من البلع، خلافا لسيبويه الذي ذهب إلى أنه "فعلل" (5) .
__________
(1) انظر الهمع 1: 94، 2: 15، والتصريح 2: 108.
(2) انظر شرح الأشموني على الألفية 4: 6، والتصريح 1: 258.
(3) انظر الهمع 2: 166.
(4) انظر الهمع 2: 181.
(5) انظر الكتاب 2: 335، وابن جني، المنصف 1: 25، وشرح الرضي للشافية 2: 385.(38/321)
وذهابه - وتبعه الكسائي - إلى أن "من" الجارة تزاد في الإيجاب (1) مثل: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} (2) ، {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} (3) ، {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} (4) .
- قوله - وتابعه الفراء - بجواز تأخير الخبر إذا كان المبتدأ مبدوءا بأن مفتوحة الهمزة (5) نحو: أن العلم نور قول مشهور، فقد قاسه الأخفش على مجيء الخبر مؤخرا مع أن المصدرية في نحو: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (6) .
- وقوله: - وتابعه الكوفيون - إن المبتدا إذا كان اسم فاعل أغنى فاعله عن الخبر بدون اعتماد على نفي أو استفهام مثل: قائم الزيدان، وكذلك إذا كان اسم الفاعل اسما لإن؛ نحو: إن قائما الزيدان (7) .
- إجازته - وتابعه الكوفيون - حذف الاسم الموصول إذا علم؛ كقول حسان:
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
أي: ومن يمدحه (8) .
- ذهابه مع يونس البصري والكوفيين وتبعهم ابن مالك إلى عدم وجوب إعادة الخافض إذا عطف على الضمير المتصل المخفوض، مستدلين بقراءة حمزة من السبعة وابن عباس والحسن البصري: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (9) بخفض (الأرحام) وعدم إعادة الباء، وذلك خلافا لأكثر البصريين الذين يأخذون بقراءة جمهور السبعة المرسومة في المصحف وهي "تساءلون به والأرحام" على تقدير "واتقوا الأرحام أن تقطعوها" (10) .
لا يجوز عند جمهور البصريين أن نقول: "كم غلمانا عندك؟ " خلافا
__________
(1) انظر المغني 1: 324 - 325 ت محمد محي الدين عبد الحميد.
(2) سورة الأنعام الآية 34
(3) سورة نوح الآية 4
(4) سورة الكهف الآية 31
(5) انظر الهمع 1: 103.
(6) سورة البقرة الآية 184
(7) انظر الهمع 1: 94، 136.
(8) انظر المغني 2: 625 تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، الهمع 1: 88.
(9) سورة النساء الآية 1
(10) انظر حاشية العدوي على شرح الشذور 2: 195.(38/322)
للكوفيين، الذين يجوزون جمع تمييز (كم) الاستفهامية كهذا المثال، وكقولنا: "كم شهودا لك؟ " وذهب الأخفش إلى جواز جمع تمييز (كم) الاستفهامية شريطة أن يكون الاستفهام والسؤال عن الجماعات والأصناف كهذين المثالين إذا أردت منهما أصنافا من الغلمان وجماعات من الشهود (1) .
يستغنى عن تثنية أجمع وجمعاء بكلا وكلتا كما استغنوا بتثنية سي عن تثنية سواء، فقالوا: سيان، ولم يقولوا: سواءان، إلا نادرا، وأجاز الأخفش والكوفيون تثنية أجمع وجمعاء. فقالوا: جاء الزيدان أجمعان وجاءت الهندان جمعاوان، وهذا الخلاف جار أيضا بين الفريقين في تثنية ما وازنهما نحو: أكتع وكتعاء وأبصع (2) وبصعاء.
يرى جمهور البصريين أن البدل إن كان غير دال على الإحاطة فإنه يمنع بدل الكل من الكل، وقول الشاعر: -
بكم قريش كفينا كل معضلة ... وأم نهج الهدى من كان ضليلا
محل خلاف، فهذا الجمهور لا يثبتون بدل الكل فيه؛ لأن البدل في البيت غير دال على الإحاطة، والأخفش والكوفيون يقولون به تمسكا بهذا البيت ويرون أن قريشا بدل كل من ضمير الحاضر وهو الكاف في "بكم" على الرغم من أن البدل لم يدل على الإحاطة، فهم لا يشترطون ذلك فيه (3) .
"يا تميم كلهم أو كلكم" هذا مثال لتابع التوكيد المعنوي المضاف الذي يجب نصبه عند النحاة، ويوجد مع تابع المنادى في هذا المثال ضمير، وهذا الضمير يجوز أن يؤتى به دالا على الغيبة باعتبار الأصل، فيقال: "كلهم"، وأن يؤتى به دالا على الحضور باعتبارالحال فيقال:
__________
(1) انظر حاشية العدوي 2: 207.
(2) انظر حاشية العدوي 2: 180.
(3) انظر ابن هشام، شرح شذور الذهب 433.(38/323)
"كلكم"، لكن الأخفش منع مراعاة الحال وقال في "يا تميم كلكم" يجوز رفع التوكيد ونصبه، فإن رفع فهو مبتدأ وخبره محذوف أي "كلكم مدعو" وإن نصب فبفعل محذوف أي "كلكم دعوت" (1) .
"ثم" حرف عطف يفيد الجمع والترتيب والمهلة، وذهب الأخفش إلى أن "ثم" قد تتخلف عن التراخي بدليل قولك: "أعجبني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب" لأن ثم في هذا القول جاءت في الترتيب الإخباري ولا تراخي بين الإخبارين (2) .
قال الشاعر:
لكنه شاقه أن قيل ذا رجب ... يا ليت عدة حول كله رجب
توكيد النكرة "حول" توكيدا معنويا بـ"كله" كما في هذا البيت صحيح، لكنه شاذ عند جمهور البصريين، لأنه نادر أو قليل فيحفظ ولا يقاس عليه، وقد تابعهم ابن هشام على ذلك في بعض كتبه كالشذور والقطر.
ورأى الأخفش وجمهور الكوفيين أن توكيد النكرة توكيدا معنويا صحيح مطرد شريطة أن يكون هذا النوع من التوكيد للنكرة مفيدا، وأنشدوا هذا البيت ونحوه دليلا على ذلك، وقد تابعهم ابن هشام على رأيهم هذا في بعض كتبه الأخرى كالتوضيح، واختار هذا الرأي أيضا ابن مالك والرضي الإستراباذي والشاطبي (3) .
بعد هذه الأمثلة الكثيرة يمكن القول إن الأخفش قد التقى في مسائل كثيرة مع الكوفيين من خلال التأثير المتبادل بينهم وبينه، لكن تأثيره فيهم وإعانته لهم على تحقيق غرضهم في إنشاء مذهب خاص بهم مغاير في أطره العامة وفي كثير من فروعه لمذهب البصريين - كانا أشد وضوحا وأكثر ظهورا.
__________
(1) انظر حاشية العدوي 2: 196.
(2) انظر حاشية العدوي 2: 191.
(3) انظر شرح شذور الذهب 429، وحاشية العدوي 2: 179 -180.(38/324)
وقد بدا تأثر الأخفش بالكوفيين خاصة في المسائل التي كان له فيها أولا رأي كرأي البصريين ثم ما لبث أن تركه إلى رأي آخر يماثل رأيهم، ومن العسير فيما عدا هذا أن نحدد أي المسائل وافق فيه الكوفيين وأيها وافقوه فيه.(38/325)
اضطراب آراء الأخفش:
مما يلفت النظر في نحو الأخفش ظاهرة اضطراب آرائه وورود أكثر من رأي له في المسألة الواحدة، فقد رأيناه أحيانا يقول في مسألة برأي يتفق مع رأي سيبويه والبصريين فيها، وبرأي آخر يماثل رأي الكوفيين، وبثالث يستقل به ولا يحذو فيه حذو أحد، وهو في هذا الاضطراب لم يكن نسيج وحده بين النحاة، فقد اضطربت مواقفهم أيضا، لكنه زاد عليهم في ذلك حتى كان أبو علي يقول إذا سمع اضطراب آرائه وتناقضها: "عكر الشيخ" (1) وقال عنه ابن جني: " كان أبو الحسن ركابا لهذا الثبج (2) آخذا به غير محتشم منه وأكثر كلامه في عامة كتبه عليه" (3) .
وقال عنه السيوطي "كان أبو الحسن الأخفش يقع له ذلك كثيرا حتى إن أبا علي كان إذا عرض له قول عنه يقول: لا بد من النظر في إلزامه إياه؛ لأن مذاهبه كثيرة" (4) ولعل ذلك كان منه في أكثر الأحيان حرصا على الوصول إلى الأحسن والأدق من الآراء في المسائل، وجريا على الزيادة في التمحيص والنظر من أجل الإبداع والتطوير والوصول إلى الجديد عن طريق التجديد، ولكي يخرج عما يراه قاصرا إلى ما يراه صحيحا، أو عما يراه ناقصا إلى ما يراه أكمل منه وأشمل، أو عما يراه سطحيا أو تقليديا إلى ما يراه أعمق وأكثر جدة وابتكارا وإبداعا.
__________
(1) الخصائص 1: 205، 206.
(2) ثبج البحر: وسطه ومعظمه'' انظر القاموس المحيط 1: 187''.
(3) الخصائص 1: 205، 206.
(4) السيوطي، الاقتراح 82.(38/325)
وربما كان ذلك في بعض الأحيان مظهرا من مظاهر التردد لتعدد الأدلة أمامه في المسألة الواحدة، ولانعدام القدرة على الجزم فيها والقطع بأحدها وطرح ما سواه.
ويبدو لي أن سبب اضطراب رأي الأخفش في طائفة كبيرة من المسائل وخلافه مع البصريين وزيادته عليهم، ومتابعته للكوفيين أو متابعتهم له، مما يشاهد كثيرا في الكتب النحوية في الفروع الخلافية هو نفسه السبب الذي ذكرناه من قبل ورددنا إليه مراوحته بين التشدد في القياس تأثرا بالبصريين وتساهله فيه متابعا الكوفيين.
وخلاصة هذا السبب في هذه الأمور جميعا هو اتصاله بالكوفيين في بغداد بعد رحيله إليها من البصرة واختلاطه بهم ومصادقته لأئمتهم وتأثره باتجاهاتهم المتسامحة، ثم عودته إلى البصرة وابتعاده بذلك عن الكوفيين في بغداد مما أعاده إلى جو التشدد والالتزام الدقيق في الدرس النحوي في شتى مناحيه.
