النجاسة إذا أصابت الأرض، وذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة، هل تطهر الأرض على قولين:
أحدهما: تطهر، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل؛ فإنه قد ثبت عن ابن عمر أنه قال: كانت الكلاب تقبل وتدبر، وتبول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك، وفي السنن أنه قال: «إذا أتى أحدكم المسجد لينظر في نعليه فإن كان بهما أذى فليدلكهما بالتراب فإن التراب لهما طهور (1) » ، وكان الصحابة كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره يخوضون في الوحل، ثم يدخلون فيصلون بالناس ولا يغسلون أقدامهم.
وأوكد من هذا قوله صلى الله عليه وسلم في ذيول النساء إذا أصابت أرضا طاهرة، بعد أرض خبيثة، «فتلك بتلك» وقال: «يطهره ما بعده (2) » وهذا هو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد نص عليه أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي التي شرحها كريم (3) بن يعقوب الجوزجاني وهي من أجل المسائل، وهذا لأن الذيول تتكرر ملاقاتها للنجاسة، فصارت كأسفل الخف وكمحل الاستنجاء.
فإذا كان الشارع قد جعل الجامدات تزيل النجاسة عن غيرها لأجل الحاجة، كما في الاستنجاء بالأحجار، وجعل الجامد طهورا علم أن ذلك وصف لا يختص بالماء (4) . وإذا كانت الجامدات لا تنجس بما استحال إليها من النجاسة، فالمائعات أولى وأحرى؛ لأن إحالتها أشد وأسرع.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (650) ، مسند أحمد بن حنبل (3/20) ، سنن الدارمي الصلاة (1378) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (143) ، سنن أبو داود الطهارة (383) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (531) ، مسند أحمد بن حنبل (6/290) ، موطأ مالك الطهارة (47) ، سنن الدارمي الطهارة (742) .
(3) في نسخة إبراهيم.
(4) المجموع 21 \ 503 وما بعدها.(35/54)
(ب) الاستحالة برمي تراب ونحوه فيها:
اختلف أهل العلم في ذلك؛ فمنهم من قال بعدم الطهارة، ومنهم من قال بالطهارة، وفيما يلي ذكر القولين مع الأدلة والمناقشة:
أما القائلون بأنه لا يطهر؛ فبعض الشافعية وبعض الحنابلة ومن وافقهم من أهل العلم، قال الشيرازي: وإن طرح فيه تراب أو جص فزال التغير ففيه قولان، وقال النووي في شرح المهذب: وصحح الأكثرون أنه لا يطهر، وهو(35/54)
المختار، وقيد النووي صورة المسألة بأن يكون بكدر، ولا تغير له، أما إذا صفا فلا يبقى خلاف، بل إن كان التغير موجودا فنجس قطعا، وإلا فطاهر قطعا، صرح به المتولى وغيره ولا فرق بين أن يكون التغير بالطعم أو اللون أو الرائحة ففي الجميع قولان (1) .
وقال ابن قدامة: وإن كوثر بماء يسير، أو بغير الماء فأزال التغير لم يطهر.
قال في المبدع تعليقا على ذلك: أي طهور أو بغير الماء كالتراب والخل ونحوهما لا مسك فأزال التغير لم يطهر على المذهب (2) .
وقال المرداوي: اعلم أن الماء النجس تارة يكون كثيرا، وتارة يكون يسيرا؛ فإن كان كثيرا وكوثر بماء يسير، أو بغير الماء لم يطهر على الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب انتهى المقصود (3) .
واستدل لهذا بأنه كما أنه لا يطهر إذا طرح فيه كافور أو مسك فزالت رائحة النجاسة فلا يطهر هنا، ونوقش بأنه قياس مع الفارق؛ لأن الكافور يجوز أن تكون الرائحة باقية فيه دائما، لم تظهر لغلبة رائحة الكافور والمسك، ذكر ذلك الشيرازي في المهذب.
واستدل أيضا بأنه وقع الشك في زوال التغير، وإذا وقع الشك في سبب الإباحة لم تثبت الإباحة، كما لو رأى شاة مذبوحة في موضع فيه مسلمون ومجوس، وشك هل ذبحها المجوسي أو المسلم لا تباح، ذكر ذلك النووي في شرح المهذب، وبأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه؛ فعن غيره من باب أولى، ذكره في المبدع.
وبأنه يستر النجاسة قاله ابن عقيل، نقله عنه صاحب المبدع.
القول الثاني: أنه طاهر، وهذا قول المالكية إذا لم تظهر فيه أوصاف الملقى، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد.
__________
(1) المهذب وشرحه 1 \ 185.
(2) الإنصاف 1 \ 66.
(3) المبدع 1 \ 63 وما بعدها.(35/55)
جاء في مواهب الجليل: وأما إذا زال التغير بإلقاء تراب فيه أو طين فقال في الطراز: إن لم يظهر فيه لون الطين ولا ريحه ولا طعمه وجب أن يطهر انتهى (1) .
وقال الشيرازي: وقال - أي: الشافعي - في حرملة يطهر، وهو الأرجح (2) ، وعلق النووي على ذلك فقال: اختلف المصنفون في الأصح من القولين فصحح المصنف هنا، وفي التنبيه وشيخه القاضي أبو الطيب وأبو العباس الجرجاني والشاشي وغيرهم الطهارة، وهو اختيار المزني والقاضي أبي حامد (3) .
وقال ابن قدامة: ويتخرج أن يطهر (4) .
وعلق على ذلك صاحب المبدع، فقال: وقاله بعض أصحابنا (5) .
واستدل لذلك بأن علة النجاسة زالت وهي التغير، أشبه ما لو زال بالمكاثرة (6) ، وبأنه لو زال بطول المكث طهر، فأولى أن يطهر إذا كان يطهر بمخالطته لما دون القلتين (7) .
__________
(1) مواهب الجليل 1 \ 85.
(2) المهذب ومعه المجموع 1 \ 185.
(3) المجموع ومعه المهذب 1 \ 185.
(4) المقنع وعليه المبدع 1 \ 63.
(5) المبدع ومعه المقنع 1 \ 63.
(6) المبدع 1 \ 63.
(7) الإنصاف 1 \ 66.(35/56)
(ج) الاستحالة بسقي النباتات بها، وشرب الحيوانات إياها:
أما الاستحالة بسقي النبات بها فقد تكلم أهل العلم في حكم ذلك؛ فمنهم من قال: إن هذه الزروع طاهرة مباحة، ومنهم من قال أنها نجسة محرمة.
وممن قال بطهارتها أبو حنيفة وبعض المالكية والشافعي، وهو قول في مذهب أحمد، قال ابن المواق على قول خليل " وزرع بنجس "، ابن يونس القمح النجس يزرع فينبت هو طاهر، وكذلك الماء النجس يسقى به شجر أو بقل، فالثمرة والبقلة طاهرتان (1) .
وقال ابن قدامة: قال ابن عقيل: يحتمل أن يكره ذلك، ولا يحرم، ولا يحكم بتنجيسها، وهذا قول أكثر الفقهاء؛ منهم أبو حنيفة والشافعي (2) .
__________
(1) ابن المواق على متن خليل 1 \ 97 ومعه مواهب الجليل.
(2) المغني ومعه الشرح 11 \ 72 - 73.(35/56)
واستدل لهذا بالأثر والمعنى؛ أما الأثر فهو أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يدمل أرضه بالعذرة، ويقول: مكتل عرة مكتل بر. قال ابن قدامة: والعرة عذرة الناس، استدل بهذا الأثر ابن قدامة (1) وأما المعنى فإن النجاسة تستحيل في باطنها فتطهر بالاستحالة، كالدم يستحيل في أعضاء الحيوان ويصير لبنا (2) .
القول الثاني: أنها لا تطهر، وهو المقدم عند الحنابلة، وبه قال من وافقهم من أهل العلم.
قال ابن قدامة: وتحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات وسمدت بها (3) .
وقال المرداوي، على قول ابن قدامة: " وما سقي بالماء النجس من الزروع والثمر محرم "، قال: وينجس بذلك، وهو المذهب نص عليه، وعليه جماهير الأصحاب (4) .
وقيد ذلك بالمغني فقال: فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطاهرات؛ كالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات (5) ، واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى.
أما السنة - فما ذكره ابن قدامة في المغني، قال: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كنا نكري أراضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونشترط عليهم ألا يدملوها بعذرة الناس. وأما المعنى - فإنها تتغذى بالنجاسات، وتترقى فيها أجزاؤها، والاستحالة لا تطهر (6) .
وأما شرب الحيوانات إياها فإننا نذكر كلام العلماء وأدلتهم في حكم لحوم الجلالة وألبانها، مع المناقشة، ومن أوسع ما جاء في ذلك ما ذكره ابن قدامة
__________
(1) المغني ومعه الشرح 11 \ 72 - 73.
(2) المغني ومعه الشرح 11 \ 72 - 73.
(3) الإنصاف 2 \ 10 \ 367.
(4) المغني ومعه الشرح 11 \ 72 - 73.
(5) المغني ومعه الشرح 11 \ 72 - 73.
(6) المغنى ومعه الشرح 11 \ 72 - 73.(35/57)
رحمه الله قال: قال أحمد: أكره لحوم الجلالة وألبانها، قال القاضي في المجرد: هي التي تأكل القذر، فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم لحمها ولبنها، وفي بيضها روايتان، وإن كان أكثر علفها الطاهر لم يحرم أكلها ولا لبنها، وتحديد الجلالة بكونه أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد ولا هو ظاهر كلامه، لكن يمكن تحديده بما يكون كثيرا في مأكولها، ويعفى عن اليسير. وقال الليث: إنما كانوا يكرهون الجلالة التي لا طعام لها إلا الرجيع.
وقال ابن أبي موسى: في الجلالة روايتان؛ إحداهما: أنها محرمة والثانية: أنها مكروهة غير محرمة، وهذا قول الشافعي، وكره أبو حنيفة لحومها والعمل عليها حتى تحبس، ورخص الحسن في لحومها وألبانها؛ لأن الحيوانات لا تنجس بأكل النجاسات، بدليل أن شارب الخمر لا يحكم بتنجس أعضائه، والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يكون ظاهره نجسا، ولو نجس لما طهر بالإسلام ولا الاغتسال، ولو نجست الجلالة لما طهرت بالحبس، ولنا ما روى ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها (1) » رواه أبو داود، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل الجلالة وأن يؤكل لحمها، ولا يحمل عليها إلا الأدم، ولا يركبها الناس، حتى تعلف أربعين ليلة» رواه الخلال بإسناده. ولأن لحمها يتولد من النجاسة فيكون نجسا كرماد النجاسة.
وأما شارب الخمر فليس ذلك أكثر غذائه، وإنما يتغذى الطاهرات، وكذلك الكافر في الغالب. وتزول الكراهة بحبسها اتفاقا، واختلف في قدره؛ فروي عن أحمد أنها تحبس ثلاثا، سواء أكانت طائرا أو بهيمة، وكان ابن عمر إذا أراد أكلها حبسها ثلاثا، وهذا قول أبي ثور؛ لأن ما طهر حيوانا طهر الآخر، كالذي نجس ظاهره. والآخر تحبس الدجاجة ثلاثا، والبعيرة والبقرة ونحوها يحبس أربعين، وهذا قول عطاء في الناقة والبقرة؛ لحديث عبد الله بن عمرو، ولأنها أعظم جسما، وبقاء علفهما فيهما أكثر من بقائه في الدجاجة والحيوان الصغير (2) .
ومن هذا تبين أن القول بطهارة النجاسات والمياه بالاستحالة، في الحيوانات والنباتات إلى
__________
(1) سنن الترمذي الأطعمة (1824) ، سنن أبو داود الأطعمة (3785) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3189) .
(2) المغني ومعه الشرح 11 \ 71 - 72 ويرجع إلى الإنصاف 10 \ 366 وشرح المفردات 312.(35/58)
لحم وعظم ولبن وغير ذلك هو قول أكثر الفقهاء؛ لتغيرها من فساد إلى صلاح، وتبدل حقيقتها الخبيثة إلى حقيقة أخرى يشملها وصف الطيب، في قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} (1) وقوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (2) فكان ما تولد عنها بالاستحالة طاهرا حلالا أكله وشربه.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة المائدة الآية 4(35/59)
(د) حكم استعمال مياه المجاري بعد استحالتها وزوال أعراض النجاسة منها:
مما تقدم يتبين أن الماء الكثير المتغير بنجاسة يطهر إذا زال تغيره بصب ماء طهور فيه باتفاق، أو بطول مكث أو تأثير الشمس ومرور الرياح عليه، أو برمي تراب ونحوه فيه، على الراجح عند الفقهاء؛ لزوال الحكم بزوال علته.
وعلى هذا فإذا كانت مياه المجاري المتنجسة، وهي بلا شك كثيرة تتخلص بالطرق الفنية الحديثة مما طرأ عليها من النجاسات، فإنه يمكن حينئذ أن يحكم بطهارتها؛ لزوال علة تنجسها، وهي تغير لونها أو طعمها أو ريحها بالنجاسة، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وبذلك تعود هذه المياه إلى أصلها، وهو الطهورية، ويجوز استعماله في الشرب ونحوه، وفي إزالة الأحداث والأخباث، وتحصل بها الطهارة من الأحداث والأخباث، إلا إذا كانت هناك أضرار صحية تنشأ عن استعمالها، فيمتنع استعمالها فيما ذكر؛ محافظة على النفس وتفاديا للضرر، لا لنجاستها، ولكن لو استعملها في إزالة الأحداث أو الأخباث صحت الطهارة.
وينبغي للمسلمين أن يستغنوا عن ذلك ويجتنبوه؛ اكتفاء بالمياه الأخرى، ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، احتياطا للصحة واتقاء للضرر وتنزها عما تستقذره النفوس، وتنفر منه الطباع والفطر السليمة، هذا ما تيسر، وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(35/59)
صفحة فارغة(35/60)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث
العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة
واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(35/61)
من الفتوى رقم 9529
س: أنا بحمد الله أميل إلى الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالسلف الصالح، غير أني قد جلست في بعض الجلسات والحضرات الصوفية، من باب العلم بالشيء، وهالني أن رأيتهم يقومون بحركات ورقصات لا تتفق، في أسوأ الأوضاع، مع وقار الإنسان وحيائه وهيبته. ثم هم يقومون بتأويل أشياء ثابتة، ويركزون جل أعمالهم على تعذيب النفس بوسائل شتى، والعبادة عندهم تعتمد في أكثرها على الذكر، كما أنهم يكثرون من ذكر الأولياء والصالحين، والاعتقاد فيهم، أكثر مما يفعلون مع الله ورسوله، كما أن لهم بعض الآراء، وأكثر هذه الآراء ينهش في السلف الصالح المتمسك بسنة رسوله حق التمسك، على أن لهم بعض الآراء التي تتفق وصحيح السنة، وكما فهمها السلف الصالح، وقد جلست مع هؤلاء القوم أكثر من مرة؛ لمحاولة معرفة خبايا هذا العالم، وأكثر هؤلاء القوم من فئات اجتماعية ممتازة؛ فمنهم أساتذة الجامعة والأطباء والمهندسون والموظفون، ومنهم أناس عاديون، وبهم شباب كثيرون أيضا.
فهل أأثم بالجلوس معهم رغم ما أسلفت. .؟ كما أرجو من فضيلتكم أن توضحوا الصورة حول هذه المذاهب الصوفية واعتقاداتها، خاصة أنها أصبحت تتخذ صورا منظمة، ذات هيئات ومنظمات معترف بها من قبل الدولة.
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
جـ: المعروف عن جميع طوائف الصوفية وفرقهم أنهم يذكرون الله أذكارا بدعية، فيرقصون ويترنحون ويتمايلون يمنة ويسرة وأعلى وأسفل، ويسمون الله في ذكرهم بغير ما سمى به نفسه، وبغير ما سماه رسوله صلى الله عليه وسلم؛ مثل: هو هو هو، ومثل آه آه، ويذكرونه بالاسم؛ مثل: الله الله الله، وبما يسمونه الذكر القلبي كما يفعله النقشبندية، ويذكرونه بما ذكر جماعة بصوت واحد، ويستغيثون في أذكارهم بالأموات والغائبين؛ فيقولون: مدد يا أبا(35/62)
العباس، مدد يا دسوقي، وذلك شرك يخرج من ملة الإسلام، ويعتقدون في مشايخهم أن لديهم علما لدنيا يطلعون به على الغيبيات، وأن لهم أسرارا يتصرفون بها وراء الأسباب العادية، وننصحك بقراءة كتاب (هذه هي الصوفية) للشيخ عبد الرحمن الوكيل لتعرف الكثير من بدعهم، وجالس من تعرف عنه أنه يتمسك بالكتاب والسنة، وينكر البدعة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(35/63)
من الفتوى رقم 9772
س: لقد ظهرت الآن فرق كثيرة مثل: فرق الصوفية المتعددة: الشاذلية والإبراهيمية والقاديانية. . إلخ. فما موقف الإسلام من هذه الفرق؟ وما موقفنا نحن كمسلمين نحوها، ونحو ما ينشره أتباعها عن أفكار فاسدة تسيء إلى الدين الإسلامي؟
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
جـ: نقرهم على ما وافقوا فيه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وننكر عليهم ما خالفوا فيه الكتاب والسنة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(35/63)
فتوى رقم 4911
س: نحن نثق في سماحتكم، ونرتاح إلى فتواك، ونريد من سماحتكم أن تقرأ هذا الكتاب وتفتينا فيه؛ حيث إنه يوزع على كثير من الناس، ويتعبدون الله بما جاء فيه من أوراد وذكر، ونحن نريد: هل يجوز التعبد بما جاء فيه أم لا؟
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
جـ: لا يجوز التعبد بما في هذا الكتاب - أوراد الطريقة البرهامية - لما في ذلك من قراءات القرآن للأموات، بل لأموات مخصوصين يتوقع أنها قرئت لهم رجاء بركتهم، كما في فواتح أهل السلسلة، وفيه من البدع جعل قراءة الفواتح لهؤلاء مفتاحا للأوراد، ولما في الأساس الذي يقرأ بعد الصبح وبعد العصر من بدعة تحديد الوقت لهذا الذكر، وتحديد عدد مائة مرة للبسملة، وعدد مائة مرة للذكر بكلمة - يا دائم - فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جعل حدا لذلك من الوقت أو العدد، بل لم يثبت عنه أنه تقرب إلى الله بتكرار البسملة مجردة، ولا أنه ذكر الله بكلمة - يا دائم - مجردة.
ولما جاء فيه من التوسل بالعرش والكرسي والنور النبوي، في الدعاء، وذلك تحت عنوان التحصين الشريف والغوثية، ولما جاء في الحزب الكبير من ذكر وأدعية بدعية، ومن التوسل بالحروف المقطعة في أوائل السور، وبأسماء مجهولة المعنى غير عربية؛ مثل: كد كد، كردد كردد - كرده كرده - ده ده - بها بها بها - بهيا بهيا بهيا - بهيات بهيات بهيات، ولما جاء في صلاة ابن مشيش من الكلمات المنكرة؛ مثل قوله في النبي صلى الله عليه وسلم: ولا شيء إلا وهو به منوط؛ إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط، وقوله في الدعاء: (وانشلني من أوحال التوحيد، وأغرقني في عين بحر الوحدة، حتى لا أرى ولا أسمع ولا أجد ولا أحس إلا بها.) إلى آخره.
ولما فيه من التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته والشافعي والبدوي والرفاعي، والاستغاثة بغير الله، وذلك بمنظومة تحت عنوان (التوسل) ، إلى غير ذلك من البدع الشركية، ووسائل الشرك والخرافات، وعلى هذا فلا يجوز التعبد بهذه(35/64)
الأوراد، وعلى كل مسلم أن يتعبد بما ثبت التعبد به عن النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوة القرآن والأذكار والدعوات الثابتة عنه في سننه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(35/65)
فتوى رقم 4317
س: أرجو التكرم ببيان حكم الإسلام في جماعة القاديانية، ونبيهم المزعوم غلام أحمد القادياني، كما أرجو التفضل بإرسال أي من الكتب التي تبحث في هذه الجماعة؛ حيث إنني من المهتمين بدراستها.
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
جـ: ختمت النبوة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فلا نبي بعده؛ لثبوت ذلك بالكتاب والسنة، فمن ادعى النبوة بعد ذلك فهو كذاب، ومن أولئك غلام أحمد القادياني، فدعواه النبوة لنفسه كذب، وما زعمه القاديانيون من ثبوته - فهو زعم كاذب.
وقد صدر قرار من مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة باعتبار القاديانيين فرقة كافرة من أجل ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(35/65)
من الفتوى رقم 8536
س: ما الفرق بين المسلمين والأحمديين؟
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
جـ: الفرق بينهما: أن المسلمين هم الذين يعبدون الله وحده، ويتبعون رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ويؤمنون بأنه خاتم الأنبياء ليس بعده نبي، أما الأحمديون الذين هم أتباع مرزا غلام أحمد فهم كفار ليسوا مسلمين؛ لأنهم يزعمون أن مرزا غلام أحمد نبي، بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ومن اعتقد هذه العقيدة فهو كافر، عند جميع علماء المسلمين؛ لقول الله سبحانه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) ولما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي (2) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2) الإمام أحمد 2 \ 398، 448 و 3 \ 79 و 248 و 4 \ 81 و 84 و 127 و 128 و 278 والبخاري برقم 3535، ومسلم 2286، وأبو داود برقم 4252.(35/66)
الفتوى رقم 117
س: مضمون السؤال أن المدعو عيسى جبريل يرغب في معرفة الكثير مما أنزل الله تعالى على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويرجو التكرم بإفادته: هل الورد الذي يقوم به التيجانيون والتيجانية صحيح في الإسلام؟ فقد سمع كثيرا من المدارس الإسلامية تعارضه، والتيجانيون يستعملونه بعد صلاة المغرب؛ فهم ينشرون(35/66)
قطعة قماش بيضاء في المسجد، ويجلسون حولها، ويتلون لا إله إلا الله، وكلمتين أخريين معها مائة مرة، ويرجو مساعدته في إيضاح الحق.
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
جـ: حثت الشريعة الإسلامية على ذكر الله تعالى، ورغبت في ذلك كثيرا، وبينت أنه يحيي النفوس، وتطمئن به القلوب، وتنشرح به الصدور، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (1) {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (2) وقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (3) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يذكر ربه، والذي لا يذكر - مثل الحي والميت (4) » رواه البخاري.
وكما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الأمر بالذكر والترغيب فيه مجملا، جاء فيهما مفصلا فبين القرآن أن ذكر الله يكون بالقلب إجلالا لله وإعظاما له وهيبة ووقارا، أو خوفا منه ورغبة إليه خفية وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال، وبين أن الصلاة أعظم ذكر لله؛ قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (5) {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (6) ، وقال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (7) ، وفي الصلاة القراءة والتكبير والتهليل، والتسبيح والتحميد، والدعاء، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (8) ، وبينت السنة، قولية وعملية، أنواع الأذكار وأوقاتها وكيفيتها؛ فبينت أذكار الصباح والمساء، والشدة والبلاء، وعند النوم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 41
(2) سورة الأحزاب الآية 42
(3) سورة الرعد الآية 28
(4) البخاري برقم 6407، ومسلم برقم 779.
(5) سورة البقرة الآية 238
(6) سورة البقرة الآية 239
(7) سورة النساء الآية 103
(8) سورة الأعراف الآية 205(35/67)
واليقظة، وعند الأسفار والعودة منها. إلخ، وعينت كلماتها وكيفياتها؛ ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: «رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (1) » فمن ذكر الله تعالى كما جاء في بيان الكتاب والسنة، من أنواع الذكر وأوقاتها وكيفياتها، فقد اتبع هدى الله تعالى وهدى رسوله عليه الصلاة والسلام، وكسب الأجر والمثوبة، ومن غير صيغ الأذكار، وحرف فيها أو بدل في كيفياتها، والتزم فيها كيفيات لم يلتزمها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأطلق ما قيده أو قيد ما أطلقه، والتزم طريقة في أداء الأذكار لم تعهد زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في زمن أصحابه، ولا القرون الثلاثة المشهود لها بالخير - فقد أساء وابتدع في الدين ما لم يأذن به الله، وحرم الأجر والثواب، وكان من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ومن ذلك ما التزمه بعض أصحاب الطرق كالتيجانية؛ من نشر قطعة قماش بيضاء يلتف حولها الذاكرون بلا إله إلا الله، ونحوها من الأذكار، بعد المغرب.
فالذكر مشروع، وكلمة لا إله إلا الله أفضل ما قاله النبيون، والذكر بها من أفضل الأذكار، ولكن التزام نشر الرقعة البيضاء والاجتماع حولها، وتخصيص ما بعد المغرب لذلك الذكر، وإيقاعه جماعيا - بدعة ابتدعوها لم يأذن بها الله ولا رسوله، وخير العمل ما كان اتباعا، وشره ما كان ابتداعا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة (2) » وقوله: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » ومن ذلك الاجتماع قبل الفجر أو بعده، أو بعد العشاء للتعبد بأوراد وضعوها من عند أنفسهم، أو لأذكار بهيئات مزرية وترنحات، هي إلى الألعاب والتمثيل أقرب، وبه أشبه، ومن ذلك ذكرهم بكلمة هو، وكلمة آه، وليستا من أسماء الله، بل الأولى ضمير الغائب، والثانية كلمة توجع؛ فالذكر بهما من البدع المنكرة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (660) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، موطأ مالك الجامع (1777) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(35/68)
فتوى رقم 5292
س: أريد من مجلسكم الموقر أن تقروا في هذه القصيدة المقدمة إليكم، خاصة وأنها تقرأ بعد ختم القرآن؛ ولهذا فإني أريد فتوى في هذا الشأن، لأنني لم أجد من يقنعني في بلادنا، هل هو جائز شرعا هذا الدعاء أم لا؟
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
جـ: أولا: لا يجوز أن يقرأ شعر عند ختم القرآن، لا قصيدتك ولا غيرها؛ لعدم ورود شيء بذلك عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه الراشدين رضي الله عنهم، بل ذلك بدعة محدثة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد (1) » ، وفي لفظ: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
ثانيا: سبق أن صدر منا فتوى في حكم الدعاء بعد ختم القرآن برقم 5042 هذا نصها: " الدعاء المنسوب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية عند ختم القرآن لا نعلم صحته عنه، ولم نقف عليه بشيء من التفسير، لكن قد اشتهرت نسبته إليه، ولم نعلم فيه بأسا، وإذا دعا الإنسان بدعوات أخرى فلا بأس بذلك؛ لعدم الدليل على تعيين دعاء معين ".
ثالثا: قصيدتك بها استغاثة واستنصار بغير الله سبحانه، فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى، وكذلك بها التجاء إلى غيره، فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه؛ مثل قولك:
بك استغثنا وبك التوسل ... يا ملجأ الخائف يا معقل
يا عروة الوثقى ويا ملاذي ... لدى الشدائد ويا عياذي
العجل العجل بالإغاثة ... يا من له كل العلى وراثة
وقوله:
يا أحمد التيجاني يا غيث القلوب ... أما ترى ما نحن فيه من كروب
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(35/69)
وهذه الأشياء كلها من أنواع الشرك الأكبر التي يخلد من مات عليها في النار، كما أن فيها أمورا بدعية؛ كالتوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره، صالح أو طالح من الناس، فاستغفر الله وتب إليه سبحانه؛ فهو القائل: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (1) ، والقائل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (2) إلى قوله: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} (3) .
رابعا: أحمد التيجاني وأتباعه الملتزمون لطريقته من أشد خلق الله غلوا وكفرا وضلالا. وابتداعا في الدين لما لم يشرعه الله سبحانه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وسبق أن كتبت اللجنة الدائمة نماذج لبدعهم وضلالهم، ونرجو أن ينفعك الله بها، وأن تكون سببا في هدايتك لسبيل الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، المبينة صفاتهم في قوله صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (4) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة طه الآية 82
(2) سورة الفرقان الآية 68
(3) سورة الفرقان الآية 71
(4) سنن أبو داود السنة (4597) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) ، سنن الدارمي السير (2518) .(35/70)
من الفتوى رقم 5553
س: ما هي عقيدتكم في طريقة التيجانية، ورؤية المصطفى صلى الله عليه وسلم يقظة؟
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
جـ: الفرقة التيجانية من أشد الفرق كفرا وضلالا وابتداعا في الدين(35/70)
لما لم يشرعه الله. وسبق أن سئلت اللجنة الدائمة عنهم، وكتبت بحثا في كثير من بدعهم وضلالاتهم الدالة على ذلك وأما دعوى بعض الصوفية أنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم يقظة - فشيء لا أصل له، بل هو باطل، وإنما يرى صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، حين يخرج الناس من قبورهم، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة (1) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/5) .(35/71)
فتوى رقم 2089
س: لقد تضاربت أقوال الفقهاء في الصلاة، خلف الأئمة المبتدعين وأصحاب الطرق، خصوصا التابعين للطريقة التيجانية، وقد اطلعت على رسالة الشيخ عبد الرحمن بن يوسف الإفريقي رحمه الله، مدير دار الحديث بالمدينة المنورة سابقا (الأنوار الرحمانية في هداية الفرقة التيجانية) ؛ حيث اتضح أن عقائد أصحاب هذه الطريقة -هداهم الله إلى سواء الصراط- غير صحيحة، وهم أقرب إلى الشرك والضلالة، والعياذ بالله، منهم إلى الإيمان والتصديق بكتاب الله، واتباع سنة رسوله المصطفى المختار عليه صلاة الله وسلامه، فهل تصح الصلاة خلف إمام مبتدع تابع للطريقة التيجانية؟
وإذا كان الجواب لا فهل للمسلم إقامة الصلاة في أهله وفي بيته، إذا لم يجد في أي مسجد في المدينة التي يسكنها إماما غير مبتدع؟ وهل تجوز إقامة الصلاة في جماعة خاصة في المسجد، بعد انتهاء المبتدع صاحب الطريقة التيجانية من صلاته؟ وهذا سيؤدي إلى بلبلة في الأفكار وتفرقة بين صفوف المسلمين.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
ج: الفرقة التيجانية من أشد الفرق كفرا وضلالا وابتداعا في الدين لما لم يأذن به الله سبحانه، فلا تصح الصلاة خلف من هو على طريقتهم، وبإمكان المسلم أن يلتمس له إماما غير متبع لطريقة التيجانية وغيرها من طرق المبتدعة، ممن لا تتسم عبادتهم وأعمالهم بالمتابعة لمحمد بن عبد الله صلوات الله(35/80)
وسلامه عليه، وإذا لم يجد إماما غير مبتدع، فيقيم له جماعة في أي مسجد من مساجد المسلمين، إذا أمن الفتنة والإضرار به من المبتدعة؛ فإن كان في بلد تسلط فيه مبتدع، فيقيم الجماعة في أهله، أو بأي مكان يأمن فيه على نفسه، ومتى أمكنتك الهجرة إلى بلد تقام فيه السنة وتحارب البدع وجب عليك ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(35/81)
فتوى رقم 2931
س: جماعة صالحة في قرية آهلة بالسكان، بها مسجد جامع كبير، يصلى فيه الجماعة، وهو الوحيد في القرية، تقام فيه كافة الصلوات الخمس، المسجد يسع المصلين، ويبقى فارغا محتاجا إلى زيادة، مع العلم أن أهل القرية ليسوا مداومين على صلاة الجماعة، إلا أفرادا صالحين قلائل. الجماعة الصغيرة انشقت عن القرية، مستنكرة بدعا وخلافات وتقصيرا لأهل القرية في القيام بشعائر دينهم، ويؤدونها بطرق غير تامة وغير صحيحة؛ علما أن أهل القرية من الطريقة التيجانية، فقررت هذه الجماعة الصغيرة عدم الصلاة وراء إمام القرية، الذي ليس له الأهلية للصلاة مع اعتقاداته التيجانية الفاسدة، وهو يشجع عليها؛ فيحضر الإمداح بالنبي، وفيها من الإطراء والشرك ما تعلمون، وانتهى بهم إلى بناء مسجد جديد، لا يبعد كثيرا عن المسجد الأول، وبدأوا يدرسون فيه التوحيد، ويعلمون أتباعهم العقيدة الصحيحة، ويحذرونهم من البدع والخرافات، فمال من جهتهم عدة شباب فتنوا من أهاليهم، وحكمت أهل القرية على هذه الجماعة: أنها ليست من الدين، وقالوا: إن المسجد الجديد مسجد ضرار، مع العلم أن(35/81)
هذه الجماعة معها شيخ علم دارس بالزيتونة، متفقه في الفقه المالكي، فما حكم هذا المسجد الذي بني جديدا؟ وهل ينطبق عليه قولتهم إنه مسجد ضرار، وما حكم الإنكار على أهل الطريقة التيجانية، وفي أي درجة هم من الإيمان، وهل يجوز لطالب علم -يريد الإصلاح في هذه القرية- أن يحاول إصلاح هؤلاء المنحرفين من التيجانيين في مسجدهم، والبعد عن الجماعة الأخرى التي تتبع الحق، وذلك بسبب إثارتهم لفتنة المسجد الجديد، أم يبقى مع جماعة الحق القليلة، وينصرف عن الآخرين؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
ج: أولا: إذا كان الواقع كما ذكر من أن المسجد الكبير الوحيد في القرية قد تسلط عليه التيجانيون، وأعلنوا فيه البدع والخرافات، وأن جماعة من أهل الحق أنكروا عليهم، فلم يقبلوا، فاعتزلوهم لذلك، وبنوا مسجدا؛ ليقيموا فيه الصلوات. إلخ، فليس مسجدهم الذي بنوه مسجد ضرار.
ثانيا: إنكار ما عليه أهل الطريقة التيجانية من البدع والخرافات واجب على أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما درجة أهل الطريقة التيجانية، والحكم فيهم بسبب ما أحدثوه من البدع والخرافات فقد أعدت كتابة من اللجنة الدائمة في بدعهم.
ثالثا: من كان لديه علم وأمل في قبولهم النصيحة خالطهم ونصحهم؛ رجاء أن يتقبلوا منه، ويكفوا عن بدعهم أو يقللوا منها، وإلا وجب عليه اجتنابهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(35/82)
فتوى رقم 3087
س: يوجد في بلدتنا إمام مسجد متبع إحدى الطرق، وهي الطريقة التيجانية، ومقدم في هذه الطريقة، يعطى الورد ويذكرون هذا الورد داخل المسجد بصوت مرتفع في حلقة خاصة، وسط الحلقة قطعة من القماش الأبيض، ويذكرون هذا الذكر، كل يوم بعد صلاة الصبح، وبعد صلاة العصر، ويطلقون عليها اسم الهلالة، وذكر آخر خاص بيوم الجمعة، يذكرونه بعد صلاة العصر، واسمه الوظيفة، ويختمون هذا الذكر بختم اسمه، بحزب الحمد لله إلى آخره من الأذكار.
عند وفاة إنسان من متبعي هذه الطريقة، بعد تجهيزه يضعونه وسط حلقة، ويذكرون عليه الوظيفة، كما ذكرنا، ويحملون هذا الميت، ويقولون عند حمله إلى المقبرة لا إله إلا الله، بأصوات مرتفعة جدا، ويسقطون هذا الميت في القبر بالفتحي، وهذا الإمام، كما ذكر سابقا في السؤال، يجمع الأموال والوعد من عند الفقراء والأغنياء، ويحمل هذه النقود والأموال إلى شيخ الزاوية، وكذلك له عمل آخر هزاز أمداح مع المدحين، يمدحون شيخهم أحمد التيجاني، وكذلك يطوف على ضريح سيدي الحاج علي في أدماسن، ويضرع إليه؛ لكي يقضي له أموره، وأيضا يعمل في فدوة الإخلاص، ويقولون إن الفدوة تخلص ممولها يوم القيامة من الذنوب، وهذه تابعة إلى أئمة الطريقة التيجانية، وما يفدوا بها، إلا من كان متبعا الطريقة التيجانية، وثمنها ما بين 800 دينار جزائري وما فوقها، والسؤال المطروح نحو سيادتكم: هل تجوز إمامته، وهل تجوز الصلاة وراءه أم لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد: ج: الفرقة التيجانية من أشد الفرق كفرا وضلالا وابتداعا في الدين، لما لم يشرعه الله سبحانه، ولا رسوله عليه الصلاة والسلام؛ فلا يجوز أن يتخذ(35/83)
إماما من هو على طريقهم، ولا تصح الصلاة خلف من هو على طريقتهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(35/84)
من الفتوى رقم 4150
س: ما حكم قراءة التيجانية والقادرية؟ وما حكم من دام على أحدهما حتى الموت، وهل لنا أن نصلي وراءه أو الصلاة عليه بعد الموت، أفيدونا أفادكم الله.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
ج - أوراد التيجانية والقادرية لا تخلو من البدع الشركية والخرافات؛ كالاستغاثة بغير الله، والأذكار التي لم ترد في كتاب الله تعالى، ولا في السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلا يجوز لك أن تتعبد بها، ولا تجوز الصلاة وراء من ثبت أنه كان يتعبد بها، ولا الصلاة على جنازته إذا مات بناء على الظاهر من حاله، أما ما يختم له به فإلى الله تعالى؛ فإنه هو الذي يعلم السر وأخفى.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(35/84)
من الفتوى رقم 6460
س: ما حكم الأوراد التيجانية والقادرية ونحوهما؟ الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
ج: أورادهم كسائر أوراد المتصوفة، يغلب عليها الطابع البدعي والأذكار البدعية، وخير للمسلم أن يتخذ لنفسه وردا من القرآن، وأن يذكر الله بالأذكار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(35/85)
من الفتوى رقم 7519
س: في طائفة تجانية، لها دعاء، ويسمى هذا الدعاء صلاة الفاتح، وهو عندهم خير من قراءة القرآن، هل هذا صحيح؟ وأيضا قبل صلاة المغرب، وبعد صلاة الصبح من يوم الجمعة يجلسون في شكل حلقة، ويضعون قطعة قماش في الوسط، ويدعون أنه يجلس فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وأحمد التيجاني، وفي هذا الوقت لهم دعاء، وهو صلاة الفاتح، هل هذا صحيح، وما الدليل على ذلك؟
ج - الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:(35/85)
ما زعموه من ذلك كذب، وعملهم باطل وبدعة محدثة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(35/86)
فتوى رقم 1304
س: يطلب فيه السائل إعطاءه فكرة عن الطائفة القادرية، ويذكر أنه قرأ كتابا من كتب هذه الطائفة، يسمى الفيوضات الربانية في المآثر والأوراد القادرية فوجد فيه قصيدة تتضمن دعاوى ومآثر لشيخ الطريقة القادرية، فهل(35/86)
ما فيها حق أو باطل؟ وقد أرسل السائل القصيدة مع استفتائه؛ لإفتائه عما فيها.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
ج - إن القصيدة التي أرسلها المستفتي ليعرف ما فيها هل هو حق أو باطل، تدل على أن قائلها جاهل يدعي لنفسه دعاوى كلها كفر وضلال. فيدعي أن كل علوم العلماء مستقاة من علمه، وفروع له، وأن سلوك العباد إنما هو بما فرضه وسنه لهم، وأنه يقدر على إغلاق الجحيم بعظمته، لولا سابق عهد من الرسول، وأنه يغيث من وفى له من المريدين، وينجيه من البلايا، ويحييه في الدنيا والآخرة، ويؤمنه من المخاوف، ويحضر معه الميزان يوم القيامة.
فهذه الدعاوى الكاذبة لا تصدر إلا من جاهل لا يعرف قدر نفسه، فإن كمال العلم لله وحده، وإن شئون الآخرة ومقاليد الأمور إلى الله وحده، لا إلى ملك مقرب، ولا إلى نبي مرسل، ولا لصالح ما من الصالحين، وقد أمر الله رسوله وهو خير خلقه أن يتلو على الأمة قوله تعالى {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) وقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (2) {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (3) .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألصق الناس به، وأقربهم إليه رحما، وأولاهم بمعروفه أن ينقذوا أنفسهم من عذاب الله، بالإيمان به سبحانه والعمل بشريعته، وأخبرهم أنه لا يغني عنهم من الله شيئا، وأخبر أن آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى، يقول كل منهم يوم القيامة: نفسي. نفسي، فكيف يملك شيخ الطريقة القادرية أو غيره من المخلوقين أن ينجي مريديه، وأن يحمي من وفى له بعهده ويغيثه، ويحضر معه عند وزن أعماله يوم القيامة؟ ! وكيف يملك أن يغلق أبواب الجحيم بعظمته؟ إن هذا لهو البهتان المبين، والكفر
__________
(1) سورة الأعراف الآية 188
(2) سورة الجن الآية 21
(3) سورة الجن الآية 22(35/87)
الصراح بشريعة رب العالمين.
لقد زاد صاحب هذه القصيدة في غلوه، وتجاوز حد الحس والعقل والشرع، فادعى أنه كان بنور محمد قبل أن يكون الخلق، وأنه كان في قاب قوسين اجتماع الأحبة؛ أي مع جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وأنه كان مع نوح عليه السلام في السفينة، وشاهد الطوفان على كف قدرته، وأنه كان مع إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وأن هذه النار بردت بدعوته، وأنه كان مع إسماعيل، وأنه ما نزل الكبش إلا بفتواه أو فتوته، وأنه كان مع يعقوب عليه السلام حينما أصيب بصره، وأن عينيه ما برئتا إلا بتفلته، وأنه هو الذي أقعد إدريس عليه السلام في جنة الفردوس، وأنه كان مع موسى عليه السلام حين مناجاته لربه، وأن عصا موسى مستمدة من عصاه، وأنه كان مع عيسى في المهد، وأنه هو الذي أعطى داود حسن الصوت في القراءة، بل ادعى أفحش من ذلك: ادعى أنه هو الله في الأبيات الثلاثة من قصيدته، وأصرحها قوله.
أنا الواحد الفرد الكبير بذاته أن الواصف الموصوف شيخ الطريقة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فأي كفر بعد هذا الكفر والعياذ بالله! .
فيا أيها الأخ المستفتي يكفيك من شر سماعه، ويغنيك عن معرفة تفاصيل تاريخ وسيرة القادرية، ما في قصيدة شيخ هذه الطائفة من البهتان والكفر والطغيان، واجتهد في معرفة الحق من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيان السلف الصالح من الصحابة وتابعيهم للكتاب والسنة النبوية الصحيحة، مع اعتقادنا أن الشيخ عبد القادر الجيلاني، الذي تنسب إليه هذه الطريقة، بريء من هذه القصيدة براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وأتباعه يكذبون عليه كثيرا، وينسبون إليه ما هو بريء منه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(35/88)
من الفتوى رقم 3323
س: ما حكم جمع إنسان جيرانه لقراءة مناقب الشيخ عبد القادر؛ لأنه يؤدي إلى محبة الأولياء، ثم يمد له سماطا يقصد إكرام الضيوف، عملا بحديث: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه (1) » ، فما حكم ذلك هل هو حرام أو مكروه أو سنة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
ج - محبة أولياء الله، وإكرام الضيف، من محاسن الشريعة، ومما حث عليه الكتاب والسنة، لكن اتخاذ قراءة مناقب الشيخ عبد القادر أو نحوه وسيلة لمحبة الأولياء، واتخاذ مد السماط عادة عند ذلك من البدع التي تفضي إلى الغلو في عبد القادر وأمثاله، وقد تنتهي إلى دعائه والاستغاثة به، والتوسل بجاهه عند الدعاء، وذلك ممنوع شرعا؛ لأنه إما شرك كالاستغاثة به، وإما ذريعة كالتوسل به أو بجاهه إلى الله، ولأنه يقع كثيرا في تراجم من يسمون أولياء من الكذب والأباطيل، وما قد يفضي إلى الغلو فيهم، وخير من ذلك أن يجمع معارفه على قراءة القرآن ودراسته، وقراءة الأحاديث الصحيحة لمعرفة الأحكام والاتعاظ بذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6019) ، صحيح مسلم الإيمان (48) ، سنن الترمذي البر والصلة (1967) ، سنن أبو داود الأطعمة (3748) ، سنن ابن ماجه الأدب (3672) ، مسند أحمد بن حنبل (4/31) ، موطأ مالك الجامع (1728) ، سنن الدارمي الأطعمة (2036) .(35/89)
فتوى رقم 3934
س: إنني طالب علم وإيمان، يرضاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فما هي توجيهاتكم الرشيدة لي، لقراءة الكتب الإسلامية التي تبني المسلم بناء سليما، خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الشبهات والأباطيل باسم الدين؟
ثانيا: ما حكم الإسلام من خلال معرفتكم في الطرق الصوفية عامة والطريقة النقشبندية خاصة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
ج - أولا: تعتني بكتاب الله، وتكثر من تلاوته وتدبره؛ لأنه أصل كل خير، ثم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقرأ في التوحيد: "شرح العقيدة الطحاوية "، وكتاب "تطهير الاعتقاد" للصنعاني، وكتاب " التوحيد" لابن خزيمة، وكتاب "مختصر الصواعق " للموصلي، وكتاب "كشف الشبهات " و "كتاب التوحيد" للشيخ محمد بن عبد الوهاب، و "العقيدة الواسطية " مع شروحها لابن تيمية، وكتابي " الحموية" و " التدمرية " له.
واقرأ في الفقه في كتاب " المهذب " لأبي إسحاق الشيرازي، وكتاب "زاد المعاد" لابن قيم الجوزية، وكتاب "إعلام الموقعين " له أيضا، و "عمدة الفقه " للموفق ابن قدامة.
واقرأ من كتب الحديث في "صحيح البخاري " و"صحيح مسلم "، و " رياض الصالحين "، و "منتقى الأخبار"، و "بلوغ المرام ".
واقرأ من كتب المواعظ في كتاب "الداء والدواء" لابن قيم الجوزية، ويسمى أيضا: "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي "، وكتاب " الآداب الشرعية" لابن مفلح، و "الوابل الصيب " لابن القيم.
ثانيا: تكثر البدع عند جماعة الطرق الصوفية عموما؛ كالذكر الجماعي في صفوف أو حلقات بصوت واحد، وذكرهم الله بالاسم المفرد بصوت واحد(35/90)
مثل الله الله، حي حي، قيوم قيوم.، وذكرهم بضمير الغائب مثل: هو هو، وذكرهم بكلمة آه، وفي نشيدهم على الأذكار شر كثير؛ مثل الاستغاثة بغير الله، وطلب المدد من الأموات؛ مثل البدوي والشاذلي والجيلاني وغيرهم، وفي كتبهم بدع كثيرة وشر مستطير، ويخص النقشبندية، وذكرهم الله بلفظ الجلالة في الورد اليومي بحركات قلبية، مع نفس تشبه حركة اللسان بالكلام، دون تحريك للسان، واستحضار المريد شيخه وورده اليومي، مع اعتقاد وساطته في نجاته يوم القيامة، وهذه الأمور كلها من البدع المنكرة؛ لأن تلك الأذكار لم يثبت منها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما أوحي إليه من الكتاب والسنة، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » ، وقال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(35/91)
من الفتوى رقم 3545
س: ما حكم الشريعة الإسلامية في الطريقتين اللتين تواجدان في بلدنا الجزائر، ولهما اسم الهبريين؛ نسبة إلى شيخهم الكبير، وهو الشيخ الهبري، وكما نعرف أن شيخهم المحبوب الحضرة، ويعتقدون أنهم في الطريق الصحيح، وكل المسلمين الآخرين في ضلال، فهل هذه الطريقة صحيحة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
ج - الطريقة السليمة الصحيحة هي التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فمن اقتفى أثره في ذلك فهو على الصراط المستقيم، وأما الطرق التي(35/91)
حدثت بعد ذلك، فيعرض كل عمل منها على الشريعة الإسلامية، فما وافقها أخذ به، وما خالفها رد؛ لقول الله جل وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) .
وننصحك بكثرة تلاوة القرآن، وقراءة تفسيره، وخاصة تفسير ابن جرير وابن كثير رحمهما الله، وكذلك قراءة السنة وشرحها، وخاصة الصحيحين صحيح البخاري وصحيح مسلم والسنن الأربعة، إلى غير ذلك من كتب الحديث الشريف؛ مثل "منتقى الأخبار"، و "بلوغ المرام "، و "رياض الصالحين "، و "زاد المعاد في هدي خير العباد" للعلامة ابن القيم رحمه الله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153(35/92)
من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
س: يوجد لدينا بالمستشفى، وكذلك في جميع المستشفيات، بعض الأدوية التي تستعمل لعلاج الآلام بعد العمليات، وكذلك لعلاج الآلام المختلفة، هذه الأدوية تحتوي على مواد مخدرة وأخرى كحولية، بنسب متفاوتة، فهل من حرج في استخدامها؟ ثم إذا كان هنالك حرج شرعي في استخدامها فهل هنالك من خطوة إيجابية للنظر فيها وعرضها على الجهات المسئولة لوقف تداولها؟
ج - الأدوية التي يحصل بها راحة للمريض، وتخفيف للآلام عنه لا حرج فيها ولا بأس بها، قبل العملية وبعد العملية، إلا إذا علم أنها من شيء يسكر كثيره فلا تستعمل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام (1) » ، أما إذا كانت لا تسكر، ولا يسكر كثيرها، ولكن يحصل بها بعض التخفيف والتخدير، لتخفيف الآلام فلا حرج في ذلك.
__________
(1) سنن الترمذي الأشربة (1865) ، سنن أبو داود الأشربة (3681) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3393) ، مسند أحمد بن حنبل (3/343) .(35/93)
س: أرجو من سماحتكم أن تبينوا لنا طريقة التيمم الصحيحة؟
ج - التيمم الصحيح، مثل ما قال الله عز وجل في سورة المائدة.
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (1) المشروع ضربة واحدة للوجه والكفين، وصفة ذلك أنه يضرب التراب بيده ضربة واحدة، ثم يمسح بها وجهه وكفيه، كما في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال لعمار بن ياسر رضي الله عنه: «إنما يكفيك أن تقول بيديك
__________
(1) سورة المائدة الآية 6(35/93)
هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض، ومسح بهما وجهه وكفيه (1) » ، ويشترط أن يكون التراب طاهرا، ولا يشرع مسح الذراعين، بل يكفي مسح الوجه والكفين للحديث المذكور. ويقوم التيمم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمم صلى بهذا التيمم النافلة والفريضة الحاضرة والمستقبلة ما دام على طهارة، حتى يحدث أو يجد الماء؛ إن كان عادما له أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزا عن استعماله؛ فالتيمم طهور يقوم مقام الماء، كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم طهورا.
__________
(1) صحيح البخاري التيمم (338) ، صحيح مسلم الحيض (368) ، سنن أبو داود الطهارة (321) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (569) .(35/94)
س: أفطرت في إحدى السنوات الأيام التي تأتي فيها الدورة الشهرية، ولم أتمكن من الصيام حتى الآن، وقد مضى علي سنوات كثيرة، وأود أن أقضي ما علي من دين الصيام، ولكن لا أعرف كم عدد الأيام التي علي؛ فماذا أفعل؟
ج: عليك ثلاثة أمور.
الأمر الأول: التوبة إلى الله من هذا التأخير، والندم على ما مضى من التساهل، والعزم على ألا تعودي لمثل هذا؛ لأن الله يقول {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) ، وهذا التأخير معصية، والتوبة إلى الله من ذلك واجبة.
الأمر الثاني: البدار بالصوم على حسب الظن، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها؛ فالذي تظنين أنك تركته من أيام عليك أن تقضيه، فإذا ظننت أنها عشرة فصومي عشرة أيام، وإذا ظننت أنها أكثر أو أقل فصومي على مقتضى ظنك؛ لقول الله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) ، وقوله عز وجل: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (3) .
الأمر الثالث: إطعام مسكين عن كل يوم إذا كنت تقدرين على ذلك، يصرف كله، ولو لمسكين واحد، فإن كنت فقيرة لا تستطيعين الإطعام فلا شيء عليك في
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) سورة التغابن الآية 16(35/94)
ذلك سوى الصوم والتوبة والإطعام الواجب، عن كل يوم نصف صاع من قوت البلد، ومقداره كيلو ونصف.(35/95)
س: هنالك مجموعة أيضا من الأسئلة، تدور حول الحجاب؛ فبعض هذه الأسئلة: تبين صفة الحجاب القائم عند بعض النساء في بعض هذه المستشفيات. نأمل من سماحتكم بيان صفة الحجاب الشرعي الذي يجب، وخاصة في مثل هذا الحجاب؟
ج الحجاب الشرعي: هو أن تحجب المرأة كل بدنها عن الرجال؛ الرأس والوجه والصدر، والرجل واليد؛ لأنها كلها عورة بالنسبة للرجل غير المحرم؛ لقول الله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) الآية، وقوله {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} (2) المراد بذلك أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والنساء غيرهن كذلك في الحكم، وبين سبحانه أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء، وأبعد عن الفتنة.
وقال سبحانه في سورة النور: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} (3) الآية، والوجه من أعظم الزينة، والشعر كذلك، واليد كذلك، ويمكن أن تحجب المرأة وجهها بالنقاب، وهو الذي تبدو منه العينان أو إحداهما، ويكون الوجه مستورا؛ لأنها تحتاج إلى بروز عينها لمعرفة الطريق، ويمكنها أن تحتجب بحجاب غير النقاب كالخمار، لا يمنعها من النظر إلى طريقها، لكن تخفي زينتها، وتستر رأسها وجميع بدنها، وعلى المرأة أن تجتنب استعمال الطيب، عند خروجها للسوق أو المسجد، أو محل العمل إن كانت موظفة؛ لأن ذلك من أسباب الفتنة بها.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) سورة النور الآية 31(35/95)
س: ما رأي سماحتكم في أن عمل الطبيب يتطلب في بعض الأحيان رؤية عورة المريض أو مسها للفحص، وفي بعض الأحيان أثناء العمليات يعمل الطبيب الجراح في وسط مليء بالدم والبول؛ فهل إعادة الوضوء واجبة في هذه الحالات، أم أنه من باب الأفضلية؟(35/95)
ج - لا حرج أن يمس الطبيب عورة الرجل للحاجة، وينظر إليها للعلاج، سواء العورة الدبر أو القبل؛ فله النظر والمس للحاجة والضرورة، ولا بأس أن يلمس الدم إذا دعت الحاجة للمسه في الجرح، لإزالته أو لمعرفة حال الجرح، ويغسل يده بعد ذلك عما أصابه، ولا ينتقض الوضوء بلمس الدم أو البول، لكن إذا مس العورة انتقض وضوءه، قبلا كانت أو دبرا، أما مس الدم أو البول، أو غيرهما من النجاسات فلا ينقض الوضوء، ولكن يغسل ما أصابه.
لكن من مس الفرج دون حائل؛ يعني مس اللحم اللحم فإنه ينتقض الوضوء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من أفضى بيده إلى فرجه ليس دونهما ستر فقد وجب عليه الوضوء (1) » ، وهكذا الطبيبة إذا مست فرج المرأة للحاجة فإنه ينتقض وضوءها بذلك، إذا كانت على طهارة كالرجل.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/333) .(35/96)
س: ما هو الحكم في التداوي قبل وقوع الداء كالتطعيم؟
ج - لا بأس بالتداوي، إذا خشي وقوع الداء؛ لوجود وباء أو أسباب أخرى يخشى من وقوع الداء بسببها، فلا بأس بتعاطي الدواء لدفع البلاء الذي يخشى منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من تصبح بسبع تمرات من تمر المدينة لم يضره سحر ولا سم (1) » ، وهذا من باب دفع البلاء قبل وقوعه، فهكذا إذا خشي من مرض، وطعم ضد الوباء الواقع في البلد أو في أي مكان، لا بأس بذلك من باب الدفاع، وكما يعالج المرض النازل يعالج بالدواء المرض الذي يخشى منه، لكن لا يجوز تعليق التمائم والحجب ضد المرض أو الجن أو العين؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقد أوضح عليه الصلاة والسلام أن ذلك من الشرك الأصغر؛ فالواجب الحذر من ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري الأطعمة (5445) ، صحيح مسلم الأشربة (2047) ، سنن أبو داود الطب (3876) .(35/96)
س: كيف نوفق بين الحديثين الشريفين «لا عدوى ولا طيرة (1) » ، «وفر من المجذوم فرارك من الأسد (2) » .
ج - لا منافاة عند أهل العلم بين هذا وهذا، وكلاهما قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
«قال لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول (3) » ، وذلك نفي لما يعتقده أهل الجاهلية، من أن الأمراض كالجرب
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5753) ، صحيح مسلم السلام (2225) ، سنن ابن ماجه الطب (3540) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/443) .
(3) صحيح البخاري الطب (5753) ، صحيح مسلم السلام (2225) ، سنن ابن ماجه الطب (3540) .(35/96)
تعدي بطبعها، وأن من خالط المريض أصابه ما أصاب المريض، وهذا باطل، بل ذلك بقدر الله ومشيئته، وقد يخالط الصحيح المريض المجذوم، ولا يصيبه شيء، كما هو واقع ومعروف؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الإبل الصحيحة، يخالطها البعير الأجرب فتجرب كلها، قال له عليه الصلاة والسلام: «فمن أعدى الأول؟ (1) » .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «فر من المجذوم فرارك من الأسد (2) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «لا يورد ممرض على مصح (3) » - فالجواب عن ذلك: أنه لا يجوز أن يعتقد العدوى، ولكن يشرع له أن يتعاطى الأسباب الواقية من وقوع الشر، وذلك بالبعد عمن أصيب بمرض يخشى انتقاله منه إلى الصحيح، بإذن الله عز وجل؛ كالجرب والجذام، ومن ذلك عدم إيراد الإبل الصحيحة على الإبل المريضة بالجرب ونحوه؛ توقيا لأسباب الشر، وحذرا من وساوس الشيطان الذي قد يملي عليه أن ما أصابه أو أصاب إبله هو بسبب العدوى.
__________
(1) صحيح البخاري الطب (5717) ، صحيح مسلم السلام (2220) ، سنن أبو داود الطب (3911) ، مسند أحمد بن حنبل (2/327) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/443) .
(3) صحيح البخاري الطب (5771) ، صحيح مسلم السلام (2221) .(35/97)
س: ما حكم مصافحة النساء؟
ج - مصافحة النساء فيها تفصيل؛ فإن كانت النساء من محارم المصافح، كأمه وبنته وأخته وخالته وعمته وزوجته فلا بأس بها. وإن كانت لغير المحارم فلا تجوز لأن امرأة مدت للنبي صلى الله عليه وسلم يدها لتصافحه، فقال: «إنني لا أصافح النساء (1) » ، وقالت عائشة رضي الله عنها: «والله ما مست يد رسول الله يد امرأة قط، ما كان يبايعهن إلا بالكلام عليه الصلاة والسلام (2) » ؛ فلا يجوز للمرأة أن تصافح الرجال من غير محارمها، ولا يجوز للرجل أن يصافح النساء من غير محارمه؛ للحديثين المذكورين، ولأن ذلك لا تؤمن معه الفتنة.
__________
(1) سنن النسائي البيعة (4181) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2874) ، مسند أحمد بن حنبل (6/357) ، موطأ مالك الجامع (1842) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4891) ، صحيح مسلم الإمارة (1866) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2941) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2875) ، مسند أحمد بن حنبل (6/270) .(35/97)
س: أمرتني والدتي بعدم طبخ نوع معين من الأعشاب، وأردفت قائلة: إذا طبخت هذه الأعشاب ممكن تسبب لي الوفاة؛ لعدم قدرتي على رائحتها، علما أن هذه الأعشاب مشروعة ومباحة، وبالفعل بعد أن تعشيت أنا ووالدتي من تلك الأعشاب توفت والدتي بعدها بعدة ساعات! فهل أنا آثمة في ذلك، وهل لي يد في وفاتها، وهل علي ذنب في ذلك. أفيدوني أفادكم الله؟(35/97)
ج - إذا كان الواقع هو ما ذكرت في السؤال فقد أثمت؛ لأن ذلك من العقوق والإساءة إليها، وعليك ذنب في ذلك، ما دمت تعلمين أن أمك تتأذى بها، وأنها نصحتك ونهتك. فأنت مجرمة في هذا العمل، عاصية، قاطعة للرحم، عاقة لوالدتك، وعليك الدية؛ لأن هذا العمل الذي فعلت يعتبر من القتل شبه العمد، وعليك أيضا الكفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة؛ فإن عجزت فصومي شهرين متتابعين ستين يوما، مع التوبة إلى الله عز وجل. نسأل الله لنا ولك قبول التوبة، والتوفيق لكل خير.(35/98)
س: تقام في المستشفى عدة جماعات للصلاة، والمساجد قريبة، فهل يلزم من بقربها الذهاب للمسجد، أم نكتفي بهذه الجماعات داخل المستشفى؟
ج - هذا فيه تفصيل. فالذي لا بد من وجوده في المستشفى، كالحارس ونحوه أو المريض الذي لا يستطيع الوصول إلى المسجد فإنه لا يجب عليه الخروج إلى المسجد، بل يصلي في محله مع الجماعة التي يستطيع الصلاة معها، أما من يستطيع الوصول إلى المسجد فإنه يجب عليه ذلك، عملا بالأدلة الشرعية، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء، فلم يأت فلا صلاة له، إلا من عذر (1) » ، قيل لابن عباس رضي الله عنه: ما هو العذر؟ قال: "خوف أو مرض ". رواه ابن ماجه والدارقطني، وصححه ابن حبان والحاكم، وإسناده صحيح.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (551) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (793) .(35/98)
س: إذا ادخر المسلم مبلغا من المال، فكيف يكون حساب زكاته في نهاية العام؟
ج - يزكي المسلم كل شيء ملكه، من النقود أو عروض التجارة إذا تم حوله؛ فالذي ملكه في رمضان يزكيه في رمضان، والذي ملكه في شعبان من راتبه أو غيره من النقود أو عروض التجارة يزكيه في شعبان، والذي ملكه في شوال يزكيه في شوال، والذي ملكه في ذي الحجة يزكيه في ذي الحجة، وهكذا كل مال من الأموال المذكورة تتم سنته يزكيه على رأس الحول. وإذا أحب أن يعجل الزكاة قبل تمام الحول لمصلحة شرعية فلا بأس، وله في ذلك أجر عظيم، أما(35/98)
اللزوم: فلا يلزمه الإخراج، إلا بعد تمام الحول.(35/99)
س: ما وجهة من يقول: إن الدخان محرم في شرع الله تعالى؟
ج - وجهته: أنه مضر، ومخدر في بعض الأحيان، ومسكر في بعض الأحيان، والأصل فيه عموم الضرر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: «لا ضرر ولا ضرار (1) » ؛ فالمعنى: كل شيء يضر الشخص في دينه أو دنياه محرم عليه تعاطيه؛ من سم أو دخان أو غيرهما مما يضره؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) وقوله صلى الله عليه وسلم «لا ضرر ولا ضرار (3) » ؛ فمن أجل هذا حرم أهل التحقيق من أهل العلم التدخين؛ لما فيه من المضار العظيمة التي يعرفها المدخن نفسه، ويعرفها الأطباء، ويعرفها كل من خالط المدخنين.
وقد يسبب موت الفجاءة، وأمراضا أخرى، ويسبب السعال الكثير، والمرض الدائم اللازم، كل هذا قد عرفناه، وأخبرنا به جم غفير لا نحصيه ممن قد تعاطى شرب الدخان أو الشيشة أو غير ذلك من أنواع التدخين، فكله مضر، وكله يجب منعه، ويجب على الأطباء النصيحة لمن يتعاطاه، ويجب على الطبيب والمدرس أن يحذرا ذلك؛ لأنه يقتدى بهما.
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .
(2) سورة البقرة الآية 195
(3) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .(35/99)
س: يوجد لدينا إمام قد أخذ إمامة ثلاثة مساجد بأسماء أولاده، وهم خارج المدينة، وقد جلب عمالا ليؤموا المسلمين في هذه المساجد بالإنابة، مقابل نصف الراتب، وعندما ناصحته قال: عندي فتوى، وكل الناس يفعلون ذلك، فقلت له: فعل الناس ليس حجة، فقال: أحضر لي فتوى من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حتى أقتنع فقلت له: سأحاول، وها أنذا أكتب إلى سماحتكم، راجيا بيان الحقيقة في هذا الموضوع؛ لأنه منتشر في كثير من المدن والقرى.
ج - هذا العمل غير جائز، بل هو منكر، لا يجوز للمسلم أن يكذب على(35/99)
الجهة المسئولة عن الإمامة أو الأذان، بأن يسمي أئمة أو مؤذنين لا وجود لهم، ثم يعين على رأيه من يقوم بذلك، بل يجب عليه أن يوضح الحقيقة للجهة المسئولة، حتى توافق على الشخص المعين، وهكذا النائب عنه: يجب أن يوضح للجهة المسئولة، حتى تعلم أنه أهل لذلك، وتوافق على قيامه بالعمل؛ لأن هذه العبادة، وهي عبادة الإمامة، وهكذا الأذان عبادة عظيمة، ويتعلق بها أعظم عبادة بعد الشهادتين، وهي الصلاة. فالواجب ألا يتولاها إلا من هو أهل لها، من جهة العقيدة والخلق الفاضل والاستقامة على الحق، وعلى المذكور أن يتوب إلى الله سبحانه، وأن يبلغ الجهة المسئولة عما عمله، وأن يتفق معها على الإمام الصالح للمساجد التي عين فيها أبناءه.
نسأل الله للجميع الهداية والعافية من طاعة الهوى والشيطان.(35/100)
المحاولات التوفيقية
لتأنيس الفائدة في المجتمع الإسلامي
الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين
مقدمة
في القرآن الكريم جاء ذم جريمة الربا، والتشنيع على مرتكبها، ربما بما لم يجئ مثله في حق جريمة أخرى؛ ففي مقابل وصف الزنا مثلا بأنه {فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (1) وصف المرابون بأنهم: {لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (2) ، وجاء: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (3) ، وتوعد المرابون بأنهم إن لم يذروا ما بقي من الربا، فليأذنوا بحرب من الله ورسوله، وبالإضافة إلى ما ورد في القرآن جاءت الأحاديث الكثيرة بالنهي عن الربا وعن شبهته، وإنذار الفرد والمجتمع الذي يمارسه بأعظم العقوبات.
وقد وقعت أغلب بلاد العالم الإسلامي تحت نير الاستعمار الأوربي، ولما كان الاقتصاد دافعا رئيسيا للاستعمار كان من الطبيعي أن يرسخ الاستعمار في البلاد التي خضعت تحت نير النظام البنكي الغربي، القائم على " الفائدة الربوية "؛ إذ كان هذا النظام وسيلة فعالة للتحكم في أموال العالم الإسلامي المستعمر، والسيطرة على اقتصاده.
ومن البداية واجه المجتمع الإسلامي واقعا ذا مظهرين:
أولا: بسبب رادع تحريم الإسلام للربا، واعتباره كبيرة من كبائر الذنوب،
__________
(1) سورة الإسراء الآية 32
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 276(35/101)
بل من أكبرها على ما وصف آنفا، فقد امتنع المسلم التقي من الحصول على الفائدة الربوية عن إيداعاته، فحظي البنك الأجنبي - في الغالب - بالانتفاع بأموال المسلمين مجانا، وبدون تحمله دفع أي تعويض عن استغلاله لرأس المال الإسلامي.
ثانيا: بسبب الرادع المشار إليه - امتنع المسلم التقي عن الانتفاع بالتسهيلات الائتمانية التي تمنحها البنوك، فكانت الأموال والمدخرات الإسلامية المجمعة تضخ في الأسواق المالية الغربية، وتجري في شرايين الاقتصاد الغربي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ففي المجتمعات المختلطة بين المسلمين وغيرهم كالقارة الهندية كانت المجتمعات غير المسلمة تنفرد بالتمتع بمزايا التسهيلات الائتمانية، فيتنامى نشاطها الاقتصادي على حساب النشاط الاقتصادي للمجتمع الإسلامي.
وقد أذهلت هذه الظواهر رجال الفكر في العالم الإسلامي، فشغلتهم بالبحث عن سبيل للخروج بالمجتمع الإسلامي من ورطة هذا الواقع الأليم، إن هذا المأزق تصوره أوضح تصوير صيغ الاستفتاءات، التي كانت تنهال من الأفراد والمجتمعات الإسلامية، فيما يتعلق بهذه المشكلة وإجابات المفتين.
ولكن ربما كان من أبلغ الأمثلة في تصوير الشعور بهذا المأزق فتوى نشرت لأحد المفتين مضمونها أن أحاديث الربا من وضع اليهود، أدخلوها على المسلمين بقصد الإضرار بهم عن طريق تحريم التجارة عليهم؛ لتكون التجارة في يد اليهود، إن ما جعل المشكلة تبدو مستحيلة الحل غياب مؤسسات مصرفية لا تقوم على الربا، فكان يبدو أن لا بديل للنظام المصرفي الغربي، بل لا بديل للاقتصاد الغربي، وحتى بعد ظهور الشيوعية ومشاطرة المذهب الاقتصادي الشيوعي المذهب الرأسمالي الغربي كان يظهر أن لا فرصة للعالم للخروج عن الدوران في أحد الفلكين.
ونتيجة لذلك كان من الطبيعي أن يتجه الفكر الإسلامي إلى المحاولات التوفيقية بغرض تأنيس الفائدة لقبولها في المجتمع الإسلامي، ولكن كل هذه(35/102)
المحاولات قد فشلت في إقناع المسلم بأن يتقبل الواقع بطمأنينة الضمير وسكينة القلب، وتهدف هذه الورقة إلى إيضاح أسباب فشل تلك المحاولات التوفيقية.(35/103)
لماذا فشلت المحاولات التوفيقية؟
أمام صراحة النصوص وثبوتها القطعي كان من الطبيعي أن تتجه المحاولات كليا إلى محاولة إخراج الفائدة البنكية من مفهوم (الربا) الوارد تحريمه بصريح النص، ومع أنه لا يبدو وجود إمكانية لوسيلة أخرى بديلة لهذه الوسيلة، فإن اتجاه المحاولات إليها هو سر فشل هذه المحاولات، توضيح ذلك أن للربا مفهوما أساسيا مشتركا بين الشعوب، وفي مختلف الشرائع والعصور، وهناك بالإضافة إلى هذا المفهوم المشترك مفاهيم خاصة ببعض الشرائع كالإسلام؛ لزيادة الإيضاح أن القاعدة الأساسية في تحديد الحكم الشرعي الإسلامي، اعتبار نصوص القرآن والحديث الصحيح مصادر متكاملة للأحكام، فما ورد من الألفاظ مجملا في نصوص يرجع في تبيينه إلى النصوص الأخرى، وقد وردت نصوص القرآن بكلمة الربا، وهذه اللفظة تتناول - بدون فرصة للمنازعة - المفهوم المشترك لهذه اللفظة؛ إذ هو المفهوم الأساسي، كما تتناول المفاهيم الأخرى التي دلت عليها الأحاديث؛ لزيادة الإيضاح مرة أخرى أن الربا وفق المفهوم الأساسي والمشترك قد استقرت كراهيته في الضمير الإنساني، واعتبر ممارسة غير أخلاقية.
وجاء الإسلام بنصوص الحديث فلم تكتف كالشرائع الأخرى بتحريم الربا بهذا المفهوم الأساسي المشترك، وإنما وسعت من منطقة التحريم، فأدخلت في هذه المنطقة كل ما هو في الحقيقة وبحكم الحكيم الخبير وسيلة وذريعة إلى ارتكاب الربا بالمفهوم الأساسي المشترك، وسدت الطرق الموصلة إليه بحكم الحوادث الواقعية المشاهدة؛ فإذا تخيلنا أن المفهوم الأساسي المشترك منطقة مركزية تحيط بها دائرة، فإن دائرة كبيرة واسعة من وراء هذه الدائرة وردت بها النصوص الثابتة، وتضم شبهة الربا ووسائله وذرائعه، قد يكون من الممكن مهاجمة نقطة في الدائرة(35/103)
الهامشية الكبيرة دون تأثير على أصل المفهوم الأساسي للفكرة، ولكن من غير الممكن مهاجمة نقطة في الدائرة المركزية دون تدمير للبناء؛ ولذا كان استبعاد الفائدة البنكية، وهي واقعة في المنطقة المركزية للدائرة غير ممكن دون مساس، بل إخلال بالمفهوم الكلي للفظة الربا، وفي السطور الآتية زيادة إيضاح.
روى الإمام البخاري في صحيحه، «عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجر، أهو من البيت (الكعبة) ؟ فقال: نعم، فقالت: لماذا أخرجوه؟ فقال: إن قومك قصرت بهم النفقة (1) » أي أن قريشا حين هدمت الكعبة وأعادت بناءها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات تقريبا عجزت عن توفير المال الكافي لإعادة البناء على قواعده الأصلية، فصغرت مساحته، وأخرج من البناء الجديد حجر إسماعيل.
وإذا عرفنا أن مكة كانت من أكثر المدن العربية ثراء، وقد وصف الله بعض أهلها بأنه جعل له مالا ممدودا، ولم تكن إعادة البناء تحتاج لنفقة كبيرة إذا كانت مواد البناء متوفرة، فقد جاء في الأخبار أن مما حمل قريشا على إعادة البناء انتهاز فرصة أن البحر قذف على ساحل جدة بحطام سفينة، فكانت الأحجار والأخشاب اللازمة للبناء موجودة. إذا عرفنا هذا يأتي السؤال: لماذا عجزت قريش عن توفير النفقة القليلة للبناء؟
وجواب السؤال فيما أورده العلامة ابن كثير عند تفسير آية {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} (2) : فروى أن قريشا تواصوا بأن لا يدخل في النفقة على بناء الكعبة من كسبهم إلا ما كان طيبا، فلا يدخل في النفقة مهر بغي، ولا مظلمة، ولا بيع ربا.
وبحكم طبائع الأشياء فإن مهور البغايا لا يمكن أن تمثل جزءا مهما من أموال القرشيين، وكذلك أموال المظالم لا سيما بعد استحضار حادثة حلف الفضول؛ ولذا فإن العامل المهم في تلويث أموال القرشيين بحيث لم يمكن استخلاص جزء نظيف كاف منها يصلح للدخول في نفقة بناء الكعبة هو
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الحج (1584) ، صحيح مسلم الحج (1333) ، سنن أبو داود المناسك (2028) .
(2) سورة البقرة الآية 127(35/104)
الربا، ويؤخذ من هذه الوقائع أمران:
(الأول) : شيوع الربا وسيطرته، بحيث استغرق بتلويثه أموال القرشيين إلى درجة أنه لم يمكن توفير النفقة الكافية الضئيلة لإعادة البناء البسيط للكعبة على وضعه السابق قبل الهدم.
(الثاني) : أن القرشيين مع ممارستهم للربا وشيوعه حتى استغرق أموالهم إلى درجة أنها لم تتسع لنفقة بسيطة كنفقة بناء الكعبة، كانوا ينظرون إليه باعتباره كسبا غير نظيف ينبغي أن ينزه عنه بيت الله. فما هو الربا في مفهوم القرشيين؟
لم يكن للقرشين نشاط زراعي؛ لأنهم: بواد غير ذي زرع، فتركز نشاطهم في التجارة مع الحجاج، ومع مزارعي ثقيف، والمستوطنات الزراعية المجاورة كاليمامة، وكان من أبرز أنشطتهم إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، وتمول هاتان الرحلتان في بعض الأحيان بالائتمان عن طريق عقد المضاربة (المشاركة في الربح والخسارة) ، ولكن طبائع الأمور تقتضي افتراض أن للاقتراض الربوي الدور الواسع في مختلف صور النشاط التجاري، كما تدل على ذلك النصوص المحفوظة.
وبما سبق تبين افتراض أن مفهوم الربا عند القرشيين لا يختلف عن المفهوم الشائع للربا عند مختلف الشعوب، وهو تقديم الممول المال لمحتاج التمويل لأجل في نظير أو مقابل للأجل هو الربا أي الزيادة.
والربا، بهذا المفهوم، هو الذي عرفته القوانين البابلية والآشورية والفرعونية، وهو المعروف عند الإغريق والرومان أن المقولة المشهورة المنسوبة لأرسطو: (النقود لا تلد نقودا) وردت قبل ثلاثة وعشرين قرنا على لسان هذا الفيلسوف الإغريقي الوطني تسببا للحكم بأن الربا سلوك غير أخلاقي، والربا بهذا المفهوم هو الذي جاءت الشريعة الموسوية ثم المسيحية بتحريمه.(35/105)
فقد حرمته التوراة (1) ، إلا أن اليهود من بعد موسى -مع احتفاظهم بتحريمه بين اليهود - أجازوه بين اليهود وغيرهم على أساس أن أموال غير اليهود حلال لليهود؛ فهم حين يأخذون الربا من الأميين إنما يأخذون أموالهم، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (2) ، جاء في الإصحاح فقرة 23 \ 19 - 20 من سفر التثنية من التوراة المحرفة: " لا تقرض أخاك بربا، ربا فضة، أو ربا شيء مما يقرض بربا، للأجنبي تقرض بربا، ولكن لأخيك لا تقرض بربا ".
وقد شنع الله على اليهود بهذا، وتوعدهم بالعذاب الأليم: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (3) {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (4) ، وليس المقصود في الآية -والله أعلم- مجرد الإخبار بهذه الواقعة، وإنما التحذير منها.
وكان اعتياد اليهود لممارسة جريمة الربا سببا في كراهية العالم لهم، وتشنيعه عليهم، لا سيما العالم المسيحي الأوربي، ومن آثار ذلك مسرحية شكسبير المشهورة (تاجر البندقية) .
ثم جاءت الشريعة المسيحية بتأكيد تحريم الربا دون اعتبار لطرفي العقد الربوي، ومن آثار هذا التحريم الآيتان 24 و 25 من الفصل السادس من إنجيل لوقا: (إذا أقرضتم لمن تنتظرون منهم المكافأة فأي فضل يعرف لكم؟ ولكن افعلوا الخيرات، وأقرضوا غير منتظرين عائداتها) ، ويقول سان توما: (إن تقاضي الفوائد عن النقود أمر غير عادل، فإن هذا معناه استيفاء دين لا وجود له) .
ومع أنه بانتصار العلمانية في العالم الغربي، وبالتالي التحرر من القيود الدينية المسيحية بغلبة فكرة النسبية في الأخلاق، قد أبيحت الفائدة على
__________
(1) انظر الملحق بعنوان ''ربا اليهود''.
(2) سورة آل عمران الآية 75
(3) سورة النساء الآية 160
(4) سورة النساء الآية 161(35/106)
القروض في القوانين الغربية، فإن هذه القوانين لم تستطع أن تتحرر تحررا كاملا من النظرة الأخلاقية، فظلت القوانين الجنائية تحرم ممارسة الربا بالمفهوم الشائع، وإن كانت قد استثنت منه بالإباحة الفوائد في حدود معينة نصت عليها القوانين دون إخلال بالمفهوم الشائع للربا، وإنما احتاجت إلى تمييز المنطقة التي بقيت محرمة بالربا الفاحش؛ فالفائدة ربا بسيط يباح في حدود معينة، يتحكم القانون في وضعها بين وقت وآخر (يراجع مصادر الحق جزء2 ص 216، 217، 221) .
وقد قلدت بلدان العالم الإسلامي بلدان العالم الغربي في تقنين التفريق بين بسيط الربا وفاحشه؛ فمثلا سمحت التقنينات المدنية العربية بتقاضي فوائد ينص على تحديدها القانون، وحرمت الزيادة عليها، كما حرمت الفوائد المركبة بعد أن سمحت بالفائدة البسيطة؛ فنصت المادة (336) ، من التقنين المدني المصري على تحديد سعر الفوائد ب 4% في المسائل المدنية، وب 5% في المسائل التجارية، كما نصت المادة 337 منه على أنه: [يجوز للمتعاقدين أن يتفقا على سعر آخر للفوائد، على ألا يزيد هذا السعر عن 7%؛ فإذا اتفقا على فوائد تزيد على هذا السعر وجب تخفيضها إلى 7%، ويمكن رد ما دفع زائدا على هذا القدر، وكل عمولة أو منفعة أيا كان نوعها اشترطها الدائن إذا زادت هي والفائدة على الحد الأقصى المتقدم ذكره تعتبر فائدة مستترة، وتكون قابلة للتخفيض] .
ونصت المادة (333) منه على أنه: [لا يجوز تقاضي فوائد على متجمد الفوائد، ولا يجوز بأية حال أن يكون مجموع الفوائد التي يتقاضاها الدائن أكثر من رأس المال] ، وتتضمن التقنيات المدنية العربية الأخرى السوري والليبي والعراقي نصوصا مماثلة عدا تحديد نسبة الفائدة.
ويقول الدكتور السنهوري، وهو الذي وضع أصول القوانين الأربعة المشار إليها في شرحه لهذه المواد:
" ويتكفل القانون بتحديد مقدار الفوائد، والسبب في ذلك كراهية تقليدية للربا، لا في مصر فحسب، ولا في بلاد العالم الإسلامي وحدها، بل في أكثر تشريعات العالم؛ فالربا مكروه في كل البلاد، وفي جميع العصور؛ ومن ثم لجأ(35/107)
المشرع إلى تحديده للتخفيف من رزاياه، وهذا هو المبرر القوي الذي حمل القانون في هذه الحالة على التدخل ".
ثم يقول: " وسنرى فيما يلي كيف كره المشرع المصري الربا، فحدد لفوائد رءوس الأموال سعرا قانونيا وسعرا اتفاقيا، وتشدد في مبدأ سريان هذه الفوائد، وأجاز استرداد ما يدفع زائدا على السعر المقرر، وأعفى المدين في حالات معينة من دفع الفوائد، حتى في الحدود التي قررها، ومنع تقاضي الفوائد على متجمد الفوائد، في هذه وغيرها آيات على كراهية المشرع (المصري) للربا، وعلى الرغبة في التضييق منه "، ثم يقول: " وقد زاد التقنين الجديد على التقنين القديم في كراهية الربا " اهـ الوسيط جزء 3 ص (88) .
وكما يرى القارئ: فإن المفهوم الشائع للربا المشار إليه آنفا ظل في الفقه العربي الحديث محتفظا باسم الربا، مع خروج التقنينات العربية على هذا المفهوم بإباحة بعض صوره على سبيل الاستثناء.
وفي موضع آخر من مصادر الحق ج 2 ص (364) ، يصف الدكتور السنهوري القرض بفائدة بأنه: " أول عقد ربوي في الشرائع الحديثة ".
والمقصود من كل ما سبق أن الربا ظل محتفظا بمفهومه المشار إليه، بالرغم من ممارسة الناس له، إما بصفة قانونية أو بصفة غير قانونية.
إن هذه الحقيقة مهمة جدا؛ لأن هذه الورقة سوف تعود إليها بالإشارة وبالاستدلال، بين حين وآخر.(35/108)
المحاولات التوفيقية:
قبل استعراض هذه المحاولات، من المهم الإشارة إلى بعض الأسس التي سيرجع إليها في المناقشة.
معروف أن لفظ الربا ورد في القرآن الكريم في أربعة مواضع: في سورة الروم.(35/108)
{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} (1) ، وفي سورة آل عمران {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (2) ، وفي سورة النساء {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} (3) ، وفي سورة البقرة {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (4) {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} (5) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (6) {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (7) ، وبعض هذه الآيات نزل في مكة، وبعضها في المدينة، ويلاحظ هنا.
1 - أن كلمة الربا، حيثما تكررت في القرآن، يجب افتراض أن لها مفهوما واحدا، حتى يقوم من الأدلة ما يثبت أنها وردت بمفاهيم مختلفة، ومن غير المنطقي القول بأن الربا في سورة البقرة وآل عمران والروم لا يدخل في مفهوم الربا الوارد في سورة النساء، ولا منازعة في أن هذا اللفظ يقصد به الربا الذي يمارسه اليهود عند نزول الوحي، ولا منازعة في أن الصورة الأصلية لهذا الربا هي دفع الشخص المال لشخص آخر لأجل معلوم في نظير زيادة يدفعها المدين مع رأس المال؛ (أي ما يسمى الآن القرض بفائدة) .
2 - أن بعض الألفاظ في نصوص القرآن والحديث نقلت من معانيها الأصلية إلى معان شرعية؛ كالصلاة نقلت من مجرد الدعاء إلى الحركات الخاصة
__________
(1) سورة الروم الآية 39
(2) سورة آل عمران الآية 130
(3) سورة النساء الآية 161
(4) سورة البقرة الآية 275
(5) سورة البقرة الآية 276
(6) سورة البقرة الآية 278
(7) سورة البقرة الآية 279(35/109)
الشرعية، وكالوضوء نقل إلى الهيئة الخاصة بغسل الأعضاء التي ورد بها الشرع، ولكن ألفاظا أخرى بقيت بمفهومها المعروف عند الناس، وإن كان هذا المفهوم قد ألحق به مفاهيم أخرى، وردت بها النصوص، ومن هذه الألفاظ الأخيرة، مثلا لفظ (الزنا) يدخل فيه بحكم الأصل المفهوم المعروف لدى الناس وقت نزول الوحي، وإن كان قد ألحق به كل اتصال جنسي بين رجل وامرأة لا يقوم بينهما عقد الزوجية الشرعي كالزواج بالمحارم، ومثل (الربا) يدخل فيه بحكم الأصل المفهوم المعروف لدى الناس وقت نزول الوحي، كما يدخل فيه التصرفات المالية التي وردت بها الأحاديث الثابتة، كبيوع ربا الفضل.
وإذن فإن دعوى خروج صور من المفهوم المعروف لدى الناس عند نزول الوحي لكلمة ربا، وادعاء أنه غير مقصود بالنص، دعوى على خلاف الأصل.
3 - مع احتفاظ النصوص بالمفهوم المعروف عند الناس لكلمة الربا، فقد ألحقت بهذا المفهوم في التحريم صور يجمعها في الغالب أنها ذريعة لارتكاب الربا بالمفهوم المعروف، وهذا يعني تأكيد هذا المفهوم وتأكيد حكم التحريم.
4 - إن الربا بالمفهوم المعروف كان يمارس في المجتمع القرشي الجاهلي بصور مختلفة؛ منها الصورة المشهورة حين يحل أجل الدين، فيطلب الدائن من المدين: إما أن يدفع له دينه، أو أن يزيد في قيمته، في نظير تمديد الأجل.
ولكن الصورة الغالبة والشائعة -كما تقتضي طبائع الأشياء- هي الصور الغالبة في المجتمعات الأخرى، وهي ما يطلق عليه في الوقت الحاضر القرض بفائدة، ومعلوم أن الصورتين من جنس واحد هو أخذ الدائن زيادة من جنس الدين في نظير انتفاع المدين بالدين. وعلى هذا الأساس يفهم ما ورد من الأخبار بأن الربا المعروف عند الجاهلية هو صورة إما أن تقضي، وإما أن تربي، فليس المقصود نفي غير هذه الصورة(35/110)
بعينها، وإنما نفي ما هو من غير جنسها، بمعنى آخر نفي الصورة التي تدخل في المعنى الواسع الذي جاء به الإسلام، كربا الفضل مثلا.
5 - وحتى لو افترض أن قريشا في الجاهلية لم تكن تمارس من صور الربا إلا صورة (إما أن تقضي أو تربي) ، فغير قريش كاليهود مثلا بالتأكيد كانوا يمارسون الربا بالصورة الشائعة، والقرآن لما نزل بتحريم ربا الجاهلية لم يقصد جاهلية خاصة، وإنما حرم كل ربا الجاهلية، الموجود عند نزوله، سواء جاهلية قريش أم جاهلية الشعوب الأخرى، ولا يقول عاقل بأن الربا الذي شنع الله به على اليهود، وقرنه بجنسه من جرائمهم من الظلم وأكل أموال الناس بالباطل، وأخبر عن عقابه لهم بسببه في الدنيا والآخرة قد أحله للمسلمين.
وإذا لوحظ ما سبق تبين حقيقة التصورات الوهمية التي بنت عليها غالب المحاولات التوفيقية لقسر الإسلام على قبول الفائدة الربوية، ولا بد من أخذ هذا الأمر بالاعتبار؛ إذ إن هذه الورقة سوف تكرر الإسناد إليه.
وسنبدأ استعراض الحلول التوفيقية، وسوف يكون مرجعنا في الغالب (1) ، مصادر الحق في الفقه الإسلامي الجزء الثالث، في بحث الربا، باعتبار أن هذا المرجع اشتمل على عرض ومناقشة أهم المحاولات التوفيقية.
__________
(1) وبهذا نستغني عن الإشارة إلى هذا المرجع فيما بعد.(35/111)
استعراض المحاولات التوفيقية:
أولا: محاولة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.
وردت عدة فتاوى للشيخ محمد رشيد رضا في المنار، كان هدفها التماس مخرج للمسلمين الذين يودعون أموالهم في البنوك في العالم الإسلامي، وأغلبها بنوك أجنبية، وكلها كانت يدا مبسوطة للمستعمر للتحكم الاقتصادي.(35/111)
فافترض الشيخ محمد رشيد أن الربا الذي كانت تمارسه قريش على صورة واحدة، هي صورة (إما أن تقضي وإما أن تربي) ؛ حيث يوجد دين ناشئ عن بيع أو قرض إلى أجل، وعند حلول الأجل يطلب الدائن من المدين: إما الوفاء أو زيادة الدين، نظير تمديد الأجل، ثم افترض أن الربا الذي صرحت بتحريمه آيات سورة البقرة مقصود به هذه الصورة فقط من صور الربا.
ولما كانت نصوص الحديث الثابتة صريحة في إدخال صور أخرى، ومنها بيوع ربا الفضل؛ حيث يباع مال ربوي كالذهب والتمر بجنسه نقدا، بزيادة نظير الاختلاف في النوعية مثلا، ومنها بيع ربا النسيئة؛ حيث يباع المال الربوي بمثله نسيئة أي إلى أجل بزيادة نظير الأجل، ومن ضمنها ما يسمى في الوقت الحاضر القرض بفائدة، فافترض أن هذه الصور ورد النهي عنها، لا لأنها مقصودة بالنهي بالذات، وإنما لأنها ذريعة إلى الصورة الخاصة من الربا التي افترض أن القرآن ورد بالنهي عنها على نحو ما سبق.
ثم افترض أن النهي في الصور الأخرى يحتمل الكراهة، لا التحريم، أو أن المراد به خلاف الأولى، وأن الراوي فهم أن المراد التحريم.
وبناء على ما سبق رأى أنه يمكن إخراج القروض البنكية بفائدة من مفهوم الربا المحرم؛ فيجوز للمسلم -ولاسيما في ظروف الفتوى- أن يأخذ فائدة عن أمواله التي يودعها في البنك، واضح أن هذه المحاولة تحصر الربا المحرم في منطقة ضيقة جدا من المفهوم المعروف عند الناس للربا، حيث تتحدد هذه المنطقة بصورة من صور الفوائد التأخيرية الاتفاقية، وهي الصورة التي يتم فيها الاتفاق على الربا، عند حلول أجل الدين؛ فهي تخرج من الربا المحرم بالنص كل صور الفوائد التعويضية، سواء كانت فائدة بسيطة أو فائدة مركبة، وسواء كانت فائدة قليلة أو فائدة فاحشة؛ أي أنها تخرج -فيما عدا الصورة المشار إليها- كل الصور التي تحرمها التشريعات العلمانية الحديثة، بما فيها التقنينات العربية، والتي تعتبرها هذه التشريعات والتقنينات من صميم الربا، وتعاقب عليها كأي جريمة جنائية.(35/112)
إن أستاذين كبيرين من أساتذة القانون العربي لم يستطيعا أن يقبلا هذه المحاولة، على أساس أنها تقصر التحريم على صورة مزعومة لربا الجاهلية المحرم؛ فحسب تعبير الدكتور عبد الرزاق السنهوري: " غني عن البيان أن القول بأن ربا الفضل وربا النسيئة إنما نهي عنهما في الحديث الشريف نهي كراهة لا نهي تحريم لا يتفق مع ما أجمعت عليه المذاهب "، " الذي انعقد عليه الإجماع أن كل ذلك ربا محرم، لا ربا مكروه فحسب ".
وحسب تعبير الدكتور زكي الدين بدوي: (قول الشيخ محمد رشيد إن النهي عن بيع الأصناف الواردة في الحديث كان تورعا، لإفادة أن بيعها خلاف الأولى، أو كان للكراهية فقط لا للتحريم فدعوى تتعارض مع ظواهر نصوص الأحاديث، والمأثور عن الصحابة؛ فظاهر الأحاديث يفيد التحريم؛ إذ يطلق على هذه البيوع لفظ ربا، ومعلوم إثمه، وما خص به من شديد الوعيد) " دلالة الأحاديث عليها لا تختلف فيها الإفهام ".
ويضاف إلى اعتراضات الأستاذين المشار إليهما ما يأتي.
1 - لو فرض أن لفظ (الربا) في آيات سورة البقرة (مجملة) فإن القاعدة الأصولية أنه يرجع في تبيين المجمل في القرآن إلى نصوص القرآن، وإلى صحيح السنة النبوية؛ فآية سورة النساء تبين أن مفهوم هذه اللفظة (الربا) الذي اعتاد اليهود على ممارسته، وهو إقراض النقود لأجل بفائدة، وثبوت هذا لا ينازع فيه إلا مكابر، كما أن الأحاديث الثابتة ثبوتا قطعيا، والصريحة في دلالتها لا تجعل مجالا للشك في دخول القرض لأجل بفائدة في مفهوم الربا.
2 - أن الربا بهذا المفهوم هو المعروف عند الناس، عند نزول الوحي، فلا يجوز صرف معناه عن هذا المفهوم إلا بدليل، ولم تقدم المحاولة دليلا قويا أو ضعيفا ثابتا أو غير ثابت على ذلك.
3 - أن صرف اللفظ إلى هذا المفهوم الضيق يخرج ربا النسيئة عن مفهوم الربا المحرم، وهذا مخالف لإجماع الأمة، من عصر الرسول صلى الله(35/113)
عليه وسلم، حتى عصر الشيخ محمد رشيد؛ إذ لم يوجد فضلا عن أن ينقل خلاف في تحريم ربا النسيئة ولا سيما ربا النسيئة في الأثمان - القرض لأجل بفائدة.
4 - تمييز الشيخ محمد رشيد بين الصور الخاصة من الربا التي قصر عليها التحريم بأنها منهي عنها لذاتها، وصور ربا النسيئة الأخرى بأنها منهي عنها لغيرها؛ أي لكونها ذريعة إلى الصورة الأولى تمييز تحكمي لا دليل عليه.
5 - يكفي في وضوح أن الافتراض الذي أسست عليه المحاولة هو تصور وهمي لا حقيقة له معرفة أن هذا الافتراض يقضي بأن الإسلام يجيز عددا من صور ربا النسيئة التي استقر في الضمير الإنساني كراهيتها، واعتبارها سلوكا غير أخلاقي، بل إن التشريعات العلمانية تحرمها وتجرمها وتعاقب عليها.(35/114)
ثانيا: محاولة الدكتور معروف الدواليبي:
في أسبوع الفقه الإسلامي المنعقد في باريس عام 1951، قدم الدكتور معروف الدواليبي محاولة لإباحة الفوائد البنكية وشبهها، وملخص هذه المحاولة: افتراض أن الربا المحرم إنما يكون في القروض التي يقصد بها إلى الاستهلاك، لا إلى الإنتاج؛ ففي هذه المنطقة منطقة الاستهلاك يستغل المرابون حاجة المعوزين والفقراء، ويرهقونهم بما يفرضون عليهم من ربا فاحش، أما اليوم وقد انتشرت الشركات، وأصبحت القروض أكثرها قروض إنتاج لا استهلاك فإن من الواجب النظر فيما يقتضيه هذا التطور في الواقع، من تطور في الأحكام، ويتضح ذلك بوجه خاص عندما تقترض الشركات الكبيرة والحكومات من صغار المدخرين؛ فإن الآلة تنعكس والوضع ينقلب، ويصبح المقترض -أي الشركات والحكومات- هو الجانب القوي المستغل، ويصبح المقرض -أي صغار المدخرين- هو الجانب الضعيف الذي تجب حمايته، فيجب إذن أن يكون لقروض الإنتاج حكمها في الفقه الإسلامي، ويجب أن يتمشى هذا الحكم مع طبيعة هذه القروض، وهي طبيعة تغاير مغايرة تامة طبيعة قروض(35/114)
الاستهلاك، والحل الصحيح أن تباح قروض الإنتاج بقيود وفائدة معقولة، ويمكن أن تخرج إباحة مثل هذه القروض على قاعدة أن الضرورات تبيح المحرمات، أو قاعدة تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، كما لو تدرع العدو بمسلم، فلا بد من قتل المسلم حتى يمكن الوصول إلى العدو.
ويرد الدكتور السنهوري هذه المحاولة بأنه: أولا: يصعب كثيرا من الناحية العملية التمييز بين قروض الإنتاج وقروض الاستهلاك، حتى تباح الفائدة المعقولة في الأولى وتحرم إطلاقا في الثانية، وقد يكون واضحا في بعض الحالات أن القروض قروض إنتاج، كما هو في العقود التي تعقدها الحكومات والشركات كمقترض، ولكن هناك صورا أخرى من الإقراض أكثرها وقوعا القروض التي يعقدها الأفراد مع المصارف والمنظمات المالية، فهل هي قروض إنتاج تباح فيها الفائدة، أو هي قروض استهلاك لا تجوز فيها؟ وهل نستطيع التمييز في كل حالة على حدة؛ فنبيح هنا ونحرم هناك؟ ظاهر أن هذا التمييز متعذر، فلا بد إذن من أحد أمرين: إما أن تباح الفائدة في جميع القروض، وإما أن تحرم في جميعها، وإذا افترضنا جدلا أنه يمكن تمييز قروض الإنتاج عن قروض الاستهلاك فإن تخريج جواز الفائدة في هذه القروض على قاعدة أن الضرورة تبيح المحظور لا يستقيم؛ فالضرورة في هذه القاعدة بالمعنى الشرعي ليست قائمة، وإنما قد تقوم الحاجة، ويجب التمييز في الحكم بين الأمرين الضرورة والحاجة.
ويضاف إلى رد الدكتور السنهوري ما يأتي.
ا - أن المحاولة تقيد مطلق لفظ الربا الوارد في النصوص، وتقييد المطلق يجب أن يتم وفق القواعد الأصولية المعروفة؛ فيجب أن يستند إلى دليل ثابت، ولم تقدم المحاولة دليلا ثابتا ولا غير ثابت، وتقييد مطلق النص بمجرد الرأي والذوق محض تحكم.
2 - أن تقييد مطلق اللفظ على النحو الذي ذهبت إليه المحاولة مخالفة لإجماع الأمة من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وقت المحاولة.(35/115)
3 - أن المحاولة مبنية على افتراض أن الحكمة من تحريم الربا منع استغلال الفقير، وأن هذه الحكمة منتفية في قروض الإنتاج، فينبغي أن ينتفي التحريم. إن هذا الافتراض مبني على تصور مخالف للقاعدة الأصولية؛ فأين الدليل على أن ما ذكر هو كل الحكمة من تحريم الربا؟ ولو فرضنا أن هذا هو كل الحكمة من تحريم الربا فإن القاعدة الأصولية أن الأحكام تدور مع العلة لا مع الحكمة؛ فمثلا الحكمة من قصر الصلاة في السفر -كما قيل- منع المشقة عن المصلي، ولكن وجود هذا الأمر في غير حالات السفر لا يبيح القصر، فلا يجوز للمريض قصر الصلاة، ولو كان إتمامها يشق عليه أكثر من المسافر، ويباح قصر الصلاة للمسافر، ولو انتفت المشقة كما في حالة المترفه في سفره.
إن القول بأن الحكمة من تحريم الربا منع استغلال الفقير، فإذا انتفى الاستغلال جاز الربا، هو تماما مثل أن يقول قائل: إن الحكمة من تحريم الزنا هو حفظ النسب، فإذا انتفى ضياع النسب بالزنا كما في حالة التعقيم انتفى التحريم.
4 - أن هذا السبب المزعوم لتحريم الربا، وهو منع استغلال حاجة الفقير لا يدور وجودا وعدما مع كون القرض الربوي قرض إنتاج أو استهلاك، فاستغلال الحاجة منتف في بعض القروض الاستهلاكية، كما في اقتراض الثري لشراء يخت للنزهة مثلا، وهو هنا قرض مستهلك، واستغلال الحاجة موجود في بعض القروض الإنتاجية حالة اقتراض الحرفي الفقير لشراء ورشة يستغلها لكسب عيشه، وهو هنا قرض إنتاج.
5 - لو سلم جدلا بأن الحكمة هي مناط الحكم، فمن قال أن كل الحكمة في تحريم الربا هي منع استغلال المقرض لحاجة المقترض؛ أي منع الأثر الضار في جانب المقترض؟ ألا يمكن أن يكون من الحكمة منع الأثر الضار للربا على المقرض؟ إن الآية الكريمة -في الواقع- أشارت إلى هذا الضرر بالنص على أن المقرض الذي يأكل الربا يقوم كما يقوم الذي(35/116)
يتخبطه الشيطان من المس، ويتعرض للمحق؛ فلا يربو قرضه عند الله، وذلك في مقابل الإشارة إلى أن المتصدق ينمو ماله، ويطهر وتتزكى نفسه، فلو انتفى الأثر الضار للربا على المقترض جدلا لبقي الأثر الضار للربا على المقرض.
ثم ما الذي يبرر أن نغفل عن الحكمة في تحريم الربا منع الأثر الضار على المجتمع، وقد أفاضت الكتابات قديما وحديثا في بيان الآثار السلبية للربا على المجتمع، سواء كانت هذه الآثار نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية.
6 - لو افترض أن الحكمة من تحريم الربا هي منع استغلال حاجة المحتاج إلى المال، وافترض ارتفاع هذه المفسدة في حالة معينة فإن القول بحل الربا في هذه الحالات يكون مماثلا تماما لقول القائل: إن الحكمة من تحريم الزنا منع اختلاط الأنساب، فإذا ارتفعت هذه المفسدة في حالة معينة، كحالة استعمال منع الحمل، أو كون الرجل عقيما، أو المرأة عاقرا صار الزنا حلالا في هذه الحالات.
7 - لقد افترضت المحاولة أن الحكمة من منع الربا هي حماية المقترض؛ لأنه الجانب الضعيف المحتاج للحماية، في حين أن المقترض في هذا العصر بنوك وحكومات هو الجانب القوي، أما المقرض فهم صغار المدخرين، فهم الجانب الضعيف المحتاج للحماية، لقد ركزت المحاولة على عملية القرض حينما يكون البنك مقترضا؛ أي متلقيا للودائع، وغفلت عن أن البنك سوف يعود، ولا يزال هو الجانب القوي، فيكون مقرضا، والمقرضون بالنسبة إليه جانب ضعيف، يستغل البنك حاجتهم للقرض، ولولا الحاجة ما اقترضوا.
8 - إن الحكمة المزعومة وصف غير منضبط، تعتمد في الغالب على النية الباطنة، يتضح هذا بمثال من يقترض لشراء سيارة؛ فقد يشتريها لغرض توصيل أولاده للمدرسة، أو لغرض استعمالها لمتطلبات مؤسسة تجارية، أو لاستخدامها للتأجير، فمتى يعتبر القرض قرض إنتاج لا تتوفر فيه حكمة(35/117)
المنع أو قرض استهلاك تتوفر فيه؟
والأحكام التشريعية لا تبني على الأوصاف غير المنضبطة، وإنما قد تبني عليها الأحكام الخلقية، وهكذا فلا يمكن تصور قانون يصدر معتمدا في بناء أحكامه على مجرد الحكمة بما هي وصف غير منضبط، والإسلام ليس فقط عقيدة أو أحكاما متعلقة بالضمير، وإنما هو شريعة وقانون، وهذا هو السبب في أن القاعدة الأصولية اعتبرت العلة مناطا للحكم، ولم تعتبر الحكمة، والعلة في فقه القواعد الأصولية وصف منضبط.
9 - إن كل ما تقدم يفسر أن المفهوم الشائع والمعروف للربا عند جميع الشعوب وفي مختلف العصور لم يعرف مثل هذه التفرقة التي أسست عليها المحاولة، وغرابة الفكرة كافية لعدم الانخداع بالبريق الشكلي لها.
لقد كنت أظن أن الدكتور معروف الدواليبي بعد أن اطلع على نقد الناقدين لمحاولته وتبينه عدم صحة الأساس الذي بنيت عليه قد تخلى عنها، ويبدو أن هذا قد حصل فعلا، ولكن بطريقة غريبة؛ إذ يبدو أنه بعد اطلاعه على مصادر الحق للدكتور السنهوري حاول أن يرقع محاولته بالأخذ بالمحاولات الأخرى التي شرحها كتاب مصادر الحق. إن هذا ما يظهر من بحث د. الدواليبي المنشور والمتداول بعنوان " حول موقف الشريعة من المصارف "الأحكام والقواعد العامة الشرعية ".
فقد استند إلى محاولة الشيخ محمد رشيد رضا المنوه عنها آنفا بادعاء أن الربا المحرم هو الربا الذي يعقد بعد حلول دين سابق؛ لتأجيل هذا الدين بعد حلوله، وقد سمى د. معروف هذا الربا ب "الربا القرآني! ".
كما أخذ بالفكرة التي بنيت عليها محاولة الدكتور السنهوري التي سيأتي الكلام عنها لاحقا، وذلك بادعاء أن الربا الذي يسميه "الربا القرآني " هو المحرم تحريم الغايات، وأن ما عداه من أنواع الربا محرم تحريم وسائل؛ لقد صنع د. معروف مثل ما يصنع الطبيب الذي لا يتبين له عند الكشف على مريضه طبيعة المرض، وإنما تقوم لديه احتمالات ثلاثة مثلا فيصرف لمريضه ثلاثة أدوية(35/118)
بافتراض إن لم يفد أحد الأدوية فسيفيد الآخر، ولكن الفرق أن الطبيب لا يصف ثلاثة أدوية متعارضة، أما بحث د. معروف فيستند إلى أفكار متناقضة في أسسها، ومن الطبيعي أن تكون متعارضة في نتائجها؛ إن د. معروف لم ينتبه إلى استحالة هذا التفكير من ناحية المنطق العام.
إن الإنسان لا يمكن أن يسير في وقت واحد في اتجاهين متعارضين، ولكن بحث د. معروف يسير في وقت واحد في اتجاه الشرق والغرب والشمال والجنوب، ليس أكثر من هذا دلالة على أن محاولة د. معروف الجديدة غير جادة، وعدم جدية المحاولة يجعل مناقشة الفكرة غير ذات جدوى؛ إن د. معروف يريد فقط أن يقول: إن القروض بفائدة غير محرمة، ولا يهمه على أي أساس استند هذا القول.(35/119)
ثالثا: وجدت محاولة ثالثة لعدد من الكتاب ملخصها:
أن القرض بفائدة هو القرض الذي جر منفعة في كلام الفقهاء، وهذا القرض ليس هو الربا المحرم بالنص، وإنما هو مقيس عليه، وليس هو الربا المحرم، وإنما يشتمل على شبهة الربا، وهذا هو السبب في تحريمه عند من يرى تحريمه من الفقهاء، والدليل الذي يستند عليه في تحريم مثل هذا القرض حديث: «كل قرض جر نفعا فهو ربا» ، وهذا الحديث معلول وليس ثابتا، وتحريم القرض الذي جر نفعا تحريمه موضع خلاف بين الفقهاء، بل إنه في بعض صوره جائز عند أكثرهم.
يقول الدكتور السنهوري: (قد يكون غريبا أننا لم نعالج في صور الربا حتى الآن الصورة المألوفة التي تتكرر كل يوم، وهي صورة القرض بفائدة؛ فإن جميع أنواع الربا التي عرضنا لها إنما هي بيوع لا قروض، فهل القرض يدخل في العقود الربوية؟ يبدو هذا السؤال غريبا، فإن القرض هو أول عقد ربوي في الشرائع الحديثة، ولكن الواقع أن القرض في الفقه الإسلامي ليس أصلا من أصول العقود الربوية؛ إذ البيع هو الأصل، ويقاس على البيع الربوي القرض الذي يجر منفعة) (ويتبين من النصوص أن القرض إذا(35/119)
تضمن زيادة مشروطة، وهذه هي الفائدة بعينها، فإن هذا لا يجوز، ولكن لا لأن الزيادة المشروطة ربا، بل لأنها تشبه الربا؟ والتحرز عن حقيقة الربا وعن شبهة الربا واجب) .
إن المحاولة تستند على تصور وهمي؛ فهي مؤسسة على وهم لا على حقيقة، وهذا ظاهر من أن أصحاب المحاولة فهموا أن القرض في لغة الفقه الحديث هو القرض في اصطلاح الفقه الإسلامي، ولم ينتبهوا إلى أنه مع اتفاق الألفاظ فإن طبيعة العقدين مختلفة؛ فالقرض في لغة البنوك أو لغة الفقه الحديث وهو القرض بفائدة عقد معاوضة ومشاحة، الأجل عنصر لازم فيه، أما القرض في اصطلاح الفقه الإسلامي فهو عقد تبرع وإرفاق، والأجل ليس بلازم فيه، يقول الكاساني في البدائع جزء7 ص 396: (والأجل لا يلزم في القرض، سواء كان مشروطا في العقد أو متأخرا عنه، بخلاف سائر الديون، والفرق من وجهين: أحدهما أن القرض تبرع، ألا ترى أنه لا يقابله عوض للحال، ولا يملكه من لا يملك التبرع، فلو لزمه الأجل لم يبق تبرعا، فيتغير المشروط بخلاف الديون، والثاني أن القرض يسلك به مسلك العارية، والأجل لا يلزم في العواري) .
إن القرض في اصطلاح الفقه الإسلامي في مقابل القرض بفائدة في الاصطلاح المعاصر في مستوى عقد العارية في مقابل عقد الكراء.
إن القرض بفائدة في الاصطلاح الحديث يسمى في اصطلاح الفقه الإسلامي بيعا ربويا، وبحثه أساسا إنما يتم في باب الربا، لا في باب القرض، إنما يقابل القرض في اصطلاح الفقه الإسلامي ما يسمى في العصر الحاضر بالقرض الحسن.
يقع في هذا المفهوم الخاطئ الكتاب الإسلاميون غير المختصين في الفقه؛ ولذلك يستشهدون على تحريم الربا بالحديث: «كل قرض جر نفعا فهو ربا» ، كما أن الكتاب الذين يميلون إلى إباحة القروض البنكية المعاصرة يجادلون بأن هذا الحديث معلول. في حين أن الفقهاء لا يستدلون بهذا الحديث على(35/120)
تحريم الربا؛ ولذلك لا يوردونه في باب الربا، وإنما يوردونه في باب القرض بالاصطلاح الإسلامي، ويقصد بجر القرض للمنفعة أي فائدة طارئة يستفيد بها المقرض في القرض الحسن، ومن أمثلة ذلك التي يذكرها الفقهاء مكافأة المقترض للمقرض، اعترافا بجميله وردا لإحسانه بالقرض بدون شرط، أو شرط المقرض أمرا يستفيد منه (دون زيادة في مبلغ القرض) ، كما لو شرط الوفاء في بلد آخر؛ لأن له غرضا في الوفاء فيه، فيستفيد بهذا الشرط إسقاط خطر الطريق، وهذا هو الذي وقع فيه الخلاف، أما لو أقرضه لأجل، بشرط أن يرد إليه مبلغ القرض بزيادة فهذا لا خلاف بين الفقهاء على تحريمه؛ لأن العقد ينقلب في هذه الحال من قرض بالاصطلاح الفقهي الإسلامي إلى بيع ربوي.(35/121)
رابعا: محاولة السنهوري:
ومضمون هذه المحاولة -كما يلخصه أستاذنا الدكتور عبد الرزاق السنهوري، غفر الله له- بما يأتي: " الأصل في الربا في جميع صوره التحريم، سواء كان ربا الجاهلية أو ربا النسيئة أو ربا الفضل أو ربا القرض، على أن هناك صورة هي أشنع هذه الصور وأشدها استغلالا للمعوز والفقير، وهي الصورة التي نزل فيها القرآن منذرا ومتوعدا؛ صورة الربا الذي تعودته العرب في الجاهلية، فيأتي الدائن مدينه عند حلول أجل الدين، ويقول: إما أن تقضي وإما أن تربي.
والإرباء معناه أن يزيد الدين على المستحق، في مقابل إطالة الأجل، وهذا أشبه بما نسميه اليوم بالفوائد أو الربح المركب، هذه الصورة من الربا في العصر الحاضر هي التي تقابل ربا الجاهلية، وهي محرمة تحريما قاطعا لذاتها، تحريم مقاصد لا تحريم وسائل؛ فهي التي تجر الويل على المدين، وتضاعف رأس المال في سنوات قليلة، وهي الصورة التي محقها الله في القرآن الكريم؛ ومن ثم لا يجوز الربا في هذه الصورة أصلا، بل إن نظرية الضرورة ذاتها لا تتسع لهذا الجواز؛ فإن الضرورة الملحة التي تلجئ كلا من المدين والدائن على التعامل بالربا على هذا النحو الضرورة التي يكون من شأنها أن تبيح الميتة والدم(35/121)
لا يمكن تصورها، وحتى إذا أمكن تصورها في حق المدين، فإنه لا يمكن تصورها في حق الدائن.
أما الصور الأخرى من الربا، الفائدة البسيطة للقرض وربا النسيئة وربا الفضل، فهذه أيضا محرمة، ولكن التحريم هنا تحريم للوسائل لا للمقاصد، وقد حرمت سدا للذرائع، ومن ثم يكون الأصل فيها التحريم، وتجوز استثناء، إذا قامت الحاجة إليها، والحاجة هنا معناها مصلحة راجحة، في صورة معينة من صور الربا، تفوت إذا بقي التحريم على أصله، عند ذلك يجوز هذه الصورة، استثناء من أصل التحريم، وتجوز بقدر الحاجة القائمة، فإذا ارتفعت الحاجة عاد التحريم، وفي نظام اقتصادي رأسمالي -كالنظام القائم في الوقت الحاضر في كثير من البلاد- تدعو الحاجة العامة الشاملة إلى حصول العامل على رأس المال اللازم حتى يستغله بعمله.
وقد أصبحت شركات المضاربة والقراض ونحوها غير كافية للحصول على رأس المال اللازم، حقا إن شركات المساهمة وشركات التوصية تسمح في كثير من الأحوال بأن يستثمر صاحب رأس المال ماله في شراء أسهم هذه الشركات، فيشترك في الربح والخسارة، ولكن القروض هي الوسيلة الأولى في النظام الاقتصادي الرأسمالي للحصول على رءوس الأموال، فما دامت الحاجة قائمة للحصول على رأس المال من طريق القرض، وما دام رأس المال ليس ملك الدولة، بل هو ملك الفرد فمن حقه أن يبغي عليه أجرا معتدلا، لا يظلم فيه ولا يظلم، ما دامت الحاجة قائمة إلى كل ذلك فإن فائدة رأس المال في الحدود المذكورة تكون جائزة، استثناء من أصل التحريم.
نقول في الحدود المذكورة، ونقصد بذلك أولا: أنه لا يجوز بحال -مهما كانت الحاجة قائمة- أن نتقاضى فوائد على متجمد الفوائد، ثانيا: وحتى بالنسبة للفائدة البسيطة، يجب أن يرسم لها المشرع حدودا لا تتعداها، وذلك حتى تقدر الحاجة بقدرها، وحتى بعد كل هذا فإن الحاجة إلى الفائدة لا تقوم إلا في نظام رأسمالي كالنظام القائم، فإذا تغير هذا النظام، عند ذلك يعاد النظر في تقدير الحاجة، فقد لا تقوم الحاجة، فيعود الربا إلى أصله من التحريم".(35/122)
المناقشة:
قبل أن نبدأ مناقشة هذه المحاولة، لا بد من الإشارة إلى أنها تعتبر أذكى المحاولات، وأكثرها اعتدالا، وأقربها إلى شكل المنطق الفقهي، وأحراها بالقبول لو بنيت على أسس حقيقية، ولكن عقب " أخيلوس " (1) ، في هذه المحاولة، ونقطة الضعف فيها هي نفسها الموجودة في المحاولة الأولى (محاولة الشيخ محمد رشيد رضا) ، وهي البناء على افتراضات غير صحيحة، فهي تفترض:
أولا: أن القرآن نزل بتحريم الربا الذي يمارسه العرب في الجاهلية دون غيره من صور الربا.
ثانيا: افتراض أن الربا الذي يمارسه العرب في الجاهلية قاصر على صورة من صور الربا، وهي صورة إما أن تقضي أو تربي.
ثالثا: أنه وإن كان ولاشك في تحريم كل صور الربا الأخرى بثبوت النصوص، وصراحة دلالتها على التحريم فإن الصور الأخرى محرمة تحريم وسائل، لا تحريم مقاصد؛ بحيث تجوز عند الحاجة وبقدرها.
رابعا: أن الحاجة التي يعتبرها الشرع للرخصة في فعل ما حرم لغيره أو ما حرم تحريم وسائل قائمة في قضية الحال.
وقد أوضحنا عند مناقشة المحاولة الأولى عدم صحة الافتراضين الأولين؛ فالقرآن نزل بتحريم الربا الذي تمارسه كل الجاهليات، وليس جاهلية العرب وحدهم، والعرب في الجاهلية لم تكن ممارستهم للربا قاصرة
__________
(1) في الميثولوجي القديمة عقب البطل الأسطوري أخيلوس، هو نقطة الضعف في جسمه التي بإصابتها يمكن موته.(35/123)
على صورة (إما أن تقضي أو تربي) ، وذلك بدلالة النصوص، وبدلالة ما تقتضيه طبائع الأمور في بيئة تجارية، سبقت الإشارة إلى وصفها، والوهم الذي نشأ عن فهم ما ورد من أن قريشا أو العرب في الجاهلية كانوا يعرفون أو يمارسون فقط صورة (إما أن تقضي أو تربي) ، بأن المقصود أنهم لا يعرفون غير هذه الصور، هذا الوهم أوجبه الغفلة عن النصوص الأخرى، وعن استيعاب الأسلوب العربي في التعبير؛ إذ ترد مثل هذه العبارة، ولا يقصد بها عين الصورة التي وردت بها، وإنما جنسها؛ فيقصد بالعبارة هنا جنس الصورة الشاملة لكل ربا النسيئة، أو على الأقل لربا النسيئة في الأثمان، وهذا ما فهمه الفقهاء الأقدمون، كما هو واضح من كلام ابن القيم في أعلام الموقعين مثلا.
ولو سلم بالافتراض الثاني جدلا فلا شك أن التحريم الوارد في القرآن في آيات البقرة شامل لربا جاهلية اليهود مثلا، بدليل آية النساء، ولم يقل أحد إن اليهود لم يكونوا يمارسون من الربا إلا صورة إما أن تقضي أو تربي.
والافتراض الثالث: أن صور الربا -عدا صورة إما أن تقضي أو تربي- محرم تحريم وسائل لا مقاصد غير صحيح؛ لأنه مجرد دعوى بدون دليل، والتفريق بين ما حرم تحريم مقاصد، وما حرم تحريم وسائل لا بد من ثبوته بالدليل، وابن القيم الذي أخذ منه السنهوري فكرة التفريق بين ما حرم تحريم وسائل، وما حرم تحريم مقاصد لم يصف ربا النسيئة بأنه محرم تحريم مقاصد، وربا الفضل بأنه محرم تحريم وسائل بمجرد الرأي، أو بناء على الاحتمال، وإنما بناء على الدليل المنصوص، وهو حديث أسامة: «إنما الربا في النسيئة (1) » ، وحديث أبي سعيد: «فإني أخاف عليكم الرما (2) » ؛ أي الربا، حيث الحصر في الحديث الأول يدل على تميز ربا النسيئة بأنه ربا كامل حقيقي، وحيث إن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في الحديث الثاني بعلة تحريم ربا الفضل، وهو خوف الوقوع في الربا الحقيقي.
بقي التنبيه على فارق فني دقيق بين افتراض محاولة الشيخ رشيد رضا أن ربا الجاهلية المحرم هو صورة إما أن تقضي أو تربي، وافتراض محاولة الأستاذ السنهوري أن ربا الجاهلية المحرم تحريم مقاصد هو الربح المركب، واقتضاء الفوائد على متجمد الفوائد.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/109) .(35/124)
أن حقيقة صورة (إما أن تقضي أو تربي) الاتفاق بين الدائن والمدين، عند حلول أجل الدين، (مهما كانت صفته، سواء كان ناشئا عن بيع أم عن قرض) ، على زيادة في الدين مقابل تمديد الأجل، وحقيقة هذه المعاملة أنها فائدة تأخيرية اتفاقية، تم الاتفاق عليها بين الدائن والمدين عند حلول أجل الدين.
ومثل هذه المعاملة لا تتم بالضرورة في صورة الربح المركب، بل إنه يمكن أن تتم صورة الفائدة البسيطة، كما أنه من ناحية أخرى يمكن الاتفاق على الربح المركب، أو على سعر مختلف للفائدة، عند إبرام الاتفاق على الدين لأول مرة. أما صورة (أن تقضي أو تربي) فإنما يتم الاتفاق عليها عند حلول أجل الدين.
وتحوير صورة إما أن تقضي أو تربي إلى صورة الربح المركب نقطة ضعف إضافية، تحسب على محاولة الأستاذ السنهوري. لا سيما، وأنه لم يقدم دليلا يستند إليه في هذا التحوير.
والافتراض الرابع بأن الحاجة قائمة لإباحة الفائدة البسيطة، على سبيل الاستثناء، بسبب أن النظام الاقتصادي أو المصرفي القائم في البلاد هو النظام الرأسمالي الغربي، وأن القروض في هذا النظام هي الوسيلة الأولى للحصول على رأس المال اللازم للمشروعات الإنتاجية، هذا الافتراض مردود؛ (أولا) بأنه يمكن المنازعة في أن القروض هي الوسيلة الأولى لتمويل الاستثمار، حتى في النظام الرأسمالي الغربي، والواقع لا يشهد لهذه الدعوى؛ فمثلا في الولايات المتحدة في عام 1980 م من جملة إجمالي الإنفاق الرأسمالي البالغ 1‚ 299 بليون دولار في المنشآت والشركات غير المالية، تم التمويل عن طريق القروض بمبلغ 2‚ 28 مليون دولار؛ أي أقل من نسبة 5‚ 9%.
ومردود (ثانيا) بأن الحاجة المعتبرة شرعا هي التي يلجأ إليها الإنسان، ولا اختيار له عنها، ومعروف أن القوانين -وهي من صنع الإنسان- تغييرها في مجال إرادة الإنسان، فلو أراد أي بلد إسلامي تغيير النظام المصرفي الرأسمالي، القائم على الفائدة لأمكنه ذلك على الأقل بالنسبة للمعاملات المحلية، وقد أثبتت التجارب المعاشة إمكانية ذلك في الواقع.(35/125)
وقد وقع الأستاذ السنهوري في وهم غريب، عندما نقل عن ابن عباس وبعض الصحابة أنهم خالفوا الجمهور في عدم تحريم ربا النسيئة وربا الفضل، عدا الصورة المشهورة؛ إما أن تقضي أو تربي، وهي التي افترض أنها صورة الربا الوحيدة المعروفة في الجاهلية، والغرابة تأتي من أن في نقول الأستاذ نفسه ما ينفي هذا الوهم، (انظر مثلا ما نقله عن ابن رشد في مصادر الحق ج 3 ص، 248) ، كما أن الثابت قطعا أن الخلاف الذي نسب إلى ابن عباس وبعض الصحابة إنما يتناول ربا الفضل، لا ربا النسيئة؛ لأن الخلاف مؤسس على ما يقتضيه الحصر في حديث أسامة: «إنما الربا في النسيئة (1) » ، أما ربا النسيئة كله فلم ينقل أي خلاف في تحريمه، بل الأمة مجمعة على تحريمه، على أنا لا نطيل الحديث عن هذا الوهم؛ لأنه ليس أساسيا في محاولة الأستاذ السنهوري، وإن كان له أثر عليها.
بقي أن ينوه بأن محاولة الأستاذ السنهوري امتازت عن المحاولات الثلاث الأولى: بأنها نجت من الوقوع في الخطأ الجسيم وهو إباحة القروض بفائدة على الإطلاق، فقد اعترفت محاولة السنهوري بثبوت النصوص وصراحة دلالتها على تحريم كل صور الربا، بما فيها صورة القرض بفائدة، سواء كانت تأخيرية أو تعويضية، وسواء كانت بسيطة أم مركبة. وأن الأصل في كل صور الربا التحريم، وحينما حاولت الترخيص في القروض بفائدة في بعض صورها على سبيل الاستثناء حددت هذه الرخصة بنطاق الحاجة، وبقدر ما تقضي به، ونوهت أنه حينما تنتفي الحاجة ترجع الصورة المرخص فيها إلى أصل التحريم.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1596) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4581) ، سنن ابن ماجه التجارات (2257) ، سنن الدارمي البيوع (2580) .(35/126)
مستقبل المحاولات التوفيقية:
رأينا -فيما سبق- أن كل المحاولات اشتركت في نقطة ضعف هي بالنسبة لها مثل عقور إخيلوس في الميثولوجيا القديمة؛ إذ تشترك في محاولة إخراج صور القرض بفائدة من مفهوم ربا النسيئة، وهذا الربا بجميع صوره محرم بالإجماع، والنصوص الواردة بتحريمه قطعية الثبوت؛ إذ هي إما نصوص القرآن، أو نصوص الحديث المتواتر تواترا معنويا، وقطعية الدلالة، وتحريم ربا(35/126)
النسيئة بمختلف صوره، سواء كان في الأثمان أم في غيرها من الأموال الربوية التي ورد بها النص، وأجمعت عليها الأمة، من ضروريات الدين، ومعروف حكم استباحة ما تحريمه معلوم من الدين بالضرورة.
ولهذا؛ فإن المانع وجد وسيظل باقيا مشكلا الاستحالة الشرعية لقبول أي محاولة لإباحة القروض البنكية بفائدة، وإذا كان لا بد لوجود أي وضع شرعي صحيح من انتفاء المانع ووجود الموجب فهل يوجد موجب لمثل المحاولات التوفيقية موضوع المناقشة؟ إن فكرة "الموجب " المستحيلة والتي سيطرت على أذهان أصحاب المحاولات التوفيقية في الماضي ينبغي بحكم الظروف المتغيرة أن تكون قد تزعزعت في الوقت الحاضر.(35/127)
لماذا لا يوجد موجب لمحاولة إباحة القروض بفائدة؟
في خلال الثلاثين سنة الماضية حدثت تطورات مهمة ملخصها فيما يلي:
أولا: لقد تغير اتجاه حل الإشكال الاقتصادي المشار إليه في مقدمة هذه الورقة إلى الاتجاه الصحيح، فبدلا من افتراض أن النظام الاقتصادي الرأسمالي بمؤسساته ووسائله ونظمه هو قدر البلاد وواقعها الذي لا سبيل إلى الإفلات من قيوده، وأنه وقد تعذر تغيير الواقع لتنسجم مع الإسلام فلا بد من تغيير الأحكام الإسلامية لتنسجم مع الواقع، بدلا من ذلك اكتشف الوعي الإسلامي (نتيجة للدراسات المتعمقة في الفقه الإسلامي، ومحاولة استفادة الحلول منه) أن تغيير الواقع غير مستحيل.
لقد وجد كم كبير ومبارك من الكتابات التي عنيت بإيضاح الوسائل الشرعية البديلة، سواء أكان ذلك في مجال الاستثمار أو التمويل، وإلى تطوير الصيغ والأدوات المصرفية وتحويرها لكي تقوم بالوظائف المطلوبة منها، وفي الوقت نفسه تكون موافقة للشريعة.(35/127)
ثانيا: إن الأفكار النظرية وحدها لم تكن لتقوى على تحرير الفكر، وزعزعة التصور الذي ساد قبل ثلاثين عاما في أذهان المثقفين المسلمين عن نظام الفائدة الربوية، لو لم توجد إمكانية لوضع تلك الأفكار النظرية موضع التطبيق، ولو لم تتح فرصة اختبارها في ظروف الواقع، واجتيازها لهذا الاختبار بنجاح.
وقد أمكن في خلال السنوات الماضية وجود أكثر من خمسين مؤسسة مصرفية تستخدم الأساليب الإسلامية، وتحرر معاملاتها من الفائدة الربوية، وقد حاز بعضها نجاحا كبيرا بمختلف المعايير، صحيح أن عددا قليلا منها لم يوفق تمام التوفيق بسبب سوء الإدارة لنقص الإخلاص أو نقص الكفاءة، أو بسبب ظروف خارجية، ولكن نجاح مؤسسة من هذه المؤسسات دليل كاف على كفاءة الأساليب المالية الإسلامية التي طبقتها؛ إذ لو تخلفت كفاءتها لاستحال نجاح المؤسسة، وعلى العكس من ذلك فإن فشل بعض هذه المؤسسات لا يدل على عدم كفاءة الأساليب الإسلامية؛ لأن الفشل له أسباب كثيرة أخرى كما أشرنا.
ويجب أن نتذكر أنه في تجارب العامل مع المؤسسات المصرفية التي اعتمدت نظام الفائدة الربوي تكررت الإخفاقات، ولا حاجة للتذكير بأبرزها في المملكة العربية السعودية، وهو انهيار البنك الوطني؛ لأنه كابوس لا ينسى.
ولم يقتصر الأمر على قيام مؤسسات مصرفية تعتمد الأساليب المالية الإسلامية، بل إن أكبر دولة إسلامية بعد أندونيسيا -وهي الباكستان - أعلنت تقريرها عام 1985 تؤكد فيه: أنها حررت فروع بنوكها المحلية البالغة 7000 فرع من نظام الفائدة، وذلك باستثناء الاتفاقيات السابقة والمعاملات مع الخارج، كما انتهى الأمر بمجموعة الدول الإسلامية إلى أن تتفق على إنشاء بنك للتنمية يسعى لتحقيق أهدافه، ويؤدي أعماله، ملتزما عدم مخالفة أحكام الشريعة، ومتحررا من لعنة الربا، فقام البنك الإسلامي للتنمية ويسير في طريقه بخطى ثابتة.(35/128)
ثالثا: مع أن النقد الذي يوجه من قبل علماء الاقتصاد لنظام الفائدة قديم إلا أنه في الآونة الأخيرة برز الاهتمام بهذا الموضوع على نطاق واسع، وذلك كأثر لمجموعة من التجارب، وإنجاز عديد من الدراسات والإحصاءات، وقد انقشعت الغشاوة عن عدد من علماء الاقتصاد المسلمين الذين درسوا الاقتصاد الغربي، وأدركوا نقط الضعف فيه، فلم تعد تلك الهالة المضيئة التي تحيط بنظام الفائدة مانعة لهم من وضوح الرؤية وإدراك الحقيقة، والتمييز بينها وبين الأوهام.
ونكتفي في هذا المقام بالإشارة على سبيل المثال لعمل الدكتور عمر شابرا، كبير خبراء مؤسسة النقد العربي السعودي، الذي ظهر له في لندن منذ ثلاث سنوات كتابه المعنون ب (Towards ajast monetary system) ، ويتضمن هذا الكتاب دراسة علمية لعدد من الوسائل الاقتصادية الشرعية، وأثبتت بوضوح امتياز هذه الوسائل وكفايتها لأن يستند عليها نظام اقتصادي سليم.
ولكن هذا الأمر لا يعنينا في هذا المجال، وإنما سنهتم بنتيجة الموازنة العلمية الدقيقة، بين الوسائل الشرعية والوسائل الربوية التي تضمنها الفصل الخامس من الكتاب. فبالاستناد إلى الاكتشافات والأفكار الاقتصادية الحديثة، وبالرجوع إلى أساطين الاقتصاد الغربي المعاصرين، وإلى الإحصاءات وتقارير الخبراء ثبت عدم كفاية الوسائل الربوية (أو نظام الفائدة) كأساس يعتمد عليه في البناء الاقتصادي السليم، وذلك على النحو الذي نلخصه فيما يلي (وإن كان هذا التلخيص تلخيصا مبتسرا، قد لا يقدم الصورة بالوضوح والقوة الذي جاءت به في الكتاب) .
" ما مدى كفاءة نظام الفائدة كأساس للاقتصاد؟ إنه من حيث إن المعروف أن الاقتصاد القوي السليم يجب أن يتوافر له -من ضمن ما يتوافر- شروط أربعة هي: (1) القدرة على التخصيص الأمثل للموارد.(35/129)
(ب) المناخ الاستثماري الإيجابي، الذي يشجع على الادخار والتكوين الرأسمالي.
(ج) الاستقرار.
(د) قابلية النمو الاقتصادي.
فقد أوضح الكتاب أن نظام الفائدة الربوي عاجز عن توفير هذه الشروط، وذلك على النحو التالي:
1 - فمن ناحية التخصيص الأجدى للموارد، يلاحظ أن للفائدة وظيفة رئيسية مفترضة؛ هي أنها وسيلة لتخصيص الأموال النادرة المقدمة من المدخرين إلى المستثمرين بطريقة موضوعية، على أساس القدرة على دفع الثمن، وإذا تغير الطلب على الأموال القابلة للإقراض، أو تغير عرضها تم عند معدل فائدة مختلف التوصل إلى توازن جديد.
إن هذه المقولة مبنية على افتراض أن المعدل النقدي للفائدة يعتبر أداة ناجحة لتخصيص الموارد بطريقة مثالية، ولكن هذا الافتراض غير صحيح؛ إذ يوجد في الواقع دليل مقنع على العكس، وقد تجمعت لدى انزلر وكونراد وجونسن أدلة تثبت أن رأس المال الحالي أسيء تخصيصه -ربما إلى حد خطير- بين قطاعات الاقتصاد. إن افتراض بريتو في تخصيص الموارد لا يوجد إلا في عالم الأحلام، عالم نموذج التوازن التنافسي الكامل.
إن معدل الفائدة التوازني لا يوجد إلا في الكتب المدرسية فقط، أما في الواقع فلا يوجد معدل مقاصة سوقية فعالة، بل هناك مزيج نظري من معدلات قصيرة الأجل وطويلة الأجل، مع فروق واختلافات هائلة في مستوياتها، ولا يوجد مفهوم واضح لكيفية توحيد هذه المعدلات المتعددة في معيار واحد، إن معدل الفائدة -في الحقيقة والواقع- تعبير عن المفاضلة، لا لصالح المقترض الأجدى إنتاجا، بل لصالح الأكثر غنى؛ لأن المعيار في الواقع هو الجدارة الائتمانية، فكلما كانت الجدارة الائتمانية للشخص أكبر كان معدل الفائدة الذي يدفعه أقل، والعكس بالعكس، وبذلك تحصل المنشأة الكبيرة(35/130)
(بغض النظر عن مدى حاجتها للتمويل، ومدى درجتها في الجدوى الإنتاجية) ، تحصل على أموال أكثر، بسعر فائدة أقل، وذلك فقط بسبب ارتفاع درجة تصنيفها الائتماني، بمعنى آخر فإن المنشأة الكبيرة التي هي أقدر على تحمل عبء الفائدة تحمل عبئا أقل، وعلى العكس فإن المنشأة المتوسطة أو الصغيرة التي قد تكون ذات إنتاجية أعظم، بمقياس المساهمة في الناتج الوطني تحصل على مبالغ أقل بكثير نسبيا، وبأسعار فائدة أعلى بكثير، وهذا يعني أن الكثير من الاستثمارات الأجدى إنتاجية بالقوة لا توجد بالفعل؛ بسبب عدم قدرتها التنافسية في الحصول على القروض التي تنساب إلى مشاريع أقل جدوى إنتاجية، ولكنها متقدمة في سلم التصنيف الائتماني.
وبهذا يتضح أن معيار الفائدة ليس معيارا موضوعيا للجدوى الإنتاجية للمنشأة، وإنما معيار متحيز من معايير التصنيف الائتماني، وهذا هو أحد الأسباب في النظام الرأسمالي للنمو السرطاني للمنشآت الكبيرة، واختناق المنشآت المتوسطة والصغيرة، ويقع هذا -بصفة خاصة- في حالة ارتفاع معدل الفائدة، إن زيادة تدفق الائتمان إلى الأغنياء في النظام الربوي صار حقيقة معترفا بها على نطاق واسع؛ يقول جالبريت على سبيل المثال: "إن المنشأة الكبيرة عندما تقترض تحظى بصفة العميل المفضل لدى المصارف وشركات التأمين "، ويقول: " إن أولئك الأقل حاجة إلى الاقتراض هم المفضلون، وأولئك الأكثر حاجة إلى الاقتراض هم الأقل حظا في نظام المنافسة السوقية ".
2 - وبالنسبة لأثر الفائدة على الادخار والتكوين الرأسمالي، فيجب أن نلاحظ أولا: أنه لخلق مناخ استثماري إيجابي نشط لا بد من المحافظة الدائمة على العدالة والتوازن بين المدخرين والمستثمرين، ثم نشير إلى أنه بسبب المعدل الاجتماعي للتفضيل الزمني فقد يعتقد بأن للفائدة دائما دورا إيجابيا مطردا على الادخار والتكوين الرأسمالي، غير أنه بدراسة الواقع فإن الدلائل الإحصائية لا تشير إلى وجود ترابط كبير بين الفائدة والادخار في البلاد الصناعية، أما في البلدان النامية: فإن أغلب الدراسات توضح أنه:(35/131)
لا تأثير لمعدل الفائدة على الادخار على الإطلاق، وحتى من الناحية النظرية: فإن عددا من الاقتصاديين يرفض افتراض بوم باورك التفضيل الزمني الإيجابي، حتى أن جراف شكك بأن له وجودا فعليا بالمرة.
على أن آراء آخرين تقول: إن التفضيل الزمني لدى المستهلك الرشيد قد يكون موجبا أو صفرا أو سالبا، وقد لاحظ ساملسون: " أن الأدلة تهدي إلى أن بعض الناس يقل ادخارهم بدل أن يزيد عند ارتفاع معدل الفائدة، وأن البعض يزيد ادخارهم في تلك الحالة، وأن الكثير لا يتأثر ميلهم للادخار في حالة الارتفاع أو الانخفاض ".
من الطبيعي أن يعاني المدخرون إذا كانت الفائدة منخفضة، وأن يعاني المستثمرون إذا كانت مرتفعة، وأن الظلم الواقع في توزيع المردود بين المدخر والمستثمر بسبب معدلات الفائدة المتغيرة أو الثابتة يؤدي إلى تشويه جهاز الثمن، وإلى سوء تخصيص الموارد، ومن ثم إلى تباطؤ التكوين الرأسمالي.
لقد كان ارتفاع معدل الفائدة مانعا كبيرا من الاستثمار في النظام الرأسمالي، ولما كانت تكاليف الفائدة تقتطع من الأرباح فقد أنتج هذا تآكل ربحية الشركات، وهو ما اعتبر في تقرير مصرف التسويات الدولية (عاملا كبير الأهمية في إضعاف الحجم الكلي للاستثمار، وقد أدت معدلات التكوين الرأسمالي المنخفضة في الولايات المتحدة إلى إيجاد دور وتسلسل؛ حيث إن هبوط الإنتاجية أدى إلى تقليل القدرة على تعويض التكلفة المرتفعة للقرض، وهذا أدى إلى هبوط في الربحية، وهبوط أكثرها في معدل التكوين الرأسمالي، فزاد اعتماد المنشآت على الديون التي إنما تحصل عليها بمعدل مرتفع للفائدة.
وبالمقابل: فإن معدلات الفائدة المنخفضة لا تقل ضررا عن المرتفعة؛ ففي حين أن المرتفعة تضر المستثمرين فإن المنخفضة تضر المدخرين، وقد شجعت معدلات الفائدة المنخفضة على الاقتراض من أجل الاستهلاك، فزادت بذلك الضغوط التضخمية، كما شجعت الاستمارات غير الإنتاجية، وزادت من حدة المضاربة في أسواق السلع والأوراق المالية.(35/132)
وبالجملة: فقد أنتجت خفض المعدلات الإجمالية للادخار، وتدني نوعية الاستثمارات وأحدثت قصورا في التكوين الرأسمالي.
3 - وبالنسبة لأثر الفائدة على الاستقرار الاقتصادي فإن المؤكد أن الفائدة من أهم العوامل المخلة بالاستقرار في الاقتصاد الرأسمالي؛ لذا لم يكن غريبا أن يجيب في عام 1982 ميلتون فردمان عن السؤال على أسباب السلوك الطائش الذي لم يسبق له مثيل في الاقتصاد الأمريكي، بأن الإجابة البديهية هي السلوك الطائش الموازي في معدلات الفائدة) .
إن التقلبات الطائشة في معدل الفائدة تحدث تحولات لولبية في الموارد المالية بين المستفيدين منها. إن زيادة تقلب معدل الفائدة تحقن السوق المالي بكثير من الشكوك، وهذا من شأنه تحويل المقرضين على السواء من الأجل الطويل إلى الأجل القصير في سوق المال، واستمرار التقلب في نصيب الفائدة في مجموع عائد رأس المال المستثمر يجعل من الصعب اتخاذ قرارات استثمارية طويلة الأجل بثقة.
ومن ناحية أخرى: فإن الثابت أنه في ظل نظام تعويم المعدل في سوق قصيرة الأجل، أنه كلما ارتفع معدل الفائدة ارتفع معدل الإفلاس التجاري للمنشآت؛ وذلك بسبب الهبوط المفاجئ في نصيب المنشأة من مجموع العائد على رأس المال، لا بسبب عدم كفاءة المنشأة، ونحن نعرف أن الإفلاسات التجارية لا تقتصر فقط على الخسارة الشخصية لمالكي المنشأة، بل تستتبع الانخفاض في العمالة والناتج والاستثمار والطاقة الإنتاجية، وهي خسائر يصعب وتطول فترة تعويضها، وبديهي أن لكل هذه العوامل آثارا خطيرة على الاستقرار الاقتصادي.
لسنا في حاجة إلى إيضاح أثر تقلب معدلات الفائدة، على القلق في الأسواق المالية والسلع، " ولما كانت هذه الأسواق للاقتصاد الرأسمالي بمثابة مقياس الضغط الجوي فإن التقلبات التي تحدثها الفائدة على هذه الأسواق تعكس تأثيرا موجبا للاضطراب على الاقتصاد بجملته.
وأخيرا، فبالنسبة لتأثير الفائدة على إجراءات السياسة النقدية فإن(35/133)
البنك المركزي في إمكانه إما أن يراقب معدلات الفائدة، أو يراقب رصيد النقود.
فإذا ما حاول تثبيت معدل الفائدة فقد السيطرة على عرض النقود، وإذا ما حاول تحقيق نمو معين في عرض النقود تقلبت معدلات الفائدة، وبخاصة القروض القصيرة الأجل. وقد دلت التجربة على أنه من المستحيل تنظيم كلا العنصرين بتواز يمكن معه السيطرة على التضخم دون إضرار بالاستثمار، ونستشهد بهذه العبارة المتحفظة في تقرير مصرف التسويات الدولية لعام 1982 م: " إن التقلب الشديد في معدلات الفائدة يمكن أن يسهم في التقلبات الحادة في النشاط الاقتصادي، كما قد يؤدي إلى مشكلات هيكلية، سواء في الاقتصاد أو في النظام المالي ".
4 - بالنسبة لتأثير الفائدة على النمو الاقتصادي نشير إلى أن الفاعلية الاقتصادية تعاق كثيرا بوجود حالة الشك الذي يصعب معه التوقع للمستقبل، فلا يملك معه المستثمرون القدرة ولا الجرأة على التخطيط لاستثمارات طويلة الأجل، وأن الاعتماد في التمويل على القروض الربوية من شأنه أن يوجد مناخا للشك؛ إذ يزداد الخطر الذي يواجهه المستثمر (المنظم) ؛ لأن نصب عينه دائما أن الفائدة الربوية لا بد من دفعها، بصرف النظر عن ربحية المشروع.
وتزيد حدة الشك إذا تقلبت معدلات الفائدة تقلبا طائشا، ولا سيما إذا تضمن عقد التمويل معدلا عائما للفائدة، كما هو المتبع بصفة عامة في الوقت الحاضر. وبصعوبة القيام باستثمارات طويلة الأجل، فإن الاستثمار في النهاية يعاني من هبوط الإنتاجية، وانخفاض معدل النمو. ومن المعروف أنه عندما ارتفعت معدلات الفائدة في السبعينات هبطت نسبة إجمالي الاستثمار الثابت المحلي إلى إجمالي الناتج الوطني في البلدان الغربية، كما انخفض النمو الدولي انخفاضا كبيرا في كل مكان عما كان عليه في العقود التي أعقبت الحرب العالمية مباشرة.
ومن المعترف به أن الأداء الاستثماري الأفضل هو مفتاح النمو الأسرع، ومع الأسف فإن خفض معدل الفائدة ليس علاجا ناجحا لهذه الحالة؛ لأن ذلك لا يزيل حالة الشك في(35/134)
المستقبل، لا سيما إذا أخذ في الاعتبار العجز المرتفع المتكرر في موازنات بعض الدول الصناعية الرئيسية.
إن ما تقدم يمثل اختصارا مخلا لما ورد في الكتاب، ولكن لعله يكون كافيا لإقناع القارئ بهذه الفرضية: أننا ننساق مع الوهم -إلى حد كبير- حينما نظن أن تبني الاقتصاد الرأسمالي نظام (الفائدة الربوية) هو سبب ازدهار هذا الاقتصاد وقوته، بل الصحيح القول: إن لازدهار الاقتصاد الرأسمالي أسبابا متعددة سادت، وهذا الازدهار بالرغم من (نظام الفائدة الربوية) .
إن الأستاذ موريس ليه لا يعتبر من كبار الخبراء الاقتصاديين الفرنسيين فحسب، بل من كبار الخبراء الاقتصاديين العالميين، وقد حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1988، ونشرت له صحيفة لوموند الفرنسية مقالا في عددين منها؛ الأول بتاريخ 27 - 6 - 1989 بعنوان مصيبة الائتمان، والثاني بتاريخ 29 - 6 - 1989 بعنوان اضطراب الفكر الاقتصادي.
وبعد الإشارة إلى حادثة الاثنين الأسود، في عام 1987 م؛ حيث انهارت الأسواق المالية، يشير المقال إلى قلق الكاتب من المشاكل التي تواجه الاقتصاد العالمي، التي تنذر بانهياره، إن لم يمكن معالجتها، ويرجع المسئولية في هذا الوضع إلى النظام البنكي الغربي، وينادي بإصلاح هذا النظام كشرط لمواجهة المشكلات؛ يقول الأستاذ موريس:: " إن أهم ما استنتجته هو أن الاقتصاد العالمي في الوقت الحاضر كما كان في عام 1987 يكمن فيه عدم الاستقرار، وأن تطوره في المدى القصير وإلى حد كبير لا يمكن التنبؤ به، وأنه، لأجل القضاء على هذا الخلل الكامن من المناسب إدخال إصلاحات جوهرية على المؤسسات النقدية والمالية "، ويقول: " الاقتصاد العالمي كله يعتمد اليوم على أهرامات هائلة من الديون، كل هرم منها يرتكز على الآخر في توازن هش، فلم يلاحظ في(35/135)
الماضي أبدا، مثل هذا التراكم من وعود الدفع، ولم يكن هناك ما هو أصعب من معالجته؛ إن المشكلة الكبرى لاقتصاديات السوق الغربية -وهي في الواقع مشكلة لم تحل أبدا- هي: التقلبات الاقتصادية، وتغيرات القيمة الحقيقية للنقد، التي تعوق في الوقت نفسه فاعلية الاقتصاد، وعدالة توزيع الدخول، وضمان العمل والموارد، وأخيرا السلام الاجتماعي. إن عدم الاستقرار الاقتصادي، ونقص الإنتاج والظلم، ونقص التشغيل، والضنك والبؤس، وهي المصائب الكبرى لاقتصاديات السوق، وكل هذا مرتبط ارتباطا وثيقا بالمؤسسات النقدية والمالية للاقتصاديات الغربية "، " النشاط الاقتصادي غايته الأساسية إشباع حاجات الناس غير المحدودة، عمليا بموارد محدودة، تقع تحت تصرف هؤلاء الناس، ولكن من أجل بلوغ هذا الهدف، من الضروري أن يجري النشاط الاقتصادي في نطاق مؤسسي ملائم. للأسف! فإن التجربة تدل حتى الآن على الصعيد النقدي والمالي بشكل خاص أن هذه الوظيفة -إيجاد النطاق المؤسسي الملائم- لم يتم إنجازها بعد ".
يقول: " حتى الآن أمكن اجتناب الانهيار، ولكن صار من الصعب أكثر فأكثر مواجهة الاختلالات التوازنية التي لا يقدر أحد في الحقيقة على ضبطها والسيطرة عليها "، "كما في جميع الأزمان السابقة إننا نشهد في كل مكان لآلية الائتمان أثرها المولد لعدم الاستقرار، ولكن هذا الأثر أخذ اليوم في الازدياد على الصعيدين الوطني والدولي "، " إن آلية الائتمان كما تعمل اليوم تعتمد على الغطاء الجزئي للودائع، وعلى خلق النقود من لا شيء، وعلى الإقراض لأجل طويل أموال مقترضة لأجل قصير، كل هذا من شأنه إحداث زيادة جسيمة في أوجه الخلل الملاحظة؛ فالواقع أن جميع الأزمات الكبرى في القرنين التاسع عشر والعشرين قد نشأت من فرط تزايد الائتمان، ووعود الدفع وتحويلها إلى نقود، كما نشأت من المضاربة التي أثارها هذا التزايد، وجعلها ممكنة ".
ويقول: " قدمت تحليلات متعددة خلال هذه السنوات الأخيرة. وأعجب ما في الأمر هو غياب أي تشخيص يحظى باتفاق عام. وثمة ما هو أكبر مغزى من ذلك، وهو أن أحدا لا يوجه الاتهام لأساس نظام(35/136)
الائتمان، كما يعمل حاليا؛ أي خلق نقود من لا شيء، عن طريق النظام المصرفي والسياسة، التي صارت عامة في تمويل القروض لآجال طويلة بأموال مقترضة لآجال قصيرة "، " الواقع أنه يجب على الصعيد الوطني، كما على الصعيد الدولي، أن يعاد النظر كليا في المبادئ الرئيسة التي يعتمد عليها النظام النقدي والمالي، وكما بينت سابقا فإن بنية مؤسسية ملائمة ستكون سهلة التحديد نسبيا، إذا ما استخلصت المبادئ الواجب مراعاتها انطلاقا من ملاحظة الوقائع، لا من المفاهيم المسبقة، مثل هذه البنية تتطلب في الوقت نفسه إصلاح آلية الائتمان، كما تعمل اليوم ".
ثم يقول: " من المؤكد أن المصالح القوية، لمجموعات الضغط النقدية والمالية والمذاهب المهيمنة، لن تؤيد هذه الإصلاحات، إن كل الوسائل المطبقة، وكل التدابير المتخذة، قد اجتمعت على موضوع واحد: تأجيل الإصلاحات الضرورية بفضل منح قروض جديدة، وإصدار وسائل دفع جديدة من لا شيء، وهذه في الواقع ليست سوى مسكنات، بدلا من تقرير اللجوء لمواجهة (مصالح) مجموعات الضغط، ما انفكوا يلجأون إلى سياسات سهلة ومسكنات وأوهام ".
" إنه لا يمكن، بدون خطورة، التقليل اليوم من اعتبار عدم الاستقرار الثاوي بعمق في أحشاء الاقتصاد العالمي، إن توازن الحاضر توازن قلق جدا وغير مستقر "، " الواقع أن معظم الصعوبات الحالية إنما تنشأ من جهة، عن عدم المعرفة الكلية بالشروط المالية والنقدية، لتشغيل كفؤ وعادل لاقتصاد السوق، ومن جهة أخرى من بنية غير ملائمة للمؤسسات المصرفية والأسواق المالية "، " لتذليل هذه الصعوبات، ولتأمين استقرار الاقتصاد وكفاءته - لا بد من إصلاح جذري للمؤسسات النقدية والمالية، وللأسف لا أحد يتكلم عنها! ".
لعله الآن قد اتضحت للقارئ هذه الحقيقة: إن اتهام نظام الفائدة البنكية والمؤسسة البنكية الغربية، بالمسئولية عن عدم الاستقرار الاقتصادي - ليست اتهاما بدون دليل.(35/137)
والحقيقة الواضحة أنه إذا كان لنظام الفائدة، في كثير من الأحوال، تأثير سلبي على الاقتصاد، كما شرح، وذلك في البلدان التي تتقبل اتجاهاتها الأخلاقية هذا النظام، فما ظنك بأثر هذا النظام على الاقتصاد، في بلاد استقر ضمائرها واتجاهها الخلقي كراهيته، إلى درجة أن تعتقد أنها بقبوله تأذن بالحرب على الله، وتعتقد أن نتيجته على سلوكها الاقتصادي المحق والدمار.
وهذه الحقيقة توجب الإشارة إلى حقيقة أخرى هي:
أنه لا بد لنجاح نظام اقتصادي، في بلد ما، أن يتناسق ويتناغم مع النظام الخلقي والقيم الثقافية التي تسود في ذلك البلد. ومن المستحيل أن يزدهر نظام اقتصادي أو أساليب اقتصادية في بلد، مع معارضة ذلك النظام أو تلك الأساليب للقيم الخلقية والمعتقدات السائدة، إن الشرط الأساسي لازدهار الاقتصاد، في بلد ما، أن يحوز لينسجم مع نظام البلد الأخلاقي، أو أن يحوز النظام الأخلاقي لينسجم مع الاقتصاد، وبدون ذلك يكون الاقتصاد كشجرة مغروسة في تربة ومناخ غير ملائم لها.
يمكن تلخيص ما سبق فيما يأتي:
ا - أن الربا ليس مفهوما غامضا، وإنما هو معاملة معروفة استقر، في الضمير الخلقي للإنسان منذ أقدم العصور، كراهيته واعتباره عملا غير أخلاقي.
2 - أن هذا المفهوم ليس شيئا غير ربا النسيئة، حيث يدفع الممول المال لطالب التمويل لأجل، بشرط أن يرده بزيادة في مقابل الأجل.
3 - الربا، بهذا المفهوم، كانت تمارسه جاهلية العرب، كما كانت تمارسه جاهلية اليهود عند نزول القرآن.
4 - الربا بهذا المفهوم حرمته الشرائع السماوية؛ الموسوية، المسيحية، والإسلام، وذلك بمختلف صوره، ومهما كان حجمه.
5 - في الماضي، وبسبب ضغوط الواقع، اتجه عدد من المفكرين المسلمين إلى محاولات للتوفيق بين واقع النظام المبني على نظام الفائدة والأحكام(35/138)
الإسلامية، وكان الاتجاه يرمي إلى محاولة إخراج القرض بفائدة عن مفهوم الربا، ولكن هذه المحاولات فشلت، بسبب الاستحالة الشرعية لاعتبار الصورة الأساسية لمفهوم الربا، خارجة عن مفهومه.
6 - وبسبب الظروف المتغيرة التي تتلخص في الدراسات التي تعنى بالاتجاه المعاكس، وهو محاولة تغيير واقع النظام المصرفي، لينسجم مع الأحكام الشرعية، وبظهور المؤسسات التطبيقية الناجحة لهذه المحاولة، وببروز الاهتمام بنقد نظام الفائدة في ضوء التجارب والإحصاءات والدراسات، لا من علماء الاقتصاد المسلمين، بل من أساطين الاقتصاد الغربي.
بسبب هذه الظروف تبين أن الأمر لا يقتصر على وجود المانع من نجاح المحاولات التوفيقية، لتأسيس نظام الفائدة في المجتمع الإسلامي، بل يتعداه إلى عدم وجود موجب لمثل تلك المحاولات، وأن عدم وجود المانع ووجود الموجب شرطان لا بد منهما، لوجود وضع طبيعي سليم.(35/139)
خاتمة:
من الطبيعي أن توجد محاولات غير التي ناقشتها هذه الورقة، ومن الطبيعي أن تحشد محاولات كهذه الحجج والأدلة، "إن أية فكرة أو دعوى يمكن أن تقام لها أدلة اصطناعية"، وقد لا يستطيع غير المختص إدراك زيف تلك الحجج والأدلة، كما أن غير الخبير قد يخدع بالتزييف والتزوير.
وقد يحمي القارئ غير المختص، من الانخداع بالحجج الجدلية والأدلة الاصطناعية، أن يقتنع بهذه الحقيقة، إن من المستحيل (إخراج القرض بالفائدة) من مفهوم الربا الذي حرمه القرآن والسنة الصحيحة، وإجماع الأمة.
ويكفيه، ليقتنع بهذه الحقيقة، تصور ما يأتي:
ا - أن القرض بفائدة، بسيطة أو مركبة، صورة من صور دفع المال لأجل محدد لمن يضمن رده بزيادة في مقابل الأجل.(35/139)
2 - إن دفع المال بالصورة المذكورة هو الربا المعروف في كل مكان وفى كل العصور، وهو الذي اعتبر رذيلة وسلوكا غير أخلاقي على مر التاريخ، وهو الربا الذي حرم في التوراة والإنجيل، وشنع الله على اليهود بارتكابه، وهو الربا الذي تحرمه وتعاقب عليه القوانين العلمانية المعاصرة؛ كالقانون الفرنسي الصادر في عام 1935 م. والمادة 644 من التقنين الجنائي الإيطالي الجديد، وذلك فيما عدا صور الربا البسيط الذي استثنته تلك القوانين.
3 - إن الإسلام في أصل التحريم لا يفرق بين يسير الربا وكثيره، كما لا يفرق بين يسير الزنا وكثيره، أو يسير السرقة وكثيرها، وذلك يعني استحالة القول بإباحة القرض بالفائدة، دون استباحة أي قرض لأجل بزيادة.
4 - إن النتيجة الحتمية للمقدمات السابقة أن القول بإباحة القرض بفائدة يعني القول بأن الإسلام يبيح الربا الذي استقر في ضمائر الشعوب اعتباره رذيلة وسلوكا غير أخلاقي، وحرمته الكتب السماوية، وشنع الله على اليهود بارتكابه، واعتبرته حتى القوانين العلمانية المعاصرة جريمة يعاقب عليها القانون.
وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.(35/140)
من أصول أهل السنة والجماعة
إعداد
فضيلة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء
الحمد لله رب العالمين، هدانا للإسلام {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (1) ، ونسأله سبحانه أن يثبتنا عليه إلى الوفاة. كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (3) .
وصلى الله وسلم على نبينا وقدوتنا وحبيبنا محمد رسول الله، الذي بعثه الله رحمة للعالمين، ورضي الله عن أصحابه البررة الأطهار؛ المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار. وبعد:
فهذه كلمات مختصرة في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، دعا إلى كتابتها ما تعيشه الأمة الإسلامية اليوم من تفرق واختلاف؛ يتمثلان في كثرة الفرق المعاصرة والجماعات المختلفة. كل يدعو إلى نحلته ويزكي جماعته، حتى أصبح المسلم الجاهل في حيرة من أمره من يتبع؟ وبمن يقتدي؟ وأصبح الكافر الذي يريد أن يسلم لا يدري ما هو الإسلام الصحيح الذي قرأ وسمع عنه؛ الإسلام الذي هدى إليه القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، الإسلام الذي مثلته حياة الصحابة الكرام، وانتهجته القرون المفضلة. وإنما يرى للإسلام أسماء في الغالب بدون مسمى، كما قال أحد
__________
(1) سورة الأعراف الآية 43
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة آل عمران الآية 8(35/141)
المستشرقين: الإسلام محجوب بأهله، يعني المنتسبين إليه بدون اتصاف بحقيقته.
لا نقول إن الإسلام مفقود بالكلية؛ لأن الله سبحانه وتعالى ضمن بقاءه ببقاء كتابه، كما قال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (1) ، وببقاء جماعة من المسلمين تقوم على تطبيقه وحفظه والدفاع عنه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ} (2) وقال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (3) ، نعم هي الجماعة التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى، وهم على ذلك (4) » . ومن هنا يجب علينا التعرف على هذه الجماعة المباركة التي تمثل الإسلام الصحيح، جعلنا الله منها؛ ليعرفها من يريد التعرف على الإسلام الصحيح، وعلى أهله الحقيقيين؛ ليقتدي بهم ويسير في ركابهم، ولينضم إليها من يريد الدخول في الإسلام من الكفار.
__________
(1) سورة الحجر الآية 9
(2) سورة المائدة الآية 54
(3) سورة محمد الآية 38
(4) صحيح مسلم الإمارة (1920) ، سنن الترمذي الفتن (2229) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4252) ، سنن ابن ماجه الفتن (3952) ، مسند أحمد بن حنبل (5/279) .(35/142)
المراد بالفرقة الناجية أهل السنة والجماعة
كان المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمة واحدة كما قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (1) ، وكم حاول اليهود والمنافقون تفريق المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يستطيعوا، قال المنافقون: {لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} (2) ، فرد الله عليهم بقوله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} (3) ، حاول اليهود تفريق المسلمين، وارتدادهم عن دينهم:
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 92
(2) سورة المنافقون الآية 7
(3) سورة المنافقون الآية 7(35/142)
{وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) ، لكن الخطة لم تنجح؛ لأن الله كشفها وفضحها؛ حاولوا مرة ثانية، فأخذوا يذكرون الأنصار ما جرى بينهم من عداوة وحروب قبل الإسلام، وما تقاولوا به من أشعار الهجاء فيما بينهم، فكشف الله خطتهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} (2) ، إلى قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} (3) ، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأنصار فوعظهم وذكرهم بنعمة الإسلام، واجتماعهم به بعد الفرقة- فتصافحوا وتعانقوا وفشلت خطة اليهود، وبقي المسلمون أمة واحدة، والله تعالى أمرهم بالاجتماع على الحق، ونهاهم عن الاختلاف والتفرق- فقال تعالى {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} (4) ، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (5) .
وقد شرع لهم سبحانه الاجتماع في أداء العبادات في الصلاة والصيام والحج وطلب العلم. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على اجتماع المسلمين، وينهاهم عن التفرق والاختلاف.
وكان صلى الله عليه وسلم يخبر خبرا معناه الحث على الاجتماع والنهي عن التفرق، فكان يخبر بحدوث تفرق في هذه الأمة، كما حصل للأمم قبلها؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي (6) » .
وقال صلى الله عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة- كلها في النار إلا واحدة. قلنا من هي يا رسول
__________
(1) سورة آل عمران الآية 72
(2) سورة آل عمران الآية 100
(3) سورة آل عمران الآية 106
(4) سورة آل عمران الآية 105
(5) سورة آل عمران الآية 103
(6) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(35/143)
الله- قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (1) » ، وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم فتفرقت الأمة في أواخر عصر الصحابة، ولكن هذا التفرق لم يؤثر كثيرا في كيان الأمة، طيلة عصر القرون المفضلة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (2) » ، قال الراوي: لا أدري ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة. وذلك لوفرة العلماء من المحدثين والمفسرين والفقهاء، بما فيهم علماء التابعين وأتباع التابعين والأئمة الأربعة وتلاميذهم، ولقوة دولة الإسلام في تلك القرون، فكانت الفرق المخالفة تجد الجزاء الرادع بالحجة والقوة.
وبعد انقضاء عصر القرون المفضلة، اختلط المسلمون بغيرهم من أصحاب الديانات المخالفة، وعربت علوم أهل الملل الكافرة، واتخذ ملوك الإسلام بعض البطانات من أهل الكفر والضلال، فصار منهم الوزراء والمستشارون، فاشتد الخلاف وتعددت الفرق والنحل، ونجحت المذاهب الباطلة، ولا يزال ذلك مستمرا إلى وقتنا هذا، وإلى ما شاء الله.
ولكن بحمد الله بقيت الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة متمسكة بالإسلام الصحيح، تسير عليه وتدعو إليه، ولا تزال ولن تزال بحمد الله؛ مصداقا لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من بقاء هذه الفرقة واستمرارها وصمودها، وذلك فضل من الله سبحانه، من أجل بقاء هذا الدين وإقامة الحجة على المعاندين.
إن هذه الطائفة المباركة تمثل ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، في القول والعمل والاعتقاد، كما قال صلى الله عليه وسلم: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (3) » ، إنهم بقية صالحة من الذين قال الله فيهم: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} (4) .
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2640) ، سنن أبو داود السنة (4596) ، سنن ابن ماجه الفتن (3991) ، مسند أحمد بن حنبل (2/332) .
(2) صحيح البخاري الشهادات (2651) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2535) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3809) ، سنن أبو داود السنة (4657) ، مسند أحمد بن حنبل (4/427) .
(3) سنن الترمذي الإيمان (2641) .
(4) سورة هود الآية 116(35/144)
أسماء الفرقة الناجية ومعناها
لما كانت هذه الفرقة هي الفرقة السالمة من الضلال- تطلب الأمر معرفة أسمائها وعلاماتها؛ ليقتدى بها، فلها أسماء عظيمة تميزت بها من بين سائر الفرق، ومن أهم هذه الأسماء والعلامات: أنها الفرقة الناجية، الطائفة المنصورة، أهل السنة والجماعة، ومعانيها كما يلي:
1 - أنها الفرقة الناجية؛ أي الناجية من النار، حيث استثناها النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الفرق وقال: «كلها في النار إلا واحدة (1) » ؛ يعني ليست في النار.
2 - أنها تتمسك بكتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؛ حيث قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (2) » .
3 - أن أهلها هم أهل السنة والجماعة، فهم يتميزون بميزتين عظيمتين؛ الأولى: تمسكهم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى صاروا أهلها، بخلاف سائر الفرق؛ فهي تتمسك بآرائها وأهوائها وأقوال قادتها، فهي لا تنسب إلى السنة، وإنما تنسب إلى بدعها وضلالتها كالقدرية والمرجئة، أو إلى أئمتهم كالجهمية، أو إلى أفعالهم القبيحة كالرافضة والخوارج، والميزة الثانية أنهم أهل الجماعة؛ لاجتماعهم على الحق وعدم تفرقهم، بخلاف الفرق الأخرى لا يجتمعون على حق، وإنما يتبعون أهواءهم، فلا حق يجمعهم.
4 - أنها الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة؛ لأنها نصرت دين الله فنصرها الله، كما قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} (3) ، ولهذا قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى وهم على ذلك (4) » .
__________
(1) سنن ابن ماجه الفتن (3993) ، مسند أحمد بن حنبل (3/120) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2641) .
(3) سورة محمد الآية 7
(4) صحيح البخاري المناقب (3641) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) .(35/145)
أصول أهل السنة والجماعة
إن أهل السنة والجماعة يسيرون على أصول ثابتة وواضحة في الاعتقاد والعمل والسلوك، وهذه الأصول العظيمة مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان، وهذه الأصول تتلخص فيما يلي:
الأصل الأول: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره.
1 - فالإيمان بالله يعني الإقرار بأنواع التوحيد الثلاثة، واعتقادها والعمل بها، وهي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات؛ فتوحيد الربوبية معناه توحيد الله بأفعاله من الخلق والرزق، والإحياء والإماتة، وأنه رب كل شيء ومليكه، وتوحيد الألوهية معناه إفراد الله بأفعال العباد التي يتقربون بها إليه- إذا كانت مما شرعه الله؛ كالدعاء والخوف والرجاء والمحبة، والذبح والنذر والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة، والصلاة والصوم والحج، والإنفاق في سبيل الله، وكل ما شرعه الله وأمر به، لا يشركون مع الله غيره فيه، لا ملكا ولا نبيا ولا وليا غيرهم.
وتوحيد الأسماء والصفات معناه: إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، وتنزيه الله عما نزه عنه نفسه، أو نزهه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من العيوب والنقائص، من غير تمثيل ولا تشبيه، ومن غير تحريف ولا تعطيل ولا تأويل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) ، وكما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2) .
2 - والإيمان بالملائكة معناه: التصديق بوجودهم، وأنهم خلق من خلق الله خلقهم من نور؛ خلقهم لعبادته، وتنفيذ أوامره في الكون، كما قال تعالى:
__________
(1) سورة الشورى الآية 11
(2) سورة الأعراف الآية 180(35/146)
{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (1) {لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (2) ، {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} (3) .
3 - والإيمان بالكتب يعني: التصديق بها، وبما فيها من الهدى والنور، وأن الله أنزلها على رسله لهداية البشر، وأعظمها الكتب الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن، وأعظم الثلاثة القرآن الكريم، وهو المعجزة العظمى؛ قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (4) ، ويؤمن أهل السنة والجماعة بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق؛ حروفه ومعانيه، خلافا للجهمية والمعتزلة، القائلين بأن القرآن مخلوق كله حروفه ومعانيه.
وخلافا للأشاعرة، ومن شابههم، القائلين بأن كلام الله هو المعاني، وأما الحروف فهي مخلوقة، وكلا القولين باطل. قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} (5) ، {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (6) ؛ فهو كلام الله لا كلام غيره.
4 - والإيمان بالرسل يعني: التصديق بهم جميعا؛ من سمى الله منهم، ومن لم يسم، من أولهم إلى آخرهم. وآخرهم وخاتمهم نبينا محمد، عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، والإيمان بالرسل إيمان مجمل، والإيمان بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم إيمان مفصل، واعتقاد أنه خاتم الرسل؛ فلا نبي بعده، ومن لم يعتقد ذلك فهو كافر، والإيمان بالرسل يعني أيضا: عدم الإفراط والتفريط في حقهم، خلافا لليهود والنصارى الذين غلوا وأفرطوا في بعض الرسل، حتى جعلوهم أبناء الله، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (7) ، والصوفية والفلاسفة فرطوا في حق الرسل، وتنقصوهم وفضلوا أئمتهم عليهم، والوثنيون والملاحدة
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 26
(2) سورة الأنبياء الآية 27
(3) سورة فاطر الآية 1
(4) سورة الإسراء الآية 88
(5) سورة التوبة الآية 6
(6) سورة الفتح الآية 15
(7) سورة التوبة الآية 30(35/147)
كفروا بجميع الرسل. واليهود كفروا بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والنصارى كفروا بمحمد، ومن آمن ببعضهم وكفر ببعضهم- فهو كافر بالجميع؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (1) {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} (2) ، وقال تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} (3) .
5 - والإيمان باليوم الآخر يعني: التصديق بكل ما يكون بعد الموت، مما أخبر الله به ورسوله من عذاب القبر ونعيمه، والبعث من القبور والحشر، والحساب ووزن الأعمال، وإعطاء الصحف باليمين أو الشمال، والصراط والجنة والنار. والاستعداد لذلك بالأعمال الصالحة، وترك الأعمال السيئة والتوبة منها.
وقد كفر باليوم الآخر الدهريون والمشركون، واليهود والنصارى؛ لم يؤمنوا به الإيمان الصحيح المطلوب، وإن آمنوا بوقوعه {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} (4) ، {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} (5) .
6 - والإيمان بالقدر يعني: الإيمان بأن الله علم كل شيء؛ ما كان وما يكون، وقدر ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ، وأن كل ما يجري من خير وشر، وكفر وإيمان، وطاعة ومعصية- فقد شاءه الله وقدره وخلقه، وأنه يحب الطاعة ويكره المعصية.
وللعباد قدرة على أفعالهم، واختيار وإرادة لما يقع منهم من طاعة أو معصية- لكن ذلك تابع لإرادة الله ومشيئته، خلافا للجبرية الذين يقولون إن العبد مجبر
__________
(1) سورة النساء الآية 150
(2) سورة النساء الآية 151
(3) سورة البقرة الآية 285
(4) سورة البقرة الآية 111
(5) سورة البقرة الآية 80(35/148)
على أفعاله، ليس له اختيار، وللقدرية الذين يقولون إن العبد له إرادة مستقلة، وأنه يخلق فعل نفسه، وأن إرادة العبد ومشيئته خارجة عن إرادة الله ومشيئته، وأنه يخلق فعل نفسه.
وقد رد الله على الطائفتين في قوله تعالى {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (1) ، فأثبت للعبد مشيئته ردا على الجبرية الغلاة، وجعلها تابعة لمشيئة الله ردا على القدرية النفاة.
والإيمان بالقدر يكسب العبد صبرا على المصائب، وابتعادا عن الذنوب والمعائب.
كما يدفعه إلى العمل، ويبعد عنه العجز والخوف والكسل.
__________
(1) سورة الإنسان الآية 30(35/149)
ثانيا: ومن أصول أهل السنة والجماعة، أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فليس الإيمان قولا وعملا دون اعتقاد؛ لأن هذا إيمان المنافقين، وليس هو مجرد المعرفة، وبدون قول وعمل؛ لأن هذا إيمان الكافرين الجاحدين؛ قال تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (1) ، وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (2) ، وقال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} (3) .
وليس الإيمان اعتقادا فقط، أو قولا واعتقادا دون عمل؛ لأن هذا إيمان المرجئة، والله تعالى كثيرا ما يسمي الأعمال إيمانا؛ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (4) {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (5) {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (6) ، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (7) أي صلاتكم إلى بيت المقدس، سمى الصلاة إيمانا.
__________
(1) سورة النمل الآية 14
(2) سورة الأنعام الآية 33
(3) سورة العنكبوت الآية 38
(4) سورة الأنفال الآية 2
(5) سورة الأنفال الآية 3
(6) سورة الأنفال الآية 4
(7) سورة البقرة الآية 143(35/149)
ثالثا: ومن أصول أهل السنة والجماعة، أنهم لا يكفرون أحدا من المسلمين، إلا إذا ارتكب ناقضا من نواقض الإسلام، أما الكبائر التي هي دون الشرك- فإنهم لا يحكمون على مرتكبها أي الكبائر بالكفر، إلا إذا دل دليل على كفره؛ كترك الصلاة تكاسلا، فإنه قد دل الدليل على كفره، وإنما يحكمون عليه بالفسق ونقص الإيمان، وإذا لم يتب منها - فإنه تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه، لكنه لا يخلد في النار؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) ، ومذهب أهل السنة في ذلك وسط، بين الخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة، وإن كانت دون الشرك، وبين المرجئة الذين يقولون: هو مؤمن كامل الإيمان، ويقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
__________
(1) سورة النساء الآية 116(35/150)
رابعا: ومن أصول أهل السنة والجماعة: وجوب طاعة ولاة أمور المسلمين، ما لم يأمروا بمعصية، فإذا أمروا بمعصية- فلا تجوز طاعتهم فيها، وتبقى طاعتهم بالمعروف في غيرها؛ عملا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد (2) » ، ويرون أن معصية الأمير المسلم معصية لرسول الله؛ عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني (3) » ، ويرون الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، والدعاء لهم بالصلاح والاستقامة ومناصحتهم.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) صحيح البخاري الجهاد والسير (2957) ، صحيح مسلم الإمارة (1835) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2859) ، مسند أحمد بن حنبل (2/313) .(35/150)
خامسا: ومن أصول أهل السنة تحريم الخروج على ولاة أمور المسلمين، إذا ارتكبوا مخالفة دون الكفر؛ لأمره صلى الله عليه وسلم بطاعتهم في غير معصية، ما لم يحصل منهم كفر بواح، بخلاف المعتزلة الذين يوجبون الخروج على الأئمة إذا ارتكبوا شيئا من الكبائر، ولو لم يكن كفرا، ويعتبرون هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والواقع أن عمل المعتزلة هذا هو أعظم المنكر؛ لما يترتب(35/150)
عليه من مخاطر عظيمة من الفوضى وفساد الأمر، واختلاف الكلمة وتسلط الأعداء.(35/151)
سادسا: ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله، كما وصفهم الله بذلك في قوله تعالى، لما ذكر المهاجرين والأنصار وأثنى عليهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) ، وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا- ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه (2) » ، خلافا للمبتدعة من الرافضة والخوارج الذين يسبون الصحابة ويجحدون فضائلهم، ويرى أهل السنة أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، فمن طعن في خلافة واحد من هؤلاء- فهو أضل من حمار أهله؛ لمخالفته النص والإجماع على خلافة هؤلاء، على هذا الترتيب.
__________
(1) سورة الحشر الآية 10
(2) صحيح البخاري المناقب (3673) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2541) ، سنن الترمذي المناقب (3861) ، سنن أبو داود السنة (4658) ، سنن ابن ماجه المقدمة (161) ، مسند أحمد بن حنبل (3/55) .(35/151)
سابعا: ومن أصول أهل السنة والجماعة محبة أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوليهم؛ عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، بقوله: «أذكركم الله في أهل بيتي (1) » ، ومن أهل بيته أزواجه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن، فقد قال الله تعالى بعدما خاطبهن بقوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} (2) ووجه إليهن نصائح ووعدهن بالأجر العظيم، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (3) ، والأصل في أهل البيت قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بهم هنا الصالحون منهم خاصة، أما قرابته غير الصالحين- فليس لهم حق؛ كعمه أبي لهب ومن شابهه، قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (4) السورة؛ فمجرد القرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم والانتساب إليه، من غير صلاح الدين، لا يغني صاحبه من الله شيئا؛ قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر قريش اشتروا
__________
(1) صحيح مسلم فضائل الصحابة (2408) ، مسند أحمد بن حنبل (4/367) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3316) .
(2) سورة الأحزاب الآية 30
(3) سورة الأحزاب الآية 33
(4) سورة المسد الآية 1(35/151)
أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا (1) » ، وقرابة الرسول الصالحون لهم علينا حق الإكرام والمحبة والاحترام، ولا يجوز لنا أن نغلو فيهم؛ فنتقرب إليهم بشيء من العبادة، أو نعتقد فيهم أنهم ينفعون أو يضرون من دون الله؛ لأن الله سبحانه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (2) ، {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (3) .
فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك، فكيف بغيره، فما يعتقده بعض الناس بمن ينتسبون لقرابة الرسول اعتقاد باطل.
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2753) ، صحيح مسلم الإيمان (206) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3185) ، سنن النسائي الوصايا (3646) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) ، سنن الدارمي الرقاق (2732) .
(2) سورة الجن الآية 21
(3) سورة الأعراف الآية 188(35/152)
ثامنا: ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء، وهي ما قد يجريه الله على أيدي بعضهم، من خوارق العادات إكراما لهم، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وقد أنكر وقوع الكرامات المعتزلة والجهمية، وهو إنكار لأمر واقع معلوم، ولكن يجب أن نعلم أن من الناس في وقتنا من ضل في موضوع الكرامات وغالى فيها، حتى أدخل فيها ما ليس منها من الشعوذة وأعمال السحرة والشياطين والدجالين، والفرق واضح بين الكرامة والشعوذة؛ فالكرامة ما يجري على أيدي عباد الله الصالحين، والشعوذة ما يجري على يد السحرة والكفرة والملاحدة؛ بقصد إضلال الخلق وابتزاز أموالهم، والكرامة سببها الطاعة، والشعوذة سببها الكفر والمعاصي.(35/152)
تاسعا: ومن أصول أهل السنة والجماعة، في الاستدلال، اتباع ما جاء في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، باطنا وظاهرا، واتباع ما كان عليه الصحابة من المهاجرين والأنصار عموما، واتباع الخلفاء الراشدين خصوصا؛ حيث أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(35/152)
ولا يقدمون على كلام الله وكلام رسوله كلام أحد من الناس؛ ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة، وبعد أخذهم بكتاب الله وسنة رسول الله- يأخذون بما أجمع عليه علماء الأمة، وهذا هو الأصل الثالث الذي يعتمدون عليه بعد الأصلين الأولين؛ الكتاب والسنة.
وما اختلف فيه الناس ردوه إلى الكتاب والسنة؛ عملا بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) ؛ فهم لا يعتقدون العصمة لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتعصبون لرأي أحد حتى يكون موافقا للكتاب والسنة، ويعتقدون أن المجتهد يخطئ ويصيب، ولا يسمحون بالاجتهاد إلا لمن توفرت فيه شروطه المعروفة عند أهل العلم، ولا إنكار عندهم في مسائل الاجتهاد السائغ.
فالاختلاف عندهم في المسائل الاجتهادية- لا يوجب العداوة والتهاجر بينهم، كما يفعله المتعصبة وأهل البدع، بل يحب بعضهم بعضا، ويوالي بعضهم بعضا، ويصلي بعضهم خلف بعض مع اختلافهم في بعض المسائل الفرعية، بخلاف أهل البدع؛ فإنهم يعادون أو يضللون أو يكفرون من خالفهم.
__________
(1) سورة النساء الآية 59(35/153)
الخاتمة
ثم هم مع هذه الأصول، التي مر ذكرها، يتحلون بصفات عظيمة هي من مكملات العقيدة، ومن أعظم هذه الصفات:
أولا: أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، على ما توجبه الشريعة؛ عملا بقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (1) ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (2) » ، وقلنا على ما توجبه الشريعة، خلافا للمعتزلة الذين يخرجون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عما توجبه الشريعة، فيرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الخروج على ولاة أمر المسلمين - إذا ارتكبوا معصية، وإن كانت دون الكفر. فأهل السنة والجماعة يرون مناصحتهم في ذلك، دون الخروج عليهم، وذلك لأجل جمع الكلمة والابتعاد عن الفرقة والاختلاف، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلا وكان في خروجها من الفساد أكثر من الذي في إزالته.
ثانيا: ومن صفات أهل السنة والجماعة المحافظة على إقامة شعائر الإسلام، من إقامة صلاة الجمعة والجماعة، خلافا للمبتدعة والمنافقين الذين لا يقيمون الجمعة والجماعة.
ثالثا: ومن صفاتهم قيامهم بالنصيحة لكل مسلم، والتعاون على البر والتقوى؛ عملا بقوله صلى الله عليه وسلم «الدين النصيحة. قلنا لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (3) » ، وبقوله صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا (4) » .
رابعا: ومن صفاتهم: ثباتهم في مواقف الامتحان، وذلك بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 110
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .
(3) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(4) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .(35/154)
خامسا: ومن صفاتهم أنهم يتحلون بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وبر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار، وينهون عن الفخر والخيلاء، والبغي والظلم، والترفع على الناس؛ عملا بقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (1) ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا (2) » ، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) سنن الترمذي الرضاع (1162) ، مسند أحمد بن حنبل (2/250) ، سنن الدارمي الرقاق (2792) .(35/155)
صفحة فارغة(35/156)
حب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسامة بن زيد
بقلم د. محمد بن سعد الشويعر
واحد من شباب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث توفي صفوة الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وهو في الثامنة عشرة من عمره "18 عاما"، ويكفيه مكانة أنه ولد ونشأ في بيت النبوة، وفتح عينيه، بعدما بدأ يعي أمور الدنيا على تباشير الدعوة المحمدية، التي جاءت من عند الله، يترجع صداها من جبال مكة ووهادها، وليدرك من حركات القوم في مكة أخبار السابقين لدين الإسلام، وما يلاقونه من جبابرة قريش من مشقة وجهود وأعمال، يراد منها إطفاء هذا النور، الذي أرسله الله ليضيء القلوب، قبل انبلاجه على البطاح والقفار.
ولتتروى منه النفوس الظامئة، التي أراد الله لها الخير، أمكن من حرصهم على تتبع خضرة ما تحتاجه أنعامهم من كلأ تتفتح عنه الأرض، بعدما يصيبها الوابل في فصل الشتاء.
بل يكفيه فخرا أن رسول الهداية صلى الله عليه وسلم أوصى به خيرا، واعتبره من أحب الناس إليه، وأكرم بها منزلة؛ فقد روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أسامة بن زيد لأحب الناس إلي، أو من أحب الناس إلي، وأنا أرجو أن يكون من صالحيكم، فاستوصوا به خيرا (1) » .
وقد أدرك مكانة هذا الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في
__________
(1) أسد الغابة لابن الأثير: 79: 1.(35/157)
مواقف عديدة، استئناسا بمكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركون أن من لوازم حسن الاتباع في دين الإسلام- محبة ما أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم والحرص عليه، وبغض ما أبغضه رسول الله صلى الله عليه وسلم والبعد عنه؛ اهتماما بالصحبة، وتقربا إلى الله بمثل ذلك العمل، كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه وأبو هريرة رضي الله عنه، في حديثين روياهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين (1) » أخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
وإدراك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، جاء من تلك النظرة الشمولية التي تربت عليها نفوس صحابة رسول الله المتروية من منبع الرسالة الصافي، فاهتموا بكل أمر يهتم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقاسوا الأمور على ذلك المحك الإيماني الرفيع، حرصا واهتماما، واتباعا وحسن توجيه. .
فنراه رضي الله عنه، ينقاد وبطواعية وراحة نفس إلى الانضمام للجيش الذي عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لواءه، وأمر عليه أسامة بن زيد رضي الله عنه، مع حداثة سنه، ولم يتأفف ابن الخطاب رضي الله عنه، مع جلالة قدره، ومع تقدم سنه ومكانته في الإسلام، قوة وسبقا. أعز الله الإسلام به، بل ولم يدر بخلده ولا جال في خواطر كثير من كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار أن يتمردوا على قائدهم الجديد؛ لأنهم انتقدوا بعض الناس الذين طعنوا في هذه الإمارة، والتي ما هي إلا طعن في أمر صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقد ذكره الكاندهلوي «أن القالة لما كثرت في ذلك، فسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض ذلك القول فرده على من تكلم به، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد اشتكى فأخبره بقول من قال، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، وقد عصب على رأسه بعصابة، وعليه قطيفة، ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ . فوالله، لئن طعنتم في إمارتي أسامة، لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وايم الله، إن
__________
(1) رواية أنس، أما رواية أبي هريرة- ففيها زيادة في بداية الحديث، والذي نفسي بيده، ورواها البخاري والنسائي.(35/158)
كان للإمارة لخليق، وإن ابنه من بعده لخليق بالإمارة، وإن كان لأحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي، وإنهما لمخيلان لكل خير، فاستوصوا به خيرا، فإنه من خياركم (1) » .
ولذا نرى عمر رضي الله عنه قد اهتم بالانضواء تحت إمرة أسامة بن زيد رضي الله عنهما، كما انقاد مثله كثير من كبار المهاجرين والأنصار؛ حيث لم يبق من المهاجرين أحد إلا انتدب في تلك الغزوة، ومن هؤلاء: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد من المهاجرين، وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم من الأنصار وغيرهم.
لكن أبا بكر رضي الله عنه، لما بويع- سأل أسامة أن يبقى عنده في المدينة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأن يعفيه من الذهاب في هذا البعث؛ لحاجته إليه في الاستشارة والإعانة- ففعل أسامة تقديرا منه لأبي بكر، وإعانة له في المهمة الكبيرة المناطة به (2) .