وأيا ما كان الأمر فإن من المسائل الكثيرة التي تعدد رأيه فيها:
- ذهابه تارة إلى إهمال "لات" وقوله: إن العمل الموجود بعدها هو لغيرها وليس لها فإذا وليها مرفوع فمبتدأ خبره محذوف، وإذا وليها منصوب فبإضمار فعل، وذهابه طورا آخر إلى أن "لات" تعمل عمل "إن" فتنصب الاسم وترفع الخبر.
- قوله برأي الخليل وسيبويه في أن جازم جواب الشرط هو الأداة والشرط معا، وقوله أيضا برأي الكوفيين في أن الشرط والجواب تجازما كما ترافع المبتدأ والخبر، واستقلاله بالقول إن جازم الشرط الأداة وجازم الجواب الشرط (1) .
__________
(1) انظر الهمع 2: 61، والتصريح 2: 248.(38/326)
- قوله مرة إن اللغة تواضع واصطلاح، وقوله مرة أخرى إنها وحي وتوقيف، وتابعه في قوليه أبو علي الفارسي، والتوفيق رأي الأشعري، والاصطلاح رأي المعتزلة (1) .
- "ما" التعجبية في قولنا "ما أحسن زيدا" اسم بالإجماع بدليل عود الضمير في الفعل "أحسن" عليها، والضمائر لا تعود إلا إلى الأسماء، وعدها سيبويه وجمهور البصريين نكرة بمعنى شيء، وإنما جاز الابتداء بها مع أنها نكرة لتضمنها معنى التعجب والجملة الفعلية بعدها خبر.
وعدها الأخفش اسما موصولا بمعنى الذي، والجملة الفعلية بعدها صلة الموصول، وخبر المبتدأ محذوف وجوبا، والتقدير "الذي أحسن زيدا شيء عظيم".
وعدها الأخفش في قول آخر له نكرة بمعنى شيء والجملة بعدها في محل رفع نعت؛ لأن الجمل بعد النكرات صفات، وهذا النعت هو أحد مسوغي الابتداء بما النكرة، وتضمنها معنى التعجب هو المسوغ الآخر، وخبر المبتدأ محذوف وجوبا والتقدير "شيء أحسن زيدا شيء عظيم" (2) .
__________
(1) انظر الخصائص 1: 41.
(2) انظر حاشية العدوي 2: 167.(38/327)
تأثير الأخفش فيهن أتى بعده من أئمة الدرس النحوي واللغوي:
كان للأخفش تأثير لا ينكر في خالفيه من علماء العربية البصريين والكوفيين والبغداديين وفيمن أتى بعدهم من أهل المدارس المتعاقبة في المشرق والمغرب.
وكان لا بد أن يحدث هذا التأثير، فقد قال الكسائي في الرجل (لم يكن في القوم - يعني البصريين - أعلم من الأخفش) (1) ، وقال الفراء عنه حين نعته أحدهم بسيد أهل اللغة: (أما ما دام الأخفش يعيش
__________
(1) أبو الطيب اللغوي، مراتب النحويين 68.(38/327)
فلا) (1) ، وقال الفراء عنه أيضا حين علم بعزمه على الخروج إلى الري (لئن كان خرج فقد خرج معه النحو كله) (2) .
فإذا كان هذا مقدار إعجاب قطبي الكوفة بالأخفش البصري، وإذا كانت هذه أقوالهما فيه وهي قد بلغت ذروة المدح وقمة الثناء، فإن ذلك يعني بوضوح أنهما اطلعا على علمه واستفادا منه، وأنهما يدعوان نحاة الكوفة المعاصرين ومن بعدهم إلى الاقتداء بهما في الحرص على علم الأخفش والاستفادة منه.
ولقد ظهر تأثير الأخفش أيضا فيمن أتى بعده من أهل بغداد ومن غيرهم، سواء أكانوا من اللغويين أم من أهل النحو والبلاغة وغيرهما من علوم اللسان، فلقد أثر في أبي علي الفارسي الذي اتصل بكتبه ونقل عنها وعول عليها، وفي ابن جني الذي طبع "خصائصه" بطابع "مقاييس" الأخفش وملأ "مصنفه على تصريف المازني " بآرائه الصرفية، وفي ابن السراج الذي أكثر من الرواية عنه في "أصوله" واعتمد عليه في الاحتجاج، وفي السكاكي الذي جعل آراءه واحدا من مصادره الرئيسة في كتابه البلاغي "مفتاح العلوم" وجعل أيضا مفتاحه هذا معرضا لمواقف الأخفش في علم العروض والقوافي التي تابع فيها خطى الخليل ولآرائه التي خالفها فيها، وفي ابن فارس في "مقاييسه" وفي الجوهري في "صحاحه". وفي الرازي في "مختاره من الصحاح". وفي ابن منظور في مصنفه "لسان العرب" وهي جميعا مليئة بروايات الأخفش اللغوية والنحوية والصرفية والبلاغية والعروضية.
وقد أورد أحد الباحثين إحصاء غريبا طريفا، بين فيه من تأثروا بالأخفش في مختلف العصور وأحصى عدد المسائل التي تأثر
__________
(1) القفطي، إنباه الرواة 2: 39.
(2) السيوطي، المزهر 2: 404.(38/328)
أكثرهم به فيها فقال: "إن ابن مالك كان أكثرهم تأثرا وقد نيف ما وافقه فيه على أربعين مسألة، ثم وليه أبو علي الذي نيف ما وافق الأخفش فيه على ثلاثين مسألة، ثم المبرد في ثلاث وعشرين، ثم الفراء في سبع عشرة، ثم الكسائي في ثلاث عشرة، ثم ابن عصفور في إحدى عشرة، ثم هشام الضرير في عشر، ثم المازني وابن جني في تسع لكل منهما، ثم السيرافي في ثمان، ثم الزجاج وابن السراج في سبع عند كل منهما، ثم أبو حيان في ست، ثم الجرمي وابن يعيش والشلوبين، ثم ابن كيسان، ثم ابن هشام وابن برهان والطوال وثعلب والأشموني والربعي، ثم النحاس وابن درستويه والسيوطي وقطرب والرماني والزجاجي وابن السيد وابن طاهر وابن خروف، ثم أبو حاتم السجستاني وابن مضار والدماميني وابن الطراوة وابن الأنباري والبغدادي وابن قتيبة وخالد الأزهري وابن القطاع الصقلي وابن أبي الربيع وابن الصائغ وابن بابشاذ والعكبري وعضد الدولة وابن أم قاسم المرادي والصفار والسهيلي والأخفش الصغير والجزولي والميداني والصبان " (1) .
ومن أمثلة تأثير الأخفش - وهي أكثر من أن تحصى - في نحاة بصريين وكوفيين وبغداديين وأندلسيين:
- منعه توكيد "اختصم الزيدان والهندان" فلا يقال: "كلاهما وكلتاهما" لعدم الفائدة؛ لأن الاختصام لا يكون إلا بين اثنين أو اثنتين، وقد تابعه على هذا الفراء وهشام وأبو علي الفارسي (2) .
- وإجازته توكيد المحذوف والعطف عليه فيجوز "جاءني الذي ضربت نفسه" و"جاءني الذي ضربت وعمرا" ومشى عليه الكسائي (3) .
__________
(1) عبد الأمير الورد، منهج الأخفش الأوسط 441 - 442.
(2) انظر التصريح 2: 123.
(3) انظر الهمع 1: 91.(38/329)
- وذهابه إلى أن اسم الفعل لا محل له من الإعراب، وقد تابعه على هذا طائفة من النحاة واختاره ابن مالك (1) .
- وقوله: إن المنصوب بعد حبذا ولا حبذا حال مطلقا جامدا كان أو مشتقا، وقد أخذ بهذا أبو علي الفارسي والربعي (2) .
- وجعله الممنوع من الصرف مبنيا على الفتح في حالة الجر، وقد أخذ به المبرد (3) .
- وتعليقه الجار والمجرور في {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (4) بالفعل المقدر (أعجبوا) ، بعينه، وقد أخذ بذلك الكسائي (5) .
__________
(1) انظر التصريح 2: 195.
(2) انظر الهمع 2: 89.
(3) انظر ابن يعيش، شرح المفصل 1: 58.
(4) سورة قريش الآية 1
(5) انظر التصريح 1: 337.(38/330)
الأخفش في ميزان التقليد والتجديد:
إن المتأمل في مسلك الأخفش في الفروع والمسائل لا يلبث أن يقرر وهو مطمئن أن هذا الرجل كان نحويا متميزا مقتدرا صاحب رأي متفرد في كثير من الأحيان، وأنه لم يكن مقلدا فحسب في جميع أحواله، وإنما كانت له مواقف انفرد بها ونزعات أظهرت ما لديه من القدرة على الاجتهاد والابتكار.
وما عباراته وأساليبه على ما فيها من الصعوبة والوعورة بصرف النظر عما قيل في تعليل ذلك مما هو مذكور ومشهور - إلا صور لقدراته الباهرة، ولعمقه الكبير، ولدقته في التعبير والتصوير ولجدته في عرض الحقائق بصورة لم يألفها كثيرون من نظرائه ومعاصريه وأقطاب الدرس النحوي في زمانه.
ولو أن الأخفش عاش في زمان لم يكن قد مضى فيه على الدرس النحوي في البصرة والكوفة المتنافستين إلا حين يسير من الدهر - لم يسمح(38/330)
للتراث النحوي في البلدين بأن يتسع ويخصب كما اتسع وخصب فيهما فيما بعد، ولو أنه عاش بعد زمانه بعيد حين زاد التنافس وكثرت المدارس وتزايد العلماء واتسع البحث في هذا العلم وكثر وعمق وغرز، لكان أكثر تميزا واستقلالا واجتهادا، ولكان نحوه أكثر خصوبة وأكبر حجما؛ لأنه يشتغل حينئذ بذكائه المعهود وإمكانياته القوية في خضم إرث نحوي ضخم ومتشعب وكبير آل إليه، وهذا وذاك يجعلان الميدان أمامه واسعا والمسائل ثرة والآراء متشعبة ومجال الحديث أوسع وأرحب والنتائج أعمق وأخصب.