ولما تقلد عمر رضي الله عنه إمرة المؤمنين بعد وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وبدأ تدوين العطاءات للمهاجرين والأنصار. نراه «يفرض لأسامة بن زيد رضي الله عنهما ثلاثة آلاف وخمسمائة، ويفرض لابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ثلاثة آلف فقط، ولما قال عبد الله لأبيه: لم فضلت أسامة علي، فوالله ما سبقني إلى مشهد. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جواب محكم: اسكت عبد الله، وأعطاه درسا سار عليه بقية حياته؛ لأن زيدا كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيك، وكان أسامة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فآثرت حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، على حبي (3) » ، أخرجه الترمذي، وقال حسن غريب.
__________
(1) حياة الصحابة 1: 407، نقلا عن ابن عساكر في التهدب 1: 120، في قصة اهتمامه صلى الله عليه وسلم ببعث أسامة إلى الشام في مرض وفاته.
(2) من حديث رواه الترمذي في مناقب أسامة برقم 3819، وانظر طبقات ابن سعد 4: 67.
(3) سنن الترمذي المناقب (3813) .(35/159)
ولذا لما نظر عبد الله بن عمر يوما، وهو في المسجد إلى رجل يسحب ثيابه في ناحية من المسجد- قال: انظروا من هذا؟ فقال له إنسان: أما تعرف هذا يا أبا عبد الرحمن؟ هذا محمد بن أسامة بن زيد. قال: عبد الله بن دينار رحمه الله - وهو راوي الخبر -: فطأطأ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رأسه، ثم قال: لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحبه (أخرجه البخاري) (1) .
ولذا نرى كثيرا من كتب الحديث والسير تهتم بأخباره رضي الله عنه ومناقبه، كما اهتمت بأخبار ومناقب أبيه زيد بن حارثة رضي الله عنه، الذي أنزل حكما شرعيا، اقترن باسمه وزواجه من زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنهما (2) ، نسخ بموجبه ما كان سائدا عند العرب من اعتبار الولد بالتبني، أو بإلحاق النسب، قائما مقام النسب الحقيقي؛ حيث قطع الله هذه النسبة، وجاء هذا الحكم لئلا يبقى حرج على المؤمنين، في تزويج مطلقات الأدعياء.
__________
(1) 7: 70، باب ذكر أسامة بن زيد رضي الله عنهما،.. في فضائل الصحابة.
(2) انظر تفسير سورة الأحزاب الآية 37 عند ابن كثير رحمه الله 3: 490- 492.(35/160)
مولده ونشأته:
لم تذكر كثير من الكتب تحديدا ثابتا لولادة أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، لكن ابن سعد ذكر في طبقاته أنه كان يكنى بأبي محمد، وأمه أم أيمن، واسمها بركة حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاته، وكان زيد بن حارثة - في رواية بعض أهل العلم - أول الناس إسلاما، ولم يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه بأم أيمن، وولدت له أسامة بمكة، ونشأ حتى أدرك، ولم يعرف إلا الإسلام لله تعالى، ولم يدر بغيره، وهاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا شديد، وكان عنده كبعض أهله (1) .
أما ابن الأثير فقد ذكر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: استعمله أميرا على بعث الشام، وكان عمره ثمان عشرة سنة (2) » ، وجاء في دائرة المعارف الإسلامية أن ولادته
__________
(1) طبقات ابن سعد 4: 61.
(2) أسد الغابة 1: 80.(35/160)
كانت في العام الرابع من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم (1) ، بمكة، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جهز هذا البعث الذي أسند إمرته إلى أسامة بن زيد، رضي الله عنهما، في المرض الذي توفي فيه، عليه الصلاة والسلام، وكان هذا في السنة العاشرة من الهجرة، فإنه يترجح لدينا أن ولادته رضي الله عنه كانت في السنة الثامنة قبل الهجرة، وليست في السنة السابعة، كما ذكر الزركلي عند مروره باسمه في تراجمه (2) ؛ إذ يلزم من ذلك أن يكون عمره رضي الله عنه عندما أسندت إليه هذه الإمارة، في آخر شهر صفر من عام 10 هـ بعد حجة الوداع، كما ذكر ابن هشام في سيرته (3) سبعة عشر عاما، ولا تكون أيضا في الرابع من البعثة، كما جاء في دائرة المعارف الإسلامية المشار إليه آنفا، فكانت نشأته في مكة؛ حيث عاش في بيت النبوة ثمان سنوات، ترعاه أمومة حانية هي الحضن الذي حنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في مثل سن أسامة، فكان هذا موطن اعتزاز وشرف، ثم لما وعت أحاسيسه لما يدور من حوله، تأدب بأخلاق النبوة، توجيها وعناية وحنوا وعطفا، فكان يلقى من رسول الله أكثر مما يجد من أبيه الذي هو من صلبه حبا وشفقة، ثم هاجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بمصاحبة والديه الملازمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتفتحت مواهبه على توجيهات ورعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يأخذ من كل موقف درسا، ومن كل حادثة تمر عليه عبرة وعظة، فمن ذلك:
1 - أنه عسكر بجيشه الذي أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجرف، وهو موضع قرب المدينة على ثلاثة أميال منها، به كانت أموال عمر رضي الله عنه، وهو الموضع الذي استعرض فيه أبو بكر رضي الله عنه القبائل، حتى مر ببني فزارة (4) ؛ حتى تتام الناس إليه فخرجوا، وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام والناس معه، لينظروا ما الله قاض في رسوله. . فلما توفي رسول الله،
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية 3: 229.
(2) الأعلام 1: 281.
(3) السيرة النبوية لابن هشام 4: 253.
(4) تاج العروس 6: 56.(35/161)
واستخلف أبو بكر رضي الله عنه جاء إليه يستأذنه، فأذن له وقال: والله لا أحل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 - لم يشهد مع علي رضي الله عنه من حروبه شيئا، وقال له: لو أدخلت يدك في فم تنين لأدخلت يدي معها، ولكنك قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين قتلت ذلك الرجل الذي شهد أن لا إله إلا الله، وحكاية ذلك، كما ذكر ابن الأثير بسنده: «أن أسامة قال: أدركته، يعني كافرا، كان قتل في المسلمين في غزاة لهم، قال: أدركته أنا ورجل من الأنصار، فلما شهرنا عليه السلاح- قال: أشهد أن لا إلا الله، فلم نبرح عنه حتى قتلناه.
فلما قدمنا على رسول الله أخبرناه خبره، فقال: يا أسامة، من لك بلا إله إلا الله؟ فقلت: يا رسول الله، إنما قالها تعوذا من القتل، فقال: من لك يا أسامة بلا إله إلا الله؟ فوالذي بعثه بالحق ما زال يرددها علي، حتى وددت أن ما مضى من إسلامي لم يكن، وأني أسلمت يومئذ، فقلت: أعطي الله عهدا أن لا أقتل رجلا يقول: لا إله إلا الله (1) » . . فكان هذا تبريرا أوضحه لعلي رضي الله عنه؛ لكي لا يكود معه ولا ضده، حيث روي أنه ممن اعتزل ما حصل بين الصحابة بعد فتنة عثمان رضي الله عنه؛ ولذا قال لعلي رضي الله عنه في موقف آخر، ضمن رسالة شفوية بعث بها مولاه حرملة. فقال له: أقرئه السلام، وقل له: إنك لو كنت في شدق الأسد- لأحببت أن أدخل معك فيه، ولكن هذا أمر لم أره (2) .
3 - ولما «أهم قريشا أمر المرأة المخزومية التي سرقت. فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقالوا: ومن يجترئ عليه، إلا أسامة بن زيد حب رسول الله؟ ، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تشفع في حد من حدود الله؟ .
ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ابن سعد بسنده من حديث عائشة رضي الله
__________
(1) أسد الغابة1: 80.
(2) طبقات ابن سعد 4: 71.(35/162)
عنها، فاختطب، فقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (1) » ، فكان هذا درسا، تأدب به أسامة رضي الله عنه، بعدم الشفاعة في حد من حدود الله، ولم يرو عنه شيء من ذلك بعد ذلك، بل توقف عن الشفاعة، وكان ابن سعد قد ذكر «أن أسامة كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء فيشفعه فيه، فأتاه مرة في حد، فقال: يا أسامة، لا تشفع في حد من حدود الله (2) » .
فما كان رضي الله عنه لينهى عن شيء ويأتيه، وهو الذي يدرك جيدا دلالة قول الله جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) ، كما أنه قد ذكر عائشة بالخير- عندما خاض الناس في حديث الإفك (4) 4 - كان بارا بوالدته رضي الله عنهما: أم أيمن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرص على إجابة كل مطلب ترغبه منه، وفي عهد عثمان رضي الله عنه، بلغت النخلة ألف درهم، قال محمد بن سيرين: فعمد أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى نخلة فنقرها، وأخرج جمارها فأطعمها أمه، فقالوا له: ما يحملك على ذلك، وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم؟ قال: إن أمي سألتنيه، ولا تسألني شيئا أقدر عليه إلا أعطيتها (5) .
وهذه مكانة رفيعة في حسن الأدب مع الوالدين، والحرص على برهما؛ امتثالا لأمر الله جل وعلا، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في الحرص على الوفاء للوالدين بحقهما، والاهتمام ببرهما، وأداء ما يجب نحوهما؛ لأن رضاهما من رضا الله، وطاعتها بالمعروف من طاعة الله.
__________
(1) طبقات ابن سعد 4: 70.
(2) الطبقات 4: 69.
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) دائرة المعارف الإسلامية 3: 229.
(5) طبقات ابن سعد 4: 71.(35/163)
5 - كان يترسم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات، ويتأسى به في القربات، ويهتم بتطبيق توجيهاته في اعتزال الفتن إذا برز رأسها؛ مخافة الوقوع فيها؛ ولذا نراه رضي الله عنه في آخر أيامه يتنقل ما بين وادي القرى؛ لأن له به مالا، وبين الجرف حيث استوطن إلى أن قبضه الله إليه.
فقد روى أحد مواليه أنه كان يركب إلى مال له بوادي القرى، فيصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، فقال له: أتصوم في السفر وقد كبرت ورفعت؟ (1) . قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس، وقال: إن الأعمال تعرض يوم الاثنين ويوم الخميس (2) » ؛ فكان يسمع ليطبق، ويعرف ليتأسى؛ حيث ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم، رحمهما الله، له 128 حديثا (3) .
كان رده في كثير من المواقف يتصف بالأدب الرفيع الذي تلقاه من مدرسة النبوة، ويحرص على التواضع في أعماله؛ فقد روي عن عبيد الله بن عبد الله أنه قال: " رأيت أسامة بن زيد يصلي في مكان بارز بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعي مروان إلى جنازة ليصلي عليها، فصلى عليها ثم رجع، وأسامة يصلي عند باب بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مروان: إنما أردت أن يرى مكانك، فعل الله بك وفعل، وقال قولا قبيحا، ثم أدبر، فانصرف أسامة، وقال: يا مروان، إنك آذيتني، وإنك فاحش متفحش، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يبغض الفاحش المتفحش (4) » .
وما ذلك إلا أن الصفوة الأولى من هذه الأمة، حيث يعتبر أسامة بن زيد واحدا من رجالات الطبقة الثانية من المهاجرين والأنصار، حسب تقسيمات ابن سعد في طبقاته؛ لأنه اعتبر البدريين هم الطبقة الأولى، ومن لم يشهد بدرا، ولهم إسلام قديم، وهاجر عامتهم إلى أرض الحبشة، وشهدوا أحدا وما
__________
(1) أي نحفت؛ لأنه قد روي عنه رضي الله عنه أنه كان ذا بطن.
(2) سنن النسائي الصيام (2358) ، سنن أبو داود الصوم (2436) ، مسند أحمد بن حنبل (5/205) ، سنن الدارمي الصوم (1750) .
(3) الأعلام للزركلي1: 282.
(4) أسد الغابة 1: 81.(35/164)
بعدها من المشاهد، هم رجال الطبقة الثانية (1) هؤلاء الصفوة بطبقاتهم هم خير من بلغ الرسالة، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتماما بالعمل، وتثبتا في النقل، وصدقا في العبارة، وترسما لخطى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمر، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات من كتاب الله، لم يتجاوزهن حتى يحفظهن ويعمل بهن؛ ولذا عقد العلماء بابا لأهمية العلم قبل القول والعمل (2) .
__________
(1) طبقات ابن سعد 4: 5.
(2) انظر فتح الباري ج 1 ص 159.(35/165)
وفاته:
في الحديث عن وفاة أسامة بن زيد، يحسن بنا أن نتعرض لما وصلنا عن صفاته، وعن أولاده وتاريخ الوفاة ومكانها، كما هي عادة المؤرخين العرب؛ لارتباط هذه الأشياء بحياة المتوفى ومكانته. فأما عن صفاته: فقد ذكر ابن الأثير أن أسامة بن زيد رضي الله عنهما كان أسود أفطس (1) ، ويعضد هذه الرواية ما ذكره ابن سعد رواية عن هشام بن عروة، عن أبيه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الإفاضة من عرفة، من أجل أسامة بن زيد ينتظره، فجاء غلام أفطس أسود، فقال أهل اليمن: إنما جئنا من أجل هذا، قال: فلذلك كفر أهل اليمن من أجل ذا» . قال محمد بن سعد: قلت ليزيد بن هارون: ما يعني بقوله: كفر أهل اليمن من أجل هذا؟ قال: ردتهم حين ارتدوا في زمن أبي بكر، إنما كانت لاستخفافهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم (2) . ولضحكة. . . رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى وجه أسامة دلالة ومعنى، تفسرها تلك العبارة التي قالها لعائشة رضي الله عنها، فقد ذكر ابن سعد عن أبي السفر قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس هو وعائشة، وأسامة عندهم، إذ نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه أسامة فضحك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أن أسامة جارية لحليتها وزينتها حتى أنفقها (3) » ، وجاء في البداية والنهاية من صفاته: أنه كان أسود كالليل، أفطس حلوا حسنا كبيرا فصيحا عالما ربانيا (4) ، وكان له بطن، فكان يسميه بعضهم ذا البطن (5) ، وقد روي عن
__________
(1) أسد الغابة 1: 81.
(2) الطبقات 4: 63.
(3) الطبقات 4: 62.
(4) البداية والنهاية 5: 312.
(5) طبقات ابن سعد 4: 69.(35/165)
ميمونة أنها رأت قريبا لها، وقد أرخى إزاره بطنه، فلامته في ذلك ملامة شديدة، فقال لها: إني قد رأيت أسامة بن زيد رخي إزاره، فقالت: كذبت، ولكن كان ذا بطن، فلعل إزاره كان يسترخي إلى أسفل بطنه (1) .
وأسامة بن زيد الذي رفعه الله بالإسلام؛ فأنقذه الله ومن قبله والده من الرق، وأكرمهما بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما، واختصاصها ليكونا ممن يحوطهما بحنانه الأبوي، ويخصها بدعاء يرفع الله به منزلتهما في الآخرة، كما شوهد عيانا رفع منزلتهما في الدنيا، بالذكر الحسن والتوفيق في المهمات، وحسن الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله، وطواعيتهما الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان أسامة رضي الله عنه هو خير من أدرك هذه المكانة، وجميع صحابة رسول الله خيار، ويهتمون بكل عمل خير؛ فكان في تصرفاته متمثلا للشكر على ما تفضل الله به عليه، قدوة في التنفيذ، وحرصا على العمل، واهتماما بدلالة النص من مصدره الشرعي، وتواضعا في النفس، وتلمسا لمداخل الخير، وأداء لما فرض الله عليه: شرفا للصحبة الكريمة، ومحبة لله ولرسوله، وإخلاصا في العمل، وفي إمرته على الجيش في الشام كان مظفرا موفقا.
ذلك أن الصفات النبيلة والأخلاق الرفيعة قد وقرت في نفوسهم؛ أخذا من كتاب الله الذي كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قالت عائشة رضي الله عنها (2) ؛ لأن امتثال القرآن، أمرا ونهيا، سجية له صلى الله عليه وسلم، وخلق تطبعت به نفسه، فترك طبعه الجبلي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جعله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم، وكل خلق جميل.
فكانت هذه الصفات النبوية والأخلاق الكريمة، قدوة لصحابته، يتحلون بها، ويهتمون باحتذائها وتلمس مداخلها لينتهجوها قدوة صالحة، وأسامة بن زيد واحد من أبناء مدرسة النبوة، بل هو من ألصق الصحابة بها، منذ التحق
__________
(1) طبقات ابن سعد 4: 71.
(2) انظر تفسير ابن كثير 4: 402.(35/166)
والده زيد بن حارثة بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل بعثه صلى الله عليه وسلم، وإلى تسلسل مسيرة الحياة له ولابنه أسامة، فكانا ألصق برسول الله صلى الله عليه وسلم من الأبناء بآبائهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحنى عليهما من الأب على أبنائه المنحدرين من صلبه، ثبت في الصحيحين عن أنس، قال: «خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله إلا فعلته؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا، ولا لامست خزا ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) » ، ومن هنا كان كل فرد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالا في الصدق ونبل الأخلاق؛ حيث مدحهم الله جل وعلا، في مواطن من كتابه الكريم، ونهى رسول الله عن النيل منهم، وأبان عن فضلهم ومكانتهم، وجاءت أحاديث في فضائلهم كاملة، وأحاديث مخصصة في فضائل أفراد منهم.
ومن فضائل الأفراد، وردت أحاديث في فضائل زيد بن حارثة، وابنه أسامة بن زيد رضي الله عنهما (2) ، كما ذكر ابن كثير في تاريخه اهتمام أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بأسامة، حتى أن عمر لا يلقاه إلا قال له: "السلام عليك أيها الأمير" (3) ؛ حيث ذكر ابن سعد أنه يقول: ما كنت لأحيي أحدا بالإمارة غير أسامة بن زيد؛ لأن رسول الله قبض وهو أمير (4) .
وأما أولاده فقد ذكر ابن الأثير أنه كان يكنى أبا محمد، وقيل أبو زيد، وقيل أبو يزيد، وقيل أبو خارجة، وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبويه (5) ، والكنية قد تكون من مسميات أولاده، ما عرفنا منهم وما لم نعرف، وقد تكون اختيارا لحق به، كما هي عادة العرب، ولكن الذي وصل إلينا علمه عن أولاده رضي الله عنه أن عددهم سبعة: خمسة أبناء وبنتان، والأبناء هم محمد وجبير وزيد وحسن وحسين، والبنتان عائشة وهند.
وقد ذكر ابن سعد «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج أسامة لما بلغ، وهو ابن أربع
__________
(1) انظر تفسير ابن كثير 4: 402.
(2) راجع في فضائلهما جامع الأصول في أحاديث الرسول لابن الأثير 9: 37- 41.
(3) البداية والنهاية 5: 312.
(4) أسد الغابة 1: 71.
(5) الطبقات 4: 67.(35/167)
عشرة سنة، ثم ذكر من زوجاته ثمان (1) » ، مما يدل على أنه قد رزق أولادا أكثر من ذلك، وأن بعضهم قد يكون توفي صغيرا، فلم يأت له ذكر، أو أن الرواة أغفلوا سيرته؛ حيث لوحظ أن سيرته رضي الله عنه، قد أسدل الستار على كثير منها، بعدما اختار لنفسه العزلة، ولم يرو إلا النزر اليسير منها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبار الجيش الذي بعثه صلى الله عليه وسلم بقيادة أسامة، وقد ورد عن محمد بن عمر: أن أولاد أسامة بن زيد من الرجال والنساء، في كل دهر، لم يبلغوا أكثر من عشرين إنسانا (2) وعن تاريخ وفاته ومكانها: جاءت بعض الاختلافات:
ذكر ابن سعد، عن محمد بن عمر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قبض، وأسامة ابن عشرين سنة (3) » ، وعلى رأيه هذا الذي لم يعضده أحد يكون مولده عام 10 قبل الهجرة، وسنه عندما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرون عاما، وهذا يخالف ما أجمع عليه بأن عمره ثمانية عشر عاما.
والزركلي في الأعلام يرى أنه: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم - رحل أسامة إلى وادي القرى فسكنه، ثم انتقل إلى دمشق في أيام معاوية، فسكن المزة، وعاد بعد ذلك إلى المدينة، فأقام إلى أن مات بالجرف، في آخر خلافة معاوية في عام (4) ، وعن وادي القرى الذي أبان الزركلي أن أسامة سكنه، قال ياقوت في معجمه: هو واد بين المدينة والشام، من أعمال المدينة، كثير القرى، وفتحها النبي صلى الله عليه وسلم عام سبع عنوة، ثم صولحوا على الجزية، قال أحمد بن جابر: في سنة سبع، لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر، توجه إلى وادي القرى، فدعا أهلها للإسلام، فامتنعوا عليه وقاتلوه، ففتحها عنوة، وغنم أموالها، وأصاب المسلمون منهم أثاثا ومتاعا، فخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وترك النخل والأرض في أيدي
__________
(1) راجع الطبقات 4: 72.
(2) راجع الطبقات 4: 72.
(3) الطبقات 4: 72.
(4) الأعلام 1: 282.(35/168)
اليهود وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر، فقيل إن عمر رضي الله عنه أجلى يهودها فيمن أجلى، فقسمها بين من قاتل عليها، وقيل إنه لم يجلهم؛ لأنها خارجة من الحجاز، وهي الآن مضافة إلى عمل المدينة، وكان فتحها في جمادى الآخرة سنة سبع (1) .
وهذا يدل على أن وادي القرى بعيد عن المدينة، فيقدر اليوم بما يزيد عن 150 كم، وهو العلا وما حولها، وأن إقامة أسامة لم تكن مستمرة، وذلك أن الروايات عند ابن عساكر وابن سعد وابن الأثير وغيرهم، وعنهم أخذ الزركلي في الإعلام، قد اتفقت على أن وفاته كانت في الجرف قرب المدينة، وأنه نقل إلى المدينة حيث دفن رضي الله عنه.
وعن الجرف يقول ياقوت الحموي: الجرف، بالضم والسكون، موضع على ثلاثة أميال من المدينة، نحو الشام، به كانت أموال لعمر بن الخطاب، ولأهل المدينة، وفيه بئر جشم، وبئر جمل، قالوا سمي الجرف، فقال هذا جرف الأرض، وكان يسمى الأرض، وفيه قال كعب بن مالك:
إذا ما هبطنا العرض قال سراتنا ... علام إذا لم تمنع العرض نزرع (2)
وعن وفاته، يذكر ابن الأثير في ترجمة حياته أنه رضي الله عنه توفي آخر أيام معاوية، سنة ثمان أو تسع أو خمسين، وقيل توفي سنة أربع وخمسين، قال أبو عمر: وهو عندي أصح، وحمل إلى المدينة، وقيل توفي بعد قتل عثمان بالجرف، وحمل إلى المدينة روى عنه أبو عثمان النهدي، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة وغيرهما (3) .
ومعلوم أن عثمان رضي الله عنه ثالث الخلفاء الراشدين قد توفي عام 35 هـ، ولعل الخلاف في تاريخ الوفاة جاء من اعتزاله رضي الله عنه وتفرغه للعبادة، حيث كانت الفتنة التي عصفت بالمسلمين، ونتج عنها قتل عثمان، ثم ما وقر بأسماع الصحابة عن الفتن، والأمر بالبعد عنها، من أسباب
__________
(1) معجم البلدان 5: 345.
(2) معجم البلدان 2: 128.
(3) أسد الغابة 1:81 لعل الصواب: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة(35/169)
اعتزال أسامة وغيره من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخيار التابعين، كما روي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، الذي روي عنه بأنه توفي بالربذة من قرى المدينة عام 32 هـ، وبعد أن استأذن عثمان بالذهاب إليها (1) .
وهذا الاعتزال أبعدهم عن الأضواء، ومتابعة الكاتبين؛ لخوفهم على أنفسهم، وليكونوا قدوة لغيرهم، في حرصهم على تطبيق سنة رسول ربهم، والصدور عن توجيهاته.
ولعل الأرجح في تاريخ وفاته ومكانها هو ما ذكره ابن الأثير، وهو عام 54 هـ، وأنه بالجرف حيث نقل للمدينة ودفن بها رضي الله عنه، وأيده صاحب الاستيعاب، وبهذا أخذ المتأخرون كالزركلي في الأعلام وغيره، وبه يقول: ابن كثير (2) .
__________
(1) أسد الغابة 6: 100، وطبقات ابن سعد 4: 232.
(2) البداية والنهاية 5: 312.(35/170)
مكانته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ينفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنماذج هي من خصائصه الكريمة، في حسن استقبال الناس، وفي محبته لأصحابه، وفي اهتمامه بهم، وفي دعائه لهم، وتفقد أحوالهم، فهو صلى الله عليه وسلم ينزل كل فرد منزلته يوجه ويرشد، ويعطف على الصغير، ويرحم الضعيف، ويزور المريض، ويتفقد المحتاج. . ويمازح أصحابه، ويسرى عن نفوسهم؛ إذ لم يكن فظا ولا غليظا، ولا سخابا ولا مختالا، ولا فاحشا ولا متفحشا، حيث جمع الخصال الحميدة، والسجايا العالية. فكانت تلك الأخلاق تنعكس على أصحابه تعاملا ومحبة، فهو للصغير أب، وللفقير عائل، وللمحتاج ذخر، وللضعيف ناصر. .
وأسامة بن زيد الذي ولد في بيت النبوة، كان له في ذلك الدفق الأخلاقي نصيب وافر، حيث فتح عينيه، ونما جسمه في أيام حياته طفولة وشبابا، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تشمله، ودعواته الكريمة تكتنفه، وهذا من وفاء(35/170)
رسول الله صلى الله عليه وسلم واهتمامه برعيته، بخلاف ما يدسه أعداء الإسلام، كما ذكر المستشرقون في الموسوعة الإسلامية: أن هذه المحبة ترجع إلى الرغبة في التقليل من شأن بيت علي (1) .
وقد روي في سيرة أسامة مواقف تنبئ عن مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبته صلى الله عليه وسلم له ولأبيه زيد بن حارثة؛ منها:
1 - ما رواه ابن سعد بسنده، عن عائشة رضي الله عنها قالت: «عثر أسامة على عتبة الباب، أو أسكفة الباب فشج جبهته. فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، أميطي عنه الدم، فتقذرته. قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمص شجته ويمجه، ويقول: لو كان أسامة جارية لكسوته وحليته حتى أنفقه (2) » .
كما ذكر الترمذي في مناقب أسامة رضي الله عنه حديثا، عن عائشة رضي عنها قالت: «أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحي مخاط أسامة، قالت عائشة رضي الله عنها: دعني حتى أنا الذي أفعل، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة، أحبيه، فإني أحبه (3) » .
2 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، ويعطف عليه؛ فقد روى ابن سعد حديثين متصلين «بأسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ به وبالحسن بن علي، ويقول: اللهم إني أحبهما فأحبهما (4) » ، رواه البخاري في صحيحه أيضا.
وفي حديث ثالث رواه البخاري أيضا، قال أسامة بن زيد: «كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الأخرى، ثم يضمنا، ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما (5) »
وقد روى الشعبي، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول
__________
(1) دائرة المعارف الإسلامية 3: 230.
(2) الطبقات 4: 62، وأسد الغابة 1: 80.
(3) مناقب أسامة رقم 3818 وقال الترمذي حسن غريب.
(4) الطبقات 4: 62.
(5) الطبقات 4: 62.(35/171)
الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب الله ورسوله فليحب أسامة بن زيد (1) » ، ولهذا لما «فرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس في الديوان، فرض لأسامة بن زيد في خمسة آلاف، وأعطى ابنه عبد الله بن عمر في أربعة آلاف، فقيل له في ذلك؟ فقال: إنه كان أحب إلى رسول الله منك، وأبوه كان أحب إلى رسول الله من أبيك (2) »
3 - وقد ذكر ابن كثير في تاريخه: أن أسامة كان أسود كالليل، وأن أباه زيدا كان أبيض شديد البياض؛ ولهذا طعن بعض من لا يعلم في نسبه منه، ولما «مر مجزر المدلجي عليهما، وهما نائمان في قطيفة، وقد بدت أقدامهما، أسامة بسواده، وأبوه زيد ببياضه- قال: سبحان الله إن بعض هذه الأقدام لمن بعض، فأعجب بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل على عائشة مسرورا، تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجزرا أبصر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض (3) » .
وعلق على ذلك ابن كثير بقوله: " ولهذا أخذ الفقهاء من علماء الحديث، كالشافعي وأحمد من هذا الحديث، من حيث التقرير عليه، والاستبشار به، العمل بقول القافلة في اختلاط الأنساب واشتباهها، كما هو مقرر في موضعه (4) .
4 - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توسم فيه السداد والأهلية، مع حداثة سنه، فعهد إليه بإمارة البعث الذي جهزه صلى الله عليه وسلم قبل وفاته إلى الشام، وأوصاه ودعا له، فكان جديرا بهذه المكانة وكفئا لها، كما كان والده أهلا لقيادة الجيش في غزوة مؤتة عام 8 هـ، الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الشام، فقتل رضي الله عنه في تلك الموقعة، هو وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم جميعا؛ فقد روى ابن سعد حديثا بسنده إلى سالم عن أبيه،
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (6/157) .
(2) البداية والنهاية 5: 312. والترمذي برقم 3813 رواية الترمذي ثلاثة آلاف وخمسمائة لأسامة، وثلاثة آلاف لعبد الله بن عمر، وجاءت روايات أخرى بغير هاتين، ولعل الاختلاف بحسب ما يزيد في إيرادات الغنائم.
(3) طبقات ابن سعد 4: 63، البداية والنهاية 5: 312.
(4) البداية والنهاية 5: 312.(35/172)
أنه كان يسمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أمر أسامة، فبلغه أن الناس عابوا أسامة، وطعنوا في إمارته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فقال: كما حدث سالم: «ألا إنكم تعيبون أسامة وتطعنون في إمارته، وقد فعلتم ذلك بأبيه من قبل، وإن كان لخليقا للإمارة، وإن كان لأحب الناس كلهم إلي، وإن ابنه هذا من بعده لأحب الناس إلي، فاستوصوا به خيرا، فإنه من خياركم (1) » . قال سالم: ما سمعت عبد الله يحدث هذا الحديث قط، إلا قال: ما حاشا فاطمة (2) ، وقد وردت روايات عديدة في رغبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنفاذ جيش أسامة، ومنها تشديده صلوات الله وسلامه عليه على من اعترض على إمارته، وما ذلك إلا أن الاعتراض عليها مخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشكيك في حسن اختياره؛ إذ جميع أعماله عليه الصلاة والسلام تشريع للأمة، وقاعدة ينبغي الثبات عليها، لما وراءها من مصالح بعيدة الغور، ونتائج تريح المجتمعات، مهما مرت بها من أزمات ونوائب.
5 - وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو له، وأكرم بها من منزلة تدل على مكانة هذا الصحابي، واهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم به منذ ولادته؛ فقد روى الترمذي في مناقبه رضي الله عنه حديثا، قال فيه أسامة رضي الله عنه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عقد لي لواء في مرضه الذي مات فيه، وبرزت بالناس فلما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتيته يوما، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده علي ويرفعها، فعرفت أنه كان يدعو لي، فلما بويع أبو بكر كان أول ما صنع، أمر بإنفاذ تلك الراية التي عقدها لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان قد سألني في عمر أن أتركه له، ففعلت» ، هذه الرواية ذكرها البخاري، وفي رواية الترمذي قال.
«لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هبطت، وهبط الناس إلى المدينة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصمت فلم يتكلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده
__________
(1) أخرج الحديث البخاري ومسلم والترمذي في المناقب.
(2) طبقات ابن سعد 4: 66.(35/173)
علي ويرفعها، فعرفت أنه يدعو لي (1) » .
كما مر بنا أنه دعا له وللحسن بن علي بالرحمة، وأن يحبهما الله، وندب الناس إلى محبته أسامة، وأوصاهم به خيرا، والسمع له والطاعة في القيادة التي أسند إمرتها إليه.
6 - وقد عاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب من يقومه في أمر هذا الدين الذي لا يقبل المخادعة، ولا تنقض عراه بالقرابة، وإنما هو أمر الله الذي يجب أن تستقيم به النفوس، وتتربى عليه حواس الإنسان، وذلك في موضعين؛ المرة الأولى: عندما قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله، حتى إن تكرار عتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل أسامة يتمنى أنه لم يستقبل الإسلام مجددا إلا يومئذ (2) .
والثانية: عندما تشفع في المرأة المخزومية التي سرقت، بعد أن أهم أمرها قريشا، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لم تشفع في حد من حدود الله (3) » .
فكان في هذا العتاب درس لأسامة طوال حياته، ومنهج تشريعي للأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وهكذا يجد المتتبع لكثير من المواقف التي، حصلت في عهد النبوة، أن وراء حدوثها أسرارا وحكما تفيد أمة الإسلام، في تصريف الأمور في كل موقف مماثل، وتفيد علماء الإسلام، في استنباط الأحكام الشرعية في كل أمر يعترض أبناء الإسلام، لتستقيم بذلك حياة الناس، وتنتظم أمورهم بما يتلاءم مع شرع الله؛ ولذا نرى أسامة لم يشهد مع علي رضي الله عنه شيئا من مشاهده، واعتذر إليه بما قال رسول الله حين قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله (4) .
__________
(1) رواه الترمذي في مناقبه برقم 3817، وقال: حديث حسن غريب.
(2) راجع طبقات ابن سعد 4: 69.
(3) راجع طبقات ابن سعد 4: 70.
(4) البداية والنهاية 5: 312.(35/174)
7 - ولمكانة أسامة بن زيد رضي الله عنه، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يردفه على راحلته عندما يسير؛ فقد ذكر ابن كثير في تاريخه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أردف أسامة خلفه مرتين:
الأولى: على حمار عليه قطيفة، حين ذهب يعود سعد بن عبادة، قبل وقعة بدر.
والثانية: على ناقته حين دفع من عرفات إلى المزدلفة، في حجة الوداع (1) » .
أما ابن سعد فذكر أن هذا الإرداف الذي يدل على تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعطفه على أسامة بن زيد قد كان ثلاث مرات، ولم يذكر من بينها عيادة سعد بن عبادة؛ وهي:
الأولى: في حجة الوداع، فقد جاء بسند عن عطاء، عن ابن عباس، عن أسامة بن زيد «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفة، وهو رديف النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يكبح راحلته، حتى إن ذفراها ليكاد يصيب قادمة الرحل، وربما قال حماد بن سلمة: ليمس قادمة الرحل، ويقول: يا أيها الناس عليكم بالسكينة والوقار، فإن البر ليس في إيضاع الإبل (3) » .
وجاءت هذه برواية أخرى عن قتادة قال: حدثني عروة أن عامرا الشعبي حدثه «أن أسامة قال: إنه كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، فلما أفاض، لم ترفع راحلته رجلها عادية حتى بلغ جمعا (4) » .
الثانية: بسندها إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: «جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورديفه أسامة بن زيد، فسقيناه من هذا النبيذ، فشرب، ثم قال: أحسنتم فهكذا فاصنعوا (5) » .
__________
(1) البداية والنهاية 5: 312.
(2) طبقات ابن سعد 4 \ 64.
(3) جاء في تاج العروس: الذفرى في القفا، هو الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن 2: 5: 224. (2)
(4) طبقات ابن سعد 4 \ 64 وجمع هي المزدلفة.
(5) طبقات ابن سعد 4 \ 64.(35/175)
الثالثة: بسندها عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، ورديفه أسامة بن زيد، فأناخ في ظل الكعبة، قال ابن عمر: فسبقت الناس، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وبلال وأسامة الكعبة، فقلت لبلال، وهو وراء الباب: أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بحيالك بين الساريتين (2) » .
ومع هذا فيلاحظ المهتم: أن كل مرة اقترنت بفائدة شرعية، مما يدل على ملازمة أسامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ مع صغر سنه، فقد ثبت أنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 128 حديثا، ثبتت في الصحاح؛ حيث روى عنه الجماعة في كتبهم الستة، وهذا من خصائص هذا الصحابي الجليل، الذي يعتبر من شباب الصحابة، وممن ولد في الإسلام، ولم يدن بغيره.
8 - كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخصه بما يهدى إليه، ويؤثره بها، وهذا من منبع المحبة لهذا الصحابي، وفي نقل الخبر عن كل حالة، يستمد المسلم أثرا شرعيا، يجب عليه أن يتأسى به في النفس، وفي العمل؛ ففي النفس لما تتركه الهدية من ألفة بين النفوس، ومحبة تتقرب بها الأفئدة، وفي العمل لما يجب على المسلم أن يسترشد به من حكم، وما يأخذه من فائدة؛ لأن توجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو إلا حكم شرعي، والتأسي بصحابته في قدوتهم عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله.
فقد روى ابن سعد بسنده، عن أسامة بن زيد، أنه قال: «كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطية كثيفة كانت مما أهدى دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك لم تلبس القبطية؟ قال: قلت: يا رسول الله، كسوتها امرأتي. قال: فقال صلى الله عليه وسلم: مرها فلتجعل تحتها غلالة، إني أخاف أن تعض حجم عظامها (3) » .
وفي مرة ثانية «أهدى حكيم بن حزام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة كانت لذي
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (397) ، سنن أبو داود المناسك (2023) ، سنن ابن ماجه المناسك (3063) ، مسند أحمد بن حنبل (2/33) ، موطأ مالك الحج (910) ، سنن الدارمي المناسك (1866) .
(2) الطبقات 4: 64. (1)
(3) طبقات ابن سعد 4: 64.(35/176)
يزن، وهو يومئذ مشرك، اشتراها بخمسين دينارا، فقال رسول الله: إنا لا نقبل من مشرك، ولكن إذ بعثت بها فنحن نأخذها بالثمن، بكم أخذتها؟ قال: بخمسين دينارا، قال: فقبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلس على المنبر للجمعة، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكسا الحلة أسامة بن زيد (1) » .
__________
(1) طبقات ابن سعد 4: 65.(35/177)
مواقفه الحربية:
لما كان أسامة، على الأرجح، عندما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، يبلغ من العمر ثمانية عشر عاما- فإننا ندرك من منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في إجازة شباب الصحابة للحرب، حيث كان يمتحنهم، ولا يأذن لمن لم يبلغ الحلم منهم، أن أسامة لم يجز قبل الرابعة عشرة من عمره على أي حال، وهي السن التي زوجه فيه النبي الكريم لما بلغ.
وعلى هذا نستنتج أنه لم يشارك في الجهاد قبل السنة السادسة من الهجرة، ومع هذا لم يتضح لنا تحديد عن الغزوات التي شارك فيها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن نجابته قد برزت في وقت مبكر، وفراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، ودعواته له- قد أحلاه في مقتبل العمر مكانا بارزا، ومنزلة مرموقة، فقد كان مع والده عام 8 هـ في غزوة مؤتة في بلاد الشام؛ حيث روى ابن سعد، عن ابن أبي حازم «أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن الراية صارت إلى خالد بن الوليد، بعد قتل القواد الثلاثة، قال صلى الله عليه وسلم: فهلا إلى رجل قتل أبوه، يعني أسامة بن زيد (1) » ورأى بعضهم أن أول ما جر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال، أن بعثه على جيش - لم يحدد ابن سعد جهته، ولا اسم المعركة - فلقي فقاتل فذكر منه بأس، مما يدل على شجاعة وحماسة، قال أسامة: «فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أتاه البشير بالفتح، فإذا هو متهلهل وجهه، فأدناني منه، ثم قال: حدثني.
__________
(1) طبقات ابن سعد 4: 62.(35/177)
فجعلت أحدثه، فقلت: فلما انهزم القوم، أدركت رجلا وأهويت إليه بالرمح، فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فقتلته، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ويحك يا أسامة! فكيف لك بلا إله إلا الله، فما زال يكررها علي، حتى لوددت أني انسلخت من كل عمل عملته، واستقبلت الإسلام يومئذ جديدا، فلا والله، لا أقاتل أحدا قال: لا إله إلا الله بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) » . وقد جاء، في دائرة المعارف الإسلامية، أنه أعيد قبل وقعة أحد لصغر سنه، وأنه قاتل بشجاعة في وقعة حنين، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجرى له معاشا بعد وقعة خيبر (2) .
«ولما كان الجيش، الذي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بإمارته إلى أسامة بن زيد، لم يغادر المدينة، حتى تولى أبو بكر رضي الله عنه الخلافة. فقال له أبو بكر: ما الذي عهد إليك رسول الله؟ قال: عهد إلي أن أغير على أبنى صباحا ثم أحرق (3) » ، وقد جاء في دائرة المعارف أن هذه المدينة تعرف الآن بخان الزيت (4) .
قال ابن سعد: فبعثه أبو بكر إلى آبل، واستأذن لعمر أن يتركه عنده، ثم أمره أبو بكر أن يجزر في القوم، قال هشام بن عروة: " فأمره أبو بكر أن يجزر في القوم، بقطع الأيدي والأرجل والأوساط في القتال؛ حتى يفزع القوم، قال: فمضى حتى أغار عليهم، ثم أمرهم أن يفطموا الجراحة حتى يرهبوهم، قال ثم رجعوا، وقد سلموا وقد غنموا. قال: فساروا، فلما دنوا من الشام - أصابتهم ضبابة شديدة، فسترهم الله بها حتى أغاروا وأصابوا حاجتهم، قال: فقدم بنعي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هرقل، وإغارة أسامة في ناحية أرضه خبرا واحدا، فقالت الروم: ما بال هؤلاء بموت صاحبهم أن أغاروا على أرضنا، قال عروة: فما رئي جيش كان أسلم من الجيش (5) .
__________
(1) طبقات ابن سعد 4: 69.
(2) دائرة المعارف الإسلامية 3: 229.
(3) طبقات ابن سعد 4: 66.
(4) دائرة المعارف الإسلامية 3: 229.
(5) طبقات ابن سعد 4: 68.(35/178)
ذلك أن عزم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقوته في الحق، وثباته على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - أعطى لجيش أسامة أثرا، بعد توفيق الله جل وعلا، حيث كانت من الآراء التي أشير بها على أبي بكر، بعدما وقع ردة من العرب، عدم تنفيذ جيش أسامة؛ لاحتياجه إليه فيما هو أهم، فامتنع أبو بكر رضي الله عنه أشد الإباء، وأصر على أن ينفذ جيش أسامة، وقال: «والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين» ، إلى آخر ما قال "، فكان خروج جيش أسامة في ذلك الوقت من أكبر المصالح، والحالة تلك، فساروا لا يمرون بحي من أحياء العرب، إلا أرعبوا منهم، وقالوا: " ما خرج هؤلاء من قوم، إلا وبهم منعة شديدة "، فقاموا أربعين يوما، ويقال سبعين يوما، ثم أتوا سالمين غانمين، ثم رجعوا، فجهزهم حينئذ مع الأحياء الذين أخرجهم لقتال أهل الردة، ومانعي الزكاة (1) .
ذلك أنهم بعدما لقوا الروم، وهزموهم وقتلوهم، ورجعوا سالمين، كان ذلك من أسباب ثبات بعض القبائل على الإسلام (2) .
وفي اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعث أسامة بن زيد رضي الله عنه إلى الشام، وشدة اهتمام أبي بكر الصديق بذلك في أول خلافته، استفاض ابن عساكر في تاريخه في ذلك؛ فقد أخرج من طريق الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغير على أبنى، -بضم الهمزة والقصر-، اسم موضع في فلسطين بين عسقلان والرملة، يقال لها يبنى بالياء، صباحا وأن يحرق، ثم قال رسول الله لأسامة: امض على اسم الله، فخرج بلوائه معقودا، فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، فخرج به إلى بيت أسامة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة فعسكر بالجرف، وضرب عسكره في موضع سقاية سليمان اليوم، وجعل الناس يأخذون بالخروج، فيخرج من فرغ من حاجته إلى معسكره، ومن لم يقض حاجته فهو على فراغ، ولم يبق أحد من المهاجرين
__________
(1) البداية والنهاية 6: 304.
(2) البداية والنهاية 6: 305.(35/179)
الأولين، إلا انتدب في تلك الغزوة: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة، وسعد بن أبي وقاص، وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في رجال من المهاجرين، والأنصار عدة؛ منهم: قتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم بن حريش رضي الله عنهم، فقال رجال من المهاجرين، وكان أشدهم في ذلك قولا عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنه: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين، فكثرت القالة في ذلك، فسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض ذلك القول، فرده على من تكلم به، وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بقول من قال، فغضب رسول الله غضبا شديدا، وقد عصب على رأسه بعصابة وعليه قطيفة، ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة بن زيد؟ فوالله، لئن طعنتم في إمارتي أسامة، لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وايم الله، إن كان للإمارة لخليقا، وإن ابنه من بعده لخليق بالإمارة، وإن كان لأحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي، وإنهما لمخيلان لكل خير، فاستوصوا به خيرا، فإنه من خياركم.
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول، وجاء المسلمون الذين سيخرجون مع أسامة رضي الله عنه، يودعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنفذوا بعث أسامة، ودخلت أم أيمن رضي الله عنه فقالت: أي رسول الله، لو تركت أسامة يقيم في معسكره، حتى تماثل، فإن أسامة إن خرج على حاله هذه- لم ينتفع بنفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنفذوا بعث أسامة.
فمضى الناس إلى المعسكر، فباتوا ليلة الأحد، ونزل أسامة يوم الأحد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيل مغمور، وهو اليوم الذي لدوه فيه، واللدود ما يسقاه(35/180)
المريض من الأدوية، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه تهملان، وعنده العباس، والنساء حوله، فطأطأ عليه أسامة فقبله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء، ويصبهما على أسامة، قال أسامة رضي الله عنه: فأعرف أنه كان يدعو لي، قال أسامة: فرجعت إلى معسكري، فلما أصبح يوم الإثنين غدا من معسكره، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقا، فجاءه أسامة، فقال: اغد على بركة الله، فودعه أسامة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مفيق، وجعل نساؤه يتماشطن سرورا براحته، ودخل أبو بكر رضي الله عنه فقال: " يا رسول الله أصبحت مفيقا بحمد الله، واليوم يوم ابنة خارجة، فأذن لي، فأذن له فذهب إلى السنح، وركب أسامة إلى معسكره، وصاح في أصحابه باللحوق بالعسكر، فانتهى إلى معسكره، ونزل وأمر الناس بالرحيل، وقد متع النهار؛ أي طال وامتد وتعالى، فبينا أسامة يريد أن يركب من الجرف - أتاه رسول أم أيمن رضي الله عنها، تخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت.
فأقبل أسامة إلى المدينة، ومعه عمر وأبو عبيدة رضي الله عنهم، فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يموت، فتوفي عليه الصلاة والسلام حين زاغت الشمس يوم الإثنين، لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول» ، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بن الحصيب رضي الله عنه بلواء أسامة معقودا، حتى أتى به باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغرزه عنده، فلما بويع لأبي بكر أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة، ولا يحله أبدا، حتى يغزو بهم أسامة، فقال بريدة: " فخرجت باللواء، حتى انتهيت إلى بيت أسامة، ثم خرجت به إلى الشام معقودا مع أسامة، ثم رجعت به إلى بيت أسامة، فما زال معقودا في بيته حتى توفي ".
فلما بلغ العرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد منها عن الإسلام، قال أبو بكر لأسامة: انفذ في وجهك الذي وجهك فيه رسول لله صلى الله عليه وسلم، وأخذ الناس بالخروج، وعسكروا في موضعهم الأول، وخرج بريدة باللواء، حتى انتهى إلى معسكرهم الأول، فشق ذلك على كبار المهاجرين الأولين، ودخل(35/181)
على أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأبي عبيدة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد رضي الله عنهم، فقالوا: يا خليفة رسول الله، إن العرب قد انتفضت عليك من كل جانب، وإنك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئا، اجعلهم عدة لأهل الردة، ترمي بهم في نحورهم، وأخرى لا تأمن على أهل المدينة، أن يغار عليها، وفيها الذراري والنساء، ولو تأخرت لغزو الروم، حتى يضرب الإسلام بجرانه، ويعود أهل الردة إلى ما خرجوا منه، أو يفنيهم السيف، ثم تبعث أسامة حينئذ، فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا. فلما استوعب أبو بكر كلامهم، قال: هل منكم أحد يريد أن يقول شيئا؟ قالوا: لا، قد سمعت مقالتنا، فقال: والذي نفسي بيده، لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة، لأنفذت هذا البعث، ولا بد أن يئوب منه، كيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي من السماء، يقول: أنفذوا جيش أسامة، ولكن خصلة أكلم فيها أسامة، أكلمه في عمر يقيم عندنا، فإنه لا غنى بنا عنه، والله ما أدري يفعل أسامة أم لا؟ والله إن أبى لأكرهه.
فعرف القوم أن أبا بكر عزم على إنفاذ بعث أسامة، ومشى أبو بكر إلى أسامة في بيته، وكلمه في أن يترك عمر، ففعل، وجعل يقول له: أذنت ونفسك طيبة؟ فقال أسامة: نعم، قال: فخرج وأمر مناديه ينادي عزمة مني أن لا يتخلف عن أسامة من بعثه من كان انتدب معه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لن أوتى بأحد أبطأ عن الخروج عنه، إلا ألحقته به ماشيا، وأرسل إلى النفر من المهاجرين الذين كانوا تكلموا في إمارة أسامة، فغلظ عليهم وأخذهم بالخروج، فلم يتخلف إنسان واحد، وخرج أبو بكر يشيع أسامة والمسلمين، فلما ركب من الجرف في أصحابه، وهم ثلاثة آلاف رجل، وفيهم ألف فرس، فسار أبو بكر إلى جنب أسامة ساعة، ثم قال: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاك، فانفذ لأمر رسول الله، فإني لست آمرك ولا أنهاك عنه، إنما أنا منفذ لأمر أمر به رسول الله.
فخرج سريعا، فوطئ بلادا هادئة، لم يرجعوا عن الإسلام مثل جهينة. وغيرها من قضاعة، فلما نزل بوادي القرى، قدم عينا له من بني عذرة يدعى(35/182)
حرثيا، فخرج على صدر راحلته أمامه، فغزى حتى أتى أبنى، فنظر إلى ما هناك وارتاد الطريق، ثم رجع سريعا حتى لقي أسامة على مسيرة ليلتين من أبنى، فأخبره أن الناس غارون ولا جموع لهم، وأمره أن يسرع السير، قبل أن تجتمع الجموع، وأن يشنها غارة (1) .
وفي هذه الغزوة التي سرد ابن عساكر بعض وقائعها، يقول ابن كثير في تاريخه: فأغار أسامة على تلك البلاد، وغنم وسبى، وكر راجعا سالما مؤيدا (2) .
وذكر الكاندهلوي أن جيش أسامة، لما خرج لوجهه الذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم - أبلى بلاء حسنا، ولقي من الروم مقاومة شديدة، ولكن الله سلمه، وغنم هو وجيشه وردهم الله إلى المدينة صالحين (3) .
وكانت هذه المعركة التي قادها أسامة، بإمرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذات دروس عديدة أفادت الإسلام في عاجل أمره نصرا وتثبيتا، وقوة وتمكينا في النفوس، وفي آجل أمره بما يستفيده القادة العسكريون والإداريون، من مصالح تبرز أمامهم في كل موقف يعترضهم، وتتبدى نتائجه في كل معضلة يراد منها تفكيك القوة، ودس بذور التخاذل في الصفوف، وما أكثر الفوائد والمصالح التي يجب أن يستنار بها، والمماثلة لهذه البعثة، وما اكتنفها من أمور، حتى تقوى العزائم، وينضج الفكر المرشد للأمور المهمة، لما في الرأي الصائب من مصلحة نحو الإسلام، ومردود في تفهيم الناس لما تنطوي عليه تعاليمه، ودور الرجال المخلصين في توجيه الأمور بنظرتهم البعيدة الصادقة المخلصة. ومن صدق مع الله ألهمه الله الحكمة، وبصره بمواطن الزلل، فسار نحو الأصلح، وتجافى عن الأمور الضارة، وما التوفيق إلا من عند الله.
__________
(1) تهذيب ابن عساكر 1: 120.
(2) البداية والنهاية 5: 312.
(3) حياة الصحابة 1: 413.(35/183)
صفحة فارغة(35/184)
القراءات القرآنية
وموقف المفسرين منها
بقلم: د. محمد علي حسن عبد الله
إن الحديث عن القراءات القرآنية متعدد الجوانب، عن معناها، وعن نشأتها وضوابطها وأثرها العقدي والفقهي، وأثرها في اللغة العربية، وفي كل ناحية من هذه النواحي كتب أكثر من بحث، وفيها أكثر من طاعن؛ فعن معناها ونشأتها كتب المستشرقون لينالوا من مكانة القراءات بل القرآن، وعن قبولها أكثر من رأي للمفسرين، بين قابل ومدافع، وبين مرجح ومفضل، وبين طاعن وناقد، وعن سند القراءات عند المحدثين بين تواتر وشذوذ، وعن ضوابطها ما بين مكثر ومقل عند علماء القراءات، وعن أثرها الفقهي خلاف طويل بين الفقهاء.
فالحديث عن موضوع القراءات ذو شجون وشجون، وقد أصابتني الحيرة في أيهما أبدأ: الرد على المستشرقين، أو على المفسرين، أو على اللغويين، ورأيت أن(35/185)
جانبا واحدا كاف لتناوله بالدراسة والبحث، ولما كان عملي التدريس لعلوم التفسير في الدراسات العليا، ومن خلال استقرائي لكثير من كتب التفسير، لفت انتباهي مواقف علماء التفسير من القراءات، ما بين مدافع ومرجح وطاعن، وقد أسهم الطاعنون من المفسرين إسهاما كبيرا في تغذية المستشرقين في طعنهم بالدين، وأنهم وإن قالوا ما قالوا، عن حسن نية أو عن سوء قصد، إلا أن المستشرقين لم يكتبوا بأي حال، إلا عن سوء نية وقصد في الطعن في الدين. .
من أجل هذا، عقدت العزم على الكتابة في هذا الموضوع الذي لم ينل حظه من العناية والرعاية، بيد أن الكتابة في جميع جوانبه تحتاج إلى جهد لست ببالغه في هذا البحث، وأسأل الله أن يعين على التمام؛ لذا تناولت ما تعلق بموقف علماء التفسير من القراءات، تاركا الحديث عن نشأتها إلى ما كتبه الأستاذ الفاضل الدكتور إبراهيم خليفة، ناقدا للمستشرق الماكر جولد زيهر، الذي ألف كتابا بعنوان " المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن الكريم"، وقد خص فيه موضوع القراءات، وأتى بأقوال وأهوال في موضوع القراءات، ولم تنل من الرد الكافي عند العلماء، إلا حين انبرى للرد الدكتور المذكور في كتابه مناهج المفسرين، وأتى من الكلام بما لا يزاد عليه، وقد أحسن وأجاد في مذكراته عن القراءات القرآنية.
أما عن موضوع القراءات عند اللغويين- فقد طلع علينا كتاب قيم، للأستاذ الدكتور إبراهيم رفيده " النحو وكتب التفسير"، وبقي الحديث عن جوانب أخرى؛ منها الجانب الذي أكتب فيه هذا البحث.
خطتي في البحث:
كنت أطمح للكتابة في موضوع القراءات بين المفسرين وأهل اللغة والمستشرقين، ولكن رأيت أن مجال البحث سيطول؛ لذا اقتصرت على جانب واحد " القراءات القرآنية وموقف المفسرين منها "، وآمل أن أتعرض للجوانب الأخرى إن شاء الله.
هذا، وقد قسمت هذا الموضوع إلى فصلين وخاتمة.(35/186)
أما الفصل الأول:
فهو القراءات القرآنية، وقسمته إلى ثلاثة مباحث:
الأول: معنى القراءات القرآنية.
الثاني: نشأتها.
الثالث: أركانها.
وقد اقتصرت على هذه المباحث الثلاثة، ولم أتعرض للقراء السبعة أو العشرة وحياتهم؛ إذ الحديث عنهم إطالة للبحث، عن غير فائدة.
أما الفصل الثاني:
فهو موقف المفسرين من القراءات القرآنية، وأعني بها القراءات المتواترة؛ إذ هي الجديرة بوصف القرآنية، أما القراءات الشاذة- فلها موضوع آخر نبحثه فيما بعد.
وقد وقع هذا الفصل في ثلاثة مباحث: الطاعنون في القراءات والمرجحون ثم المدافعون، وقد اقتصرت على ذكر أشهر المفسرين في كل مجال.(35/187)
الفصل الأول
القراءات القرآنية
المبحث الأول
تعريف القراءات
معناها اللغوي:
القراءات جمع قراءة، وهي مصدر من قرأ يقرأ قراءة وقرآنا، واسم الفاعل منه قارئ، وجمعه قراء.
ويأتي الفعل غير مهموز كقرى، ولا يختلف مع الأول في معناه (1) .
قال ابن فارس (2) (قرى) القاف والراء والحرف المعتل أصل صحيح يدل على جمع واجتماع، وإذا همز هذا الباب كان هو والأول سواء، ويطلق لفظ قرأ، ويراد منه عدة معان: فإذا قلت: قرأت القرآن، معناه لفظت به مجموعا؛ أي ألقيته، وأقرأت حاجتك إذا دنت، وقرأت الشيء قرآنا، إذا جمعته وضممت بعضه إلى بعض.
وإذا قلت: قرأت في الكتاب، فمعناه تفقهت فيه، وأقرئه السلام؛ أي أبلغه. وبعد هذا يتحدث علماء اللغة عن القرء والحيض والطهر، ولا يعنينا استقصاء ذلك والإسهاب فيه.
معناها الاصطلاحي:
ذكر علماء القراءات تعريفات كثيرة، يطول بنا الحديث إذا ذكرناها جميعا، ونكتفي بأشهرها.
__________
(1) انظر تهذيب اللغة 9 \ 272، وقاموس المحيط 1 \ 24.
(2) معجم مقاييس اللغة 5 \ 79، ولسان العرب 1 \ 123.(35/188)
قال الزركشي: القراءات اختلاف ألفاظ الوحي، المذكور في الحروف وكيفيتها، من تخفيف وتشديد وغيرها (1) .
أما ابن الجزري فعرفها:
" بأنها علم بكيفية أداء كلمات القرآن، واختلافها بعزو الناقلة، وهذا التعريف اعتمده كثير من المؤلفين في علم القراءات.
أما الدمياطي فقد أسهب في تعريفه فقال: " القراءات علم يعلم منه اتفاق الناقلين لكتاب الله، واختلافهم في الحذف والإثبات، والتحريك والتسكين، والفصل والوصل، وغير ذلك من هيئة النطق والإبدال وغيره من حيث السماع (2) .
وهناك من عرف القراءات بأنها: " مذهب يذهب إليه المقرئ "، وهو وإن كان مقصوده ما ذهب إليه العلماء، أن مبنى ما ذهب إليه القارئ هو الوحي والسماع، إلا أن المستشرقين قد جعلوا من مثل هذه التعاريف مأربا خبيثا للصيد في الماء العكر؛ إذ رأوا أن اختلاف القراءات مبناه اختلاف القراء، وفق هواهم ومعتقداتهم، وراحوا يقيسون اختلاف الأناجيل على اختلاف الروايات في القراءات (3) ، ومع كل الأسف فقد وجدنا ممن شايعهم من يذهب إلى مثل أقوالهم، ولعل في تعريف الزركشي ما أجلى هذه الحقيقة، وما يبعد هذه الشبهة؛ إذ قال عن القراءات واختلافها: " إنها اختلاف ألفاظ الوحي ".
فهذا التعريف يلقي الضوء على أن مبنى القراءات الوحي النازل من السماء، وقد تبعه علماء القراءات، قديما وحديثا، في تجلية هذه الحقيقة، فجاءوا بتعريفات واضحة وناصعة؛ ففي " إتحاف فضلاء البشر، في القراءات الأربعة عشر " تعريف للقراءات بأنها: " النطق بألفاظ القرآن، كما نطقها النبي صلى الله عليه وسلم "
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 1 \ 318.
(2) الدمياطي البنا: هو محمد بن محمد الدمياطي. توفي سنة 1117.
(3) انظر أقوال جولد زيهر وغيره، في كتاب المذاهب الإسلامية في تفسير القرآن.(35/189)
ومثله: " تلاوة ألفاظ القرآن الكريم، كما تلاها المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو كما علمها، أو سمعها منه أصحابه، وأقرهم عليها (1) .
وكلها تعريفات قريبة مما ذكره الزركشي؛ فاختلاف ألفاظ الوحي هي مثل النطق بألفاظ القرآن، كما نطقها النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل تلاوة ألفاظ القرآن، كما تلاها النبي صلى الله عليه وسلم.
وصدق الله العظيم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (2) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3)
__________
(1) إتحاف فضلاء البشر، في القراءات الأربعة عشر، ص5، وكذلك القراءات القرآنية ص64.
(2) سورة النجم الآية 3
(3) سورة النجم الآية 4(35/190)
نشأة القراءات
هذا العنوان الذي يستعمله كثير من المؤلفين، عن حسن قصد، ويؤكده المستشرقون لغرض في نفوسهم، كما سنبينه، فيه نظر؛ وذلك أن القراءات المتواترة قرآن لا شك فيه؛ فقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (1) و (ملك يوم الدين) بالألف وبدونها {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (2) و (اهدنا السراط المستقيم) ، بسينها وصادها، وكل قراءة قرآنية متواترة، كل ذلك قرآن، وهو قديم، فلا يقال لقراءة منه: نشأت؛ لأن ذلك يشعر بالحداثة لبعضها في وقت من الأوقات.
لذا أرى، في استعمال المؤلفين المخلصين، هذا العنوان تجوزا، إن صح التعبير، وأرى في استعمال المستشرقين له مقصدا خبيثا، ونحن قد رأينا، فيما أومأنا إليه سابقا، من تعريف للقراءات بأنها اختلاف ألفاظ الوحي، كما قاله الزركشي، ما يشير إلى أن القراءة قرآن لا تنفك قرآنيتها عنه، ما دامت قد تواترت، فلا يقال لها ناشئة، إلا إذا قيل للقرآن ناشئا، وليس الأمر كذلك؛ فقد نزل الوحي بالقراءة، فيما ورد في بعض ألفاظه أكثر من قراءة، بل حين بدأ
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 4
(2) سورة الفاتحة الآية 6(35/190)
نزول الوحي، بدأها بأول كلمة في أول سورة نزلت، وهي (اقرأ) ؛ ففيها قراءتان متواتران؛ الأولى: هي قراءة الجمهور بهمزة ساكنة، والثانية قراءة عاصم بحذف الهمزة (اقرا يقرا كسعى يسعى) (1) .
وإنه لأمر يسترعي الانتباه أن تكون أول كلمة، في أول سورة نزلت، كلمة اقرأ، وأن يكون القرآن والقراءات مشتقا من مشتقاتها.
بعد هذا التمهيد أرى أن الحديث عن مصدر القراءات هو الحاسم لكثير من الشبه والأضاليل، التي يتمسك بها المستشرقون، والتي كان لأقوال بعض المفسرين، وبعض العلماء قدر غير يسير في الإسهام، في مد أولئك الملحدين، بشيء من أسباب الضلالة من غير قصد منهم رحمهم الله إلى شيء من ذلك بطبيعة الحال، ولكنهم رحمهم الله لما لم يلزموا جانب الحيطة والحذر، وأقصى غايات الحذر، في هذا الأمر الجلل- فقد أمدوا، من حيث لا يشعرون، من في قلبه مرض واستعداد طبيعي لاتخاذ كل شاردة وواردة من القول صيدا ثمينا، وفرصة ذهبية للنيل من مقدسات هذه الأمة وقرآنها.
أقول: إن المصدر الوحيد للقراءات إنما هو الوحي النازل من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، الذي بلغه بكل دقة وبكل حركة إلى أصحابه الكرام، فكان يقرئهم إياه، كما أنزل؛ كما روى ابن مسعود «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر، فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى، حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل فإذا ما علمهم القرآن، فأتقنوا تلاوته أحب أن يسمعه منهم توثيقا لما سمعوه عنه (2) » .
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علي القرآن، قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فقرأت عليه سورة النساء، حتى إذا جئت إلى هذه الآية:
__________
(1) ورد في كتب القراءات أنها قراءة متواترة وسبعية.
(2) والحديث صحيح، وأورده القرطبي في جامعه جـ 1 \ 39.
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4582) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (800) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3025) ، سنن أبو داود العلم (3668) ، مسند أحمد بن حنبل (1/433) .(35/191)
قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان (1) » .
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يتعهد أصحابه بتعليم القرآن وحفظه، حتى أصبحت صدورهم سجلا لما نزل من الحق، وربما علم النبي، عليه الصلاة والسلام، بعض أصحابه قراءة لم يسمعها بعض الصحابة، فيقرأ بعضهم القرآن على القراءة التي سمعها، ويقرأ آخر على قراءة غيرها سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم، فيسمع أحدهما الآخر، فينكر عليه عدم سماعه لها من الرسول صلى الله عليه وسلم.
ففي البخاري ومسلم «أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يقول: " سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان، في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلم، ثم لببته بردائه أو بردائي، فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه، قلت له: كذبت، فوالله، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام، فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه (2) »
وروى مسلم، «عن أبي بن كعب قال: " كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ، فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما (3) » . . . " الحديث.
__________
(1) سورة النساء الآية 41 (3) {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}
(2) هذه الأحاديث صحيحة، بل وصفها السيوطي بأنها متواترة، انظر البخاري 6 \ 100 ومسلم 2 \ 202 وأبو داود 2 \ 101 والترمذي 1 \ 61.
(3) هذه الأحاديث صحيحة، بل وصفها السيوطي بأنها متواترة، انظر البخاري 6 \ 100 ومسلم 2 \ 202 وأبو داود 2 \ 101 والترمذي 1 \ 61.(35/192)
فمن حديث عمر وهشام رضي الله عنهما، يتبين لنا أن تعدد القراءات سببه واحد، هو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأ كلا منهما تلك القراءة، كما أنزلت من عند الله تعالى.
ومن حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، أن عدد القراءات ثلاث، وكلها حسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها متلوة من الوحي، جعلها الله من باب التهوين والتسهيل على أمته.
يقول الشيخ الزرقاني، رحمه الله: ثم إن الصحابة، رضوان الله عليهم، قد اختلف أخذهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمنهم من أخذ القرآن عنه بحرف واحد، ومنهم من أخذه عنه بحرفين، ومنهم من زاد، ثم تفرقوا في البلاد، وهم على هذه الحال، فاختلف بسبب ذلك أخذ التابعين عنهم، وأخذ تابعي التابعين وهلم جرا، حتى وصل الأمر، على هذا النحو، إلى الأئمة القراء المشهورين، الذين تخصصوا وانقطعوا للقراءات يضبطونها ويعنون بها وينشرونها) (1) .
إذن: فالأمر في تعدد القراءات أمر أخذ ونقل من الوحي، فلا يجوز لمسلم أن يعزو أية قراءة لغير ذلك، كما صنع المستشرق (جولد زيهر) وغيره من المستشرقين، الذين عزوا القراءات إلى القارئين، الذين مارس كل واحد منهم القراءة القرآنية ليصحح القرآن، وأن القارئ يقرأ القرآن، وفق ما يحتمله الرسم القرآني، الخالي من النقط والشكل.
يقول جولد زيهر: (وترجع نشأة قسم كبير من هذه الاختلافات؛ أي في القراءات، إلى خصوصية الخط العربي، الذي يقدم هيكله المرسوم مقادير صوتية مختلفة؛ تبعا لاختلاف النقط الموضوعة فوق هذا الهيكل أو تحته، وعدد تلك النقاط. بل كذلك في حالة تساوي المقادير الصوتية، يدعو اختلاف الحركات، الذي لا يوجد في الكتابة العربية الأصيلة ما يحدده، إلى اختلاف مواقع الإعراب للكلمة، وبهذا إلى اختلاف دلالتها، وإذن فاختلاف تحلية هيكل الرسم بالنقط، واختلاف الحركات في المحصول الموحد القالب من
__________
(1) مناهل العرفان جـ 1 \ 406.(35/193)
الحروف، لم يكن منقوطا أصلا، أو لم تتحر الدقة في نقطه أو تحريكه (1) .
وقد أرجع الدكتور عبد العال سالم أساس هذا الزعم إلى الزمخشري، وقال: إن مصدر الوحي، لهذا المستشرق جولد زيهر، إنما هو الزمخشري الذي قال بخطأ ابن عامر في قراءته للآية القرآنية (2) .
فقد زعم الزمخشري أن الذي حمل ابن عامر على قراءته، أنه رأى في بعض المصاحف (شركائهم) ، مكتوبا بالياء؛ فالسبب هو الرسم، ونحن إذ نضع في الاحتمال أن يكون للزمخشري أثر في قول زيهر، إلا أننا نجزم أن مراد كل منهم يختلف عن الآخر؛ إذ يهدف زيهر للوصول إلى قياس تعدد القراءات، على تعدد الأناجيل، وهذه خطيئة ما نظن أن الزمخشري يقع في مثلها.
هذا، وقد تصدى للرد على جولد زيهر كل من:
1 - الدكتور إبراهيم خليفة، في كتابه (مناهج التفسير) ، وهو أجود الكتب وأفضلها.
2 - الدكتور عبد الفتاح شلبي، في كتابه (رسم المصحف والاحتجاج به في القراءات) .
3 - الدكتور عبد الصبور شاهين، في كتابه (تاريخ القرآن) .
4 - الدكتور عبد العال مكرم، في كتابه (أثر القراءات في الدراسات النحوية) .
5 - الشيخ محمد طاهر الكردي في كتابه (تاريخ القرآن) ، في الفصل الرابع، الرد على الإفرنج القائلين باستنباط القراءات من الرسم.
6 - الشيخ عبد الفتاح القاضي، في كتابه (القراءات في نظر المستشرقين والملحدين) .
7 - الدكتور لبيب سعيد، في كتابه (المصحف المرتل) .
8 - الدكتور عبد الوهاب حمودة، في كتابه (القراءات واللهجات) .
__________
(1) مذاهب التفسير ص8.
(2) أثر القراءات القرآنية في الدراسات النحوية ص 25.(35/194)
وفي ضوء دراسة هذه الردود، يمكن إيجازها في الأمور الآتية: أولا: أن الاعتماد، في نقل القرآن، على حفظ القلوب والصدور، لا على خط المصاحف والكتب (1) ، ثم إن القراءات وجدت قبل مرحلة تدوين المصاحف وكتابتها، وبعد تدوينها كانت في البداية غير منقوطة ولا مضبوطة، ومع ذلك كانت القراءات معروفة ومنتشرة، وكانوا يقرءون الآيات حسب السماع والرواية، لا حسب الرسم والكتابة.
ثانيا: لو كانت القراءة تابعة للرسم- لصحت كل قراءة يحتملها رسم المصحف، ولكن الأمر على غير ذلك؛ فإن بعض ما يحتمل الرسم صحيح، مثل (فتبينوا) في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (2) الآية.
وبعضه مردود؛ مثل قراءة حماد الراوية: (أباه) ، في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} (3) الآية، وكذلك قراءة: "تستكثرون"، في قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} (4) ، وهذه وتلك قراءة منكرة بالاتفاق، فليست من السبع، ولا الأربع عشرة، ولو كان مجرد الخط كافيا لاعتمدت".
وعلى مثل هذه القراءة المكذوبة، اعتمد جولد زيهر، في الاستدلال، على قضيته الباطلة ودعواه الخبيثة ضد القرآن الكريم.
ثالثا: لقد ثبت، بالتاريخ الصحيح، أننا لا نزال نرى الكثير من المقرئين،
__________
(1) النشر 1 \ 6.
(2) سورة الحجرات الآية 6
(3) سورة التوبة الآية 114
(4) سورة الأعراف الآية 48(35/195)
حتى يومنا هذا، يعطون تلاميذهم، بعد أن يتموا حفظه على أيديهم، إجازة تتضمن سند التلقي، المتصل عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن كثيرا من الأسانيد الصحيحة المتصلة مدونة، محفوظة في كتب القراءات، فما ينكر هذا إلا جاهل أو مكابر.
كذلك، إذا نظرنا إلى الأمصار الإسلامية- وجدنا أن كل مصر التزم قراءة قارئ بعينه، مع احتمال رسم المصحف لهذه القراءة، وأن القراء انتشروا في الأمصار ليعلموا الناس قراءة القرآن؛ إيمانا منهم بأن المصحف وحده لا يغني شيئا في مجال القراءة، وبخاصة أنه مجرد من النقط والشكل.
يقول الشيخ الزرقاني " لذلك اختار عثمان حفاظا يثق بهم، وأنفذهم إلى الأقطار الإسلامية، واعتبر هذه المصاحف أصولا ثواني، مبالغة في الأمر وتوثيقا للقرآن، ولجمع كلمة المسلمين فكان يرسل إلى كل إقليم مصحفه، مع من يوافق قراءته في الأكثر الأغلب، روي أن عثمان، رضي الله عنه، أمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن شهاب مع الشامي، وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن عبد القيس مع البصري (1) .
فلو كان الاعتماد على المصحف؛ فلم كلف أمير المؤمنين نفسه بإرسال أولئك القراء إلى تلك الأمصار؟ وملاحظة أن اختيار القارئ كان مبنيا على موافقة قراءته لرسم المصحف المرسل إلى تلك البلد، وهذا يؤكد على أن دعامة قراءة القرآن هو التلقي والرواية.
وإذا كان للمستشرقين عذرهم في تعصبهم للباطل، وحقدهم الدفين ضد الإسلام ومبادئه، فما عذر من جاراهم من المسلمين، وقال بأن القراءات القرآنية منشؤها الخط العربي، حسب رسمها في المصحف العثماني؟ ، ومن هؤلاء الدكتور علي عبد الواحد وافي (2) ، وتبعه في ذلك الدكتور طه حسين في صورة
__________
(1) المناهل 1 \ 96، 3 \ 397.
(2) كتابه فقه اللغة ص119.(35/196)
أكثر بشاعة، وأشد خطرا؛ إذ هو ينكر على المعتقد بشرعية القراءات، وأنها ليست من الوحي، وإنما مصدرها اللهجات واللغات؛ يقول: والحق أن ليست هذه القراءات السبع من الوحي في قليل ولا كثير، وليس منكرها كافرا ولا فاسقا، ولا مغتمزا في دينه، وإنما هي قراءات مصدرها اللهجات واختلافها (1) ، وقد نهج الدكتور محمد عبد السلام كفافي نهج طه حسين، فيقول: " وهناك سبب قوي لظهور القراءات؛ لأن مصحف عثمان كتب بغير نقط ولا شكل (2) .
والحق، الذي لا يمارى فيه، أن القراءات سنة متبعة، نقلت بالرواية والمشافهة، من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي قرآن لا تنفك عنه، ولا هي مغايرة له، بل هي ألفاظ مختلفة نزل بها الروح الأمين بعرضات متعددة، ولم تكن القراءات وليدة خط أو رسم، أو عدم شكل وضبط لكتاب الله تعالى، ومن يقول بهذا- فهو ضال مضل، لسوء نيته وخبث قصده، سواء كان (جولد زيهر) ، أو من سار على دربه، والذي يمعن النظر في كلام زيهر مثلا يجد له أبعادا وأهدافا يرمي من ورائها:
إن الأمة الإسلامية قد اعتمدت في أخذ كتاب ربها، على مثل ما اعتمد عليه غيرها من النقل من الصحف المكتوبة، والقراءة من الخط والرسم؛ فوقعت لذلك، وبسبب تجرد هذا الخط، من أول الأمر، من الشكل والنقط، في كثير من التحريف والتصحيف، في القرآن؛ حيث قرأها كل بحسب ما اتفق له من الفهم، وما رآه من صحة المعنى؛ يقول الدكتور عبد الفتاح شلبي: يظهر أن هؤلاء أجروا القرآن الكريم مجرى ما وقع من التصحيف، من كلام العرب شعرا أو نثرا، فقد صحف الفيض بن عبد الحميد، في حلقة يونس؛ إذ أنشد بيت ذي الإصبع:
عذير الحي من عدوا ... ن كانوا حية الأرض
فقال الفيض: كانوا جنة الأرض بالجيم والنون (3) .
وحدث قاسم بن إصبع قال: لما رحلت إلى المشرق نزلت القيروان
__________
(1) الأدب الجاهلي ص 96.
(2) في علوم القرآن، دراسات ومحاضرات ص 107.
(3) كتاب التصحيف للعسكري ص 13، وما بعدها.(35/197)
فأخذت عن بكر بن حماد، فقرأت عليه يوما حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قدم عليه قوم من مضر مجتابي النمار، فقال: " إنما هو مجتابي الثمار"، فقلت: إنما هو مجتابي النمار، هكذا قرأته على كل من لقيته بالأندلس والعراق. فقال لي: قم بنا إلى ذلك؛ لشيخ كان في المسجد، فإن له بمثل هذا علما، فقمنا إليه، وسألناه عن ذلك فقال: "إنما هو مجتابي النمار، وهم قوم كانوا يلبسون الثياب مشققة جيوبهم أمامهم " والنمار جمع نمرة (1) .
" ولنا أن نتساءل: إذا كان العلماء، قد وقفوا بالمرصاد لما روى هؤلاء، وهم أئمة، فماذا ترى أن يكون موقفهم بجانب كتاب الله الكريم، والمصحفين فيه، وهم المدققون في روايته، وكانوا القوامين عليه، ومن حفظته، ثم هم الذين وقفوا جهودهم على سدانته " (2) إن زيهر وأمثاله يعلمون أن القراءات ليست تصحيفا، وإنما هي قرآن، وجدت في زمن التشريع، ونزلت وانقطعت بنزول الوحي وانقطاعه، ولكنهم يقصدون شيئا آخر ندركه من كلام العالم اللاهوتي (أبيتر فيرتفلس) : "من أن كل امرئ يطلب عقائده في هذا الكتاب المقدس، وكل امرئ يجد فيه على وجه الخصوص ما يطلبه) ؛ فكل تيار فكري بارز، في التاريخ الإسلامي، زاول الاتجاه إلى تصحيح نفسه على النص المقدس، وإلى اتخاذ هذا سندا على موافقته للإسلام، بمطابقته لما جاء به الرسول، عليه الصلاة والسلام، وبهذا وحده كان عليه أن يدعي لنفسه مقاما وسط هذا النظام الديني، وأن يحتفظ بهذا المقام، وكلامه هذا ينطوي على أمرين فاضحين:
أولهما: أنه وصف الإنجيل بالقداسة، وساوى بينه وبين القرآن، وكل من يحترم العقل، ويعرف له حقه على العقلاء، يعرف أن بين القرآن وبين الإنجيل بونا عظيما وشأوا قصيا، في هذا المضمار؛ فالأناجيل حرفت وغيرت باعترافهم هم، وفي آخر صيحة للحق أن
__________
(1) رسم المصحف والاحتجاج في القراءات، نقلا عن نفح الطيب 1 \ 345.
(2) رسم المصحف والاحتجاج في القراءات، نقلا عن نفح الطيب 24- 25.(35/198)
الموسوعة الأمريكية قد أوردت الوضع والتحريف لنصوص الديانة اليهودية والنصرانية، على حد سواء.
ثانيهما:
أما دعوى أن كل امرئ يستطيع وضع النص أو قراءته، على وجه يؤيد بدعته ونحلته، فهو باطل، وذلك أن جولد زيهر نفسه يرى أن من القراءات ما هو متواتر مقطوع بصحته، وهذه القراءات المتواترة، لا يعني بحال أن يعتمدها الناس، بل الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه تلقاها بالوحي، وأخبرنا أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، إذن فكل صحابي كان يقرأ على حرف من الحروف التي تلقاها عنه، وقراءة هذا أو ذاك، واختلاف هذا مع ذلك: لم يكن له أثر، بل الكل متبع لا مبتدع، انظر إلى كلام الصحابة: " أقرأنيها رسول الله"، وانظر إلى إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لقراءة هشام حين اختلف مع عمر، (هكذا أنزلت) ، وإلى إقراره قراءة عمر (هكذا أنزلت)
فاختلاف القراءات كان قديما، ولكنه اتباع لا ابتداع، ومظاهر الاختلاف في القراءات أصدق أمارة على كمال الإعجاز، ونصوع المسحة الإلهية الحكيمة على كل كلمة من كلام هذا الكتاب المعجز " إن كان ثمة غير هذا- فليحدثنا به، فإذا لم يجد لتفسير هذه الظاهرة فرضا آخر تقبله العقول، لا في جوف الأرض، ولا فوق أديم السماء؛ لكونه من المستحيلات التي لا توجد إلا في تصوير أوهام الحاقدين وجهلة المستكبرين: فإنا نقول له ولأمثاله: إن مسألة تعدد القراءات الثابتة من عند الله تعالى، لا تجافي أبدا حقيقة توحيد النص القرآني (1)
__________
(1) مناهج المفسرين ص 63 وما بعدها، نقلناه بتصرف.(35/199)
أركان القراءات
يجدر التنويه لأمرين:
أولهما: أن ركن القراءة الوحيد هو صحة السند لا غير، وأن إضافة(35/199)
الركنين الأخيرين- لم تأت إلا في وقت متأخر، كما ذكره الأفغاني في تحقيقه لكتاب حجة القراءات لأبي زرعة، وقد وصف الصفاقسي اشتراط غير صحة السند، بأنه قول محدث لا يعول عليه.
ثانيهما: أن علماء القراءات خلطوا بين الركن والشرط، وهو خلط غير مقصود به ما يقصده الأصوليون في التمييز بينهما؛ فعلماء القراءات يعنون بالركن الشرط أو العكس، وهم على أية حال لا يقصدون به إلا التعبير عن الأمور الثلاثة، إن شئت سميتها أركانا أو شروطا، وهي مثل إطلاق السبب على العلة، والعلة على السبب، دون قصد في التدقيق والتحقيق في الفارق بينهما.
بعد هذا التنويه والتنبيه نقول: إن كان الحديث عن القراءات ومعناها قد كثر فيه الخلاف والاختلاف، بين أئمة هذا العلم، فإن الحديث عن أركانها أو شروطها أكثر خلافا؛ فأكثرهم يشترط لقبول القراءة أركانا ثلاثة، ومنهم من يكتفي بركنين، ومنهم من يقتصر على ركن واحد، والقائلون بالأركان الثلاثة يتفاوتون في الأخذ بكل ركن منها، وسأضع بين يديك هذه الأركان كما نظمها أحد أئمة هذا الشأن شعرا؛ فقال:
فكل ما وافق وجه نحوي ... وكان للرسم احتمالا يحوي
وصح إسنادا هو القرآن ... فهذه الثلاثة الأركان
وحيثما يختل ركن أثبت ... شذوذه ولو أنه في السبعة (1)
فهذه هي الأركان الثلاثة، وسأبدأ بذكر أهمها، بل المجمع على إشتراطه؛ ألا وهو:
__________
(1) من منظومة ابن الجزري، في كتابه النشر.(35/200)
1 - صحة السند:
هذا أول الأركان المعتبرة، بل هو الذي يستهل به العلماء حديثهم عن أركان أو شروط القراءات.(35/200)
فابن مجاهد شيخ هذه الصنعة؛ إذ هو أول من سبع السبعة، قد قال: " والقراءة التي عليها الناس، بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام، هي القراءة التي تلقوها عن أوليهم تلقينا، وقام بها في كل مصر، من هذه الأمصار، رجل ممن أخذ عن التابعين، أجمعت الخاصة والعامة على قراءته، وسلكوا فيها طريقه وتمسكوا بمذهبه (1) ".
فلا يمكن اعتبار للقراءة القرآنية، إلا إذا كانت قد أخذت بطريق التلقي والمشافهة، وهذا ما يؤكده في موضع آخر؛ إذ يقول: " فهؤلاء سبعة نفر، من أهل الحجاز والعراق والشام، خلفوا في القراءة التابعين، وأجمعت على قراءتهم العوام من أهل كل مصر من هذه الأمصار ".
فابن مجاهد يشترط، لقبول القراءة، صحة السند، وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء المحققين، كابن شنبوذ والإمام أبو الحسن البغدادي وابن خالويه ومكي بن أبي طالب والإمام الكواشي والإمام أبو شامة.
ولم يشذ عن إجماع هؤلاء العلماء، إلا محمد بن الحسن بن يعقوب المتوفى سنة 354 هـ.
فإنه لم يشترط السند، واكتفى بقبول القراءة بشرطين: موافقة الرسم، وموافقة اللغة العربية، وأسقط صحة السند، وفي ذلك يقول ابن الجزري: وله " أي المذكور " اختيار في القراءة رويناه في الكامل وغيره، رواه عنه أبو الفرج الشنبوذي ويذكر عنه أنه كان يقول: إن كل قراءة وافقت المصحف ووجها في العربية، فالقراءة بها جائزة وإن لم يكن لها سند (2) .
والحق أن: هذه هفوة من الهفوات التي لا يرتضيها شرع ولا عقل، وهي من أفسد الأقوال، فالقراءات قد تزداد وتنقص، وفق احتمال موافقتها للغة أو للرسم القرآني، وبالتالي فهي وفق هوى واجتهاد أئمة اللغة.
__________
(1) كتاب السبعة في القراءات، لابن مجاهد تحقيق شوقي ضيف ص 49.
(2) غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري 2 \ 124.(35/201)
2 - موافقة القراءة للرسم العثماني:
وقد ذهب كثير من العلماء المتأخرين إلى اعتبار هذا الشرط، وقد ذكره أبو الفرج الشنبوذي أول الشروط المعتبرة؛ إذ يقول: إن كل قراءة وافقت، المصحف ووجها في العربية فالقراءة بها جائزة.
ويفهم مما ورد في كتاب السبعة في القراءات عدم اشتراطه؛ إذ يقول: فمن حملة القرآن، المعرب العالم بوجوه الإعراب والقراءات، العارف باللغات ومعاني الكلمات، البصير بعلم القراءات، المنتقد للآثار؛ فذلك الإمام الذي يفزع إليه حفاظ القرآن، في كل مصر من أمصار المسلمين (1) .
فهذا الكلام يدلنا على شرطين لا ثالث لهما: وهما صحة السند، وموافقة العربية، وذهب إلى ذلك الإمام أبو الحسن البغدادي شيخ القراء بالعراق، فأسقط موافقة القراءة للرسم العثماني.
وقد توسع بعض العلماء، في موافقة القراءة للرسم القرآني، فرأى احتمال الموافقة كافيا، بل توسع بعضهم فرأى موافقة القراءة للرسم وحده، وإن لم تتواتر. ونحن إذ نرد القراءة التي لم توافق الرسم، إلا أننا لا نقبلها لمجرد موافقتها الرسم.
__________
(1) كتاب السبعة في القراءات ص 45.(35/202)
3 - موافقة القراءة للغة:
ابتدأ بذكره صاحب النشر؛ فجعله أول الشروط، وثنى بذكره مكي بن أبي طالب، والإمام الكواشي، وجعلاه ثاني الشروط بعد صحة السند، وقد قيد كل منهم هذا الشروط بقيد يختلف عن الآخر، فبينما يكتفي الكواشي بشرط موافقة القراءة للغة، لأي وجه من الوجوه، نرى مكي بن أبي طالب يشترط أن يكون وجهه في العربية التي نزل بها القرآن شائعا، وذهب أبو الفرج الشنبوذي إلى تأييد رأي الكواشي في التساهل، والاكتفاء بموافقة القراءة لأي وجه من(35/202)
الوجوه اللغوية، سواء أكان الوجه فصيحا مجمعا عليه، أم كان مختلفا فيه اختلافا لا يضير، مثله كما يقولون (1)
__________
(1) كتاب النشر جـ 1 \ 44 غاية النهاية 2 \ 124.(35/203)
نظرة في الأركان:
لو تأملنا هذه الأركان، لوجدناها أركانا تخضع لاستقراء العلماء واستنباطهم؛ فمنهم من جعلها ركنا واحدا، ومنهم من جعلها ركنين، مع اختلاف في تحديد الركنين، ومنهم من جعلها ثلاثة أركان. ومنهم من اكتفى بصحة السند، ومنهم من أضاف إليه الموافقة للرسم، ومنهم من أضاف الموافقة للغة، وفي كل شرط خلاف؛ ففي السند: من العلماء من ذهب إلى اشتراط التواتر، ومنهم من اشترط الشهرة، ومنهم من اكتفى بصحة السند ولو نقل آحادا.
وفي موافقة الرسم: منهم من اشترط الموافقة تحقيقا، ومنهم من قبلها ولو تقديرا، ومنهم من أضاف ولو احتمالا، وفي موافقة اللغة كلام استوفيناه في موضعه.
والذي لا شك فيه، بل المجمع عليه، هو صحة السند، بل أرى أنه الركن الوحيد الذي ينبغي أن يقتصر عليه، والذي أعنيه بصحة السند ليس مجرد الصحة، بل التواتر؛ ذلك لأن القرآن كله متواتر، لا يشك في ذلك مسلم من المسلمين، وقراءته يتعبد بتلاوتها المؤمنون، وقراءاته المختلفة لا ضير بالاكتفاء ببعضها؛ لأنها كلها قرآن؛ فأرجلكم من قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (1) قرآن، وأرجلكم بالكسر، في نفس الموضع، قرآن، (ومالك يوم الدين) إن قرأت بهذه القراءة قرآن، وملك يوم الدين قرآن، إن شئت قرأت بهذه أو بتلك. فالقراءة قرآن يتعبد بتلاوتها، فلا بد من تواترها لإثبات قرآنيتها.
أما القراءة التي لم تتواتر سندا، فلا تعتبر قراءة، مهما أضفت إليها من معايير
__________
(1) سورة المائدة الآية 6(35/203)
وشروط، وقد أخطأ من حكم بقرآنيتها، إذا وافقت الرسم ووافقت اللغة، وأنزلها منزلة التواتر.
إن التواتر لا يكون إلا بالسند الذي يرويه جمع عن جمع. . إلخ، إذا وضح عندنا صحة اعتبار تواتر السند، فلا ضير علينا في الركنين الأخيرين؛ لأنه لم يثبت لدينا أن قراءة من القراءات المتواترة قد خالفت الرسم القرآني، أو خالفت العربية، ودع عند ما يقال إن بعض القراءات القرآنية المتواترة قد خالفت العربية، كما زعموا في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (1) ، بالكسر، أو قراءة "فتوبوا إلى بارئكم "بالتسكين؛ فإن كلام النحاة، الذين خالفوا كلام القراء، لا يستند إلى دليل، ولست في مجال الرد عليهم، فإن الكلام في ذلك يطول.
أعود لأقول: إن شرط القراءة أو ركنها، كما يقول بعض العلماء، هو صحة السند وتواتره، ولا ثاني له، والله أعلم.
ويقول الأستاذ سعيد الأفغاني: والشرط الأساسي، كما يظهر للمتأمل هو الأول (أي صحة السند) ، أما الثاني والثالث- فالغالب أنهما أضيفا، ليتكون من الثلاثة ما ينطبق تمام المطابقة على القراءات العشر المعروفة.
ثم أضاف أن أول وأشهر من عرف عنه اشتراط الشروط الثلاثة، هو (مكي بن أبي طالب) الذي عاش في المائة الخامسة للهجرة، منذ قال: " والقراءات الصحيحة ما صح سندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما صح وجهها في العربية، ووافقت خط المصحف "، وشاع هذا القول بعده، حتى تبعه على ذلك بعض المتأخرين، ومشى عليه ابن الجزري في نشره وطيبه، واستنكرت الجمهرة ذلك. حتى قال الصفاقسي: " وهذا قول محدث لا يعول عليه " (2) .
أقوال العلماء في تواتر السند:
لست بدعا في اشتراط التواتر، في السند، فقد قال بذلك علماء أذكر منهم
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) في مقدمة تحقيق حجة القراءات، لأبي زرعة، تحقيق الأستاذ سعيد الأفعاني.(35/204)
على سبيل المثال لا الحصر:
ابن عبد البر - ابن عطية - ابن تيمية - النووي - الأوزاعي - السبكي - الزركشي - ابن الحاجب
وأعجب من قول ابن الجزري؛ إذ إنه كان يقول بالتواتر، ثم عدل عنه، كما صرح بذلك بقوله (ولقد كنت، قبل، أجنح إلى هذا القول) (1) يعني اشتراط التواتر في القراءة.
وما أقوى البرهان، الذي ساقه النيسابوري في كتابه "غرائب القرآن ورغائب الفرقان. . . " قال: القراءات السبع متواترة، يعني أن ثبوت التواتر بالنسبة إلى المتفق على قراءته من القرآن، كثبوته بالنسبة إلى كل من المختلف في قراءته، ولا مدخل للقارئ في ذلك، إلا من حيث إن مباشرته لقراءته أكثر من مباشرته لغيرها، حتى نسبت إليه، وإنما قلنا إن القراءات متواترة؛ لأنه لو لم تكن كذلك- لكان بعض القرآن غير متواتر (كملك- ومالك) ونحوهما، إذ لا سبيل إلى كون كليهما غير متواتر؛ فإن أحدهما قرآن بالاتفاق، وتخصيص أحدهما بأنه متواتر دون الآخر، تحكم باطل؛ لاستوائهما في النقل، فلا أولوية فكلاهما متواتر (2)
__________
(1) النشر 1 \ 13.