على كل حال لقد برز الأخفش بين أقرانه تبريزا قويا في هذا الوقت المبكر، وأجاد وأبدع وأفاد، وكان يصول ويجول في كل أحواله مقلدا ومجددا، فهو في التزامه بمنهج مدرسته وبطريقة أقرانه الأعلام يعد مقلدا بارعا أرسى معهم دعائم الدرس النحوي في مدرسته، وهو في ابتكاره ونظراته المتميزة مجدد في إطار زمانه، وهو تجديد يختلف في حد ذاته عن التجديد الذي كان من ابن مضاء وأضرابه، ممن سجلهم التاريخ فيمن ثاروا على إرث نحوي ضخم امتلأ تعقيدا وفذلكات عبر مسيرة الزمان الطويلة؛ لأنه كان تجديدا ما زال النحو إبانه غضا طريا وما زالت مسائله - وإن كثرت - أكثر صفاء من صفاء اللغويين إلى الإيغال الشديد في نقيضهما مما حمل ابن مضاء وغيره من دعاة الإصلاح على حمل لواء الانتقاء الشديد ثم التجديد الكامل.
فأمر المقارنة بين تجديد الأخفش وتجديد ابن مضاء مثلا مرهون بزمانيهما، وبمسيرة الدرس النحوي في كل من هذين الزمانين، وبين مسائل النحو فيهما وبين طبيعة هذه المسائل في كل منهما فرق كبير لا(38/331)
يخفى على الدارس البصير.
إنني لا أستطيع أن أقول إن الأخفش كان مقلدا بحتا، كما هو الشأن في المقلدين التقليديين، الذين لم يعرف عنهم تجديد قط من أي لون كان، أو أنه كان مجددا بحتا كما هو حال ابن مضاء على سبيل المثال، ولكني أقول وأنا مطمئن إنه كان أكثر المقلدين تجديدا، وأوسع التقليديين ابتكارا، إن صح هذان التعبيران. فقد بدت منه لمعات لم تكن لتبدو من غيره، وكانت له مواقف لم نجدها عند سواه في السابقين، وربما في اللاحقين، وهو وإن التزم في درسه النحوي بما وضع من الأصول الكلية واستقر من القضايا الشاملة كقضية العامل وقضية القياس وقضايا الحدود والعلل، ونهج في هذه الأصول والقضايا نهج أسلافه ومعاصريه ولم يحاول التصدي بالنقد أو التغيير أو التعديل لما وضع منها أو بالإنشاء والابتكاء لما يمكن أن يخترع منها أو يضاف إليها - فإنه قد انصرف بكليته بدلا من ذلك إلى الاهتمام الواسع بالفروع وإلى التعامل الكبير معها، فحوى نحوه لذلك فروعا كثيرة اجتهد فيها وأضاف إليها ما أسعفه به عقله الذكي وثقافته الواسعة) وهي فروع مبثوثة بكثرة في التراث النحوي.
وقد حوى نحوه في الوقت نفسه فروعا أخرى لم يخرج فيها عما استقرت عليه المدرسة البصرية من القواعد القائمة على أسسها الخاصة، واكتفى في هذه الفروع بأن جعلها ميدانا فسيحا عرض فيه مهارته المنطقية وأبرز عارضته الجدلية كسائر النحاة البصريين.
كما حوى نحوه فرعا غيرهما سار فيها مسار نحاة الكوفة وفق اتجاهات مدرستها التي تميل إلى التسمح وتتجاوب مع الفطرة اللغوية بمقدار أكبر من غيرها، بعيدا عن التمحل والتفلسف ونحوهما.(38/332)
لعلنا نكون بعد هذا قد وفقنا في الكلام عن الأخفش، وأن تكون محاولتنا في هذا البحث والحكم عليه ووضعه في موضعه الصحيح من مسيرة النحو عبر القرون الطويلة المتعاقبة قد تكللت بالنجاح أو بشيء منه، فإن نكن وفقنا فالفضل لله والحمد له، وإلا نكن فلعل حديثنا هذا خطوة إلى الأمام تعين غيرنا على أن يفيض ويفيد ويصل إلى ما لم نصل إليه ويوفق فيما جانبنا فيه التوفيق.(38/333)
صفحة فارغة(38/334)
صفحة فارغة(38/335)
صفحة فارغة(38/336)
صفحة فارغة(38/337)
صفحة فارغة(38/338)
صفحة فارغة(38/339)
صفحة فارغة(38/340)
صفحة فارغة(38/341)
صفحة فارغة(38/342)
صفحة فارغة(38/343)
صفحة فارغة(38/344)
صفحة فارغة(38/345)
صفحة فارغة(38/346)
المصادر والمراجع
الأزهري - خالد - شرح التصريح على التوضيح (القاهرة: عيسى البابي الحلبي، د. ت) .
الإستراباذي - الرضي - شرحه على شافية ابن الحاجب، تحقيق محمد نور الحسن وزميليه (القاهرة: مطبعة حجازي، 1356هـ) .
الإستراباذي - الرضي - شرحه على كافية ابن الحاجب (إستانبول 1325 هـ) .
الأشموني - أبو الحسن - شرحه على ألفية ابن مالك (القاهرة: عيسى البابي الحلبي، د. ت) .
الأصفهاني - أبو الفرج - الأغاني - تحقيق عبد الله العلايلي وزميله - ط3، (بيروت: 64 - 1966م) .
ابن الأنباري - أبو البركات - البيان في غريب إعراب القرآن - تحقيق د. طه عبد الحميد طه - مراجعة مصطفى السقا (القاهرة: دار الكتاب العربي 1969م) .
ابن الأنباري - أبو البركات - نزهة الألباء في طبقات الأدباء - تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: دار نهضة مصر - 1967م) .
الأنصاري - د. أحمد مكي - سيبويه والقراءات (القاهرة: دار المعارف، 1972م) .
الأنصاري - ابن هشام - شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، ط7 (القاهرة: مطبعة السعادة، 1953م) .(38/347)
- الأنصاري - ابن هشام - مغني اللبيب عن كتاب الأعاريب - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد (القاهرة: مطبعة المدني، د. ت) وتحقيق د. مازن المبارك وزميله (بيروت: دار الفكر، 1979م) .
بروكلمان - كارل - تاريخ الأدب العربي - ترجمة د. رمضان عبد التواب (القاهرة: دار المعارف، 1975م) .
الجاحظ. عمرو - الحيوان - تحقيق عبد السلام هارون - ط2 (القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، 1965م) .
ابن جني - أبو الفتح - الخصائص - تحقيق محمد علي النجار (القاهرة: دار الكتب المصرية، 1952م) .
ابن جني - أبو الفتح - المنصف شرح تفسير المازني - تحقيق إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين (القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، 1960م) .
الحديثي د. خديجة - أبنية الصرف في كتاب سيبويه (بغداد: 1965م) .
الحريري - القاسم بن علي - المقامات الحريرية (بيروت: 1965م) .
الحموي - ياقوت - معجم الأدباء - تحقيق مرجليوت - الطبعة الأخيرة (القاهرة: عيسي البابي الحلبي، 1936م) .
ابن خلكان - أحمد بن محمد - وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان - تحقيق د. إحسان عباس (بيروت: دار صادر، 1978م) .
الرازي - محمد بن أبي بكر - مختار الصحاح -(38/348)
- تحقيق محمود خاطر بك (القاهرة: المطبعة الأميرية، 1922م) .
ابن رشيق - أبو علي الحسن - العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد - ط4، (بيروت: دار الجيل، 1972م) .
الزبيدي - محمد - طبقات النحويين واللغويين - تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: الخانجي، 1954م) .
الزجاجي - أبو القاسم - الإيضاح في علل النحو - تحقيق د. مازن المبارك (القاهرة: مطبعة المدني، 1959م) .
الزركلي - خير الدين - الأعلم - ط3، (بيروت: 1969م) .
الزمخشري - محمود بن عمر - المفصل - تحقيق محمد بدر الدين النعساني (القاهرة: مطبعة التقدم، 1323هـ) .
سيبويه - أبو بشر عمرو - الكتاب (القاهرة: مطبعة بولاق، 1316هـ) .
السيرافي - أبو السعيد - أخبار النحويين البصريين - تحقيق فرتسى كرنكو (بيروت: 1936م) .
السيوطي - جلال الدين - الأشباه والنظائر - تحقيق طه سعد (القاهرة: 1975م) .
السيوطي - جلال الدين - الاقتراح في أصول النحو - ط2، (حيدر آباد: 1359هـ) .
السيوطي - جلال الدين - بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة - تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: عيسى البابي الحلبي، 1964م) .(38/349)
- السيوطي - جلال الدين - المزهر في علوم اللغة وأنواعها - تحقيق محمد أحمد جاد المولى وزميليه - ط3 (القاهرة: عيسى البابي الحلبي، د. ت) .
السيوطي - جلال الدين - همع الهوامع شرح جمع الجوامع (بيروت: دار المعرفة، د. ت) .
الشنقيطي - أحمد الأمين - الدرر اللوامع على همع الهوامع شرح جمع الجوامع (القاهرة: مطبعة كردستان، 1328هـ) .
الصبان - محمد - حاشيته على شرح الأشموني (القاهرة: عيسى البابي الحلبي، د. ت) .
ضيف - د. شوقي - المدارس النحوية (القاهرة: دار المعارف، 1968م) .
ابن أبي طالب - مكي - مشكل إعراب القرآن - تحقيق ياسين محمد السنواس (دمشق: مجمع اللغة العربية، 1974م) .
عبد الباقي - محمد فؤاد - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم (بيروت: د. ت) .
عبد الحميد - محمد محي الدين - منتهى الأرب بتحقيق شرح شذور الذهب - ط10، (القاهرة: مطبعة السعادة، 1965م) .
العدوي - محمد عبادة - حاشيته على شرح شذور الذهب (القاهرة: عيسى البابي الحلبي، د. ت) .
ابن عقيل - بهاء الدين عبد الله - شرحه على ألفية ابن مالك - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد - ط7 (القاهرة: مطبعة السعادة، 1953م) .(38/350)
- العكبري - أبو البقاء - التبيان في إعراب القرآن - تحقيق علي محمد البجاوي (القاهرة: عيسى البابي الحلبي، 1976م) .
ابن فارس - أحمد - الصاحبي - تحقيق السيد أحمد صقر (القاهرة: عيسى البابي الحلبي د. ت) .
الفراء - أبو زكريا - معاني القرآن - جـ1 - تحقيق أحمد يوسف نجاتي ومحمد علي النجار - ط2، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية الكتاب، 1980م) .
الفيروزآبادي - مجد الدين محمد - القاموس المحيط - ط2، (القاهرة: مصطفي البابي الحلبي، 1952م) .
الفيومي - أحمد - المصباح المنير - تحقيق د. عبد العظيم الشناوي (القاهرة: دار المعارف 1977م) .
القاضي - عبد الفتاح - القراءات الشاذة وتوجيهها من لغة العرب (القاهرة: عيسى البابي الحلبي، 1952م) .
القرطبي - ابن مضاء - الرد على النحاة - تحقيق د. شوقي ضيف (القاهرة: دار الفكر العربي، 1947م) .
قطرب - مقدمة كتب الأزمنة - (الجزء المنشور في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 1922 م) .
القفطي - إنباه الرواة على أنباه النحاة - تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: دار الكتب المصرية، 1952م) .
اللغوي - أبو الطيب - مراتب النحويين - تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم (القاهرة: مطبعة نهضة مصر، 1955م) .
ابن مالك - محمد - الألفية - ط2 (القاهرة: دار الكتب المصرية، 1930م) .(38/351)
- المخزومي - د. مهدي - الخليل بن أحمد الفراهيدي أعماله ومنهجه - ط2 (بيروت: دار الرائد العربي 1986م) .
ابن منظور - محمد - لسان العرب (بيروت: دار صادر، د. ت) .
النحاس - أبو الجعفر - إعراب القرآن - تحقيق د. زهير غازي زاهد - ط2، (مكتبة النهضة العربية، 1985م) .
النفاخ - أحمد راتب - فهرس شواهد سيبويه (بيروت: 1970م) .
هارون - عبد السلام - معجم شواهد العربية (القاهرة: مطبعة الخانجي، 1972م) .
الورد، د. عبد الأمير - منهج الأخفش الأوسط في الدراسة النحوية (بغداد: 1975م) .
ابن يعيش، موفق الدين يعيش - شرحه على مفصل الزمخشري (القاهرة: المطبعة المنيريه، د. ت) .(38/352)
حديث شريف
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: «إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها! قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم (1) »
متفق عليه
والأثرة: الانفراد بالشيء عمن له فيه حق.
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7052) ، صحيح مسلم الإمارة (1843) ، سنن الترمذي الفتن (2190) ، مسند أحمد بن حنبل (1/433) .(38/353)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2)
(سورة التوبة)
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة التوبة الآية 72(39/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(39/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(39/3)
المحتويات
الافتتاحية:
حقيقة التوحيد والشرك سماحة / الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث الفوائد الربوية اللجنة الدائمة 27
الفتاوى:
فتاوى اللجنة اللجنة الدائمة 77
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 133(39/4)
البحوث:
تفصيل المقال على حديث "كل أمر ذي بال" د / عبد الغفور عبد الحق البلوشي 151
أوراق النقود ونصاب الورق النقدي محمد بن علي بن حسين الحريري 239
ذميم الشعر في التصور الإسلامي مصطفى عيد الصياصنة 345
حول توظيف النساء في الدوائر الحكومية سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 379(39/5)
صفحة فارغة(39/6)
الافتتاحية
حقيقة التوحيد والشرك (1)
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي العربي المكي ثم المدني، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله عز وجل خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، وأرسل الرسل لبيان هذه الحكمة، والدعوة إليها، وبيان تفصيلها وبيان ما يضادها، هكذا جاءت الكتب السماوية، وأرسلت الرسل البشرية من عند الله عز وجل للجن والإنس، وجعل الله سبحانه هذه الدار طريقا للآخرة، ومعبرا لها، فمن عمرها بطاعة الله وتوحيده واتباع رسله عليهم الصلاة والسلام انتقل من دار العمل وهي الدنيا إلى دار الجزاء وهي الآخرة، وصار إلى دار النعيم والحبرة والسرور، دار الكرامة والسعادة، دار لا يفنى نعيمها، ولا يموت أهلها، ولا تبلى ثيابهم، ولا يخلق شبابهم، بل في نعيم دائم، وصحة دائمة، وشباب مستمر، وحياة طيبة سعيدة، ونعيم لا ينفد، ينادى فيهم من عند الله عز وجل: «يا أهل الجنة إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا (2) »
__________
(1) محاضرة ألقيت في ندوة الجامع الكبير بالرياض بتاريخ 3 \ 7 \ 1398هـ.
(2) صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2837) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3246) ، مسند أحمد بن حنبل (3/95) ، سنن الدارمي الرقاق (2824) .(39/7)
هذه حالهم، ولهم فيها ما يشتهون، ولهم فيها ما يدعون. {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (1) ولهم فيها لقاء مع الله عز وجل كما يشاء، ورؤية وجهه الكريم جل وعلا.
أما من خالف الرسل في هذه الدار، وتابع الهوى والشيطان، فإنه ينتقل من هذه الدار إلى دار الجزاء، دار الهوان والخسران، والعذاب والآلام والجحيم، التي أهلها في عذاب وشقاء دائم، {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} (2) ، كما قال عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (3) ، وقال فيها أيضا: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} (4) ، وقال فيها جل وعلا: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (5) . والمقصود أن هذه الدار هي دار العمل، وهي دار التقرب إلى الله عز وجل بما يرضيه، وهي دار الجهاد للنفوس، وهي دار المحاسبة، ودار التفقه والتبصر في الدين، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، والعلم والعمل، والعبادة والمجاهدة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُون} (6) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (7) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (8) ، فخلق الله الجن والإنس وهما الثقلان لعبادته عز وجل، لم يخلقهم سبحانه لحاجة به إليهم، فإنه سبحانه هو الغني بذاته عن كل ما سواه، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (9) {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} (10) {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (11) .
__________
(1) سورة فصلت الآية 32
(2) سورة فاطر الآية 36
(3) سورة طه الآية 74
(4) سورة الكهف الآية 29
(5) سورة محمد الآية 15
(6) سورة الذاريات الآية 56
(7) سورة الذاريات الآية 57
(8) سورة الذاريات الآية 58
(9) سورة فاطر الآية 15
(10) سورة فاطر الآية 16
(11) سورة فاطر الآية 17(39/8)
ولم يخلقهم ليتكثر بهم من قلة، أو يعتز بهم من ذلة، ولكنه خلقهم سبحانه لحكمة عظيمة، وهي أن يعبدوه ويعظموه، ويخشوه ويثنوا عليه سبحانه بما هو أهله، ويعلموا أسماءه وصفاته، ويثنوا عليه بذلك، ويصبروا على ما ابتلاهم به، وليجاهدوا في سبيله، وليتفكروا في عظمته، وما يستحق عليهم من العمل، كما قال - عز وجل -: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (1) ، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2) ، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (3) {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (4) ، فأنت يا عبد الله مخلوق في هذا الدار لا لتبقى فيها، ولا لتخلد فيها، ولكنك خلقت فيها لتنقل منها بعد العمل، وقد تنقل منها قبل العمل، وأنت صغير لم تبلغ، ولم يجب عليك العمل لحكمة بالغة.
فالمقصود أنها دار ممزوجة بالشر والخير، ممزوجة بالأخلاط من الصلحاء وغيرهم، ممزوجة بالأكدار، والأفراح، والنافع والضار، وفيها الطيب والخبيث، والمرض والصحة، والغنى والفقر، والكافر والمؤمن، والعاصي والمستقيم، وفيها أنواع من المخلوقات خلقت لمصلحة الثقلين، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (5) .
__________
(1) سورة الطلاق الآية 12
(2) سورة الأعراف الآية 180
(3) سورة آل عمران الآية 190
(4) سورة آل عمران الآية 191
(5) سورة البقرة الآية 29(39/9)
والمقصود من هذه الخليقة - كما تقدم - أن يعظم الله، وأن يطاع في هذا الدار، وأن يعظم أمره ونهيه، وأن يعبد وحده سبحانه وتعالى بطاعة أوامره، وترك نواهيه، وقصده سبحانه في طلب الحاجات، وعند الملمات، ورفع الشكاوى إليه، وطلب الغوث منه، والاستعانة به في كل شيء، وفي كل أمر من أمور الدنيا والآخرة.
فالمقصود من خلقك وإيجادك يا عبد الله، هو توحيده سبحانه، وتعظيم أمره ونهيه، وأن تقصده وحده في حاجاتك، وتستعين به على أمر دينك ودنياك وتتبع ما جاء به رسله، وتنقاد لذلك طائعا مختارا، محبا لما أمر به، كارها لما نهى عنه، ترجو رحمة ربك، وتخشى عقابه سبحانه وتعالى.
والرسل أرسلوا إلى العباد ليعرفوهم هذا الحق، ويعلموهم ما يجب عليهم، وما يحرم عليهم، حتى لا يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، بل قد جاءتهم الرسل مبشرين ومنذرين، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) ، وقال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (2) ، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (3) .
فهم قد أرسلوا ليوجهوا الثقلين لما قد أرسلوا به، ويرشدوهم إلى أسباب النجاة ولينذروهم أسباب الهلاك، وليقيموا عليهم الحجة،
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة النساء الآية 165
(3) سورة الأنبياء الآية 25(39/10)
ويقطعوا المعذرة، والله سبحانه يحب أن يمدح، ولهذا أثنى على نفسه بما هو أهله، وهو غيور على محارمه، ولهذا حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
فعليك أن تحمده سبحانه، وتثني عليه بما هو أهله، فله الحمد في الأولى والآخرة، وعليك أن تثني عليه بأسمائه وصفاته، وأن تشكره على إنعامه، وأن تصبر على ما أصابك، مع أخذك بالأسباب التي شرعها الله وأباحها لك، وعليك أن تحترم محارمه، وأن تبتعد عنها، وأن تقف عند حدوده، طاعة له سبحانه ولما جاءت به الرسل، وعليك أن تتفقه في دينك، وأن تتعلم ما خلقت له، وأن تصبر على ذلك حتى تؤدي الواجب على علم وعلى بصيرة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (1) » وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة (2) » خرجهما مسلم في صحيحه.
وأعظم الأوامر وأهمها توحيده سبحانه، وترك الإشراك به - عز وجل -، وهذا هو أهم الأمور، وهو أصل دين الإسلام، وهو دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، وهو توحيد الله وإفراده بالعبادة، دون كل من سواه.
هذا هو أصل الدين، وهو دين الرسل جميعا، من أولهم نوح إلى خاتمهم محمد - عليهم الصلاة والسلام -، لا يقبل الله من أحد دينا سواه، وهو الإسلام.
وسمي إسلاما لما فيه من الاستسلام لله، والذل له، والعبودية له، والانقياد لطاعته، وهو توحيده والإخلاص له، مستسلما له - جل وعلا -، وقد أسلمت وجهك لله، وأخلصت عملك لله، ووجهت قلبك إلى الله في سرك وعلانيتك، وفي خوفك وفي رجائك، وفي قولك وفي عملك، وفي كل شأنك.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(39/11)
تعلم أنه سبحانه هو الإله الحق، والمستحق لأن يعبد ويطاع ويعظم لا إله غيره ولا رب سواه.