(2) مقدمة غرائب القرآن للنيسابوري.(35/205)
مجلة البحوث الإسلامية body {font-family: verdana, arial, helvetica, sans-serif; font-size: 14px;} h1 {font-size:18px} a:link {color:#33c} a:visited {color:#339} /* This is where you can customize the appearance of the tooltip */ div#tipDiv {position:absolute; visibility:hidden; left:0; top:0; z-index:10000; background-color:AntiqueWhite; border:1px solid #336; padding:4px; color:#000; font-size:11px; line-height:1.2;} /* These are optional. They demonstrate how you can individually format tooltip content */ div.tp1 {font-size:12px; color:#336; font-style:italic} div.tp2 {font-weight:bolder; color:#337; padding-top:4px}
مجلة البحوث الإسلامية
تصفح برقم المجلد > العدد الخامس والثلاثون - الإصدار: من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1412هـ 1413هـ > ال مجلة البحوث الإسلامية body {font-family: verdana, arial, helvetica, sans-serif; font-size: 14px;} h1 {font-size:18px} a:link {color:#33c} a:visited {color:#339} /* This is where you can customize the appearance of the tooltip */ div#tipDiv {position:absolute; visibility:hidden; left:0; top:0; z-index:10000; background-color:AntiqueWhite; border:1px solid #336; padding:4px; color:#000; font-size:11px; line-height:1.2;} /* These are optional. They demonstrate how you can individually format tooltip content */ div.tp1 {font-size:12px; color:#336; font-style:italic} div.tp2 {font-weight:bolder; color:#337; padding-top:4px}
مجلة البحوث الإسلامية
تصفح برقم المجلد > العدد الخامس والثلاثون - الإصدار: من ذو القعدة إلى صفر لسنة 1412هـ 1413هـ > البحوث > القراءات القرآنية وموقف المفسرين منها > الفصل الثاني موقف المفسرين من القراءات القرآنية المتواترة > المبحث الأول الطاعنون في القراءات > الإمام ابن جرير الطبري
الطاعنون في القراءات
المفسرون بين طاعن ومرجح ومدافع عن القراءات، وشرعت بذكر الطاعنين؛ لأن موقفهم من القراءات مبني عليه موقف المدافعين، الذين يدفعون الهجوم بعد وقوعه، ولأن أول طاعن في القراءات هو صاحب التفسير الكبير جامع البيان في تأويل آي القرآن، الذي كان لكتابه الأولوية في التفسير زمانا وفنا، كما قال أستاذنا الشيخ الذهبي، من أجل هذا بدأت بذكر الطاعنين، وأبدأ بأولهم، وهو الإمام ابن جرير الطبري.(35/205)
أولا: الإمام ابن جرير الطبري
قال الإمام النووي في وصف تفسير ابن جرير: (أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثله) (1) .
وقال الخطيب البغدادي: هو إمام يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات، بصيرا بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عارفا بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، عارفا بأيام الناس وأخبارهم.
هذه لمحة موجزة عنه، ولا يعنينا الإسهاب في ذلك، فنتكلم عن المطلوب فنقول:
موقفه من القراءات: كنت متريثا في إصدار حكم طعن ابن جرير في القراءات، بل كنت متهيبا في ذلك، وقلت في نفسي: وهل من هو مثلي ينقد إماما من الأئمة، وعلما من أعلام التفسير؛ مثل ابن جرير الطبري، الذي ذاع وشاع صيته في الآفاق في علوم التفسير وعلم القراءات بالذات.
ومما ساهم في حيرتي موقف العلماء المعاصرين، وأخص أستاذنا المرحوم محمد حسين الذهبي في كتابه " التفسير والمفسرون "، فقد ذكر عن الطبري موقفه من القراءات، فقال (كذلك نجد ابن جرير يعنى بذكر القراءات، وينزلها على المعاني المختلفة، وكثيرا ما يرد القراءات التي لا تعتمد على الأئمة الذين يعتبرون عنده، وعند علماء القراءات، حجة، والتي تقوم على أصول مضطربة، مما يكون فيه تغيير وتبديل لكتاب الله، ثم يتبع ذلك برأيه في آخر الأمر، مع توجيه رأيه بالأسباب؛ فمثلا عند قوله تعالى في الآية، (81) ، من سورة الأنبياء: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} (2)
__________
(1) معجم البلدان جـ 18 \ 42.
(2) سورة الأنبياء الآية 81(35/206)
يذكر أن عامة قراء الأمصار قرأوا (الريح) بالنصب، على أنها مفعول لسخرنا المحذوف، وأن عبد الرحمن الأعرج قرأ (الريح) بالرفع، على أنها مبتدأ، ثم يقول: والقراءة التي لا أستجيز القراءة بغيرها، في ذلك، ما عليه قراء الأمصار؛ لإجماع الحجة من القراء عليه. ولقد رجع السبب في عناية ابن جرير بالقراءات وتوجيهها، إلى أنه كان من علماء القراءات المشهورين، حتى إنهم ليقولون عنه: إنه ألف فيها مؤلفا خاصا في ثمانية عشر مجلدا، ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ، وعلل ذلك وشرحه، وإذا اختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور، وإن كان هذا الكتاب فقد وضاع، بمرور الزمن، ولم يصل إلى أيدينا، شأن الكثير من مؤلفاته (1) .
فوصف الطبري لنفسه ومنهجه، وارتضاء شيخنا الذهبي لموقفه، دون تعليق، ورط كثيرا من الأوساط العلمية، وبقيت هذه النظرية أو النظرة عن الطبري كذلك، ولم يتناوله أحد بالتعليق. وكما ساهم أستاذي في حيرتي، ساهم كذلك تلميذي الذي أشرفت عليه في رسالة الماجستير (القراءات القرآنية) . وقد ذهب الطالب إلى اعتبار ابن جرير من المرجحين، ونوقشت الرسالة من اللجنة العلمية المختصة في علم القراءات، وأقرت هذه المعلومة، بأن ابن جرير من المرجحين. ولكن هذه الحيرة والهيبة بدأت تتبدد، وبدأت غيومها تنقشع، وبدأت الرؤية تتضح شيئا فشيئا؛ لأمور منها: 1- دفعني الشك في موقف الطبري إلى مواصلة البحث، فأشرت إلى طلبتي باستقصاء كتاب الطبري في التفسير، فوجدت أن الصورة الحقيقية لموقفه هي الطعن، وليس الترجيح كما ذهب إليه صاحب الرسالة في القراءات.
2 - كتابة أحد الباحثين وإصداره كتابا كاملا، بعنوان (دفاع عن القراءات في مواجهة الطبري المفسر) ، فازداد بذلك موقفي صلابة، لوجود من يرى أن الطبري طاعن.
3 - وثالثة الأثافي كانت في العثور على مخطوطة في علم القراءات للإمام
__________
(1) التفسير والمفسرون.(35/207)
السخاوي، والمخطوطة في طريقها للطباعة، بتحقيق زميلنا في جامعة الإمارات، وفي هذه المخطوطة تنبيه من السخاوي، وتحذير من طعن ابن جرير الطبري في القراءات.
يقول السخاوي (1) : قال لي أبو القاسم الشاطبي، إياك وطعن ابن جرير على ابن عامر. أما ابن الجزري فقال عن طعن ابن جرير، وهو أول من نعلمه أنكر هذه القراءة المتواترة، وغيرها من القراءات الصحيحة، ثم قال: " وركب هذا المحظور ابن جرير، وقد عد ذلك من سقطات ابن جرير ".
لقد كان لأقوال هؤلاء الأئمة الأعلام، في علم القراءات، أكبر الأثر في شد العزم في متابعة ومواصلة البحث.
4 - وأخيرا فقد عقد مؤتمر، عام 1989، لمنظمة الثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية، وقد تناول هذا المؤتمر " الطبري كشخصية تراثية، في التفسير والتاريخ والعلوم الإسلامية "، وقد رشحت من قبل الجامعة لذلك، ولظروف- لم أتمكن من حضور المؤتمر، ولكني طرحت ورقة عمل، كما يقولون، تشمل: موقف الطبري من القراءات، وقد كان الكثير مؤيدا لما ورد، والأقل متريثا، وأقل القليل معارضا، فاستأنست للصدى العلمي الصادر عنهم.
هذا، وبعد كتابة هذه المقدمة أفادني أستاذي الدكتور مازن المبارك أنه ناقش رسالة قيمة، في جامعة قطر، وهي بعنوان (الطبري قارئا) ، وأفاد بأنها على جانب عظيم من الأهمية، ولكني لم أطلع عليها بعد، ومن يدري فلعل هناك من كتب {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (2)
بعد هذه المقدمة نقول: لقد سبق وأن تعرضنا لضوابط القراءات، ورجحنا أن الضابط الوحيد هو صحة السند، ورأينا أن الضابطين موافقة الرسم
__________
(1) من مخطوطته في القراءات ورقه 100.
(2) سورة يوسف الآية 76(35/208)
وموافقة اللغة، لا يعتبران في قبول القراءة ورفضها. فقد توافق القراءة الرسم ولا تعتبر، وقد توافق اللغة ولا تقبل، ما دامت القراءة لم يصح سندها.
فإذا تواتر السند أصبحت القراءة قرآنا، لا مجال لردها، وفي هذه الحالة لن تخالف رسما ولن تخالف لغة؛ لأن قواعد اللغة تصحح وفقا للقرآن، ولا تصحح هي القرآن.
إن غالب الطاعنين في القراءات يرتكزون في طعنهم على قواعد اللغة، والطبري حين طعن، في القراءات، ارتكز على نفس ما ارتكزوا عليه، فيرفض أو يرجح وفق قواعد اللغة أحيانا كثيرة، أو وفق ما يتراءى له من المعنى.
أما القراءات التي تخالف الرسم فيرفضها، وهو محق في ذلك؛ لأنها مخالفة للرسوم كما يقول. ويتراءى لي أن موقف الطبري من القراءات يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام:
أولها:
طعنه في القراءات التي لا توافق قواعد لغوية حسب نظره، وهو في موقفه هذا يوافق بعض النحاة، في ردهم لبعض القراءات المتواترة.
وهاك طائفة من القراءات القرآنية التي ردها ابن جرير، وبرر رفضها تبريرا لغويا، ونحن إذ نؤيده في رده ورفضه للقراءات الشاذة- فإننا نخطئه في رده للقراءات المتواترة، والتي قرأ بها القراء السبعة، الثابتة في مصادر ومراجع علم القراءات.
ففي قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً} (1) ، قرئت تجارة حاضرة بالرفع والنصب.
يقول الطبري إنه لا يستجيز القراءة بغير الرفع، في كل من الكلمتان، ويرفض قراءة النصب، وإن كانت متواترة، وقد قرأ بها عاصم (2) وفي قوله
__________
(1) سورة البقرة الآية 282
(2) النشر 2 \ 237.(35/209)
تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1) ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو فرهن بضم الراء والهاء، جمع رهن كسقف وسقف، وروي عنهما أيضا (فرهن) ، وقرأ الخمسة نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي (فرهان) ، بكسر الهاء وإثبات الألف (2) .
ومع تواتر القراءات الثلاث، إلا أن ابن جرير يرد قراءة رهن، ويعلل رده بما يعلله اللغويون؛ فيقول: " لأن جمع فعل على فعل شاذ قليل) (3) وليت ابن جرير طعن في القراءة وسكت، بل اتهم من يقرأ بذلك بأنه يقرأ به من عند نفسه. بل يصف بعض القراء، والمحتج بقراءته، بضعف احتياله في قراءة أخرى؛ ففي قوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} (4) قرأ القراء السبعة بتشديد الفاء، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب (وكفلها) مفتوحة خفيفة، وبعد أن يسوق الطبري كلاما طويلا يغلظ القول على من يقرأ بالتخفيف، ويقول: " إنهم اعتلوا بحجة دالة على ضعف احتيال المحتج بها " (5) .
ويؤكد الطبري موقفه، في موافقة بعض اللغويين، في قبول القراءة واستجادتها، أو رفضها وردها، وتعبيراته المختلفة في الرفض كثيرة، وهاك طائفة يسيرة من ذلك.
قال تعالى {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (6) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة (عزير) بضم الراء، وحذف التنوين، وقرأ عاصم والكسائي (عزير) بالتنوين.
يقول الطبري: " وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ (عزير) بالتنوين "
وفي قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (7) قال الطبري قرئت (الأنصار) ، بالخفض والرفع، ثم قال، والقراءة التي
__________
(1) سورة البقرة الآية 283
(2) كتاب السبعة 194 النشر 2 \ 237.
(3) الطبري 3 \ 92.
(4) سورة آل عمران الآية 37
(5) الآية 37 من سورة آل عمران، وينظر تفسيرها في الطبري. أما تحقيق القراءة- فمن النشر والسبع.
(6) سورة التوبة الآية 30
(7) سورة التوبة الآية 100(35/210)
لا أستجيز غيرها، الخفض في الأنصار، مع أن قراءة الرفع سبعية.
وفي قوله تعالى: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} (1) . قرئت قطعا وقطعا؛ بالنصب للطاء وإسكانها، قال الطبري: " القراءة التي لا يجوز خلافها عندي، قراءة من قرأ ذلك بفتح الطاء.
إنها تعبيرات تدل دلالة قاطعة على الرفض الصريح، انظر إلى قوله: " لا أستجيز غيرها " والتي لا يجوز خلافها عندي. . .
ثانيا:
طعنه في القراءات، تبعا لمعنى من المعاني: لم يقتصر طعن ابن جرير الطبري في القراءات، نظرا لتعارضها مع قواعد اللغة حسب نظره، وإنما تعدى طعنه القراءات التي لم توافق المعنى الجدير بالقبول، حسب تأويله، والفرق بين طعنه في الأول، وطعنه في الثاني، أنه يعلل الأول تعليلا لغويا، ويعلل طعنه في الثاني تعليلا معنويا، ويرمي القائل المؤول غير تأويله. بأنه ذو غفلة، أو ذو غباء، أو أغفل وظن خطأ، أو فاسد التأويل.
ويعود طعنه، في مثل هذا النوع إلى اهتمامه بالمعاني واللطائف الدقيقة في القراءات، فإذا وجد قراءة توحي بمعنى من المعاني يذكرها ويوجهها، بصرف النظر عن كون تلك القراءة حجة أو لا، بل قد يفترض القراءة افتراضا، وهو وإن لم يقل بها، إلا أنه لولعه بإبراز المعاني يفترضها، فلا غرو إذا وجدناه يرفض بعض القراءات، ولو كانت متواترة؛ لأنها لم تشبع نهمه في تتبع المعاني القوية، حسب نظره.
ففي سورة الفاتحة أورد الطبري قراءات كثيرة، ثم ذكر الآية (ملك يوم الدين) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (2) ثم قال: " وأولى التأويل، وأصح القراءتين في التلاوة عندي، التأويل الأول؛ وهي قراءة من قرأ (ملك) بمعنى الملك " وعلل ذلك بقوله: " لأن في الإقرار له بالانفراد بالملك، إيجابا لانفراده بالملك، وفضيلة زيادة الملك على المالك؛ إذ كان معلوما أن لا ملك إلا وهو مالك، وأكد اختياره
__________
(1) سورة يونس الآية 27
(2) سورة الفاتحة الآية 4(35/211)
بسياق الآيات، وأن قوله تعالى {رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) فيه معنى الملكية، فلو قيل {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (2) من الملك لكان ذلك تكرارا لمعنى واحد بألفاظ مختلفة، ثم أعقب ذلك بقوله: " فبين إذا أن أولى القراءتين بالصواب، وأحق التأويلين بالكتاب، قراءة من قرأه (ملك يوم الدين) ، دون قراءة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (3) ، ثم هاجم الطبري القارئين بـ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (4) ورماهم بالغفلة والغباء، وبأنه أغفل وظن خطأ.
لكن ظهر لغير الطبري ترجيحه لهذه القراءة، بل اعتقاده بصوابها، وتخطئته لمن قرأ بمالك، فإن من الأئمة كأبي عبيد من عكس الأمر، ورجح: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (5) ويقول: " والمختار مالك؛ لأن المعنى يملك يوم الدين، وهو يوم الجزاء، ولا يملك ذلك اليوم أن يأتي به، ولا بسائر الأيام، غير الله سبحانه، وهذا ما لا يشاركه فيه مخلوق، في لفظ ولا معنى ".
ونكتفي بمثال آخر، من سورة البقرة، في قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (6) .
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو: (يخادعون. . . وما يخادعون بالألف وياء مضمومة والدال المكسورة.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: يخادعون. . . وما يخدعون) بفتح الياء بغير ألف.
وقد أوجب الطبري القراءة في قوله: (يخدعون) دون (يخادعون) ، مع أنهما قراءتان متواترتان، يقول في ذلك: " فالواجب إذا أن يكون الصحيح من القراءة (وما يخدعون) ، دون (وما يخادعون) ، ثم أخذ يوجه ما ذهب إليه، مستدلا على ذلك بأوجه من التأويل والتفسير المقبول عنده، بما يفيده السياق من معان جديرة بالاعتبار.
يقول: " لأن لفظ المخادع غير موجب تثبيت خديعة على صحة، ولفظ خادع موجب تثبيت خديعة على صحة، ولا شك أن المنافق قد أوجب خديعة
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 2
(2) سورة الفاتحة الآية 4
(3) سورة الفاتحة الآية 4
(4) سورة الفاتحة الآية 4
(5) سورة الفاتحة الآية 4
(6) سورة البقرة الآية 9(35/212)
الله لنفسه، بما ركب من خداعه ربه ورسوله والمؤمنين بنفاقه؛ فلذلك وجب الصحة لقراءة من قرأ (وما يخادعون) ، ومن الأدلة أيضا على أن قراءة من قرأ (وما يخدعون) أولى بالصحة من قراءة من قرأ (وما يخدعون) ؛ إن الله جل ثناؤه قد أخبر عنهم أنهم يخادعون الله والمؤمنين، في أول الآية، فمحال أن ينفي عنهم ما قد أثبت أنهم قد فعلوه؛ لأن ذلك تضاد في المعنى، وذلك غير جائز من الله عز وجل " (1) .
يفهم، مما سبق، أن الإمام الطبري اعتمد في ترجيح قراءة متواترة على مثلها، وجعل قوة القراءة لما تحمله من معنى، وليس لقوة سندها المبني على النقل والسماع.
ثالثا:
موقفه من القراءات المخالفة للرسم القرآني
لئن كان الطبري مخطئا في طعنه في القراءات، في القسمين الأوليين، فهو محق ومصيب في رفضه ورده لكل قراءة لا توافق الرسم القرآني.
ففي قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (2) .
يقول الطبري:
" قرئ (صما بكما عميا) ؛ أي بالرفع والنصب، والقراءة التي هي قراءة، الرفع دون النصب؛ لأنه ليس لأحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين، وإذا قرئ نصبا- كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم، وفي قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (3) ، ذكر القراءة المتواترة، ثم ذكر قراءات أخرى، مثل: (يطوقونه) ، ثم وصفها بأنها شاذة؛ لأنها مخالفة لرسم مصاحف المسلمين. يقول: وأما قراءة من قرأ ذلك (وعلى الذين يطوقونه) ؛ فقراءة لمصاحف أهل الإسلام خلاف وغير جائز.
__________
(1) تحقيق القراءة من النشر 207، وانظر تفسيره 1 \ 277
(2) سورة البقرة الآية 18
(3) سورة البقرة الآية 184(35/213)
تقييم لموقف ابن جرير
إن هذا الموقف، من مثل ابن جرير، موقف عجيب وغريب، وقد جانب الصواب في الإنكار والطعن والرد للقراءات المتواترة، ونحن إذ لا نحكم عليه برده للقراءات، بأنه راد للقرآن ذاته، كما قال أحد المفسرين، فهذا ما لا يتصوره عاقل؛ فابن جرير هو إمام المفسرين بلا منازع، وهو خير مدافع عن القرآن، ولكن هذه هنة من هناته، وقد حكم العلماء، على كل من رد القراءات المتواترة، بأنه آثم، أيا كان في أي مكان وزمان، بل قال عنه ابن الجزري بأنه أول من ركب هذا المحظور. . . وقد أصابتني الحيرة في موقف ابن جرير، كما ذكرت، وازدادت حيرتي، فأخذت أفتش عن حلقة مفقودة في هذا الموضوع، كيف يرد ابن جرير قراءات متواترة؟ وكيف يرد قراءة ابن عامر، وهي متواترة؟ في حين أنني أجد في تفسيره ما يشير إلى إجلاله للقراء، ويرى أن إجماعهم على القراءة لا محيد عنه، ويرى أن قراءتهم هي القراءة، وغيرها لا يعتد به لمخالفته قراء الأمصار.
وقرأت، ثم قرأت؛ لأفتش عن هذه الحقيقة: هل القراءة التي ردها الطبري متواترة في نظره، ثم قام بعد ذلك بردها، فيكون قد ارتكب إثما محققا، قلت في نفسي: ما أظن ذلك، بل أعتقد خلاف ذلك؛ لأنني تتبعت موقف الطبري في القراءات، فوجدت إجلالا لها منه، فلا يحيد عن الصحيح منها، حسب نظره؛ لذا جزمت أن الطبري لم يحكم بتواترها، ثم ردها، بل هو موقن بضعفها، وهذا خطأ يمكن أن نحمله مسئولية التقصير فيه، وأجلت النظر في تفسيره، فلم أجد لقولي دليلا محسوسا، بل هو استنباط واستنتاج، ولكني جزمت أن في كتابه المفقود "الجامع"، في علم القراءات ما يفيد هذا، وأن فيه الأسرار الكامنة في موقفه من القراء السبعة، أصحاب القراءات المتواترة؛ إذ هم متقدمون عليه، وفيه السر الكامن في طعنه لقراءات ابن عامر بالذات.
"أقول جزمت أن السر كامن في كتابه المفقود؛ لأنني تتبعت تفسيره فلم أجد لهذه الظاهرة تفسيرا"
وأنقذني الله من حيرة طالت ووجدت ضالتي المنشودة، فيما نقله السخاوي عنه، وما أظن أن ما نقله إلا أنه اطلع على كتاب الطبري الجامع في(35/214)
القراءات. يقول السخاوي في كتابه عن القراءات، في الورقة رقم 100، وأثبت هذا بحروفه وكلماته دون تصرف:
" وقد تكلم محمد بن جرير الطبري في قراءة ابن عامر رحمه الله، واتبعه الناس على ذلك، ولم يسبقه أحد إلى تصنيف قراءة هؤلاء السبعة ".
وقد تكلم محمد بن جرير الطبري في قراءة ابن عامر (رحمه الله) ، فقال: " وقد زعم بعضهم أن عبد الله بن عامر أخذ قراءته عن المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، وعليه قرأ القرآن، وأن المغيرة قرأ على عثمان بن عفان.
قال: " وهذا غير معروف عن عثمان، وذلك أنا لا نعلم أحدا ادعى أن عثمان أقرأه القرآن، بل لا نحفظ عنه من حروف القرآن إلا أحرفا يسيرة، ولو كان سبيله في الانتصاب لأخذ القرآن على من قرأه عليه السبيل التي وصفها الراوي عن المغيرة بن أبي شهاب ما ذكرنا، كان لا شك قد شارك المغيرة في القراءة عليه، والحكاية عنه غيره من المسلمين، إما من أدانيه، وأهل الخصوص به، وإما من الأباعد والأقاصي، فقد كان له من أقاربه وأدانيه من هو أمس رحما، وأوجب حقا من المغيرة، كأولاده وبني أعمامه ومواليه وعشيرته، ومن الأباعد من لا يحصى عدده كثرة.
وفي عدم مدعي ذلك عثمان الدليل الواضح على بطول قول من أضاف قراءة عبد الله بن عامر إلى المغيرة بن أبي شهاب، ثم إلى أن أخذها المغيرة بن أبي شهاب عن عثمان قراءة علي ".
قال: " وبعد، فإن الذي حكى ذلك وقاله رجل مجهول من أهل الشام لا يعرف بالنقل في أهل النقل، ولا بالقرآن في أهل القرآن، يقال له عراك بن خالد المري، ذكر ذلك عنه هشام بن عمار.
وعراك لا يعرفه أهل الآثار، ولا نعلم أحدا روى عنه غير هشام بن عمار ".
قال: وحدثني بقراءة عبد الله بن عامر كلها العباس بن الوليد البيروتي،(35/215)
وقال: حدثني عبد الحميد بن بكار، عن أيوب بن تميم، عن يحيى بن الحارث، عن عبد الله بن عامر اليحصبي أن هذه حروف أهل الشام التي يقرءونها.
قال: فنسب عبد الله بن عامر قراءته إلى أنها حروف أهل الشام، في هذه الرواية التي رواها لي العباس بن الوليد، ولم يضفها إلى أحد منهم بعينه.
ولعله أراد بقوله: أنها حروف أهل الشام: أنه قد أخذ ذلك عن جماعة من قرائها، فقد كان أدرك منهم من الصحابة وقدماء السلف خلقا كثيرا. ولو كانت قراءته أخذها كما ذكر عراك بن خالد عن يحيى بن الحارث، عنه عن المغيرة بن أبي شهاب، عن عثمان بن عفان، لم يكن ليترك بيان ذلك -إن شاء الله- مع جلالة قدر عثمان، ومكانه عند أهل الشام؛ ليعرفهم بذلك فضل حروفه على غيرها من حروف القراء ". ا. هـ الطبري.
ثم يتابع السخاوي فيقول:
" وهذا قول ظاهر السقوط، أما قوله: "إنا لا نعلم أحدا ادعى أن عثمان أقرأه القرآن"، (فهذا غير صحيح) ، فإن أبا عبد الرحمن السلمي -رحمه الله- قرأ على عثمان رضي الله عنه، وروى أنه علمه القرآن، وقرأ أيضا على عثمان -رحمه الله- أبو الأسود الدؤلي. وروى الأعمش عن يحيى بن وثاب عن زر بن حبيش الأسدي، عن أبي عمرو عثمان بن عفان رضي الله عنه، وذكر حروفا من القرآن تكون أربعين حرفا.
وقال لي شيخنا أبو القاسم الشاطبي -رحمه الله: "إياك وطعن الطبري على ابن عامر ".
ثم إن هذا لا يلزم؛ إذ لا يمتنع أن يكون أقرأ المغيرة وحده لرغبة المغيرة في ذلك، أو لأن عثمان -رحمه الله- أراد أن يخصه بذلك، وقد رأينا من العلماء المشهورين من لم يأخذ عنه إلا النفر اليسير، بل منهم من لم يأخذ عنه إلا رجل واحد.(35/216)
هذا لو انفرد المغيرة بالأخذ عنه، وقد أخذ عنه أبو عبد الرحمن وأبو الأسود الدؤلي، وزر بن حبيش، كما تقدم.
وما ذكره من أن عثمان -رحمه الله- ما انتصب لإقراء القرآن، فقد تبين بقراءة من ذكرناه عليه خلاف ذلك.
وأما قوله: " فقد كان له من أقاربه من هو أوجب حقا من المغيرة، فهذا لا يلزم أيضا، إنما يكون قادحا لو كان غير المغيرة من أقاربه، وقد سأله ذلك فأبى أن يقرئه.
فأما كون أقاربه لم يقرءوا عليه، فكثير من العلماء قد أخذ عنهم الأجانب والأباعد دون الأقارب، وعن قتادة: " أزهد الناس في العالم أهله "، وعن الحسن: " أزهد الناس في العلم جيرانه ".
وأما قوله في عراك: " إنه مجهول، لا يعرف بالنقل في أهل النقل، ولا بالقرآن في أهل القرآن "، فكفى به تعريفا وتعديلا، أخذ هشام عنه كلام، ثم تحدث كلاما يطول في التوثيق، وإثبات التواتر في الأصل: تقدم التعليق عليه. ا. هـ السخاوي.
وهذا كلام لا نأخذ عليه، إلا أنه خص دفاعه عن ابن عامر، ولعل عذره أنه من أهل الشام، وأراد بدفاعه عن ابن عامر دفاعه عن قراءة أهل الشام بالذات، والله أعلم بالنيات.
يظهر لنا، من كل ما تقدم، أن طعن ابن جرير في هذه القراءات، إنما هو ناجم عن اعتقاده بعدم تواترها، وهذا موطن الداء في موقفه منها، وهو على أية حال مخطئ في مخالفته للإجماع على تواترها، ولعل موقفه هذا قد كان له تأثير على ابن الجزري الذي كان يقول بتواتر القراءات السبع، ثم عدل عنه إلى الاكتفاء بشهرتها، وهو موقف كان مدعاة للنقد، وإن كان أهون من موقف الطبري الذي رماها بالسقوط، ورمى أصحابها بالغفلة والغباء، غفر الله له ولهم ولنا أجمعين.(35/217)
ثانيا: الزمخشري
هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الإمام الحنفي المعتزلي الملقب بجار الله، ولد في سنة (467) ، بقرية من قرى خوارزم تدعى زمخشر، وتوفي سنة (538) . وهو إمام في التفسير والحديث والنحو والبلاغة والأدب، وقد ألف في شتى العلوم، ومن أهم كتبه (تفسير الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) . . (وأساس البلاغة في اللغة والمفصل في النحو) .
ويعتبر تفسيره من أمهات كتب التفسير بالرأي، كما أن تفسير الطبري من أمهات التفسير بالمأثور، بيد أن الزمخشري كان معتزلي الاعتقاد، متظاهرا بالاعتزال، فيقرأ كتابه على حذر، قال السبكي: (واعلم أن الكشاف كتاب عظيم في بابه، ومصنفه إمام في فنه، إلا أنه رجل مبتدع متجاهر ببدعته، يضع من قدر النبوة كثيرا، ويسيء أدبه على أهل السنة والجماعة) .
لذا، ينصح قارئ الكشاف بقراءته مع أحد حواشيه، وأحسنها حاشية (فتوح الغيب) للإمام شرف الدين الحسن بن محمد الطيبي، أو حاشية الكشاف على الكشاف لسراج الدين البلقيني، أو حاشية (الانتصاف) لناصر الدين ابن المنير الإسكندري.(35/218)
موقف الزمخشري من القراءات:
لقد جارى الإمام الزمخشري (اللغويين والنحويين) ، ونهج منهجهم في رد بعض القراءات القرآنية، التي خالفهم قواعدهم، وطعن فيها، ومن نسبت إليهم عن القراء.
ففي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (1) يقول: قرئ (والأرحام) بالحركات الثلاثة، فالنصب.
__________
(1) سورة النساء الآية 1(35/218)
على وجهين؛ إما على اتقوا الله والأرحام، أو بعطف على محل الجار والمجرور كقولك مررت بزيد وعمرا، وينصره قراءة ابن مسعود " تساءلون به والأرحام "، والجر على عطف الظاهر على الضمير، وليس بسديد؛ لأن الضمير المتصل، متصل والجار والمجرور كشيء واحد؛ فحكم على قراءة الجر بأنها ليست سديدة، ومعلوم أنها قراءة متواترة عن السبعة، قرأ بها حفص وحده، وقرأ الباقون (والأرحام) نصبا.
وفي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} (1) قرأ ابن عامر: قتل أولادهم شركائهم، برفع القتل وجر الشركاء، على إضافة القتل إلى الشركاء، والفصل بينهما بغير الظرف، يقول الزمخشري: " لو كان في مكان الضرورات، وهو الشعر، لكان سمجا مردودا كما سمج "
زج القلوص أبي مزادة
"، فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به القرآن المعجز، بحسن نظمه وجزالته.
لم يقف الزمخشري عند هذا الحد، في الطعن، بهذه القراءة، بل وصف القارئ بها أن الذي حمله، على ذلك، أن رأى في بعض المصاحف (شركائهم) مكتوبا بالياء، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء- لكان الأولاد شركاءهم في أموالهم، لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب.
والزمخشري، في طعنه في القراءات، يجرح القراء أحيانا، ويخطئهم أحيانا، بأنهم يلحنون لقلة درايتهم بالنحو والصرف؛ ففي قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} (2) قرئ: فيغفر ويعذب مجزومين، عطفا على جواب الشرط، ومرفوعين على فهو يغفر ويعذب، فإن قلت: كيف يقرأ الجازم، قلت يظهر الراء ويدغم الراء في اللام، لا من مخطئ خطأ فاحشا، ورواية عن أبي عمرو مخطئ مرتين؛ لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن
__________
(1) سورة الأنعام الآية 137
(2) سورة البقرة الآية 284(35/219)
بجهل عظيم، والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو (1) .
إن موقف الزمخشري من القراءات القرآنية المخالفة في زعمه قواعد النحو العربية هو نفس موقف الطبري، إلا أنه سليط اللسان في التهكم، لا على القراءة وحدها، بل على القراء أنفسهم.
أما موقفه من القراءات القرآنية التي تحتمل معنى يراه جديرا بالقبول في طعنه، أو تفضيله، وترجيحه للقراءة التي تحمل المعنى الأقوى في نظره. وذلك في مثل موقف الطبري من قراءة "ملك يوم الدين ". غير أن الزمخشري يضيف بعدا جديدا لهذا الموقف أعني الترجيح لقوة المعنى في نظره. هذا البعد الجديد يتجلى في توجيهه للقراءة توجيها بلاغيا لولعه وعنايته، وهاك شيئا من مواقفه في هذا الجانب:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (2) قرأ ابن كثير وأبو عمرو البصري: " إن الله يدفع "، بفتح الياء والفاء وإسكان الدال من غير الألف، وقرأ الباقون يدافع بضم الياء وفتح الدال وألف بعدها مع كسر الفاء. يقول الزمخشري: " ومن قرأ يدافع فمعناه يبالغ في الدفع عنهم، كما يبالغ فيه؛ لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ.
وليت الزمخشري يقف عند هذا الحد، في الترجيح بين القراءات المتواترة، فقد عمد إلى قراءة شاذة مخالفة للرسم القرآني، ورأى فيها بلاغة ما لم يره في المتواتر؛ ففي قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} (3)
قرأ الأعمش " إلا قليل" بالرفع، وهي قراءة لم تثبت، قال وهذا من ميلهم مع المعنى، والإعراض عن اللفظ جانبا، وهو باب جليل من علم العربية (4) وقد لا يكون هناك أدنى مبرر للحكم بالقوة لقراءة دون قراءة، إلا
__________
(1) الآية 284 من سورة البقرة، وتفسيرها من الكشاف 1 \ 407.
(2) سورة الحج الآية 38
(3) سورة البقرة الآية 249
(4) الآية 249 من البقرة، وتفسيرها في الكشاف 1 \ 381.(35/220)
لاشتمالها على نكتة بلاغية، يلمحها فيها، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} (1) .
يقول: قرأ قتادة " كاشف الضر " على فاعل بمعنى فعل، وهو أقوى من كشف؛ لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة.
وثالثة الأثافي: موقف الزمخشري من القراءات التي تخالف الرسم، والذي اختلفت عن موقف الطبري؛ إذ أن الطبري قد وقف موقفا واضحا وسليما من تلك القراءات التي تخالف الرسم أو الرسوم على حد تعبيره، فردها ردا قاطعا لعدم قرآنيتها، أما الزمخشري فقد أكثر من ذكر هذه القراءة، دون نقد أو رد، بل صرف عنايته لتوجيهها، ولعل هذا الفارق بين الطبري والزمخشري يعود إلى علم الأول بالقراءات، وجهل الثاني بها؛ إذ رماه أبو حيان بأنه ضعيف في هذا العلم، وهاك بعض الأمثلة:
قال تعالى: {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (2) يقول: وقرئ، " أعجمي "، ولم يعقب على ذلك، بل اكتفى بشرح كلمة الأعجمي، بأنه الذي لا يفصح، ولا يفهم كلامه، من أي جنس كان.
وفي قوله تعالى: {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} (3) ، يقول: وقرأ أنس يجمزون، فسئل، فقال: يجمحون، ويجمزون ويشتدون واحد.
وفي قوله تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى} (4) يقول: وقرأ زهير الفرقبي " أدنأ " بالهمزة من الدناءة، ولا شك أنها قراءة مخالفة للرسم، ولكن الزمخشري لا يعول على ذلك؛ إذ همه توجيه المعنى وسلامته، ولا يهمه بعد ذلك أن يعرفنا بالقارئ، ومدى اعتبار قراءة مثل هذا الشخص زهير الفرقبي، بل لا يذكر لنا من هو القارئ لقراءة في منتهى الشذوذ، وما أعجب كلامه
__________
(1) سورة النحل الآية 54
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة التوبة الآية 57
(4) سورة البقرة الآية 61(35/221)
حين ذكر قراءة في فاتحة الكتاب، والتي بدأها بداية غريبة، حين جعلها أول القرآن نزولا، وحكم بنزولها قبل سورة اقرأ وسورة المدثر، ونسب هذا القول لجمهور المفسرين، كما أنهى السورة بقول أشد غرابة، حين ختمها بقراءة لخاتمة كلماتها الضالين، يقول: " ولا الضألين ". بالهمز، كما قرأ عمرو بن عبيد " ولا جأن " (1) ، ثم قال: " وهذه لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين ".
وبهذا ننهي حديثنا عن الزمخشري دون تعليق عليه، تاركين الحديث عنه للمدافعين عن القراءات، الرادين لسهام الطاعنين، فحديثهم عن ذلك فيه الكفاية والنهاية.
__________
(1) المرجع السابق.(35/222)
حكم الطعن في القراءات
لا يفوتنا ونحن ننهي الحديث عن الطاعنين أن نذكر حكم الطعن في القراءات القرآنية المتواترة فنقول: إن من العلماء من يهون أمر الطعن في القراءات، ظنا منه أن الخلاف في القراءات لا يعدو أن يكون لونا من ألوان الاختلاف في الاجتهادات الفقهية، وهذا وهم باطل؛ ذلك أن مصدر الاختلاف بين القراءات هو الوحي، بينما منشأ الاختلاف في الفقه هو الاجتهاد المبني على النظر الذي قد يصيب وقد يخطئ.
قال أبو جعفر النحاس: " السلامة عند أهل الدين إذا صحت القراءات ألا يقال: أحدهما أجود؛ لأنهما جميعا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيأثم من قال بذلك، ذلك لأن اختلاف القراء عند المسلمين صواب بإطلاق، وليس كاختلاف الفقهاء صوابا يحتمل الخطأ، ولا نعلم أحدا من الصحابة من كان يفضل قراءة على قراءة، بل ينكرون تفضيل قراءة على قراءة من أي وجه، كما قال السيوطي " (1) ، فلئن كان المرجح لقراءة على قراءة آثما، فما بالك بالذي يطعن ويرد قراءة متواترة.
__________
(1) انظر ذلك في الإتقان(35/222)
قال الألوسي، في شأن من يطعن في القراءة، وذلك في صدد رده على الزمخشري في تشنيعه لقراءة ابن عامر: إنه تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا، لا نقلا وسماعا، كما ذهب إليه بعض الجهلة، فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه، وأخذ يبين منشأ غلطه، وهذا غلط صريح يخشى منه الكفر، والعياذ بالله تعالى (1) .
__________
(1) روح المعاني 8 \ 23(35/223)
المرجحون بين القراءات
كثيرون هم الذين سلكوا هذا المسلك، ولا يعني ترجيحهم عدم الدفاع عن القراءات، بل قد يدافعون أحيانا، ولكنهم لا يطعنون بالقراءات بحال من الأحوال، وأهم المفسرين الذين سنكتفي بذكره هو الإمام القرطبي.
موقفه من القراءات المتواترة:
الإمام القرطبي من المفسرين الذين رجحوا القراءات المتواترة، بعضها على بعض، ويظهر ذلك في بعض الأمثلة والشواهد من تفسيره للآيات، وتعرضه للقراءات فيها؛ ففي قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (1) في هذه الآية استعرض الإمام القرطبي أقوال العلماء في القراءات، وذكر آراءهم، وترجيح كل فريق لما ذهب إليه؛ استنادا إلى ما تحمله من معان عظيمة، تتفق وصفات الله تعالى.
يقول في ذلك: اختلف العلماء؛ أيهما أبلغ (ملك) أو (مالك) ، القراءتان مرويتان عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواهما أبو بكر وعمر، وذكرهما الترمذي؛ قال أبو عبيد والمبرد (ملك) أعم وأبلغ من (مالك) ؛ إذ كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، ولأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه، حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك، وقيل (مالك) أبلغ؛ لأنه يكون مالكا للناس وغيرهم، فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم؛ إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التملك.
ثم انتقل إلى من اختار القراءة في "مالك "، مبينا دليلهم، وهو أن الله تعالى وصف نفسه بأنه مالك كل شيء بقوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) فلا فائدة في
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 4
(2) سورة الفاتحة الآية 2(35/223)
قراءة من قرأ (مالك) لأنها تكرار، وقال أبو حاتم: " إن مالكا أبلغ في مدح الخالق في مدح المخلوقين أبلغ من مالك، والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا، واختار هذا القول القاضي أبو بكر العربي، وذكر ثلاثة أوجه: الأول: أنك تضيفه إلى الخاص والعام، فنقول مالك الدار والأرض والثوب، كما تقول: مالك الملوك.
الثاني: أنه يطلق على مالك القليل والكثير، وإذا تأملت هذين القولين وجدتهما واحدا.
الثالث: أنك تقول: مالك الملك، ولا تقول ملك الملك، (المالك) بعد عرض أدلة الفريقين وحججهم يرجح القرطبي قائلا: قلت: وقد احتج بعضهم على أن مالكا أبلغ؛ لأن فيه زيادة حرف، فلقارئه عشر حسنات زيادة عمن قرأ ملك، قلت: هذا نظر إلى الصيغة، لا إلى المعنى، وقد ثبتت القراءة بملك، وفيه من المعنى ما ليس في مالك، على ما بينا، والله أعلم (1) .
وفي موضع آخر، يظهر ترجيحه لقراءة متواترة على قراءة أخرى مثلها؛ ففي قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} (2)
وتواتر عن حمزة وحده {لَيْسَ الْبِرَّ} (3) بالنصب، وقرأ الباقون (ليس البر) بالرفع، وروى حفص عن عاصم مثل قراءة حمزة، ومع ثبوت التواتر للقراءتين- نجد الإمام القرطبي يرجح إحداهما على الأخرى.
فيقول في ذلك: " قرأ حمزة وحفص " البر " بالنصب؛ لأن ليس من أخوات كان، يقع بعدها المعرفتان، فتجعل أيهما شئت الاسم أو الخبر، فلما وقع بعد (ليس) ، (البر) نصبه، وجعل (أن تولوا) الاسم، وكان المصدر أولى بأن.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن جـ1 \ 140- 141.
(2) سورة البقرة الآية 177
(3) سورة البقرة الآية 177(35/224)
يكون اسما لأنه لا يتنكر، والبر قد يتنكر، والفعل أقوى في التعريف، وقرأ الباقون (البر) بالرفع، على أنه اسم ليس، وخبره (أن تولوا) ، تقديره: ليس البر توليتكم وجوهكم، وعلى الأول ليس توليتكم وجوهكم البر؛ كقوله: " ما كان حجتهم إلا أن قالوا ": ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا "، ما كان عاقبتهما أنهما في النار "، وما كان مثله، ويقوى قراءة الرفع أن الثاني معه الباء إجماعا في قوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} (1) ولا يجوز فيه إلا الرفع فحمل الأول على الثاني أولى من مخالفته له.
وكذلك هو في مصحف أبي بالبا: ليس البر بأن تولوا، وكذلك في مصحف ابن مسعود أيضا، وبعد هذا التوجيه وتقويته لقراءة الرفع، ينهي كلامه فيهما بأنهما قراءتان حسنتان (2) .
وفي قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (3) (ننسأها) فتح النون والسين مع الهمزة، عند ابن كثير وأبي عمرو، وقرأ الباقون (ننسها) . والمعنى على القراءة الأولى (ننسأها) نؤخرها، تقول العرب: نسأت الإبل عن الحوض، وأنسأ الإبل عن ظمئها، يوما أو يومين أو أكثر، أخرها عن الورد. وتقول: أنسأ الله في أجلك أي أخر فيه، والمعنى أو نؤخر إنزالها إلى الوقت هو أولى بها وأصلح للناس.
والمعنى، على القراءة الثانية (ننسها) ، من الترك أي نأمر بترك حكمها أو تلاوتها، أو نمحها لفظا وحكما، ومنه قول الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (4) ؛ أي تركوا عبادته، فتركهم في العذاب.
والإمام القرطبي، بعد عرضه للقراءات في الآية السابقة، وأدلة كل طرف وحجته، يقوم بتوجيهها على المعاني التي ضمنتها، ثم يذكر اختيار العلماء والراجح منا مع ذكر أدلتهم.
يقول في ذلك: وقرأ الباقون (ننسها) ، بضم النون، من النسيان الذي بمعنى
__________
(1) سورة البقرة الآية 189
(2) الجامع لأحكام القرآن 1 \ 238
(3) سورة البقرة الآية 106
(4) سورة التوبة الآية 67(35/225)
الترك، أو نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها، واختار القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، قال أبو عبيد: سمعت أبا نعيم القارئ يقول: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم، في المنام، بقراءة أبي عمرو، فلم يغير علي إلا حرفين قال: قرأت عليه (أرنا) بسكون الراء، فقال: أرنا، فقال أبو عبيد: وأحسب الحرف الآخر (أو ننساها) فقال: {أَوْ نُنْسِهَا} (1) وحكى الأزهري ننسها، نأمر بتركها، يقال أنسيته الشيء أي أمرت بتركه، ونسيته تركته، وقال الذباح: إن القراءة، بضم النون، لا يتوجه فيها الترك، لا يقال: أنسى بمعنى ترك، وما روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس (أو ننسها) نتركها لا نبدلها، فلا يصح.
ولعل ابن عباس قال: نتركها، فلم يضبط، والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى {أَوْ نُنْسِهَا} (2) نبح لكم تركها، من نسى إذا ترك ثم تعديه، وقال أبو علي وغيره: ذلك متجه لأنه بمعنى تجعلك تتركها. وقيل: من النسيان على بابه، الذي هو عدم الذكر على معنى أو ننسكها يا محمد فلا تذكرها، نقل بالهمز فتعدى الفعل إلى مفعولين، وهم النبي والهاء، لكن اسم النبي محذوف (3) .
وفي قوله تعالى {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} (4) .
تعرض الإمام القرطبي للقراءات التي وردت، في الآية الكريمة، وذكر فيها أربع قراءات، رجح قراءة متواترة على قراءة مثلها، ورد على النحاة الذين رفضوا قراءة متواترة، وهي قراءة ابن عامر بضم الزاي، في (زين) وبرفع " قتل "، ونصب (أولادهم) وجر (شركائهم) ، وسبق الحديث عن هذه القراءة، من قبل المفسرين كالزمخشري والرازي وغيرهما، ومن قبل النحاة واللغويين كيف أنهم ردوا تلك القراءة واستقبحوها، وطعنوا بمن قرأ بها، والإمام القرطبي لم يجارهم على ذلك؛ فهو وإن فاضل ورجح بين القراءات المتواترة- لم يرض الطعن في قراءة صحيحة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك نجده ينقل كلام الإمام القشيري الذي يقول فيه:
__________
(1) سورة البقرة الآية 106
(2) سورة البقرة الآية 106
(3) الجامع لأحكام القرآن جـ 2 \ 68.
(4) سورة الأنعام الآية 137(35/226)
" وقال قوم هذا قبيح، وهذا محال؛ لأنه إذا ثبتت القراءة بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو الفصيح لا القبيح ".
ثم رد على من طعن في تلك القراءة من أهل اللغة بأن لها نظيرا عند العرب، وليست خارجة عن كلامهم: وقد ورد ذلك في كلام العرب وفي مصحف عثمان (شركائهم) بالياء، وهذا يدل على قراءة ابن عامر، وأضيف القتل في هذه القراءة إلى الشركاء، هم الذين زينوا ذلك ودعوا إليه؛ فالفعل مضاف إلى فاعله على ما يجب في الأصل، فرق بين المضاف والمضاف إليه، وقدم المفعول وتركه منصوبا على حاله؛ إذ كان متأخرا في المعنى، وأخر المضاف وتركه مخفوضا على حاله؛ إذ كان متقدما بعد القتل.
والتقدير: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل (شركائهم أولادهم) ؛ أي أن قتل شركاؤهم أولادهم، ومع ذلك نرى الإمام القرطبي لا يخرج عن مذهبه في الترجيح بين القراءات المتواترة، فهو لا ينسى أن يفاضل بين القراءتين المتواترتين؛ فقراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة وأهل البصرة يقول فيها:
" قال مكي: وهذه القراءة هي الاختيار؛ لصحة الإعراب فيها، ولأن عليها الجماعة " (1) .
هذا هو مسلك القرطبي في الترجيح، وهو مرفوض عند المدافعين عن القراءات، كما سنرى، ويظل موقفه أهون من الطاعنين فيها.
أدرك ذلك من أدرك، ومن لم يدرك؛ فإن عدم إدراكه ليس ناجما عن القراءة، ولكن هذا هو فهمه.
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (2) اللهم علمنا ما جهلنا، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، فهذا جهدنا أثبنا عليه إن أصبنا، واغفر لنا إن تجاوزنا {رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (3) .
__________
(1) انظر هذه القوال والترجيحات في تفسيره لهذه الآية.
(2) سورة يوسف الآية 76
(3) سورة المؤمنون الآية 118(35/227)
المدافعون عن القراءات
كثير من المفسرين من وقف مدافعا عن القراءات، رادا على الطاعنين سهامهم من المفسرين أو اللغويين أو المبتدعين، ورافضا لنهج المرجحين استحسانهم وتفضيلهم لقراءة على قراءة، ومن هؤلاء المفسرين وأقدمهم:
أولا: الفخر الرازي
هو فخر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التميمي البكري الطبرستاني الرازي، ولد بالري سنة 543 هـ وتوفي بهراة سنة 606 هـ، وهو من ذرية أبي بكر الصديق (1) ، له تصانيف عديدة، من أشهرها المحصول في علم الأصول، وتفسيره المسمى مفاتيح الغيب، والمشهور بالتفسير الكبير أو تفسير الفخر (2) .
موقفه من القراءات المتواترة:
إذا استعرضنا بعض القراءات القرآنية، التي طعن فيها الطاعنون، نلحظ دفاعا من الفخر الرازي، فقد انبرى لهم رادا عليهم الأقيسة اللغوية؛ مفندا حججهم داعيا إلى التحاكم إلى النقل والرواية والسماع.
ففي قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} (3) .
يقول: تواتر عن حمزة والكسائي (يطهرن) مشددة، وتواتر عن ابن كثير ونافع وأبي عمر وابن عامر (يطهرن) خفيفة؛ ففي هذه الآية نجد الإمام الرازي، في هاتين القراءتين المتواترتين، لا يفرق بينهما، ولا يرجح إحداهما على الأخرى؛ فهما عنده سواء، ويجب العمل بهما، يقول في ذلك: " إن القراءة المتواترة حجة بالإجماع، فإذا حصلت قراءتان متواترتان، وأمكن الجمع بينهما- وجب الجمع بينهما
__________
(1) كشف الظنون مجلد 6 \ 107، النجوم الزاهرة 6 \ 197.
(2) كشف الظنون مجلد 6 \ 108، النجوم الزاهرة 6 \ 197.
(3) سورة البقرة الآية 222(35/228)
إذا ثبت هذا- فنقول: قرئ (حتى يطهرن) بالتخفيف، و (يطهرن) بالتخفيف عبارة عن انقطاع الدم، وبالتثقيل عبارة عن التطهر بالماء، والجمع بين الأمرين ممكن، وجب دلالة هذه الآية على وجوب الأمرين، وإذا كان وجب أن لا تنتهي هذه الحرمة، إلا عند حصول الأمرين (1) ؛ فالرازي يجمع بينهما، وهو يتجاوز حالة الجمع إلى الدفاع عنها، وهناك قراءة متواترة يظهر فيها دفاعه عنها، ورده الأقيسة اللغوية، والتحاكم إلى النقل والسماع.
ففي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (2) .
قرأ حمزة وحده (والأرحام) بجر الميم، قال القفال رحمه الله: وقد رويت هذه القراءة عن غير القراء السبعة، عن مجاهد وغيره، وأما الباقون من القراء فكلهم قرءوا بنصب الميم، أما قراءة حمزة - فقد ذهب الأكثر من النحويين إلى أنها فاسدة، قالوا لأن هذا يقتضي عطف المظهر على المضمر المجرور، ثم ذكر الوجوه التي احتجوا بها لذلك، ثم قال: واعلم أن هذه الوجوه ليست وجوها قوية، في دفع الروايات الواردة في اللغات، وذلك لأن حمزة أحد القراء السبعة، والظاهر أنه لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة، والقياس يتضاءل عند السماع، لا سيما بمثل هذه الأقيسة التي هي أوهن من بيت العنكبوت.
ولم يكتف الرازي بهذا، بل أخذ يوجه القراءة توجيها حسنا مقرونا بالحجة، يقول في ذلك: " وأيضا فلهذه القراءة وجهان؛ أحدهما: أنها على تقدير تكرير الجار، كأنه قيل: تساءلون به وبالأرحام، وثانيها: أنه ورد ذلك في الشعر، وأنشد سيبويه في ذلك:
فاليوم قد بت تهجونا ... فاذهب فما بك والأيام من عجب
وأنشد أيضا:
__________
(1) مفاتيح الغيب جـ 6 \ 73.
(2) سورة النساء الآية 1(35/229)
نعلق في مثل السواري سيوفنا ... وما بينها والكعب غوط نفانف
والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين، ولا يستحسنون إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن.
وقد اعترض بعض العلماء على قراءة الجر في " الأرحام "، بأنها فاسدة من جهة المعنى؛ إذ تقضي جواز الحلف بها، فرد الإمام الرازي على ذلك بقوله:
واحتج الزجاج، على فساد هذه القراءة من جهة المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بآبائكم (1) »
فإذا عطف الأرحام على المكنى عن اسم الله، اقتضى ذلك جواز الحلف بالأرحام، ويمكن الجواب عنه بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية؛ لأنهم كانوا يقولون: أسألك بالله والرحم، وحكاية هذا الفعل عنهم في الماضي لا تنافي ورود النهي عنه في المستقبل، وأيضا فالحديث نهى عن الحلف بالآباء فقط، وههنا ليس كذلك، بل هو حلف بالله أولا، ثم يقرن به بعده ذكر الرحم، فهذا ينافي ذلك الحديث (2) ، ويرى الإمام الرازي أن القراءات لا بد من تواترها، وما نقل منها بطريق الآحاد فهو مردود لا يعتد به؛ ففي قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (3) "ذكر ستا" من القراءات الشاذة فيها، ثم قال: فهذه هي القراءات الشاذة المذكورة في هذه الآية، واعلم أن المحققين قالوا هذه القراءات لا يجوز تصحيحها؛ لأنها منقولة بطريق الآحاد، ثم تعرض للقراءات المتواترة في الآية، وأقوال الطاعنين فيها، ووجهة نظرهم، والرد عليها بالحجة والبيان، يقول في ذلك: " القراءة المشهورة" أن هذان الساحران، وأما الطعن فيها فهو أسوأ مما تقدم (4) ، من وجوه (أحدها) أنه لما كان نقل هذه القراءة في الشهرة
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التوحيد.
(2) تفسير الفخر جـ9 \ 170.
(3) سورة طه الآية 63
(4) أي أسوأ من اعتبار الشاذ قرآنا(35/230)
كنقل جميع القرآن، فلو حكمنا ببطلانها جاء مثله في جميع القرآن، وذلك يفضي إلى القدح في التواتر، وإلى القدح في كل القرآن، وأنه باطل، وإذا ثبت ذلك امتنع صيرورته معارضا بخبر الواحد المنقول عن بعض. (وثانيها) أن المسلمين أجمعوا على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى، وكلام الله تعالى لا يجوز أن يكون لحنا وغلطا، فثبت فساد ما نقل عن عثمان وعائشة رضي الله عنهما أن في قراءة (أن هذان الساحران) لحنا وغلطا.
(وثالثها) قال: ابن الأنباري أن الصحابة هم الأئمة والقدوة، فلو وجدوا في المصحف لحنا لما فوضوا إصلاحه إلى غيرهم من بعدهم، مع تحذيرهم من الابتداع، وترغيبهم في الاتباع، فثبت أنه لا بد من تصحيح القراءة المشهورة (1) .
والإمام الرازي رد عن القراءات كل شبهة، وعزاها إلى النقل والسماع، ووجهها التوجيه الذي يزيل عنها كل شبهة؛ ففي قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2) .
يقول في هذه الآية: " روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا: إن في المصحف لحنا، وستقيمه العرب بألسنتها. واعلم أن هذا بعيد؛ لأن هذا المصحف منقول بالنقل المتواتر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه، وعند البصريين أنه نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، قالوا إذا قلت: " مررت بزيد الكريم "، فلك أن تجر الكريم لكونه صفة لزيد، ولك أن تنصبه على تقدير أعني، وإن شئت رفعت على تقدير هو الكريم، وعلى هذا يقال: جاءني قومك المطعمين في المحن، والمغيثون في الشدائد، والتقدير: جاءني قومك، أعني المطعمين في المحن، وهم المغيثون في الشدائد، فكذا ههنا تقدير الآية: أعني المقيمين الصلاة، وهم المؤتون الزكاة، وقد طعن الكسائي قول البصريين
__________
(1) روح المعاني جـ 22 \ 75 مع تصرف في بعض العبارات.
(2) سورة النساء الآية 162(35/231)
بقوله: النصب على المدح، إنما يكون بعد تمام الكلام، وهاهنا لم يتم الكلام؛ لأن قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (1) منتظر للخبر، والخبر هو قوله: {أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا} (2) .
فأجاب الإمام الرازي على ذلك: " لا نسلم أن الكلام لم يتم إلا عند قوله (أولئك) لأنا بينا أن الخبر هو قوله (يؤمنون) ، وأيضا لم لا يجوز الاعتراض بالمدح بين الاسم والخبر، وما الدليل على امتناعه؟ فهذا القول هو المعتمد في هذه الآية "، والتوجيه الثالث لقراءة والمقيمين هو للكسائي: وهو أن المقيمين خفض بالعطف، على (ما) في قوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} (3) والمعنى: " والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، وبالمقيمين الصلاة "، ثم عطف على قوله المؤمنون قوله: {وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (4) (5) .
من الأمثلة السالفة الذكر يظهر لنا موقف الإمام الرازي من القراءات المتواترة، وكيف دافع عنها ورد الطعون الواردة عليها بجميع ما أوتي من علم ومعرفة، وليته استمر على هذا النهج، فقد وجدناه يقف صامتا عند الطعن في قراءة متواترة.
ففي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} (6) .
يقول: قرأ ابن عامر وحده (زين) بضم الزاي وكسر الياء، وضم اللام من (قتل) ، و (أولادهم) بنصب الدال، (شركائهم) بالخفض، والباقون (زين) بفتح الزاي والياء، (قتل) بفتح اللام، (أولادهم) بالجر، (شركائهم) بالرفع، أما وجه قراءة ابن عامر فالتقدير: زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم، إلا أنه فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به، وهو الأولاد، وهو مكروه في الشعر، كما في قوله:
فزججتها بمزجة ... زج القلوص أبي مراده
__________
(1) سورة آل عمران الآية 7
(2) سورة النساء الآية 162
(3) سورة النساء الآية 162
(4) سورة النساء الآية 162
(5) مفاتيح الغيب ج11 \ 108.
(6) سورة الأنعام الآية 137(35/232)
وإذا كان مستكرها في الشعر، فكيف في القرآن، الذي هو معجز في الفصاحة، قالوا والذي حمل ابن عامر على هذه القراءة أنه رأى بعض المصاحف (شركائهم) مكتوبا بالياء، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء؛ لأجل أن الأولاد شركاؤهم في أموالهم، لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب (1) .
والكلمات بألفاظها قالها الإمام الزمخشري (2) ، ولم يعزها إليه، والعجيب، في ذلك كما أسلفنا، أنه في مواضع عديدة، من تفسيره، قرر أن المقاييس اللغوية لا يعتد بها منع ثبوت تواتر القراءة، وهو القائل: " وإن حمزة لم يأت بالقراءة من عند نفسه " (3) .
وهو القائل: " إن القراءة المتواترة حجة بالإجماع " (4) ، فيم نفسر سكوته هذا، ولأي شيء نعزي فساد ما أصلح في بعض الأحيان؟ إن اضطراب كلامه في القراءات يدل على أنه ليس له باع طويل في القراءات، كما هو شأن أبي حيان في دفاعه، وهو ما سنثني في ذكره.
__________
(1) تفسيره ج 1 \ 73.
(2) الكشاف 2 \ 54.
(3) مفاتيح الغيب 6 \ 73.
(4) مفاتيح الغيب 6 \ 73.(35/233)
ثانيا: أبو حيان الأندلسي
هو محمد بن يوسف بن حيان الجياني الإمام أبو حيان أثير الدين الأندلسي، ولد سنة 654 هـ. وتوفي بمصر سنة 745 هـ.
مؤلفاته: وهي لا تعد ولا تحصى، في مجال اللغة والأدب والتفسير والقراءات، وأكتفي بذكر تفسيره الكبير البحر المحيط، ومؤلفاته الكثيرة في علم القراءات بالذات، وهي تدل على علو كعبه في هذا المجال أذكر منها:
1 - البر الجلي في قراءة زيد بن علي.
2 - تقريب النائي في قراءة الكسائي.(35/233)
3 - الروض الباسم في قراءة عاصم.
4 - غاية المطلوب في قراءة يعقوب.
5 - المنافع في قراءة نافع.
6 - المزن الهامر في قراءة ابن عامر.
7 - المورد الغمر في قراءة أبي عمرو.
8 - الرمزة في قراءة حمزة.
9 - وأخيرا الحلل الحالية في أسانيد القراءات العالية (1) .
لقد ألف في قراءة كل قارئ، من السبعة، كتابا مستقلا، ومن استعرض البحر المحيط وجده تفسيرا حافلا، بالقراءات والإعراب لها، وتوجيه معانيها، بما لا يجد له مثيلا، في الكتب، قديما وحديثا؛ ففي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (2)
يقول أبو حيان:
قرأ جمهور السبعة بنصب الميم في قوله (والأرحام) ، وقرأ حمزة بجرها، وهي قراءة النخعي وقتادة والأعمش.
ثم أخذ بتوجيه كل قراءة، محتجا لها بما جاء في لسان العرب، وبما أجمعت عليه أمة الإسلام، يقول في ذلك " فأما النصب فظاهره أن يكون معطوفا على لفظ الجلالة، ويكون ذلك على حذف مضاف، التقدير: واتقوا الله، وقطع الأرحام، وعلى هذا فسرها ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم.
والجامع بين تقوى الله، بالتزام طاعته واجتناب معاصيه، واتقاء الأرحام، بأن توصل ولا تقطع، وبالحمل على القدر المشترك- يندفع قول القاضي: كيف يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة؟ وهو في الحقيقة من باب حمل الخاص على
__________
(1) كشف الظنون مجلد 6 \ 152 -153.
(2) سورة النساء الآية 1(35/234)
العام؛ لأن المعنى اتقوا الله، أي اتقوا مخافة الله، وفي عطف الأرحام على اسم الله، دلالة على عظم ذنب قطع الرحم.
وقيل: النصب عطف على موضع (به) ، كما تقول: مررت بزيد وعمرا، ولما لم يشاركه في الاتباع على اللفظ اتبع على موضعه، ويؤيد هذا القول قراءة عبد الله بن مسعود " تساءلون به وبالأرحام " (1) .
ثم انتقل إلى استعراض قراءة الجر، وتوجيهها، والرد على من عابها. يقول في ذلك: " وأما الجر فظاهره أنه معطوف على المضمر المجرور، من غير إعادة الجار، وعلى هذا فسرها الحسن والنخعي ومجاهد، ويؤيده قراءة عبد الله (وبالأرحام) ، وكانوا يتناشدون بذكر الله والرحم "، وبعد توجيه القراءات الواردة في اللفظ السابق، وتوجيهها على المعاني المناسبة، انتقل إلى الرد على من طعن فيها قائلا: " وما ذهب إليه أهل البصرة، وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية، من امتناع العطف على الضمير المجرور، إلا بإعادة الجار. .
مثل هذا القول غير صحيح، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك، وأنه يجوز في لسان العرب نثرها ونظمها.
ولم يكتف أبو حيان بالرد على الطاعنين بالقراءة بالأسلوب اللين، بل استعمل الشدة والعنف في ذلك: " وأما قول ابن عطية فيرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان. . " فجسارة قبيحة منه لا تليق بما له ولا بطهارة لسانه؛ إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قرأ بها سلف الأمة، واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير واسطة: عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت. . وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري، فإنه كثيرا ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم ".
ثم انتقل إلى ذكر مناقب القارئ حمزة، يقول في ذلك: " وحمزة أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش، وحمدان بن أعين، ومحمد بن
__________
(1) البحر المحيط 3 \ 157.(35/235)
عبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد الصادق "، ثم بين أن حمزة لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه، بل أخذها عن طريق النقل والسماع، يقول في ذلك: " ولم يقرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر. وأما حمزة فكان صالحا ورعا ثقة في الحديث وهو من الطبقة الثالثة " (1) .
وقد ختم الإمام أبو حيان دفاعه عن تلك القراءات بقوله: " ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة، ولا غيرهم ممن خالفهم، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية، لا أصحاب الكنانيس، المشتغلون بضروب من العلوم، الآخذون من الصحف دون الشيوخ.
وفي قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} (2) يقول: " وقرأ ابن عامر نصب (أولادهم) ، وجر (شركائهم) ، فصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل، بالمفعول، وهي مسألة مختلف في جوازها؛ فجمهور البصريين يمنعونها، متقدموهم ومتأخروهم، ولا يجيزون ذلك إلا في ضرورة الشعر، وبعض النحويين أجازها، وهو الصحيح؛ لوجودها في هذه القراءة المتواترة المنسوبة إلى العربي الصريح المحض ابن عامر، الآخذ القرآن عن عثمان بن عفان، قبل أن يظهر اللحن في لسان العرب (3) .
ثم ذكر بعض المفسرين الذين ردوا هذه القراءة وطعنوا فيها، منهم ابن عطية الذي قال: " إنها قراءة ضعيفة في استعمال العرب "؛ متعللا بعدة أمور منها:
1 - إضافة الفعل إلى الفاعل، وهو الشركاء.
2 - فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، والفصل بالظروف في مثل هذا لا يجوز إلا في الشعر كقوله:
__________
(1) البحر المحيط 3 \ 159.
(2) سورة الأنعام الآية 137
(3) البحر المحيط 4 \ 229.(35/236)
كما خط الكتاب بكف يوما يهودي يقارب أو يزيل فكيف بالمفعول في أفصح كلام، ولكن وجهها على ضعفها، أنها وردت شاذة في بيت أنشده أبو الحسن الأخفش:
فزججته بمزجة ... زج القلوص أبي مزادة
هذا هو كلام ابن عطية، في قراءة ابن عامر، أما أبو حيان فقد تولى الرد على ابن عطية بقوله: " ولا التفات إلى قوله "، ثم انتقل إلى اعتراض الزمخشري، على هذه القراءة، بقوله " ولا التفات إلى قول الزمخشري: إن الفصل بينهما، يعني بين المضاف والمضاف إليه، لو كان في مكان الضرورات، وهو الشعر، لكان سمجا مردودا، فكيف به في القرآن المعجز لحسن نظمه وجزالته " (1) .
قال أبو حيان: " وأعجب لعجمي، ضعيف في النحو، يرد على عربي صريح، محض قراءة متواترة، يوجد نظيرها في لسان العرب في غير ما بيت ".
نجد الإمام أبا حيان، أثناء دفاعه عن القراءة، ينحو إلى الدفاع عن القارئ، ذاكرا ما فيه من عدل وضبط، ثم ينتقل إلى الدفاع عن القراءة، من حيث إنها جاءت عن رب العزة، بالنقل المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا مجال للأخذ والرد، وإنما التسليم والقبول. ثم ينتقل إلى تقوية القراءة، من جهة العربية، فيحشد هذه الأدلة، من أقوال النحاة، واللغات التي لها سبيل إلى تلك القراءة، وهاك قوله في هذه القراءة: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (2) .
يقول أبو حيان قرأ الجمهور (معايش) ، وهو القياس؛ لأن الياء في المفرد هي أصل، لا زائدة فتهمز، وإنما تهمز الزائدة؛ نحو صحائف في صحيفة.
ثم بين الوجه الثاني من قراءة (معايش) ، وهو بالهمز بدل الياء، يقول في
__________
(1) البحر المحيط 4 \ 230.
(2) سورة الأعراف الآية 10(35/237)
ذلك: وقرأ الأعرج وزيد بن علي والأعمش وخارجة، عن نافع وابن عامر، في رواية (معائش) بالهمز، وليس بالقياس، لكنهم رووه، وهم ثقات، فوجب قبوله، ثم ذكر المخالفين، منهم الزجاج القائل: إن جميع نحاة البصرة تزعم أن همزها خطأ، ولا أعلم لها وجها، إلا التشبيه بصحيفة وصحائف، ولا ينبغي التعويل على هذه القراءة (1) . . ويرد أبو حيان، على ذلك، بعدة أدلة منها: أن العرب تهمز مثل تلك الأسماء وشبهه.
ثم إن هذه القراءة نقلت عن ثقات، كابن عامر، وهو عربي صراح، وقد أخذ القرآن عن عثمان قبل ظهور اللحن، وقرأ بها الأعرج وهو من كبار التابعين، وهم من الفصاحة والضبط والثقة بالمحل الذي لا يجهل، فوجب قبول ما نقلوه إلينا، ولا مبالاة بمخالفة نحاة البصرة في مثل هذا، ثم يقول: ولسنا متعبدين بأقوالهم (2) .
وقد تعرض المازني للقراءة بقوله: " أصل أخذ هذه القراءة عن نافع، ولم يكن يدري ما العربية، وكلام العرب الفصيح في نحو هذا " رد عليه الإمام أبو حيان:
" وأما قول المازني: أصل أخذ هذه القراءة عن نافع، فليس بصحيح؛ لأنها نقلت عن ابن عامر وعن الأعرج وزيد بن علي والأعمش، وقوله أن نافعا لم يكن يدري ما العربية فشهادة على النفي، ولو فرضنا أنه لا يدري ما العربية، وهي هذه الصناعة التي يتوصل بها إلى التكلم بلسان العرب، فهو لا يلزمه ذلك؛ إذ هو فصيح متكلم بالعربية، ناقل للقراءة المتواترة عن العرب الفصحاء، وكثير من هؤلاء النحاة يسيئون الظن بالقراء، ولا يجوز لهم ذلك (3) .
وفي قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (4) .
يقول: " قرأ أبو جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب
__________
(1) البحر المحيط 4 \ 271
(2) البحر المحيط 4 \ 271.
(3) البحر المحيط 4 \ 272.
(4) سورة طه الآية 63(35/238)
وخلف، في اختياره، وأبو عبيد وأبو حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوان والصاحبان من السبعة: بتشديد نون هذان، بألف ونون خفيفة لساحران، ثم ذكر اختلاف العلماء في توجيه وتخريج هذه القراءة، يقول في ذلك: قال القدماء من النحاة: إنه على حذف ضمير الشأن، والتقدير " إنه هذان لساحران "، وخبر إن الجملة من قوله {هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (1) واللام في (لساحران) داخلة على خبر المتبدأ، وضعف هذا القول: بأن حذف هذا الضمير لا يجيء، إلا في الشعر، وبأن دخول اللام في الخبر شاذ، قال الزجاج: " إن اللام لم تدخل على الخبر، بل التقدير: لهما ساحران، ودخلت على المبتدأ المحذوف "، وتخريج آخر لها: " إن بمعنى نعم، وثبت ذلك في اللغة، فتحمل الآية عليه، وهذان لساحران مبتدأ وخبر، واللام في لساحران، على ذينك التقديرين، في هذا التخريج ".
ويرى الإمام أبو حيان أن أصح وجه تحمل عليه القراءة هو أن هذه القراءة جاءت على لغة بعض العرب، من إجراء المثنى بالألف دائما، وهي لغة لكنانة ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحية، حكاه الكسائي، لبني العنبر، وبني الهجيم ومراد وعذرة (2) .
ومن العجب أن تكون هذه لغة لعديد من القبائل التي ذكرت، ثم يأتي النحاة ومن جرى على طريقتهم في تخريج تلك القراءة الثابتة عن رب العزة، والأولى والصواب أن الواجب أن تؤخذ هكذا، كما أثرت ورويت، ولا حاجة لتلك التأويلات التي تجعل الإنسان في حيرة، يتشتت فيها فكره هنا وهناك؛ لكثرة التناقضات واختلاف الآراء، لم لا نريح أنفسنا، ونقول إنها لغة، واللغة ظاهرة اجتماعية لا تخضع لمقاييس نحوية، بل لم لا نقول: إنها لغة القرآن، نقلت إلينا بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل لنا الخيرة في أنفسنا، بعد ثبوت أمر الله في ذلك (3) .
__________
(1) سورة طه الآية 63
(2) البحر المحيط مجلد 6 \ 255.
(3) والكلام للدكتور عبد المتعال في القراءات القرآنية في الدراسات النحوية.(35/239)
موقفه من الترجيح بين القراءات:
ومن مواقفه التي يرفض فيها المفاضلة والترجيح بين قراءتين متواترتين في قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} (1) .
تواتر عند أبي عمرو (وعدنا) بغير ألف، وقرأ الباقون (واعدنا) بالألف.
يقول عند تفسير هذه الآية: " قرأ الجمهور (واعدنا) ، وقرأ أبو عمرو (وعدنا) بغير ألف هنا وفي الأعراف، ويحتمل واعدنا أن يكون بمعنى وعدنا، ويكون صادرا من واحد، ويحتمل أن يكون من اثنين على أصل المفاعلة، فيكون الله قد وعد موسى الوحي، ويكون موسى وعد الله المجيء للميقات، أو يكون الوعد من الله، وقبوله كان من موسى، وقبول الوعد يشبه الوعد، قال القفال: " ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله، بمعنى يعاهده، وقيل: وعد إذا كان من غير طلب وواعد إذا كان من طلب.
ثم يقول: " وقد رجح أبو عبيد قراءة من قرأ (وعدنا) بغير ألف، وأنكر قراءة من قرأ (واعدنا) بالألف، ووافقه على معنى ما قال أبو حاتم ومكي. وقال أبو عبيد: المواعدة لا تكون إلا من البشر، وقال أبو حاتم: أكثر ما تكون المواعدة من المخلوقين المتكافئين، كل منهما يعد صاحبه. وقد مر تخريج واعد على تلك الوجوه السابقة، ولا وجه لترجيح إحدى القراءتين على الأخرى؛ لأن كلا منهما متواترة، فهما في الصحة على حد سواء (2) .
هذا هو مبدأ أبي حيان في القراءات المتواترة، وهو أنه لا ينبغي التفاضل والترجيح، فيما بينها، ما دامت كلها وحيا من عند الله تعالى، وثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة القول: أن أبا حيان هو من خير المدافعين عن القراءات، ولم نجد لدفاعه مثيلا عند جمهور المدافعين، وأن علمه الغزير بعلم القراءات وبعلم اللغة قد مكنه من الدفاع، بل الهجوم على الطاعنين، مبينا عوار قولهم بالحجة والدليل، جزاه الله خيرا.
__________
(1) سورة البقرة الآية 51
(2) البحر المحيط مجلد 1 ص 195.(35/240)
الخاتمة وأهم النتائج
:
- إن موضوع القراءات ما زال يحتاج إلى عناية واهتمام، في نواح أخرى، مثل علاقة الرسم القرآني بالقراءات، دراسة قواعد اللغة على ضوء القراءات القرآنية، تحرير القراءات المتواترة والشاذة، الاختلافات العقدية والفقهية، وعلاقة ذلك بالقراءات وغيرها من الأبحاث.
إن الاختلاف في تعريف القراءات كان مدخلا لأولئك المستشرقين في الطعن بالدين، فقد عزت بعض التعريفات لموضوع القراءات بأنها مذهب يذهب إليه القارئ، فقد أوحى هذا أن مصدر القراءة هو القارئ وليس وحي السماء.
وقد أسهم نقد الطاعنين من المفسرين في القراءات في تطاول المستشرقين على القراءات؛ فقد رمى الطاعنون القراء بأنهم قرءوا قراءات من عند أنفسهم، بل زادوا حرفا وكتبوه في المصحف، بل يصفون القراء السبعة مثل: ابن عامر بأنه لحن، كما وصفوا نافعا بأنه لا يدري ما العربية، ولا كلام العرب الفصيح، بل اتهموه بأنه قد زادها الكاتب حرفا من عند نفسه، أليست هذه الأقوال هي مثل قول جولد زيهر: " إن كل امرئ يستطيع وضع النص أو قراءته على وجه يؤيد بدعته ونحلته "؟ .
- إن الركن الوحيد الذي لا ثاني له هو تواتر السند، فلا يكون ما تواتر سنده مخالفا رسما ولا مخالفا لغة؛ إذ القراءة حجة على اللغة، وليست اللغة مقياسا لصحة القراءة القرآنية.
- بدأت بذكر الطاعنين في القراءات، ثم المرجحين، ثم المدافعين، وهو ترتيب منطقي، فالمدافع عن القراءات يرد على الطاعنين، كما يرد على المرجحين بين القراءات.
فإذا تواترت القراءتان فليست إحداهما أولى بالصحة من الأخرى، وكما قيل كلاهما عندنا في الصحة مخرج، فلا وجه لقول قائل أيهما أولى بالصحة.(35/241)
وعلاوة على ردهم على المرجحين، فقد ردوا ما هو أعظم بلاء؛ ألا وهو الطعن في القراءات. وعلى هذا فلا يتصور ذكر المدافعين إلا بعد أهل الترجيح والطعن؛ لذا بدأنا بما يترتب عليه وجود الآخر، فلولا الطاعن ما عرف المدافع.
وعلى العموم، فهناك تداخل بين الطاعنين والمرجحين والمدافعين، فليس الطاعن بالقراءة يطعن في كل قراءة، بل قد يكون مرجحا أو مساويا، كما أن المرجح ليس بمرجح دوما، بل قد يكون مدافعا، فليس بمرجح فضلا أن يطعن بالقراءة.
وما من شك أن الدفاع عن القراءات هو الموقف الأمثل، بل الصحيح الذي لا يصح سواه؛ فالقراءات كلها سواء، وكلها صحيح، أو كما يقولون قراءتان حسنتان، أما الترجيح فيعود ترجيح كل واحد إلى ما يتراءى له من وجوه المعاني؛ لذا نجد مفسرا يرجح قراءة، والآخر يرجح سواها.
وما ذلك إلا لأن كل واحد منهما قد ظهر له من المعاني ما لم يظهر للآخر.
فالناظر إلى القراءات القرآنية تتراءى له معان كثيرة ومختلفة، كما تتراءى للناظر إلى قطعة من الماس ألوان مختلفة ومتعددة بتعدد ما فيها من زوايا وأضلاع، ومختلفة باختلاف ما يكون عليه الناظر، وما عليه قطعة الماس من الأوضاع، هكذا بدت هذه النظرة في القراءات حين نرى مفسرا يرجح وجها واصفا إياه بأنه الأفضل، ويرجح آخر عكس ما رجح، ولكن الحقيقة واحدة، والقراءتان فيهما من الحسن ما فيهما.
والله أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل.(35/242)
المصادر والمراجع:
أولا: كتب التفسير:
1 - أحكام القرآن: لأبي بكر محمد بن عبد الله الأندلسي المعروف بابن العربي، ط \ دار إحياء الكتب العربية- القاهرة.
2 - أحكام القرآن: أبو بكر أحمد بن علي الرازي، دار الكتاب بيروت.
أضواء البيان في إيضاح القرآن، محمد الأمين الشنقيطي ط \ المدني سنة 1964م، القاهرة.
البحر المحيط، محمد بن يوسف أبو حيان، الناشر مكتبة النصر الحديثة- الرياض.
5 - تفسير القرآن العظيم، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، دار المعرفة للصناعة- بيروت.
6 - جامع البيان في تأويل آي القرآن، أبو جعفر بن جرير الطبري، تحقيق أحمد شاكر، دار المعارف بمصر.
7 - الجامع لأحكام القرآن، محمد بن أحمد القرطبي، ط \ دار الكتب المصرية بالقاهرة.
8 - الدر المنثور في التفسير المأثور، السيوطي، ط \ مؤسسة طهران.
9 - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، شهاب الدين أبو الفضل محمود الألوسي البغدادي. ط \ المنيرة بالقاهرة.
10 - غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري بهامش الطبري.
11 - الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، للزمخشري وهو أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، ط \ دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت.
12 - مفاتيح الغيب- التفسير الكبير: للإمام الرازي، دار الكتب العلمية طهران.
ثانيا: كتب علوم القرآن:
13 - البرهان في علوم القرآن، للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، ط \ دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت.
14 - الإتقان في علوم القرآن - جلال الدين السيوطي.
15 - علوم القرآن - للدكتور عدنان زرزور، ط \ المكتب الإسلامي.
16 - مناهل العرفان في علوم القرآن، محمد عبد العظيم الزرقاني.(35/243)
ثالثا: كتب القراءات:
17 - إتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر: الشيخ أحمد بن محمد الدمياطي البناء، ط \ عبد الحميد أحمد حنفي.
18 - أثر القرآن والقراءات في النحو العربي، تأليف الدكتور سمير اللبدي، دار الكتب الثقافية \ الكويت.
19 - أثر القراءات القرآنية في الدراسات النحوية، د. عبد العال سالم أكرم.
20 - البدور الزاهرة في القراءات العشر المتواترة، ويليه كتاب القراءات الشاذة، تأليف عبد الفتاح القاضي - الناشر دار الكتاب العربي.
21 - تحبير التيسير في قراءات الأئمة العشر، للإمام محمد بن محمد بن علي بن يوسف الجزري، تحقيق محمد الصادق قمحاوي وعبد الفتاح القاضي.
22 - التيسير في القراءات السبع: أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، استانبول، مطبعة الأدلة، سنة 1930 م.
23 - حجة القراءات، لعبد الرحمن بن محمد بن زنجلة المعروف بأبي زرعة، تحقيق العلامة سعيد الأفغاني، ط \ مؤسسة الرسالة- بيروت.
24 - الحجة في القراءات السبع للفارسي \ تحقيق علي النجدي، ود. النجار وشلبي، دفاع عن القراءات في مواجهة الطبري، د. لبيب سعيد، طبع السعودية، ط \ دار الكتاب العربي.
25 - رسم المصحف والاحتجاج به في القراءات، د. عبد الفتاح إسماعيل شلبي، ط \ مكتبة نهضة مصر، سنة 1830.
26 - كتاب السبعة في القراءات: لابن مجاهد أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس التميمي البغدادي \ تحقيق شوقي ضيف، دار المعارف بالقاهرة.
27 - شرح طيبة النشر في القراءات العشر، لابن الجزري، ط \ مصطفى الحلبي، القاهرة.
28 - القراءات القرآنية، تأليف عبد الهادي الفضلي، كلية الآداب، جامعة الملك عبد العزيز بجدة.
29 - المهذب في القراءات العشر وتوجيهها، د. محمد سالم محيسن، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.
30 - النشر في القراءات العشر. الحافظ أبي الخير الشهير بابن الجزري.
31 - ومن كتب المستشرقين مذاهب التفسير لجولد زيهر، ترجمة عبد الحليم النجار، ط \ السنة المحمدية.(35/244)
رابعا: الحديث وعلومه: (كتب السنة الستة) :
32 - صحيح البخاري.
33 - صحيح مسلم.
34 - سنن أبي داود.
35 - سنن المصطفى لابن ماجه.
36 - سنن جامع الترمذي.
37 - سنن النسائي.
38 - نيل الأوطار للشوكاني.
خامسا: كتب التراجم:
39 - أسد الغابة في معرفة الصحابة، للجزري المعروف بابن الأثير، ط \ دار الشعب، القاهرة.
40 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب يوسف بن عبد البر القرطبي، ط \ السعادة- والنسخة مصورة من دار الصادر- بيروت.
41 - الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني، ط \ دار السعادة.
سادسا: كتب في اللغة.
42 - تهذيب اللغة الأزهري، ط \ عيسى الحلبي.
43 - القاموس المحيط للفيروز ابادي، ط \ مصطفى الحلبي.
44 - لسان العرب لابن منظور الأنصاري، ط \ القاهرة سنة 1300 هـ.(35/245)
صفحة فارغة(35/246)
بغية الطالبي
في ترجمة أبي القاسم الشاطبي
بقلم: د. محمد سيدي محمد الأمين (1)
المبحث الأول
التعريف باسمه وكنيته ونسبه ونسبته
هو: القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد أبو القاسم، وأبو محمد الشاطبي الرعيني الضرير الشافعي.
ومن العلماء من جعل كنيته أبا القاسم هي اسمه، وهو قول ضعيف لم تعتمده كتب المصادر التي ترجمت للشاطبي، بل إن منهم من لم يذكره أصلا، كالذهبي، في كتبه: معرفة القراء الكبار، وتذكرة الحفاظ، والعبر في خبر من غبر، وابن الجزري في: غاية النهاية، وابن قاضي شهبه في: طبقاته، وغيرهم، وعلى هذا- فالصحيح في اسمه (القاسم) ، وله كنيتان أبو محمد وأبو القاسم.
__________
(1) أستاذ مساعد بكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(35/247)
وفيره: بكسر الفاء، وسكون الياء المثناة من تحت، وتشديد الراء وضمها، بعدها هاء، وهو من اللغة اللطيني، من أعاجم الأندلس، ومعناه بالعربية الحديد (1) .
قال القسطلاني، في كتابه فتح المواهب (مخطوط) (2) ، فإن قلت: ما وجه التسمية بالحديد؟ أجيب باحتمال أن يكون إشارة إلى قوة المسمى به في الدين، وشدة بأسه على الأعداء المارقين، وكثرة نفعه للموحدين، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (3) .
ونقل القسطلاني، عن الإمام السخاوي تلميذ الشاطبي، أنه وجد بخط أبي عبد الله بن أبي العاص، أحد شيوخ الشاطبي في إجازته له (ابن فارة) بألف بعد الفاء، مع تشديد الراء المضمومة.
قلت: الأشهر في نسبته هو ما تقدم، مما ذكره ابن خلكان وابن الجزري والصفدي وغيرهم.
والرعيني: بضم الراء وفتح العين المهملة، وبعدها الياء المنقوطة باثنتين من تحتها ساكنة، بعدها نون فمثناة تحية مشددة، هذه النسبة إلى ذي رعين من اليمن، وكان من الأقيال وهو قبيل من اليمن، نزلت جماعة منهم مصر، وهو
__________
(1) وفيات الأعيان لابن خلكان: 4 \ 72، وغاية النهاية ابن الجزري 2 \ 20، نكت الهميان للصفدي: 228.
(2) فتح المواهب. لوحة: 7 \ أ.
(3) سورة الحديد الآية 25(35/248)
إسماعيل بن قيس بن عبد الله بن غني بن ذؤيب بن الحكيم الرعيني (1) .
والشاطبي: بفتح الشين المعجمة، وبعد الألف طاء مكسورة مهملة، وبعدها باء موحدة، فتحتية مشددة، نسبة إلى شاطبة مدينة كبيرة ذات قلعة حصينة بشرق الأندلس، وشرقي قرطبة خرج منها جماعة من العلماء، استولى عليها الفرنج في العشر الأخير من شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة.
__________
(1) الأنساب للسمعاني: 6 \ 139، وفيات الأعيان: 4 \ 73، نكت الهميان: 328.(35/249)
المبحث الثاني
في ذكر مولده ونشأته ورحلته
اتفقت المصادر على أن مولده كان في آخر سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة بشاطبة، قيل إنه ولد أعمى (1) .
بدأ -رحمه الله تعالى- حياته العلمية بحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، وتعلم قراءاته ورواياته في بلدته التي ولد بها، وهي شاطبة، ثم تلقى بها العلوم الأخرى التي كان يتوق إليها طلاب العلم من أمثاله، فنبغ في صغره.
وظهرت آثار ذلك النبوغ المبكر عليه، فعين خطيبا لأهل بلده، وهو فتى صغير مع ما كان بها من العلماء الكبار والخطباء.
وإلى ذلك أشار ابن خلكان بقوله: وخطب ببلده على فتاء سنه (2) ، ولم تذكر المصادر التي بين أيدينا هل كان لأبويه دور في هذه الحياة العلمية المبكرة، أم أنه نشأ يتيما فأحاطته العناية الإلهية.
ولما رأى الشاطبي أنه استكمل أخذ العلوم التي ببلده عن شيوخها رحل في طلب العلم، فكانت أول مدينة رحل إليها هي بلنسية، وكانت قريبة من بلدته شاطبة، فعرض بها التيسير لأبي عمرو الداني من حفظه على علمائها، وتلقى بها علم الحديث، وشرح الهداية للمهدوي، وأخذ عن علمائها علم التفسير والنحو.
ثم عاد رحمه الله تعالى إلى مدينة شاطبة، بعد أن استوعب وحفظ كل
__________
(1) غاية النهاية: 2 \ 21.
(2) وفيات الأعيان: 4 \ 73.(35/250)
العلوم التي رحل في طلبها فكان حافظ عصره، عالما بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرا، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مبرزا فيه، وكان إذا قرئ عليه صحيح البخاري ومسلم وموطأ الإمام مالك تصحح النسخ من حفظه، ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحد عصره في النحو واللغة (1) .
ومع هذه المكانة العلمية فقد عاش فقيرا، وطلب منه أن يلي خطابة جامع بلده بعد عوده من بلنسية فامتنع من ذلك لأجل مبالغة الخطباء على المنابر في وصف الملوك (2) .
ثم رحل إلى مصر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة لقصد الحج، فقدم الإسكندرية، وهي الرحلة الثانية، وبها أخذ علم الحديث عن محدثها أبي طاهر السلفي المتوفى سنة (576 هـ) (3) .
وكان يقول عند دخوله إلى مصر: إنه يحفظ وقر بعير من العلوم، بحيث لو نزلت عليه ورقة أخرى لما احتملها (4) .
وفي هذا النص دليل على أنه ما خرج من بلاد الأندلس إلى المشرق إلا بعد أن استكمل معرفة معظم العلوم الشرعية، وصار يشار إليه بالبنان.
ثم رحل من الإسكندرية إلى القاهرة وهي رحلته الثالثة، وهناك استقبله القاضي عبد الرحيم صاحب المدرسة الفاضلية، وأكرمه وعرف له قدره، وأنزله بمدرسته التي بناها بدرب الملوخية داخل القاهرة، وجعله شيخها
__________
(1) وفيات الأعيان ابن خلكان: 4 \ 97، الديباج ابن فرحون 2 \ 150.
(2) البداية والنهاية للحافظ ابن كثير 13 \ 11، وفتح المواهب للقسطلاني. مخطوط لوحة: 9 \ أ.
(3) وفيات الأعيان: 4 \ 72، غاية النهاية 2 \ 20.
(4) وفيات الأعيان: 4: 72.(35/251)
ونظم قصيدته الرائية واللامية بها، فقصده الخلائق للإقراء وتعلم اللغة والنحو (1) .
ولما فتح الملك الناصر صلاح الدين يوسف بيت المقدس توجه إليه الشاطبي وزاره سنة تسع وثمانين وخمسمائة، وصام به شهر رمضان، ثم رجع إلى القاهرة، وأقام بالمدرسة الفاضلية يقرئ الناس بها، حتى توفي رحمه الله، وهذه هي الرحلة الرابعة (2) .
ثم رحل إلى مكة لأداء فريضة الحج، وقد أشارت المصادر إلى هذه الرحلة باقتضاب، فقد ذكر ابن الجزري وغيره أنه خرج من بلاده يريد الحج (3) ، ولم يذكروا في أي سنة كان ذلك، ولا مدة إقامته في الحرمين.
__________
(1) وفيات الأعيان: 4 \ 72، غاية النهاية: 2 \ 20. معرفة القراء الكبار للذهبي: 2 \ 458.
(2) البداية والنهاية للحافظ ابن كثير: 13 \ 11. غاية النهاية 2 \ 21.
(3) البداية والنهاية: 13 \ 11. غاية النهاية: 2 \ 20.(35/252)
المبحث الثالث
في ذكر أسماء شيوخه:
تتلمذ أبو القاسم الشاطبي على طائفة من أعلام عصره، وروى عن جمع من مشاهير دهره.
نذكر منهم:
1 - أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم الحافظ أبو طاهر السلفي، حافظ الإسلام وأعلى أهل الأرض إسنادا في الحديث والقراءات، مع الدين والثقة والعلم، قرأ القراءات على أبي الفتح أحمد بن محمد الحداد، وأبي الخطاب علي بن عبد الرحمن بن الجراح، وأبي القاسم بن الفحام، وسمع الحروف من أبي طاهر بن سوار من كتابه المستنير، وفاته من آخره شيء، توفي يوم الجمعة خامس عشر ربيع، الأول سنة ست وسبعين وخمسمائة (576 هـ) .
سمع الشاطبي منه الحديث حينما مر بالإسكندرية (1) .
وقد ذكر القسطلاني في كتابه " فتح المواهب "، بإسناده جملة من الأحاديث التي رويت من طريق الشاطبي عن شيخه السلفي.
منها: الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتتعتع فيه- له أجران اثنان (2) »
__________
(1) غاية النهاية: 2 \ 20، طبقات الشافعية للسبكي: 7 \ 271.
(2) حديث عائشة أخرجه البخاري، في صحيحه، في كتاب التفسير، تفسير سورة عبس رقم (4937) ، ولفظه عند البخاري: '' مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له، مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ القرآن، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد فله أجران، ورواه مسلم، في صلاة المسافرين، باب فضل الماهر بالقرآن، رقم (798) .(35/253)
ومنها: الحديث المروي، عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله تعالى عنه، قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة (1) »
ومنها: الحديث المروي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: «إن الله أمرني أن أقرئك السلام، وأقرأ عليك القرآن، قال: الله سماني لك، قال: نعم، قال: وقد ذكرت عند رب العالمين، فذرفت عيناه (2) »
2 - عاشر بن محمد بن عاشر أبا محمد، صاحب أبي محمد البطليوسي، سمع الشاطبي منه الحديث في بلنسية (3) .