وإنما تختلف الشرائع كما قال سبحانه:. . . {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (1) أما دين الله فهو واحد، وهو دين الإسلام، وهو إخلاص العبادة لله وحده، وإفراده بالعبادة: من دعاء، وخوف، ورجاء، وتوكل، ورغبة ورهبة، وصلاة وصوم وغير ذلك، كما قال سبحانه وبحمده: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (2) أي: أمر ألا تعبدوا إلا إياه، وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (3) ، أخبر عباده بهذا ليقولوه وليعترفوا به. فعلمهم كيف يثنون عليه، فقال - عز من قائل -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (5) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (6) ، علمهم هذا الثناء العظيم، ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (7) وجههم إلى هذا سبحانه وتعالى، فيثنوا عليه بما هو أهله من الحمد والاعتراف بأنه رب العالمين، والمحسن إليهم، ومربيهم بالنعم، وأنه الرحمن، وأنه الرحيم، وأنه مالك يوم الدين، وهذا كله حق لربنا - عز وجل -.
ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (8) إياك نعبد وحدك، وإياك نستعين وحدك، لا رب ولا معين سواك، فجميع ما يقع من العباد هو من الله، وهو الذي سخرهم وهو الذي هيأهم لذلك، وأعانهم على ذلك، وأعطاهم القوة على ذلك، ولهذا يقول - جل وعلا -: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (9) فهو سبحانه المنعم، وهو المستعان والمعبود بالحق - جل وعلا -.
__________
(1) سورة المائدة الآية 48
(2) سورة الإسراء الآية 23
(3) سورة الفاتحة الآية 5
(4) سورة الفاتحة الآية 2
(5) سورة الفاتحة الآية 3
(6) سورة الفاتحة الآية 4
(7) سورة الفاتحة الآية 5
(8) سورة الفاتحة الآية 5
(9) سورة النحل الآية 53(39/12)
فأنت يا عبد الله إذا جاءتك نعمة على يد صغير أو كبير أو مملوك أو ملك أو غيره، فكله من نعم الله - جل وعلا -، وهو الذي ساق ذلك ويسره سبحانه، خلق من جاء بها وساقها على يديه، وحرك قلبه ليأتيك بها، وأعطاه القوة والقلب والعقل، وجعل في قلبه ما جعل حتى أوصلها إليك.
فكل النعم من الله - جل وعلا - مهما كانت الوسائل، وهو المعبود بالحق، وهو الخالق للعباد، وهو مربيهم بالنعم، وهو الحاكم بينهم في الدنيا والآخرة، وهو الموصوف بصفات الكمال المنزه عن صفات النقص والعيب، واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، واحد في أسمائه وصفاته، - جل وعلا -، وهو سبحانه له التوحيد من جميع الوجوه، له الوحدانية في خلقه العباد، وتدبيره لهم، ورزقه لهم، وتصريفه لشئونهم، لا يشاركه في ذلك أحد سبحانه وتعالى، يدبر الأمر - جل وعلا -، كما قال - جل وعلا -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (1) ، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (2) ، وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3) {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} (4) ، فهو المستحق للعبادة لكمال إنعامه، وكمال إحسانه، ولكونه الخلاق والرزاق، ولكونه مصرف الأمور ومدبرها، ولكونه الكامل في ذاته وصفاته وأسمائه، فلهذا استحق العبادة على جميع العباد واستحق الخضوع عليهم، والعبادة هي الخضوع والذل، وسمي الدين عبادة لأن العبد يؤديه بخضوع لله، وذل بين يديه، ولهذا قيل للإسلام عبادة.
__________
(1) سورة الزمر الآية 62
(2) سورة الذاريات الآية 58
(3) سورة يونس الآية 3
(4) سورة يونس الآية 4(39/13)
تقول العرب: طريق معبد، يعني مذلل، قد وطئته الأقدام، حتى صار لها أثر بين يعرف، ويقال: بعير معبد أي قد شد ورحل عليه حتى صار له أثر فصار معبدا.
والعبد هو: الذليل المنقاد لله، المعظم لحرماته، وكلما كان العبد أكمل معرفة بالله وأكمل إيمانا به، صار أكمل عبادة.
ولهذا كان الرسل أكمل الناس عبادة؛ لأنهم أكملهم معرفة وعلما بالله وتعظيما له من غيرهم، صلوات الله وسلامه عليهم، ولهذا وصف الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالعبودية في أشرف مقاماته، فقال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (1) ، وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} (2) ، وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} (3) ، إلى غير ذلك.
فالعبودية مقام عظيم وشريف، ثم زادهم الله فضلا من عنده سبحانه بالرسالة التي أرسلهم بها، فاجتمع لهم فضلان: فضل الرسالة، وفضل العبودية الخاصة، فأكمل الناس في عبادتهم لله وتقواهم له هم الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ثم يليهم الصديقون الذين كمل تصديقهم لله ولرسله، واستقاموا على أمره، وصاروا خير الناس بعد الأنبياء، وعلى رأسهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، فهو رأس الصديقين، وأكملهم صديقية، بفضله وتقواه، وسبقه إلى الخيرات، وقيامه بأمر الله خير قيام، وكونه قرين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه في الغار، ومساعده بكل ما استطاع من قوة - رضي الله عنه وأرضاه -.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 1
(2) سورة الكهف الآية 1
(3) سورة الجن الآية 19(39/14)
فالمقصود أن مقام العبودية، ومقام الرسالة هما أشرف المقامات، فإذا ذهبت الرسالة بفضلها بقي مقام الصديقية بالعبادة.
فأكمل الناس إيمانا وصلاحا وتقوى وهدى، هم الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لكمال علمهم بالله، وعبادتهم له، وذلهم لعظمته - جل وعلا -، ثم يليهم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون، كما قال - جل وعلا -: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (1) ، ولا بد مع توحيد الله من تصديق رسله، ولهذا لما بعث الله نبيه محمدا - عليه الصلاة والسلام - صار يدعو الناس أولا إلى توحيد الله وإلى الإيمان بأنه رسوله - عليه الصلاة والسلام -.
فلا بد من أمرين: توحيد الله والإخلاص، ولا بد مع ذلك من تصديق الرسل - عليهم الصلاة والسلام -.
فمن وحد الله ولم يصدق الرسل فهو كافر، ومن صدقهم ولم يوحد الله فهو كافر، فلا بد من أمرين: توحيد الله، وتصديق رسله - عليهم الصلاة والسلام -.
والاختلاف في هذا المقام هو في الشرائع، وأما توحيد الله والإخلاص له، وترك الإشراك به، وتصديق رسله، فهو أمر لا اختلاف فيه بين الأنبياء، بل لا إسلام ولا دين ولا هدى ولا نجاة إلا بتوحيد الله - عز وجل - وإفراده بالعبادة، والإيمان بما جاء به رسله - عليهم الصلاة والسلام -، جملة وتفصيلا.
فمن وحد الله - جل وعلا -، ولم يصدق نوحا في زمانه أو إبراهيم في زمانه أو هودا أو صالحا أو إسماعيل أو إسحاق أو يعقوب أو من بعدهم
__________
(1) سورة النساء الآية 69(39/15)
إلى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر بالله - عز وجل -، حتى يصدق جميع الرسل، مع توحيده لله - عز وجل -.
فالإسلام في زمن آدم هو توحيد الله مع اتباع شريعة آدم - عليه الصلاة والسلام -، والإسلام في زمن نوح هو توحيد الله مع اتباع شريعة نوح - عليه الصلاة والسلام -، والإسلام في زمن هود هو توحيد الله مع اتباع شريعة هود - عليه الصلاة والسلام -، والإسلام في زمن صالح هو توحيد الله مع اتباع شريعة صالح - عليه الصلاة والسلام -، حتى جاء نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكان الإسلام في زمانه هو توحيد الله مع الإيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - واتباع شريعته.
فاليهود والنصارى لما لم يصدقوا محمدا - عليه الصلاة والسلام - صاروا بذلك كفارا ضلالا، وإن فرضنا أن بعضهم وحد الله فإنهم ضالون كفار بإجماع المسلمين؛ لعدم إيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فلو قال شخص: إني أعبد الله وحده، وأصدق محمدا في كل شيء إلا في تحريم الزنا، بأن جعله مباحا؛ فإنه يكون بهذا كافرا حلال الدم والمال بإجماع المسلمين، وهكذا لو قال: إنه يوحد الله ويعبده وحده دون كل من سواه، ويصدق الرسل جميعا، وعلى رأسهم محمد إلا في تحريم اللواط، وهو إتيان الذكور؛ صار كافرا حلال الدم والمال بإجماع المسلمين، بعد إقامة الحجة عليه إذا كان مثله يجهل ذلك، ولم ينفعه توحيده ولا إيمانه؛ لأنه كذب الرسول، وكذب الله في بعض الشيء.
وهكذا لو وحد الله، وصدق الرسل، ولكن استهزأ بالرسول في شيء، أو استنقصه في شيء، أو بعض الرسل، صار كافرا بذلك، كما قال - جل وعلا -:. . . {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) ، ثم إن ضد هذا التوحيد هو
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66(39/16)
الشرك بالله - عز وجل -، فإن كل شيء له ضد، والضد يبين بالضد، قال بعض الشعراء:
والضد يظهر حسنه الضد ... وبضدها تتميز الأشياء
فالشرك بالله - عز وجل - هو ضد التوحيد الذي بعث الله به الرسل - عليهم الصلاة والسلام -، فالمشرك مشرك؛ لأنه أشرك مع الله غيره فيما يتعلق بالعبادة لله وحده، أو فيما يتعلق بملكه وتدبيره العباد، أو بعدم تصديقه فيما أخبر أو فيما شرع، فصار بذلك مشركا بالله، وفيما وقع منه من الشرك.
وتوحيد الله - عز وجل - الذي هو معنى لا إله إلا الله، يعني أنه لا معبود بحق إلا الله، فهي تنفي العبادة من غير الله بالحق، وتثبتها لله وحده، كما قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} (1) ، وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (2) ، وقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) ، وقال سبحانه: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (4) ، فتوحيد الله هو إفراده بالعبادة عن إيمان، وعن صدق، وعن عمل، لا مجرد كلام، ومع اعتقاده بأن عبادة غيره باطلة، وأن عباد غيره مشركون، ومع البراءة منهم، كما قال - عز وجل -: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (5) ، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} (6) {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} (7)
__________
(1) سورة لقمان الآية 30
(2) سورة محمد الآية 19
(3) سورة آل عمران الآية 18
(4) سورة النحل الآية 51
(5) سورة الممتحنة الآية 4
(6) سورة الزخرف الآية 26
(7) سورة الزخرف الآية 27(39/17)
فتبرأ من عباد غير الله ومما يعبدون.
فالمقصود أنه لا بد من توحيد الله بإفراده بالعبادة، والبراءة من عبادة غيره، وعابدي غيره، ولا بد من اعتقاد بطلان الشرك، وأن الواجب على جميع العباد من جن وإنس، أن يخصوا الله بالعبادة، ويؤدوا حق هذا التوحيد بتحكيم شريعة الله، فإن الله سبحانه وتعالى هو الحاكم، ومن توحيده الإيمان والتصديق بذلك، فهو الحاكم في الدنيا بشريعته، وفي الآخرة بنفسه سبحانه وتعالى كما قال - جل وعلا -:. . . {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (1) ، وقال تعالى:. . . {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (2) ، وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (3) وصرف بعض العبادة للأولياء أو الأنبياء أو الشمس والقمر، أو الجن أو الملائكة، أو الأصنام أو الأشجار، أو غير ذلك؛ كل هذا ناقض لتوحيد الله، ومبطل له.
وإذا علم أن الله سبحانه بعث نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء قبله إلى أمم يعبدون غير الله، منهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد الأصنام المنحوتة، ومنهم من يعبد الكواكب إلى غير ذلك، فقد دعوهم كلهم إلى توحيد الله، والإيمان به سبحانه، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، وأن يبرءوا مما يخالفها، وأن يبرءوا من عابدي غير الله، ومن معبوداتهم، وأن من صرف بعض العبادة لغيره فما وحده، كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (4) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 57
(2) سورة غافر الآية 12
(3) سورة الشورى الآية 10
(4) سورة النحل الآية 36(39/18)
وبهذا تعلم أن ما يصنع حول القبور المعبودة من دون الله، مثل: قبر البدوي، والحسين بمصر وأشباه ذلك، وما يقع من بعض الجهال من الحجاج وغيرهم، عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من طلب المدد والنصر على الأعداء، والاستغاثة به، والشكوى إليه ونحو ذلك، أن هذه عبادة لغير الله - عز وجل -، وأن هذا شرك الجاهلية الأولى، وهكذا ما قد يقع من بعض الصوفية من اعتقادهم أن بعض الأولياء يتصرف في الكون ويدبر هذا العالم والعياذ بالله شرك أكبر في الربوبية.
وهكذا ما يقع من اعتقاد بعض الناس، أن بعض المخلوقات له صلة بالرب - عز وجل -، وأن يستغني بذلك عن متابعة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - أو أنه يعلم الغيب، أو أنه يتصرف في الكائنات، وما أشبه ذلك، فإنه كفر بالله أكبر، وشرك ظاهر، يخرج صاحبه من الملة الإسلامية إن كان ينتسب إليها.
فلا توحيد، ولا إسلام، ولا إيمان، ولا نجاة إلا بإفراد الله بالعبادة، والإيمان بأنه مالك الملك، ومدبر الأمور، وأنه كامل في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله، لا شريك له، ولا شبيه له، ولا يقاس بخلقه - عز وجل -، فله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، وهو مدبر الملك - جل وعلا - لا شريك له، ولا معقب لحكمه.
هذا هو توحيد الله، وهذا هو إفراده بالعبادة، وهذا هو دين الرسل كلهم، وهذا معنى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) يعني إياك نوحد ونطيع ونرجوك ونخافك، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: نعبدك وحدك، ونرجوك ونخافك.
وإياك نستعين على طاعتك، وفي جميع أمورنا. فالعبادة هي توحيد الله - عز وجل - والإخلاص له في طاعة أوامره، وترك نواهيه سبحانه
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5(39/19)
وتعالى، مع الإيمان الكامل بأنه مستحق للعبادة، وأنه رب العالمين المدبر لعباده، والمالك لكل شيء، والخالق لكل شيء، وأنه الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ولا نقص فيه، ولا عيب فيه، ولا مشارك له في شيء من ذلك، سبحانه وتعالى، بل له الكمال المطلق في كل شيء - جل وعلا -.
ومن هذا نعلم أنه لا بد من تصديق الرسل جميعا فيما جاءوا به، وعلى رأسهم نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام -، وأنه متى أخلص العبد العبادة لله وحده، وصدق رسله - عليهم الصلاة والسلام -، ولا سيما محمد - صلى الله عليه وسلم -، وانقاد لشرعه واستقام عليه إلا في واحد أو أكثر من نواقض الإسلام فإنه تبطل عبادته، ولا ينفعه ما معه من أعمال الإسلام.
فلو أنه صدق محمدا في كل شيء، وانقاد لشريعته في كل شيء لكن قال مع ذلك: مسيلمة رسول مع محمد - أعني مسيلمة الكذاب الذي خرج في اليمامة وقاتله الصحابة في عهد الصديق - رضي الله عنه - بطلت هذه العقيدة، وبطلت أعماله ولم ينفعه صيام النهار، ولا قيام الليل، ولا غير ذلك من عمله؛ لأنه أتى بناقض من نواقض الإسلام، وهو تصديقه لمسيلمة الكذاب؛ لأن ذلك يتضمن تكذيب الله سبحانه في قوله - عز وجل -: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) ، كما تضمن تكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله - صلى الله عليه وسلم - في الأحاديث المتواترة عنه - عليه الصلاة والسلام - بأنه خاتم الأنبياء ولا نبي بعده.
وهكذا من صام النهار، وقام الليل، وتعبد وأفرد الله بالعبادة، واتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم بعد ذلك في أي وقت من الأوقات صرف بعض العبادة لغير الله، كأن يجعل بعض العبادة للنبي أو للولي الفلاني، أو
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40(39/20)
للصنم الفلاني، أو للشمس، أو للقمر، أو للكوكب الفلاني، أو نحو ذلك، يدعوه ويطلب منه النصر، ويستمد العون منه، بطلت أعماله التي سبقت كلها، حتى يعود إلى التوبة إلى الله - عز وجل - كما قال تعالى:. . . {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) ، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) ، وهكذا لو آمن بالله في كل شيء، وصدق الله في كل شيء، إلا في الزنا، فقال: الزنا مباح، أو اللواط مباح، أو الخمر مباحة، صار بهذا كافرا، ولو فعل كل شيء آخر من دين الله، فاستحلاله لما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة، صار باستحلاله هذا كافرا بالله، مرتدا عن الإسلام، ولم تنفعه أعماله ولا توحيده لله عند جميع المسلمين.
وهكذا لو قال: إن نوحا، أو هودا، أو صالحا، أو إبراهيم وإسماعيل أو غيرهم ليس بنبي، صار كافرا بالله، وأعماله كلها باطلة؛ لكونه بذلك قد كذب الله سبحانه فيما أخبر به عنهم.
وهكذا لو حرم ما أحله الله - مع التوحيد والإخلاص والإيمان بالرسل - فقال مثلا: أنا ما أحل الإبل، أو البقر، أو الغنم؛ أو غيرها مما أحله الله حلا مجمعا عليه، وقال: إنها حرام، يكون بهذا كافرا مرتدا عن الإسلام بعد إقامة الحجة عليه، إذا كان مثله قد يجهل ذلك. وصادف جنس من أحل ما حرم الله.
أو قال: ما أحل الحنطة أو الشعير بل هما حرام، وما أشبه ذلك، صار كافرا، أو قال: إنه يستبيح البنت، أو الأخت، صار بهذا كافرا بالله، مرتدا عن الإسلام، ولو صلى وصام وفعل باقي الطاعات؛ لأن
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة الزمر الآية 65(39/21)
واحدة من هذه الخصال تبطل دينه، كما قال تعالى:. . . {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) .
ونحن في زمان غلب في الجهل، وقل فيه العلم، وأقبل الناس - إلا من شاء الله - على علوم أخرى، وعلى مسائل أخرى تتعلق بالدنيا، فقل علمهم بالله وبدينه، لأنهم شغلوا بما يصدهم عن ذلك، وصارت أغلب الدروس في أشياء تتعلق بالدنيا، أما التفقه في دين الله، والتدبر لشريعته سبحانه، وتوحيده، فقد أعرض عنه الأكثرون، وأصبح من يشتغل به اليوم هو أقل القليل.
فينبغي لك يا عبد الله الانتباه لهذا الأمر، والإقبال على كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - دراسة وتدبرا وتعقلا، حتى تعرف توحيد الله والإيمان به، وحتى تعرف ما هو الشرك بالله - عز وجل -، وحتى تكون بصيرا بدينك، وحتى تعرف ما هو سبب دخول الجنة، والنجاة من النار، مع العناية بحضور حلقات العلم، والمذاكرة مع أهل العلم والدين، حتى تستفيد وتفيد، وحتى تكون على بينة وعلى بصيرة في أمرك.
والشرك شركان: أكبر وأصغر.
فالشرك الأكبر ينافي توحيد الله، وينافي الإسلام، ويحبط الأعمال، والمشركون في النار، وكل عمل أو قول دلت الأدلة على أنه كفر بالله كالاستغاثة بالأموات أو الأصنام، أو اعتقاد حل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله الله، أو تكذيب بعض رسله، فهذه الأشياء تحبط الأعمال، وتوجب الردة عن الإسلام، كما سبق بيان ذلك. قال تعالى في أول سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (2)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة النساء الآية 48(39/22)
فهنا قد بين الله أن الشرك لا يغفر، ثم علق ما دونه على المشيئة، فأمره إلى الله سبحانه وتعالى، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه على قدر المعاصي التي مات عليها غير تائب، ثم بعد أن يطهر بالنار يخرجه الله منها إلى الجنة، بإجماع أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة، ومن سار على نهجهم.
أما في آية الزمر فعمم وأطلق فقال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) ، قال العلماء: هذه الآية في التائبين، أما آية النساء فهي في غير التائبين، ممن مات على الشرك مصرا على بعض المعاصي، وهو قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) .
أما من مات على ما دون الشرك كالزنا والمعاصي الأخرى، وهو يؤمن أنها محرمة، ولم يستحلها، ولكنه انتقل إلى الآخرة ولم يتب منها، فهذا تحت مشيئة الله عند أهل السنة والجماعة، إن شاء الله غفر له وأدخله الجنة لتوحيده وإسلامه، وإن شاء سبحانه عذبه على قدر المعاصي التي مات عليها بالنار من الزنا وشرب الخمر، أو عقوقه لوالديه، أو قطيعة أرحامه، أو غير ذلك من الكبائر كما سبق إيضاح ذلك.