3 - عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن حبيش أبا القاسم الأندلسي الأنصاري المرسي، إمام حافظ علامة صالح، قرأ بالروايات على أحمد بن عبد الرحمن القصبي، ألف كتاب المغازي في مجلدات عدة (4) .
4 - عبد الله بن أبي جعفر أبا محمد المرسي، سمع منه الشاطبي في بلنسية (5) .
5 - علي بن عبد الله بن خلف بن النعمة أبا الحسن فقيه حافظ، محدث زاهد، فاضل أديب، روى فأكثر، وألف فأحسن، شرح كتاب النسائي في عشرة أسفار شرحا لم يتقدمه إليه أحد، وله كتاب في التفسير اسمه ري الظمآن في علوم القرآن، روى عنه الشاطبي شرح الهداية للمهدوي.
توفي سنة سبع وستين وخمسمائة.
__________
(1) أخرجه أبو داود، في كتاب الصلاة، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل رقم (1333) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه سورة '' لم يكن الذين كفروا ''، رقم (4960) ، وقد ذكر بعدة ألفاظ، وورد أنه صلى الله عليه وسلم قرأ على أبي سورة البينة.
(3) غاية النهاية 2 \ 20.
(4) غاية النهاية 1 \ 378، 2 \ 20.
(5) غاية النهاية 2 \ 20.(35/254)
6 - علي بن محمد بن علي بن هذيل الأستاذ أبو الحسن البلنسي، إمام زاهد ثقة عالم، قرأ الكثير على أبي داود ولازمه، انتهت إليه رئاسة الإقراء في زمانه، قرأ عليه أبو القاسم الشاطبي، ومحمد بن خلف البلنسي، ومحمد بن عبد العزيز بن سعادة وغيرهم، وهو آخر من حدث عن أبي داود، توفي سنة أربع وستين وخمسمائة (1) 7 - وممن أخذ عنه الشاطبي: عليم بن هاني أبو الحسن العمري (2) .
8 - محمد بن جعفر بن حميد بن مأمون أبو عبد الله الأموي البلنسي مقرئ حاذق كامل، أخذ القراءات بأشبيلية عن شريح القاضي، وتلا بغرناطة على أبي الحسن بن ثابت الخطيب، ولي قضاء بلنسية، روى عنه الحروف أبو القاسم الشاطبي سماعا من كتاب الكافي، توفي سنة ست وثمانين وخمسمائة (3) .
9 - محمد بن عبد الرحيم بن محمد الخزرجي أبو عبد الله، يعرف بابن الفرس، فقيه عارف محدث كان يفتي بمرسية، وأقرأ بها مدة (4) .
10 - محمد بن علي بن أبي العاص أبو عبد الله النفزي الشاطبي، يعرف بابن اللاية، إمام مقرئ مجود محقق كامل.
قرأ عليه الإمام الشاطبي وأبو عبد الله بن سعادة، توفي سنة بضع وخمسين وخمسمائة (5) .
11 - محمد بن يوسف بن مفرج بن سعادة أبو بكر، وأبو عبد الله الأشبيلي نزيل تلمسان، مقرئ محقق روى الحروف عن أبي محمد بن عتاب، قرأ عليه أحمد بن علي بن عون الله الحصار.
__________
(1) غاية النهاية: 1 \ 573.
(2) غاية النهاية 2 \ 20.
(3) غاية النهاية 2 \ 108.
(4) بغية الملتمس وتاريخ رجال أهل الأندلس، ابن عميرة الضبي: 102.
(5) غاية النهاية 20 \ 204.(35/255)
روى عنه الشاطبي شرح الهداية للمهدوي في حياته، ومات قبله بعشر سنين، عمر وأسن توفي سنة ستمائة (1) .
12 - أبو العباس بن طرازميل، روى عنه الشاطبي في بلنسية (2) .
__________
(1) غاية النهاية 2 \ 288.
(2) غاية النهاية: 2 \ 20.(35/256)
المبحث الرابع
في ذكر ثناء الأئمة عليه
بالأوصاف الكريمة وسعة
حفظه وكثرة علومه الجسيمة
قال عنه ابن خلكان: " كان عالما بكتاب الله تعالى قراءة وتفسيرا، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مبرزا فيه، وكان إذا قرئ عليه صحيح البخاري ومسلم - تصحح النسخ من حفظه، ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحد في علم اللغة، عارفا بعلم الرؤيا، حسن المقاصد، مخلصا فيما يقول ويفعل " (1) .
وقال عنه الحافظ الذهبي: " كان إماما علامة، ذكيا كثير الفنون، منقطع القرين، رأسا في القراءات، حافظا للحديث، بصيرا بالعربية، واسع العلم، ولقد أودع وأوجز وسهل الصعب، روى عنه أبو الحسن بن خيرة، ووصفه من قوة الحفظ بأمر عجب (2) .
وقال النووي عنه: " لم يكن بمصر في زمنه مثله، في تعدد فنونه وكثرة محفوظه (3) .
وقال عنه الحافظ السبكي، فيما نقله عنه القسطلاني: كان الشاطبي إمام القراءات في عصره، حرز رواياتها، ورفع على هام الجوزاء راياتها، فأصبح في وقته، والناس لغيره قالون، وعقدوا عليه إجماعهم، وقالوا هو قالون، انتهت إليه
__________
(1) وفيات الأعيان لابن خلكان: 4 \ 71.
(2) معرفة القراء الكبار للذهبي: 2 \ 457، 458.
(3) منتخب طبقات الشافعية للنووي مخطوط لوحة: 9.(35/257)
الرئاسة في إقراء القراءات، ومعرفة وجوهها وتقرير علومها، مع المعرفة التامة بالحديث والنحو واللغة ونحو ذلك مما انفرد به، واعترف له به أهل عصره ومن بعدهم، وانتفع به جماعة من الأجلاء " (1) .
وقال عنه السبكي أيضا: " كان ذكي القريحة، قوي الحافظة، واسع المحفوظ، كثير الفنون، فقيها مقرئا، محدثا، نحويا، زاهدا، عابدا ناسكا، يتوقد ذكاء " (2) .
وقال عنه الحافظ ابن الجزري: " ولي الله الإمام العلامة، أحد الأعلام الكبار والمشتهرين في الأقطار، كان إماما كبيرا أعجوبة في الذكاء، كثير الفنون آية من آيات الله تعالى، غاية في القراءات، حافظا للحديث بصيرا بالعربية، إماما في اللغة رأسا في الأدب " (3) .
وقال عنه الجعبري: " كان إماما في علوم القرآن، ناصحا بكتاب الله تعالى، متقنا لأصول العربية، رحلة في الحديث، تضبط نسخ الصحيحين من لفظه، غاية في الذكاء، حاذقا في تعبير الرؤيا، مجيدا في النظم متواضعا لله تعالى " (4) .
وقال عنه الصلاح الصفدي: " كان إماما علامة نبيلا محققا ذكيا، واسع المحفوظ، كثير الفنون، بارعا في القراءات وعللها، حافظا للحديث كثير العناية به، أستاذا في العربية، عالما بالقرآن قراءة وتفسيرا، وبالحديث مبرزا فيه، وكان إذا قرئ عليه البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من حفظه، ويملي النكت على الموطأ في المواضع المحتاج إليها، وكان أوحد عصره في النحو واللغة، عارفا بالتعبير، حسن المقاصد، مخلصا فيما يقول ويفعل " (5) .
وقال عنه ابن فرحون: " كان عالما بكتاب الله قراءة وتفسيرا، وبحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مبرزا فيه ".
" وكان إذا قرئ عليه صحيح البخاري ومسلم والموطأ يصحح النسخ من
__________
(1) فتح المواهبي للقسطلاني مخطوط لوحة: 10 \ ب.
(2) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 7 \ 272.
(3) غاية النهاية في طبقات القراء 2 \ 20، 21.
(4) كنز المعاني شرح حرز الأماني، مخطوط لوحة 9 \ أ.
(5) نكت الهميان في نكت العميان، صلاح الدين الصفدي: 228.(35/258)
حفظه، ويملي النكت على المواضع المحتاج إليها، وكان أوحد أهل زمانه في علم النحو واللغة، عارفا بعلم الرؤيا، حسن المقاصد، مخلصا فيما يقول ويفعل " (1) .
وقال عنه التلمساني: " كان إماما علامة ذكيا كثير الفنون، منقطع القرين، رأسا في القراءات، حافظا للحديث، بصيرا بالعربية واسع العلم " (2) .
وقال عنه الحافظ السيوطي: " كان إماما فاضلا بالنحو والقراءات والتفسير والحديث، علامة نبيلا محققا ذكيا، واسع المحفوظ بارعا في القراءات، أستاذا في العربية، حافظا للحديث " (3) .
وتقدم ما نقله ابن خلكان عنه، من أنه حينما وصل إلى مصر - كان يحفظ وقر بعير من العلوم، بحيث لو نزلت عليه ورقة أخرى- لما احتملها، ولهذا فاض سيب علمه على أهل مصر، وتسابق إليه الطلاب والعلماء.
__________
(1) الديباج المذهب لابن فرحون: 2 \ 149، 150.
(2) نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب. 2 \ 23.
(3) بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة: 379.(35/259)
المبحث الخامس
في حسن سيرته
وزهده وعبادته وبعض كراماته
كان الإمام الشاطبي رحمه الله ذا أدب رفيع، وسيرة عطرة، تأدب بآداب الإسلام، وتخلق بخلق القرآن، وسلك سبيل الأئمة الأعلام.
فتسابق الناس في تكريمه، والأخذ عنه من كل صوب وحدب.
قال عنه ابن خلكان: " كان يتجنب فضول الكلام، ولا ينطق في سائر أوقاته، إلا بما تدعو إليه ضرورة، ولا يجلس للإقراء إلا على طهارة، في هيئة حسنة وتخشع واستكانة، وكان يعتل العلة الشديدة، فلا يشتكي ولا يتأوه، وإذا سئل عن حاله- قال: العافية، لا يزيد على ذلك " (1) .
وقال عنه الحافظ الذهبي: " كان موصوفا أيضا بالزهد والعبادة والانقطاع " (2) ، وقال عنه الحافظ ابن كثير: " كان دينا خاشعا ناسكا، كثير الوقار، لا يتكلم فيما لا يعنيه " (3) ، وقال السخاوي: " قال محمد بن الحسين: فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن، استعرض القرآن، فكان كالمرآة يرى بها ما حسن من فعله وما قبح منه، فما حذره مولاه حذره، وما خوفه به من عقابه خافه، وما رغبه فيه مولاه رغب فيه ورجاه، من كانت هذه صفته، أو ما قارب هذه الصفة، فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، فكان له القرآن شاهدا وشفيعا وأنيسا وحرزا. أسأل الله عز وجل بكرمه، أن يجعل لي من هذه الأوصاف حظا، أتخلص به من تبعة القرآن، ثم قال رحمه الله: وقد كان شيخنا أبو القاسم الشاطبي رحمه الله صاحب هذه الأوصاف جميعها، وربما زاد عليها (4) .
__________
(1) وفيات الأعيان: 4 \ 72.
(2) معرفة القراء الكبار للذهبي: 2 \ 458.
(3) البداية والنهاية للحافظ ابن كثير: 13 \ 11.
(4) جمال القراء وكمال الإقراء 1 \ 119.(35/260)
وذكر القسطلاني أيضا: " أن رجلين جلسا قريبا من الشاطبي، وأنه وقع بينهما تشاجر، فسب كل واحد منهما الآخر باللغة التركية، وأنه طلب من الشاطبي الإخبار بما قالاه؛ فاستنطق الشاطبي أحدهم، ثم أجلسه عن يمينه، ثم الآخر، وأجلسه عن يساره، ثم قال: أما هذا فابتدأ هذا بقوله كذا وكذا، فأجابه هذا بكذا وكذا، ورد عليه الآخر بكذا وكذا، فأجابه هذا كذا وكذا، ورد عليه الآخر بكذا وكذا، حتى فرغ من حكاية قولهما باللغة التركية، ولم يكن يعرفها قبل (1)
__________
(1) فتح المواهبي مخطوط لوحة: 16 \ أ.(35/261)
المبحث السادس
ذكر مصنفاته البديعة
وذكر شيء من شعره
من أهم المصنفات التي صنفها الشاطبي رحمه الله:
قصيدته اللامية المسماة " بحرز الأماني ووجه التهاني " في القراءات السبع، وقد ذكر أنه بدأ في نظمها بالأندلس، حتى بلغ قوله:
جعلت أبا جاد على كل قارئ
ثم أكملها بالمدرسة الفاضلية في القاهرة (1) ، وهي التي افتتحها بقوله:
بدأت ببسم الله في النظم أولا ... تبارك رحمانا رحيما وموئلا
وثنيت صلى الله ربي على الرضا ... محمد المهدى إلى الناس مرسلا
وعترته ثم الصحابة ثم من ... تلاهم على الإحسان بالخير وبلا
وثلثت أن الحمد لله دائما ... وما ليس مبدوءا به أجذم العلا (2)
وقد ذكر الشاطبي رحمه الله أنه: رام بقصيدته هذه اختصار كتاب التيسير لأبي عمرو الداني، فأجنت القصيدة ما أراده، وكثرت فوائدها بتوفيق الله، وفي ذلك قال:
وفي يسرها التيسير رمت اختصاره ... فأجنت بعون الله منه مؤملا (3)
وأبيات هذه القصيدة ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتا، كما ذكر الناظم بقوله:
وأبياتها ألف تزيد ثلاثة ... ومع مائة سبعين زهرا وكملا (4)
__________
(1) غاية النهاية: 2 \ 22.
(2) حرز الأماني للشاطبي: 1.
(3) حرز الأماني للشاطبي: 6.
(4) حرز الأماني 93.(35/262)
ولقد وفى الشاطبي ما أراد بنظمه هذا، بل وزاد فوائد على ما في التيسير، مما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، غير أن الناظر في أبيات هذه القصيدة يقف مشدودا أمام تلك المعاني التي تضمنتها ألفاظها؛ فيرى فيها كل محسن لفظي ومعنوي، ويرى فيها الغزل، ويرى فيها نحوا وصرفا وغير ذلك.
أهلت فلبتها المعاني لبابها ... وصغت بها ما ساغ عذبا مسلسلا (1)
وسأقوم بعون الله وتوفيقه باستخلاص وجمع بعض المعاني التي أشار إليها شراح الشاطبية وغيرهم، متمثلا في ذلك قول القائل: ما لا يدرك كله لا يترك جله.
قال الشاطبي في وصفه للقراء السبعة ورواتهم:
فمنهم بدور سبعة قد توسطت ... سماء العلا والعدل زهرا وكملا
لها شهب عنها استنارت فنورت ... سواد الدجى حتى تفرق وانجلى (2)
قال الموصلي في شرحه على الشاطبية: " البدر والقمر المنير في الليلة الرابعة عشرة، وتوسط السماء بلغ وسطها، والعدل ضد الجور، والمراد هنا الاعتدال والاستقامة، زهرا: جمع أزهر أفعل التفضيل، أو زاهر كأسود وسود وبازل وبزل، بمعنى المضيء المشرق، وكملا جمع كامل للتمام، والشهب جمع شهاب اسم للكوكب المضيء لاستنارة الإضاءة.
نورت: أضاءت غيرها، الدجى جمع دجية، وهي الظلمة، انجلى: انكشف (3) ، قال الجعبري في شرحه على الشاطبية: جمع البدر باعتباره محله، ووصفه بالكمال باعتباره القمر، وهو قريب من قول أبي العلاء:
توقى البدور النقص وهي أهل ... ويدركها النقصان وهي كوامل
وعدل عن الشموس؛ لأن القمر أشرف، باعتبار معناه، ولذلك قيل القمران، أشياخ أشبهوا البدور الكوامل لتمام علومهم، وعلو رتبتهم واشتهار
__________
(1) حرز الأماني للشاطبي: 6.
(2) حرز الأماني للشاطبي: 2.
(3) شرح شعلة على الشاطبية محمد بن أحمد الموصلي: 18.(35/263)
ضبطهم، والاقتداء بطرقهم فاقتدى الناس بهم (1) .
قال القاضي رحمه الله في كتابه الوافي: " والمعنى: من هؤلاء الأئمة الناقلين للقرآن سبعة رجال، وشبههم بالبدور في علو منزلهم، وغزارة علمهم، وكثرة الانتفاع بهم، ولهؤلاء القراء السبعة جماعة من الرواة أشبهت الشهب في الهداية والعلو، أخذت القراءة عنهم، وعلمتها الناس بعدهم، فأماطت عنهم ظلمة الجهل، وألبستهم أنوار العلم " (2) .
واستمع إليه يقول:
أهلت فلبتها المعاني لبابها ... وصغت بها ما ساغ عذبا مسلسلا (3)
قال الموصلي في شرحه: " الإهلال: رفع الصوت.
لبت: أجابت بلبيك لبيك.
اللباب: جمع لب، والمراد الخيار والنخب.
وصغت: من الصياغة يعني بالإحكام والإتقان.
ساغ الشراب: سهل مدخله في الحلق " (4) .
قال القاضي في الوافي: " والمعنى: أن القصيدة نادت المعاني فأجابتها خيارها، ونظم فيها اللفظ الحلو السلس الذي يسهل على اللسان حال كونه في السمع ملائما للطبع " (5) قال الجعبري: " ولبتها مع لبابها، وصغت مع ساغ، تجنيس هذا استعارة عما في ذهنه " (6) .
ومن ذلك قوله:
وألفافها زادت بنشر فوائد ... فلفت حياء وجهها أن تفضلا (7)
__________
(1) كنز المعاني للجعبري مخطوط لوحة: 28، 29.
(2) الوافي شرح الشاطبية للشيخ عبد الفتاح القاضي: 15.
(3) حرز الأماني للشاطبي: 6.
(4) شرح شعلة على الشاطبية: 43.
(5) الوافي للقاضي: 31.
(6) كنز المعاني للجعبري مخطوط لوحة: 63.
(7) حرز الأماني للشاطبي: 6.(35/264)
قال الموصلي في شرحه: " الألفاف: الأشجار الملتفة بعضها على بعض (1) .
لفت: غطت وسترت " (2) .
قال أبو شامة في شرحه على الشاطبية: " وحسن استعارة الألفاف هنا بعد قوله: فأجنت الالتفاف المعاني فيها والأبيات، كأن كل بيت ملتف بما قبله وبعده؛ لتعلق بعضها ببعض وانضمامه إليه، فتلك الألفاف نشرت فوائد زيادة، على ما في كتاب التيسير من زيادة وجوه، أو إشارة إلى تعليل أو زيادة أحكام، وغير ذلك مما يذكره في مواضعه، ومن جملة ذلك جميع باب مخارج الحروف.
ثم بعد هذا استحيت أن تفضل على كتاب التيسير، استحياء الصغير من الكبير، والمتأخر من المتقدم، وإن كان الصغير فائقا والمتأخر زائدا، والذي لفت به وجهها: أي سترته هو الرمز؛ لأنها به كأنها في ستر " (3) .
قال الشاطبي رحمه الله:
وناديت اللهم يا خير سامع ... أعذني من التسميع قولا ومفعلا (4)
قال أبو شامة في شرحه: " كأن الناظم رحمه الله لما مدح نظمه بأمدحة - خاف أن يكون في ذلك تسميع، فاستعاذ بالله سبحانه وتعالى " (5) .
وقال الجعبري: " لما مدح نظمه - خاف من مكر النفس، فدعا الله تعالى أن يعصمه من أن يكون قوله أو عمله للسمعة، فيضيع سعيه، وأشار إلى ما روي: «من سمع الناس سمع الله به خلقه وصغره وحقره (6) » .
وأخرج البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم (7) : «من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به (8) » (9) .
__________
(1) من ذلك قول الحق سبحانه وتعالى '' وجنات ألفافا '' سورة النبأ. الآية: 16.
(2) شرح شعلة: 45.
(3) إبراز المعاني: 51.
(4) حرز الأماني: 6.
(5) إبراز المعاني: 52.
(6) مسند أحمد بن حنبل (2/162) .
(7) فتح الباري باب الرياء والسمعة: 11 \ 336.
(8) صحيح البخاري الرقائق (6499) .
(9) كنز المعاني مخطوط لوحة: 64.(35/265)
لله دره من إمام مخلص، أتى في هذه القصيدة بجواهر نضيدة، من بديع المعاني في أصداف المباني، سوى فن القراءات ومحاسن الروايات.
قال الشاطبي رحمه الله تعالى في باب الإدغام الكبير:
شفا لم تضق نفسا بها رم دوا ضن ... ثوى كان ذا حسن سأى منه قد جلا (1)
قال أبو شامة في شرحه لهذا البيت:
" اعلم أنه أتى، في مثل هذا البيت الذي يذكر فيه كلما لأجل حروف أوئلها تضمنها معاني قصدها من غزل ومواعظ؛ لئلا يبقى كلاما منتظما صورة، لا معنى تحته.
وقوله لم تضق نفسا: أي أنها حسنة الخلق.
ورم: أي أطلب بها: أي بوصلها وقربها.
دواء ضن: أي دواء رجل ضن أي مريض " (2) .
وقال الموصلي في شرحه:
" شفا: اسم امرأة.
تضق: من الضيق وهو ضد الوسع.
رم: اطلب.
الضنى: الهزال والمرض.
ثوا: أقام.
سأى: مقلوب ساء نحو نأى وناء.
والمعنى: أن محبوبتي شفا لم تضق نفسا؛ أي هي حسنة الخلق، أطلب بوصلها دواء رجل مريض، أقامه مرضه، كان ذلك المريض ذا حسن، ساء حاله؛ لأجل الضنا، قد كشف الضنا أمره وهتك ستره " (3) .
__________
(1) حرز الأماني: 12.
(2) إبراز المعاني لأبي شامة 89، 90.
(3) شرح شعلة: 85.(35/266)
ومن ذلك قوله:
وللدال كلم ترب سهل ذكا شذا ... ضفا ثم زهد صدقه ظاهر جلا (1)
قال أبو شامة في شرحه: " ضمن في هذا البيت الثناء على أبي محمد سهل بن عبد الله التستري ".
قال القشيري في رسالته: " هو أحد أئمة القوم، ولم يكن له في وقته نظير في المعاملات والورع، وكان صاحب كرامات، لقي ذا النون المصري بمكة سنة حج، توفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وقيل ثلاث وسبعين.
والترب: التراب.
وذكا: من قولهم ذكت النار تذكو ذكاء مقصور: أي اشتعلت.
والشذا: حدة الرائحة: أي فاحت رائحة ترابه، يشير بذلك إلى الثناء عليه، وما ظهر من كراماته وأعماله الصالحة.
وضفا: طال يشير إلى كثرة ذلك.
وثم: بفتح الثاء بمعنى هناك: أي دفن في ذلك التراب زهد ظاهر الصدق، لم يكن عن رياء ولا تصنع.
وجلا: بمعنى كشف (2) .
وقال رحمه الله في باب الإدغام الصغير ذكر ذال إذ:
نعم إذ تمشت زينب صال دلها ... سمي جمال واصلا من توصلا
فإظهارها أجرى دوام نسيمها ... وأظهر ريا قوله واصف جلا (3)
قال الموصلي في شرحه: " نعم: حرف إيجاب لتقرير ما سبق. وإذ: ظرف فعل مقدر؛ كأن سائلا يستدعي الوفاء بما وعد، فقال نعم أذكر كما وعدت لك. تمشت: من المشي.
__________
(1) حرز الأماني: 12.
(2) إبراز المعاني لأبي شامة: 92.
(3) حرز الأماني: 21.(35/267)
صال: من الصول بمعنى الغلبة.
الدل: بمعنى الدلال وهو الاختيال والتكبر.
السمي: الرفيع من السمو (1) .
وقال الجعبري: " نعم لتقرير الخبر وجواب الاستخبار، وهو هنا جواب عن سؤال مقدر؛ كأنه قيل: أين ما وعدت من ذكر الألفاظ. فقال نعم: وهذه الصناعة تسمى في الاصطلاح التورية والإيهام، وهو أن يحتمل الكلام معنيين؛ أحدهما أظهر، ومقصود الشاعر الأخفى، ومنه قول أبي بكر رضي الله عنه لما سئل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معه، وقد خاف عليه، قال: " رجل يهديني السبيل ".
وقد عني بزينب هنا ما عناه في قوله شفا.
يقول: وقت مشي هذه المحبوبة، استطالت تدللا بحسنها البديع، على محبيها واختيارا لدعواهم، ووصلت المحب الصادق للولاء، الذي توصل إليها بانقياده لأوامرها وانكساره لسلطانها، ويفهم منه هجرها لمن عصا أمرها وقاوم سلطانها، وفضح الاختبار دعواه " (2) ، ثم قال في شرح البيت الثاني: " يقول إظهار هذه المليحة التمشي المقارن للدلل آثار طيبة دائمة كالنسيم، وأفاح مادحها شذا السر المكتوم " (3) .
قال الموصلي: " النسيم الريح الطيبة.
والريا: الرائحة الطيبة " (4) .
قال أبو شامة: " أظهر بقوله ذلك ثناء عطرا، وما أظهرته من الجمال والزينة أجرى دوام نسيمها " (5) .
ومن ذلك قوله:
وقد سحبت ذيلا ضفا ظل زرنب ... جلته صباه شائقا ومعللا (6)
__________
(1) شرح شعلة: 154.
(2) كنز المعاني للجعبري مخطوط لوحة: 205.
(3) كنز المعاني للجعبري مخطوط لوحة: 205.
(4) شرح شعلة: 155.
(5) إبراز المعاني: 186.
(6) حرز الأماني: 21.(35/268)
قال الموصلي: " السحب: جر الذيل.
ضفا: طال.
الزرنب: شجر طيب الرائحة.
الصبا: نوع من الرياح.
المعلل: اسم فاعل من العلل، وهو السقي مرة بعد أخرى " (1) .
قال أبو شامة: " يعني أن طيب ريح ذيلها كف عن طيب الزرنب، وأبان محله، كأنه إذا شم الزرنب تذكر به ريح ذيلها، فيظل الزرنب شائقا ومعللا " (2) .
ومن ذلك قوله:
وأبدت سنا ثغر صفت زرق ظلمه ... جمعن ورودا باردا عطر الطلا (3)
قال الموصلي في شرحه: " السنا: الضوء.
الثغر: ما تقدم من الأسنان.
الزرق: جمع الأزرق، يوصف الماء به لكثرة صفائه.
الظلم: ماء الأسنان وبريقها.
العطر: الطيب الرائحة.
الطلا: ما طبخ من عصير العنب، حتى ذهب ثلثاه، ويسمى به الخمر أيضا " (4) .
ومن ذلك قوله:
ولا خلف في الإدغام إذ ذل ظالم ... وقد تيمت دعد وسيما تبتلا
وقامت تريه دمية طيب وصفها ... وقل بل وهل رآها لبيب ويعقلا (5)
__________
(1) شرح شعلة: 156.
(2) إبراز المعاني: 187.
(3) حرز الأماني: 22.
(4) شرح شعلة: 158.
(5) حرز الأماني: 23.(35/269)
قال الموصلي في شرحه: " التتيم: العشق.
دعد: اسم امرأة.
الوسيم: الحسن الوجه.
التبتل: الانقطاع.
والمعنى: لا خلاف في وجوب ستر المحبة، لما ذل الظالم الذي أغشى، وقد تيمت دعد الصب المحب الوسيم الوجه المتبتل عن الخلق، ثم قال: والدمية: الصورة من العاج، عني بها امرأة اللبيب العاقل، والمعنى: قامت دمية تري العاشق الوسيم طيب وصفها، وقل أيها المخاطب: بل الأمر فوق ذلك، وهل رآها عاقل فيبقى له عقل " (1) .
ومن ذلك قوله في فرش سورة البقرة: " ونقل قرآن والقرآن دواؤنا " (2) .
قال أبو شامة في شرحه لهذا البيت: " ما أحلى هذا اللفظ حيث كان موجها؛ أي ذو وجهين، حصل منه بيان القراءة بنقل حركة الهمزة لابن كثير، وظاهره أن نقل القرآن، وهو قراءته وتلاوته وتعليمه، دواء لمن استعمله مخلص من أمراض المعاصي (3) قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (4) »
ومن ذلك قوله في باب مخارج الحروف:
أهاع حشا غاو خلا قارئ كما ... جرى شرط يسرى ضارع لاح نوفلا
رعى طهر دين تمه ظل ذي ثنا ... صفا سجل زهد في وجوه بني ملا (5)
قال الموصلي في شرحه: " أهاع أفزع، من هاع يهيع إذا جبن، ومنه الهاع للجبان.
__________
(1) شرح شعلة: 163، 164.
(2) حرز الأماني: 40.
(3) إبراز المعاني: 357.
(4) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن: 9 \ 74 من فتح الباري.
(5) حرز الأماني: 92.(35/270)
الحشا: ما انضمت عليه الضلوع.
الغاوي: الضال.
الخلا: الكلأ، وهو الحشيش يكني به عن طيب الحديث ولطف الكلام.
الضارع: الخاشع.
النوفل: الكثير العطاء، أو البحر.
تمه: أي أتمه يقال تم الله نعمه عليك، وأتم.
ثنا: مقصور الثناء، وهو المدح.
صفا: فعل متعد، بمعنى أخذ صفوته، من صفوت القدر.
السجل: الدلو العظيمة فيها ماء.
وجوه القوم: أشرافهم، وكذلك الملأ هم الأشراف.
يقول: أفزع حسن قراءة القارئ الخاشع، حشا الضال الغاوي، وهكذا جرى شرط قراءة من كان ضارعا خاشعا، من نعمته أن يظهر كثير العطاء، واسع الفيض والحياء، وأن ييسر السامعين لليسرى والإحسان، ويسهل عليهم البر والامتنان، وكذلك حفظ هذا القارئ طهارة دين أتم ذلك الدين، ظل أي إرشاد شيخ ذي ثناء، أخذ صفوة وعاء الزهد، وهو الزاهد حال كون ذلك الشيخ في كرام أبناء أشراف عظام، يعني كمل طهارة دين القارئ، ونظافة باطنه، شيخه المستحق للثناء والحمد على أصناف الشرف وأنواع المجد، والمتخذ خلاصة الزهادة، وصفوة التجرد للعبادة، من كونه متصفا بالحب المنيف، منتسبا إلى النسب الشريف " (1) .
واستمع إليه يختم أبيات هذه القصيدة بقوله:
وقد وفق الله الكريم بمنه ... لإكمالها حسناء ميمونة الجلا (2)
قال الموصلي في شرحه: " المن: الإنعام.
__________
(1) شرح شعلة: 642.
(2) حرز الأماني: 93.(35/271)
ميمونة الجلا: مباركة البروز.
يعني: وفق الله الكريم، بإنعامه العميم، منشئ هذه القصيدة لإتمامها واتساق نظامها، حال كونها عروسا حسناء مباركة البروز والجلاء، من يتعلمها ينال منها ميامن وبركات، ولو لم تكن إلا كثرة الفوائد والنكات " (1) .
قال أبو شامة عند شرحه لهذا البيت: " وصدق رضي الله عنه؛ فإن بركاتها عمت، ولو لم يكن إلا كثرة الفوائد الحاصلة من ناظمها " (2) .
وقوله رحمه الله:
وقد كسيت منها المعاني عناية ... كما عريت عن كل عوراء مفصلا (3)
قال الموصلي في شرحه: " يقول أعتني بمعاني هذه القصيدة، وقد كسيت عناية، فجاءت شريفة المعاني لطيفة المباني، وعريت مفاصلها؛ أي قوافيها أو جميع أجزائها، عن كل كلمة عوراء، وعبارة شنعاء، تعيب معانيها، أو تقبح ألفاظها ومبانيها، ومقابلة الكسور بالعري من لطيف الصنائع " (4) .
قال أبو شامة: " جعلها عروسا حسناء، ميمونة الجلوة، منزهة المفاصل عن العيوب، على طولها وصعوبة مسلكها، وغيره ينظم أرجوزة، يعنى على قواف شتى، فيضطره النظم إلى أن يأتي في قوافيها ومقاطعها وأجزائها بما تمجه الأسماع " (5) .
وبعد: فهذا غيض من فيض معانيها، ولو أطلق للقلم عنانه في خوض غمار بحرها الطويل - لاحتاج ذلك إلى وقت غير يسير ولعاد بعد كل ذلك وهو حسير.
__________
(1) شرح شعلة: 648.
(2) إبراز المعاني: 756.
(3) حرز الأماني: 93.
(4) شرح شعلة: 648.
(5) إبراز المعاني: 756.(35/272)
ولما رأى العلماء حسن نظمها- وقفوا أمام معانيها مشدودين، وعن محاكاتها عاجزين، لهجت ألسنتهم بالثناء العطر عليها وعلى مؤلفها.
قال أبو شامة: " وهي أول مصنف وجيز، يعني الشاطبية، حفظته بعد الكتاب العزيز، وذلك قبل بلوغ الحلم وجريان القلم، ولم أزل، من ذلك إلى الآن، طالبا إتقان معرفة ما احتوت عليه من المعاني، وإبراز ما أودع في ذلك الحرز من الأماني، وكل حين ينفتح لي من فوائدها باب، ومن معانيها ما لم يكن في حساب " (1) .
وقال ابن خلكان في وصف حرز الأماني: " أبو القاسم الشاطبي صاحب القصيدة التي سماها "حرز الأماني ووجه التهاني " في القراءات، وعدتها ألف ومائة وثلاثة وسبعون بيتا، ولقد أبدع فيها كل الإبداع، وهي عمدة قراء هذا الزمان في نقلهم، فقل من يشتغل بالقراءات إلا ويقدم حفظها ومعرفتها، وهي مشتملة على رموز عجيبة وإشارات خفية لطيفة، وما أظنها سبق أسلوبها " (2) .
وقال عنها الحافظ ابن كثير: " لم يسبق إليها، ولا يلحق فيها، وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كل ناقد بصير " (3) .
وقال الحافظ الذهبي عنها، وعن العقيلة الآتي ذكرها: " وقد سارت الركبان بقصيدته، حرز الأماني، وعقيلة أتراب القصائد اللتين في القراءات والرسم، وحفظهما خلق لا يحصون، وخضع لهما فحول الشعراء، وكبار البلغاء، وحذاق القراء، ولقد أودع وأوجز وسهل الصعب " (4) .
وقال صلاح الدين الصفدي، عن حرز الأماني والعقلية: " وقصيدتاه في القراءات والرسم، تدلان على تبحره، وقد سارت بهما الركبان، وخضع لهما فحول الشعراء " (5) .
__________
(1) إبراز المعاني لأبي شامة: 8.
(2) وفيات الأعيان 4 \ 71.
(3) البداية والنهاية، ابن كثير: 13 \ 11.
(4) معرفة القرء الكبار للذهبي 2 \ 457، 458.
(5) نكت الهميان: 228.(35/273)
وقال ابن الجزري، عن حرز الأماني: " ومن وقف على قصيدته - علم مقدار ما آتاه الله في ذلك، خصوصا اللامية، التي عجز البلغاء من بعده عن معارضتها؛ فإنه لا يعرف مقدارها، إلا من نظم على منوالها، أو قابل بينها وبين ما نظم على طريقها " (1) .
ونقل القسطلاني، عن بعضهم، أنه قال في الحرز: " لقد أحرز على القراء ما كان شارحا بحرز الأماني، وهنأهم بنيل مقصودهم بوجه التهاني؛ فيالها من تهنئة شرفت بها النفوس، وزكت واهتزت طربا عند سماعها، وسمت وألحقت الصغار بالكبار في حفظ مذاهب القراء أئمة الأعصار! فالشكر لله على هذه المنة " (2) .
وقال ابن الجزري، عن الحرز أيضا: " ولقد رزق هذا الكتاب من الشهرة والقبول، ما لا أعلمه لكتاب غيره في هذا الفن، بل أكاد أقول: ولا في غير هذا الفن؛ فإنني لا أحسب أن بلدا من بلاد الإسلام يخلو منه، بل لا أظن أن بيت طالب علم يخلو من نسخة به، ولقد تنافس الناس فيها، ورغبوا من اقتناء النسخ الصحاح بها إلى غاية، حتى إنه كانت عندي نسخة جامعة للامية، بخط الحجيج صاحب السخاوي، مجلدة فأعطيت بوزنها فضة فلم أقبل.
ولقد بالغ الناس في التغالي فيها، وأخذ أقوالها مسلمة، واعتبار ألفاظها منطوقا ومفهوما، حتى خرجوا بذلك عن حد أن تكون لغير معصوم، وتجاوز بعضهم الحد فزعم أن ما فيها هو القراءات السبع، وأن ما عدى ذلك شاذ لا تجوز القراءة به " (3) .
قال الجعبري، في مدح حرز الأماني:
إذا ما رمت نقل السبعة الزم ... لتظفر بالتي حرز الأماني
جزى الله المصنف كل خير ... بما أسداه في وجه التهاني
__________
(1) غاية النهاية: 2 \ 22.
(2) فتح المواهبي مخطوط لوحة: 2 \ 24.
(3) غاية النهاية: 2 \ 22.(35/274)
بألفاظ حكت درا نضيدا ... وقد نادت فلبتها المعاني
حلا فيها الطويل ولذ سمعا ... فعد عن المثلث والمثاني
وقل في روضة فاحت عبيرا ... وخل بمنزل خير المغاني (1)
ونقل القسطلاني مدائح، قيلت في وصف حرز الأماني؛ منها:
جلا الرعيني لنا مبدعا ... عروسته بالحسن وياما جلا
لو رامها مبتكر غيره ... قالت قوافيها له الكل لا (2)
ونقل القسطلاني عن شيخه الزين الهيثمي من نظمه:
لله در الشاطبي الذي ... أهدى لنا الدر بنظم غلا
قصيدة جلت عن الشعر بل ... عروس حسن قد غدت تجتلى
حرز الأماني أحرزت للمنى ... وجه التهاني فأهنها مقبلا
يقول من ذاق جنى شهدها ... لله ما أعذب ما أنهلا
تكاد أن تغدو له آية ... تعجز من قد رام أو مثلا
فلو يشاء مبتكر مثلها ... قالت قوافيها له الكل لا (3)
وذكر القسطلاني أنه كتب إليه الشيخ أبو البقاء الأحمدي في مدح الحرز:
أكرم بحبر قد علا للعلا ... لما حوى العلم عليهم علا
هو الإمام الشاطبي الذي ... أبدى نظاما معجزا للملا
من ذا يضاهيه وقد خصه ... باريه من إحسانه بالولا
جلا علينا خودة أبدعت ... في حسنها يا حسن ما قد جلا
في جيدها عقد نفيس به ... جواهر منظومة للحلا
في سلك نور سره قد سرى ... فما ترى منه مكانا خلا
منطقها يثني به سامع ... وكلما كرره قد حلا
أبياتها شامخة أحكمت ... تحكي قصور الفرس يا من تلا
__________
(1) كنز المعاني لوحة: 11.
(2) فتح المواهبي لوحة: 2 \ 26.
(3) فتح المواهبي لوحة: 26 \ ب.(35/275)
من رام أن يحكي نظامها ... قالت له أبياتها الكل لا (1)
وذكر أيضا أنه كتب إليه الأديب أبو الفتح الرسام، من قصيدة له يقول فيها:
فهو الإمام القاسم الحبر الذي ... أضحى بصيرا بالهدى وأصوله
كنز الفضائل والأفاضل مطلب ... القراء مغني الجمع من محصوله
قطب عليه مدار كل مجود ... للذكر مبدي السر في تنزيله
أهدى لنا حرز الأماني عندنا ... كان المنى أن نهتدي لسبيله
فلذا تقلدها بدر قريضها ... وبها كسانا فضله بجميله
من قال هل تأتي الفصائح مثلها ... كانت قوافيها الجواب لقيله
فالله يسكنه الجنان بفضله ... وبحيزه الرضوان عند مقيله
ويحله غرفا جوار حبيبه ... ونبيه وصفيه وخليله
صلى عليه مسلما رب العلا ... والآل والصحب الكرام قبيله
أزكى صلاة يستمر دوامها ... بالفيض في قصر الزمان وطوله (2)
ومن مؤلفاته أيضا:
2 - قصيدته الرائية المسماة " عقيلة أتراب القصائد"، في بيان رسم المصاحف العثمانية، اختصر فيها كتاب المقنع لأبي عمرو الداني، وقد افتتحها بقوله:
الحمد لله موصولا كما أمرا ... مباركا طيبا يستنزل الدررا
ذو الفضل والمن والإحسان خالقنا ... رب العباد هو الله الذي قهرا
حي عليم قدير والكلام له ... فرد سميع بصير ما أراد جرى
أحمده وهو أهل الحمد معتمدا ... عليه معتصما بالله منتصرا
ثم الصلاة على محمد وعلى ... أشياعه أبدا تندى ندا عطرا (3)
وقد ذكر الشاطبي، في قصيدته هذه، أنه نظم فيها ما في كتاب المقنع مع
__________
(1) فتح المواهبي مخطوط لوحة: 27 \ ب.
(2) فتح المواهب مخطوط لوحة: 27 \ أ.
(3) عقيلة أتراب القصائد للشاطبي، ضمن مجموع إتحاف البررة ص: 317.(35/276)
إيراده لزيادات على ما في المقنع.
قال رحمه الله:
وهاك نظم الذي في مقنع عن أبي ... عمرو فيه زيادات فطب عمرا (1)
وتقع هذه القصيدة في ثمانية وتسعين ومائتي بيت، قال رحمه الله:
تسعون مع مائتين مع ثمانية ... أبياتها ينتظمن الدر والدررا (2)
وتقدم كلام العلماء في الثناء عليها:
- ناظمة الزهر في علم الفواصل:
نظم فيها تأليف الفضل بن شاذان، وابن عمار، وأبي عمرو الداني، في عد آي السور، وقد افتتحها بقوله:
بدأت بحمد الله ناظمة الزهر ... لتجني بعون الله عينا من الزهر
وعذت بربي من شرور قضائه ... ولذت به في السر والجهر من أمري
بحي مريد عالم متكلم ... سميع بصير دائم قادر وتر
وبعد صلاة الله ثم سلامه ... على خير مختار من المجد الغر (3)
وقد ذكر الشاطبي أن نظمه هذا تتبع به تأليف الفضل بن شاذان، وتأليف ابن عمار، وما جمعه أبو عمرو الداني في كتابه البيان في عد آي القرآن.
قال رحمه الله:
وقد ألفت في الآي كتب وإنني ... لما ألف الفضل بن شاذان مستقري
ولكنني لم أسر إلا مظاهرا ... بجمع ابن عمار وجمع أبي عمرو (4)
وتقع أبيات هذه القصيدة في سبعة وتسعين ومائتي بيت، قال رحمه الله تعالى:
وأبياتها تسعون مع مائتين قل ... وزد سبعة تحكي اللجين مع الدر (5)
__________
(1) العقيلة: 340.
(2) العقيلة: 320.
(3) ناظمة الزهر للإمام الشاطبي، ضمن مجموعة إتحاف البررة، 342.
(4) ناظمة الزهد: 344.
(5) ناظمة الزهر: 372.(35/277)
ومن تآليفه رحمه الله:
4 - قصيدة دالية تقع في خمسمائة بيت، نظم فيها كتاب التمهيد لابن عبد البر (1) .
5 - وله نظم في ظاءات القرآن.
يقول فيه:
ربت حظ للظلم غيظ عظيم ... أظفر الظفر بالغليظ الظلوم
ويقع في أربعة أبيات (2) .
6 - وله نظم في موانع الصرف يقول فيه:
دعوا صرف جمع ليس بالفرد أشكلا ... وفعلان فعلى ثم ذي الوصف أفعلا
وذي ألف التأنيث والعدل عدة ... وأعجم في التعريف خص مطولا
وذي العدل والتركيب بالخف والذي ... بوزن يخص الفعل أو غالب علا
وما ألف مع نون آخر زيدتا ... وذي هاء وقف والمؤنث أثقلا (3)
والشاطبي شاعر تداعت له كل المعاني، فشكلها في قوالب كيف شاء، في غير ما تكلف، مع الوضوح والدقة، ولا أدل على ذلك من منظوماته في القراءات والرسم وعد الآي، وله رحمه الله شعر في غير ما تقدم من العلوم؛ من ذلك قوله:
بكى الناس قبلي لا كمثل مصائبي ... بدمع مطيع كالسحاب الصوائب
وكنا جميعا ثم شتت شملنا ... تفرق أهواء عراض المواكب
وكانت بقايا من قلوب فأصبحت ... أيادي ما بين اختلاف الركائب
وقد كان حلم القوم طلب جهلهم ... فما ضاع الحلم حشو الحبائب (4)
وتقع هذه الأبيات في ثمانية عشر بيتا، وهي في الحض على التمسك بالدين وبالقرآن، وبيان شرف أهله.
ومن شعره رحمه الله قوله:
يلومونني إذا ما وجدت ملائما ... ومالي مليم حين سمت الأكارما
__________
(1) وفيات الأعيان ابن خلكان: 4 \ 71. كنز المعاني شرح حرز الأماني للجعبري مخطوط لوحة: 10.
(2) كنز المعاني للجعبري مخطوط لوحة: 10، فتح المواهبي للقسطلاني مخطوط لوحة: 28 \ ب.
(3) كنز المعاني للجعبري لوحة 10.
(4) كنز المعاني للجعبري مخطوط لوحة: 10، نكت الهميان للصفدي 229، فتح المواهبي لوحة: 29 \ ب.(35/278)
وقالوا تعلم للعلوم نفاقها ... بسحر نفاق يستفز العزائما
ولا بد من مال به العلم يعتلى ... وجاه من الدنيا يكف المظالما
ودونك يا من لا يرى النصح ذلة ... ستوسع فيك الشامتين المراجما
وكم زفرة تحت الضلوع يهيجها ... حكيم يبيع العلم بالجور حاكما (1)
وتقع هذه الأبيات في ستة وثلاثين بيتا، وهي في الحض على طلب العلم، والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى.
وذكر التلمساني في نفح الطيب أن الأمير عز الدين موسك، الذي كان والد ابن الحاجب حاجبا له، بعث إلى الشاطبي يدعوه للحضور عنده، فأمر الشيخ بعض أصحابه أن يكتب إلى الأمير:
قل للأمير نصيحة ... لا تركنن إلى فقيه
إن الفقيه إذا أتى ... أبوابكم لا خير فيه (2)
ومن شعره رحمه الله:
خالطت أبناء الزمان فلم أجد ... من لم أرم منه ارتيادي مخلص
رد الشباب وقد مضى لسبيله ... أهيا وأمكن من صديق مخلص (3)
وكان رحمه الله يتمثل بهذه الأبيات الكثيرة، وهي لغز في وصف النعش:
أتعرف شيئا في السماء يطير ... إذا سار صاح الناس حيث يسير
فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا ... وكل أمير يعتليه أسير
يحض على التقوى ويكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير
ولم يستزر عن رغبة في زيارة ... ولكن على رغم المزور يزور (4)
رحم الله الشاطبي، المقرئ الفقيه النحوي الأديب الشاعر، إنه كريم جواد.
__________
(1) كنز المعاني للجعبري مخطوط لوحة: 10، فتح المواهبي: 20 \ أ.
(2) طبقات الشافعية للسبكي: 7 \ 272، نفح الطيب للمقري: 2 \ 23.
(3) نفح الطيب للمقري: 2 \ 23.
(4) وفيات الأعيان ابن خلكان: 4 \ 72.(35/279)
المبحث السابع:
ما زاده الشاطبي في كتابه
حرز الأماني على تيسير
أبي عمرو الداني
هذا البحث عقدته لبيان بعض ما زاده الحرز على أصله التيسير، ولا أدعي فيه الاستقراء التام، فقد يفوتني البعض، ولكنني أتيت بحمد الله على أكثر تلك الزيادات؛ فأقول وبالله التوفيق: الزيادات التي في الحرز جاءت على ثلاثة أقسام:
زيادة في الأبواب 2- زيادة في الأصول 3- زيادة في الفرش.
فمن الزيادات في الأبواب:
باب اتفاقهم في إدغام: إذ، وقد، وتاء التأنيث، وهل، وبل.
قال أبو شامة: " هذا الباب ليس في التيسير، وهو من عجيب التبويب في مثل هذا الباب، فإنه لم ينظم هذه القصيدة إلا لبيان مواضع خلاف القراء، لا لما أجمعوا عليه، فإن ما أجمعوا عليه أكثر مما اختلفوا فيه، فذكر ما أجمعوا عليه يطول، ولكن قد يعرض في بعض المواضع ما يختلفون فيه، وما يجمعون عليه، والكل من باب واحد، فينص على المجمع عليه مبالغة في البيان؛ ولأن من هذا الباب ما أجمعوا على إظهاره، في الأنواع كلها، نحو: إذ قالوا، قد نرى، وقالت لأخته، هل ينصرونكم، بل قالوا، بل هو شاعر.
وما أجمعوا على إدغامه، وما اختلفوا فيه، فلما ذكر المختلف فيه - بقي المجمع عليه، وهو ينقسم إلى مدغم ومظهر، فنظم المدغم لقلته، فبقي ما عداه مظهرا (1) .
__________
(1) إبراز المعاني لأبي شامة المقدسي: 192.(35/280)
الباب الثاني
باب مخارج الحروف
وصفاتها التي يحتاج القارئ إليها
قال أبو شامة: هذا الباب من زيادات هذه القصيدة على ما في التيسير، ولكن ذكره أبو عمرو الداني في آخر كتاب الإيجاز وعلى ما فيه نظم الشاطبي (1) قلت: لا أعلم غير هذين البابين زادهما الحرز على أصله التيسير.
__________
(1) إبراز المعاني لأبي شامة المقدسي: 743.(35/281)
القسم الثاني: زيادة بعض الروايات في الأصول على ما في التيسير.
فمن ذلك: قوله تعالى في سورة طه آية: 75: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا} (1)
ذكر الشاطبي - رحمه الله - أن لقالون وهشام وجهين: كسر الهاء مع القصر والإشباع، وفي ذلك يقول:
وفي الكل قصر الهاء بان لسانه بخلف وفي طه بوجهين يجتلى (2) .
قال القاضي - رحمه الله -:
هذا ما يؤخذ من النظم، ولكن المحققين على أن هشاما ليس له من طريق النظم وأصله إلا الإشباع في لفظ يأته فينبغي الاقتصار عليه (3) ، قوله تعالى في سورة الزمر آية: 70 {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (4)
ذكر الشاطبي أن هشاما له وجهان: إسكان الهاء وضمها من غير صلة.
قال - رحمه الله -:
__________
(1) سورة طه الآية 75
(2) حرز الأماني للشاطبي: 14.
(3) الوافي شرح الشاطبية عبد الفتاح القاضي: 70.
(4) سورة الزمر الآية 7(35/281)
وإسكان يرضه يمنه لبس طيب ... بخلفهما والقصر فاذكره نوفلا (1)
له الرحب. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . .
قال صاحب النشر:
وأما هشام فروى عنه الإسكان صاحب التيسير من قراءته على أبي الفتح، وظاهره أن يكون من طريق ابن عبدان، وتبعه في ذلك الشاطبي، وقد كشفته من جامع البيان فوجدته قد نص على أنه من قراءته على أبي الفتح عن عبد الباقي بن الحسن الخرساني عن أبي الحسن بن خليع عن مسلم بن عبيد الله بن محمد، عن أبيه، عن الحلواني، وليس عبيد الله بن محمد في طرق التيسير ولا الشاطبية، وقد قال الداني: إن عبيد الله بن محمد لا يدرى من هو.
ثم ذكر - رحمه الله - بعض من روى الإسكان عن هشام، وعقب على ذلك بقوله: ولولا شهرته عن هشام وصحته في نفس الأمر لم نذكره (2) .
قال القاضي - رحمه الله -: ولهشام وجهان أيضا، الإسكان والضم من غير صلة، هذا يؤخذ له من الشاطبية، ولكن صاحب النشر ذكر أن الإسكان له ليس من طرق التيسير والشاطبية وإن كان صحيحا عنه، وعلى هذا ينبغي الاقتصار له على وجه الضم مع عدم الصلة، والله أعلم (3) .
لفظ: (أئمة) في مواضعه الخمسة من كتاب الله تعالى وهي:
1 - موضع التوبة آية: 12 {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} (4)
2 - موضع الأنبياء آية: 73. {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (5)
3 - وموضعين في القصص آية: 5. {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} (6)
وآية: 41 {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (7)
4 - وموضع السجدة. آية: 24 {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} (8)
__________
(1) حرز الأماني للشاطبي: 14.
(2) النشر في القراءات العشر ابن الجزري: 1 \ 308.
(3) البدور الزاهرة في القراءات العشر للقاضي: 374.
(4) سورة التوبة الآية 12
(5) سورة الأنبياء الآية 73
(6) سورة القصص الآية 5
(7) سورة القصص الآية 41
(8) سورة السجدة الآية 24(35/282)
ذكر الشاطبي - رحمه الله - جواز إبدال الهمزة الثانية من لفظ " أئمة " ياء محضة، وأشار إلى ذلك بقوله:
وأئمة بالخلف قد مد وحده ... وسهل سما وصفا وفي النحو أبدلا (1)
قال القاضي: قوله: وفي النحو أبدلا. بيان لمذهب بعض النحاة، وهو إبدال الهمزة الثانية ياء محضة، وهذا الوجه وإن ورد عن أهل سما أيضا لكنه ليس من طريق كتابنا؛ فلا يلتفت إليه ولا يقرأ به (2) .
لفظ (الناس) المجرور في جميع القرآن، فقد أطلق الشاطبي فيه الخلف بين الفتح والإمالة لأبي عمرو ولم يقصر الخلف على أحد رواته.
قال - رحمه الله -:
وخلفهم في الناس في الجر حصلا (3)
قال القاضي - رحمه الله -:
ثم ذكر أن خلف الرواة في إمالة الألف من لفظ الناس المجرور في جميع القرآن ثابت عن أبي عمرو، وظاهر هذا أن الخلاف ثابت عن أبي عمرو من الروايتين؛ فيكون لكل من الدوري والسوسي الفتح والإمالة.
ولكن التحقيق أن الإمالة للدوري عنه، والفتح للسوسي، فلا يقرأ للدوري من طريق الناظم إلا بالإمالة، ولا يقرأ للسوسي من هذه الطريق إلا بالفتح (4) .
لفظ: يواري: في قوله تعالى في سورة المائدة آية: 31 {يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ} (5)
فأواري: في قوله تعالى في سورة المائدة آية: 31 {فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} (6)
__________
(1) حرز الأماني: 16.
(2) الوافي شرح الشاطبية: 89.
(3) حرز الأماني: 27.
(4) الوافي: 153.
(5) سورة المائدة الآية 31
(6) سورة المائدة الآية 31(35/283)
ذكر الشاطبي ورود الخلاف في إمالة هذين اللفظين في العقود عن الدوري عن الكسائي.
قال - رحمه الله -:
يواري أواري في العقود بخلفه (1)
قال القاضي - رحمه الله -:
واختلف عنه أي الدوري عن الكسائي في إمالة ألف (يواري سوأة أخيه) ، (فأواري سوأة أخي) كلاهما في العقود. فروى عنه فيهما الفتح والإمالة، ولكن الصحيح الذي هو طريق النظم وأصله هو الفتح، وأما الإمالة فليست من هذه الطريق فلا يقرأ بها. والتقيد بالعقود للاحتراز عن {يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} (2) بالأعراف، فلا خلاف عنه في فتحه (3) .
وذكر الشاطبي - رحمه الله - أن الكلمة الممالة إذا كانت منونة جاز فيها وجهان الفتح والإمالة، وذلك في نحو: هدى، مسمى.
فقال - رحمه الله -:
وقد فخموا التنوين وقفا وزفقوا ... وتفخيمهم في النصب أجمع أشملا
مسمى ومولى رفعه مع جره ... ومنصوبه غزى وتترا تزيلا (4)
قال ابن الجزري - رحمه الله -:
وقد ذهب بعض أهل الأداء إلى حكاية الفتح في المنون مطلقا من ذلك في الوقف عمن أمال، وقرأ بين بين، حكى ذلك أبو القاسم الشاطبي - رحمه الله - حيث قال:
وقد فخموا التنوين وقفا وزفقوا
وتبعه على ذلك صاحبه أبو الحسن السخاوي فقال: وقد فتح قوم ذلك كله.
__________
(1) حرز الأماني: 27.
(2) سورة الأعراف الآية 26
(3) الوافي: 154.
(4) حرز الأماني: 27.(35/284)
قال ابن الجزري - رحمه الله - قلت:
ولم أعلم أحدا من أئمة القراءة ذهب إلى هذا القول ولا قال به ولا أشار إليه في كلامه ولا أعلمه في كتاب من كتب القراءات، وإنما هو مذهب نحوي لا أدائي دعا إليه القياس لا الرواية (1) .
قال القاضي - رحمه الله -:
والحق الذي لا محيص عنه ولا يصح الأخذ بغيره أن الألف الممالة التي يقع التنوين بعدها في كلمتها كالأمثلة الآنفة الذكر حكمها حكم الألف الممالة التي يقع بعدها ساكن في كلمة أخرى، تحذف وصلا وتثبت وقفا، وعند الوقف عليها يكون كل قارئ حسب مذهبه.
فإن كان مذهبه الفتح فتحها، وإن كان مذهبه التقليل قللها، وإن كان مذهبه الإمالة أمالها.
ولذلك قال الإمام الداني في التيسير: كل ما امتنعت الإمالة فيه في حال الوصل من أجل ساكن لقيه، تنوين أو غيره نحو: هدى، مصفى، مصلى، مفترى، والأقصى الذي، طغى الماء،. . فالإمالة فيه سائغة في الوقف لعدم ذلك الساكن (2) .
قوله تعالى في سورة الأعراف آية: 195: {ثُمَّ كِيدُونِ} (3)
ذكر الشاطبي - رحمه الله - أن هشاما له إثبات الياء فيها وحذفها.
قال: وكيدون في الأعراف حج ليحملا بخلف (4) .
قال القاضي - رحمه الله -:
وأثبت أبو عمرو وهشام بخلف عنه الياء في (ثم كيدون) بالأعراف، فأبو عمرو يثبتها وصلا على قاعدته.
وأما هشام فله فيها الخلاف في الحالين عملا بهذا البيت وبقوله في صدر الباب: وتثبت في الحالين دار لوامعا بخلف.
__________
(1) النشر: 2 \ 75.
(2) الوافي: 157.
(3) سورة الأعراف الآية 195
(4) حرز الأماني: 35.(35/285)
ولكن الذي صوبه أهل الأداء عامة أن هشاما ليس له في هذه الياء من طريق الحرز إلا الإثبات وصلا ووقفا (1) .
قول تعالى في سورة غافر آية: 15 {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} (2)
وقوله تعالى في سورة غافر آية: 32 {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} (3)
ذكر الشاطبي - رحمه الله - أن قالون أثبت الياء في التلاق والتناد. بخلف عنه قال:
والتلاق والتناد ... درى باغيه والخلف جهلا (4)
قال القاضي - رحمه الله -:
والذي عليه المحققون أن قالون ليس له من طريق النظم في هذين الموضعين إلا الحذف فيقتصر له عليه (5) .
قوله تعالى في سورة يوسف آية: 12: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} (6)
ذكر الشاطبي - رحمه الله - أنه اختلف عن قنبل في الياء التي بعد العين من (يرتع) فروي عنه إثباتها وحذفها.
قال:
وفي نرتعي خلف زكا (7)
قال القاضي - رحمه الله -:
اختلف عن قنبل في ياء نرتع بيوسف فروي عنه فيها الإثبات والحذف، وعلى وجه الإثبات يكون في الحالين على أصل مذهبه، وهذا من الناظم خروج عن طريقه وطريق أصله، فطريقه حذف الياء في الحالين لقنبل (8)
__________
(1) الوافي: 195.
(2) سورة غافر الآية 15
(3) سورة غافر الآية 32
(4) حرز الأماني: 35.
(5) الوافي: 196.
(6) سورة يوسف الآية 12
(7) حرز الأماني: 36.
(8) الوافي شرح الشاطبية: 197.(35/286)
القسم الثالث
زيادة بعض الراويات
في الفرش على ما في التيسير
ومن ذلك:
قوله تعالى في سورة الأنعام آية: 90 {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} (1)
ذكر الشاطبي - رحمه الله تعالى -: أن ابن ذكوان قرأ بخلف عنه بمد الهاء من (اقتده) والوجه الثاني عنه تحريك الهاء من غير صلة في حال الوصل.
قال:
وسكن شفاء واقتده حذف هائه ... شفاء وبالتحريك بالكسر كفلا (2)
ومد بخلف ماج. . . . . . ... . . . . . . . . . .
قال أبو شامة - رحمه الله -:
ماج: أي اضطراب، وهو صفة الخلف، وهو من زيادات هذه القصيدة، فلم يذكر صاحب التيسير فيه عن ابن ذكوان غير المد (3) .
قال القاضي - رحمه الله -:
وقرأ ابن ذكوان بخلف عنه بمد الهاء، أي إشباع حركتها متى يتولد منها ياء فتكون قراءة هشام بتحريك الهاء بالكسر من غير إشباع ولا صلة، وهو الوجه الثاني لابن ذكوان.
وفي قول الناظم: " ماج " إشارة إلى ضعف الخلاف واضطرابه عن ابن ذكوان إذ ليس له من طريق النظم إلا إشباع الهاء (4) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 90
(2) حرز الأماني: 52.
(3) إبراز المعاني لأبي شامة: 451.
(4) الوافي: 262.(35/287)
تنبيه:
القراء جميعا إذا وقفوا على هذه الهاء من (اقتده) يقفون عليها بالإسكان.
لفظ (رأى) الفعل الماضي (رأى) ، من حيث الحرف الذي بعده قسمان:
القسم الأول: أن يكون الحرف الذي بعده متحركا نحو: {رَأَى كَوْكَبًا} (1) ، {رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (2) .
القسم الثاني: أن يكون الحرف الذي بعده ساكنا نحو: {رَأَى الْقَمَرَ} (3) .
ذكر الشاطبي - رحمه الله تعالى -: أنه اختلف عن السوسي في إمالة الراء من القسم الأول.
قال:
وفي همزه حسن وفي الراء ... يجتلى بخلف. . . (4)
قال القاضي - رحمه الله -:
وقوله وفي الراء يجتلى بخلف: معناه أنه اختلف عن السوسي في إمالة الراء فروي عنه فيها الفتح والإمالة.
ولكن المحققين على أن إمالة الراء للسوسي لم تصح من طريق النظم وأصله؛ فيجب الاقتصار له على إمالة الهمزة كالدوري عن أبي عمرو (5) .
وذكر الشاطبي أيضا أنه اختلف عن السوسي في إمالة الراء والهمز من القسم الثاني، واختلف عن شعبة في إمالة الهمزة منه.
قال:
وقبل السكون الرا أمل في صفايد ... بخلف وقل في الهمز خلف يقي صلا (6)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 76
(2) سورة الأنبياء الآية 36
(3) سورة الأنعام الآية 77
(4) حرز الأماني: 51.
(5) الوافي: 260.
(6) حرز الأماني: 52.(35/288)
قال القاضي - رحمه الله -:
الذي عليه المحققون من أهل الأداء ولا يصح الأخذ بخلافه أن السوسي ليس له إمالة في هذا القسم لا في الراء ولا في الهمزة أن شعبة ليس له إمالة إلا في الراء كحمزة، ولا إمالة له في الهمز (1) .
قوله تعالى في سورة الأعراف آية 69 {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} (2)
ذكر الشاطبي - رحمه الله تعالى - أن ابن ذكوان ورد عنه الخلاف في لفظ (بصطة) فروى عنه الصاد (بصطة) والسين (بسطة) .
قال:
وفي الخلق بصطة ... وقل فيهما الوجهان قولا موصلا (3)
قال القاضي:
إلا أن المحققين نبهوا على أن ابن ذكوان ليس له في موضع الأعراف إلا الصاد، وأما السين فليست من طريق الناظم فلا يقرأ له بها في هذا الموضع (4) .
قوله تعالى في سورة يوسف آية: 23 {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} (5)
ذكر الشاطبي - رحمه الله - الخلف عن هشام في ضم التاء من (هيت) .
قال:
وضم التا لوا خلفه دلا (6)
قال القاضي - رحمه الله - في كتابه البدور:
وقرأ هشام بكسر الهاء وهمزة ساكنة بعدها مع فتح التاء، وذكر الشاطبي الخلاف له في ضم التاء خروج عن طرقه فلا يقرأ له من طرق الحرز والتيسير إلا بفتح التاء (7) .
__________
(1) الوافي: 261.
(2) سورة الأعراف الآية 69
(3) حرز الأماني: 41.
(4) الوافي شرح الشاطبية: 220.
(5) سورة يوسف الآية 23
(6) حرز الأماني: 61.
(7) البدور الزاهرة: 161.(35/289)
قوله تعالى أول سورة مريم آية: 1 {كَهَيعصَ} (1)
ذكر الشاطبي - رحمه الله - الخلف عن السوسي في إمالة (يا) من فاتحة مريم.
وقال:
وكم صحبة يا كاف والخلف ياسر (2)
قال القاضي - رحمه الله -:
ما ذكره الناظم من إمالة السوسي (يا) أول مريم بخلف عنه في قوله: والخلف ياسر، فخروج عن طريقه فلا يقرأ له إلا بالفتح (3) .
وذكر الشاطبي أيضا أن نافعا من روايتي قالون وورش أمال الهاء والياء من فاتحة سورة مريم.
قال - رحمه الله -:
ونافع لدى مريم ها يا (4)
قال القاضي - رحمه الله -:
وقوله: ونافع لدى مريم ها يا معناه أن نافعا من روايتي قالون وورش عنه يقلل الألف من هاء وياء أول مريم، هذا صريح كلامه، ولكن المحققين على أن تقليل قالون من ها - ويا - أول مريم ليس من طرق الناظم؛ فلا يقرأ له من طرقه إلا بالفتح (5) قوله تعالى في سورة الأحقاف آية: 12: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} (6)
ذكر الشاطبي - رحمه الله - أن البزي عن ابن كثير ورد عنه الخلاف في " لينذر " فورد عنه بالياء وبالتاء.
قال:
لينذر دم غصنا والأحقاف هم بها ... بخلف هدى. . . . . (7)
__________
(1) سورة مريم الآية 1
(2) حرز الأماني: 58.
(3) الوافي شرح الشاطبية: 285.
(4) حرز الأماني: 59.
(5) الوافي: 285
(6) سورة الأحقاف الآية 12
(7) حرز الأماني: 79.(35/290)
قال القاضي - رحمه الله -:
وما ذكره الشاطبي من الخلاف للبزي فخروج عن طريقه؛ فلا يقرأ له إلا بتاء الخطاب كما ذكر (1) .
قوله تعالى في سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - آية: 16: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} (2)
ذكر الشاطبي - رحمه الله - أن البزي ورد عنه بالخلف قصر الهمزة من (آنفا) .
قال:
وفي آنفا خلف هدى (3)
قال القاضي - رحمه الله -:
آنفا: اتفقوا على قراءته بمد الهمزة أي بألف بعدها من طرق الشاطبية والتيسير والتحبير.
وما ذكره الشاطبي من جواز القصر للبزي فخروج منه عن طريقه؛ فلا يقرأ له من طريق الشاطبية والتيسير إلا بالمد كالجماعة (4) .
هذا ما تيسر لي من ذكر بعض الزيادات التي زادها الحرز على أصله التيسير.
__________
(1) البدور الزاهرة: 295.
(2) سورة محمد الآية 16
(3) حرز الأماني: 83.
(4) البدور الزاهرة: 297.(35/291)
المبحث الثامن
الشروح المصنفة
على حرز الأماني ووجه التهاني
تناول العلماء - رحمهم الله - كتاب حرز الأماني بالشرح ما بين موجز ومطنب، فعمت في المشارق والمغارب بركته، وتضوعت من نسيمات القبول نفحاته، فقد نظمه صاحبه لله سبحانه وتعالى، وما كان لله كتب له البقاء.
وسأذكر في هذه العجالة بعض شروح هذا الحرز المعروف بالشاطبية مراعيا في ذلك الترتيب الزمني، فأقول وبالله التوفيق.
1 - شرح الشاطبية: لشمس الدين محمد بن محمود السمرقندي كان حيا سنة (600) .
2 - المهند القاضبي شرح قصيدة الشاطبي: لأبي العباس أحمد بن علي الأندلسي توفي (640) .
3 - فتح الوصيد في شرح القصيد: لعلم الدين أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي، المتوفى سنة (643) .
4 - الدرة الفريدة في شرح القصيدة: منتجب الدين حسين بن أبي العز بن رشيد الهمداني، المتوفى سنة (643) .
5 - كنز المعاني في شرح حرز الأماني ووجه التهاني: لشمس الدين محمد بن أحمد بن محمد الموصلي المعروف بشعلة، المتوفى سنة (656) .
6 - الفريدة البارزية في حل القصيدة الشاطبية: لأبي عبد الله المغربي محمد بن الحسن بن محمد الفاسي، المتوفى بحلب سنة (656) .
7 - المفيد في شرح القصيد: لعلم الدين قاسم بن أحمد اللورقي الأندلسي توفي سنة (661) .(35/292)
8 - إبراز المعاني من حرز الأماني: لأبي شامة عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي، المتوفى سنة (665) .
9 - اللآلي الفريدة في شرح القصيدة: لأبي عبد الله محمد بن الحسن بن محمد بن القاسم، المتوفى سنة (672) .
10 - وشرحها علاء الدين علي بن أحمد، المتوفى سنة (706) .
11 - كشف المعاني في شرح حرز الأماني: ليوسف بن أبي بكر الخلاطي، المتوفى سنة (725) .
12 - وشرحها شهاب الدين أحمد بن محمد بن جبارة المقدسي، المتوفى سنة (728) .
13 - كنز المعاني في شرح حرز الأماني ووجه التهاني: لبرهان الدين أبي محمد إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الربعي الجعبري، المتوفى سنة (732) .
14 - الفريدة البارزية في حل القصيدة الشاطبية: لأبي القاسم هبة الله بن عبد الرحيم البارزي، المتوفى سنة.
(738) .
15 - وشرحها الإمام بدر الدين حسن بن قاسم المعروف بابن أم قاسم المرادي المصري، المتوفى سنة (749) .
16 - وشرحها أحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي، المتوفى سنة (756) .
17 - وشرحها شيخ مشايخ القراء بمصر أبي بكر بن أيدغدي بن عبد الله الشمسي الشهير بابن الجندي، المتوفى سنه (769) .
18 - وشرحها السيد عبد الله بن محمد الحسيني، المتوفى سنة (776) .
19 - وشرحها تقي الدين عبد الرحمن بن أحمد الواسطي المتوفى سنة (781) .
20 - سراج القارئ: للإمام علاء الدين علي بن عثمان بن محمد المعروف بابن القاصح، المتوفى سنة (801) .
21 - وشرحها محب الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن البخاري البغدادي المتوفى سنة (843) .(35/293)
22 - حل الشاطبية، شرح العيني على الشاطبية: لزين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر العيني الحنفي، المتوفى سنة (893) .
23 - وشرحها جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، المتوفى سنة (911) .
24 - فتح الداني في شرح حرز الأماني: لأبي العباس أحمد بن محمد القسطلاني المتوفى سنة (923) .
25 - الغاية شرح الشاطبية: لجمال الدين حسين بن علي الحصني، ألفه سنة (960) .
26 - غيث النفع في القراءات السبع: لعلي بن محمد بن سالم الصفاقي، المتوفى سنة (1117) .
27 - شرح الشاطبية: لعمر بن عبد القادر الارمنازي الشافعي الحلبي، المتوفى سنة (1148) .
28 - إرشاد المريد إلى مقصود القصيد: لعلي محمد الضباع، المتوفى سنة (1376) .
29 - الوافي شرح الشاطبية: لعبد الفتاح بن عبد الغني القاضي شيخنا، المتوفى سنة (1403) .
وللشاطبية مختصرات منها:
مختصر جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني الشافعي شيخ النحاة في عصره نزيل دمشق، المتوفى سنة (672) .
وسماه حرز المعاني في اختصار حرز الأماني: وهو على رويها وقوافيها ورموزها، في ألف بيت.
أولها:
بذكر إلهي حامدا ومبسملا ... بدأت فأول بالقول يورد أولا(35/294)
ومنها قوله
تعوذ من الشيطان قاصدا ... لتلاوة والمذكور في النحل فضلا
ومنها ما نقله ابن الجزري في نشره: 2 \ 233.
قي تاءات البزي حيث قال: وما أحسن قول إمام العربية، وشيخ الإقراء بالمدرسة العادلية أبي عبد الله محمد بن مالك الذي قدم الشام من البلاد الأندلسية، وصاحب الألفية في قصيدته الدالية التي نظمها في القراءات السبع العلية:
ووجهان في كنتم تمنون مع تفك ... هون وأخفى عنه بعض مجودا
ملاقي ساكن صحيح كهل ترب ... صون. . . ومن يكسر يحد عن الاقتداء
ويقول ابن مالك في آخر قصيدته هذه:
وزادت على حرز الأماني إفادة ... وقد نقصت في الجرم ثلثا مكملا
ونقول لابن مالك - رحمه الله تعالى وغفر له - كما قال القائل في حق الشاطبية وبيان منزلتها وأنها لا يدانيها نظم أيا كان ناظمه.
فلو لسان يشكر مثلها ... قالت قوافيها الكل لا
ومن مختصراتها: مختصر الشيخ عبد الصمد بن التبريزي، المتوفى سنة (765) وهو خمسمائة وعشرون بيتا.(35/295)
المبحث التاسع
تلاميذه
تتلمذ على الإمام الشاطبي خلق كثير نذكر منهم ما وقفت عليه في المصادر:
1 - عبد الرحمن بن إسماعيل بن أبي القاسم الأزري التونسي يعرف بابن الحداد علامة أستاذ، ولد بعد الخمسين وخمسمائة، ورحل فقرأ على الشاطبي، وسمع من ابن بري النحوي، وتحول في آخر عمره إلى المغرب فسكن مراكش، وعمل شرحا للشاطبية (1) ، مات بمراكش في حدود سنة خمس وعشرين وستمائة (2) .
2 - عبد الرحمن بن سعيد أبو القاسم الشافعي (3) .
3 - عبد الله بن محمد بن عبد الوارث معين الدين أبو الفضل ابن أبي المعالي المصري الأنصاري المعروف بابن الأزرق وبابن فار اللبن، وبقارئ مصحف الذهب، والأزرق لقب لجد أبيه روى الشاطبية عن ناظمها، وهو آخر من روى عن الشاطبي بقي إلى سنة أربع وستين وستمائة (4) .
4 - عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس أبو عمرو بن الحاجب الكردي الأصل، الدوني الأسنائي المولد، الإمام العلامة الفقيه المالكي الأصولي النحوي المقرئ، ولد سنة سبعين أو إحدى وسبعين وخمسمائة بإسنا من صعيد مصر، وكان أبوه جنديا للأمير عز الدين موسك الصلاحي، ودخل
__________
(1) قال عنه ابن الجزري يحتمل أن يكون هو أول من يشرحها.
(2) غاية النهاية: 1 \ 366.
(3) غاية النهاية: 2 \ 23.
(4) غاية النهاية: 1 \ 452.(35/296)
به أبوه القاهرة فقرأ بعض الروايات على الشاطبي، سمع منه التيسير والشاطبية، توفي سنة ست وأربعين وستمائة (1) .
5 - علي بن شجاع بن سالم بن علي بن موسى كمال الدين أبو الحسن بن أبي الفوارس الهاشمي العباسي الضرير المصري الشافعي صهر الشاطبي، شيخ القراء بالديار المصرية في زمانه.
ولد في شعبان سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، قرأ القراءات السبع سوى رواية أبي الحارث في تسع عشرة ختمة على الشاطبي.
ثم قرأ عليه بالجمع للسبعة، ورواتهم الأربعة عشر، حتى إذ انتهى إلى سورة الأحقاف توفي الشاطبي - رحمه الله.
وسمع على الشاطبي التيسير، وقرأ عليه الشاطبية دروسا، توفي سنة إحدى وستين وستمائة (2) .
6 - علي بن محمد بن عبد الصمد بن عبد الأحد بن عبد الغالب بن عطاس علم الدين أبو الحسن الهمداني السخاوي المقرئ المفسر النحوي اللغوي الشافعي شيخ مشايخ الإقراء بدمشق، ولد سنة ثمان أو تسع وخمسين وخمسمائة بسخا من عمل مصر.
قرأ القراءات على ولي الله أبي القاسم الشاطبي، وبه انتفع صاحب المصنفات البديعية التي منها شرح الشاطبية، وشرح الرائية التي للشاطبي في كتاب سماه الوسيلة إلى شرح العقيلة، وله كتاب جمال القراء وإكمال الإقراء، وغير ذلك.
توفي سنة ثلاث وأربعين وستمائة (3) .
7 - علي بن محمد بن موسى بن أحمد الجمال أبو الحسن بن أبي بكر التجيبي الشاطبي، إمام مقرئ كامل، عرض بالسبع على أبي القاسم الشاطبي
__________
(1) غاية النهاية: 1 \ 508.
(2) غاية النهاية: 1 \ 544.
(3) غاية النهاية: 1 \ 568.(35/297)
إفرادا وجمعا، وسمع منه قصيدته، قدم دمشق وتصدر بها للإقراء.
توفي في رمضان سنة ست وعشرين وستمائة (1) .
8 - علي بن هبة الله بن سلامة بن المسلم أبو الحسن اللخمي المصري الشافعي الخطيب المعروف بابن الجميزي، ولد سنة سبع وخمسين وخمسمائة بمصر، قرأ على الشاطبي جميع الشاطبية وعدة ختمات، ولكنه لم يكمل عليه القراءات.
توفي سنة تسع وأربعين وستمائة وقد جاوز التسعين (2) .
9 - عيسى بن مكي بن حسين بن يقظان بن أبي الحسن بن فتيان السديد أبو القاسم بن أبي الحزم العامري المصري الشافعي إمام جامع الحاكم.
قرأ القراءات والشاطبية على الشاطبي، توفي سنة تسع وأربعين ستمائة (3) .
10 - وممن قرأ على الشاطبي أيضا: عيسى بن يوسف بن إسماعيل المقدسي (4) .
11 - محمد بن عمر بن حسين زين الدين أبو عبد الله الكردي، مقرئ عالم متصدر للإقراء بجامع دمشق زمن السخاوي، قرأ القراءات والشاطبية على أبي القاسم الشاطبي، قرأ عليه الرشيد بن أبي الدر، توفي سنة ثمان وعشرين وستمائة (5) .
12 - محمد بن عمر بن يوسف أبو عبد الله الأنصاري القرطبي المالكي إمام عالم فقيه مفسر نحوي زاهد ولد بعد الخمسين وخمسمائة، قرأ القراءات على أبي القاسم الشاطبي وقرأ عليه القصيدتين اللامية والرائية، ولم يسمع أحد من الشاطبي الرائية كاملة فيما نعلم سواه وسوى التجيبي
__________
(1) غاية النهاية: 1 \ 576.
(2) غاية النهاية: 1 \ 583.
(3) غاية النهاية: 1 \ 614.
(4) غاية النهاية 1 \ 23.
(5) غاية النهاية: 2 \ 216.(35/298)
وله فيها أبيات انفرد بروايتها عنه، وكذلك في الشاطبية بيتان أحدهما في البقرة والآخر في الرعد (1) .
13 - محمد بن قاسم بن فيره الجمال أبو عبد الله بن أبي القاسم الشاطبي، روى حرز الأماني عن أبيه سماعا إلى سورة " ص "، والباقي إجازة، قال ابن الجزري:
هذا الذي رأيناه مثبتا عند الحفاظ وإن كان وقع في بعض الإجازات إطلاق روايته لها عن أبيه، والله أعلم.
روى عنه محمد بن عبد الله بن عبد المنعم بن الصواف، ومحمد بن يعقوب الجرائدي، بقي إلى سنة خمس وخمسين وستمائة، وعاش نحو الثمانين سنة (2) .
14 - مرتضي بن العفيف جماعة بن عباد بن جابر أبو الذكر المالكي الضرير يعرف بابن الخشاب، كان متصدرا بالجامع العتيق بمصر أخذ القراءات والشاطبية عن الشاطبي، قرأ عليه محمد بن عبد المنعم الصواف (3) .
15 - يوسف بن أبي جعفر بن عبد الرزاق مكين الدين أبو الحجاج الأنصاري البغدادي ذكر أنه سمع الشاطبية من لفظ ناظمها، وأسمعها في سنة ثمان وثلاثين وستمائة ببغداد بقراءة سعد بن أحمد الجذامي النحوي فسمعها منه جابر بن محمد الوادي ياشي (4) .
__________
(1) غاية النهاية: 2 \ 219.
(2) غاية النهاية: 2 \ 230.
(3) غاية النهاية: 2 \ 293.
(4) غاية النهاية: 2 \ 395.(35/299)
المبحث العاشر
في ذكر وفاته
لم يزل - رحمه الله تعالى - بالمدرسة الفاضلية يقرئ العلوم النفيسة ويرفد الطلبة بفرائد الفوائد، يمنحهم بالصلة والعائد، ويمدهم من فوائد علومه النافعة أشرف موائد، ويوردهم من منابعها أعذب موارد حتى حان موته، وآن حمامه، وانقضت من أجله أيامه، فكانت وفاته بعد صلاة العصر يوم الأحد ثمان وعشرين جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة عن اثنتين وخمسين، وقيل خمس وخمسين سنة، ودفن يوم الاثنين بالقاهرة بالقرافة بمقبرة القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني.
وقد رثاه كثير من العلماء منهم أبو إسحاق إبراهيم الجعبري في مقدمة شرحه على الشاطبية المسمى " كنز المعاني في شرح حرز الأماني " حيث قال:
سقت سحب الرضوان طلا ووابلا ... ثرى ضم شخص الشاطبي المسدد
إمام فريد بارع متورع ... صبور طهور ذي عفاف مؤيد
زكا علمه فاختاره الناس قدوة ... فكم عالم من دره متقلد
عليك سلام الله حيا وميتا ... وحييت بالإكرام يا خير مرشد (1)
رحم الله الشاطبي رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين آمين. . آمين.
__________
(1) كنز المعاني في شرح حرز الأماني للجعبري مخطوط لوحة: 10، 11.(35/300)
الطريق الوسط
في بيان عدد يوم الجمعة المشترط
تأليف
الشيخ \ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب
تحقيق
الشيخ \ الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان
مدخل
هذه الرسالة لون من ألوان التأليف الذي اهتم به أئمة الدعوة السلفية في نجد، من عهد رائدها العلامة الكبير الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - إلى وقتنا الحاضر.
فلم تكن جهودهم مقتصرة على جانب من العقيدة فحسب، بل تناولت اهتماماتهم بما يتعلق بالجانب الفقهي أيضا، وإن كان حظ العقيدة من التأليف أوفر وأعظم؛ لضرورته التي تفوق كل ضرورة. إذ بدون العقيدة الخالصة من أكدار البدعة وشوائب الخرافة لا يمكن أن يتحقق للإنسان عمل صالح، مهما بلغ في نظره ما يتوخى من صحة وإتقان، قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (1) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (2) ، وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (3) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 2
(2) سورة الزمر الآية 3
(3) سورة البينة الآية 5(35/301)
ويأتي الفقه الأصغر محققا للمسلم ما يتعلق بالشرط الثاني من شروط صحة العبادة، وهو تجريد المتابعة والتأسي بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم -، والحذر الشديد من الانزلاق في حمئة البدعة، ورذائل الخرص والتخليط والافتيات على الله تعالى في أحكامه المنزلة وشريعته التامة، قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (1) ، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (2) ، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (4) » ، وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5) » ، وقال: «إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة (6) » وحيث يتحقق هذان الشرطان الحيويان اللذان هما الإخلاص والمتابعة فإن العمل لا بد أن يكون صالحا، جديرا بالاحترام وحريا بالقبول. قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (7) ، وقال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (8) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة النساء الآية 80
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 2697، ومسلم في الصحيح رقم 1718 وأبو داود في السنن رقم 4606، وابن ماجه في السنن رقم 12، وأحمد في المسند 6 \ 240، 270 من حديث عائشة.
(5) أخرجه مسلم في الصحيح رقم 1718 وأحمد في المسند 1 \ 146، 180، 256 في حديث عائشة.
(6) أخرجه أبو داود في السنن رقم 07 / 46، والترمذي في الجامع رقم 2676، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه في السنن رقم 42، وأحمد في المسند 4 \ 126، وانظر بقية التخريج في كتاب الانتصار 88.
(7) سورة الكهف الآية 110
(8) سورة فاطر الآية 10(35/302)
موضوع الرسالة:
مسألة العدد المشترط لصحة إقامة صلاة الجمعة كانت مثار خلاف منذ أمد بعيد، واستمر كذلك خلال أطوار الفقه المتعاقبة. مقتنعا كل فقيه بما ذهب إليه، وأدى إليه اجتهاده.
وقد حاول الشيخ سليمان - رحمه الله - بما أوتي من فقه وسعة معرفة وإلمام كبير بعلم الحديث، أن يصل إلى القول الصحيح فيما يرى. فاستهل رسالته بمقدمة بين فيها حكم صلاة الجمعة بالدليل من الكتاب والسنة والإجماع، ومن لا يلزمه حضورها.
ثم قام بتحرير محل النزاع، وأشار إلى اتفاق العلماء على اشتراط الجماعة، وساق الأقوال ثم أتبعها بالأدلة والنقول التي أوردها أهل العلم على كل رأي، وخلص إلى عدم اشتراط أكثر من اثنين لأدائها.
ويلاحظ أن المؤلف حرص على بيان بطلان القول باشتراط حضور أربعين من أهل وجوبها، وهو القول المشهور في مذهب أحمد، وذلك لأنه كان ولا يزال هو الاتجاه السائد في نجد.(35/303)
أهمية الرسالة:
يرتبط البحث في العدد المشترط في إقامة الجمعة بفريضة دينية، وملتقى أسبوعي هام، ومن أجل ذلك أفرده العلماء بالتأليف، فكتب الحافظ السيوطي رسالته " ضوء الشمعة في عدد الجمعة ".
ثم جاءت هذه الرسالة القيمة لتزيد الموضوع بيانا وإيضاحا، مع التركيز على مذهب الحنابلة بوجه خاص، وإبراز الروايات المنقولة عن الإمام أحمد، وما اختاره فقهاء المذهب منها، والعناية بوجوه الاستدلال، وإعطاء كل قول ما يستحق بأسلوب علمي جاد، وعبارة مشرقة وإيفاء تام للجوانب التي تحتاج إلى ما يزيل اللبس ويكشف الغموض دون تعصب أو تحيز.
ويبدو فيها ما كان يتمتع به المؤلف من فهم عميق، وقدرة فائقة على(35/303)
الانتقاء ومعرفة الصحيح من السقيم، وتمييز الأحاديث وبيان عللها، وسعة أفق، وطول نفس في البحث والتقصي.(35/304)
المؤلف:
هو الحافظ المفسر الفقيه: سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب الوهبي التميمي. ولد في بلدة الدرعية الواقعة إلى الشمال من مدينة الرياض سنة 1205هـ، وعاش حياته في ظل بيت موصول بالعلم والإيمان والتقوى، فتشرب بأخلاقه، وعب من فيض ينبوعه، وانطلق منذ حداثة سنه إلى مجالس العلم وحلقات العلماء.
فقرأ على والده العلامة عبد الله بن محمد (ت 1243هـ) ، وعلى الشيخ الجليل حمد بن ناصر بن معمر (ت 1225هـ) وغيرهما من كبار العلماء، حتى أدرك علما جما. فاختاره سعود بن عبد العزيز (ت 1229هـ) للتدريس في مسجده بعد صلاة المغرب، ثم عينه قاضيا في مكة، وبعد ولاية عبد الله بن سعود (ت 1234هـ) عين قاضيا مع والده في الدرعية. واستمر في القضاء والتدريس، والوعظ والإرشاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوة وشجاعة لا مثيل لها، مع التواضع والانقطاع عن الدنيا والزهد فيما يتنافس عليه الطغام والجهال ورعاع الناس من حطام المناصب وفتات الموائد الباذخة.
وقام بتأليف الكتب والرسائل التي تدل على سعة علمه وطول باعه، وموهبته النادرة. فحقق كثيرا من الانتصارات للدعوة السلفية، ودعم مسيرتها الخيرة دون خوف أو وجل، بالرغم من أنه لم يمتع بعمره طويلا.
إلى أن هاجم جيش الظلم والطغيان بقيادة المجرم الآثم: إبراهيم (باشا) أسوار الدرعية الآمنة، وغدر بأهلها، فأكرم الله الشيخ، واختاره إلى جواره سنة 1233هـ (1) .
__________
(1) بسطت ترجمته في مقدمة الدلائل في حكم موالاة أهل الإشراك، وأشرت إلى المصادر هناك.(35/304)
وصف النسخ:
اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة على نسختين، وهما كما يلي:(35/304)
الأولى: خطية، وتقع في عشر ورقات، ومسطرتها 21 سطرا، سجل على صفحة العنوان ما نصه: هذا الطريق الوسط في بيان عدد الجمعة المشترط للشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام وعلم الهداة الأعلام، صاحب الدعوة النجدية والطريقة المحمدية الشيخ محمد بن عبد الوهاب. قدس الله أرواحهم، ونور ضرائحهم، ونفعنا بعلومهم، وجمعنا وإياهم في دار كرامته آمين.
وذكر في آخرها أنها كتبت في آخر شهر محرم سنة 1345، بقلم عبد الله الربيعي. وهي نسخة جيدة واضحة، ولذلك جعلتها أصلا.
الثانية: مطبوعة ضمن كتاب الدرر في الأجوبة النجدية، جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم (ت 1393هـ) في المجلد الثالث الصفحات 213 -227.
ولم يذكر شيء عن الأصل الذي اعتمد عليه، كما وقع فيها كثيرا من السقط والتحريف، ورمزت لها بحرف (ط) .
العنوان:
جاء على صفحة الغلاف: الطريق الوسط في بيان عدد الجمعة المشترط، كما نص على ذلك المؤلف في مستهل جوابه. غير أنه أطلق عليها بعضهم: بيان تعدد الجمعة، وسماها آخرون: بيان عدد الجمعة. وعلى كل حال فقد نص المؤلف على ذلك في أول رسالته، ولم يعد هناك مجال للاجتهاد.
التوثيق:
نص على نسبتها إلى المؤلف جميع من ترجم له، ولم أجد أحدا ينسبها إلى غيره، إلى جانب إثبات ذلك في كل من المخطوطة والمطبوعة.(35/305)
منهج التحقيق:
اتبعت طريقة النص المختار، مع الحرص على بقاء الأصل ما أمكن وعزوت الآيات وخرجت الأحاديث والآثار، ووثقت النصوص، وترجمت لغير(35/305)
المشاهير، وشرحت الألفاظ الغامضة، كما أشرت إلى الفروق بين النسختين، إلى غير ذلك.
أسأل الله تعالى أن ينفع بها، وأن يبارك في جهود المخلصين وأعمال المصلحين، وأن يجعلنا هداة مهتدين. والحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى.
كتبه
الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان
كلية الشريعة بالرياض(35/306)
النص المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فقد (1) سألت رحمنا الله وإياك (2) : هل ثبت في نصاب الجمعة نص (3) فتقف الصحة عليه (4) .
أم لم يصح في ذلك شيء (5) فتكون في جمع غير موقوف على عدد، حيث لا دليل على تعيين على عدد؟
فكتبت ذلك ما يسره الله، وسميته: الطريق الوسط في بيان عدد الجمعة المشترط.
فأقول - وبالله التوفيق، وإياه أسأل الهداية إلى أقوم طريق: أعلم (6) أولا (7) ، أن الجمعة واجبة بالكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب فقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (8) الآية (9) . ووجه الدلالة من الآية: أنه تعالى أمر بالسعي، ومقتضى الأمر الوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى واجب، قاله الشيخ موفق الدين بن قدامة (10) ، (11) .
__________
(1) من هنا تبدأ نسخة (ط) .
(2) (ط) : سئل الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد رحمهم الله تعالى.
(3) (ط) في العدد المعتبر للجمعة نص.
(4) ما بينهما ساقط من (ط) .
(5) (ط) شيء إلخ.
(6) (ط) : فأجاب أعلم.
(7) (ط) : أولا ساقطة.
(8) سورة الجمعة الآية 9
(9) الآية ليست في (طـ) .
(10) أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي، فقيه أصولي محدث. ت620. تاريخ ابن رجب 2 \ 133.
(11) ابن قدامة، المغني شرح مختصر الخرقي 2 \ 295.(35/308)
وأما السنة: فالأحاديث طافحة بذلك. منها: ما روى مسلم في صحيحه، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: «لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم (1) » .
وعن أبي هريرة، وابن عمر، أنهما سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين (2) » رواه مسلم وابن ماجه.
وعن أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه (3) » رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، \ وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم [1 \ أ] ، وقال: صحيح على شرط مسلم.
وفي رواية لابن خزيمة، وابن حبان «من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر فهو منافق (4) » إلى غير ذلك من الأحاديث.
وأما الإجماع: فأجمع المسلمون على وجوب الجمعة في الجملة.
فثبت بعموم الآية والأحاديث والإجماع: وجوب الجمعة على كل أحد، فمن أراد إخراج أحد - عن وجوبها عليه - من هذه العمومات فعليه إقامة
__________
(1) مسلم في الصحيح رقم 652 وأخرجه أحمد المسند 1 \ 402، 422، 450، 461.
(2) مسلم في الصحيح رقم 5 / 86، وابن ماجه في السنن رقم 778، وأخرجه النسائي في المجتبى 3 \ 88، وكتاب الجمعة رقم 8، وأحمد في المسند 1 \ 239، 254، 335، والدارمي في السنن رقم 1578، وابن خزيمة في الصحيح رقم 1855، وابن حبان في الصحيح رقم 2785.
(3) أحمد في المسند 3 \ 424، 425، وأبو داود في السنن رقم 1052، والترمذي في الجامع رقم 500، وقال: حديث حسن، والنسائي في المجتبى 3 \ 88 وكتاب الجمعة رقم 5، وابن ماجه في السنن رقم 1112، وابن خزيمة في الصحيح رقم 1858، وابن حبان في الصحيح 1 \ 237، 4 \ 198، والحاكم في المستدرك 1 \ 280 وصححه، وأقره الذهبي، وذكره الألباني في صحيح الجامع رقم 6019.
(4) ابن خزيمة في الصحيح رقم 1857 وابن حبان في الصحيح 4 \ 198، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2 \ 154 والحاكم في المستدرك 1 \ 292 ووافقه الذهبي، وللرواية الأولى شاهد من حديث جابر، أخرجه ابن ماجه في السنن رقم 1113 والحاكم في المستدرك 1 \ 292 ووافقه الذهبي، والنسائي في كتاب الجمعة رقم 6، وأحمد في المسند 3 \ 332، وابن خزيمة في الصحيح رقم 1856 قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5 \ 192: إسناده حسن(35/309)
الدليل، وإلا فلا سمع ولا طاعة.
فمما خرج من العموم: المرأة، حكى ابن المنذر (1) الإجماع أنها لا تجب عليها (2) . والعبد، والصبي، والمريض، ومن في معناه، ممن له عذر عن حضور الجمعة.
والأصل في ذلك: ما رواه أبو داود، حيث قال: حدثنا عباس بن عبد العظيم (3) ، حدثني إسحاق بن منصور (4) ، حدثنا هريم (5) ، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، عن قيس بن مسلم (6) ، عن طارق بن شهاب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض (7) » ، وأخرجه الدارقطني، عن علي بن محمد بن عقبة الشيباني، عن إبراهيم بن إسحاق بن أبي العنبس، عن إسحاق بن منصور (8) .
وأعله ابن حزم بهريم، وقال: إنه مجهول (9) ، وما أبعده ودعواه عن الصواب فكيف يكون مجهولا من روى عن الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد (10) ، وسعيد بن أبي عروبة وطائفة.
__________
(1) أبو بكر، محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري: حافظ فقيه ت 318 تذكرة الحفاظ 3 \ 782.
(2) ابن المنذر، كتاب الإجماع، مسألة رقم 52.
(3) أبو الفضل بن إسماعيل العنبري البصري، ثقة حافظ ت240 تقريب التهذيب 293.
(4) أبو يعقوب، بهرام الكوسج، التميمي المروزي، ثقة ثبت ت251 تقريب 103.
(5) أبو محمد بن سفيان البجلي الكوفي، صدوق من كبار التاسعة تقريب 571.
(6) أبو عمرو، الجدلي الكوفي، ثقة رمي بالإرجاء ت120 تقريب 458.
(7) أبو داود في السنن رقم 1067.
(8) الدارقطني في السنن 2 \ 3.
(9) ابن حزم، المحلى 5 \ 73.
(10) الأحمسي مولاهم، البجلي، ثقة ثبت ت146 تقريب 107.(35/310)
وروى عنه (1) : إسحاق بن منصور، والسلولي (2) وأحمد بن يونس (3) ، والأسود بن عامر (4) ، وأبو نعيم (5) ، وغيرهم من الثقات.
ووثقه يحيى بن معين، وأبو حاتم، وابن حبان (6) ، وغيرهم (7) . وقال عثمان بن أبي شيبة: هو صدوق ثبت. وأخرج له البخاري ومسلم في صحيحيهما، وبقية أهل السنن (8) . فكيف يكون مجهولا ولكن هذه عادة ابن حزم، إذا لم يعرف الرجل زعم أنه مجهول، وقد يكون معروفا مشهورا ثقة عند غيره، وله من ذلك أشياء \ كثيرة.
[1 \ ب]
وأخرجه الحاكم، عن أبي بكر بن إسحاق، عن عبيد بن محمد، عن عباس بن عبد العظيم، بإسناد أبي داود، عن طارق، عن أبي موسى الأشعري. وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين.
قال: وطارق بن شهاب ممن يعد في الصحابة (9) . قال أبو داود: وطارق بن شهاب قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه شيئا (10) .
قال الحافظ بن حجر: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو رجل، وقال أيضا: إذا ثبت أنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو صحابي على الراجح. وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح (11) .
قلت: لم يثبت - فيما علمناه - أنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا، بل إذا ثبت أنه رآه وهو رجل فالظاهر أنه قد سمع منه؛ إذ يبعد ألا يسمع منه ولو
__________
(1) الأصل عن تحريف.
(2) أبو كبشة، الشامي، ثقة من الثانية. تقريب 668.
(3) أحمد بن عبد الله بن يونس بن عبد الله بن قيس التميمي اليربوعي، الكوفي، ثقة حافظ ت 227، تقريب 81.
(4) أبو عبد الرحمن، الشامي، يلقب شاذان، ثقة. ت سنة ثمان ومائتين. تقريب 111.
(5) أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، حافظ فقيه، ثقة ت 430 تذكرة الحفاظ 3 \ 1092.
(6) (ط) : وأبو حاتم بن حبان. تحريف.
(7) (ط) : وغيرها. تحريف.
(8) ابن حجر، تهذيب التهذيب 11 \ 30.
(9) الحاكم في المستدرك 1 \ 288.
(10) سنن أبي داود 1 \ 644.
(11) ابن حجر، الإصابة في تميز الصحابة 2 \ 220.(35/311)
كلمة مع رؤيته له. وقد أخرج له النسائي (1) عدة أحاديث، وذلك مصير (2) منه إلى إثبات صحبته.
ومما خرج من العمومات أيضا المسافر، في قول أكثر أهل العلم؛ لما روى البيهقي بإسناده عن تميم الداري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجمعة واجبة إلا على صبي أو مملوك أو مسافر (3) » وأخرج الدارقطني من طريق ابن لهيعة - وهو ضعيف - عن معاذ بن محمد الأنصاري، وهو مجهول (4) ، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا على مريض أو امرأة أو مسافر أو صبي أو مملوك (5) » الحديث.
وأخرج البيهقي عن ابن عمر، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الجمعة واجبة إلا على ما ملكت أيمانكم وذي علة (6) » ، وفي إسناده نظر. وأخرج الدارقطني، من طريق عبد الله بن نافع (7) عن أبيه، عن ابن عمر مرفوعا: «لا جمعة على مسافر (8) » ، وعبد الله ضعيف. وقد رواه
__________
(1) الأصل: أخرج النسائي.
(2) الأصل: يصير. تحريف.
(3) السنن الكبرى 3 \ 183، وأخرجه الطبراني في الكبير رقم 1257، والعقيلي في الضعفاء 2 \ 222، وفيه ضرار بن عمرو الملطي وهو ضعيف كما في مجمع الزوائد 2 \ 170، وقال أبو زرعة: هذا حديث منكر. علل الحديث للرازي 1 \ 212.
(4) قاله ابن المديني - رحمه الله تعالى - كما في ميزان الاعتدال 4 \ 44.
(5) الدارقطني في السنن 2 \ 3، وأخرجه البيهقي في السنن 3 \ 184، قال ابن حجر في الدراية 1 \ 216: وإسناده ضعيف.
(6) البيهقي في السنن الكبرى 3 \ 184، وأخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد 2 \ 170، وقال الهيثمي وأبو البلاد قال أبو حاتم: لا يحتج به.
(7) مولى ابن عمر المديني، ضعيف ت 154 تقريب 326.
(8) الدارقطني في السنن 2 \ 4، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3 \ 184.(35/312)
عبيد الله بن عمر (1) ، عن نافع، فوقفه، وهو الصحيح (2) .
ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسافر ولا يصلي الجمعة في سفره، وكان في حجة الوداع - يوم عرفة - يوم جمعة، فصلى الظهر والعصر، جمع بينهما ولم يصل الجمعة.
والخلفاء الراشدون كانوا يسافرون في الحج وغيره؛ فلم يصل أحد منهم الجمعة في سفره، وكذلك \ غيرهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم.
[2 \ أ]
وهذا إجماع لا يجوز مخالفته (3) .
واتفق المسلمون على اشتراط الجماعة لها، إلا شيئا يحكى عمن لا يعرف: أنها تجب على الواحد. حكاه في الفتح عن ابن حزم، أنه حكاه قولا لبعضهم (4) .
قلت: وقد طالعت المحلى فلم أر هذا القول فيه. لكن قد روى ابن أبي شيبة، عن سفيان الثوري - في صورة ما إذا دخل في صلاة الجمعة ثم أحدث، ثم ذهب وتوضأ، ثم جاء فوجدهم قد صلوا - أنه يبني على ما مضى، ما لم يتكلم (5) .
وهذا لا يدل على أنه يرى الجمعة على الواحد، وإنما أثبت له حكمها؛ لدخوله معهم أولا فيها، بدليل أنه لو تكلم لم يجب عليه جمعة.
والدليل على ذلك الكتاب والسنة.
__________
(1) أبو عثمان بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني، ثقة ثبت. ت بضع وأربعين ومائة. تقريب 372.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2 \ 104.
(3) جزم به ابن عبد البر في الاستذكار 2 \ 298.
(4) ابن حجر فتح الباري 2 \ 423.
(5) ابن أبي شيبة في المصنف 2 \ 104.(35/313)
أما الكتاب، فلقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (1) بصيغة الجمع. فيدل على أنها لا تجب إلا على جماعة. كذا قيل! ! .
وأما السنة: فطافحة بأنها لا تجب إلا على جماعة من طريقين: طريق الاستقراء، وطريق المفهوم.
أما الاستقراء: فأظهر من أن يذكر؛ لأنه لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحدا من أصحابه ولا غيرهم (2) صلاها وحده، ولا أمر بها أحد.
وأما طريق المفهوم: ففي أحاديث، منها:
حديث طارق الذي تقدم، «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة (3) » الحديث. فمفهوم التقييد بالجماعة يقتضي أنها لا تجب إلا على جماعة.
__________
(1) سورة الجمعة الآية 9
(2) الأصل: ولا غيره، ولا غيرهم سهو من الناسخ.
(3) سنن أبو داود الصلاة (1067) .(35/314)
ثم اختلف العلماء - بعد ذلك - في العدد المشترط لها، على أقوال:
القول الأول: أنها لا تنعقد إلا بحضور أربعين رجلا من أهل القرية.
ذكره في الشرح: عن عمر بن عبد العزيز، وعبيد الله (1) بن عبد الله بن عتبة (2) ، ومالك، والشافعي، وهو مذهب أحمد المشهور عنه (3) .
القول الثاني: أنها لا تنعقد إلا بخمسين رجلا. ذكره ابن حزم عن عمر بن عبد العزيز (4) ، وهو رواية عن أحمد (5) لما روى الدارقطني: حدثنا
__________
(1) (ط) وعبد الله تحريف.
(2) أبو عبد الله بن مسعود الهذلي أحد فقهاء المدينة السبعة، ثقة ثبت ت94 تقريب 372.
(3) نقله الأثرم وإبراهيم بن الحارث كما في كتاب الروايتين للقاضي أبي يعلى 1 \ 182.
(4) ابن حزم المحلى بالآثار 5 \ 68، وينظر المدونة 1 \ 143.
(5) نقلها محمد بن الحكم كما في كتاب الروايتين للقاضي 1 \ 182.(35/314)
محمد بن الحسن النقاش، حدثنا محمد بن عبد الرحمن السامي (1) والحسين بن إدريس، حدثنا \ خالد بن الهياج، حدثني أبي، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على الخمسين جمعة، ليس فيما دون ذلك» ، قال الدارقطني: جعفر بن الزبير متروك (2) .
[2 \ ب]
قلت: وشيخ الدارقطني أيضا متروك، وخالد بن الهياج متروك. وذكر الشيخ شمس الدين بن أبي عمر في شرح المقنع: أن الحافظ أبا بكر النجاد أخرجه عن عبد الملك الرقاشي، عن رجاء بن سلمة، عن عباد بن عباد، عن جعفر بن الزبير، بنحوه (3) .
وأخرجه الدارقطني أيضا، من طريق آخر عن جعفر بن الزبير به دون قوله: «ليس فيما دون ذلك (4) » .
وبالجملة: فمداره على جعفر بن الزبير، وهو ساقط. وذكر ابن أبي عمر أيضا في الشرح عن الزهري، «عن أبي سلمة، قال: قلت لأبي هريرة: على كم تجب الجمعة من رجل؟ قال: لما بلغ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسين جمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم» . رواه النجاد (5) .
هكذا ذكره ابن أبي عمر، ولم يذكر من دون الزهري؛ لينظر في إسناده، وهو باطل من غير جهة الإسناد؛ لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بلغوا أكثر من الخمسين وهم بمكة، ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بهم. وهذا يدل على أنه غير صحيح.
القول الثالث: أنهم إذا كانوا ثلاثة والإمام رابعهم صلوا الجمعة،
__________
(1) (ط) : الشامي. تحريف.
(2) سنن الدارقطني 2 \ 4.
(3) ابن أبي عمر، الشرح الكبير ا \ 469.
(4) الدارقطني في السنن 2 \ 4، وأخرجه بهذه الزيادة الطبراني في الكبير رقم 7952، وابن عدي في الكامل 2 \ 559، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 2 \ 176: وفيه جعفر بن الزبير صاحب القاسم، وهو ضعيف جدا.
(5) ابن أبي عمر، الشرح الكبير 1 \ 469.(35/315)
وهو رواية عن أحمد، به قال أبو حنيفة، والليث بن سعد، وزفر، ومحمد بن الحسن (1) ، (2) .
واحتجوا في ذلك: بما رواه الدارقطني من طريق الوليد بن محمد الموقري، حدثنا الزهري، حدثتني أم عبد الله الدوسية، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام، وإن لم يكونوا إلا أربعة» .
قال الدارقطني: الوليد بن محمد متروك، ولا يصح هذا عن الزهري، كل ما رواه (3) عنه متروك (4) .
وأخرجه أيضا من طريقين آخرين، عن الزهري قال ابن حزم - بعد أن بين أنه لا يصح الاحتجاج به من جهة إسناده -: وأيضا فإن أبا حنيفة أول من يخالف \ هذا الخبر؛ لأنه لا يرى الجمعة في القرى، لكن في الأمصار فقط. [3 \ أ] .
وكل هذه آثار لا تصح، ثم لو صحت لما كان في شيء منها حجة؛ لأنه ليس في شيء منها إسقاط الجمعة عن أقل من العدد المذكور.
وقد روي حديث ساقط عن روح بن غطيف - وهو مجهول -: لما بلغوا مائتين جمع بهم النبي - صلى الله عليه وسلم.
فإن أخذوا بالأكثر فهذا الخبر هو الأكثر، وإن أخذوا بالأقل فسنذكر إن شاء الله حديثا فيه أقل. انتهى (5) .
__________
(1) (ط) الحسين. تحريف.
(2) ينظر: فتح القدير لابن الهمام 2 \ 60.
(3) في السنن من.
(4) الدارقطني في السنن 2 \ 8. قال ابن حجر في الدراية 1 \ 216: وإسناده واه جدا.
(5) ابن حزم، المحلى بالآثار 5 \ 70.(35/316)
القول الرابع: أنها تنعقد بثلاثة، اثنان يستمعان وواحد يخطب، وهو قول الأوزاعي. قاله في الشرح (1) .
قلت: وهو رواية عن أحمد، اختاره الشيخ تقي الدين بن تيمية - رحمه الله تعالى - (2) ، وهذا القول أقوى من كل ما قبله، واحتجوا بقوله تعالى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (3) قالوا: وهذا صيغة جمع، وأقل الجمع ثلاثة.
وبقوله - صلى الله عليه وسلم - «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم (4) » .
فأمر (5) - صلى الله عليه وسلم - بالإمامة، وهو عام في إمامة الصلوات (6) كلها: الجمعة والجماعة.
ولأن الأصل وجوب الجمعة على الجماعة المقيمين، وهؤلاء جماعة تجب عليهم الجمعة (7) ولا دليل على إسقاطها عنهم أصلا.
القول الخامس: أنها تنعقد باثني عشر رجلا، وهو قول ربيعة ومالك المشهور عنهما (8) ؛ لما «روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى مصعب بالمدينة، فأمره أن يصلي عند الزوال ركعتين وأن يخطب فيهما، فجمع مصعب بن عمير في بيت سعد بن خيثمة باثني عشر رجلا (9) » .
وعن جابر بن عبد الله، قال: «بينما نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبلت عير تحمل طعاما، فالتفتوا إليها حتى ما بقى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلا فنزلت هذه الآية: (11) »
__________
(1) ابن أبي عمر، الشرح الكبير 1 \ 469.
(2) الاختيارات للبعلي 145.
(3) سورة الجمعة الآية 9
(4) أخرجه مسلم في الصحيح رقم 672، وأحمد في المسند 3 \ 24، 48، من حديث أبي سعيد الخدري.
(5) (ط) : فأمرهم.
(6) (ط) الصلاة
(7) (ط) : الجمعة ساقطة.
(8) ينظر الخرشي على مختصر خليل 2 \ 76.
(9) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 3 \ 118.
(10) البخاري في الصحيح رقم 936، 2058، 2064، 4899، ومسلم والصحيح رقم 863، وأخرجه أحمد في المسند 3 \ 370.
(11) سورة الجمعة الآية 11 (10) {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}(35/317)
الآية (1) متفق عليه، واللفظ للبخاري.
وفي لفظ عند أبي نعيم \ في المستخرج: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. وهو ظاهر في أن انفضاضهم وقع بعد دخولهم في الصلاة، كما قاله الحافظ ابن حجر (2) .
[3 \ ب]
لكن الذي في صحيح مسلم، وغيره: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب. وعلى كلتا الروايتين، وجه الدلالة منه ظاهر؛ لأن العدد المعتبر في الابتداء معتبر في الدوام في الخطبة والصلاة. فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على الاثني عشر دل على أنه كاف.
وقد ترجم البخاري - رحمه الله - في الصحيح على هذا الحديث: باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة، فصلاة الإمام ومن بقي جائزة (3) .
قلت: ولا يخفى على منصف أن هذا الاستدلال أقوى من الاستدلال، أنها لا تنعقد إلا بأربعين؛ بأن أسعد بن زرارة جمع بالصحابة وهم أربعون رجلا.
لكن تعقب هذا الاستدلال: بأنه يحمل (4) أنه عليه السلام تمادى حتى عادوا، أو عاد من تجزي بهم، أو أنهم سمعوا أركان الخطبة، أو أنه أتمها ظهرا.
قلت: ولا يخفى ضعف هذا التعقب؛ لأنه دعوى بلا برهان، إذ لم ينقل أنهم عادوا وهو في الخطبة، ولا أنه عاد من تجزي بهم، ولا أنهم سمعوا أركان الخطبة. والأصل عدم العدد.
__________
(1) الآية ليست في (ط) .
(2) ابن حجر، فتح الباري 2 \ 423.
(3) ابن حجر، فتح الباري 2 \ 422.
(4) (ط) : يحتمل.(35/318)
ومثل هذه الاحتمالات لا تدفع بها الأحاديث الصحيحة، ولو فتح هذا الباب لما بقي لأحد حجة إلا القليل.
وسلم لكم أنهم عادوا لكن العدد المعتبر في الابتداء معتبر في الدوام عندكم، وقد عدم هنا في الدوام.
وأما كونه أتمها ظهرا: فمن أبطل الباطل؛ لأنه لا يخلو: إما أن يكون الانفضاض وقع وهو في الخطبة، أو وقع وهو في الصلاة فأتمها ظهرا بعد أن نوى جمعة.
وعلى كلا التقديرين: فهذا الاحتمال باطل. أما على الأول؛ فلأنه لو صلاها ظهرا لكان هذا من أشهر الأمور، ولنقل كما نقل حكمه فيما إذا اجتمع عيدان ونحو ذلك، فلما لم ينقل دل على أنه باطل لا أصل له. ولأنه لا يجوز - إذا قلتم باشتراط الأربعين - أن يعطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة بلا عذر، بل كان يأمرهم بردهم ويصلي بهم الجمعة، وهذا باطل قطعا. [4 \ أ]
وأما على الثاني: فباطل أيضا؛ لأنه لو أتمها ظهرا بعد أن دخلها بنية الجمعة لكان هذا من أشهر الأمور التي لا يجوز على الأمة ترك نقلها وحفظها، فلما لم ينقل دل على أنه باطل لا أصل له. .
فإن قيل: فقد روى الدارقطني، والبيهقي - في هذا الحديث - من طريق علي بن عاصم (1) ، عن حصين بن عبد الرحمن (2) ، عن سالم بن أبي الجعد (3) ، عن جابر بن عبد الله، قال: «بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلوا بالبقيع، فالتفتوا إليها وانفضوا إليها،
__________
(1) أبو الحسن أبو صهيب الواسطي التيمي مولاهم صدوق يخطئ ويصر ورمي بالتشييع ت201 تقريب 403.
(2) أبو الهذيل السلمي الكوفي، ثقة تغير حفظه في الآخر ت136 تقريب 170.
(3) ابن رافع الغطفاني الأشجعي مولاهم الكوفي، وكان يرسل كثيرا. ت98 تقريب 226.(35/319)
وتركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس معه إلا أربعون رجلا أنا فيهم (1) » . الحديث.
قيل: قال الدارقطني: لم يقل في هذا الإسناد إلا أربعون رجلا غير علي بن عاصم، عن حصين. وخالفه أصحاب حصين، فقالوا: لم يبق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلا.
وقال يعقوب بن شيبة: كان - رحمة الله علينا وعليه - من أهل الدين والصلاح والخير البارع، شديد التوقي، وللحديث آفات مفسدة (2) .
وقال صالح بن محمد: ليس هو عندي ممن يكذب ولكن يهم، وهو سيء الحفظ، كثير الوهم، يغلط في أحاديث يرفعها ويقلبها، وسائر حديثه صحيح مستقيم.
وقال زكريا الساجي: كان من أهل الصدق، ليس بالقوي في الحديث (3) وكان علي بن المديني إذا سئل عن علي بن عاصم، يقول: هو معروف في الحديث، وروى أحاديث منكرة.
وقال يحيى بن معين: ليس بشيء ولا يحتج به، روى أحاديث منكرة.
وقال أحمد بن زهير: قيل ليحيى بن معين: إن أحمد بن حنبل يقول: إن علي بن عاصم ليس بكذاب. قال: لا والله ما كان علي عنده ثقة قط، ولا حدث عنه بحرف قط، فكيف صار عنده \ اليوم ثقة.
[4 \ ب] .
وقال محمود بن غيلان: أسقطه أحمد، وابن معين، وأبو خيثمة (4) . وقال الذهبي في مختصر السنن: علي بن عاصم واه.
قلت: وبالجملة: فهو رجل صالح، ولكن كما قيل:
وللحديث رجال يعرفون به وللدواوين كتاب وحساب (5) .
__________
(1) الدارقطني في السنن 2 \ 4 والبيهقي في السنن الكبرى 3 \ 182.
(2) ينظر الذهبي، ميزان الاعتدال 3 \ 135.
(3) ينظر: ابن حجر، تهذيب التهذيب 7 \ 346-347
(4) ينظر: ابن حجر، تهذيب التهذيب 7 \ 347 - 348، وانظر مسائل صالح عن الإمام أحمد 3 \ 121.
(5) هكذا أورده المؤلف، والمشهور: وللحروب رجال. . . إلخ.(35/320)
فإن قيل: حديث جابر قد قيل: إنه كان لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقدم الصلاة - يوم الجمعة - على الخطبة، كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل، حيث قال: حدثنا محمود بن خالد، عن الوليد، أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف، أنه سمع مقاتل بن حيان، قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى إذا كان يوم والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب وقد صلى الجمعة فدخل رجل، فقال: إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارة - يعني فانفضوا - ولم يبق معه إلا نفر يسير (1) » .
قيل: الجواب من وجوه:
الأول: أنه لم يرد في الأحاديث الصحاح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة، إلا في هذا الحديث المعضل، فلا يثبت به شيء.
الثاني: أن بكير بن معروف (2) فيه مقال، فقال (3) فيه ابن المبارك: أرم (4) به، وقال أحمد بن حنبل - في رواية ابنه عبد الله -: ذاهب الحديث.
وقال - في رواية البخاري -: لا أرى به بأسا. ونحوه قول أبي حاتم والنسائي (5) .
وقال الذهبي في المغني: وهاه ابن المبارك. وقال ابن عدي: أرجو أن لا بأس به (6) .
الثالث: أن هذا معضل؛ لأن مقاتل بن حيان من أتباع التابعين، وبينه وبين العصر النبوي مفاوز.
__________
(1) أبو داود في كتاب المراسيل رقم 62.
(2) أبو معاذ الأسدي الدامغاني، قاضي نيسابور، ثم نزيل دمشق، صدوق فيه لين ت163، تقريب 128.
(3) (ط) : قال.
(4) الأصل أن. تحريف.
(5) ينظر ابن حجر، تهذيب التهذيب 1 \ 459.
(6) الذهبي، المغني في الضعفاء 1 \ 145، وانظر الكامل لابن عدي 2 \ 467.(35/321)
القول (1) السادس: أنه إذا كان واحد مع الإمام صليا الجمعة. وبه قال إبراهيم النخعي، والحسن بن صالح أصح بن حي (2) ، وداود، وأهل الظاهر (3) .
وحجة أهل هذا القول: أن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (4) .
فأمر الله المؤمنين عموما بالسعي إلى الجمعة بلفظ صالح للعموم، كما أمرهم بطاعته وطاعة رسوله، بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (5) .
[5 \ أ]
فالأمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها (6) عام، كما أن الأمر بطاعة الله ورسوله عام؛ إذ هما في اللفظ واحد. فلا يجوز أن يخرج (7) عن هذا الأمر، وعن هذا الحكم أحد إلا من جاء بنص جلي، أو إجماع متيقن على خروجه عنه، وليس ذلك إلا للفذ (8) وحده.
قالوا: ولأنه قد ثبت بالإجماع أنه لا بد الجمعة من عدد، فكان اثنين، لحديث مالك بن الحويرث - الذي في الصحيح - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا سافرتما فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما (9) » .
فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للاثنين حكم الجماعة في الصلاة، في الصلاة، فكذلك الجمعة.
قالوا: ولحديث طارق بن شهاب، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة (10) » الحديث.
__________
(1) (ط) : والقول.
(2) ابن شفي، الهمداني الثوري، ثقة فقيه عابد، رمي بالتشيع، ت 169، تقريب 161.
(3) ابن حزم، المحلى بالآثار 5 \ 69.
(4) سورة الجمعة الآية 9
(5) سورة النساء الآية 59
(6) (ط) : إليها.
(7) الأصل: تخرج.
(8) أي: المنفرد.
(9) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 630، 658، ومسلم في الصحيح رقم 674، والنسائي في المجتبى 2 \ 9، 21، 77، وابن ماجه في السنن رقم 966، وأحمد في المسند 3 \ 436، 5 \ 53.
(10) تقدم تخريجه.(35/322)
فأوجبها - صلى الله عليه وسلم - في الجماعة مطلقا من غير قيد بعدد من الأعداد، والمطلق - في كلام الشارع - محمول على المقيد. فنظرنا إلى لفظ الجماعة في لسان الشارع فوجدنا اثنين فأكثر، لحديث مالك بن الحويرث الذي تقدم.
ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «اثنان فما فوقهما جماعة (1) » رواه ابن ماجه، وابن عدي، والدارقطني، والبيهقي وضعفه، عن أبي موسى.
ورواه أحمد في مسنده، والطبراني، وابن عدي، عن أبي أمامة.
ورواه ابن سعد، والبغوي، وأبو منصور الباوردي (2) ، عن الحكم بن عمير.
ورواه الدارقطني من رواية عثمان بن عبد الرحمن المدني، عن أبيه، عن جده عمرو بن العاص (3) ، وعثمان بن عبد الرحمن هذا، قيل: لعله القاضي (4) ، تركوه.
وبالجملة: فهو بالنظر إلى كثرة طرقه، وروايته (5) تفيد الحديث قوة (6) على أنه ليس الاعتماد عليه وحده، بل على حديث مالك بن الحويرث السابق. وهذا القول كما ترى في القوة.
__________
(1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (972) .
(2) (ط) : الماوردي. تحريف.
(3) الدارقطني في السنن 1 \ 281، وفي الأفراد كما الفتح 2 \ 142.
(4) هكذا في الأصل و (ط) . والصواب: الوقاصي، كما سيأتي في التعليقة التالية.
(5) (ط) : ورواته.
(6) قال ابن حجر في فتح الباري 2 \ 142: وطرقه كلها ضعيفة.(35/323)
فإن قيل: لو كانت واجبة على الاثنين لفعل هذا في (1) وقت السلف.
قيل: ما أبعد هذا الاعتراض، فإن العادة أن القرى لا تبنى لاثنين ولا لثلاثة ونحوهم. فكون هذا لم يفعل في وقت السلف لا يدل على عدم الوجوب؛ لأنه إنما لم يفعل لتخلف سببه، وهو سكنى اثنين في قرية؛ لأن هذا لا يعهد.
وإنما \ نتكلم فيه على تقدير أن لو وجد هذا لكان هذا هو الحكم، لما [5 \ ب] . ذكرنا.
ولضعف هذا الاعتراض لم يلتفت إليه أحمد في رواية عنه، ولا شيخ الإسلام ابن تيمية في القول بوجوبها على ثلاثة، ولا كل من قال بوجوبها على ثلاثة، لعلمهم أن هذا اعتراض غير صحيح.
فإن قيل: الأصل براءة الذمة، فلا نشغلها إلا بدليل على شغلها.
قيل: صدقتم، كان الأصل براءة الذمة من صلاة الجماعة أصلا، فلما ورد الأمر بها كان الأصل الشغل فلا تنتقل (2) منه إلا بدليل يدل على إسقاط شغلها، ولا دليل على ذلك أصلا إلا في الواحد.
فإن قيل: هذا الدليل غير كاف في شغل الذمة. قيل: كون الوجوب هو الأصل كاف في شغلها، إذ لا ينتقل عنه إلا بدليل يدل على إسقاطها عمن دون الأربعين، ولا دليل على ذلك، فكيف إذا انضم إلى هذا الأصل ما ذكرنا من الأدلة.
وكم - بدون هذا الدليل - تشغلون الذمم، وتؤذون الأمم، كما أشغلتموها بإيجاب الجمعة على من كان بينه وبين موضع الجمعة فرسخ إذا كان خارج المصر ولا دليل على ذلك.
وكما أشغلتموها (3) بقراءة آية من القرآن في خطبتي الجمعة بغير دليل،
__________
(1) (ط) : في. ساقطة.
(2) (ط) ننتقل عنه.
(3) ما بينهما معلق وهامش الأصل وعليه كلمة صح.(35/324)
وكما أشغلتموها بأنه يحضر أربعون رجلا من أهل الجمعة الخطبة بغير دليل، وكما أشغلتموها بأنها لا تصح الخطبة قبل وقت الجمعة، وليس على ذلك دليل، وكما أشغلتموها بإيجاب الزكاة الباقلا والكراويا (1) والكمون والكسفر (2) وبذر الكتان والقثاء والخيار وحب الرشاد والفجل والقرطم (3) والترمس (4) والسمسم وأسقطتموها عن بزر الباذنجان والقت والجزر والسدر والأشنان (5) والخطمي (6) والصعتر (7) والآس ونحو ذلك.
فتارة تشغلونها بغير دليل، وتارة تبرؤنها بغير دليل.
وكما أشغلتموها فيما إذا كان عليه صوم من (8) رمضان، فأخر قضاءه من غير عذر إلى رمضان آخر أن عليه القضاء وإطعام مسكين لكل يوم، بغير دليل صحيح مع مخالفته لقول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (9) ثم قلتم: \ إن مات قبل أن يدركه رمضان آخر أطعم عنه لكل يوم مسكين. فأسقطتم عنه القضاء بغير دليل، وأشغلتم ذمته بالإطعام بغير دليل صحيح، مع مخالفته - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح «من مات وعليه صوم صام عنه وليه (10) » إلى غير ذلك. [6 \ أ]
وكما أشغلتموها بإيجاب الدم على من حلق ثلاث شعرات من رأسه أو نتفها من أنفه، أو قلم ثلاثة أظفار في الإحرام بغير دليل على ذلك. مما تشغلون به الذمم بغير دليل صحيح، مما لو تتبعناه لطال الكلام.
القول السابع: أنها تنعقد بستة، وهو قول ربيعة في رواية عنه، ولا
__________
(1) عشب ثمرته من الأفاوية تعرف ببزر الكرويا، يتخذ منه شراب منبه. المعجم الوسيط 2 \ 785.
(2) كذا في الأصل و (ط) ، ولعله الكزبر أو الكسبر، نوع من الأبازير. تاج العروس 14 \ 35.
(3) حب العصفر وهو نبت يهرئ اللحم الغليظ. ترتيب القاموس 3 \ 240، 596.
(4) حمل شجر له حب مضلع محزز. ترتيب القاموس 1 \ 367.
(5) مادة معروفة تستعمل مع الماء للاغتسال قديما كالصابون. ينظر ترتيب القاموس 1 \ 151
(6) نبات محلل منضج ملين ترتيب القاموس 2 \ 80.
(7) ويسمى السعتر، وهو نبات منه سهلى ومنه جبلي من الأبازير، تاج العروس 12 \ 340.
(8) (ط) : من. ساقطة.
(9) سورة البقرة الآية 184
(10) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 1952، ومسلم في الصحيح رقم 1147، وأبو داود في السنن رقم 2400، 3311، وأحمد في المسند 6 \ 69 من حديث عائشة.(35/325)
أدري ما وجهه، والمشهور عن ربيعة أنها تنعقد باثني عشر كما حكيناه عنه.
القول الثامن: أنها تنعقد بسبعة، وهو قول عكرمة، ورواية عن أحمد ذكرها ابن حامد وأبو الحسين في رءوس المسائل.
القول التاسع: أنها تنعقد بعشرين، رواه ابن حبيب عن مالك.
القول العاشر: أنها تنعقد بثلاثين، حكاه ابن حزم عن بعضهم.
القول الحادي عشر: أنها تنعقد بثمانين، حكاه الماوردي من (1) الشافعية.
القول الثاني عشر: أنها تنعقد بثلاثة من أهل القرى، وبأربعين من أهل الأمصار، وهذا رواية عن أحمد ذكرها ابن عقيل. قال صاحب الحاوي من الحنابلة وهو الأصح عندي.
وقيل فيها غير ذلك (2) .
واحتج من قال: إنها لا تنعقد إلا بحضور أربعين من أهل وجوبها: بما رواه الدارقطني والبيهقي، من طريق إسحاق بن خالد بن يزيد، حدثنا عبد العزيز بن عبد الرحمن، حدثنا خصيف، عن عطاء بن أبي رباح، عن جابر، قال: «مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما، وفي كل أربعين فصاعدا جمعة وأضحى وفطرا (3) » .
__________
(1) (ط) : عن تحريف.
(2) ينظر: ضوء الشمعة في عدد الجمعة للسيوطي (الحاوي 1 \ 66) .
(3) الدارقطني في السنن 2 \ 3، والبيهقي في السنن الكبرى 3 \ 177.(35/326)
قالوا: فهذا صريح في أنها تجب على الأربعين، فمفهومه أنها لا تجب على من دونهم.
قلنا: هذا حديث ساقط؛ لأنه من رواية عبد العزيز بن عبد الرحمن (1) ، وهو ضعيف، قال البيهقي: هذا حديث لا يحتج به (2) .
ثم لو صح فليس فيه حجة علينا؛ لأنا نقول \ بموجبه، وأيضا: فإن كان حجة في اشتراط الأربعين للجمعة فليكن حجة في الاشتراط للجماعة، ولا تقولون به. [6 \ ب]
قالوا: قد قال أبو داود في سننه: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وكان قائد أبيه بعدما ذهب بصره - عن أبيه كعب بن مالك: أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة، قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة، في نقيع يقال له: نقيع الخضمات.
قلت: كم أنتم يومئذ، قال: أربعون (3) ، وأخرجه ابن ماجه، وابن حبان، وابن خزيمة، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وقال: هذا حديث حسن الإسناد.
وصحح إسناده ابن المنذر، وابن حزم وغيرهم (4) .
__________
(1) البالسي القرشي. ينظر الضعفاء الكبير للعقيلي 3 \ 5، والكامل لابن عدي 5 \ 1927.
(2) وقال ابن حجر في الدراية 1 \ 216: إسناده ضعيف.
(3) سنن أبي داود رقم 1069.
(4) ابن حزم المحلى بالآثار 5 \ 70، وقال ابن حجر في الفتح 2 \ 355: إسناد حسن.(35/327)
قالوا: فوجه الدلالة منه، أن يقال: أجمعت الأمة على اشتراط العدد، ولا تصح الجمعة إلا بعدد يثبت فيه التوقيف، وقد ثبت جوازها بأربعين، فلا يجوز أقل منه إلا بدليل صحيح صريح (1) ، ولم يثبت - صلاته صلى الله عليه وسلم لها - بأقل من أربعين (2) قال البدر الزركشي: ووجهه بعضهم، بأن قال: هذه أول جمعة كانت في الإسلام، وكان فرضها نزل بمكة، وكان بالمدينة من المسلمين أربعون أو (3) أكثر ممن هاجر إليها، وأكثر ممن أسلم بها، ثم لم يصلوا سنتين كذلك حتى كان العدد أربعين؛ فدل على أنها لا تجب على أقل منهم.
والجواب من وجوه:
الأول: ما قاله ابن المنذر، وابن حزم وهذا لفظه: " أنه لا حجة في هذا؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: إنه لا تجوز الجمعة بأقل من هذا العدد (4) .
نعم، والجمعة واجبة بأربعين وبأكثر من أربعين، وأقل من أربعين.
الثاني: قوله: وقد ثبت جوازها بأربعين، فيقال: لم يثبت جوازها بأربعين من دليلكم هذا، كما ستعرف (5) إن شاء الله تعالى.
الثالث: \ قوله: " ولا تصح الجمعة إلا بعدد يثبت فيه التوقيف، [7 \ أ] ، دعوى مجردة، بل إذا ثبت اشتراط العدد لها ولم يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - عددا لها محصورا دل على جوازها (6) بأقل ما يكون من الإعداد إلا الواحد، للسنة والإجماع أنها لا تجب عليه.
__________
(1) (ط) : صريح. ساقطة.
(2) ينظر ضوء الشمعة للسيوطي (الحاوي 1 \ 68) .
(3) الأصل: و.
(4) ابن حزم، المحلى بالآثار 5 \ 71.
(5) (ط) : تعرف.
(6) الأصل: جوازه.(35/328)
الرابع: قوله: ولم يثبت صلاته صلى الله عليه وسلم لها بأقل من أربعين، إن أراد أنه لم يثبت صريحا أنه صلاها كاملة بدون الأربعين فهو كذلك.
وإن أراد أنه لم يثبت أنه صلاها بدون الأربعين - سواء كان نصا أو ظاهرا أو بعضها أو كلها (1) - فهذا يرده ما تقدم في حديث جابر، أخرجه البخاري: «بينما نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أقبلت عير تحمل طعاما فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا اثنا عشر رجلا (2) » الحديث.
وفي لفظ أبي نعيم في المستخرج: بينما نحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة. قال الحافظ ابن حجر: وهو ظاهر في أن انفضاضهم وقع بعد دخولهم في الصلاة (3) .
ومن وجه آخر: أن الذين اشترطوا الأربعين، يقولون: إن العدد المشترط في الابتداء مشترط في الدوام، فإذا كان كذلك - وهم قد انفضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة - سواء صلاها بمن بقي - كما فهم البخاري - أو عادوا فأتم بهم الصلاة أو كان انفضاضهم وقع في الخطبة، أيما كان فإنه يلزم على أصلهم هذا جوازها بدون الأربعين وإلا انتقض أصلهم.
والاحتمالات التي ذكروها في الجواب عن هذا الحديث كلها باطلة، وإنما هي رجم بالغيب.
الخامس: قول هذا الموجه: أن هذه أول جمعة كانت في الإسلام. ظن وتخمين، فقد ورد أن مصعب بن عمير صلاها باثني عشر، كما سيأتي إن شاء الله في المعارضة.
ولا منافاة بين قول كعب أن أسعد بن زرارة أول من جمع بهم (4) - وبين
__________
(1) (ط) : أو بعضها أو كلها.
(2) سبق تخريجه.
(3) ابن حجر، فتح الباري 2 \ 423.
(4) ما بينهما معلق في هامش الأصل، وعليه كلمة صح.(35/329)
قصة تجميع مصعب باثني عشر، فقد يحتمل أن يكون قول كعب أنه أول من جمع بهم، بمعنى: أنه لم يعلم أنه جمع بهم قبله، أو أنه أول من جمع بهم ظاهرا، أو أنه أول من أشار \ بالجمعة وكان ذلك باجتهاد منه رضي الله عنه [7 \ ب] ، فوفق لإصابة الحق في اختيار هذا اليوم، وأما اشتراط هذا العدد فليس في الحديث.
السادس: أن في كلام هذا الموجه ما يرد دعواه، وهو قوله: وكان بالمدينة أربعون أو أكثر ممن هاجر إليها. مع قوله: وكان فرضها نزل بمكة.
ووجه الرد، أن يقال: إذا كان في المدينة أكثر من الأربعين من المسلمين - أنت تزعم أنها فرضت بمكة - فلم أقاموا سنتين لم يصلوها على زعمك مع وجود العدد المشترط لها.
السابع: قوله: ثم لم يصلوا كذلك حتى كان العدد أربعين. فيقال: هذا الكلام يفهم أنهم قصدوا ألا يصلوها حتى يبلغ العدد أربعين. وهذا كذب على الصحابة، فمن قال: إنهم قصدوا ألا يصفوها حتى يبلغ (1) العدد أربعين. إنما كان فيه بعض دلالة لو ثبت أنهم قصدوا أن لا يصلوها حتى يبلغ العدد أربعين، فهذا يدل على أن هذا العدد وقع اتفاقا لا مشروطا، وهو واضح.
الثامن: لو ثبت أن هذه الجمعة التي صلاها الصحابة رضي الله عنهم فرض عليهم، وأن الأربعين شرط - لما ذكرتموه من هذا الحديث - لوجب على أنه يشترط (2) في الدوام ما يشزط ما بينها ساقط من (ط) . في الابتداء - أن يكون هذا الحديث منسوخا بحديث جابر الذي في قصة الانفضاض؛ لأن هذا قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وحديث جابر بعدما قدمها، سواء كان الانفضاض واقعا في الصلاة أو الخطبة، إذ لا بد عندكم أن يحضر العدد المشترط أركان الخطبة والصلاة، ولم يصح أنهم حضروا شيئا من ذلك.
التاسع: أنه لو ثبت أنهم قصدوا ألا يصلوها حتى يبلغ العدد أربعين لم
__________
(1) (ط) : كان.
(2) ما بينها ساقط من (ط) .(35/330)
يكن في ذلك حجة أيضا على أصلكم - أنه يشترط في الدوام ما يشترط في الابتداء؛ لأن غاية حديث كعب أن يكون من فعل الصحابة، وحديث جابر من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شك أن فعله أحق وأولى بالاتباع \ من فعل [8 \ أ] غيره. وهو ينقض عليكم دعواكم أنه يعتبر في الدوام ما يعتبر في الابتداء؛ لأنه لو كان كما قلتم لبطلت جمعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وحاشا لله من ذلك.
العاشر: المعارضة بما رواه أبو داود في مراسيله، عن الزهري: أن مصعب بن عمير حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، جمع بهم وهم اثنا عشر رجلا (1) .
وقد وصله الطبراني في كتاب الأوائل، من طريق صالح بن أبي الأخضر (2) ، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن عقبة بن عمرو (3) أبي مسعود الأنصاري، قال: أول من جمع بالمدينة - قبل أن يقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير، وهم اثنا عشر.
وصالح بن أبي الأخضر (4) وإن ضعفه الأكثر، فقد قال الإمام أحمد: يستدل به [و] (5) يعتبر به (6) . وقال الذهبي في الميزان: صالح الحديث (7) .
فقد علمت أنه ليس في حديثه ما يزك، بل يعتبر به. وإنما يزك حديثه إذا عارضه ما هو أصح منه، ولم يعارضه هنا معارض أصلا.
وحديث كعب لا يعارضه؛ لأن كعب بن مالك حكى ما شاهده وحفظه في الجمعة التي حضرها (8) وغيره حكى ما شاهده وحفظه في الجمعة التي حضرها فلا منافاة بينهما، وقد جمع بينهما البيهقي: بأن المراد بالانثي عشر
__________
(1) المراسيل رقم 53، وعنه البيهقي في السنن الكبرى 3 \ 179.
(2) البيمامي، مولى هشام بن عبد الملك نزل البصرة، ضعيف يعتبر به ت بعد المائة والأربعين. تقريب 271.
(3) (ط) : عامر. تحريف.
(4) الأصل و (ط) ابن الأخضر. تحريف.
(5) إضافة من التهذيب.
(6) ينظر: تهذيب التهذيب 4 \ 381.
(7) الذهبي، ميزان الاعتدال 2 \ 288.
(8) ما بينهما ساقط من الأصل، وهو انتقال نظر من الناسخ.(35/331)
النقباء الذين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صحبتهم، أو على أثرهم إلى المدينة ليقرئ المسلمين ويصلي بهم.
ولا يحفى تكلف هذا الجمع على أن كلام البيهقي هذا قد يدل على ثبوت هذا الحديث عنده أو حسنه وصلاحيته (1) للحجة، إذ لو لم يكن كذلك لما احتاج إلى الجمع بينهما، بل كان يكتفي بتضعيفه (2) عن الجمع بينهما وإن كان حديث كعب أصح إسنادا.
الحادي عشر: ما قاله الإمام الحافظ السهيلي: أن تجميع الصحابة كان قبل فرضها، وتسميتهم إياها بهذا الاسم كان عن هداية من الله تعالى لهم قبل أن يؤمروا بها، ثم نزلت سورة الجمعة بعد أن هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستقر فرضها (3) .
وهذا قول الأكثر من العلماء: أنه لم ينزل فرض الجمعة إلا بعد الهجرة إلى المدينة. \ كما حكاه في الفتح عن الأكثر، وحكى عن الشيخ أبي حامد، يعني الإسفرائيني (4) أنها فرضت بمكة. [8 \ ب]
قال الحافظ: وهو غريب (5) . كذا قال تلميذه الكوراني في شرحه للبخاري، بعد أن حكى قول أبي حامد. وهو غير ظاهر.
ثم ذكر السهيلي: عن الحافظ عبد بن حميد - شيخ مسلم، وأبي داود،
__________
(1) (ط) : وصلاحية. تحريف.
(2) (ط) : بضعفه.
(3) السهيلي، الروض الأنف 4 \ 100.
(4) أحمد بن محمد بن أحمد، حافظ فقيه، من كبار الشافعية ت 406 طبقات الشافعية 4 \ 61.
(5) ابن حجر، فتح الباري 2 \ 354.(35/332)
وصاحب المسند والتفسير (1) -: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل أن تنزل الجمعة، قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره - أو كما قال - فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى. فاجعلوا يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة.
فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ ركعتين، وسموه (2) الجمعة، حيث (3) اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا من شاته ليلتهم، فأنزل الله في ذلك بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ} (4) .
قلت: وقد أخرجه عبد الرزاق أيضا. وفي هذا دليل على أنهم كانوا عددا قليلا دون الأربعين، إذ لا يمكن في العادة أن يتغدى الأربعون ويتعشوا من شاة.
ويدل أنهم صلوا هذه الجمعة باجتهاد، فأصابوا الحديث الذي في الصحيح «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي أمروا به، فاختلفوا فيه فهدانا الله له (5) » الحديث.
فمرسل ابن سيرين مع هذا الحديث يدل على أن أولئك الصحابة فعلوه بالاجتهاد، واختاروا يوم الجمعة. ولا يمنع ذلك كون النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه بالوحي
__________
(1) أبو محمد بن نصر الكشي نسبة إلى بلد فيما وراء النهر، ثقة حافظ مفسر ت249 تذكرة الحفاظ 2 \ 534.
(2) الأصل و (ط) وسموا. والمثبت من الدر المنثور.
(3) (ط) والمثبت من الدر المنثور: حين.
(4) سورة الجمعة الآية 9
(5) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 238، 876، 896، 2956، 3486، 6624، 6887، 7036، 7495، ومسلم في الصحيح رقم 855، وأحمد في المسند 2 \ 243، 249، 274، 282، 312، 341، 473، 502، 504. من حديث أبي هريرة.(35/333)
وهو بمكة، ولم يتمكن من إقامتها؛ إن سلم أنها فرضت بمكة.
فعلى هذا: فقد حصلت الهداية بجهتي التوفيق والبيان، على أحد ما قيل \ في معنى قوله: فهدانا الله له (1) .
[9 \ أ]
قالوا: قد روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه «إذا اجتمع أربعون رجلا فعليهم الجمعة (2) » .
قلنا: هذا الحديث باطل لا أصل له، ولا يعرف في شيء من كتب الحديث (3) . ولو صح لما كان فيه حجة أصلا، لأنا نقول بموجبه.
قالوا: قال أبو أمامة رضي الله عنه: لا جمعة إلا بأربعين.
قلنا: دعوا (4) التشبث بالواهيات والأباطيل، فلا يعرف ذلك عن أبي أمامة أصلا، بل قد جاء عنه خلافه، كما تقدم من رواية الدارقطني. فإن كان هذا الحديث المنكر الذي لا يعرف أصلا حجة فلتكن الحجة بحديثه المنكر الساقط: على الخمسين جمعة ليس في ما دون ذلك. كما تقدم من رواية الدارقطني.
قالوا: التقدير بالثلاثة والأربعة والاثنان تحكم بالرأي فيما لا مدخل للرأي فيه؛ لأن التقدير بابه التوقيف.
قال لهم كل من قال بذلك: اشتراطكم الأربعين العقلاء الحاضرين الذكور الأحرار هو التحكم بالرأي فيما لا مدخل للرأي فيه، وهو إسقاطكم الجمعة عما دون الأربعين بعد أن أوجبها الله على عموم المؤمنين. فإن هذا هو التحكم بالرأي الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس صحيح.
__________
(1) ينظر: ابن حجر فتح الباري 2 \ 355 - 356.
(2) رواه سليمان بن طريف، عن مكحول، عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أورده الرافعي في الشرح الكبير كما في ضوء الشمعة للسيوطي (الحاوي 1 \ 71) .
(3) قال ابن الملقن في الخلاصة 1 \ 210: غريب. وقال ابن حجر في التلخيص 2 \ 56: لا أصل له.
(4) (ط) : دعوى. تحريف.(35/334)
ثم اشتراطكم كون الأربعين من أهل وجوبها تحكم ثان لا دليل عليه أصلا، لا (1) من كتاب ولا سنة ولا إجماع؛ لأن غاية ما معكم في اشتراط الأربعين حديث كعب، وقد تبين أنه ليس فيه دليل على اشتراط الأربعين.
ثم لو كان فيه دليل على الاشتراط لما كان فيه دليل على كونهم من أهل وجوبها، إذ ليس فيه إلا أنهم كانوا أربعين فقط، لا أنهم كانوا من أهل وجوبها ولا أنهم كانوا أحرارا كلهم، بل يحتمل أن يكون فيهم عبيد وصبيان.
فهذا هو التحكم المحض في دين الله تعالى بغير دليل.
وبما ذكرناه وقررناه يتبين للذكي المنصف \ طريق الصواب، والله يقول [9 \ ب] الحق، وهو يهدي السبيل.
هذا (2) آخره. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
__________
(1) (ط) : لا. ساقطة.
(2) ما بينهما في (ط) : والله أعلم، وصلى الله على محمد.(35/335)
صفحة فارغة(35/336)
من قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع
لرابطة العالم الإسلامي
القرار الثامن
بشأن تسجيل القرآن على شريط الكاسيت
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد.
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408هـ الموافق 17 أكتوبر 1987م إلى يوم الأربعاء 28 صفر 1408هـ الموافق 21 أكتوبر 1987م قد نظر في رسالة الشيخ محمود مختار بشأن تسجيل القرآن على شريط الكاسيت وأصدر القرار الآتي: -
إن ما يسجل على أشرطة الكاسيت هو القرآن نفسه متلوا بصوت القارئ الذي قرأه، وإن تسجيله جائز لا مخالفة فيه للشرع، وفوائده كثيرة منها استماع القرآن وتدبره وتعليم الناس تلاوته حق التلاوة وحفظه لمن أراد أن يحفظ شيئا منه.
ويحصل الثواب لمن استمع القرآن من هذا الشريط كما يحصل له إذا استمعه من القارئ نفسه، وتسجيل القرآن على الشريط من نعم الله تعالى؛ لما فيه من إذاعة القرآن الكريم بين المسلمين ليذكرهم بأحكام الإسلام وآدابه وغير المسلمين لعلهم يهتدون به.(35/337)
وليس تسجيل الأغاني على مثل هذا الشريط مانعا من تسجيل القرآن أو غاضا من شأنه، كما لا يغض من شأنه كتابته على الورق الذي قد تكتب عليه الأغاني، والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
[توقيع] ... [توقيع]
(نائب الرئيس) ... (رئيس مجلس المجمع)
د. عبد الله عمر نصيف ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد بن جبير ... د. بكر عبد الله أبو زيد ... عبد الله العبد الرحمن البسام
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان ... محمد بن عبد الله بن سبيل ... مصطفى أحمد الزرقاء
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد محمود الصواف ... أبو الحسن علي الحسني الندوي ... محمد رشيد راغب قباني
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد الشاذلي النيفر ... أبو بكر جومي ... د. أحمد فهمي أبو سنة
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد الحبيب بن الخوجة ... محمد سالم بن عبد الودود ... د. طلال عمر بافقيه (مقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي)
وقد تخلف عن الحضور في هذه الدورة كل من: فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، وفضيلة الشيخ صالح بن عثيمين، وفضيلة الشيخ عبد القدوس الهاشمي، ومعالي اللواء الركن محمود شيت خطاب، وفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف، وفضيلة الشيخ مبروك مسعود العوادي.(35/338)
من قرارات
مجلس مجمع الفقه الإسلامي التابع
لمنظمة المؤتمر الإسلامي قرار رقم (3) بشأن
زكاة الأسهم في الشركات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408هـ. الموافق 6 - 11 فبراير 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع " زكاة أسهم الشركات ".
قرر ما يلي:
أولا: تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه.
ثانيا: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد، وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي تجب فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص(35/339)
الطبيعي، وذلك أخذا بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال.
ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة، ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين.
ثالثا: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار؛ لأن الأصل في كيفية زكاة الأسهم.
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك:
فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة؛ لأنه يزكيها زكاة المستغلات وتمشيا مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع.
وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه، زكى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوق، زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر 2. 5 %. من تلك القيمة، ومن الربح إذا كان للأسهم ربح.
رابعا: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته. أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق.
والله أعلم.(35/340)
من قرارات هيئة كبار العلماء
قرار رقم 103 وتاريخ 28 \ 3 \ 1403هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وبعد.
ففي الدورة الحادية والعشرين لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض ابتداء من السابع عشر حتى الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول عام 1403هـ بحث المجلس موضوع استقدام العمال وتشغيلهم عند غير المستقدمين على أن يكون للمستقدم جزء مشاع من أجورهم أو مبلغ معلوم منها بناء على الأسئلة الكثيرة المتكررة التي ترد إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، واطلع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وبعد المناقشة وتداول الآراء قرر المجلس أن كل استخدام وتشغيل للمستقدمين يخالف ما أقرته الدولة للمصلحة العامة فهو ممنوع، وأن كل ما يأخذه المستقدمون من العمال مقابل تمكينهم من العمل عند غيرهم يعتبر محرما؛ لأن الكتاب والسنة قد دلا على وجوب طاعة ولي الأمر في المعروف، ولما يترتب على استخدام العمال على غير الوجه الذي استقدموا من أجله من الفساد الكبير والشر العظيم على المسلمين؛ فوجب منعه. هذا وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الرزاق عفيفي ... محمد الحركان لم يحضر الدورة لسفره ... عبد الله خياط لم يحضر الدورة لمرضه
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن صالح
عبد المجيد حسن ... راشد بن خنين ... محمد بن جبير
صالح بن لحيدان ... عبد الله بن غديان ... صالح بن غصون
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن منيع(35/341)
القرار الثالث
بشأن حكم نقل الدم من امرأة إلى طفل دون سن الحولين
هل يأخذ حكم الرضاع المحرم أو لا؟
وهل يجوز أخذ العوض عن هذا الدم أو لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد.
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409هـ الموافق 19 فبراير 1989م إلى يوم الأحد 20 رجب 1409هـ الموافق 26 فبراير 1989م قد نظر في الموضوع الخاص بنقل الدم من امرأة إلى طفل دون سن الحولين هل يأخذ حكم الرضاع المحرم أو لا؟ وهل يجوز أخذ العوض عن هذا الدم أو لا؟
وبعد مناقشات من أعضاء المجلس انتهى بإجماع الآراء إلى أن نقل الدم لا يحصل به التحريم، وإن التحريم خاص بالرضاع.
أما حكم أخذ العوض عن الدم وبعبارة أخرى: بيع الدم فقد رأى المجلس أنه لا يجوز؛ لأنه من المحرمات المنصوص عليها في القرآن الكريم مع الميتة ولحم الخنزير، فلا يجوز بيعه وأخذ عوض عنه، وقد صح في الحديث «إن الله تعالى إذا حرم شيئا حرم ثمنه (1) » كما صح أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الدم، ويستثنى من ذلك حالات الضرورة إليه للأغراض الطبية ولا يوجد من يتبرع به إلا بعوض، فإن الضرورات تبيح المحظورات بقدر ما ترفع الضرورة وعندئذ
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3488) ، مسند أحمد بن حنبل (1/247) .(35/343)
يحل للمشتري دفع العوض ويكون الإثم على الآخذ. ولا مانع من إعطاء المال على سبيل الهبة أو المكافأة تشجيعا على القيام بهذا العمل الإنساني الخيري؛ لأنه يكون من باب التبرعات لا من باب المعاوضات.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد الله رب العالمين.
أسماء الأعضاء
[توقيع] ... [توقيع]
نائب الرئيس ... رئيس مجلس المجمع الفقهي الإسلامي
د. عبد الله عمر نصيف ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد بن جبير ... د. بكر عبد الله أبو زيد ... عبد الله العبد الرحمن البسام
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان ... محمد بن عبد الله السبيل ... مصطفى أحمد الزرقا
[توقيع] ... [توقيع]
د. يوسف القرضاوي ... د. محمد رشيد راغب القباني
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد الشاذلي النيفر ... أبو بكر جومي ... د. أحمد فهمي أبو سنة
[توقيع] ... [توقيع]
د. محمد الحبيب بن الخوجة ... محمد سالم عدود
[توقيع] ... [توقيع]
محمد محمود الصواف ... د. طلال عمر بافقيه (مقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي)(35/344)
نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه ويطلع عليه من إخواني المسلمين، وفقني الله وإياهم لما يرضيه، وجنبني وإياهم مساخطه ومعاصيه، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد.
فإن وصيتي لكل مسلم تقوى الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال وأن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاما ظهرت فيه المصلحة؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه. وذلك كثير بين الناس، قال سبحانه وتعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (1) ، وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (2) ، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت (3) » .
وهناك أشياء قد يجرها الكلام ينبغي التنبيه عليها والتحذير منها؛ لكونها من الكبائر التي توجب غضب الله وأليم عقابه، وقد فشت في بعض المجتمعات من هذه الأشياء:
1 - الغيبة:
وهي ذكرك أخاك بما يكره لو بلغه ذلك، سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو خلقه أو فعله أو قوله أو في دينه أو دنياه، بل وحتى في ثوبه وداره ودابته؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون ما الغيبة
__________
(1) سورة ق الآية 18
(2) سورة الإسراء الآية 36
(3) صحيح البخاري الأدب (6018) ، صحيح مسلم الإيمان (47) ، مسند أحمد بن حنبل (2/267) .(35/345)
قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قال: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته (1) » رواه مسلم.
والغيبة محرمة لأي سبب من الأسباب سواء كانت لشفاء غيظ أو مجاملة للجلساء ومساعدتهم على الكلام، أو لإرادة التصنع أو الحسد أو اللعب أو الهزل وتمشية الوقت، فيذكر عيوب غيره بما يضحك. وقد نهى الله سبحانه وتعالى عنها، وحذر منها عباده في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (2) .
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه (3) » رواه مسلم. وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته في حجة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت (4) » رواه البخاري ومسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه (5) » رواه البزار وأبو داود. والأحاديث الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريم الغيبة وذمها، والتحذير منها كثيرة جدا.
2 - مما ينبغي اجتنابه والابتعاد عنه والتحذير منه (النميمة) التي هي نقل الكلام من شخص إلى آخر. أو من جماعة إلى جماعة، أو من قبيلة إلى قبيلة لقصد الإفساد والوقيعة بينهم، وهي كشف ما يكره كشفه سواء أكره المنقول عنه أو المنقول إليه. أو كره ثالث، وسواء أكان ذلك الكشف بالقول أو الكتابة أو الرمز أو بالإيماء، وسواء أكان المنقول من الأقوال أو الأعمال، وسواء كان ذلك عيبا أو نقصا في المنقول عنه أو لم يكن. فيجب أن يسكت الإنسان عن كل ما يراه من أحوال الناس إلا ما في حكايته منفعة لمسلم أو دفع لشر.
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2589) ، سنن الترمذي البر والصلة (1934) ، سنن أبو داود الأدب (4874) ، مسند أحمد بن حنبل (2/458) ، سنن الدارمي الرقاق (2714) .
(2) سورة الحجرات الآية 12
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .
(4) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(5) سنن أبو داود الأدب (4876) ، مسند أحمد بن حنبل (1/190) .(35/346)
والباعث عن النميمة إما إرادة السوء للمحكى عنه، أو إظهار الحب للمحكي عليه، أو الاستمتاع بالحديث والخوض في الفضول والباطل، وكل هذا حرام وكل من حملت إليه النميمة بأي نوع من أنواعها فيجب عليه عدم التصديق؛ لأن النمام يعتبر فاسقا مردود الشهادة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} (1) وعليه أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبح فعله لقوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) ، وأن يبغضه في الله، وألا يظن بأخيه المنقول عنه السوء بل يظن به خيرا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (3) ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث (4) » متفق على صحته.
وعليه ألا يتجسس على من حكى له عنه وألا يرضى لنفسه ما نهى عنه النمام، فيحكي النميمة التي وصلته.
وأدلة تحريم النميمة كثيرة من الكتاب والسنة منها قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} (5) {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (6) ، وقوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} (7) . وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يدخل الجنة نمام (8) » متفق عليه. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا أنبئكم ما العضة؟ هي النميمة القالة بين الناس (9) » رواه مسلم، والنميمة من الأسباب التي توجب عذاب القبر؛ لما روى ابن عباس رضي الله عنهما: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقبرين فقال: إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى. كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة (10) » متفق عليه. وإنما حرمت الغيبة والنميمة لما
__________
(1) سورة الحجرات الآية 6
(2) سورة لقمان الآية 17
(3) سورة الحجرات الآية 12
(4) صحيح البخاري النكاح (5144) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2563) ، سنن الترمذي البر والصلة (1988) ، مسند أحمد بن حنبل (2/465) ، موطأ مالك الجامع (1684) .
(5) سورة القلم الآية 10
(6) سورة القلم الآية 11
(7) سورة الهمزة الآية 1
(8) صحيح مسلم الإيمان (105) ، مسند أحمد بن حنبل (5/391) .
(9) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2606) ، مسند أحمد بن حنبل (1/437) .
(10) صحيح البخاري الوضوء (216) ، صحيح مسلم الطهارة (292) ، سنن الترمذي الطهارة (70) ، سنن النسائي الجنائز (2068) ، سنن أبو داود الطهارة (20) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (347) ، مسند أحمد بن حنبل (1/225) ، سنن الدارمي الطهارة (739) .(35/347)
فيهما من السعي بالإفساد بين الناس وإيجاد الشقاق والفوضى، وإيقاد نار العداوة والغل والحسد والنفاق، وإزالة كل مودة وإماتة كل محبة بالتفريق والخصام والتنافر بين الإخوة المتصافين؛ ولما فيهما أيضا من الكذب والغدر والخيانة والخديعة، وكيل التهم جزافا للأبرياء وإرخاء العنان للسب والشتائم، وذكر القبائح ولأنهما من عناوين الجبن والدناءة والضعف هذا، إضافة إلى أن أصحابهما يتحملون ذنوبا كثيرة تجر إلى غضب الله وسخطه وأليم عقابه.
3 - ومما يجب اجتنابه والبعد عنه الخصلة الذميمة ألا وهي الحسد، وهي أن يتمنى الإنسان زوال النعمة عن أخيه في الله سبحانه، سواء أكانت نعمة دين أو دنيا. وهذا اعتراض على ما قضاه الله وقسمه بين عباده وتفضل به عليهم، وظلم من الحاسد لنفسه؛ فينقص إيمانه بذلك، ويجلب المصائب والهموم لنفسه، ويفتك بها فتكا ذريعا. قال سبحانه وتعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تناجشوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا (2) » رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب (3) » رواه أبو داود.
4 - كما أنه ينبغي الابتعاد عن الظلم وهو الجور ووضع الشيء في غير موضعه الشرعي، وأكبره الشرك بالله سبحانه وتعالى ومبارزته بالمخالفة والمعصية، قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (4) ، وقال عز وجل: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (5) وكذا أخذ مال الغير بغير حق، أو اغتصاب شيء من أرضه أو الاعتداء عليه. وهو أيضا كبيرة من الكبائر، ومعصية لله، وهو والعياذ بالله ناشئ عن ظلمة في القلب؛ لأنه لو استنار قلبه
__________
(1) سورة النساء الآية 54
(2) صحيح البخاري الأدب (6066) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2563) ، مسند أحمد بن حنبل (2/394) ، موطأ مالك الجامع (1684) .
(3) سنن أبو داود الأدب (4903) .
(4) سورة لقمان الآية 13
(5) سورة البقرة الآية 254(35/348)
بنور الهدى لاعتبر قال الله سبحانه وتعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} (1) ، وقال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} (2) ، وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (3) ، وقال تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} (4) ، وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يقول الله تعالى: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (5) » الحديث. وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة (6) » الحديث. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه (7) » متفق عليه. وهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل على وجوب الحذر من الظلم في الأنفس والأعراض والأموال لما في ذلك من الشر العظيم، والفساد الكبير، والعواقب الوخيمة، كما تدل على وجوب التوبة إلى الله سبحانه مما سلف من ذلك، والتواصي بترك ما حرم الله من الظلم وغيره من سائر المعاصي.
وفقني الله وإياكم لمحاسن الأخلاق وصالح الأعمال، وجنبنا مساوئ الأخلاق ومنكرات الأعمال، وهدانا صراطه المستقيم، إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
__________
(1) سورة غافر الآية 18
(2) سورة الحج الآية 71
(3) سورة إبراهيم الآية 42
(4) سورة الفرقان الآية 19
(5) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2495) ، سنن ابن ماجه الزهد (4257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/154) ، سنن الدارمي الرقاق (2788) .
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2578) ، مسند أحمد بن حنبل (3/323) .
(7) صحيح البخاري الإيمان (10) ، صحيح مسلم الإيمان (40) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4996) ، سنن أبو داود الجهاد (2481) ، مسند أحمد بن حنبل (2/160) ، سنن الدارمي الرقاق (2716) .(35/349)
حديث شريف
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله تعالى، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (1) »
متفق عليه.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1423) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، موطأ مالك الجامع (1777) .(35/350)
تصحيح خطأ
ورد في العدد 31ص 215 في بحث: " الفقيه المفتي زيد بن ثابت " للدكتور محمد رواس قلعه جي أن عمر بن الخطاب يرى أن القرء المذكور في الآية الكريمة {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) هو الطهر، والصحيح أن عمر رضي الله عنه يرى أن القرء المذكور هو الحيض؛ لذا جرى التنبيه.
" إدارة المجلة "
__________
(1) سورة البقرة الآية 228(35/351)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًّا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} (1)
(سورة النساء، الآية 92)
__________
(1) سورة النساء الآية 92(36/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(36/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(36/3)
المحتويات
الافتتاحية:
وجوب عبادة الله وتقواه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة:
مقدار دية الكفار من غير الكتابيين اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 21
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 65
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 121(36/4)
البحوث:
بحث في الوعد وحكم الإلزام بالوفاء به ديانة وقضاء فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع 129
الدعوة إلى الله.. منهجها ومقوماتها د. محمد بن أحمد الصالح 163
أهمية الوقف وحكمة مشروعيته د. عبد الله بن أحمد الزيد 179
تعدد الزوجات في الإسلام د. محمد بن مسفر بن حسين الزهراني 227
سجود الشكر وأحكامه في الفقه الإسلامي د. عبد الله بن عبد العزيز الجبرين 267
الإيمان باليوم الآخر أدلته وأثره في حياة الإنسان د. أحمد محمد أحمد جلي 311
إيضاح البيان عن معنى أم القرآن د. علي حسين البواب 335
إثبات أن المحسن اسم من أسماء الله الحسنى د. عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر 363
تنبيه على نشرة مكذوبة يروجها بعض الجهلة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 377(36/5)
صفحة فارغة(36/6)
الافتتاحية
وجوب عبادة الله وتقواه (1)
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد. .
فإنني أشكر الله عز وجل على ما من به من هذا اللقاء بإخوة في الله وأخوات في الله للتواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى والتناصح في الله، وبيان ما خلقنا سبحانه وتعالى لأجله وما أرسل الرسل من أجله حتى نكون على بينة وبصيرة مما خلقنا له مما يجب علينا في هذه الحياة حتى نلقى ربنا عز وجل، وأسأله سبحانه أن يجعله لقاء مباركا وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يمنحنا الفقه في الدين والثبات عليه وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يوفق ولاة أمرنا لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد وسعادة الدنيا والآخرة، ثم أشكر أخي سعادة مدير مستشفى الملك فيصل بالطائف الدكتور طه الخطيب على دعوته لي لهذا اللقاء، وأسأل الله أن يبارك فيه والعاملين معه وأن يعين الجميع على ما فيه صلاح أمر الدين والدنيا وعلى كل ما فيه نفع إخواننا المرضى من الرجال والنساء وأن ينفع بجهود الجميع ويكللها بالنجاح، ثم أقول: إن عنوان كلمتي " وجوب عبادة الله وتقواه " وتفاصيل هذا الواجب من جهة الأوامر والنواهي يقول الله عز وجل في كتابه العظيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2)
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحة الشيخ في مستشفى الملك فيصل بالطائف في محرم عام 1410 هـ
(2) سورة البقرة الآية 21(36/7)
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) ، ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (3) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (4) ، ويقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (5) ، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (6) .
والآيات في هذا المعنى كثيرة في كتاب الله عز وجل وقد أرسل سبحانه الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم نوح إلى آخرهم وخاتمهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، أرسلهم جميعا ليدعوا الناس إلى توحيد الله وطاعته وتقواه ولينذروهم الشرك به وعبادة غيره ومعصية أوامره، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (7) ، ويقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (8) .
فالله سبحانه خلقنا جميعا رجالا ونساء، جنا وإنسا، حكاما ومحكومين، عربا وعجما لنعبد الله وحده ونتقيه سبحانه فيما نأتي ونذر، ونحاسب أنفسنا في ذلك حتى نستقيم على توحيد الله وطاعته والمسارعة إلى ما أوجب علينا وترك ما نهانا عنه سبحانه وتعالى، فالواجب على كل ذكر وأنثى من المكلفين أن يعبد الله ويتقيه سبحانه وتعالى أين ما كان لأنه خلق لهذا الأمر وأمر به من جهة الله سبحانه في كتبه ثم من جهة الرسل عليهم الصلاة والسلام، فعلى جميع المكلفين
__________
(1) سورة النساء الآية 1
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة الذاريات الآية 57
(4) سورة الذاريات الآية 58
(5) سورة الحج الآية 1
(6) سورة الحجرات الآية 13
(7) سورة النحل الآية 36
(8) سورة الأنبياء الآية 25(36/8)
من ذكور وإناث، وعرب وعجم، وجن وإنس أن يعبدوا الله ويتقوه ويلتزموا بالإسلام.
كما أن على المسلمين الذين من الله عليهم بالإسلام أن يستقيموا على دينهم، وأن يثبتوا عليه وأن يتفقهوا فيه حتى يؤدوا ما أوجب الله عليهم على بصيرة وحتى يتركوا ما حرم الله عليهم على بصيرة.
وعلى أهل العلم أين ما كانوا أن يدعوا إلى الله وأن يفقهوا الناس في دين الله؛ لأنهم خلفاء الرسل عليهم الصلاة والسلام والرسل بعثوا ليعلموا الناس ويرشدوهم ويدعوهم إلى الحق وينذروهم من الشرك بالله ومن سائر المعاصي، وعلى علماء الإسلام أين ما كانوا في جميع أقطار الأرض عليهم أن يعلموا الناس وأن يبلغوا الناس دينهم، وأن يشرحوا لهم ما قد يخفى عليهم طاعة لله ولرسوله وأداء لواجب النصيحة، وتبليغا لرسالة الله التي بعث بها نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام، وعلى المدعوين المبلغين أن يستجيبوا لأمر الله ورسوله وأن يتفقهوا في دينهم ويسألوا عما أشكل عليهم وأن يعبدوا الله وحده بالإخلاص له سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (1) ، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) ، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (3) ، ويقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) ، فالجميع خلقوا لهذا الأمر وأمروا به من جهة الله ومن جهة الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه الله بلغ الناس وقال: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا (5) » ، ودعا قومه قبل كل أحد دعاهم إلى أن يعبدوا الله وأن يدعوا الشرك الذي كانوا عليه من عبادة الأصنام والأشجار
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة الذاريات الآية 56
(5) مسند أحمد بن حنبل (3/492) .(36/9)
والأحجار والأموات والكواكب وغير ذلك، وأن يخصوا الله بالعبادة بدعائهم واستغاثتهم ونذرهم وذبحهم وصلاتهم وصومهم وغير هذا من عباداتهم، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (1) ، وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (2) ، وقال عز وجل {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (3) ، وقال جل وعلا: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (4) ، وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (5) ، فالواجب على جميع المكلفين من الرجال والنساء من الجن والإنس، من الحكام والمحكومين، من العرب والعجم أن يعبدوا الله وحده وأن يستقيموا على معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود بحق إلا الله وهو معنى قوله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (6) ، وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (7) ، هذا هو الواجب على جميع المكلفين في سائر الأرض من جن وإنس من الرجال والنساء أن يعبدوا الله وحده، وهذا هو أصل دين الإسلام لأن أصل دين الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والإخلاص وترك الشرك والانقياد له بالطاعة، وذلك بفعل الأوامر وترك النواهي، هذا هو معنى الإسلام قال الله سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (8) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (9) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الجن الآية 18
(3) سورة المؤمنون الآية 117
(4) سورة غافر الآية 60
(5) سورة البقرة الآية 186
(6) سورة البينة الآية 5
(7) سورة الفاتحة الآية 5
(8) سورة آل عمران الآية 19
(9) سورة آل عمران الآية 85(36/10)
ويقول جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) نزلت هذه الآية يوم عرفة والنبي واقف بعرفة عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع بين الله سبحانه فيها أنه أكمل الدين وأتم النعمة وأنه رضي لعباده الإسلام، وهو توحيد الله والإخلاص له والذل بين يديه والانقياد لأوامره وترك مناهيه سبحانه وتعالى، وعلى رأس ذلك إخلاص العبادة لله وحده وترك الإشراك به كما هو معنى لا إله إلا الله كما تقدم، إذ معناها لا معبود حق إلا الله وهو معنى قوله سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2) ، وهو معنى قوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (3) ، وقوله سبحانه {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (4) ، وقوله عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (5) {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} (6) ، وهو معنى قوله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (7) .
ولا بد من الالتزام بهذا الأصل وهو توحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به مع استقامة العبد على فعل بقية الأوامر وترك النواهي، ومن ذلك الالتزام ببقية أركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فإن الإسلام بني على خمسة أركان أولها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فيشهد العبد أنه لا معبود حق إلا الله ويلتزم بذلك فيعبد الله وحده دون كل ما سواه، ويدع الإشراك به ويلتزم باتباع محمد عليه الصلاة والسلام والإيمان به والشهادة بأنه رسول الله أرسله الله إلى الثقلين الجن والإنس وأنه خاتم الأنبياء، وأنه تجب محبته فوق محبة النفس وفوق محبة كل أحد من الخلق، وتجب طاعته
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة البقرة الآية 256
(3) سورة الإسراء الآية 23
(4) سورة النساء الآية 36
(5) سورة الزمر الآية 2
(6) سورة الزمر الآية 3
(7) سورة الحج الآية 62(36/11)
واتباع شريعته والالتزام بذلك كما قال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدونَ} (1) ، وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2) ، والمعنى قل يا أيها الرسول للناس إن كنتم تحبون الله صادقين فاتبعوني يحببكم الله، فمن أحب الله صادقا وأحب رسوله صادقا فالواجب عليه اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به من فعل الأوامر وترك النواهي، وعلى رأسها توحيد الله والإخلاص له وترك الإشراك به ثم إقام الصلوات الخمس والمحافظة عليها في أوقاتها، الرجل يؤديها في الجماعة والمرأة تؤديها في بيتها كما أمر الله بذلك بخشوع واستقامة وطمأنينة في قيامها وركوعها وسجودها وبين السجدتين، وحين الارتفاع من الركوع يؤديها المؤمن والمؤمنة كما أمر الله.
وفي الصحيحين «أن رجلا دخل المسجد - مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة - والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس في أصحابه فصلى ولم يتم صلاته ثم جاء فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه السلام عليه الصلاة والسلام، وقال له عليه الصلاة والسلام ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع فصلى كما صلى فعلها ثلاث مرات، كلما جاء سلم ورد عليه النبي السلام وقال له ارجع فصل فإنك لم تصل، فقال الرجل في الثالثة والذي بعثك بالحق نبيا ما أحسن غير هذا فعلمني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن (3) » ، وفي اللفظ الآخر، «ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها (4) » فبين - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل المسيء صلاته كيفية الصلاة التي شرعها الله لعباده وأمره أن يلتزم بذلك، وفي هذا الحديث العظيم بيان أن الطمأنينة
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) صحيح البخاري الاستئذان (6251) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي الصلاة (303) ، سنن النسائي الافتتاح (884) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .
(4) صحيح البخاري الاستئذان (6251) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي كتاب الصلاة (302) ، سنن النسائي كتاب التطبيق (1136) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (4/340) ، سنن الدارمي الصلاة (1329) .(36/12)
في الصلاة لا بد منها وأن من لم يطمئن فلا صلاة له، ولا فرق في ذلك بين صلاة الفرض والنفل، لكن صلاة الفرض أهم وأعظم، فالواجب على جميع المسلمين من الرجال والنساء أن يصلوا كما أمر الله ورسوله والله سبحانه يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (1) يعني أدوها قائمة تامة، وأن يؤدوا الزكاة كما أمر الله في قوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} (2) ، وعلى الجميع أن يتفقهوا في ذلك ويسألوا أهل العلم عما أشكل عليهم.
وعلى الجميع صوم رمضان في كل سنة وهو ركن من أركان الإسلام الخمسة، وعلى الجميع أيضا حج بيت الله الحرام مرة في العمر على الرجال والنساء إذا استطاعوا ذلك لقول الله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (3) .
وعلى جميع المكلفين أيضا القيام بأوامر الله الأخرى من بر الوالدين وصلة الرحم وصدق الحديث وأداء الأمانة، وترك ما حرم الله من سائر المعاصي من الزنا وشرب المسكرات وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وأكل الربا والخيانة في الأمانة وشهادة الزور وغير هذا مما نهى الله عنه ورسوله. على جميع المكلفين أن يلتزموا بأركان الإسلام التي أعظمها توحيد الله والإخلاص له، وترك الإشراك به، وعليهم جميعا أن يلتزموا بأوامر الله وترك نواهيه سبحانه وتعالى، ومن ذلك التزام المؤمنات بالحجاب الشرعي عن الرجال وعدم الاختلاط بهم، بل يجب أن يكون الرجال من الأطباء والممرضين للرجال وأن تكون الطبيبات والممرضات من النساء للنساء. هكذا يجب: الطبيبات للمرضى من النساء، والأطباء من الرجال للمرضى من الرجال. والكتاب من الرجال للرجال والكاتبات من النساء للنساء، حتى لا يختلط هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء لما في الاختلاط من الفتنة والخطر العظيم، يقول النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (4) » يعني
__________
(1) سورة البقرة الآية 43
(2) سورة البقرة الآية 110
(3) سورة آل عمران الآية 97
(4) صحيح البخاري النكاح (5096) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2741) ، سنن الترمذي الأدب (2780) ، سنن ابن ماجه الفتن (3998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/210) .(36/13)
عند الاختلاط وعدم الحذر، ويقول عليه الصلاة والسلام: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (1) » ، فالمرأة عند بروزها للرجل متزينة متكحلة قد تعاطت ما يسبب الفتنة، فيكون في ذلك خطر عظيم عليها وعلى الرجل، وهكذا الرجل عند اختلاطه بالنساء، فالمريضة من النساء تعالجها المرأة والمريض يعالجه الرجل هكذا يجب، وقد صدر في هذا تعليمات من ولي الأمر، فالواجب الالتزام بذلك إلا عند الضرورة القصوى إذا وجد مرض لا يفهمه إلا رجل جاز عند الضرورة أن يعالج المرأة، أو مرض لا يفهمه إلا المرأة ولم يوجد رجل يفهمه فإن المرأة تعالجه عند الضرورة مع العناية بالحشمة وعدم الخلوة. والمقصود أن هذا أمر يتعلق بالمستشفيات جميعا ووصيتي لهذا المستشفى وللقائمين عليه من الأطباء والطبيبات، ومن العاملين والعاملات وعلى رأس الجميع المدير، وصيتي للجميع الالتزام بأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والتعاون على البر والتقوى وأن يختص الرجال بالرجال والنساء بالنساء في الطب والتمريض والأعمال الكتابية وغير ذلك، حتى يتميز هؤلاء عن هؤلاء وحتى يبتعد الجميع عن أسباب الفتنة والخلوة المحرمة إلى غير ذلك مما قد يقع من الفتن بأسباب الاختلاط، ثم فوق ذلك كله العناية بأمر الله الذي خلقنا له، فقد عرفتم جميعا أننا خلقنا لأمر عظيم وهو القيام بعبادة الله وتقواه، فلم نخلق للأكل والشرب والجماع والتلذذ بمباهج الحياة، ولكن خلقنا لنعبد الله وحده ونتقيه سبحانه وتعالى بفعل الأوامر وترك النواهي عن إيمان به سبحانه وإخلاص له.
وخلق لنا سبحانه هذه الأشياء التي بين أيدينا نستمتع بها من الملابس والمساكن والمراكب والمآكل والمشارب وغير ذلك، لا لنشغل بها عن طاعة الله ولكن لنستعين بها على طاعة الله وتقواه، كما قال جل وعلا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (2) خلق لنا ما في الأرض من مآكل ومشارب
__________
(1) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) ، مسند أحمد بن حنبل (3/61) .
(2) سورة البقرة الآية 29(36/14)
ومراكب ومساكن إلى غير ذلك من النعم، وقال الله سبحانه وتعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (1) . سخر لنا سبحانه ما في السماوات والأرض من الأمطار والنجوم والشمس والقمر ومما في الأرض من النعم، وما ينزله علينا جل وعلا من السماء من رزق، كل ذلك من رحمته لنا وإحسانه إلينا جل وعلا.
فالواجب علينا أن نشكره سبحانه والشكر يكون بطاعة الأوامر وترك النواهي لا بمجرد الكلام؛ لأن الشكر يكون بالكلام وبالفعل وبالقلب، قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} (2) ، وقال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (3) . قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (4) ، فالشكر يكون بالقلب واللسان والعمل كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجب
فالنعمة تشكر باليد وباللسان وبالقلب يشكر الله بمحبته وتعظيمه والإخلاص له في جميع العبادات وفي جميع الطاعات له سبحانه وتعالى، فلا نعبد معه سواه جل وعلا ونشكره بالكلام بحمده والثناء عليه والدعوة إلى سبيله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر ما شرع الله من الكلام، ونشكره بالفعل بأداء الواجبات من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك، وترك ما نهى عنه من المحرمات القولية والفعلية هكذا يكون الشكر منا لربنا سبحانه وتعالى، فوصيتي لنفسي وللحاضرين جميعا من أطباء وطبيبات وممرضين وممرضات ومرضى وإخواني الحضور وجميع المسئولين وصيتي للجميع أن نتقي الله في السر والعلن؛ لأنه القائل سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} (5) ، وهو القائل عز وجل
__________
(1) سورة الجاثية الآية 13
(2) سورة سبأ الآية 13
(3) سورة البقرة الآية 152
(4) سورة إبراهيم الآية 7
(5) سورة البقرة الآية 197(36/15)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (1) ، وهو القائل عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (2) ، وهو القائل سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (4) ، فعلينا أن نتقيه سبحانه وتقواه سبحانه هي عبادته، بفعل الأوامر وترك النواهي عن خوف من الله وعن رغبة فيما عنده وعن خشية له سبحانه، وعن تعظيم لحرماته وعن محبة صادقة له سبحانه ولرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ولجميع المرسلين والمؤمنين، فعلينا أن نحب الله بكل قلوبنا فوق محبة كل أحد، وأن نحب رسوله - صلى الله عليه وسلم - محبة صادقة فوق محبة أنفسنا وآبائنا وأمهاتنا وأولادنا وغيرهم، وأن نحب الرسل عليهم الصلاة والسلام ونحب إخواننا في الله المؤمنين، فالمحبة من أفضل الواجبات ومن أهم الواجبات المحبة لله وفي الله عز وجل ثم هذه المحبة لله ولرسوله توجب طاعة الأوامر وترك النواهي، كما قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (5) ، فالمحبة الصادقة لله ولرسوله وللمؤمنين تقتضي العمل بطاعة الله وإخلاص العبادة له وترك معصيته، كما تقتضي طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباع ما جاء به والحذر مما نهى عنه، والوقوف عند الحدود التي حدها مع تقديم سننه وشرعه على أهوائنا، وتوجب أيضا محبة المؤمنين وإعانتهم على الخير وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ومحبة الخير لهم وأداء الأمانة.
ومما يجب على المسئولين عن الناس في المستشفيات وغيرها أداء الأمانة، فالطبيب والعامل والمسئول عن الإدارة وغيرهم كلهم مسئولون عن أداء الأمانة التي وكلت إليهم في العلاج وفي الدواء وفي الرفق بالمريض وفي غير هذا من شئون التطبيب، يجب على الجميع أن يؤدوا الأمانة بكل صدق وعناية وأن
__________
(1) سورة الحشر الآية 18
(2) سورة آل عمران الآية 102
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71
(5) سورة آل عمران الآية 31(36/15)
يحرصوا على العناية بالدواء النافع والوقت المناسب وأن يكونوا على بينة في وضع الدواء على الداء، وأن يحذروا التساهل في ذلك وأن يرفقوا بالمريض وأن يسمع منك اللطف في الكلام وطيب الحديث؛ لأن هذا يعين على زوال المرض بإذن الله وعلى الشفاء من المرض، وهكذا الطبيبة تعنى بهذا الأمر فتكون رفيقة حكيمة كالرجل كل منهم يكون رفيقا حكيما طيب الكلام يشعر منه المريض بالحنو والعطف والمحبة والحرص على شفائه، ويعنى مع ذلك بالدواء المناسب وبالوقت المناسب وبالمقدار المناسب من الدواء حتى لا يزيد فيضر المريض وحتى لا ينقص فلا يحصل به المقصود.
كل من المسئولين عليه أن يعمل من الخير بقدر ما يستطيع وكل عليه أن يؤدي النصيحة، فالطبيب يؤدي الواجب والممرض يؤدي الواجب والمدير يؤدي الواجب، وهكذا الطبيبة والممرضة كلتاهما تؤديان الواجب، وهكذا بقية العاملين كل يتقي الله ويؤدي الأمانة التي وكلت إليه بإخلاص لله وتعظيم له سبحانه وحذر من غضبه جل وعلا، وعناية بالمريض ونصحا له ورفقا به رجاء أن يشفيه الله على يدك أيها الطبيب وعلى يديك أيتها الطبيبة، وكل المسئولين بالمستشفى عليه تقوى الله وأن يبذل الوسع والمستطاع فيما ينفع المريض ويخفف عليه المرض ويخفف عليه الآلام التي يجدها ويحس بها، ولا شك أن الكلام الطيب والأسلوب الحسن والعناية التامة كل ذلك مما يخفف عن المريض آلامه ومما يشرح له صدره ومما يعين على زوال المرض بتوفيق الله وهدايته ورحمته وإحسانه سبحانه وتعالى، وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم جميعا لما يرضيه وأن يمنحنا الفقه في الدين وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، وأن يوفق القائمين على هذا المستشفى وعلى رأسهم الأخ الكريم الدكتور طه الخطيب، وكذلك أسأله لجميع القائمين على مستشفيات المملكة في كل مكان أسأل الله أن يوفقهم جميعا لما يرضيه وأن يعينهم على أداء الواجب وعلى أداء الأمانة وأن يبارك في جهودهم وينفع بها المسلمين جميعا وأن ينفع جميع المعالجين في المستشفيات وأن يصلح قلوب الجميع وأعمال الجميع، كما أسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يولي عليهم(36/17)
خيارهم ويصلح قيادتهم ويمنح الجميع الفقه في الدين، والتمسك بشريعة الله والتحاكم إليها والحذر مما يخالفها إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه، ولا يفوتني هنا أن أنبه أنه يشرع عند سماع الإنسان ما يسره من خطبة أن يقول الله أكبر أو سبحان الله، أما التصفيق الذي يفعله بعض الناس فليس من شرع الله سبحانه وتعالى، بل هو منكر ومن أعمال الجاهلية التي كانوا يفعلونها، ولكن المشروع عند سماع الإنسان في الخطبة أو ما يقوله مديره أو غيره من كلمات طيبة أن يقول الله أكبر أو سبحان الله، وكذلك عندما يسمع ما يستنكر يقول سبحان الله أو الله أكبر. هكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يسبح الله ويعظمه ويكبره إن سمع خيرا أو سمع ما يسوء كبر الله وعظمه وقال سبحان الله، عليه الصلاة والسلام إنكارا للمنكر وفرحا للطيب، فنكبر الله عند سماع ما يسر ونشكره ونسبحه عند سماع ما يسر، وكذلك ننكر المنكر عند سماعه بقولنا سبحان الله أو الله أكبر أو ما أشبه ذلك من الكلمات الطيبة التي كان يتعاطاها عليه الصلاة والسلام. ولما «قال بعض الصحابة للنبي عليه الصلاة والسلام اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط لما رأوا بعض المشركين يتعلقون بالأشجار وينوطون عليها السلاح قال: الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة (1) » «ولما قال له رجل نستشفع بالله عليك قال سبحان الله إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه (2) » . . والمقصود أن سنته - صلى الله عليه وسلم - التكبير والتسبيح وذكر الله عند سماعه أو رؤيته ما يسر، وهكذا عند سماعه أو رؤيته ما ينكر فنقتدي به في ذلك عليه الصلاة والسلام.
ومما ينبغي التنبيه عليه أنه يجب على المريض أن يؤدي الصلاة في وقتها على حسب استطاعته إن قدر قائما فقائما، وإن لم يستطع صلى قاعدا وإن لم يستطع صلى على جنبه فإن لم يستطع فمستلقيا، ولا يجوز له تأخير الصلاة إلى وقت آخر كما يفعل بعض المرضى ويؤخرها لعله يشفى ليصليها على وجه أكمل، بل يجب على المريض أن يصلي في الوقت على حسب حاله. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض الصحابة لما كان مريضا: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2180) ، مسند أحمد بن حنبل (5/218) .