وذهب الخوارج إلى أن صاحب المعصية مخلد في النار وهو بالمعاصي كافر أيضا، ووافقهم المعتزلة بتخليده في النار، ولكن أهل السنة والجماعة خالفوهم في ذلك، ورأوا أن الزاني، والسارق، والعاق لوالديه وغيرهم من أهل الكبائر لا يكفرون بذلك، ولا يخلدون في النار إذا لم
__________
(1) سورة الزمر الآية 53
(2) سورة النساء الآية 48(39/23)
يستحلوا هذه المعاصي، بل هم تحت مشيئة الله كما تقدم، فهذه أمور عظيمة ينبغي أن نعرفها جيدا، وأن نفهمها كثيرا؛ لأنها من أصول العقيدة.
وأن يعرف المسلم حقيقة دينه، وضده من الشرك بالله تعالى، ويعلم أن باب التوبة من الشرك والمعاصي مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها.
ولكن المصيبة العظيمة، وهي الغفلة عن دين الله، وعدم التفقه فيه، فربما وقع العبد في الشرك والكفر بالله وهو لا يبالي، لغلبة الجهل، وقلة العلم بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق، فانتبه لنفسك أيها العاقل، وعظم حرمات ربك، وأخلص لله العمل، وسارع إلى الخيرات، واعرف دينك بأدلته، وتفقه في القرآن والسنة بالإقبال على كتاب الله، وبحضور حلقات العلم وصحبة الأخيار، حتى تعرف دينك على بصيرة، وأكثر من سؤال ربك الثبات على الهدى والحق، ثم إذا وقعت في معصية فبادر بالتوبة، فكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون - كما جاء في الحديث الصحيح - لأن المعصية نقص في الدين، وضعف في الإيمان.
فالبدار البدار إلى التوبة، والإقلاع والندم، والله يتوب على من تاب، وهو القائل سبحانه:. . . {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، وقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (2) ، فالتوبة لا بد منها، وهي لازمة للعبد دائما، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: «التوبة تهدم ما كان قبلها» ، فاستقم عليها، فكلما وقعت منك زلة فبادر بالتوبة والإصلاح، وكن متفقها في
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة التحريم الآية 8(39/24)
دينك، ولا تشغل بحظك في الدنيا عن حظك من الآخرة، بل اجعل للدنيا وقتا، وللتعلم، وللتفقه في الدين، والتبصر، والمطالعة والمذاكرة، والعناية بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحضور حلقات العلم، ومصاحبة الأخيار غالب وقتك، فهذه الأمور هي أهم شأنك، وسبب سعادتك.
وهناك نوع آخر وهو الشرك الأصغر مثل الرياء، والسمعة في بعض العمل أو القول، ومثل أن يقول الإنسان: ما شاء الله وشاء فلان، والحلف بغير الله، كالحلف بالأمانة، والكعبة، والنبي وأشباه ذلك، فهذه وأشباهها من الشرك الأصغر، فلا بد من الحذر من ذلك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لما قال له رجل ما شاء الله وشئت: أجعلتني لله ندا؟ . ما شاء الله وحده (1) » ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان (2) » . وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (3) » ، وقال: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون (4) » ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من حلف بغير الله فقد أشرك (5) » إلى غير هذا من الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا المعنى، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال: "الرياء (6) » ، وقد يكون الرياء كفرا أكبر إذا دخل صاحبه في الدين رياء ونفاقا، وأظهر الإسلام لا عن إيمان ولا عن محبة، فإنه يصير بهذا منافقا كافرا كفرا أكبر، وكذلك إذا حلف بغير الله، وعظم المحلوف به مثل تعظيم الله، أو اعتقد أنه يعلم الغيب، أو يصلح أن يعبد مع الله سبحانه، صار بذلك مشركا شركا أكبر.
أما إذا جرى على اللسان الحلف بغير الله كالكعبة، والنبي وغيرهما، بدون هذا الاعتقاد، فإنه يكون شركا أصغر فقط.
__________
(1) سنن ابن ماجه الكفارات (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (1/347) .
(2) سنن أبو داود الأدب (4980) ، مسند أحمد بن حنبل (5/399) .
(3) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(4) سنن النسائي الأيمان والنذور (3769) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3248) .
(5) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2101) ، مسند أحمد بن حنبل (2/87) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(6) مسند أحمد بن حنبل (5/428) .(39/25)
وأسأل الله - عز وجل - أن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه، والثبات عليه، وأن يرزقنا وإياكم الاستقامة عليه، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن مضلات الفتن إنه تعالى جواد كريم. .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(39/26)
الفوائد الربوية
أعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. . وبعد: -
بناء على ما تقرر في الدورة الخامسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء من الموافقة على بحث الفوائد الربوية، وأن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء تعد ما تيسر من كلام أهل العلم في ذلك، وأنه يعرض في دورة قادمة، فقد جمعت اللجنة جملة من النقول في حكم الفوائد الربوية بين المسلمين، وبين المسلم والحربي. وهذه النقول نقول عن بعض المفسرين على قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1) وهم: ابن جرير والقرطبي وابن كثير، ثم كلام بعض شراح الحديث على حديث: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا (2) » ، ثم نقول عن بعض الفقهاء في مصرف الأموال المحرمة، والتي جهل أربابها، ثم حكم الفوائد الربوية بين المسلم والحربي، وفيما يلي ذكر ذلك:
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .(39/27)
أولا: من أقوال بعض المفسرين على قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1) الآية:
1 - قال ابن جرير في تفسيره: يعني جل ثناؤه بذلك: إن تبتم فتركتم أكل الربا وأنبتم إلى الله - عز وجل - فلكم رءوس أموالكم من الديون التي لكم على الناس دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربا منكم، كما حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (2) المال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رءوس
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 279(39/27)
أموالهم حين نزلت هذه الآية، فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا. حدثني المثنى قال: حدثنا عمرو بن عون قال: حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: وضع الله الربا وجعل لهم رءوس أموالهم.
حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1) قال: ما كان لهم من دين فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم ولا يزدادوا عليه شيئا.
حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (2) الذي أسلفتم وسقط الربا.
حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة يوم الفتح: «ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله، وأول ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب (3) » .
حدثنا المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته: «إن كل ربا موضوع، وأول ربا يوضع ربا العباس (4) » .
القول في تأويل قوله: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (5) يعني بقوله: لا تظلمون بأخذ رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غرمائكم منهم دون أرباحهم التي زدتموها ربا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذه أو لم يكن لكم قبل، ولا تظلمون يقول: ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الربا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل يبخسكم حقا لكم عليه فيمنعكموه؛ لأن ما زاد على رءوس أموالكم لم يكن حقا لكم عليه، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم، وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول وغيره من أهل التأويل.
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) مسند أحمد بن حنبل (5/73) ، سنن الدارمي البيوع (2534) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (5/73) ، سنن الدارمي البيوع (2534) .
(5) سورة البقرة الآية 279(39/28)
ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} (1) فتربون ولا تظلمون فتنقصون.
وحدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) قال: لا تنقصون من أموالكم ولا تأخذون باطلا لا يحل لكم (3) .
2 - وقال القرطبي في تفسيره: روى أبو داود، عن سليمان بن عمرو، عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في حجة الوداع: «ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (4) » وذكر الحديث، فردهم تعالى مع التوبة إلى رءوس أموالهم، وقال لهم: لا تظلمون في أخذ الربا، ولا تظلمون في أن يتمسك بشيء من رءوس أموالكم فتذهب أموالكم.
ويحتمل أن يكون لا تظلمون في مطل؛ لأن مطل الغني ظلم، فالمعنى أنه يكون القضاء مع وضع الربا، وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه شيء بالصلح، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أشار إلى كعب بن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر فقال كعب: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للآخر: "قم فاقضه". فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات.
وقال القرطبي أيضا في تفسير هذه الآية: تأكيد لإبطال ما لم يقبض منه، وأخذ رأس المال الذي لا ربا فيه، فاستدل بعض العلماء بذلك على أن كل ما طرأ على البيع قبل القبض مما يوجب تحريم العقد أبطل العقد كما إذا اشترى مسلم صيدا ثم أحرم المشتري أو البائع قبل القبض بطل البيع؛ لأنه طرأ عليه ما أوجب تحريمه قبل القبض، ولو كان مقبوضا لم يؤثر. هذا
__________
(1) سورة البقرة الآية 279
(2) سورة البقرة الآية 279
(3) تفسير الطبري جـ3 ص72، المتوفى سنة 310هـ.
(4) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن أبو داود البيوع (3334) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .(39/29)
مذهب أبي حنيفة، وهو قول لأصحاب الشافعي، ويستدل به على أن هلاك المبيع قبل القبض في يد البائع وسقوط القبض فيه يوجب بطلان العقد، خلافا لبعض السلف، ويروى هذا الخلاف عن أحمد، وهذا إنما يتمشى على قول من يقول: أن العقد في الربا كان في الأصل منعقدا، وإنما بطل بالإسلام الطارئ قبل القبض. وأما من منع انعقاد الربا في الأصل لم يكن هذا الكلام صحيحا، وذلك أن الربا كان محرما في الأديان، والذي فعلوه في الجاهلية كان عادة المشركين، وأن ما قبضوه منه كأنه بمثابة أموال وصلت إليهم بالغصب والسلب، فلا يتعرض له، فعلى هذا لا يصح الاستشهاد على ما ذكروه من المسائل، واشتمال شرائع الأنبياء قبلنا على تحريم الربا مشهور مذكور في كتاب الله تعالى، كما حكى عن اليهود في قوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} (1) ، وذكر في قصة شعيب أن قومه أنكروا عليه وقالوا: {يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشيدُ} (2) ، فعلى هذا لا يستقيم الاستدلال به، نعم يفهم من هذا أن العقود الواقعة في دار الحرب إذا ظهر عليها الإمام لا يعترض عليها بالفسخ إن كانت معقودة على فساد " (3) .
3 - وقال ابن كثير في تفسيره: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} (4) أي بأخذ الزيادة، ولا تظلمون أي بوضع رءوس الأموال أيضا، بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن إشكاب، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن شبيب بن غرقدة المبارقي، عن سليمان
__________
(1) سورة النساء الآية 161
(2) سورة هود الآية 87
(3) تفسير القرطبي جـ 3 ص365، 366، المتوفى سنة 671هـ.
(4) سورة البقرة الآية 279(39/30)
بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فقال: «ألا إن كل ربا في الجاهلية موضوع عنكم كله، لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب (1) » موضوع كله كذا وجده سليمان بن الأحوص، وقد قال ابن مردويه: حدثنا الشافعي، حدثنا معاذ بن المثنى، أخبرنا أبو الأحوص، حدثنا شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو، عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ألا كل ربا من ربا الجاهلية موضوع فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (2) » ، وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حمزة الرقاشي عن عمرو هو ابن خارجة فذكره (3) .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/73) ، سنن الدارمي البيوع (2534) .