(2) سنن أبو داود السنة (4726) .(36/18)
تستطع فعلى جنب (1) » رواه البخاري في الصحيح. زاد النسائي: «فإن لم تستطع فمستلقيا» ، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث أن الواجب على المريض أن يصلي على حسب استطاعته، قائما إذا استطاع فإن عجز الرجل أو المرأة صلى قاعدا على أي صفة كان متربعا أو محتبيا أو غير ذلك، على أي حال كان من القعود على حسب حاله، والأفضل التربع إذا تيسر ذلك لحديث عائشة رضي الله عنها الوارد في ذلك فإن عجز عن القعود صلى على جنبه والأفضل على جنبه الأيمن إذا تيسر، فإن لم يتيسر الأيمن فالأيسر فإن عجز صلى مستلقيا على ظهره ورجلاه إلى القبلة. ثم لا بد من الوضوء مع القدرة فإن لم يستطع يتيمم بالتراب يكون عند سريره شيء من التراب في إناء أو في كيس يتيمم به عند عجزه عن الماء. والواجب على المسئولين في المستشفيات أن يضعوا تحت أسرة المرضى ما يتيممون به إذا عجزوا عن الماء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره (2) » . . وفي اللفظ الآخر وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء.
والله يقول في كتابه العزيز:. . . {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (3) ، والصعيد هو وجه الأرض وترابها، فالواجب على المسئولين في كل مستشفى وفي هذا المستشفى أن يعنوا بهذا الأمر، وعلى الأطباء والطبيبات أن يعنوا بهذا الأمر حتى لا ينسى المريض، بل يعلم ويوجه لأن يصلي على حاله قاعدا أو قائما أو على جنبه على حسب طاقته، ويعلم المريض أن عليه التيمم عند عدم قدرته على الماء وأن يصلي في الوقت ولا بأس أن يجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما جمع تقديم أو جمع تأخير، وهكذا لا بأس أن يجمع بين المغرب والعشاء في وقت إحداهما جمع تأخير أو جمع تقديم.
وفق الله الجميع لما يرضيه وأصلح حالنا جميعا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1117) ، سنن أبو داود الصلاة (952) .
(2) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .
(3) سورة المائدة الآية 6(36/19)
صفحة فارغة(36/20)
مقدار دية الكفار من غير الكتابيين
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه وبعد:
فبناء على محضر مجلس هيئة كبار العلماء المتخذ في الدورة الحادية والعشرين الذي ينص على أن تقوم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بإعداد بحث في مقدار دية الكفار من غير الكتابيين يشتمل على ذكر الأحاديث والآثار الواردة في ذلك وبيان كلام أهل العلم ومناقشة الآراء مع بيان صحيح الأحاديث والآثار وضعيفها.
فبناء عليه أعدت اللجنة الدائمة بحثا في الموضوع شمل نقولا عن عدد من المفسرين والمحدثين والفقهاء وخلاصة ذلك بإيجاز. وفيما يلي بيان ذلك والله المستعان.(36/21)
أولا: نقول من أقوال المفسرين:
1 - قال ابن جرير رحمه الله:
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (1) .
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (2) وإن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ {مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ} (3) أيها المؤمنون {وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (4) أي: عهد وذمة وليسوا أهل حرب لكم {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (5) يقول: فعلى قاتله دية مسلمة إلى أهله يتحملها عاقلته {وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (6) كفارة لقتله.
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) سورة النساء الآية 92
(3) سورة النساء الآية 92
(4) سورة النساء الآية 92
(5) سورة النساء الآية 92
(6) سورة النساء الآية 92(36/21)
ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق. أهو مؤمن أو كافر؟
فقال بعضهم: هو كافر، إلا أنه لزمت قاتله ديته؛ لأن له ولقومه عهدا فواجب أداء ديته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين، وإنها مال من أموالهم ولا يحل للمؤمنين شيء من أموالهم بغير طيب أنفسهم.
ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية عن علي، عن ابن عباس: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (1) يقول: إذا كان كافرا في ذمتكم فقتل، فعلى قاتله الدية مسلمة إلى أهله. وتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب قال، سمعت الزهري يقول: دية الذمي دية المسلم. قال: وكان يتأول: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (2)
حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن عيسى ابن أبي المغيرة، عن الشعبي في قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (3) قال: من أهل العهد، وليس بمؤمن.
حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن مهدي عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (4) وليس بمؤمن.
حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد عن قتادة: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (5) بقتله، أي: بالذي أصاب من أهل ذمته وعهده.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} (6) الآية.
حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (7)
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) سورة النساء الآية 92
(3) سورة النساء الآية 92
(4) سورة النساء الآية 92
(5) سورة النساء الآية 92
(6) سورة النساء الآية 92
(7) سورة النساء الآية 92(36/22)
يقول: فأدوا إليهم الدية بالميثاق. قال وأهل الذمة يدخلون في هذا، وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.
وقال آخرون: بل هو مؤمن، فعلى قاتله دية يؤديها إلى قومه من المشركين لأنهم أهل ذمة.
ذكر من قال ذلك: حدثني ابن حميد قال: حدثنا جرير عن مغيرة عن إبراهيم: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (1) قال: هذا الرجل المسلم وقومه مشركون لهم عقد، فتكون ديته لقومه وميراثه للمسلمين ويعقل عنه قومه ولهم ديته. حدثني المثنى قال: حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك عن هشيم عن أبي إسحاق الكوفي عن جابر بن زيد في قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (2) قال وهو مؤمن.
حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن في قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (3) قال: كلهم مؤمن.
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية، قول من قال: عنى بذلك المقتول من أهل العهد لأن الله أبهم ذلك فقال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ} (4) ولم يقل: (وهو مؤمن) ، كما قال في القتيل من المؤمنين وأهل الحرب، وعنى المقتول منهم وهو مؤمن فكان في تركه وصفه بالإيمان الذي وصف به القتيلين الماضي ذكرهما قبل، الدليل الواضح على صحة ما قلنا في ذلك.
فإن ظن. ظان أن قوله تبارك وتعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (5) دليلا على أنه من أهل الإيمان؛ لأن الدية عنده لا تكون إلا لمؤمن. فقد ظن خطأ. وذلك أن دية الذمي وأهل الإسلام سواء، لإجماع جميعهم على أن ديات عبيدهم الكفار وعبيد المؤمنين من أهل الإيمان سواء. فكذلك حكم
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) سورة النساء الآية 92
(3) سورة النساء الآية 92
(4) سورة النساء الآية 92
(5) سورة النساء الآية 92(36/23)
ديات أحرارهم سواء، مع أن دياتهم لو كانت على ما قال من خالفنا في ذلك، فجعلها على النصف من ديات أهل الإيمان أو على الثلث، لم يكن في ذلك دليل على أن المعني بقوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (1) من أهل الإيمان؛ لأن دية المؤمنة لا خلاف بين الجميع - إلا من لا يعد خلافا - أنها على النصف من دية المؤمن وذلك غير مخرجها من أن تكون دية. فكذلك حكم ديات أهل الذمة، لو كانت مقصرة عن ديات أهل الإيمان، لم يخرجها ذلك من أن تكون ديات. فكيف والأمر في ذلك بخلافه، ودياتهم وديات المؤمنين سواء؟
وأما (الميثاق) فإنه العهد والذمة. وقد بينا في غير هذا الموضع أن ذلك كذلك والأصل الذي منه أخذ بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي في قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (2) يقول: عهد.
حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري في قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (3) قال: هو المعاهدة.
حدثني المثنى قال: حدثنا أبو غسان قال: حدثنا إسرائيل عن سماك، عن عكرمة عن ابن عباس: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (4) عهد.
حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة مثله.
فإن قال قائل: وما صفة الخطأ، الذي إذا قتل المؤمن المؤمن أو المعاهد لزمته ديته والكفارة؟
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) سورة النساء الآية 92
(3) سورة النساء الآية 92
(4) سورة النساء الآية 92(36/24)
قيل: هو ما قال النخعي في ذلك، وذلك ما حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا سفيان عن المغيرة عن إبراهيم قال: (الخطأ) أن يريد الشيء فيصيب غيره.
حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا: حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال: (الخطأ) أن يرمي الشيء فيصيب إنسانا وهو لا يريده، فهو خطأ، وهو على العاقلة.
فإن قال: فما الدية الواجبة في ذلك؟
قيل: أما في قتل المؤمن فمائة من الإبل، إن كان من أهل الإبل، على عاقلة قاتله لا خلاف بين الجميع في ذلك، وإن كان في مبلغ أسنانها اختلاف بين أهل العلم.
فمنهم من يقول: هي أرباع: خمس وعشرون منها حقة، وخمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علي - رضي الله عنه - في الخطأ شبه العمد: ثلاث وثلاثون حقة وثلاث وثلاثون جذعة وأربعة وثلاثون ثنية إلى بازل عامها.
وفي الخطأ: خمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وخمس وعشرون بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون.
حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان عن فراس والشيباني عن الشعبي عن علي بن أبي طالب بمثله.
حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي رضي الله عنه بنحوه.
حدثني واصل بن عبد الأعلى قال: حدثنا ابن فضيل عن أشعث بن سوار عن الشعبي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال في قتل الخطأ: الدية مائة(36/25)
أرباعا ثم ذكر مثله.
وقال آخرون: هي أخماس: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون، وعشرون بنات مخاض.
ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد عن قتادة عن أبي مجلز: عن أبي عبيدة عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: في الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون وعشرون بنى لبون وعشرون بنات مخاض.
حدثني واصل بن عبد الأعلى قال حدثنا ابن فضيل عن أشعث عن عامر عن عبد الله بن مسعود في قتل الخطأ: مائة من الإبل أخماسا: خمس جذاع وخمس حقاق، وخمس بنات لبون وخمس بنات مخاض وخمس بنو مخاض.
حدثنا مجاهد بن موسى قال: حدثنا يزيد قال: أخبرنا سليمان التيمي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: الدية أخماس، دية الخطأ: خمس بنات مخاض وخمس بنات لبون وخمسة حقاق وخمس جذاع وخمس بنو مخاض.
واعتل قائلو هذه المقالة بحديث: حدثنا به أبو هشام الرفاعي قال: حدثنا يحيى بن أبي زائدة وأبو خالد الأحمر عن حجاج عن زيد بن جبير، عن الخشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في الدية في الخطأ أخماسا» - قال: أبو هشام، قال ابن أبي زائدة: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون ابنة لبون، وعشرون ابنة مخاض، وعشرون بني مخاض.
حدثنا أبو هشام قال حدثنا يحيى عن أبيه عن أبي إسحاق عن علقمة عن عبد الله أنه قضى بذلك.(36/26)
وقال آخرون: هي أرباع، غير أنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار قال: حدثني محمد بن بكر قال: حدثنا سعيد عن قتادة - عن عبد ربه عن أبي عياض. عن عثمان وزيد بن ثابت قالا: في الخطأ شبه العمد: أربعون جذعة خلفه، وثلاثون حقة، وثلاثون بنات مخاض. وفي الخطأ ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور.
حدثنا ابن بشار قال: حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن زيد بن ثابت: في دية الخطأ: ثلاثون حقة وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنات مخاض وعشرون بنو لبون ذكور.
حدثنا ابن بشار قال: حدثنا أبو عثمة قال: حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال وحدثنا سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن زيد بن ثابت مثله.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الجميع مجمعون أن في الخطأ المحض على أهل الإبل: مائة من الإبل.
ثم اختلفوا في مبالغ أسنانها. وأجمعوا على أنه لا يقصر بها في الذي وجبت له الأسنان عن أقل ما ذكرنا من أسنانها التي حدها الذين ذكرنا اختلافهم فيها. وأنه لا يجاوز بها في الذي وجبت له عن أعلاها. وإذ كان ذلك من جميعهم إجماعا. الواجب أن يكون مجزيا من لزمته دية قتيل خطأ. أي هذه الأسنان التي اختلف المختلفون فيها. أداها إلى من وجبت له؛ لأن الله تعالى لم يحد ذلك بحد لا يجاوز به ولا يقصر عنه ولا رسوله إلا ما ذكرت من إجماعهم فيما أجمعوا عليه، فإنه ليس للإمام مجاوزة ذلك في الحكم بتقصير ولا زيادة وله التخيير فيما بين ذلك بما رأى الصلاح فيه للفريقين. وإن كانت عاقلة القاتل من أهل الذهب فإن لورثة القتيل عليهم عندنا(36/27)
ألف دينار وعليه علماء الأمصار.
وقال بعضهم: ذلك تقويم من عمر رحمة الله عليه للإبل على أهل الذهب في عصره، والواجب أن يقوم في كل زمان قيمتها إذا عدم الإبل عاقلة القاتل واعتلوا بما حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان عن أيوب بن موسى عن مكحول قال: كانت الدية ترتفع وتنخفض. فتوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي ثمانمائة دينار فخشي عمر من بعد فجعلها اثني عشر ألف درهم وألف دينار.
وأما الذين أوجبوها في كل زمان على أهل الذهب ذهبا ألف دينار. فقالوا: ذلك فريضة فرضها الله على لسان رسوله كما فرض الإبل على أهل الإبل. قالوا: وفي إجماع علماء الأمصار في كل عصر وزمان. إلا من شذ عنهم على أنها لا تزاد على ألف دينار ولا تنقص عنها، أوضح الدليل على أنها الواجبة على أهل الذهب وجوب الإبل على أهل الإبل؛ لأنها لو كانت قيمة لمائة من الإبل لاختلف ذلك بالزيادة والنقصان لتغير أسعار الإبل.
وهذا القول هو الحق في ذلك لما ذكرنا من إجماع الحجة عليه.
وأما من الورق على أهل الورق عندنا فاثنا عشر ألف درهم، وقد بينا العلل في ذلك في كتابنا " كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام ".
وقال آخرون؛ إنما على أهل الورق من الورق عشرة آلاف درهم.
وأما دية المعاهد الذي بيننا وبين قومه ميثاق. فإن أهل العلم اختلفوا في مبلغها، فقال بعضهم: ديته ودية الحر المسلم سواء.
ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا بشر بن السرى عن إبراهيم بن سعد عن الزهري: أن أبا بكر وعثمان - رضوان الله عليهما - كانا يجعلان دية اليهودي والنصراني إذا كان معاهدين كدية المسلم.
حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا بشر بن السرى عن(36/28)
الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن الحكم بن عيينة: أن مسعود كان يجعل دية أهل الكتاب إذا كانوا أقل ذمة كدية المسلمين.
حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة عن حماد قال: سألني عبد الحميد عن دية أهل الكتاب، فأخبرته أن إبراهيم قال: إن ديتهم وديتنا سواء.
حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا حماد عن إبراهيم وداود عن الشعبي أنهما قالا: دية اليهودي والنصراني والمجوسي مثل دية الحر المسلم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان يقال: دية اليهودي والنصراني والمجوسي كدية المسلم إذا كانت له.
حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية قال: حدثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء أنهما قالا: دية المعاهد دية المسلم.
حدثنا سوار بن عبد الله قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا المسعودي عن حماد عن إبراهيم أنه قال: دية المسلم والمعاهد سواء.
حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية عن أيوب قال، سمعت الزهري يقول دية الذمي دية المسلم.
حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن أبي زائدة عن أشعث عن عامر قال: دية الذمي مثل دية المسلم.
حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن أبي زائدة عن سعيد بن أبي عروبة عن أبي معشر عن إبراهيم مثله.
حدثني أبو السائب قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم مثله.
حدثنا عبد الحميد بن بيان قال أخبرنا محمد بن يزيد عن إسماعيل عن(36/29)
عامر وبلغه أن الحسن كان يقول: (دية المجوسي ثمانمائة ودية اليهودي والنصراني أربعة آلاف) قال: ديتهم واحدة.
حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان عن قيس بن مسلم عن الشعبي قال: دية المعاهد والمسلم في كفارتهما سواء.
حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم قال دية المعاهد والمسلم سواء.
وقال آخرون: بل ديته عن النصف من دية المسلم.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا داود عن عمرو بن شعيب في دية اليهودي والنصراني قال: جعلها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نصف دية المسلم ودية المجوسي ثمانمائة، فقلت لعمرو بن شعيب: إن الحسن يقول (أربعة آلاف) قال كان ذلك قبل الغلمة، وقال إنما جعل دية المجوسي بمنزلة العبد.
حدثنا أبو كريب قال حدثنا عبد الله الأشجعي عن سفيان عن أبي الزناد عن عمر بن عبد العزيز قال: دية المعاهد على النصف من دية المسلم.
وقال آخرون: بل ديته على الثلث من دية المسلم ذكر من قال ذلك: حدثني واصل بن عبد الأعلى قال: حدثنا ابن فضيل عن مطرف عن أبي عثمان، قال: وكان قاضيا لأهل مرو - قال: جعل عمر رضي الله عنه دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف أربعة آلاف.
حدثنا عمار بن خالد الواسطي قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن الأعمش عن ثابت عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر: دية النصراني أربعة آلاف والمجوسي ثمانمائة.
حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الصمد قال: حدثنا شعبة عن ثابت قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: قال عمر: دية أهل الكتاب أربعة آلاف ودية المجوسي ثمانمائة.(36/30)
حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان عن ثابت عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال فذكر مثله.
حدثنا ابن بشار قال: حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أبي المليح أن رجلا من قومه رمى يهوديا أو نصرانيا بسهم فقتله، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فأغرمه ديته أربعة آلاف.
وبه عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف أربعة آلاف.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا بعض أصحابنا عن سعيد بن المسيب عن عمر مثله.
قال: حدثنا هشيم عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن عمر مثله.
قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أنه قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف والمجوسي ثمانمائة.
حدثنا سوار بن عبد الله قال: حدثنا خالد بن الحارث قال: حدثنا عبد الملك عن عطاء مثله.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال: حدثنا عبيد قال: سمعت الضحاك في قوله {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} (1) الصيام لمن لا يجد رقبة، وأما الدية فواجبة لا يبطلها شيء. اهـ (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) تفسير ابن جرير ج9 ص41 إلى نهاية ص54.(36/31)
2 - قال الجصاص رحمه الله:
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان البتي وسفيان الثوري والحسن بن صالح: دية الكافر مثل دية المسلم، واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذمي سواء، وقال مالك ابن أنس: دية أهل الكتاب على النصف من دية المسلم ودية المجوسي ثمانمائة درهم، وديات نسائهم على النصف من ذلك، وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني ثلث الدية، ودية المجوسي ثمانمائة والمرأة على النصف. قال أبو بكر الدليل على مساواتهم المسلمين في الديات قوله(36/31)
عز وجل: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (1) إلى قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (2) ، والدية اسم لمقدار معلوم من المال بدلا من نفس الحر؛ لأن الديات قد كانت متعالمة معروفة بينهم قبل الإسلام وبعده فرجع الكلام إليها في قوله في قتل المؤمن خطأ ثم لما عطف عليه قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (3) كانت هذه الدية هي الدية المذكور بديا إذ لو لم تكن كذلك لما كانت دية لأن الدية اسم لمقدار معلوم من بدل النفس لا يزيد ولا ينقص، وقد كانوا قبل ذلك يعرفون مقادير الديات ولم يكونوا يعرفون الفرق بين دية المسلم والكافر، فوجب أن تكون الدية المذكورة للكافر هي التي ذكرت للمسلم وأن يكون قوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (4) راجعا إليها كما علم من دية المسلم إنها المعتاد المتعارف عندهم ولولا أن ذلك كذلك؛ لكان اللفظ مجملا مفتقرا إلى البيان وليس الأمر كذلك. فإن قيل فقوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (5) لا يدل على أنها مثل دية المسلم، كما أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ولا يخرجها ذلك من أن تكون دية كاملة لها. قيل له هذا غلط من وجهين، أحدهما: أن الله تعالى إنما ذكر الرجل في الآية فقال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} (6) ثم قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (7) فكما اقتضى فيما ذكره للمسلم كمال الدية كذلك دية المعاهد لتساويهما في اللفظ مع وجود التعارف عندهم في مقدار الدية، والوجه الآخر أن دية المرأة لا يطلق عليها اسم الدية وإنما يتناولها الاسم مقيدا، ألا ترى أنه يقال دية المرأة نصف الدية، وإطلاق اسم الدية إنما يقع على المتعارف المعتاد وهو كمالها، فإن قيل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (8) يحتمل أن يريد به وإن كان المقتول المؤمن من قوم بينكم وبينهم ميثاق، فاكتفى بذكر الإيمان للقتيلين الأولين عن إعادته في القتيل الثالث، قيل له هذا غلط من وجوه، أحدها أنه قد تقدم في أول الخطاب ذكر القتيل المؤمن وحكمه وذلك عموم يقتضي سائر المؤمنين إلا ما
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) سورة النساء الآية 92
(3) سورة النساء الآية 92
(4) سورة النساء الآية 92
(5) سورة النساء الآية 92
(6) سورة النساء الآية 92
(7) سورة النساء الآية 92
(8) سورة النساء الآية 92(36/32)
خصه الدليل فغير جائز إعادة ذكر المؤمن بذلك الحكم في سياق الآية مع شمول أول الآية له ولغيره، فعلمنا أنه لم يرد المؤمن ممن كان بيننا وبينهم ميثاق، والثاني لما لم يقيده بذكر الإيمان وجب إجراؤه في الجميع من المؤمنين والكفار من قوم بيننا وبينهم ميثاق وغير جائز تخصيصه بالمؤمنين دون الكافرين بغير دلالة، والثالث أن إطلاق القول بأنه من المعاهدين يقتضي أن يكون معاهدا مثلهم، ألا ترى أن قول القائل أن هذا الرجل من أهل الذمة يفيد أنه ذمي مثلهم، وظاهر قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (1) يوجب أن يكون معاهدا مثلهم، ألا ترى أنه لما أراد بيان حكم المؤمن إذا كان من ذوي أنساب المشركين قال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) فقيده بذكر الإيمان لأنه لو أطلقه لكان المفهوم منه أنه كافر مثلهم، والرابع أنه لو كان كما قال هذا القائل لما كانت الدية مسلمة إلى أهله؛ لأن أهله كفار لا يرثونه، فهذه الوجوه كلها تقتضي المساواة وفساد هذا التأويل. ويدل على صحة قول أصحابنا أيضا ما رواه محمد ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: «لما نزلت: الآية. قال: كان إذا قتل بنو النضير من بني قريظة قتيلا أدوا نصف الدية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا الدية إليهم، قال: فسوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم في الدية (4) » . قال أبو بكر: لما قال أدوا الدية ثم قال سوى بينهم في الدية دل ذلك على أنه راجع إلى الدية المعهودة المبدوء بذكرها؛ لأنه لو كان رد بني النضير إلى نصفها لقال سوى بينهم في نصف الدية ولم يقل سوى بينهم في الدية، ويدل عليه أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في النفس مائة من الإبل وهو عام في الكافر والمسلم. وروى مقسم عن ابن عباس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودى العامريين وكانا مشركين دية الحرين المسلمين (5) » ، وروى محمد بن عبدوس قال: حدثنا علي بن الجعد قال: حدثنا أبو بكر قال سمعت نافعا عن ابن عمر «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ودى ذميا دية مسلم» ، وهذان الخبران يوجبان مساواة الكافر للمسلم في الدية؛ لأنه معلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وداهما بما في الآية في قوله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (6) فدل على أن
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) سورة النساء الآية 92
(3) سنن النسائي القسامة (4732) ، سنن أبو داود الأقضية (3591) .
(4) سورة المائدة الآية 42 (3) {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ}
(5) سنن الترمذي الديات (1404) .
(6) سورة النساء الآية 92(36/33)
المراد من الآية دية المسلم، وأيضا لما لم يكن مقدار الدية مبينا في الكتاب كان فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك واردا مورد البيان وفعله - صلى الله عليه وسلم - إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب، وروى أبو حنيفة عن الهيثم عن أبي الهيثم «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وعثمان قالوا دية المعاهد دية الحر المسلم» ، وروى إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان يجعلون دية اليهودي والنصراني إذا كانوا معاهدين مثل دية المسلم. وروى سعيد بن أبي أيوب قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب أن جعفر بن عبد الله بن الحكم أخبره أن رفاعة بن السموءل اليهودي قتل بالشام فجعل عمر ديته ألف دينار. وروى محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن مسعود قال: دية أهل الكتاب مثل دية المسلمين، وهو قول علقمة وإبراهيم ومجاهد وعطاء والشعبي. وروى الزهري عن سالم عن أبيه أن مسلما قتل كافرا من أهل العقد، فقضى عليه عثمان بن عفان بدية المسلم فهذه الأخبار وما ذكرنا من أقاويل السلف مع موافقتها لظاهر الآية توجب مساواة الكافر للمسلم في الديات. وقد روي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة. قال سعيد وقضى عثمان في دية المعاهد بأربعة آلاف. قال أبو بكر وقد روي عنهما خلاف ذلك وقد ذكرناه. واحتج المخالف بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة عام الفتح قال في خطبته: «ودية الكافر نصف دية المسلم (1) » . وبما روى عبد الله بن صالح قال: حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «دية المجوسي ثمانمائة (2) » . قيل له قد علمنا حضور هؤلاء الصحابة الذين ذكرنا عنهم مقدار الدية خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فلو كان ذلك ثابتا لعرفه هؤلاء ولما عدلوا عنه إلى غيره، وأيضا قد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «دية المعاهد مثل دية المسلم وأنه ودى العامريين دية الحرين المسلمين (3) » ، وهذا أولى لما فيه من الزيادة ولو تعارض الخبران؛ لكان ما اقتضاه ظاهر الكتاب وما ورد به النقل المتواتر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أن الدية مائة من الإبل من غير فصل فيه بين المسلم والكافر أولى، فوجب تساويهما في الديات، وأما حديث عقبة بن عامر في
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1413) ، سنن النسائي القسامة (4806) ، مسند أحمد بن حنبل (2/180) .
(2) موطأ مالك العقول (1617) .
(3) سنن الترمذي الديات (1404) .(36/34)
دية المجوسي فإنه حديث واه لا يحتج بمثله؛ لأن ابن لهيعة ضعيف لا سيما من رواية عبد الله بن صالح عنه. فإن قيل قوله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (1) عطفا على ما ذكر في دية المسلم لا يدل على تساوي الديتين كما لو قال من قتل عبدا فعليه قيمته، ومن استهلك ثوبا فعليه قيمته لم يدل على تساوي القيمتين قيل له الفرق بينهما أن الدية اسم لمقدار من المال بدلا من نفس الحر كانت معلومة المقدار عندهم وهي مائة من الإبل، فمتى أطلقت كان من مفهوم اللفظ هذا القدر فإطلاق لفظ الدية قد أنبأ عن هذا المعنى، وعطفها على الدية المتقدمة مع تساوي اللفظ فيهما بأنها دية مسلمة قد اقتضى ذلك أيضا، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) أحكام القرآن جـ2 ص238 إلى ص240.(36/35)
3 - قال ابن كثير رحمه الله:
{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (1) الآية، أي فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم، فإن كان مؤمنا فدية كاملة، وكذا إن كان كافرا أيضا عند طائفة من العلماء، وقيل يجب في الكافر نصف دية المسلم، وقيل ثلثها كما هو مفصل في كتاب الأحكام (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) تفسير ابن كثير جـ1 ص 535.(36/35)
4 - قال القرطبي رحمه الله:
واختلف العلماء من هذا الباب في تفصيل دية أهل الكتاب، فقال مالك وأصحابه هي على النصف من دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم ودية نسائهم على النصف من ذلك. روي هذا القول عن عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير وعمرو بن شعيب، وقال به أحمد به حنبل. وهذا المعنى قد روى فيه سليمان بن بلال عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل دية اليهودي والنصراني على النصف من دية المسلم (1) » ، وعبد الرحمن هذا قد روى عنه الثوري أيضا. وقال ابن عباس والشعبي والنخعي المقتول من أهل العهد خطأ لا تبالي مؤمنا كان أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم، وهو قول أبي
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1413) ، سنن النسائي القسامة (4806) .(36/35)
حنيفة والثوري وعثمان البتي والحسن بن حيي، جعلوا الديات كلها سواء، المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي، والمعاهد والذمي، وهو قول عطاء والزهري وسعيد بن المسيب. وحجتهم قوله تعالى: {فَدِيَةٌ} (1) وذلك يقتضي الدية كاملة كدية المسلم. وعضدوا هذا بما رواه محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة، «عن ابن عباس في قصة بني قريظة والنضير أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم جعل ديتهم سواء دية كاملة» . قال أبو عمر: هذا حديث به لين وليس في مثله حجة. وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم، وحجته أن ذلك أقل ما قيل في ذلك، والذمة بريئة إلا بيقين أرجحه وروي هذا القول عن عمر وعثمان، وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وأبو ثور وإسحاق (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) تفسير القرطبي جـ3 ص326، ص327.(36/36)
5 - قال ابن العربي رحمه الله:
قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (1) والميثاق هو العهد المؤكد الذي قد ارتبط وانتظم ومنه الوثيقة ففيه الدية.
قال ابن عباس: هذا هو الكافر الذي له ولقومه العهد فعلى قاتله الدية لأهله والكفارة لله سبحانه، وبه قال جماعة من التابعين والشافعي.
وقال مالك وابن زيد والحسن: المراد به وهو مؤمن. واختار الطبري أن يكون المراد به المقتول الكافر من أهل العهد لأن الله سبحانه أهمله ولم يقل وهو مؤمن، كما قال في القتيل من المؤمنين ومن أهل الحرب، وإطلاقه ما قيد قبل ذلك دليل أنه خلافه.
وهذا عند علمائنا محمول على ما قبله من وجهين: أحدهما: أن هذه الجملة نسقت على ما قبلها وربطت بها فوجب أن يكون حكمها حكمه.
__________
(1) سورة النساء الآية 92(36/36)
الثاني: أن الله سبحانه قال: (فدية مسلمة) - وقد اختلف الناس في دية الكافر فمنهم من جعلها كدية المسلم، وهو أبو حنيفة وجماعة، ومنهم من جعلها على النصف وهو مالك وجماعة، ومنهم من جعلها ثلث دية المسلم، وهو الشافعي وجماعة والدية المسلمة هي الموفرة.
قال القاضي: والذي عندي أن هذه الجملة محمولة على ما قبلها حمل المطلق على المقيد وهو أصل من أصول الفقه اختلف الناس فيه. وقد أتينا فيه بالعجب في المحصول، وهو عندي لا يلحق إلا بالقياس عليه.
والدليل على حمل هذه الجملة على التي قبلها أمران: أحدهما: أن الكفارة إنما هي لأنه أتلف شخصا عن عبادة الله فيلزمه أن يخلص آخر لها.
والثاني: أن الكفارة إنما هي زجر عن الاسترسال وتقاة للحذر وحمل على التثبت عند الرمي وهذا إنما هو في حق المسلم. وأما في حق الكافر فلا يلزم فيه مثل هذا. ونحرر هذا قياسا فنقول: كل كافر لا كفارة في قتله (كالمستأمن وقد اتفقنا على أنه لا كفارة في قتله) ولا عذر لهم عنه به احتفال.
المسألة الخامسة عشرة: إذا أثبت أن المذكور في هذه الجملة هو المؤمن. فمن قتل كافرا خطأ وله عهد ففيه الدية إجماعا.
وقد اختلفوا فيه كما تقدم، وهو أصل بديع في رفع الدماء ونحن: نمهد فيه قاعدة قوية فنقول: مبنى الديات في الشريعة على التفاضل في الحرمة والتفاوت في المرتبة؛ لأنه حق مالي يتفاوت بالصفات بخلاف القتل؛ لأنه لما شرع زجرا لم يعتبر فيه ذلك التفاوت. فإذا ثبت هذا نظرنا إلى الدية فوجدنا الأنثى تنقص فيه عن الذكر ولا بد أن يكون للمسلم مزية على الكافر فوجب ألا يساويه في ديته.(36/37)
وزاد الشافعي نظرا فقال: إن الأنثى المسلمة فوق الكافر الذكر. فوجب أن تنقص ديته عن ديتها. فتكون ديته ثلث دية المسلم.
وقال مالك بقضاء عمر وهو النصف إذ لم يراع الصحابة التفاوت بينهما إلا في درجة واحدة، ولم يتبع ذلك إلى أقصاه وليس بعد قضاء عمر بمحضر من الصحابة نظر.
وما روي «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أعطى في ذي العهد مثل دية المسلم» ، فإنما كان على معنى الاستئلاف لقومهم إذ كان يؤديه من قبل نفسه ولا يرتبها على العاقلة وإلا، فقد استقر ما استقر على يد عمر. حتى جعل في المجوسي ثمانمائة درهم لنقصه عن أهل الكتاب، وهذا يدل على مراعاة التفاوت واعتبار نقص المرتبة (1) .
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي جـ1 ص477 - ص479.(36/38)
6 - قال محمد رشيد رضا:
في تفسير المنار - الجزء الخامس ص 334 - على الآية الكريمة {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (1) وهم المعاهدون لكم على السلم لا يقاتلونكم ولا تقاتلونهم كما عليه الدول في هذا العصر كلهم معاهدون قد أعطى كل منهم للآخر ميثاقا على ذلك، وهو ما يعبر عنه بالمعاهدات وحقوق الدولة ومثلهم أهل الذمة بعموم الميثاق أو بقياس الأولى {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) أي فالواجب في قتل المعاهد والذمي هو كالواجب في قتل المؤمن - دية إلى أهله تكون عوضا عن حقهم، وعتق رقبة مؤمنة كفارة عن حق الله تعالى الذي حرم قتل الذميين والمعاهدين كما حرم قتل المؤمنين - وقد نكر الدية هنا كما نكرها هناك، أي في حق قتل المؤمن وظاهره أنه يجزئ كل ما يحصل به التراضي وأن للعرف العام والخاص حكمه في ذلك ولا سيما إذا ذكر في عقد الميثاق أن من قتل تكون ديته كذا وكذا، فإن هذا النص أجدر بالتراضي وأقطع لعرف النزاع (3) .
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) سورة النساء الآية 92
(3) تفسير المنار ص334.(36/38)
ثانيا: أحاديث وآثار ونقول عن المحدثين وشراح الحديث:
1 - (أ) قال أبو داود في (باب في دية الذمي) من سننه جـ2 ص 500 طبعة مصطفى البابي الحلبي (حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي، حدثنا عيسى بن يونس عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دية المعاهد نصف دية الحر (1) » قال أبو داود رواه أسامة بن زيد الليثي، وعبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب مثله.
وقال الإمام أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي في الجزء الرابع من معالم السنن ص 37 ط المطبعة العلمية بحلب في كلامه على هذا الحديث ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير، وهو قول مالك وابن شبرمة وأحمد بن حنبل غير أن أحمد قال إذا كان القتل خطأ فإن كان عمدا لم يعد به ويضاعف عليه باثني عشر ألفا، وبعد أن تعرض الخطابي للخلاف في دية الذمي قال: قلت: وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى ولا بأس بإسناده، وقد قال به أحمد ويعضده حديث آخر وقد رويناه فيما تقدم من طريق حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف (2) » .
وقال ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود جـ 6 ص 374 في كلامه على حديث أبي داود هذا: (هذا الحديث صحيح إلى عمرو بن شعيب والجمهور يحتجون به في غير موضع، واحتج به الأئمة كلهم في الديات) انتهى كلام ابن القيم.
(ب) وقال النسائي في (كم دية الكافر) من سننه جـ 8 ص 45 طبعة المطبعة المصرية بالأزهر (أخبرنا أحمد بن عمرو بن المسرح قال: أنبأنا ابن وهب، قال أخبرني أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب
__________
(1) سنن أبو داود الديات (4583) .
(2) سنن أبو داود الديات (4542) .(36/39)
عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «عقل الكافر نصف عقل المؤمن (1) » .
(ج) وقال الترمذي في (باب ما جاء في دية الكفار) من جامعه جـ 6 ص 181- 182 المطبعة المصرية بالأزهر حدثنا عيسى بن أحمد حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقتل مسلم بكافر (2) » وبهذا الإسناد قال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دية عقل الكافر نصف دية عقل المؤمن (3) » ثم قال الترمذي: " حديث عبد الله بن عمرو في هذا الباب حديث حسن "، وذكر الترمذي أن بعض أهل العلم الذين اختلفوا في دية اليهودي والنصراني ذهب إلى ما دل عليه هذا الحديث وذكر منهم عمر بن عبد العزيز وأحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى.
(د) وقال النسائي في (كم دية الكافر) من سننه جـ 8 ص 45 أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الرحمن عن محمد بن راشد عن سليمان بن موسى وذكر كلمة معناها عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى (4) » .
(هـ) وقال ابن ماجه في (باب دية الكافر) من سننه جـ 2 ص 142 ط المطبعة التازية. حدثنا هشام بن عمار، ثنا حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن عياش، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى: «أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى (5) » . وعبد الرحمن بن عياش راوي هذا الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي وهو الذي ورد ذكره في قول أبي داود بعد روايته حديث: «دية المعاهد نصف دية الحر (6) » من طريق
__________
(1) سنن النسائي القسامة (4807) ، سنن ابن ماجه الديات (2644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/224) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (487) ، سنن النسائي التطبيق (1134) ، سنن أبو داود الصلاة (872) ، مسند أحمد بن حنبل (6/149) .
(3) سنن الترمذي الديات (1413) .
(4) سنن النسائي القسامة (4806) ، سنن ابن ماجه الديات (2644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/224) .
(5) سنن الترمذي الديات (1413) ، سنن النسائي القسامة (4806) ، سنن ابن ماجه الديات (2644) .
(6) سنن أبو داود الديات (4583) .(36/40)
محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم، " رواه أسامة بن زيد الليثي وعبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب مثله " اهـ. وهو - أي عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش - وإن قال فيه أحمد متروك وضعفه علي بن المديني، وقال النسائي ليس بالقوي، فقد قال ابن نمير لا أقدم على ترك حديثه، وقال عثمان الدارمي عن ابن معين ليس به بأس، وقال ابن أبي خيشه عن ابن معين صالح وقال أبو حاتم شيخ وقال العجلي مدني ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات وقال كان من أهل العلم (ذكر ذلك كله الحافظ ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب في ترجمة عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي جـ 6 ص 155 ثم قال في ص 247، عبد الرحمن بن عياش عن عمرو بن شعيب وغيره، وعنه أبو إسحاق الفزاري وغيره هو عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة تقدم) اهـ.
تنبيه: لا يرد على الأحاديث المذكورة كونها من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فإن هذه الترجمة وإن تكلم فيها بعض الحفاظ، فقد احتج بها من أئمة الحديث الأجلاء من سيأتي ذكره فيما يلي:
1 - قال الترمذي في (باب كراهة البيع والشراء وإنشاد الشعر في المسجد) في جامعه جـ 2 ص 118 - 119 بعد روايته حديثا في ذلك الباب من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسنه قال: (وعمرو بن شعيب هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. قال محمد بن إسماعيل رأيت أحمد وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب. قال محمد وقد سمع شعيب بن محمد من عبد الله بن عمرو قال أبو عيسى ومن تكلم في حديث عمرو بن شعيب إنما ضعفه لأنه يحدث عن صحيفة جده كأنهم رأوا أنه لم يسمع هذه الأحاديث من جده قال علي بن عبد الله وذكر عن يحيى بن سعيد أنه قال حديث(36/41)
عمرو بن شعيب عندنا واه) . وقال في باب ما جاء في زكاة مال اليتيم من جامعه ص 127 جـ 3 بعد روايته حديث الباب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وعمرو بن شعيب هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وشعيب قد سمع من جده عبد الله بن عمرو، وقد تكلم يحيى بن سعيد في حديث عمرو بن شعيب وقال هو عندنا واه ومن ضعفه، فإنما ضعفه من قبل أنه يحدث من صحيفة جده عبد الله بن عمرو، وأما أكثر أهل الحديث فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب فيثبتونه منهم أحمد وإسحاق وغيرهما.
2 - وقال الدارقطني في الجزء الثاني من سننه ص 310 ط المطبع الفاروقي " هلى " حدثنا أبو بكر النيسابوري ثنا عبد الله بن محمد بن زياد أنا أبو عبيد الله أحمد بن عبد الرحمن بن وهب حدثني عمي، حدثني مخرمة بن بكير عن أبيه قال: سمعت عمرو بن شعيب يقول سمعت شعيبا، يقول سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أيما رجل ابتاع من رجل بيعة فإن كل واحد منهما بالخيار حتى يتفرقا من مكانهما إلا أن يكون صفقة خيار، ولا يحل لأحد أن يفارق صاحبه مخافة أن يقيله (1) » ، ثم قال الدارقطني: حدثنا أبو بكر النيسابوري نا محمد بن علي الوراق قال: قلت لأحمد بن حنبل عمرو بن شعيب سمع من أبيه شيئا قال: يقول حدثني أبي، قال قلت: فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو قال: نعم أراه قد سمع منه سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد صح سماع عمرو بن شعيب من أبيه شعيب وصح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو، قال أبو بكر النيسابوري: نا محمد بن يحيى بن فارس وأحمد بن منصور بن راشد، وعلي بن حرب قالوا: نا محمد بن عبيد نا عبيد الله بن عمر عن عمرو بن شعيب، عن أبيه أن رجلا أتى عبد الله بن عمرو يسأله عن محرم وقع بامرأة، فأشار إلى عبد الله بن عمر فقال أذهب إلى ذلك فأسأله، قال شعيب: فلم يعرفه الرجل فذهبت معه فسأل ابن عمر فقال بطل حجك قال فقال
__________
(1) سنن الترمذي البيوع (1247) ، سنن النسائي البيوع (4483) ، سنن أبو داود البيوع (3456) ، مسند أحمد بن حنبل (2/183) .(36/42)
الرجل أقعد، قال: بل تخرج مع الناس وتصنع ما يصنعون، فإذا أدركت قابلا فحج واهد، فرجع إلى عبد الله بن عمرو فأخبره ثم قال له اذهب إلى ابن عباس فاسأله، قال شعيب فذهبت معه فسأله، فقال له مثل ما قال له عبد الله بن عمرو، فرجع إلى عبد الله بن عمرو فأخبره بما قال ابن عباس ثم قال: ما تقول أنت؟ قال أقول ما قالا ثنا محمد بن الحسن النقاش نا أحمد بن تميم، قال قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري شعيب والد عمرو بن شعيب سمع من عبد الله بن عمرو قال: نعم، قلت له: فعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يتكلم الناس فيه قال رأيت علي بن المديني وأحمد بن حنبل والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون به، قال قلت فمن يتكلم يقول ماذا، قال يقولون إن عمرو بن شعيب أكثر أو نحو هذا) اهـ. نص الدارقطني.
3 - وقال الحاكم في الجزء الثاني من المستدرك ص 46 - 47 طبعة حيدراباد بعد روايته حديث: (لا يحل للرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطى ولده) . الحديث من طريق حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن طاوس عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حديث صحيح الإسناد، فإني لا أعلم خلافا في عدالة عمرو بن شعيب إنما اختلفوا في سماع أبيه من جده. حدثنا علي بن حمشاذ العدل ثنا هشام بن علي، ومحمد بن غالب قالا ثنا مولى بن إسماعيل ثنا حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند، وحبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يجوز لامرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها (1) » ، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. سمعت علي بن عمر الحافظ يعني الدارقطني - يقول سمعت أبا بكر بن زياد الفقيه النيسابوري يقول: سمعت محمد بن علي بن حمدان الوراق يقول: قلت لأحمد بن حنبل عمرو بن شعيب سمع من أبيه شيئا، فقال هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، وقد صح سماع عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب وصح سماع شعيب من جده عبد الله بن
__________
(1) سنن النسائي العمرى (3756) ، سنن أبو داود البيوع (3546) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2388) ، مسند أحمد بن حنبل (2/221) .(36/43)
عمرو، وقال في ص 5 بعد روايته حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في كنز وجده رجل: (إن كنت وجدته في قرية مسكونة أو في سبيل ميتاء فعرفه، وإن كنت وجدته في خربة جاهلية أو في قرية غير مسكونة أو غير سبيل ميتاء ففيه وفي الركاز الخمس) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال: قد أكثرت في هذا الكتاب الحجج في تصحيح روايات عمرو بن شعيب إذا كان الراوي عنه ثقة ولا يذكر عنه أحسن من هذه الروايات، وكنت أطلب الحجة الظاهرة في سماع شعيب بن محمد من عبد الله بن عمرو فلم أصل إليها (1) إلى هذا الوقت، حدثني أبو الحسن علي بن عمر الحافظ - يعني الدارقطني - ثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد الفقيه النيسابوري، ثنا محمد بن عبيد ثنا عبيد الله بن عمر عن عمرو بن شعيب، عن أبيه أن رجلا أتى عبد الله بن عمرو يسأله عن محرم وقع بامرأة فأشار إلى عبد الله بن عمر، فقال: اذهب إلى ذلك فسله، قال شعيب: فلم يعرفه الرجل فذهبت معه، فسأل ابن عمر فقال بطل حجك، فقال الرجل ما أصنع؟ فقال احرم مع الناس واصنع ما يصنعون وإذا أدركت قابلا فحج واهد، فرجع إلى عبد الله بن عمرو وأنا معه فقال اذهب إلى ابن عباس فسله، قال شعيب: فذهبت معه إلى ابن عباس فسأله، فقال له كما قال ابن عمر فرجع إلى عبد الله بن عمرو وأنا معه فأخبره بما قال ابن عباس، ثم قال ما تقول أنت فقال قولي مثل ما قالا. (هذا حديث ثقات رواية حفاظ وهو كالأخذ باليد في صحة سماع شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو) اهـ. كلام الحاكم، وقد قال الزيلعي في جـ 3 من نصب الراية في كلامه على هذا الحديث بعد إيراده عن طريق سنن الدارقطني ما نصه (وعن الدارقطني رواه الحاكم وعن الحاكم رواه البيهقي في المعرفة، وقال إسناده صحيح وفيه دلالة على صحة سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو ومن ابن عباس) انتهى، وقال الشيخ في الإمام رجاله كلهم ثقات مشهورون اهـ.
__________
(1) يظهر ما يلي الصواب (إلا) بدل (إلى) .(36/44)
وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في (التقصي لحديث الموطأ وشيوخ الإمام مالك) ص 255 نشر مكتبة القدسي، قال: (حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مقبول عند أكثر أهل العلم بالنقل أنبأنا أبو محمد عبد الله بن محمد أخبرنا أبو بكر محمد بن عثمان قال: أخبرنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: أخبرنا علي بن المديني قال: عمرو بن شعيب هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، سمع عمرو بن شعيب من أبيه وسمع أبوه من عبد الله بن عمرو بن العاص) اهـ.(36/45)
2 - ما ورد من الأحاديث المرفوعة في أن دية الذمي كدية المسلم:
(أ) قال الدارقطني في الجزء الثاني من سننه ص 349 نا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن بهلول نا جدي نا أبي حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل دية المعاهد كدية المسلم» (قال الدارقطني) عثمان هو الوقاصي متروك الحديث اهـ كلام الدارقطني. وعثمان الوقاصي الذي أعل به هذا الحديث قال فيه البخاري تركوه، وقال ابن معين: ليس بشيء وقال مرة يكذب وضعفه علي بن المديني جدا، وقال النسائي والدارقطني متروك ذكر ذلك الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال جـ3 ص 42.
(ب) قال عبد الرزاق في مصنفه جـ 10 ص 92 عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن شعيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض على كل مسلم قتل رجلا من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم، وأنه ينفى من أرضه إلى غيرها، وأن رجلا من خثعم قتل رجلا من أهل الحرة على عهد عمر بن عبد العزيز وأن عمر نفاه إلى أرض خثعم، أو قال مربيته. قال عمرو فكان عندنا حتى جهزناه إلى قومه فانطلق، ومن طريق عبد الرزاق روى الدارقطني المرفوع من هذا الحديث وزاد وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل عقل أهل الكتاب من(36/45)
اليهود والنصارى على النصف من عقل المسلمين، وقال الدارقطني في سننه جـ2 ص 349 نا محمد بن إسماعيل الفارسي نا إسحاق ثنا عبد الرزاق، ثنا ابن جريج أخبرني عمرو بن شعيب «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض على كل مسلم قتل رجلا من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم» «وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل عقل أهل الكتاب من اليهود والنصارى على النصف من عقل المسلمين (1) » . قال الزيلعي في نصب الراية في حديث عبد الرزاق هذا هو معضل (2) وهذا الحديث عند البيهقي أيضا في سننه جـ 8 ص 10 من غير طريق عبد الرزاق قال: أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي، أنبا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني ثنا محمد بن عبد الوهاب، أنبا جعفر بن عون أنبا ابن جريج، أخبرني عمرو بن شعيب «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض على كل مسلم قتل رجلا من أهل الكتاب أربعة آلاف» اهـ.
وقال عبد الرزاق في (باب دية المجوسي من مصنفه جـ 8 ص 95- 96) عن معمر عن الزهري قال: دية اليهودي والنصراني والمجوسي وكل ذمي مثل دية المسلم، قال: وكذلك كانت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان حتى كان معاوية فجعل في بيت المال نصفها وأعطى أهل المقتول نصفا، ثم قضى عمر بن عبد العزيز بنصف الدية فألغى الذي جعله معاوية في بيت المال قال: وأحسب عمر رأى ذلك النصف الذي جعله معاوية في بيت المال ظلما منه. قال الزهري: فلم يقض لي أن أذاكر ذلك عمر بن عبد العزيز فأخبره أن قد كانت الدية تامة لأهل الذمة، قلت للزهري أنه بلغني أن ابن المسيب قال ديته أربعة آلاف، فقال إن خير الأمور ما عرض على كتاب الله، قال الله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (3) ، فإذا أعطيته ثلث الدية فقد سلمتها إليه. ورواه البيهقي من كتاب الديات من سننه الكبرى جـ 8 ص 102 من غير طريق عبد الرزاق قال: أخبرنا أبو زكريا ابن أبي إسحاق أنبأ أبو عبد الله الشيباني ثنا
__________
(1) سنن النسائي القسامة (4806) ، سنن ابن ماجه الديات (2644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/224) .
(2) لعله صنيع.
(3) سورة النساء الآية 92(36/46)
محمد بن عبد الوهاب أنبأ جعفر بن عون أنبأ ابن جريج عن الزهري قال: كانت دية اليهودي والنصراني في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل دية المسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما كان معاوية أعطى أهل المقتول النصف وألقى النصف في بيت المال، قال ثم قضى عمر بن عبد العزيز في النصف وألغى ما كان جعل معاوية، وهذا الحديث قال البيهقي فيه: قد رده الشافعي بكونه مرسلا وبأن الزهري قبيح المرسل وإنا روينا عن عمر وعثمان - رضي الله عنهما - ما هو أصح منه. اهـ. وتعقب الزيلعي في نصب الراية جـ 4 ص 368 وابن التركماني في الجوهر النقي صمت102 - 103 في ضيع (1) الشافعي في هذا الحديث، فقد قال الزيلعي قلنا يلزم الشافعي أن يعمل بمثله لأنه أرسل من جهة أخرى، كما رواه أبو داود في مراسيله عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن كما تقدم لا سيما وقد عملت به الصحابة مثل أبي بكر وعثمان وابن مسعود وعلي بن أبي طالب؛ حيث روى عنه: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا. اهـ.
وقال ابن التركماني المارديني في الجوهر النقي قلت ذكر عبد الرازق هذا الحديث في مصنفه عن معمر عن الزهري، بلغني أن ابن المسيب قال: ديته أربعة آلاف قال: إن خير الأمور ما عرض على كتاب الله، قال الله تعالى: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (2) وذكر أبو داود في مراسيله بسند صحيح عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: كان عقل الذمي مثل عقل المسلم في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزمن أبي بكر وعمر وزمن عثمان، حتى كان صدرا من خلافة معاوية إن كان أهله أصيبوا به فقد أصيب به بيت مال المسلمين، فاجعلوا لبيت مال المسلمين النصف ولأهله النصف خمسمائة دينار، ثم قتل رجل آخر من أهل الذمة فقال معاوية لو أنا نظرنا إلى هذا الذي يدخل بيت المال فجعلناه وضيعا عن المسلمين وعونا لهم، قال: فمن هناك وضع عقلهم إلى خمسمائة. قال أبو داود: رواه ابن إسحاق ومعمر عن الزهري نحو هذا، وحديث ابن إسحاق أتم. وأخرج أيضا في مراسيله بسند رجاله ثقات عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول
__________
(1) لعله صنيع.
(2) سورة النساء الآية 92(36/47)
الله - صلى الله عليه وسلم: «دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار» وقد تأيد هذا المرسل بمرسلين صحيحين وبعدة أحاديث مسندة وإن كان فيها كلام. وبمذاهب جماعة من الصحابة ومن بعدهم فوجب أن يعمل به الشافعي كما عرف من مذهبه، وفي التمهيد روى ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس في قضية بني قريظة والنضير أنه عليه الصلاة والسلام جعل ديتهم سواء دية كاملة. وعمر وعثمان قد اختلف عنهما، وقد تقدم عن عثمان على موافقة هذه الأحاديث من وجوه بعضها في غاية الصحة كما قدمنا عن ابن حزم، وهو الذي دل عليه ظاهر كتاب الله تعالى لأنه تعالى قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (1) ثم قال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (2) ، والظاهر أن هذه الدية هي الدية الأولى وكذا فهم جماعة من السلف. قال ابن أبي شيبة ثنا عبد الرحيم هو ابن سليمان عن أشعث، هو ابن سوار عن الشعبي وعن الحكم وحماد عن إبراهيم قالا: دية اليهودي والنصراني والحربي المعاهد مثل دية المسلم، ونساؤهم على النصف عن دية الرجال وكان عامر يتلو هذه الآية: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (3) وأشعث وإن تكلموا فيه يسيرا فقد تقدم أن مسلما روى له متابعة وأخرج له ابن خزيمة في صحيحه والحاكم في مستدركه، وقال ابن أبي شيبة أيضا: ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن الزهري سمعته يقول دية المعاهد دية المسلم وتلا الآية السابقة، وهذا السند في غاية الصحة فلو كان مذهب عمر وعثمان كما ذهب إليه الشافعي لما تركت هذه الأدلة لقولهما فكيف وقد اختلف عنهما. اهـ كلام ابن التركماني.
(ج) قال الترمذي في الباب الذي يلي (باب ما جاء فيمن يقتل نفسا معاهدة) من جامعه جـ 6 ص 176 - 177 قال حدثنا أبو كريب حدثنا يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش عن أبي سعد عن عكرمة عن ابن عباس «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودى العامريين بدية المسلمين وكان لهما عهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم (4) » - قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وأبو
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) سورة النساء الآية 92
(3) سورة النساء الآية 92
(4) سنن الترمذي الديات (1404) .(36/48)
سعد البقال اسمه سعيد بن المرزبان.
(د) قال البيهقي في الديات عن السنن الكبرى جـ 8 ص 102 أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أنبأ أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري، حدثني جعفر بن أحمد الحافظ ثنا الحسن بن عيسى ثنا أبو بكر بن عياش عن أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس قال «جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية العامريين دية الحر المسلم وكان لهما عهد (1) » . وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أنبا أحمد بن عبيد الصفار ثنا (سفاطي يعني العباس بن الفضل، ثنا أحمد بن يونس ثنا أبو بكر - فذكره بإسناده إلا أنه قال جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دية المعاهدين دية المسلم، ثم قال البيهقي: فأبو سعد هذا سعيد بن المرزبان البقال لا يحتج به ثم ظاهره يوجب أن يكون كحديث عمرو بن شعيب، والله أعلم ورواه الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: «ودى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين من المشركين وكانا منه في عهد دية الحر المسلم (2) » أخبرناه أبو عبد الله الحافظ ثنا علي بن حمشاذ ثنا محمد بن المغيرة، ثنا القاسم بن الحكم العريني ثنا الحسن بن عمارة فذكره والحسن بن عمارة متروك لا يحتج به) اهـ.
(هـ) قال الدارقطني في الجزء الثاني من سننه ص 343 نا جعفر بن محمد بن نصير، نا أبو أحمد بن عبدوس نا علي بن الجعد نا أبو كرز قال: سمعت نافعا عن ابن عمر ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه «ودى ذميا دية مسلم» . أبو كرز هذا متروك الحديث ولم يروه عن نافع غيره) . وقال بعد ذلك في ص 349 نا علي بن إبراهيم بن حماد نا أحمد بن علي الحلواني، نا علي بن الجعد نا أبو كرز القرشي عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دية ذمي دية مسلم» ثم قال: (لم يرفعه عن نافع غير أبي كرز وهو متروك واسمه عبد الله بن عبد الملك الفهري (وقال في حواشيه على كتاب المجروحين لابن حبان في حديث أبي كرزه هذا قال فيه هذا باطل لا أصل له) اهـ. وقال البيهقي في كتاب الديات من السنن الكبرى جـ 8 ص 102 وأما الذي أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أنبأ أحمد بن عبيد ثنا أحمد بن يحيى
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1404) .
(2) سنن الترمذي الديات (1404) .(36/49)
الحلواني ثنا علي بن الجعد أنبأ أبو كرز عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دية مسلم دية ذمي» وقال غيره عن علي بن الجعد «ودى ذميا دية مسلم» فأخبرنا أبو عبد الرحمن السلخي وأبو بكر بن الحارث قالا قال: أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني الحافظ أبو كرز هذا متروك الحديث ولم يروه عن نافع غيره واسمه عبد الله بن عبد الملك الفهري) اهـ.
(و) ما روى محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة، عن ابن عباس قال لما نزلت:. . {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} (1) الآية، قال كان إذا قتل بنو النضير من بني قريظة قتيلا أدوا نصف الدية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا الدية إليهم قال فسوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم في الدية. قال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن جـ 2 ص 239، طبعة دار الكتاب العربي ببيروت لما قال: أدوا الدية، ثم قال سوى بينهم في الدية دل ذلك على أنه راجع إلى الدية المعهودة المبدوء بذكرها؛ لأنه لو كان رد بني النضير إلى نصفها قال سوى بينهم في نصف الدية ولم يقل سوى بينهم في الدية.
وهذا الاستدلال ليس بوجيه عند الحافظ ابن عبد البر فقد نقل عنه القرطبي في تفسير قول الله تعالى {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (2) أنه قال في ذلك الحديث (هذا حديث فيه لين وليس في مثله حجة) اهـ.
أخرج ابن عدي في الكامل عن بركة بن محمد الحلبي ثنا الوليد عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة «أن الدية كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي دية المسلم واليهودي والنصراني سواء فلما استخلف معاوية صير دية اليهودي والنصراني على النصف فلما استخلف عمر بن عبد العزيز رده إلى القضاء الأول» قال الزيلعي في نصب الراية جـ 4 ص 367 في هذا الحديث أعله - أي ابن
__________
(1) سورة المائدة الآية 42
(2) سورة النساء الآية 92(36/50)
عدي ببركة الحلبي وقال سائر أحاديثه باطلة) اهـ.
قال الحافظ الذهبي في ترجمة بركة بن محمد الحلبي راوي هذا الحديث من كتابه ميزان الاعتدال في نقد الرجال جـ1 ص 330 - 340، وبركة بن محمد الحلبي عن يوسف بن أسباط، والوليد بن مسلم متهم بالكذب. قال ابن حبان حدثونا عنه كان يسرق الحديث وربما قلبه. وذكر الذهبي من أباطيله هذا الحديث من طريق ابن عدي قال: قال ابن عدي حدثنا أحمد بن عبد الله بن شابور أنبأنا بركة بن محمد، حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة «أن الدية كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي دية المسلم واليهودي والنصراني سواء، فلما استخلف معاوية صير دية اليهودي والنصراني على النصف، فلما استخلف عمر بن عبد العزيز رده إلى القضاء الأول» ، ثم قال الذهبي: (قال ابن عدي وسائر أحاديثه باطلة بلغني عن صالح جزرة أنه وقف على حلقة أبي الحسين السمناني ببخارى وهو يحدث عن بركة ببعض هذه البلايا فقال ماذي بركة ذي نقمة، قال الدارقطني في سننه بركة يضع الحديث) اهـ. المراد من كلام الذهبي.(36/51)
3 - ما ورد مرفوعا في دية المجوسي: قال البيهقي في باب دية أهل الذمة من سننه الكبرى جـ 8 ص 101 أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد الماليني أنبأ أبو أحمد بن عدي الحافظ ثنا عيسى بن أحمد الصدقي، ثنا علان بن المغيرة، ثنا أبو صالح، ثنا ابن ربيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «دية المجوسي ثمانمائة درهم (1) » تفرد به أبو صالح كاتب الليث والأول أشبه أن يكون محفوظا، يعني بالأول ما رواه البيهقي في ص 101 حيث قال أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا بحر بن نصر، ثنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب أن عليا وابن مسعود - رضي الله عنهما - كانا يقولان في دية المجوسي ثمانمائة درهم وقد قال ابن التركماني
__________
(1) موطأ مالك العقول (1617) .(36/51)
في الجوهر النقي ص 101 ما نصه (قال الطحاوي لا يعلم روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في دية المجوسي غير هذا الحديث الذي لا يثبته أهل الحديث لأجل ابن لهيعة ولا سيما من رواية عبد الله بن صالح عنه) اهـ.(36/52)
4 - ما ورد مرفوعا في تحديد دية المعاهد بألف دينار: جاء عن سعيد بن المسيب «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار» وهذا مرسل وقفه الشافعي في مسنده على سعيد بن المسيب، ذكر ذلك الزيلعي في نصب الراية جـ 6 ص 366، ولفظه أخرجه أبو داود في المراسيل عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار» " انتهى، ووقفه الشافعي في مسنده على سعيد فقال: أخبرنا محمد بن الحسن ثنا محمد بن يزيد ثنا سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال (دية كل معاهد في عهده ألف دينار) اهـ. قال ابن التركماني في الجوهر النقي جـ 98 - 103 بهامش السنن الكبرى قال ورجاله - أي مرسل سعيد بن المسيب المذكور عند أبي داود - ثقات، ثم قال (وقد تأيد بمرسلين صحيحين وبعدة أحاديث مسنده وإن كان فيها كلام، وبمذاهب جماعة كثيرة من الصحابة ومن بعدهم فوجب أن يعمل به الشافعي كما عرف من مذهبه) اهـ.(36/52)
5 - تحديد عمر لدية اليهودي والنصراني والمجوسي: روى عبد الرزاق في مصنفه جـ 10 ص 93 في باب دية أهل الكتاب عن الثوري عن أبي المقدام عن ابن المسيب قال جعل عمر بن الخطاب دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم. وقال ابن أبي شيبة في جـ 9 مصنفه ص 288 تحت عنوان من قال: (الذمي على النصف أو أقل) حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن أبي المقدام عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال: (دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ودية المجوسي ثمانمائة) ، وقال الدارقطني في الجزء الثاني من سننه ص 343 حدثنا الحسين بن صفوان نا عبد الله بن أحمد حدثني أبي نا يحيى بن سعيد عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن(36/52)
المسيب عن عمر قال دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف والمجوسي ثمانمائة. نا الحسين بن صفوان، نا عبد الله بن أحمد نا أبو محمد زكريا بن يحيى رحمويه، ثنا شريك عن ثابت، أبي المقدام ويحيى بن سعيد كلاهما عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف والمجوسي ثمانمائة، وقال الدارقطني جـ 2 ص 349 نا ابن حطبة علي بن الحسن، نا مجاهد بن موسى. ونا أبو محمد بن صاعد نا يعقوب الدورقي قالا: نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان عن ثابت الحداد عن سعيد بن المسيب عن عمر قال: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف والمجوسي ثمانمائة، وقال البيهقي في باب دية أهل الذمة من سننه جـ 8 ص 100 أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي أنبأ فضيل بن عياض عن منصور بن المعتمر عن ثابت الحداد عن ابن المسيب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قضى في دية اليهودي والنصراني بأربعة آلاف، وفي دية المجوسي بثمانمائة درهم) اهـ.
قال ابن التركماني في الجوهر النقي: قلت ذكر مالك وابن معين أن ابن المسيب لم يسمع من عمر، وقد ذكرنا ذلك غير مرة قال: وقد جاء عن عمر خلاف هذا. قال عبد الرزاق في مصنفه ثنا رباح بن عبيد الله أخبرني حميد الطويل أنه سمع أنس بن مالك يحدث أن يهوديا قتل غيلة فقضى فيه عمر بن الخطاب باثني عشر ألف درهم. قال الطحاوي ثنا إبراهيم بن منقذ، ثنا عبد الله بن يزيد المقرئ عن سعيد بن أبي أيوب، حدثني يزيد بن أبي حبيب أن جعفر بن عبد الله بن الحكم أخبره أن رفاعة بن السموءل اليهودي قتل بالشام فجعل ديته عمر ألف دينار، وهذا المسند رجاله على شرط مسلم خلا ابن منقذ وهو ثقة، أخرج له الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه) اهـ. كلام الزيلعي.
وقال الزيلعي في نصب الراية جـ 4 ص 365 في حديث عمر هذا رواه الشافعي في مسنده، أخبرنا فضيل بن عياض عن منصور عن ثابت عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قضى في اليهودي والنصراني أربعة آلاف وفي المجوسي ثمانمائة. ومن طريق الشافعي رواه البيهقي في المعرفة ثم(36/53)
روى من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن إياس بن معاوية قال: قال سعيد بن المسيب: إني لأذكر يوم نعي عمر بن الخطاب النعمان بن مقرن المزني على المنبر. انتهى وكأنه يشير بهذا إلى أن سعيدا عن عمر غير منقطع ورواه عبد الرزاق في مصنفه، أخبرنا الثوري عن أبي المقدام عن ابن المسيب ورواه ابن أبي شيبة حدثنا ابن مسهر عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي المليح عن عمر بنحوه وإليه أشار الترمذي في كتابه بقوله: وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: (دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ودية المجوسي ثمانمائة درهم) اهـ. كلام الزيلعي. رواية ابن أبي شيبة التي أشار إليها الزيلعي في مصنفه ابن أبي شيبة جـ 9 ص 294 قال تحت عنوان من قال لا يقتل مسلم بكافر: حدثنا ابن مسهر عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن أبي المليح أن (رجلا من قومه رمى رجلا يهوديا بسهم فقتله فرفع إلى عمر بن الخطاب فأغرمه أربعة آلاف ولم يقد منه) .
يتضح مما تقدم ما يأتي: 1- صحة الأحاديث المرفوعة في أن دية الذمي نصف دية المسلم.
2 - عدم صحة ما ورد مرفوعا في أن دية الذمي كدية المسلم.
3 - لم يرد في تحديد دية المجوسي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير حديث واحد تفرد به أبو صالح عن ابن لهيعة جزم بذلك الطحاوي.(36/54)
ثالثا: نقول عن الفقهاء:
1 - الحنفية:
(أ) قال صاحب فتح القدير جـ 10 ص 278: قال:
(ودية المسلم والذمي سواء) ، وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم. ودية المجوسي ثمانمائة درهم. وقال مالك: دية اليهودي والنصراني ستة آلاف درهم لقوله عليه الصلاة والسلام: «عقل الكافر نصف عقل المسلم (1) » والكل عنده اثنا عشر ألفا. وللشافعي ما روي «أن
__________
(1) سنن النسائي القسامة (4807) ، سنن ابن ماجه الديات (2644) .(36/54)
النبي عليه الصلاة والسلام جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ودية المجوسي ثمانمائة درهم (1) » . ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: «دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار» ، وكذلك قضى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وما رواه الشافعي رحمه الله لم يعرف راويه ولم يذكر في كتب الحديث. وما رويناه أشهر مما رواه مالك فإنه ظهر به عمل الصحابة رضي الله عنهم.
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1413) .(36/55)
(ب) قال صاحب بدائع الصنائع جـ 10 ص 4664:
وهل يختلف قدر الدية بالإسلام والكفر؟ قال أصحابنا رحمهم الله لا يختلف ودية الذمي والحربي (1) والمستأمن كدية المسلم، وهو قول إبراهيم النخعي والشعبي رحمهما الله والزهري رحمه الله.
وقال الشافعي رحمه الله تختلف، دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف ودية المجوسي ثمانمائة. واحتج بحديث رواه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه جعل دية هؤلاء على هذه المراتب، ولأن الأنوثة لما أثرت في نقصان البدل فالكفر أولى لأن نقيصة الكفر فوق كل نقيصة.
ولنا قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (2) ، أطلق سبحانه وتعالى القول بالدية في جميع أنواع القتل من غير فصل، فدل على أن الواجب في الكل على قدر واحد. وروينا أنه عليه الصلاة والسلام جعل دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار. وروي «أن عمرو بن أمية الضمري قتل مستأمنين فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهما بدية حرين مسلمين» . وعن الزهري رحمه الله أنه قال قضى سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر - رضي الله تعالى عنهما - في دية الذمي بمثل دية المسلم ومثله لا يكذب.
وكذا روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: دية أهل الكتاب مثل دية المسلمين، ولأن وجوب كمال الدية يعتمد كمال حال القتيل فيما يرجع إلى أحكام الدنيا وهي الذكورة والحرية والعصمة وقد وجد، ونقصان الكفر يؤثر في أحكام الدنيا.
__________
(1) لعل الواو زائدة.
(2) سورة النساء الآية 92(36/55)
2 - المالكية:
(أ) قال صاحب المدونة الكبرى جـ 6 ص 395:
قلت لابن القاسم كم ديات أهل الكتاب في قول مالك ودية نسائهم؟ (قال) دية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين رجالهم على النصف من دية رجال المسلمين، ونساؤهم على النصف من نساء المسلمين، وأما المجوس فإن دية رجالهم ثمانمائة درهم ودية نسائهم أربعمائة درهم، وجراحهم في دياتهم على قدر جراحات المسلمين في دياتهم (قال) وهذا كله قول مالك.(36/56)
(ب) قال صاحب بداية المجتهد جـ 2 ص 478:
وأما دية أهل الذمة إذا قتلوا خطأ فإن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال، أحدها: أن ديتهم على النصف من دية المسلم ذكرانهم على النصف من ذكران المسلمين، ونساؤهم على النصف من نسائهم وبه قال مالك وعمر بن عبد العزيز، وعلى هذا تكون جراحهم على النصف من دية المسلمين، والقول الثاني: أن ديتهم ثلث دية المسلم وبه قال الشافعي، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وقال به جماعة من التابعين، والقول الثالث: أن ديتهم مثل دية المسلمين وبه قال أبو حنيفة والثوري وجماعة، وهو مروي عن ابن مسعود وقد روي عن عمر وعثمان وقال به جماعة التابعين. فعمدة الفريق الأول ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال دية الكافر على النصف من دية المسلم (1) » .
وعمدة الحنفية عموم قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (2) ، ومن السنة ما رواه معمر عن الزهري قال: «دية اليهودي والنصراني وكل ذمي مثل دية المسلم، قال: وكانت كذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي حتى كان معاوية فجعل في بيت المال نصفها وأعطى أهل المقتول نصفها، ثم قضى عمر بن عبد العزيز بنصف الدية وألغى الذي جعله معاوية في بيت المال» . قال الزهري: فلم يقض لي أن أذاكر بذلك عمر بن عبد العزيز فأخبره أن الدية قد كانت تامة لأهل الذمة.
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1413) ، سنن النسائي القسامة (4806) ، مسند أحمد بن حنبل (2/180) .
(2) سورة النساء الآية 92(36/56)
3 - الشافعية:(36/56)
(أ) قال الشافعي في الأم جـ 6 ص 92:
قال الشافعي وأمر الله تعالى في المعاهد يقتل خطأ بدية مسلمة إلى أهله ودلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يقتل مؤمن بكافر مع ما فرق الله عز وجل بين المؤمنين والكافرين، فلم يجز أن يحكم على قاتل الكافر إلا بدية ولا أن ينقص منها إلا بخبر لازم، فقضى عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - في دية اليهودي والنصراني بثلث دية المسلم، وقضى عمر في دية المجوسي بثمانمائة درهم وذلك ثلثا عشر دية المسلم؛ لأنه كان يقول تقوم الدية اثني عشر ألف درهم، ولم نعلم أحدا قال في دياتهم أقل من هذا، وقد قيل: إن دياتهم أكثر من هذا فالزمنا قاتل كل واحد من هؤلاء الأقل مما اجتمع عليه فمن قتل يهوديا أو نصرانيا خطأ وللمقتول ذمة بأمان إلى مدة أو ذمة بإعطاء جزية أو أمان ساعة فقتله في وقت أمانه من المسلمين، فعليه ثلث دية المسلم وذلك ثلاث وثلاثون من الإبل وثلث، ومن قتل مجوسيا أو وثنيا له أمان فعليه ثلثا عشر دية مسلم وذلك ست فرايض وثلثا فريضة مسلم) .(36/57)
(ب) قال صاحب نهاية المحتاج جـ 7 ص 303:
(ويهودي ونصراني) له أمان وتحل مناكحته (ثلث) دية (مسلم) نفسا وغيرها لقضاء عمر وعثمان - رضي الله عنهما - به ولم ينكر مع انتشاره فكان إجماعا أما من لا أمان له فمهدر وأما من لا تحل مناكحته فديته كدية مجوسي (ومجوسي) له أمان (ثلثا عشر) أو ثلث خمس وهو أنسب في اصطلاح أهل الحساب لإيثارهم الأخصر لا الفقهاء فلا اعتراض دية (مسلم) وهي ستة أبعرة وثلثان لقضاء عمر به ولأن للذمي بالنسبة للمجوسي خمس فضائل كتاب ودين كان حقا وحل ذبيحته، ومناكحته وتقريره بالجزية وليس للمجوسي منها سوى الأخير، فكان فيه خمس ديته وهو أخس الديات (وكذا وثني) ، أي عابد وثن وهو الصنم من حجر وغيره، وقيل من غيره فقط، وكذا عابد نحو شمس وزنديق وغيرهم ممن (له أمان) منا لنحو دخوله رسولا كالمجوسي ودية نساء كل وخناثاهم على النصف من رجالهم ويراعى هنا التغليظ وضده كما مر) .(36/57)
(ج) قال صاحب المجموع شرح المهذب جـ 17 ص 414- 417:
فصل - ودية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم. ودية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم لما روى سعيد بن المسيب أن عمر - رضي الله عنه - جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ودية المجوسي ثمانمائة درهم. وأما الوثني إذا دخل بأمان وعقدت له هدنة، فديته ثلثا عشر دية المسلم؛ لأنه كافر لا يحل للمسلم مناكحة أهل دينه، فكانت ديته ثلثي عشر دية المسلم كالمجوسي.
وأما من لم تبلغه الدعوة فإنه إن عرف الدين الذي كان متمسكا به وجبت فيه دية أهل دينه، وإن لم يعرف وجبت فيه دية المجوسي؛ لأنه متحقق وما زاد مشكوك فيه فلم يجب.
وقال أبو إسحاق: إن كان متمسكا بدين مبدل وجبت فيه دية أهل ذلك الدين، وإن كان متمسكا بدين لم يبدل وجبت فيه دية مسلم؛ لأنه مولود على الفطرة ولم يظهر منه عناد فكملت ديته كالمسلم، والمذهب الأول لأنه كافر فلم تكمل ديته كالذمي، وإن قطع يد ذمي ثم أسلم ومات وجبت فيه دية مسلم؛ لأن الاعتبار في الدية بحال استقرار الجناية وهو في حال الاستقرار مسلم. وإن جرح مسلم مرتدا فأسلم ومات من الجرح لم يضمن.
وقال الربيع: فيه قول آخر أنه يضمن لأن الجرح استقر وهو مسلم، قال أصحابنا: هذا من كيس الربيع. والمذهب الأول؛ لأن الجرح وجد فيما استحق إتلافه فلم يضمن سرايته كما لو قطع الإمام يد السارق فمات منه.
(فصل) ودية المرأة نصف دية الرجل؛ لأنه روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.
الشرح: خبر سعيد بن المسيب رواه الشافعي والدارقطني والبيهقي أما قوله: روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي إلخ، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عمر قال: " دية المرأة نصف دية الرجل "، كما أخرج البيهقي عن علي - رضي الله عنه - دية المرأة على النصف من دية الرجل وهو رواية إبراهيم النخعي عنه وفيه(36/58)
انقطاع وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه، وأخرج البيهقي عن معاذ بن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دية المرأة نصف دية الرجل» قال البيهقي في إسناده لا يثبت مثله "، وقال في بداية المجتهد: إن الأشهر عن ابن مسعود وعثمان وشريح وجماعة: أن دية جراحة المرأة مثل دية جراحة الرجل إلا الموضحة فإنها على النصف.
أما الأحكام: فإن دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم وبه قال عمر وعثمان رضي الله عنهما، وابن المسيب وعطاء وإسحاق. وقال عروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز ومالك: ديته نصف دية المسلم لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عقل الكافر نصف دية المسلم (1) » رواه أحمد والنسائي والترمذي، وحسنه وصححه ابن الجارود. وفي لفظ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين، وهم اليهود والنصارى. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والزهري وزيد بن علي والقاسمية ديته كدية المسلم، وقال أحمد: (إن قتله عمدا فديته مثل دية المسلم) دليلنا ما روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم. ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلم، قال: وكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا، فقال: إن الإبل قد غلت قال ففرضها عمر على أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة. قال وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية (2) » فإذا كانت الدية ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم للمسلم والذمي على النصف من ذلك، ثم زاد من قيمة الدية للمسلم من حيث لم يزدها لأهل الكتاب، تبين لنا أن دية المسلم التي بلغت ألف دينار أو اثني عشر ألف درهم مع بقاء دية الذمي أربعمائة دينار أو أربعة آلاف درهم؛ لأنها لم ترفع فيما رفع من الدية. نقول تبين لنا أن دية الذمي على الثلث من دية المسلم.
فرع: دية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم، وبه قال مالك وقال أبو حنيفة
__________
(1) سنن النسائي القسامة (4807) ، سنن ابن ماجه الديات (2644) ، مسند أحمد بن حنبل (2/224) .
(2) سنن أبو داود الديات (4542) .(36/59)
ديته مثل دية المسلم. وقال عمر بن عبد العزيز: ديته مثل دية اليهودي والنصراني وهو نصف دية المسلم عندهم.
دليلنا ما روي عن عمر وعثمان وابن مسعود وغيرهم أنهم قالوا: (دية المجوسي ثمانمائة درهم ثلثا عشر دية المسلم. فإذا كانت دية المسلم اثني عشر ألف درهم، فإن ثلثي عشرها ثمانمائة ولا مخالف لهم في الصحابة. فدل على أنه إجماع وأما عبدة الأوثان إذا كان بيننا وبينهم هدنة أو دخلوا إلينا بأمان فلا يجوز قتلهم، فمن قتل منهم وجبت فيه دية المجوسي؛ لأنه كافر لا يحل للمسلم مناكحة أهل دينه، فكانت ديته كالمجوسي ثلثي عشر دية المسلم. وأما الكافر الذي لم تبلغه الدعوة فلا يجوز قتله حتى يعرف أن هاهنا رسولا يدعو إلى الله. فإن أسلم وإلا قتل فإن قتله قاتل قبل أن تبلغه الدعوة، وجبت فيه الدية.
وقال أبو حنيفة (لا دية فيه) دليلنا أنه قتل محقون الدم فوجبت فيه الدية كالذمي.
إذا ثبت هذا، فاختلف أصحابنا في قدر ديته، فمنهم من قال تجب فيه دية المسلم لأنه مولود على الفطرة، ومنهم من قال: إن كان متمسكا بدين مبدل وجبت فيه دية أهل ذلك الدين، مثل أن يكون متمسكا بدين من بدل من اليهودية والنصرانية، وإن كان متمسكا بدين من لم يبدل منهم وجبت فيه دية مسلم؛ لأنه مسلم لم يظهر منه عناد. ومنهم من قال تجب فيه دية المجوسي؛ لأنه يقين وما زاد مشكوك فيه وهذا هو الأصح؛ لأن الشافعي - رضي الله عنه - قال: هو كافر لا يحل قتله. وإذا كان كافرا وجبت فيه أقل دياتهم لأنه اليقين.
وإن قطع يد ذمي ثم أسلم ثم مات من الجراحة وجبت فيه دية مسلم؛ لأن الاعتبار بالدية حال الاستبرار. وإن قطع مسلم يد مرتد ثم أسلم ثم مات من الجراحة لم يضمن القاطع دية النفس ولا دية اليد. وقال الربيع فيه قول آخر أنه يضمن دية اليد والمذهب الأول؛ لأنه قطعه في حال لا يجب ضمانه، وما حكاه الربيع من تخريجه.(36/60)
4 - الحنابلة:
(أ) قال صاحب المغني جـ 7 ص 796:
مسألة: قال (ودية المجوسي ثمانمائة درهم ونساؤهم على النصف) ، وهذا قول أكثر أهل العلم. قال أحمد: ما أقل ما اختلف في دية المجوسي! وممن قال ذلك عمر وعثمان وابن مسعود - رضي الله عنهم - وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء وعكرمة والحسن ومالك والشافعي وإسحاق، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ديته نصف دية المسلم كدية الكتابي؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (1) » وقال النخعي والشعبي وأصحاب الرأي ديته كدية المسلم؛ لأنه آدمي حر معصوم فأشبه المسلم.
ولنا قول من سمينا من الصحابة، ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفا فكان إجماعا، وقوله: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (2) » يعني في أخذ جزيتهم وحقن دمائهم بدليل أن ذبائحهم ونساءهم لا تحل لنا. ولا يجوز اعتباره بالمسلم ولا الكتابي لنقصان دينه وأحكامه عنهما، فينبغي أن تنقص ديته كنقص المرأة عن دية الرجل، وسواء كان المجوسي ذميا أو مستأمنا لأنه محقون الدم، ونساؤهم على النصف من دياتهم بإجماع. وجراح كل واحد معتبرة من ديته. وإن قتلوا عمدا أضعفت الدية على القاتل المسلم لإزالة القود. نص عليه أحمد قياسا على الكتابي.
(فصل) فأما عبدة الأوثان وسائر من لا كتاب له كالترك ومن عبد ما استحسن فلا دية لهم. وإنما تحقن دماؤهم بالأمان. فإذا قتل من له أمان منهم فديته دية مجوسي؛ لأنها أقل الديات فلا تنقص عنها، ولأنه كافر ذو عهد لا تحل مناكحته فأشبه المجوسي.
__________
(1) موطأ مالك الزكاة (617) .
(2) موطأ مالك الزكاة (617) .(36/61)
(ب) قال صاحب كشاف القناع جـ 6 ص 19:
ودية الذكر الحر المجوسي ثمانمائة درهم في قول عمر وعثمان وابن مسعود لما روى عقبة بن عامر مرفوعا (دية المجوسي ثمانمائة درهم) ، رواه ابن عدي وطعن فيه بعضهم وقوله - صلى الله عليه وسلم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب (1) » محمول
__________
(1) موطأ مالك الزكاة (617) .(36/61)
على أخذ الجزية وحقن الدم لا في كل شيء بدليل أن ذبائحهم ونساءهم لا تحل لنا (إن كان) المجوسي (ذميا أو مستامنا أو معاهدا بدارنا أو غيرها) لحقن دمه بخلاف الحربي (وجراح كل واحد معتبرة) بالنسبة (من ديته) لما تقدم، (وتضعيف دية الكافر على قاتله المسلم عمدا، ويأتي آخر الباب) موضحا (وأما عبدة الأوثان وسائر من لا كتاب له كالترك ومن عبد ما استحسن فلا دية لهم إذا لم يكن لهم أمان ولا عهد) ؛ لأن دماءهم مهدرة إذن (فإن كان له أمان فديته دية المجوسي) ؛ لأنه كافر لا تحل ذبيحته أشبه المجوسي (ومن لم تبلغه الدعوة إن وجد) ، وقد أخبرت عن قوم بآخر بلاد السودان لا يفقهون ما يقال لهم من غيرهم؛ وحينئذ فهؤلاء لا تبلغهم الدعوة (فلا ضمان فيه إذا لم يكن لهم أمان) ؛ لأنه لا عهد له ولا أمان أشبه الحربي، لكن لا يجوز قتله حتى يدعى، (فإن كان له أمان فديته دية أهل دينه) ؛ لأنه محقون الدم (فإن لم يعرف دينه فكمجوسي) لأنه اليقين وما زاد عليه مشكوك فيه.(36/62)
(ج) قال صاحب الإنصاف جـ 10 ص 65:
فائدتان: إحداهما: قوله (ودية المجوسي) الذمي والمعاهد والمستأمن منهم (ثمانمائة درهم) بلا نزاع. وكذا الوثني، وكذا من ليس له كتاب كالترك، ومن عبد ما استحسن كالشمس والقمر والكواكب ونحوها. وكذلك المعاهد منهم المستأمن بدارنا. على الصحيح من المذهب في المعاهد. قال في الترغيب في المستأمن لو قتل منهم من أمنوه بدارهم، وقال في المغني: دية المعاهد قدر دية أهل دينه.
الثانية: جراحهم تقدر بالنسبة إلى دياتهم.(36/62)
رابعا: خلاصة ما تقدم بإيجاز:
1 - يرى الحنفية أن دية الكافر المعصوم الدم مطلقا كتابيا أو غير كتابي مثل دية المسلم لعموم الآية {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (1) ، ولما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «دية كل ذي عهد وفق عهده ألف دينار» . وما روي أن عمرو بن أمية الضمري قتل مستأمنين فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهما بدية حرين
__________
(1) سورة النساء الآية 92(36/62)
مسلمين. وما ورد في معناهما ويرد على هذا بأن الآية مفسرة بالحديث الثابت الدال على أن ديته نصف دية المسلم - ولضعف الآثار الواردة في أن ديته مثل دية المسلم - ولأن الله سبحانه وتعالى فرق بين المسلم والكافر، كما فرق بين المرأة والرجل في كثير من الأحكام الدالة على أنه لا تكافؤ بين كافر ومسلم، كما أنه لا تكافؤ بين رجل وامرأة ولاحتمال أن يكون القتيل في قوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (1) الآية مؤمنا.
2 - يرى المالكية: أن دية المجوسي ثمانمائة درهم - ويرد على هذا أن الأثر الوارد في ذلك - أن ديته ثلثا عشر الدية - ضعيف - وأنه قد صح حديث بأن «عقل الكافر نصف عقل المسلم (2) » .
3 - يرى الشافعية: أن دية المجوسي وعابد الوثن أو الشمس والزنديق ونحوهم ممن له أمان ثلثا عشر دية مسلم، أي ثمانمائة درهم؛ لأنه أقل ما اجتمع عليه ولأثر سعيد بن المسيب المذكور آنفا.
ويرد على هذا ما ذكر آنفا مما أورد على المالكية.
4 - يرى الحنابلة: مثلما يرى المالكية والشافعية أن دية المجوسي وعبدة الأوثان وسائر من لا كتاب له ثمانمائة درهم، أي ثلثا عشر دية المسلم؛ لأنها أقل الديات فلا تنقص عنها.
ويرد عليه ما ورد على المالكية والشافعية هذا ما تيسر إعداده، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 92
(2) سنن النسائي القسامة (4807) ، سنن ابن ماجه الديات (2644) .(36/63)
صفحة فارغة(36/64)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية.(36/65)
من الفتوى رقم 6935
س: هل تعتبر فرقة الإباضية من الفرق الضالة من فرق الخوارج؟ وهل يجوز الصلاة خلفهم مع الدليل؟
الحمد الله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: فرقة الإباضية من الفرق الضالة لما فيهم من البغي والعدوان والخروج على عثمان بن عفان وعلي رضي الله عنهما، ولا تجوز الصلاة خلفهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/66)
من الفتوى رقم 1661
س: إن السائل وجماعة معه في الحدود الشمالية مجاورون للمراكز العراقية، وهناك جماعة على مذهب الجعفرية، ومنهم من امتنع عن أكل ذبائحهم، ومنهم من أكل، ونقول هل يحل لنا أن نأكل منها علما بأنهم يدعون عليا والحسن والحسين وسائر ساداتهم في الشدة والرخاء؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إذا كان الأمر كما ذكر السائل من أن الجماعة الذين لديه من الجعفرية يدعون عليا والحسن والحسين وسادتهم فهم مشركون مرتدون عن(36/66)
الإسلام والعياذ بالله، لا يحل الأكل من ذبائحهم؛ لأنها ميتة ولو ذكروا عليها اسم الله.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/67)
من الفتوى رقم 3008
س: أنا من قبيلة تسكن في الحدود الشمالية ومختلطون نحن وقبائل من العراق، ومذهبهم شيعة وثنية يعبدون قببا يسمونها بالحسن والحسين وعلي، وإذا قام أحدهم قال يا علي يا حسين وقد خالطهم البعض من قبائلنا في النكاح وفي كل الأحوال، وقد وعظتهم ولم يسمعوا وهم في القرايا والمناصيب، وأنا ما عندي أعظهم بعلم ولكن إني أكره ذلك ولا أخالطهم، وقد سمعت أن ذبحهم لا يؤكل وهؤلاء يأكلون ذبحهم ولم يتقيدوا، ونطلب من سماحتكم توضيح الواجب نحو ما ذكرنا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إذا كان الواقع كلما ذكرت من دعائهم عليا والحسن والحسين ونحوهم، فهم مشركون شركا أكبر يخرج من ملة الإسلام. فلا يحل أن نزوجهم المسلمات، ولا يحل لنا أن نتزوج من نسائهم، ولا يحل لنا أن نأكل من ذبائحهم، قال الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 221(36/67)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/68)
من الفتوى رقم 8187
س: هل الشيعة الحاليون كفار كلهم أو أئمتهم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الشيعة الحاليون فرق كثيرة فاقرأ عنهم في كتب الفرق المعاصرة لتعرف تفصيل القول في الحكم عليهم، واقرأ: " مختصر التحفة الاثنى عشرية "، وكتاب " الخطوط العريضة " لمحب الدين الخطيب، و" منهاج السنة " لابن تيمية و" المنتقى " منه للذهبي.