(2) سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .
(3) تفسير ابن كثير جـ1 ص331 المتوفى سنة 774هـ.(39/31)
ثانيا: من أقوال بعض شراح الحديث العاشر:
عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: الآية. وقال تعالى: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، مطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟ (3) » رواه مسلم.
ومما جاء في شرح هذا الحديث:
وأما الصدقة بالمال الحرام فغير مقبولة كما في صحيح مسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول (4) » . وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما تصدق عبد بصدقة من مال طيب ولا يقبل الله إلا
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .
(2) سورة المؤمنون الآية 51 (1) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}
(3) سورة البقرة الآية 172 (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
(4) صحيح مسلم الطهارة (224) ، سنن الترمذي الطهارة (1) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (272) ، مسند أحمد بن حنبل (2/73) .(39/31)
الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه (1) » وذكر الحديث. وفي مسند الإمام أحمد - رحمه الله - عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يكتسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك فيه، ولا يتصدق به فيتقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث (2) » ويروى من حديث دراج عن ابن حجيرة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كسب مالا حراما فتصدق به لم يكن له فيه أجر وكان إصره عليه» خرجه ابن حبان في صحيحه، ورواه بعضهم موقوفا على أبي هريرة.
وفي مراسيل القاسم بن مخيمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أصاب مالا من مأثم فوصل به رحمه وتصدق به أو أنفقه في سبيل الله جمع ذلك جميعا ثم قذف به في نار جهنم» .
وروي عن أبي الدرداء ويزيد بن ميسرة أنهما جعلا مثل من أصاب مالا من غير حله فتصدق به، مثل من أخذ مال يتيم وكسا به أرملة. وسئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عمن كان على عمل فكان يظلم ويأخذ الحرام ثم تاب، فهو يحج ويعتق ويتصدق منه؟ فقال: إن الخبيث لا يكفر الخبيث. وكذا قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: إن الخبيث لا يكفر الخبيث، ولكن الطيب يكفر الخبيث. وقال الحسن: أيها المتصدق على المسكين ترحمه ارحم من قد ظلمت.
واعلم أن الصدقة بالمال الحرام تقع على وجهين:
أحدهما: أن يتصدق به الخائن أو الغاصب ونحوهما على نفسه، فهذا هو المراد من هذه الأحاديث أنه لا يتقبل منه، يعني أنه لا يؤجر عليه بل يأثم بتصرفه في مال غيره بغير إذنه، ولا يحصل للمالك بذلك أجر لعدم قصده ونيته. كذا قاله جماعة من العلماء، منهم ابن عقيل من أصحابنا.
وفي كتاب عبد الرزاق من رواية زيد بن الأخنس الخزاعي أنه سأل سعيد بن المسيب
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1410) ، صحيح مسلم الزكاة (1014) ، سنن الترمذي الزكاة (661) ، سنن النسائي الزكاة (2525) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1842) ، مسند أحمد بن حنبل (2/538) ، موطأ مالك الجامع (1874) ، سنن الدارمي الزكاة (1675) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/387) .(39/32)
قال: وجدت لقطة أفأتصدق بها؟ قال: لا يؤجر أنت ولا صاحبها. ولعل مراده إذا تصدق بها قبل تعريفها الواجب، ولو أخذ السلطان أو بعض نوابه من بيت المال ما لا يستحقه فتصدق منه أو أعتق أو بنى به مسجدا أو غيره مما ينتفع به الناس، فالمنقول عن ابن عمر أنه كالغاصب إذا تصدق بما غصبه. كذلك قيل لعبد الله بن عامر أمير البصرة، وكان الناس قد اجتمعوا عنده في حال موته وهم يثنون عليه ببره وإحسانه وابن عمر ساكت، فطلب منه أن يتكلم، فروى له حديثا: «لا يقبل الله صدقة من غلول (1) » ، ثم قال له: وكنت على البصرة.
وقال أسد بن موسى في كتاب الورع: حديث الفضيل بن عياض، عن منصور، عن تميم بن مسلمة قال: قال ابن عامر لعبد الله بن عمر: أرأيت هذا العقاب التي نسهلها والعيون التي نفجرها ألنا فيها أجر؟ فقال ابن عمر: أما علمت أن خبيثا لا يكفر خبيثا قط؟
حدثنا عبد الرحمن بن زياد، عن أبي مليح، عن ميمون بن مهران قال: قال ابن عمر لابن عامر وقد سأله عن العتق، فقال: مثلك مثل رجل سرق إبل حاج ثم جاهد بها في سبيل الله، فانظر هل يقبل منه؟
وقد كان طائفة من أهل التشديد في الورع كطاوس ووهيب بن الورد يتوقون الانتفاع بما أحدثه مثل هؤلاء الملوك. وأما الإمام أحمد - رحمه الله - فإنه رخص فيما فعلوه من المنافع العامة كالمساجد والقناطر والمصانع، فإن هذه ينفق عليها من مال الفيء، اللهم إلا أن يتيقن أنهم فعلوا أشياء من ذلك بمال حرام كالمكوس والغصوب ونحوهما، فحينئذ يتوقى الانتفاع بما عمل بالمال الحرام. ولعل ابن عمر - رضي الله عنهما - إنما أنكر عليهم أخذهم لأموال بيت المال لأنفسهم، ودعواهم أن ما فعلوه منها بعد ذلك فهو صدقة منهم، فإن هذا شبيه بالمغصوب. وعلى مثل هذا يحمل إنكار من أنكر من العلماء على الملوك بنيان المساجد.
قال
__________
(1) صحيح مسلم الطهارة (224) ، سنن الترمذي الطهارة (1) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (272) ، مسند أحمد بن حنبل (2/73) .(39/33)
أبو الفرج بن الجوزي - رحمه الله -: رأيت بعض المتقدمين يسأل عمن كسب حلالا أو حراما من السلاطين والأمراء ثم بنى الأربطة والمساجد هل له ثواب؟ فأفتى بما يوجب طيب قلب المنفق وأن له في إنفاق ما لا يملكه نوع سمسرة؛ لأنه لا يعرف أعيان المغصوبين فيرد عليهم، قال: فقلت: واعجبا من متصدرين للفتوى لا يعرفون أصول الشريعة، ينبغي أن ينظر في حال هذا المنفق أولا، فإن كان سلطانا فما يخرج من بيت المال فقد عرفت وجوه مصارفه، فكيف يمنع مستحقيه ويشغله بما لا يفيد من بناء مدرسة أو رباط؟ وإن كان من الأمراء أو نواب السلاطين فيجب أن يرد ما يجب رده إلى بيت المال، وإن كان حراما أو غصبا فكل شيء يصرف فيه حرام، والواجب رده على من أخذ منه أو ورثته، فإن لم يعرف رده إلى بيت المال يصرف في المصالح وفي الصدقة ولم يحظ آخذه بغير الإثم. انتهى.
وإنما كلامه في السلاطين الذين عهدهم في وقته؛ الذين يمنعون المستحقين من الفيء حقوقهم ويتصرفون فيه لأنفسهم تصرف الملاك ببناء يبنونه إليهم من المدارس والأربطة ونحوهما مما قد لا يحتاج إليه، ويخص به قوما دون قوم، فأما لو فرض إمام عادل يعطي الناس حقوقهم من الفيء ثم يبني لهم ما يحتاجون إليه من مسجد أو مدرسة أو مارستان ونحو ذلك كان ذلك جائزا، فلو كان بعض من يأخذ المال لنفسه من بيت المال بنى بما أخذ منه بناء محتاجا إليه في حال، فيجوز البناء فيه من بيت المال لكنه ينسبه إلى نفسه، فقد يتخرج على الخلاف في الغاصب إذا رد المال إلى المغصوب منه على وجه الصدقة والهبة هل يبرأ بذلك أم لا؟ وهذا كله إذا بنى على قدر الحاجة من غير سرف ولا زخرفة. وقد أمر عمر بن عبد العزيز بترميم مسجد البصرة من بيت المال، ونهاهم أن يتجاوزوا ما تصدع منه وقال: إني لم أجد للبنيان في مال الله حقا. وروي عنه أنه(39/34)
قال: لا حاجة للمسلمين فيما أضر بيت مالهم.
واعلم أن من العلماء من جعل تصرف الغاصب ونحوه في مال غيره موقوفا على إجازة مالكه، فإن أجاز تصرفه فيه جاز، وقد حكى بعض أصحابنا رواية عن أحمد أنه من أخرج زكاته من مال مغصوب ثم أجازه المالك جاز وسقطت عنه الزكاة. وكذلك خرج ابن أبي الدنيا رواية عن أحمد أنه إذا أعتق عبد غيره عن نفسه ملتزما ضمانه في ماله ثم أجازه المالك جاز ونفذ عتقه، وهو خلاف نص أحمد. وحكى عن الحنفية أنه لو غصب شاة فذبحها لمتعته وقرانه ثم أجازها المالك أجزأت عنه.
الوجه الثاني من تصرفات الغاصب في المال المغصوب: أن يتصدق به على صاحبه إذا عجز عن رده إليه وإلى ورثته، فهذا جائز عند أكثر العلماء: منهم مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم. قال ابن عبد البر: ذهب الزهري ومالك والثوري والأوزاعي والليث إلى أن الغال إذا تفرق أهل العسكر ولم يصل إليهم أنه يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي، روي ذلك عن عبادة بن الصامت ومعاوية والحسن البصري، وهو يشبه مذهب ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - أنهما كانا يريان أن يتصدق بالمال الذي لا يعرف صاحبه، وقال: قد أجمعوا في اللقطة على جواز الصدقة بها بعد التعريف وانقطاع صاحبها، وجعلوه إذا جاء مخيرا بين الأجر والضمان، وكذلك المغصوب. انتهى.
وروي عن مالك بن دينار قال: سألت عطاء بن أبي رباح عمن عنده مال حرام ولا يعرف أربابه ويريد الخروج منه؟ قال: يتصدق به ولا أقول أن ذلك يجزي عنه. قال مالك: كان هذا القول من عطاء أحب إلي من زنة ذهب.
وقال سفيان فيمن اشترى من قوم شيئا مغصوبا: يرده إليهم، فإن لم يقدر عليهم يتصدق به كله ولا يأخذ رأس ماله. وكذا قال فيمن باع شيئا ممن(39/35)