وبالله التوفيق وصلى الله عليه نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/68)
من الفتوى رقم 8564
س: بماذا تحكمون على الشيعة وخاصة الذين قالوا إن عليا في مرتبة النبوة وأن سيدنا جبريل غلط بنزوله على سيدنا محمد؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الشيعة فرق كثيرة، ومن قال منهم: إن عليا رضي الله عنه في مرتبة النبوة وإن جبريل عليه السلام غلط فنزل على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/69)
من الفتوى رقم 8852
س: أرجو توضيح الاختلاف بين السنة والشيعة وأقرب الفرق إلى السنة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الفروق بين أهل السنة والجماعة وبين الشيعة كثيرة فيما يتعلق بالتوحيد والنبوة والإمامة وغير ذلك، وقد كتب كثير من العلماء في ذلك كشيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة، والشهرستاني في الملل والنحل، وابن حزم في الفصل وغيرهم، والخطوط العريضة لمحب الدين الخطيب، ومختصر(36/69)
التحفة الاثنى عشرية فراجع ذلك في الكتب المذكورة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/70)
من الفتوى رقم 9247
س: ما حكم عوام الروافض الإمامية الاثنى عشرية؟ وهل هناك فرق بين علماء أي فرقة من الفرق الخارجة عن الملة وبين أتباعها من حيث التكفير أو التفسيق؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: من شايع من العوام إماما من أئمة الكفر والضلال، وانتصر لسادتهم وكبرائهم بغيا وعدوا حكم له بحكمهم كفرا وفسقا، قال الله تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} (1) . . إلى أن قال: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (2) {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (3) ، وأقرأ الآية رقم 165، 166، 167 من سورة البقرة، والآية رقم 37، 38، 39 من سورة الأعراف، والآية رقم 21، 22 من سورة إبراهيم، والآية رقم 28، 29 من سورة الفرقان، والآيات رقم 62، 63، 64 من سورة القصص، والآيات رقم 31، 32، 33 من سورة سبأ، والآيات رقم 20 حتى 36 من سورة الصافات، والآيات 47 حتى 50 من سورة غافر وغير ذلك في الكتاب والسنة كثير، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 63
(2) سورة الأحزاب الآية 67
(3) سورة الأحزاب الآية 68(36/70)
قاتل رؤساء المشركين وأتباعهم، وكذلك فعل أصحابه ولم يفرقوا بين السادة والأتباع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/71)
من الفتوى رقم 9420
س: هل طريقة الشيعة الإمامية من الإسلام؟ ومن الذي اخترعها؟ لأنهم أي الشيعة ينسبون مذهبم لسيدنا علي كرم الله وجهه، وأيضا إذا لم يكن مذهب الشيعة من الإسلام ما الخلاف بينه وبين الإسلام؟ وأرجو من فضيلتكم وإحسانكم بيانا واضحا شافيا بالأدلة الصحيحة خصوصا مذهب الشيعة وعقائدهم وبيان بعض الطرق المخترعة في الإسلام؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: مذهب الشيعة الإمامية مذهب مبتدع في الإسلام أصوله وفروعه، ونوصيك بمراجعة كتاب " الخطوط العريضة " و" مختصر التحفة الاثنى عشرية " و" منهاج السنة " لشيخ الإسلام، وفيها بيان الكثير من بدعهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/71)
من الفتوى رقم 11461
س: لقد انتشر في بلاد نيجيريا حب آية الله خميني وثورته الشيعية الإيرانية في شباب المسلمين، ويرى هؤلاء الشباب أنه لا يوجد لدى العالم الإسلامي دول تحكم بما أنزل الله إلا الدولة الإيرانية، ولا يوجد رئيس دولة مسلم إلا آية الله خميني، والآن بدأت دعوتهم تنتشر في نيجيريا؛ لذلك نرجو منكم توضيحا كافيا عن حقيقة الشيعة الإيرانية ورئيس هذه الدولة آية الله خميني وما يدعو إليه، وإن شاء الله إذا وجدنا ذلك سنحاول ترجمته بلغتنا الهوسا واللغة الإنجليزية حتى نتخلص من هذه العقيدة في بلادنا؛ لأن الجمهورية الإيرانية يرسلون للمسلمين في نيجيريا كتبا كثيرة في كل شهر، فأفتونا جزاكم الله خيرا وبارك الله فيكم.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: ما زعمه هؤلاء الشبان من أنه لا يوجد في العالم الإسلامي دولة تحكم بما أنزل الله إلا الدولة الإيرانية، ولا يوجد رئيس دولة مسلم إلا آية الله الخميني - زعم باطل بل كذب وافتراء، يشهد بذلك واقع الدولة الإيرانية ورئيسها عقيدة وعلما، فإن الشيعة الإمامية الاثنى عشرية قد نقلوا في كتبهم عن أئمتهم أن القرآن الذي جمعه عثمان بن عفان رضي الله عنه عن طريق حفاظ القرآن من الصحابة محرف بالزيادة فيه والنقص منه وبتبديل بعض كلماته وجمله، وبحذف بعض آيات وسور منه يعرف ذلك من قرأ كتاب (فصل الخطاب في تحريف كتاب رب الأرباب) الذي ألفه حسين بن محمد تقي النوري الطبرسي في تحريف القرآن وأمثاله مما ألف انتصارا للرافضة، ودعما لمذهبهم كمنهاج الكرامة لابن المطهر، كما أنهم يعرضون عن دواوين السنة الصحيحة كصحيحي البخاري ومسلم، فلا يعتبرونها مرجعا لهم في الاستدلال على الأحكام عقيدة وفقها، ولا يعتمدون عليها في تفسير القرآن وبيانه، بل استحدثوا كتبا في الحديث وأصلوا لأنفسهم أصولا غير سليمة يرجعون إليها(36/72)
في تمييز الضعيف في زعمهم من الصحيح، وجعلوا من أصولهم الرجوع إلى أقوال الأئمة الاثنى عشر المعصومين في زعمهم، فمن أين يكون لديهم من علم القرآن المتواتر والسنة الصحيحة، وقواعد الشريعة الثابتة وأحكامها ما يطبقون على قضايا أمتهم الإيرانية التي يحكمونها، وكيف يقال مع ذلك لا يوجد رئيس دولة مسلم إلا آية الله الخميني وهو القائل في كتابه (الحكومة الإسلامية) تحت عنوان الولاية التكوينية ص 52: [إن للأئمة مقاما محمودا ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون، وأن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل] اهـ إن هذا لهو الكذب الفاضح والبهتان المبين وننصحك بقراءة كتاب " مختصر التحفة الإثنى عشرية " للعلامة محمود شكري الألوسي ورسالة " الخطوط العريضة " لمحب الدين الخطيب وكتاب " منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية " للعلامة الشيخ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية و" كتاب المنتقى من منهاج السنة " للذهبي.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/73)
من الفتوى رقم 2289
س: كبير علماء بوهرة يصر على أنه يجب على أتباعه أن يقدموا له سجدة كلما يزورونه، فهل وجد هذا العمل في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين؟ وحديثا نشرت صورة لرجل بوهري يسجد لكبير علماء بوهرة في(36/73)
جريدة - من - الباكستانية المعروفة الصادرة في 6 \ 10 \ 1977 م ولإطلاعكم عليها نرفق لكم تلك الصورة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: السجود نوع من أنواع العبادة التي أمر الله بها لنفسه خاصة، وقربة من القرب التي يجب أن يتوجه العبد بها إلى الله وحده، لعموم قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) ، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) ، ولقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (3) ، فنهى سبحانه عباده عن السجود للشمس والقمر، لكونهما آيتين مخلوقتين لله فلا يستحقان السجود ولا غيره من أنواع العبادات، وأمر تعالى بإفراده بالسجود لكونه خالقا لهما ولغيرهما من سائر الموجودات، فلا يصح أن يسجد لغيره تعالى من المخلوقات عامة، ولقوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} (4) {وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} (5) {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (6) {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (7) ، فأمر بالسجود له تعالى وحده، ثم عم فأمر عباده أن يتوجهوا إليه وحده بسائر أنواع العبادة دون سواه من المخلوقات، فإذا كان حال البوهرة كما ذكر في السؤال، فسجودهم لكبيرهم عبادة وتأليه له، واتخاذ له شريكا مع الله أو إلها من دون الله، وأمره إياهم بذلك أو رضاه به يجعله طاغوتا يدعو إلى عبادة نفسه، فكلا الفريقين التابع والمتبوع كافر بالله خارج بذلك عن ملة الإسلام والعياذ بالله.
س: جميع النساء يقبلن يده ورجله، فهل يجوز في الإسلام لرجل غير
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة فصلت الآية 37
(4) سورة النجم الآية 59
(5) سورة النجم الآية 60
(6) سورة النجم الآية 61
(7) سورة النجم الآية 62(36/74)
محرم للنساء أن يلمس أيدي كبير العلماء وهذا العمل ليس خاصا بكبير العلماء، بل هو لكل فرد من أفراد أسرته؟
جـ: أولا: ما ذكر من تقبيل نساء البوهرة يد كبيرهم ورجله وتقبيلهن يد كل فرد من أسرته ورجله، لا يجوز ولم يعرف ذلك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا مع أحد من الخلفاء الراشدين، وذلك لما فيه من الغلو في تعظيم المخلوق، وهو ذريعة إلى الشرك.
ثانيا: لا يجوز للرجل أن يصافح امرأة أجنبية منه ولا أن يمس جسدها لما في ذلك من الفتنة، ولأنه ذريعة إلى ما هو شر منه من الزنا ووسائله، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمتحن من هاجرن إليه من المؤمنات بهذه الآية بقول الله، إلى قوله (3) » قال عروة: قالت عائشة: «فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد بايعتك كلاما، ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك (4) » فإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبايع النساء مصافحة، بل بايعهن كلاما فقط مع وجود المقتضى للمصافحة ومع عصمته وأمن الفتنة بالنسبة له، فغيره من أمته أولى بأنه يجتنب مصافحة النساء الأجنبيات منه، بل يحرم عليه ذلك فضلا عن تقبيل يده ورجله وأيدي أفراد أسرته وأرجلهم، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إني لا أصافح النساء (5) » ، وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (6) الآية.
س: كبير علماء بوهرة يدعي أنه المالك الكلي للروح والإيمان - العقائد الدينية - نيابة عن أتباعه.
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4891) ، صحيح مسلم الإمارة (1866) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3306) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2875) ، مسند أحمد بن حنبل (6/270) .
(2) سورة الممتحنة الآية 12 (1) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ}
(3) سورة الممتحنة الآية 12 (2) {غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(4) الإمام أحمد 6 \ 163، 270، والبخاري الأرقام 4180 و 4181 و 4891 و 7214 (الفتح) ومسلم 13 \ 10 (النووي) والترمذي رقم 3306، وابن ماجه رقم 2875.
(5) الإمام أحمد 6 \ 357 والإمام مالك في الموطأ، 2 \ 982 وابن ماجه برقم 2874، وأخرجه أحمد بلفظ '' إني لست أصافح النساء '' جـ 6 \ 454 و 459.
(6) سورة الأحزاب الآية 21(36/75)
جـ: إذا كان كبير علماء بوهرة يدعي ما ذكر فدعواه باطلة سواء أراد بما يدعيه من ملك الروح والإيمان أن الأرواح والقلوب بيده يصرفها كيف يشاء، فيهديها إلى الإيمان أو يضلها عن سواء السبيل، فإن ذلك ليس إلى أحد سوى الله تعالى، لقوله سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} (1) ، وقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} (2) ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن تصريف القلوب بهدايتها وإضلالها إلى الله دون سواه، ولما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: «قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء (3) » ، ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - عند فزعه إلى ربه بقوله: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك (4) » ، أو أراد بملكه الأرواح الإيمان نيابة عن جماعته أن إيمانه يكفي أتباعه أن يؤمنوا وأنهم يثابون بذلك ويؤجرون وينجون من العذاب، وإن أساءوا العمل وارتكبوا الجرائم والمنكرات فإن ذلك مناقض لما جاء في القرآن من قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (5) ، وقوله: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (6) ، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (7) {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} (8) {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ} (9) {عَنِ الْمُجْرِمِينَ} (10) {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} (11) . الآيات، وقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (12)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 125
(2) سورة الكهف الآية 17
(3) الإمام أحمد 2 \ 168 و 3 \ 112 و257 و 4 \ 182 و 6 \ 91 و 302 و 251 بألفاظ مختلفة، ومسلم 16 \ 203 (النووي) والترمذي برقم 2140 و 3522، وابن ماجه برقم 3834.
(4) الإمام أحمد بألفاظ مختلفة 4 \ 182 و 6 \ 91 و 251 و 294 و 302 و 315، الترمذي برقم 3140 و 3022 و 3587.
(5) سورة البقرة الآية 286
(6) سورة الطور الآية 21
(7) سورة المدثر الآية 38
(8) سورة المدثر الآية 39
(9) سورة المدثر الآية 40
(10) سورة المدثر الآية 41
(11) سورة المدثر الآية 42
(12) سورة النساء الآية 123(36/76)
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (1) ، وقوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (2) ، وقوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (3) ، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على أن كل إنسان يجزى بعمله خيرا كان أم شرا، ولما ثبت في الحديث من «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام حين أنزل عليه، فقال: يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا (5) » .
س: ويدعي أنه المالك الكلي لجميع أملاك الوقف، وأنه غير محاسب على جميع الصدقات، وهو الله على الأرض، كما ادعى ذلك كبير العلماء المتوفى سيدنا طاهر سيف الدين في قضية بالمحكمة العليا في مدينة بومباي، وله القدرة الكاملة على جميع أتباعه.
جـ: ما ذكر في السؤال عن دعوى كبير البوهرة ملكه الكلي لجميع أملاك الوقف، وأنه غير محاسب على جميع الصدقات وأنه هو الله على الأرض كلها دعاوى باطلة، سواء صدرت منه أم من غيره، أما الأولى فلأن أعيان الأوقاف لا تملك وإنما يملك الانتفاع بغلتها وذلك بصرفها إلى الجهات التي جعلت وقفا عليها لا إلى غيرها، فلا يملك كبير البوهرة أعيان - أي أوقاف - ولا يملك شيئا من غلتها إلا غلة ما جعل وقفا عليه إن كان أهلا لذلك.
وأما الثانية: وهي دعوى أنه غير محاسب فلأن كل امرئ محاسب على
__________
(1) سورة النساء الآية 124
(2) سورة النجم الآية 39
(3) سورة فاطر الآية 18
(4) البخاري برقم 4770 (الفتح) ، الدارمي 2 \ 305.
(5) سورة الشعراء الآية 214 (4) {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}(36/77)
جميع أعماله من التصرف في الصدقات وغيرها بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وأما الثالثة، وهي دعوى أنه الله في الأرض - فكفر صراح ومن ادعى ذلك فهو طاغوت يدعو إلى تأليه نفسه وعبادتها، وبطلان ذلك معلوم من دين الإسلام بالضرورة.
س: ويدعي أنه يحق له أن يعلن البراءة والمقاطعة الاجتماعية ضد الذين يعترضون على مثل هذه الأعمال.
جـ: إن كانت صفة كبير علماء بوهرة على ما تقدم في الأسئلة فلا يجوز له أن يتبرأ ممن يعترضون عليه فيما ارتكبه من أنواع الشرك، بل يجب عليه قبول نصحهم والإقلاع عن تأليه نفسه وعن دعوى اتصافه بما هو من اختصاص الله تعالى من الألوهية وملك الأرواح والقلوب، ودعوة من حوله إلى عبادته وإلى غلوهم في الضراعة والخضوع له ولأفراد أسرته، بل يجب على من اعترضوا على ما يرتكبه من ألوان الكفر أن يتبرأوا منه ومن ضلاله وإضلاله إذا لم يقبل نصحهم، ولم يعتصم بكتاب الله وسنة رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم، وأن يتبرأوا من أتباعه وكل من كان على شاكلتهم من الطواغيت وعبدة الطواغيت قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} (1) ، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (2) ، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) ، وقال: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ} (4) {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5) وقال:
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة الأحزاب الآية 21
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة الزمر الآية 17
(5) سورة الزمر الآية 18(36/78)
{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) إلى أن قال سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (2) .
س: هل الإسلام يسمح بالاضطهاد الديني؟ - البوهرة مسلمون يؤمنون بجميع تعاليم الإسلام والقرآن المجيد وكلام الله، ويجب على جميع المسلمين أن يؤمنوا بالقرآن. جـ: الإسلام لا يسمح باضطهاد المسلمين الصادقين في إيمانهم واتباعهم لكتاب الله وهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم، بل يحرم ذلك وقد يعتبره كفرا، إذا كان واقع كبير علماء بوهرة وأتباعه وما وصفت في أسئلتك فهم كفرة لا يؤمنون بأصول الإسلام ولا يهتدون بهدي كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يستبعد منهم أن يضطهدوا الصادقين في إيمانهم بالله وكتابه وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - وسنته، كما اضطهد الكفار في كل أمة رسل الله الذين أرسلهم سبحانه إليهم لهدايتهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 4
(2) سورة الممتحنة الآية 6(36/79)
من الفتوى رقم 5508
س:. ما قول علماء الإسلام والفقهاء الكرام في حق فرقة الإسماعيلية - الأغاخانية - التي يسكن أفرادها في البلاد المختلفة خصوصا في البلاد الشمالية(36/79)
من باكستان، نذكر بعض معتقداتهم وأقوالهم التي تدل على عقائدهم هنا.
1 - الكلمة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وأشهد أن أمير المؤمنين علي الله، هذه كلمتهم مقام كلمة الإسلام كلمة التوحيد والشهادة ويسمونها بالكلمة الإسلامية الحقيقة.
2 - الإمام: وهو يعتقدون أن أغاخان شاه كريم هو إمامهم وهو مالك كل شيء من الأرض والسماء وما فيهما وما بينهما بالخير والشر ويعتقدون أنه هو الحاكم في العالم بقضه وقضيضه.
3 - الشريعة: هم لا يرون إتباع الشريعة الإسلامية، بل يعتقدون أن أغاخان هو القرآن الناطق والقرآن الحقيقي الأصلي، وهو الكعبة وهو البيت المعمور وهو المتبوع المتبع ولا يكون شيء سواه يجب اتباعه، وفي كتبهم أن ما ذكر في القرآن الظاهري من لفظ الله مصداقه الإمام أغاخان.
4 - الصلاة: هم لا يعتقدون وجوب الصلوات الخمس ويقولون بوجوب الدعوات الثلاثة مكانها.
5 - المسجد: هم يتخذون معبدا آخر مكان المسجد ويسمونه بجماعت خانه.
6 - الزكاة: هم يجحدون الزكاة الشرعية ويؤدون مكانها من جميع أصناف المال عشرها للأغاخان ويسمون بمال الواجبات - دوشوند.
7 - الصوم: ينكرون فرضية صوم رمضان.
8 - لا يقولون بفرضية حج البيت يعتقدون أن الأصل أغاخان هو الحج.
9 - السلام: لهم تحية مخصوصة مكان السلام عليكم يقولون عند اللقاء: (علي مدد) أي أعانك علي، ويقولون في جوابه: (مولى علي مدد) مكان وعليكم السلام. هذه نبذة من أقوالهم وعقائدهم، فالآن نسأل عن عدة أمور: 1- هل هذه الفرقة من فرق الإسلامية أم من فرق الكفرية؟
2 - هل يجوز أن يصلى على موتاهم صلاة الجنازة؟
3 - هل يجوز أن يدفنوا في مقابر المسلمين؟(36/80)
4 - هل تجوز مناكحتهم؟
5 - هل تحل ذبيحتهم؟
6 - هل يعامل معهم معاملة المسلمين؟
نسأل منكم باسم الله العظيم أن تصدروا جواب الاستفتاء وتزيحوا الشبهات عن قلوب المسلمين، لأن هؤلاء الناس يبطنون عقائدهم إلى الآن، ولذا سماهم المتقدمون من المشايخ بالباطنية، والآن هؤلاء أظهروا عقائدهم ويدعون الناس إليها جهرا ابتغاء لإزاغة المسلمين في عقائدهم ولوجوه أخر لا نعلمها.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: اعتقاد أن الله حل في علي أو غيره كفر محض مخرج من ملة الإسلام، وكذلك اعتقاد أن هناك أحدا يتصرف في السماء والأرض غير الله سبحانه كفر أيضا قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) .
ثانيا: من اعتقد أنه هناك أحدا يسعه الخروج من اتباع شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر كفرا يخرج من ملة الإسلام وشريعته هي القرآن الذي أوحاه الله إليه، قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (2) ، ومن الشريعة السنة النبوية التي هي تبيين وتفصيل للقرآن، قال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (3) .
ثالثا: من أنكر وجحد شيئا من أركان الإسلام أو من واجبات الدين المعلومة بالضرورة، فهو كافر ومارق من دين الإسلام.
رابعا: إذا كان واقع هذه الطائفة هو ما ذكرته في السؤال فلا يجوز
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54
(2) سورة الإسراء الآية 106
(3) سورة النحل الآية 64(36/81)
الصلاة على موتى من ذكر ولا دفنهم في مقابر المسلمين، ولا تجوز مناكحتهم ولا تحل ذبيحتهم ولا معاملتهم معاملة المسلمين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمي والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/82)
من الفتوى رقم 3090
س: جماعة معينة في الباكستان تسمى (البريلوية) أو جماعة نواري نسبة إلى رئيسهم الحالي المعروف بنواري حيث طلبت من فضيلتكم الحكم الشرعي بهم وباعتقادهم وبالصلاة خلفهم؛ ليكون ذلك بردا وسلاما على قلوب كثيرة لا تعرف الحقيقة، ومرة ثانية أذكركم ببعض خرافاتهم واعتقاداتهم الشائعة:
1- الاعتقاد بأن الرسول عليه الصلاة والسلام حي.
2 - الاعتقاد بأن الرسول عليه الصلاة والسلام حاضر وناظر خاصة بعد صلاة الجمعة مباشرة.
3 - الاعتقاد بأن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام الشفيع مسبقا.
4 - يعتقدون بالأولياء وأصحاب القبور ويصلون عندهم طالبين منهم قضاء الحاجة.
5 - إشادة القباب وإضاءة القبور.
6 - قولهم المشهور: يا رسول، يا محمد - صلى الله عليه وسلم.(36/82)
7 - يسخطون بمن يجهر بالتأمين ويرفع يديه في الصلاة يعتبرونه وهابيا.
8 - التعجب الشديد عند استعمال السواك عند الصلاة.
9 - تقبيل الأصابع أثناء الوضوء والأذان وبعد الصلاة.
10 - يردد إمامهم دائما بعد الصلاة. . الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} (1) وبالتالي فإن جميع المأمومين يصلون على النبي بشكل جماعي بصوت عال.
11 - يتحلقون بعد صلاة الجمعة واقفين وينشدون ويمدحون بصوت مرتفع.
12 - بعد ختم القرآن الكريم في تراويح شهر رمضان يطهون الطعام الكثير ويوزعونه في صحن المسجد بالإضافة إلى الحلويات.
13 - يشيدون المساجد ويهتمون بزخرفتها كثيرا ويكتبون فوق المحراب يا محمد.
14 - يعتبرون أنفسهم هم أصحاب السنة والعقيدة الصحيحة وغيرهم على خطأ.
15 - ما الحكم الشرعي بالصلاة خلفهم؟
علما بأنني طالب طب في كراتشي وأسكن بجوار المسجد والمسلطة أو المشرفة عليه تلك الجماعة البريلوية.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: من هذه صفاته لا تجوز الصلاة خلفه ولا تصح لو فعلت من عالم بحاله؛ لأن معظمها صفات كفرية وبدعية تناقض التوحيد الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه وتعارض صريح القرآن، مثل قوله سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (2) ، وقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (3) وينكر عليهم البدع التي يفعلونها بأسلوب حسن، فإن قبلوا فالحمد لله وإن لم يقبلوا هجرهم وصلى في مساجد أهل السنة وله في
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 56
(2) سورة الزمر الآية 30
(3) سورة الجن الآية 18(36/83)
خليل الرحمن أسوة حسنة في قوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة مريم الآية 48(36/84)
فتوى رقم 1800
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
لقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الرسالة التي أرسلها صاحب السمو الملكي نائب وزير الداخلية إلى سماحة الرئيس العام رقم 2 س 5400 وتاريخ 15 \ 5 \ 1397 هـ واطلعت على ما جاء في النشرتين اللتين مع كتاب سموه من تفاصيل محاورتين مزعومتين: إحداهما جرت بين طالب درزي يدرس في الأزهر وبين من لقبه الدرزي بشيخ مشايخ الأزهر وسماه مصطفى الرافعي، والأخرى جرت بين من نسب في المنشور إلى السنة وسمي فيه: شيخ الحق الحسيني، وبين من قيل إنه أستاذ درزي يدعى: أبا حسن هاني زيدان، وبناء على طلب سموه مطالعة ذلك والإفادة كتبت ما يلي: أولا: نبذة عن مذهب الدروز يتبين منها حقيقة أمرهم.
ثانيا: بيانا مختصرا عما جاء في المحاورتين يتبين به ما فيهما من دخل وتلبيس.(36/84)
أولا: نبذة عن مذهب الدروز
أصل الدروز فرقة سرية من فرق القرامطة الباطنية يتسمون بالتقية وكتمان أمرهم على من ليس منهم ويلبسون أحيانا لباس التدين والزهد والورع ويظهرون الغيرة الدينية الكاذبة ويتلونون ألوانا عدة من الرفض والتصوف وحب آل البيت، ويزعمون أنهم حملة لواء الإصلاح بين الناس وجمع شملهم ليلبسوا على الناس ويخدعوهم عن دينهم حتى إذا سنحت لهم الفرصة وقويت شوكتهم ووجدوا من الحكام من يواليهم وينصرهم ظهروا على حقيقتهم وأعلنوا عقائدهم وكشفوا عن مقاصدهم وكانوا دعاة شر وفساد ومعاول هدم للديانات والعقائد والأخلاق.
يتبين ذلك لمن تتبع تاريخهم وعرف سيرتهم من يوم وضع عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي أصولهم وبذر بذورهم فورثها لاحقهم عن سابقهم وتواصوا بها وأحكموا تطبيقها واستمر ذلك إلى وقتنا الحاضر.
والدروز وإن كانوا فرعا من فروع القرامطة الباطنية لهم مظاهرهم الخاصة من جهة نسبهم ونسبتهم من الهوة والزمن الذي ظهروا فيه والظروف التي ساعدتهم على الظهور. ونذكر فيما يلي مجمل ذلك وأمثلة له وحكم العلماء فيهم:
1 - ينسب الدروز إلى درزي وهو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الدرزي وقد يروى اسمه بلفظ عبد الله الدرزي ودرزي بن محمد ويقال: إن محمد بن إسماعيل الدرزي هو تشتكين أو هشتكين الدرزي، وقيل ينسبون إلى طيروز إحدى بلاد فارس، ويرى الزبيدي في التاج أن الصواب ضبط الدرزي بفتح الدال نسبة إلى أولاد درزة وهم السفلة والخياطون والحاكة.(36/85)
2 - ظهر محمد بن إسماعيل الدرزي أيام الحاكم بأمره أبي علي المنصور بن العزيز أحد ملوك العبيديين الذين حكموا مصر قريبا من مائتي سنة وزعموا أنهم من آل البيت زورا وبهتانا وأنهم من نسل فاطمة رضي الله عنها.
وقد كان محمد بن إسماعيل الدرزي أولا من الفرقة الإسماعيلية الباطنية التي تزعم أنها من أتباع محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، ثم خرج عليهم واتصل بالحاكم العبيدي ووافقه على دعواه الإلهية ودعا الناس إلى عبادته وتوحيده. وادعى أن الإله حل في علي وتدثر ناسوته وأن روح علي انتقلت إلى أولاده واحدا بعد واحد حتى انتقلت إلى الحاكم وقد فوض إليه الحاكم الأمور بمصر ليطيعه الناس في الدعوة ولما انكشف أمره ثار عليه المسلمون بمصر وقتلوا ممن معه جماعة ولما أرادوا قتله هرب واختفى عند الحاكم فأعطاه مالا وأمره أن يخرج إلى الشام لينشر الدعوة هناك فخرج إليه ونزل بوادي تيم الله بن ثعلبة غربي دمشق فدعاهم إلى تأليه الحاكم ونشر فيهم مبادئ الدروز ووزع فيهم المال فاستجابوا له.
وقد قام بالدعوة أيضا إلى تأليه الحاكم رجل آخر فارسي اسمه حمزة بن علي بن أحمد الحاكمي الدرزي من كبار الباطنية فقد اتصل برجال الدعوة السرية من شيعة الحاكم ودعا إلى تأليهه خفية حتى أصبح ركنا من أركانها ثم أعلن ذلك وادعى أنه رسول الحاكم فوافقه على ذلك. ولما توفي الحاكم وتولى ابنه علي الملقب بالظاهر لإعزاز دين الله. وتبرأ من الدعوة إلى تأليه أبيه طوردت الدعوة في مصر ففر حمزة إلى الشام وتبعه بعض من استجاب له واستقر أكثرهم في المقاطعة التي سميت فيما بعد (جبل الدروز) في سورية.
مبادؤهم:
(أ) يقولون بالحلول، فهم يعتقدون أن الله حل في علي رضي الله عنه ثم حل في أولاده بعده واحدا بعد واحد حتى حل في الحاكم العبيدي أبي(36/86)
علي المنصور ابن العزيز فالإلهية حلت ناسوته ويؤمنون برجعة الحاكم وأنه يغيب ويظهر.
(ب) التقية، فهم لا يبينون حقيقة مذهبهم إلا لمن كان منهم بل لا يفشون سرهم إلا لمن أمنوه ووثقوا به من جماعتهم.
(جـ) عصمة أئمتهم، فهم يرون أن أئمتهم معصومون من الخطأ والذنوب بل ألهوهم وعبدوهم من دون الله كما فعلوا ذلك بالحاكم.
(د) دعواهم علم الباطن، فهم يزعمون أن لنصوص الشريعة معاني باطنة هي المقصودة منها دون ظواهرها وبنوا على هذا إلحادهم في نصوص الشريعة وتحريفهم لأخبارها وأوامرها ونواهيها.
أما إلحادهم في الأخبار فإنهم أنكروا ما لله من صفات الكمال وأنكروا اليوم الآخر وما فيه من حساب وجزاء من جنة ونار واستعاضوا عن ذلك بما يسمى التقمص أو تناسخ الأرواح وهو انتقال روح الإنسان أو الحيوان عند موته إلى بدن إنسان أو حيوان آخر عند بدء خلقه لتعيش فيه منعمة أو معذبة وقالوا دهر دائم وعالم قائم وأرحام تدفع وأرض تبلع وأنكروا الملائكة ورسالة الرسل واتبعوا المتفلسفة المشائين أتباع أرسطو في مبادئه ونظرياته.
وأما إلحادهم في نصوص التكليف من الأوامر والنواهي فإنهم حرفوها عن مواضعها فقالوا الصلاة معرفة أسرارهم لا الصلوات الخمس التي تؤدى كل يوم وليلة، والصيام كتمان أسرارهم لا الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والحج زيارة الشيوخ المقدسين لديهم، واستحلوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واستحلوا نكاح الأمهات والبنات إلى غير ذلك من التلاعب بالنصوص وجحد ما جاء فيها مما علم بالضرورة أنه شريعة لله فرضها على عباده، ولذا قال فيهم أبو حامد الغزالي وغيره: ظاهر مذهبهم الرفض وباطنه الكفر المحض وهم أشبه بأصحاب رسائل إخوان الصفا في عقائدهم وأعمالهم وطريقتهم.
(هـ) يقولون بقول أهل الطبيعة، فيقولون إن الطبائع مولدة للحياة، والموت(36/87)
ينشأ عن فناء الحرارة الغريزية كانطفاء السراج عند انتهاء الزيت إلا من اعتبط - أي قتل بحادث مثلا.
(و) النفاق في الدعوة والمخادعة فيها: فهم يظهرون التشيع وحب آلذ البيت لمن يدعونه وإذا استجاب لهم دعوه إلى الرفض وأظهروا له معايب الصحابة وقدحوا فيهم، فإذا قبل منهم كشفوا له معايب علي وطعنوا فيه، فإذا قبل منهم ذلك انتقلوا به إلى الطعن في الأنبياء، وقالوا إن لهم بواطن وأسرارا تخالف ما دعوا إليه أممهم، وقالوا إنهم كانوا أذكياء وضعوا لأممهم نواميس شرعية ليحققوا بذلك مصالح وأغراضا دنيوية. . إلخ.
بم يحكم فيهم:
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عما يحكم به في الدروز والنصيرية فأجاب بما يأتي:
وهؤلاء الدرزية والنصيرية كفار باتفاق المسلمين لا يحل أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم بل ولا يقرون بالجزية فإنهم مرتدون عن دين الإسلام ليسوا مسلمين ولا يهود ولا نصارى، لا يقرون بوجوب الصلوات الخمس ولا وجوب صوم رمضان ووجوب الحج، ولا تحريم ما حرم الله ورسوله من الميتة والخمر وغيرهما وإن أظهروا الشهادتين مع هذه العقائد فهم كفار باتفاق المسلمين، فأما (النصيرية) فهم أتباع أبي شهيب محمد بن نصير. وكان من الغلاة الذين يقولون إن عليا إله وهم ينشدون:
أشهد أن لا إله إلا ... حيدرة الأنزع البطين
ولا حجاب عليه إلا ... محمد الصادق الأمين
ولا طريق إليه إلا ... سلمان ذو القوة المتين
وأما الدرزية فأتباع هشتكين الدرزي وكان من موالي الحاكم يعني العبيدي أحد حكام مصر الباطنية أرسله إلى أهل وادي تيم الله بن ثعلبة(36/88)
فدعاهم إلى إلاهية الحاكم ويسمونه (الباري الغلام) ويحلفون به، وهم من الإسماعيلية القائلين بأن محمد بن إسماعيل نسخ شريعة محمد بن عبد الله وهم أعظم كفرا من الغالية يقولون بقدم العالم وإنكار المعاد وإنكار واجبات الإسلام ومحرماته وهم من القرامطة الباطنية الذين هم أكفر من اليهود والنصارى ومشركي العرب وغايتهم أن يكونوا فلاسفة على مذهب أرسطو وأمثاله أو مجوسا وقولهم مركب من قول الفلاسفة والمجوس ويظهرون التشيع نفاقا والله أعلم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا رحمه الله: ردا على نبذ لطوائف من الدروز:
كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين بل هم الكفرة الضالون، فلا يباح أكل طعامهم وتسبى نساؤهم وتؤخذ أموالهم فإنهم زنادقة مرتدون لا تقبل توبتهم بل يقتلون أينما ثقفوا ويلعنون كما وصفوا ولا يجوز استخدامهم للحراسة والبوابة والحفاظ، ويجب قتل علمائهم وصلحائهم لئلا يضلوا غيرهم ويحرم النوم معهم في بيوتهم ورفقتهم والمشي معهم وتشييع جنائزهم إذا علم موتها ويحرم على ولاة أمر المسلمين إضاعة ما أمر الله من إقامة الحدود عليهم بأي شيء يراه المقيم لا المقام عليه والله المستعان وعليه التكلان.
بيان ما في المحاورة الأولى من الكذب والدجل والتلبيس:
1 - جاء في صدر المحاورة الأولى أنها جرت بين طالب درزي في الأزهر: شيخ شوقي حمادة وإمام الأزهر الشيخ مصطفى الرافعي ثم لقبه بعد بشيخ مشايخ الأزهر.
وهذا فيه خلط وتلبيس وكذب وافتراء، أما الخلط والتلبيس فإن إمام الأزهر هو الذي يصلي بالناس الصلوات الخمس بالجامع الأزهر وقد يخطب خطبة الجمعة فيه وهو في عمله تابع لوزارة الأوقاف، وأما شيخ مشايخ الأزهر فإنه ليس إماما للصلاة فيه ولا خطيبا للجمعة به وإنما هو مسؤول عن التعليم(36/89)
بالأزهر ومنصبه أعلى ممن يصلي بالناس إماما، وأما الكذب والافتراء فإنه لم يعرف في تاريخ الأزهر في عهد من العهود ولا في يوم من الأيام أن شخصا يقال له مصطفى الرافعي تولى مشيخة الأزهر أو كان شيخا لمشايخ الأزهر فواقع التاريخ أصدق شاهد على كذب هذه الدعوى وأقوى دليل على أن كاتب هذه النشرة ليس على بينة مما يكتب، وأن هذه المحاورة مصطنعة وليس هذا بعجيب فإن الدروز من الباطنية وشأنهم التلبيس والكذب والتقية والشيء من معدنه لا يستغرب.
2 - ثم قال الدرزي للشيخ مصطفى الرافعي المزعوم ما رأي فضيلتكم بالدروز؟
فقال الشيخ الرافعي: إن الدروز من حيث عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم مسلمون إنما من حيث الدين فلا نعدهم مسلمين. اهـ.
إن مثل هذا الجواب لا يصدر عن مسلم عرف عقائد الإسلام وأحكامه وعرف عقائد الدروز وأعمالهم وأحوالهم فضلا عن أن يصدر من شيخ مشايخ الأزهر فإن شرائع الإسلام وواقع تاريخ الدروز يشهد بأن الدروز ليسوا بمسلمين لا في ظواهرهم ولا في بواطنهم فإنهم عندما تتاح لهم الفرصة تنكشف حقيقتهم ويعلنون إلحادهم وكفرهم ويعتدون على دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم ويسعون في الأرض فسادا كما حصل في أيام الحاكم العبيدي أحد حكام العبيديين بمصر، أما عندما تحيط بهم الأزمات ويضيق عليهم الخناق فإنهم يلتزمون التقية ويلبسون لباس التدين ويظهرون بمظهر الغيرة والإصلاح نفاقا وزندقة وهذا هو شأنهم مع المسلمين ومع ذلك استنكر الطالب الدرزي جواب من سماه شيخ مشايخ الأزهر.
3 - وقال ما السبب؟
فقال الشيخ المزعوم: لأنهم يعبدون الحاكم فازداد الطالب الدرزي غضبا وخطأ الشيخ في ذلك بما يتضمن إنكاره لوجود الإله الحق ويدل دلالة صريحة على كفر الدروز وفساد عقائدهم فقال يخطئ من يقول إننا نؤله حاكما وإنما(36/90)
نحن نعتقد أن لا إله إلا الله وأنه واحد أحد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
ومن المعلوم في مذهبنا أن الله ليس كمثله شيء فهو لا يدرك ولا يوصف ولا هو جالس ولا واقف ولا ساهر ولا نائم ولا قائم ولا قاعد، إنه منزه عن الأرواح والعدد. ونعتقد أيضا أن الله سبحانه سيتجلى للناس في اليوم الآخر ويبدو لهم ليتم الإيمان به حقا وصدقا يتأنس إليهم ليثبت الحجة عليهم إذ هم يعجزون عن إدراك كيفيته ولا يبلغون بقوة عقولهم ماهيته وإنما الناظر إليه كالناظر إلى وجهه في المرآة، ألا ترى يا فضيلة الإمام الأكبر عندما تنظر في المرآة صورة تماثل صورتك. قال الشيخ نعم قال الطالب الدرزي هذه الصورة منزهة عن جميع الصفات البشرية لا تأكل ولا تشرب ولا تعي ولا ولا. . نحن نعتقد أنك كما تنظر إلى المرآة وترى صورتك البادية المجردة عن جميع الصفات تبدو لنا صورة الله المنزه عن جميع الصفات. اهـ.
إن الواقع التاريخي والعلمي يشهد بأن الدروز يعبدون الحاكم ويؤلهونه وأن الحاكم العبيدي ادعى الألوهية لنفسه. وكان المقربون إليه من بطانته يدعون إلى عبادته وأن الطالب الدرزي كذاب في استنكاره ذلك ثم لبس وخلط في كلامه وأتى بما هو كفر في رده واستنكاره وقال: يخطئ من يقول: إننا نؤله حاكما فنكر حاكما وإنما الكلام في عبادتهم وتأليههم للحاكم العبيدي الذي كان ملكا على مصر ونفى عن الله الصفات كلها وشبهه بالصورة في المرآة فقال: إن الناظر إليه كالناظر إلى صورته في المرآة، وقال: نحن نعتقد يا فضيلة الإمام الأكبر أنك كما تنظر إلى المرآة وترى صورتك البادية المجردة عن جميع الصفات تبدو لنا صورة الله المنزه عن جميع الصفات فجعله بهذا عدما لا وجود له.
قال الشيخ: ما رأيك بالتقمص؟
قال الطالب: نحن نؤمن بالتقمص وهذا مذهب فلسفي قديم سبق ظهور الفاطميين بل سبق الإسلام إذ رافق البشرية من البداية وقال به كثيرون(36/91)
من غلاة الفلاسفة القدماء وليس الغريب أن يؤمن الدروز بالتقمص بل الغريب العجيب أن ينفي المسلمون التقمص والقرآن الكريم يقره إنزالا. ثم استدل على التقمص بقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) وقوله تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (2) وبما نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: «ما زلت أنتقل إليكم من أصلاب المؤمنين إلى أرحام المؤمنات إلى يومنا هذا» . . " إلخ لقد أقر الطالب الدرزي بأن الدروز يؤمنون بالتقمص وهو تناسخ الأرواح بمعنى انتقال الروح من حي عند موته إلى بدن آخر عند خلقه، ودائما ومن المعلوم أن الذين يؤمنون بذلك لا يؤمنون بيوم القيامة الذي صرحت به نصوص الكتاب والسنة وأجمعت عليه الأمة ولا يؤمنون بما فيه من حساب وجزاء بجنة أو بنار ويتأولون نصوص القيامة بخروج إمامهم كرجوع الحاكم في نظر الدروز وظهوره بعد اختفائه ويقولون إن الروح إذا صفت بمجانبة الهوى وبالعلم والعبادة عادت إلى وطنها الأصلي وكملت بموتها وتخلصها من أغلال البدن وقيوده وأما الأرواح أو النفوس المنكوسة المعرضة عن طلب رشدها من الأئمة المعصومين فإنها تعذب ببقائها في الأبدان تتناسخ فيها كلما خرجت من جسد عند موته تلقاها آخر واستدلوا على ذلك بما تقدم وبقوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} (3) .
ولا شك أن تأويلهم للقيامة بخروج إمامهم تحريف للكلم عن مواضعه وخروج بالقرآن عن معناه في لغة العرب التي بها نزل ومخالف لصريح آياته ومعارض لنصوص الأخبار المتواترة الصريحة الدالة على البعث والنشور والحساب والجزاء بجنة أو نار.
__________
(1) سورة البقرة الآية 28
(2) سورة طه الآية 55
(3) سورة النساء الآية 56(36/92)
فتأويلهم ذلك ضلال مبين وكفر صريح وقولهم بتقمص الأرواح للأبدان على ما سبق بيانه محض خرص وتخمين لا أساس له من الصحة ولا مستند له من عقل ولا نقل ودعواهم أن القرآن دل على ذلك كذب وافتراء، فإن معنى قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} (1) الآية، كنتم أمواتا قبل أن يصوركم الله في الأرحام وينفخ فيكم الروح فأحياكم سبحانه بنفخ الروح فيكم ثم يميتكم بقبض أرواحكم عند انتهاء آجالكم في الدنيا ثم يحييكم يوم البعث والنشور للحساب والجزاء، هذا هو معنى الآية الصريح في لغة العرب التي بها نزل القرآن وشرحته السنة الصحيحة وليس فيها دلالة على أن الروح إذا خرجت من إنسان عند موته تحل في بدن آخر ليكون مخلوقا يحيا في هذه الدنيا، وهذا القول في تفسير آية {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (2) فمعناها من الأرض خلقناكم فكنتم أحياء في الدنيا وإلى الأرض تعودون فتقبرون فيها عند موتكم ومنها نخرجكم أحياء عند البعث والنشور وتفسير الآيتين بما زعموه من تناسخ الأرواح تفسير بالهوى وتحريف لها عما لا يدلان عليه في لغة العرب ومخالف لصريح آيات القرآن والأحاديث الصحيحة المتواترة في بيان معناهما ولإجماع أهل العلم والإيمان.
أما الحديث الذي ذكروه فليس في ديوان من دواوين السنة المعروفة ووجود طبقات كافرة في فترات من العصور دليل على كذبه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتنقل في أصلاب آباء مؤمنين وأرحام نساء مؤمنات في كل طبقات أجداده، بل كان بعضهم مؤمنا كإبراهيم وإسماعيل، وبعضهم كان كافرا، فالحديث موضوع مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} (3) فهو خبر صريح عن أهل النار من الكفار وبيان لاستمرار عذابهم فيها يوم القيامة وليس فيه دلالة من قريب ولا من بعيد على أن الروح إذا خرجت من بدن عند الموت في الدنيا تقمصت بدنا آخر ليكون حبسا وعذابا لها فتفسيرها بذلك تحريف لها عن موضعها وتلاعب بنصوص القرآن.
__________
(1) سورة البقرة الآية 28
(2) سورة طه الآية 55
(3) سورة النساء الآية 56(36/93)
ختم الدرزي المحاورة باعتراف الشيخ الرافعي المزعوم بأن الدروز هم أفضل فرقة إسلامية على الإطلاق ولا شك أن هذا الاعتراف وهمي لأنه من شيخ مصطنع موهوم.
ولو قدر أن شيخا ما حقيقيا ناقش طالبا درزيا هذه المناقشة وجرت بينه وبين الطالب الدرزي هذه المحاورة لما دل ذلك على صدق النتيجة فكم من محق مغلوب على أمره في النقاش والجدل لضعفه في العلم والمناظرة فاستسلامه لا يدل على صحة مذهب مناظره ولا على صدقه فيما ادعاه واعتقده.
بيان ما في المحاورة الثانية من الكذب والدجل والتلبيس:
جاء في النشرة أن محاورة ثانية كانت بين من ادعى أنه عالم سني وأنه يدعى الشيخ الحق الحسيني يقوم بوظيفة رئيس العلوم الشرقية في إحدى الكليات، وبين أستاذ درزي يدعى الشيخ أبا حسن زيدان وهي عبارة عن أسئلة توجه ممن قيل أنه سني إلى درزي فيجيب عنها، وقد جاءت في أسلوب هزيل وتراكيب ضعيفة من جهة اللغة العربية ومعانيها ضحلة مجملة غير محررة وهذا يدل على أنها مصطنعة لم تحصل أو حصلت بين من لا شأن لهما في العلم ولا يعتد بهما في المناظرة ولا يعول على نتائجها وفيما يلي تفصيل الكلام عليها:
قال السني المزعوم: ما هو دينكم؟ فأجاب الدرزي: ديننا هو الإسلام اهـ.
تقدم في س 3 - 4 أنهم ليسوا بمسلمين، وأنهم أكفر من اليهود والنصارى. . إلخ. . وسيأتي في أجوبة الدرزي وشرحه لعقائد الدروز في أركان الإسلام وغيرها ما يؤكد أنهم ليسوا بمسلمين.
س: ما هو مذهبكم؟
جـ: مذهبنا هو التوحيد لله تعالى والإقرار برسالة الرسول وهو أحد مذاهب التقية في الإسلام اهـ.
أقر الدرزي في جوابه عن هذا السؤال (الثاني) بأن مذهب الدروز التقية(36/94)
وقد صدق فيما أقر به على قومه، ومن المعلوم أن التقية مواربة وخداع ومراوغة ونفاق في العقيدة والقول والعمل، وقد استعملها الدرزي في نفس الجواب فبين أن مذهب الدروز التوحيد لله تعالى والإقرار برسالة الرسول، ولكن إلههم الذي وحدوه وعبدوه هو الحاكم العبيدي ملك مصر. والرسول الذي يقرون به هو رسول الحاكم الذي اختاره داعية لعبادته كحمزة بن علي بن أحمد الفارسي الحاكمي الدرزي الذي لقبه الحاكم الفاطمي برسول الله فهذا الأسلوب في الجواب أوضح تفسير وأصدق تطبيق للتقية لما فيه من المراوغة والنفاق.
س: هل أنتم سنيين أو شيعيين؟
جـ: لا سنية ولا شيعية بل إحدى الفرق التي أشار إليها الرسول بقوله ستنقسم أمتي من بعدي إلى ثلاثة وسبعين فرقة.
أجمل الدرزي في جوابه عن هذا السؤال (الثالث) فنفى أن يكون الدروز سنيين أو شيعيين ولم يكشف عن حقيقة طائفته بل أبهم فقال: هم إحدى الفرق التي أشار إليها الرسول بقوله: " ستنقسم أمتي من بعدي إلى ثلاثة وسبعون فرقة " فجمع بين اللحن في اللغة وتحريف الحديث والتلبيس على السائل فلم يحدد له الجواب ولم يحرره، وكذب في قوله: إنهم ليسوا شيعيين، فإنهم من القرامطة الباطنية الذين هم من أخبث فرق الشيعة الغالية.
س: هل تصلون بأوقات الصلاة؟
جـ: نعم نصلي، لأن الصلاة واجبة على كل مؤمن لأنها تقرب الصلة بين العبد وخالقه.
س: كيف تكون الصلاة؟
جـ: عندما نصلي على الميت فإننا نستقبل القبلة ولكن الصلاة العادية حلقة ذكر، في السؤال الرابع - الخامس إجمال وقصور وكأنه مقصود ليتمكن الدرزي من الإجمال في الجواب أولا ثم من الهرب والتحريف في المراد بالصلاة(36/95)
ثانيا وقد فعل فقال: نصلي لأن الصلاة واجبة ولأنها تقرب الصلة بين العبد وخالقه، ثم ألحد في المراد بالصلاة ثالثا فقال: عندما نصلي على الميت نستقبل القبلة وألحد أيضا ففسر الصلاة العادية أنها حلقة ذكر وفي ذلك إنكار أن يكون هناك صلوات خمس بالكيفية التي بينها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وتكذيب لزعمه في الجواب عن السؤال الأول بأن دينهم الإسلام.
س: هل تركعون وقت الصلاة؟
جـ: الركوع عندنا نافلة.
س: هل تسجدون وقت الصلاة؟
جـ: نعم نسجد حين السجود، لأنه فريضة واجبة للتقرب إلى الله والتوسل إليه.
في السؤال السادس والسابع إجمال وقصور أيضا، ومع ذلك أنكر الدرزي أن يكون الركوع فرضا وذكر أنه نافلة، أما السجود فاعترف بفرضيته ولكنه أجمل في كيفيته وكأن هناك تواطؤا بين السائل والمجيب أو السائل والمجيب شخص واحد وهذا مما يناقض قوله في الجواب عن السؤال الأول ديننا الإسلام، لأن الصلاة في الإسلام ليست حلقة ذكر وإنما هي خمس صلوات في كل يوم وليلة بالصفة التي عرفت من الدين بالضرورة فهو مفتر بالنص والإجماع.
س: هل تصومون شهر الصيام؟
جـ: إن البعض وخصوصا الشيوخ يصومون، ولكن في عرفنا أن الصوم الظاهري نافلة وأما الصوم الحقيقي فهو صيانة النفس عن المحرمات وهو في هذه الحالة فريضة لازمة مدى الحياة وليس بأوقات معينة، لأننا نعتقد ألا نفع للصوم الظاهري مع مخالفة ما ينهى الله ورسوله عنه. أنكر الدرزي في جوابه عن السؤال (الثامن) فرض صيام رمضان فقال: إن الصوم الظاهري نافلة وفسر الصيام الحقيقي عنده بصيانة النفس عن المحرمات وهذا إنكار لما علم من الدين بالضرورة وتحريف للنصوص يسقط عن المكلفين ما أوجب الله(36/96)
تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من شعائر الإسلام وهو كفر صريح وردة عن الإسلام بالنص والإجماع ومناقض لدعواه أن دينهم الإسلام.
هل تحجون؟
جـ: إن الحج في عرفنا هو نافلة أيضا لقول الآية الكريمة: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1) فكلمة (من استطاع) هي عبارة عن فسحة واسعة للذين لم يستطيعوا أداء فريضة الحج.
في الجواب عن السؤال التاسع سلك نفس المسلك فأنكر فريضة الحج كما أنكر فريضة صيام رمضان، فقال: إن الحج في عرفنا نافلة فجحد فرضيته وهذا كفر. لأنه إنكار لما علم من الدين بالضرورة، ثم موه بإيراد آية صريحة في تأكيد وجوب الحج على المستطيع وإنما الفسحة في الآية لغير القادر عليه بنفسه ولا بنائب عنه. وفي هذا أيضا تكذيب لزعمه في جواب السؤال الأول أن دين الدروز هو الإسلام.
س: وهل منكم من حج إلى مكة؟
جـ: نعم كثير منا من زار مكة المكرمة والمدينة المنورة.
في السؤال (العاشر) إجمال وقصور يهيئ للمجيب طريق الهروب ويمهد له سبيل الحيدة، وإذا أتى المسؤول بجواب إجمالي يمكن حمله على رحلة عادية إلى مكة كالرحلة إلى أي بلد للترفيه عن النفس مثلا، فقال: كثير منا من زار مكة والمدينة المنورة، وهذا هو دين القرامطة الباطنية، فإن دأبهم التلبيس واستعمال التقية كما تقدم.
س: كيف تصلون على الميت؟
جـ: إن صلاتنا على الميت هي على السنية هي على الطريقة الشافعية ولكي نكفيكم مؤونة البحث الكثير فإننا نقدم لكم هذا الكتاب الصادر من لدن مشيخة العقل الجليلة التي هي عندنا المرجع الأعلى للمذهب التوحيدي ومن هذا الكتاب تعرفون حقيقة طقوسنا المذهبية في الصلاة على الميت وفي
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97(36/97)
كتابة عقود الزواج وفي الإرث بعد الموت وخلاف ذلك. وعند تصفح السائل الكتاب التفت إلى المسؤول وقال: أنتم حقا مسلمون.
الجواب عن هذا السؤال (الحادي عشر) كذب وتناقض فإنه نفى نفيا عاما في جواب السؤال الثالث أن يكون الدروز من أهل السنة وأثبت هنا أنهم يصلون صلاة الجنازة على مذهب الشافعي والشافعي من أهل السنة فكيف صارت صلاتهم على الجنازة على مذهبه ثم حاد عن إيضاح الجواب وأحال على كتاب مبهم لم يعينه باسمه حتى يرجع إليه الناس ليعرفوا صدقه في دعواه إن صلاتهم على الميت هي على السنة على مذهب الشافعية ثم ذكر الدرزي أن العالم السني المزعوم قال بعد تصفح الكتاب: إنكم حقا مسلمون، وتقدم أن هذا الاعتراف في مثل هذه المحاورة المصطنعة لا حظ له من الاعتبار بل هو مجرد تمويه وتغرير ودعاية كاذبة لمذهب الدروز.
ولو كان مذهب الدروز يوافق الإسلام لأظهره وبين اسم الكتاب حتى يرجع لمعرفة الحقيقة لكنه خاف الفضيحة فأبهم ولم يوضح كما هو دأبه فيما تقدم ودأب قومه نسأل الله العياذ منه.
س: كيف طريقة تقسيم الميراث عندكم؟
جـ: إن طريقة تقسيم الميراث عندنا هي حسب الفريضة الشرعية إذا لم يترك الميت وصية، وأما إذا ترك وصية فيكون الميراث منطوق الوصية، لأن الوصية عندنا فريضة يجب العمل بموجبها وذلك عملا بالآية الكريمة {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (1) ثم عملا بالآية الكريمة {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (2)
س: كيف طريقة الوصية عندكم؟
جـ: إن طريقة الوصية هي أن للإنسان كل الحق أن يوصي بماله لمن يشاء سواء كان قريبا أو بعيدا.
س: إن مذهب السنة يمنع الوصية للوارث فلماذا أنتم توصون له؟
__________
(1) سورة النساء الآية 11
(2) سورة النساء الآية 12(36/98)
جـ: نحن نوصي للوارث عملا بالآية الكريمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (1) فمن هذه الآية الكريمة يتبين حقا جليا أن الوصية جائزة للوارث ولغير الوارث ونحن على الطريقة سائرون.
ذكر الدرزي في جواب هذه الأسئلة (12، 13، 14) أن الميراث عندهم حسب الفريضة الشرعية ولم يعينها. ثم قيد ذلك بما إذا لم تكن هناك وصية فإن كانت هناك وصية بكل المال لغير وارث أو لوارث ولو على خلاف الفريضة الشرعية كانت العبرة في توزيع بقية التركة بما نصت عليه الوصية. وهذا يخالف نص الشريعة الإسلامية في أنه لا وصية لوارث. وقد أجمع على ذلك المسلمون، وبذلك يعرف كذبه في جوابه عن السؤال الأول بأن دين الدروز هو الإسلام.
ثم آية {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (2) . والتي بعدها فيها بيان للفرائض الشرعية للميراث وتفصيل لأنصباء الورثة وأمر من الله بالوقوف عند الحد الذي قدره الله لكل وارث فلم يترك هنا الخيار فيمن نوصي له من هؤلاء المذكورين في الآيتين ولا الخيار في القدر الذي نوصي به لكل منهم بل بين أنواع الورثة ونصيب كل نوع منهم وألزمنا بذلك وبين سبحانه أن تقسيم التركة عليهم إنما يكون بعد قضاء ما على الميت من الديون وبعد تنفيذ ما أوصى به من المال في حدود الثلث لغير وارث كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فاستدلال الدرزي بالآيتين فيه إجمال وتلبيس وخلط في المراد بالوصية في توزيع المواريث والوصية التي تنفذ قبل التوزيع والتقسيم ثم إنه ضرب صفحا عن السنة التي لا بد من اعتبارها في تقييد الوصية وأعرض عن إجماع المسلمين في ذلك وهذا دأب المبطل في استدلاله، إجمال وتمويه وتشبيه على من يناظره ليخدعه عن الحق بتزيين الباطل له، وبهذا يظهر إلحادهم في القرآن وتحريفهم له عن معانيه الصحيحة ومخالفتهم للرسول
__________
(1) سورة البقرة الآية 180
(2) سورة النساء الآية 11(36/99)
صلى الله عليه وسلم قولا وعملا، ولإجماع الصحابة ومن بعدهم من أئمة المسلمين إرضاء لأهوائهم وموافقة لمن على شاكلتهم.
س: هل تعددون الزوجات؟
جـ: كلا نحن لا يجوز بمذهبنا تعدد الزوجات عملا بالآية الكريمة: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} (1) {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (2) {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (3) (ولن تعدلوا أبدا على النساء وإن حرصتم) وبما أننا نعتقد أنه لا يمكن العدل بين الاثنين فإن المشرع أوجب علينا الاقتران بواحدة.
أنكر الدرزي في جوابه عن هذا السؤال (الخامس عشر) ما علم من الدين بالضرورة جوازه وهو مشروعية تعدد الزوجات وحاول الاستدلال على باطله بما لا دليل له فيه، فاستدل بقول تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} (4) وقوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (5) ومعلوم أن الآيتين في بيان سنة الله الكونية في خلق الأشياء وأن حكمته اقتضت أن يخلق في كل نوع من الأحياء حيوانات ونباتات ذكرا وأنثى وفي كل نوعين متقابلين ليكون التلقيح والنسل وتستقر الحياة وتحقق المنافع والمصالح وليست الآيتان في حكم تعدد الزوجات من قريب ولا من بعيد فالاستدلال بهما على منع تعدد الزوجات إلحاد في القرآن وميل به إلى غير ما قصد به. وأما قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (6) فصريح مع صدر الآية في جواز تعدد الزوجات عند الأمن من الجور في القسمة بينهن في المعيشة والنفقة وهو ممكن مستطاع، وأما قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (7) فالمقصود منه نفي استطاعة العدل في الحب القلبي والميل
__________
(1) سورة النبأ الآية 8
(2) سورة الذاريات الآية 49
(3) سورة النساء الآية 3
(4) سورة النبأ الآية 8
(5) سورة الذاريات الآية 49
(6) سورة النساء الآية 3
(7) سورة النساء الآية 129(36/100)
النفسي لا نفي استطاعة العدل في المبيت والنفقة وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وشرحه بقوله وعمله فتزوج زوجات وعدل بينهن في المعيشة والنفقة وقال: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك (1) » .
وأجمع الصحابة على جواز تعدد الزوجات عملوا بذلك وهم عرب وبلغتهم نزل القرآن وهم أفهم من الدرزي وأمثاله ممن يتبعون أهواءهم في تفسير كتاب الله مجاراة للنصارى والملحدين وإرضاء للجنس اللطيف في نظرهم.
وقد حرف الدرزي لفظ الآية الرابعة وهي قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (2) وأدخل فيها ما ليس منها.
س: هل يجوز عندكم الطلاق؟
جـ: نعم يجوز الطلاق لأسباب مشروعة، وأما الذي يطلق لغير سبب مشروع أو غير تراض بينه وبين مطلوقته فعليه أن يقدم لها نصف ما يملك، وأما إذا كانت هي المتسببة في الطلاق من جراء جرم فعلته فعليها دفع نصف ما تملك للزوج.
اعترف الدرزي في جوابه عن هذا السؤال (16) بأن الطلاق جائز لكن لأسباب مشروعة وأبهم هذه الأسباب التزاما بمبدأ التقية في عدم بيان حقيقة مذهب الدروز كما هو دأبهم في حديثهم مع من يخالفه، ثم أضاف إلى ذلك طامة كبرى وتشريعا ما أنزل الله به من سلطان فأوجب على الزوج أن يقدم لزوجته نصف ما يملك إن طلقها بغير سبب مشروع أو عن غير تراض بينهما، وأوجب عليها أن تدفع نصف ما تملك للزوج إن كان طلقها من أجل جرم فعلته وهذا مخالف صراحة لما شرع في الإسلام من حقوق الزوجين عند الطلاق ومناقض لما قاله في جوابه عن السؤال الأول: ديننا الإسلام.
__________
(1) سنن الترمذي النكاح (1140) ، سنن النسائي عشرة النساء (3943) ، سنن أبو داود النكاح (2134) ، سنن ابن ماجه النكاح (1971) ، مسند أحمد بن حنبل (6/144) ، سنن الدارمي النكاح (2207) .
(2) سورة النساء الآية 129(36/101)
س: سمعنا أنكم تعتقدون التقمص وعلى أي شيء تبنونه؟
جـ: نعم نعتقد التقمص ونبني هذا الاعتقاد على سببين أحدهما المنقول والثاني المعقول، فأما المنقول قول الآية الكريمة: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) فمن هذه الآية الكريمة وبعض آيات غيرها نفسرها طبقا لهذا المعتقد وأما الذي من المعقول فهو لما كان الله تعالى عادل في خلقه فلماذا جعل بينهم هذا التفاوت العظيم من غنى وفقر وسعد ونحس وحسن وقبيح. طالما الناس يخلقون جديدا في هذه الدنيا فمن هذا التفاوت الكبير ومن اعتقادنا الراسخ بأن الله جل جلاله منتهى العدل ومن الآية الكريمة المار ذكرها فإننا نعتقد التقمص.
ذكر الدرزي التقمص في جوابه عن هذا السؤال (17) وأدلته من النقل والعقل في نظر الدروز وقد تقدم بيان معنى التقمص ومناقشة أدلتهم النقلية عليه في الفقرة الرابعة من مناقشة المحاورة الأولى وبيان أن القول به مجرد خرص وتخمين، فإن تفصيل البعث والجزاء يوم القيامة وبيان نوعه وكيفيته من الأمور السمعية التي لا مجال للعقول في تحديدها.
وأما ما استدلوا به عقلا من كمال عدل الله وحكمته وتفاوت الخلق في سلوكهم وأخلاقهم وأعمالهم وأرزاقهم وأن مقتضى عدله تعالى فيهم أنه يجزي كل نفس بما كسبت بأن يخلقهم مرة أخرى في الدنيا ليوفي كل نفس جزاءها وذلك بجعل روح من مات في بدن آخر في الدنيا لتشقى بوجودها فيه فيقال لا دلالة في ما ذكر على خصوص عود روح عند موت صاحبها إلى بدن آخر في الدنيا بل ذلك مجرد تخمين، وإنما دل على تفصيل الجزاء وكيفيته نصوص الكتاب والسنة الصحيحة الصريحة وأن ذلك يكون في يوم آخر بعد انتهاء الدنيا يسمى يوم البعث والنشور ويوم القيامة. وقد يعجل الله بعض الجزاء لبعض عباده في الدنيا كما يشاء لا كما عينه الدروز في التقمص- التناسخ - خاصة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 28(36/102)
س: هل تعتقدون أن عمر وأبا بكر وعثمان هم أحق من علي بالخلافة بعد النبي أم علي أحق منهم؟
جـ: هذا شيء يعلمه الله تعالى، ولكن نحن نعتقد بأن العمر محتوم عملا بالآية: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} (1) وحيث إن أبا بكر وعمر وعثمان توفوا في حياة علي فلو ولي علي الخلافة بعد النبي لكان أبا بكر وعمر وعثمان توفوا في حياته ولم يتسن لهم تأدية رسالتهم إلى الأمة لذلك قضت مشيئة الله عز وجل بما قضت حتى يؤدي كل واحد منهم رسالته في حينها خدمة للأمة بتقدير من الله عز وجل.
حاد الدرزي عن الجواب على هذا السؤال (18) فقال (الله أعلم) ولزم التقية كما هو دأبه ودأب قومه في إخفاء حقيقة مذهبهم على من ليس منهم ثم فلسف تأخير خلافة علي عن الثلاثة الخلفاء فلسفة ملتوية فذكر أن الله علم أن الثلاثة سيموتون قبل علي فجعل خلافتهم قبل خلافته ليؤدي كل منهم رسالته خدمة للأمة ولو تولى علي الخلافة قبلهم لم يتسن لهم أن يتولوها لوفاتهم قبله فاقتضت مشيئة الله أن يكون واقع الخلافة كونا على الترتيب المعروف وفي هذه الفلسفة حيدة عن الجواب عما سئل عنه من الحكم الشرعي إلى بيان ما زعمته حكمة للترتيب الكوني مع ذلك فجوابه مناقض لعقيدتهم في الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم فإنهم يسبون الثلاثة ويؤلهون عليا فالجواب كله حيدة ومواربة وتطبيق لمبدأ التقية، ويفهم من كلامه أن تولي الخلفاء الثلاثة الخلافة قبل علي لم يكن لفضلهم عليه وإنما كان لأمر كوني اقتضته مشيئة الله وهذا خلاف ما أجمع عليه أهل السنة.
س: هل تفضلون أبا بكر وعمر وعثمان وعلي حسب ترتيبهم في الخلافة؟
جـ: نعم ولكن في ذات الوقت لا نفضلهم في المنزلة على أحد بل نعتقد أن عليا أعلى منهم وذلك عملا بكلام الرسول حيث قال في حجة الوداع
__________
(1) سورة المنافقون الآية 11(36/103)
يوم الخطبة: «من كنت أنا مولاه فعلى مولاه اللهم والي من والاه وعادي من عاداه (1) » .
تناقض الدرزي في جوابه عن هذا السؤال (19) وغمط الخلفاء الثلاثة الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان حقهم في الفضل فقال: نعم، أي نفضل الخلفاء الأربعة حسب ترتيبهم في الخلافة، ثم قال: لا نفضلهم في المنزلة على أحد وهذا صريح في أنهم لا يفضلونهم على أحد من الخلق عامة. ثم أخبر بأن عليا أعلى منهم رضي الله عنهم أجمعين مع أنه ثبت في الأحاديث الصحيحة أن عليا أخبر أن أبا بكر وعمر أفضل منه رضي الله عنهم ومع إجماع الأمة على أن أبا بكر وعمر أفضل منه والجمهور على تفضيل عثمان عليه رضي الله عنهم، ثم استدل لأفضليته عليهم بحديث «من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (2) » الحديث.
فقد أجاب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية بما يأتي:
وأما قوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه (3) » . . . إلخ فهذا ليس في شيء من الأمهات إلا في الترمذي، وليس فيه إلا: «من كنت مولاه فعلي مولاه (4) » أما الزيادة فليست في الحديث. وسئل عنها الإمام أحمد فقال: زيادة (كوفية، ولا ريب أنها كذب لوجوه: " أحدها " أن الحق لا يدور مع معين إلا النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لو كان كذلك لوجب اتباعه في كل ما قال) ومعلوم أن عليا ينازعه الصحابة وأتباعه في مسائل، وجد فيها النص يوافق من نازعه كالمتوفى عنها زوجها وهي حامل.
وقوله: " اللهم انصر من نصره " إلخ خلاف الواقع قاتل معه أقوام يوم (صفين) فما انتصروا، وأقوام لم يقاتلوا فما خذلوا (كسعد) الذي فتح العراق لم يقاتل معه وكذلك أصحاب معاوية وبني أمية الذين قاتلوه فتحوا كثيرا من بلاد الكفار ونصرهم الله.
وكذلك قوله: " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " مخالف لأصل الإسلام فإن القرآن قد بين أن المؤمنين إخوة مع قتالهم وبغي بعضهم على
__________
(1) سنن الترمذي المناقب (3713) ، مسند أحمد بن حنبل (1/119) .
(2) سنن ابن ماجه المقدمة (116) ، مسند أحمد بن حنبل (4/281) .
(3) سنن الترمذي المناقب (3713) ، سنن ابن ماجه المقدمة (121) ، مسند أحمد بن حنبل (1/118) .
(4) سنن الترمذي المناقب (3713) ، مسند أحمد بن حنبل (4/368) .(36/104)
بعض، وقوله: " من كنت مولاه فعلي مولاه " فمن أهل الحديث من طعن فيه كالبخاري وغيره، ومنهم من حسنه، فإن كان قاله فلم يرد به ولاية مختصا بها بل ولاية مشتركة وهي ولاية الإيمان التي للمؤمنين والموالاة ضد المعاداة. ولا ريب أنه يجب موالاة المؤمنين على سواهم ففيه رد على النواصب. اهـ.
س: يتضح مما تقدم أن كل شيء عندكم من الاعتقاد تبنونه إما على آية كريمة أو على حديث شريف؟
جـ: نحن لا نعمل بالرأي أو القياس ولكن بما أمرنا به.
لا عبرة بما جاء في هذا السؤال (20) وجوابه من الاعتراف بأن الدروز يبنون عقيدتهم إما على آية أو حديث لما تقدم من أن المناظرة مصطنعة وعلى تقدير أن لها واقعا فليس كل مناظر من المسلمين يمثل أهل السنة ودعوى الدرزي أن الدروز لا يعملون بالرأي ولا بالقياس دعوى يكذبها الواقع بشهادته بإلحادهم وعملهم بالهوى وفيها مواربة وتقية حيث قال: ولكن نعمل بما أمرنا به، فبنى الفعل للمجهول حتى يتم له التلبيس فيمن يكون منه الأمر أهو الحاكم بأمره وسائر الأئمة المعصومين بزعمهم أم غيرهم ولا غرابة فالتقية شعارهم وهم لا يألون جهدا في استعمالها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/105)
من الفتوى رقم 893
س:
(أ) مات رجل وأوصى أن يدفن في تابوت فما الحكم؟
(ب) مات أحد المسلمين وكان عضوا في الجماعة الماسونية، وأقيمت عليه(36/105)
صلاة الجنازة ثم أقيمت شعائر الماسونية بعد ذلك. فما حكم الإسلام في هذا الميت وفيمن أقاموا أو سمحوا بإقامة هذه الشعائر؟
(جـ) ما هي الماسونية وما حكم الإسلام فيها؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
جـ:
(أ) لم يعرف وضع الميت في تابوت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عهد الصحابة رضي الله عنهم وخير للمسلمين أن يسيروا على نهجهم، ولذا كره وضع الميت في تابوت سواء كانت الأرض صلبة أم رخوة أم ندية، وإذا أوصى بوضعه في تابوت لم تنفذ وصيته وأجاز ذلك الشافعية إذا كانت الأرض رخوة أو ندية ولا تنفذ وصيته عندهم إلا في مثل هذه الحالة.
(ب) (ج) الماسونية هي جمعية سرية سياسية تهدف إلى القضاء على الأديان والأخلاق الفاضلة وإحلال القوانين الوضعية والنظم غير الدينية محلها وتسعى جهدها في إحداث انقلابات مستمرة وإحلال سلطة مكان أخرى بدعوى حرية الفكر والرأي والعقيدة. ويؤيد ذلك ما أعلنه الماسوني. . في مؤتمر الطلاب الذي انعقد في 1865 م في مدينة لييج التي تعتبر أحد المراكز الماسونية من قوله: يجب أن يتغلب الإنسان على الإله، وأن يعلن الحرب عليه، وأن يخرق السماوات ويمزقها كالأوراق، ويؤيده ما ذكر في المحفل الماسوني الأكبر سنة 1922 م صفحة 98 ونصه: سوف نقوي حرية الضمير في الأفراد بكل ما أوتينا من طاقة، وسوف نعلنها حربا شعواء على العدو الحقيقي للبشرية الذي هو الدين. ويؤيده أيضا قول الماسونيين: إن الماسونية تتخذ من النفس الإنسانية معبودا لها، وقولهم: إنا لا نكتفي بالانتصار على المتدينين ومعابدهم، إنما غايتنا الأساسية إبادتهم من الوجود. مضابط المؤتمر الماسوني العالمي سنة 1903 م صفحة 102، وقولهم: ستحل الماسونية محل الأديان، وأن محافلها ستحل محل المعابد. . إلى غير هذا مما فيه شدة(36/106)
عداوتهم للأديان وحربهم لها حربا شعواء لا هوادة فيها. والجمعيات الماسونية من أقدم الجمعيات السرية التي لا تزال قائمة ولا يزال منشؤها غامضا وغايتها غامضة على كثير من الناس بل لا تزال غامضة على كثير من أعضائها. لإحكام رؤسائها ما بيتوا من مكر سيئ وخداع دفين ولشدة حرصهم على كتمان ما أبرموه من تخطيط، وما قصدوا إليه من نتائج وغايات، ولذا يدبر أكثر أمورها شفويا. وإن أريد كتابة فكرة أو إذاعتها عرضت قبل ذلك على الرقابة الماسونية لتقرها أو تمنعها. وقد وضعت أسس الماسونية على نظريات فأخذت من مصادر عدة، أكثرها التقاليد اليهودية. ويؤيد ذلك أن النظم والتعاليم اليهودية هي التي اتخذت أساسا لإنشاء المحفل الأكبر سنة 1717 م ولوضع رسومه ورموزه وأن الماسونيين لا يزالون يقدسون حيرام اليهودي، ويقدسون الهيكل والمعبد الذي شيده حتى اتخذوا منه نماذج للمحافل الماسونية في العالم، وأن كبار الأساتذة من اليهود لا يزالون العمود الفقري للماسونية، وهم الذين يمثلون الجمعيات اليهودية في المحافل الماسونية وإليهم يرجع انتشار الماسونية والتعاون بين الماسونيين في العالم، وهم القوة الكامنة وراء الماسونية وإلى خواصهم تسند قيادة خلاياها السرية يدبرون أمرها ويرسمون الخطط لها ويوجهونها سرا كما يشاءون، ويؤيد ذلك ما جاء في مجلة أكاسيا الماسونية سنة 1908 م عدد 66 من أنه لا يوجد محفل ماسوني خال من اليهود وأن جميع اليهود لا تحتضن المذاهب بل هنالك المبادئ فقط وكذلك الحال عند الماسونية، ولهذه العلة تعتبر المعابد اليهودية خليفتنا، ولذا نجد بين الماسونيين عددا كبير من اليهود. اهـ.
ويؤيد أيضا ما ذكر في سجلات الماسونية من قولهم: لقد تيقن اليهود أن خير وسيلة لهدم الأديان هي الماسونية، وأن تاريخ الماسونية يشابه تاريخ اليهود في الاعتقاد. . وأن شعارهم هو نجمة داود المسدسة، ويعتبر اليهود والماسونيون أنفسهم معا الأبناء الروحيين لبناة هيكل سليمان، وأن الماسونية(36/107)
التي تزيف الأديان الأخرى تفتح الباب على مصراعيه لإعلاء اليهودية وأنصارها، وقد استفاد اليهود من بساطة الشعوب وحسن نيتها، فدخلوا في الماسونية واحتلوا فيها المراكز الممتازة، وبذلك نفثوا الروح اليهودية في المحافل الماسونية وسخروها لأغراضهم اهـ. وما يدل على شدة حرصهم على سريتها وبذلهم الجهد في كتمان ما يخططون لهدم الأديان، وتبييتهم المكر السيئ لإحداث الانقلابات السياسية ما جاء في بروتوكولات حكماء صهيون من قولهم، وسوف نركز هذه الخلايا تحت قيادة واحدة معروفة لنا وحدنا، وستتألف هذه القيادة من علمائنا وسيكون لهذه الخلايا ممثلوها الخصوصيون، كي تحجب المكان الذي تقيم فيه قيادتنا حقيقة، وسيكون لهذه القيادة وحدها الحق في تعيين من يتكلم، وفي رسم نظام اليوم، وفي هذه الخلايا سنضع الحبائل والمصائد لكل الاشتراكيين وطبقات المجتمع الثورية، وإن معظم الخطط السياسية السرية معروفة لنا وسنهديها إلى تنفيذها حالما تتشكل، ولكن الوكلاء في البوليس الدولي السري تقريبا سيكونون أعضاء في هذه الخلايا. . وحينما تبدأ المؤامرات خلال العالم فإن بدأها يعني أن واحدا من أشد وكلائنا إخلاصا يقوم على رأس هذه المؤامرات وليس إلا طبيعيا أننا كنا الشعب الوحيد الذي يوجه المشروعات الماسونية ونحن الشعب الوحيد الذي يعرف أن يوجهها ونعرف الهدف الأخير لكل عمل على حين أن الأمميين - أي غير اليهود - جاهلون بمعظم الأشياء الخاصة بالماسونية، ولا يستطيعون حتى رؤية النتائج العاجلة لما هم فاعلون. إلى غير ذلك مما يدل على قوة الصلة بين اليهودية والماسونية، ومزيد التعاون بين الطائفتين في المؤامرات الثورية وإحداث الحركات الهدامة، وعلى أن الماسونية في ظاهرها دعوة إلى الحرية في العقيدة والتسامح في الرأي، والإصلاح العام للمجتمعات، ولكنها في حقيقتها ودخيلة أمرها دعوة إلى الإباحية والانحلال وعوامل هرج ومرج وتفكك في المجتمعات، وانفصام لعرى الأمم ومعاول هدم وتقويض لصرح الشرائع ومكارم الأخلاق وإفساد وتخريب العمران. وعلى هذا فمن كان من المسلمين عضوا في جماعة الماسونية وهو على بينة من أمرها، ومعرفة بحقيقتها(36/108)
ودفين أسرارها أو أقام مراسمها وعني بشعائرها كذلك فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل وإن مات على ذلك فجزاؤه جزاء الكافرين، ومن انتسب إلى الماسونية وكان عضوا في جماعتها وهو لا يدري عن حقيقتها ولا يعلم ما قامت عليه من كيد للإسلام والمسلمين وتبييت الشر لكل من يسعى لجمع الشمل وإصلاح الأمم، وشاركهم في الدعوة العامة، والكلمات المعسولة التي لا تتنافى حسب ظاهرها مع الإسلام فليس بكافر، بل هو معذور في الجملة لخفاء واقعهم عليه، ولأنه لم يشاركهم في أصول عقائدهم ولا في مقاصدهم ورسم الطريق لما يصل بهم إلى غاياتهم الممقوتة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (1) » الحديث لكن يجب عليه أن يتبرأ منهم إذا تبين له أمرهم ويكشف للناس عن حقيقتهم ويبذل جهده في نشر أسرارهم وما بيتوا للمسلمين من كيد وبلاء ليكون ذلك فضيحة لهم ولتحبط به أعمالهم. وينبغي للمسلم أن يحتاط لنفسه في اختيار من يتعاون، معه في شئون دينه ودنياه وأن يكون بعيد النظر في اصطفاء الأخلاء والأصدقاء حتى يسلم من مغبة الدعايات الخلابة وسوء عاقبة الكلمات المعسولة ولا يقع في حبائل أهل الشرك ولا في شباكهم التي نصبوها للأغرار وأرباب الهوى وضعاف العقول.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .(36/109)
من الفتوى رقم 5235
س: الأنصار - أنصار الإمام المهدي - المنتشرة في غرب السودان والتي يدين بطريقته الملايين من عوام الناس يقول المهدي في منشوراته، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يمشي أمام جيشي ويبشرني بالنصر. ما رأيكم في هذه الخرافات والدجل نرجوكم الرد؟(36/109)
الحمد الله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: دعوى هذا الرجل أنه المهدي وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمشي أمام جيشه ويبشره بالنصر كذب وزور ومخالفة لشرع الله ولواقع الأمر المتفق عليه بين أهل الملة الإسلامية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره إلا يوم البعث لقول الله سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (1) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (2) وقوله سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (3) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (4) . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة (5) » .
ثانيا: سبق أن كتب في المهدي المنتظر عدة كتابات من أجمعها وأقربها للصواب ما كتبه فضيلة الشيخ عبد المحسن العباد نائب رئيس الجامعة الإسلامية سابقا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 15
(2) سورة المؤمنون الآية 16
(3) سورة الزمر الآية 30
(4) سورة الزمر الآية 31
(5) مسند أحمد بن حنبل (1/5) .(36/110)
من الفتوى رقم 948
س: اختلف علماؤنا في البدعة فقال بعضهم: البدعة منها ما هو حسن ومنها ما هو قبيح فهل هذا صحيح؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: البدعة هي كل ما أحدث على غير مثال سابق، ثم منها ما يتعلق بالمعاملات وشؤون الدنيا كاختراع آلات النقل من طائرات وسيارات وقاطرات وأجهزة الكهرباء وأدوات الطهي والمكيفات التي تستعمل للتدفئة(36/110)
والتبريد وآلات الحرب من قنابل وغواصات ودبابات إلى غير ذلك مما يرجع إلى مصالح العباد في دنياهم فهذه في نفسها لا حرج فيها ولا إثم في اختراعها، أما بالنسبة للمقصد من اختراعها، وما تستعمل فيه فإن قصد بها خير واستعين بها فيه فهي خير، وإن قصد بها شر من تخريب وتدمير وإفساد في الأرض واستعين بها في ذلك فهي شر وبلاء، وقد تكون البدعة في الدين عقيدة أو عبادة قولية أو فعلية كبدعة نفي القدر وبناء المساجد على القبور وإقامة القباب على القبور وقراءة القرآن عندها للأموات والاحتفال بالموالد إحياء لذكرى الصالحين والوجهاء والاستغاثة بغير الله والطواف حول المزارات فهذه وأمثالها كلها ضلال، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) » لكن منها ما هو شرك أكبر يخرج من الإسلام كالاستغاثة بغير الله فيما هو من وراء الأسباب العادية والذبح والنذر لغير الله إلى أمثال ذلك مما هو عبادة مختصة بالله، ومنها ما هو ذريعة إلى الشرك كالتوسل إلى الله بجاه الصالحين والحلف بغير الله وقول الشخص ما شاء الله وشئت، ولا تنقسم البدع في العبادات إلى الأحكام الخمسة كما زعم بعض الناس لعموم حديث: «كل بدعة ضلالة (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .(36/111)
من الفتوى رقم 2467
س: قدمت إليك الحديث الآتي ذكره فقد أشكل علي ووقع الاختلاف بين الطلبة فيه ثم عرضته عليك لتشرحه لي مكتوبا لأطالع فيه ويطالع كل طالب مثلي ويزيل الوهم في قلوبنا وهذا هو:(36/111)
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى. ويقول " أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " ثم يقول: " وأنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي (1) » رواه مسلم، ورد هذا الحديث بلفظ كل بدعة ضلالة وأنا ضد البدعة وجاهد معها بسيف السنة الصحيحة عرضت لك هذا الحديث لتشرح لي وتبين ماهية البدعة لغة واصطلاحا حتى لا أنكر شيئا ليس منها. وقد شرح بعض الفقهاء قالوا: إن البدعة على الأحكام الخمسة فهل لهم دليل على ذلك التقسيم فقالوا منها واجبة ومباحة ومكروهة ومندوبة ومحرمة. أطلب من سماحتكم شرح ذلك واضحا ففد وقع بين الطلبة اختلاف في كلمة كل بدعة ضلالة، قالوا لأن لفظ " كل " يقتضي الحصر إلا إذا أتى بعدها استثناء، وأيضا روى أبو داود والترمذي بحديث طويل اختصرت بعضه فقالا: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار (2) » . رويا بلفظ إن كل محدثة بدعة إلى آخره، أرجو منك يا سماحة الشيخ حل هذه المشكلة التي انبهمت عني ولا يحلها لي غيرك.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصبحه. . وبعد:
جـ: أولا: هذه الشريعة كاملة من عند الله فليست بحاجة إلى تكميل من البشر، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (3) . .
ثانيا: الأصل في باب العبادات التوقيف فمن قال إن هذه العبادة
__________
(1) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن ابن ماجه المقدمة (42) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) سورة المائدة الآية 3(36/112)
مشروعة فعليه أن يأتي بالدليل الشرعي الدال على مشروعيتها وإلا فهي مردودة، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » .
ثالثا: معنى البدعة لغة واصطلاحا أما معناها اللغوي فهو: ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال سابق، وأما معناها الاصطلاحي فهو: إحداث عبادة قولية أو فعلية أو عقدية لم يشرعها الله سبحانه وتعالى والبدع كلها ضلالة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
رابعا: أما تقسيم البدعة في الدين إلى خمسة أقسام فلا نعلم له أصلا في الشرع.
وننصحك بالرجوع إلى " كتاب الاعتصام " للشاطبي فقد تكلم فيه عن البدع بما لا تكاد تجده مجموعا في غيره، وكذلك " كتاب السنن والمبتدعات " و" كتاب الإبداع في مضار الابتداع "، " وتنبيه الغافلين " للنحاس و" زاد المعاد " للعلامة ابن القيم و" اقتضاء الصراط المستقيم " لشيخ الإسلام ابن تيمية.
خامسا: أما لفظ " كل " فليس من ألفاظ الحصر بالمعنى الاصطلاحي بل هو من ألفاظ العموم كما هو مقرر في علم الأصول.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(36/113)
من الفتوى رقم 2577
س: أطلب شرح الحديث مفصلا والحديث: «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار (1) » .
نرجو شرحا وافيا لمعنى مفهوم هذه العبارة وما يتعلق بها من محدثات اليوم
__________
(1) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(36/113)
مثل الطائرات ومكبرات الصوت وجميع المحدثات التي هي محدثة وبدعة ولكننا نستعملها وهل القرآن الشريف طبعه وكتابته يمكن أن تكون بدعة أو محدثة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
جـ: أولا قسم العلماء البدعة إلى بدعة دينية وبدعة دنيوية، فالبدعة في الدين هي: إحداث عبادة لم يشرعها الله سبحانه وتعالى وهي التي تراد في الحديث الذي ذكر وما في معناه من الأحاديث.
وأما الدنيوية: فما غلب فيها جانب المصلحة على جانب المفسدة فهي جائزة وإلا فهي ممنوعة ومن أمثلة ذلك ما أحدث من أنواع السلاح والمراكب ونحو ذلك.
ثانيا: الطائرات ومكبرات الصوت ونحو ذلك من الأمور العادية الدنيوية المبتدعة وليس فيها محذور شرعي فاستعمالها لا محذور فيه إذا لم يكن في ذلك ظلم لأحد ولا نصر لبدعة أو منكر وليست داخلة في الأحاديث المحذرة من البدع.
ثالثا: طبع القرآن وكتابته من وسائل حفظه وتعلمه وتعليمه والوسائل لها حكم الغايات فيكون ذلك مشروعا وليس من البدع المنهي عنها، لأن الله سبحانه ضمن حفظ القرآن الكريم وهذا من وسائل حفظه.
رابعا: ننصحك بالرجوع إلى " كتاب تنبيه الغافلين " للنحاس و" الاعتصام " للشاطبي و" السنن والمبتدعات " و" الإبداع في مضار الابتداع ".
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/114)
من الفتوى رقم 3227
س: ما حكم المبتدع المواظب على بدعته من قراءة القرآن على الميت قبل الدفن وبعده وذبح الشاة لإصلاح الطعام لمن جاء لحضور الجنازة، ومن قراءة توسل القادرية منها: سهل مرادنا بجاه أحمد ومن وضع المباخر في حلقتهم وغيرها ومن تشييع الجنازة بالتهليل وتلقين الميت عند القبر.
من العلماء من يقول إنهم من الكفار لمخالفة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من التحذير عن البدع ومنهم من يقول إنهم مسلمون عصاة.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: ليست البدع في درجة واحدة من الشر، بل منها ما هو كفر، ومنها ما هو معصية دون الكفر، فقراءة القرآن على الميت قبل دفنه أو بعده، وذبح شاة مثلا لإصلاح طعام لمن حضر لتشييع الجنازة، وتشييع الجنازة بالتهليل، وتلقين الميت عند القبر وحلقة الذكر الجماعي ووضع المبخرة فيها، من البدع التي أحدثها الناس فإنها لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو تقريرا ولم تثبت عن صحابته رضي الله عنهم ولا عن أئمة السلف الصالح رحمهم الله، فهذه من المعاصي والإصرار عليها يجعلها كبيرة وليست بكفر، إلا بالنسبة لمن عرف أنها بدعة وأصر عليها يريد بذلك مضاهاة شرع الله بتشريع من عنده، تغريرا بالعامة وصرفا لهم عن الصراط المستقيم، فهو كافر بتشريعه قصدا ما لم يأذن به الله واستباحته مخالفة شرع الله، ودعاء الأموات والاستعانة بهم كعبد القادر الجيلاني وأحمد التيجاني ونحوهما لجلب نفع أو دفع ضر وتفريج كربة وأمثال ذلك شرك بالله وكفر به كشرك وكفر الجاهلية الأولى التي دعا النبي صلى الله عليه وسلم أهلها إلى التوحيد، وحارب من أصر منهم على شركه وقاتلهم عليه، قال الله تعالى بعد وصف نفسه بصفات الربوبية، {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (1) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (2) .
__________
(1) سورة فاطر الآية 13
(2) سورة فاطر الآية 14(36/115)
وقد تكون بعض البدع ذريعة قريبة إلى الشرك كقول بعض المتصوفة: سهل مرادنا بجاه أحمد، وكالطواف حول الأضرحة متقربا إلى الله، فإن قصد التقرب به إلى الولي صار شركا أكبر، وكشد الرحال لزيارة قبور الصالحين. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/116)
من الفتوى رقم 3230
س: نطلب منكم أن تشرحوا لنا ما هي البدعة وأنواع البدع بكل وضوح؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: البدعة هي: العبادة التي لم يشرعها الله كالاحتفال بالموالد والاحتفال بليلة الإسراء والمعراج ورفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من المؤذن بعد انتهاء الأذان وأشباه ذلك، وقد صنف جماعة من العلماء كتبا في بيان البدعة وأنواعها نرشد إلى بعضها فيما يلي: -
1 - كتاب السنن والمبتدعات للشيخ محمد أحمد عبد السلام الحوامدي.
2 - كتاب الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ.
كلاهما من علماء مصر وقبلهما بزمن طويل كتاب البدع والنهي عنها للإمام محمد بن وضاح وكتاب الاعتصام للشاطبي.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/116)
من الفتوى رقم 6719
س: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » . هل يرد على البدعي عمل البدعة فقط أم جميع أعماله؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: البدع تختلف فمنها ما ينافي أصل الدين، ومنها ما يقع في صفة العبادة أو إحداث شيء في الدين لم يشرع، فإن كان عمل المبتدع مما يقدح في أصل الدين كدعاء غير الله فبدعته وجميع عمله مردود قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (2) . وإن كان في صفة العبادة مثل التكبير والذكر والتلبية الجماعية، أو كانت البدعة في إحداث شيء في الدين لم يشرع كالاحتفال بالمولد فهذا العمل مردود على صاحبه لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(2) سورة الفرقان الآية 23
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(36/117)
من الفتوى رقم 7721
س: كم قسما تنقسم البدعة هل كل بدعة ضلالة وإذا كان ذلك كذلك رأيت أن وضع الحركات في القرآن الكريم، من ضمة وفتحة وكسرة وسكون ونقطة ونبرة كلها بدعة، لأن القرآن الكريم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتب إلا على صفحات وليس له حركات كما نراه اليوم. هل وضع الحركات فيه من البدع؟ وهل هذه البدعة ضلالة؟ .
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:(36/117)
جـ: البدعة تنقسم إلى بدعة دينية وبدعة عادية، فالعادية مثل كل ما جد من الصناعات والاختراعات والأصل فيها الجواز إلا ما دل دليل شرعي على منعه.
أما البدعة الدينية فهي كل ما أحدث في الدين مضاهاة لتشريع الله كالأذكار الجماعية بصوت واحد وكبدع الموالد وبدع الاحتفال بنصف شهر شعبان والسابع والعشرين من رجب وبليلة الأربعين من وفاة الميت وقراءة القرآن للأموات على القبور إلى أمثال ذلك مما لا يحصى عدا، ولا أقسام للبدعة في الدين من حيث الحكم عليها بل كل بدعة ضلالة لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » رواه البخاري ومسلم. وفي رواية: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » رواه مسلم ولما رواه العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا قال: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة (3) » رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
أما نقط حروف القرآن وضبطها بالحركات فليس من البدع وإن لم يكن موجودا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكونه من المصالح المرسلة لدلالة أدلة الشرع الآمرة بحفظه على ذلك في الجملة، ونوصيك بقراءة " كتاب الاعتصام " للشاطبي فإنه وفى الموضوع حقه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(3) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(36/118)
فتوى رقم 11495 تاريخ 18 \ 11 \ 1408 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. . وبعد.
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما ورد إلى سماحة الرئيس العام من مستفت والمحال إلى اللجنة من إدارة البحوث العلمية والإفتاء برقم 2968 في 3 \ 7 \ 1408 هـ وقد سأل المستفتي سؤالا هذا نصه (لي أب من الرضاع وزوجتي تكشف وجهها عنده وتسلم عليه ويسلم عليها وهذا اجتهاد منا في فهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب (1) » إلا أنني اطلعت في الآونة الأخيرة على فتوى لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين هذا نصها مع الاستفتاء - ما حكم كشف المرأة وجهها لأبي زوجها من الرضاعة لا يجوز على القول الراجح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول «يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب (2) » وأبو الزوج ليس حراما على زوجة ابنه من جهة النسب لكنه حرام من جهة الصهر. ولأن الله تعالى قال في القرآن: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} (3) والابن من الرضاع ليس من أبناء الصلب وعلى هذا فالمرأة إذا كان لزوجها أب من الرضاعة فإنه يجب عليها أن تتحجب عنده ولا تكشف وجهها له ولو فرض أنها فارقت ابنه من الرضاع فإنها لا تحل بالزواج احتياطا لأن ذلك هو رأي جمهور العلماء انتهت فتوى فضيلة الشيخ. فأرجو من سماحتكم الإفادة هل أسمح لزوجتي أن تستمر في كشف وجهها لأبي من الرضاع أم يجب عليها أن تتحجب عنه؟ كما أفتى بذلك فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين أرجو توجيهي إلى الصحيح في هذه المسالة مع الدليل؟ وفق الله سماحتكم وبارك في أعمالكم إنه سميع قريب.
وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب فيجوز للزوجة أن تكشف لأبي زوجها من الرضاعة.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/275) .
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/275) .
(3) سورة النساء الآية 23(36/119)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(36/120)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
س: نال بعض العلمانيين من الدعاة، ومن بعض طلبة العلم، وتكلموا في مسائل الشريعة وهم ليسوا من أهلها، وقد انتشر هذا الأمر بين عامة المسلمين، فاختلط عليهم الأمر. ونريد من سماحتكم تبيين ما في هذه القضية، والله يرعاكم؟
جـ: يجب على المسلم أن يحتاط لدينه، وألا يأخذ الفتوى ممن هب ودب، لا مكتوبة ولا مذاعة، ولا من أي طريق لا يتثبت منه. سواء كان القائل علمانيا أو غير علماني، لا بد من التثبت في الفتوى، لأنه ليس كل من أفتى يكون أهلا للفتوى. . فلا بد من التثبت.
والمقصود أن المؤمن يحتاط لدينه فلا يعجل في الأمور، ولا يأخذ الفتوى من غير أهلها، بل يتثبت حتى يقف على الصواب، ويسأل أهل العلم المعروفين بالاستقامة، وفضل العلم حتى يحتاط لدينه، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) ، وأهل الذكر هم أهل العلم بالكتاب والسنة، فلا يسأل من يتهم في دينه، أو لا يعرف علمه، أو يعرف بأنه منحرف عن جادة أهل السنة.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 7(36/121)
س: هل يغير المنكر باليد، ولمن يكون التغيير باليد مع ذكر الأدلة حفظكم الله؟
جـ: الله جل جلاله وصف المؤمنين بإنكار المنكر، والأمر بالمعروف قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1)
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(36/121)
وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) .
والآيات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدا، وما ذاك إلا لأهمية وشدة الحاجة إليه.
وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (3) » رواه مسلم في الصحيح.
فالإنكار يكون باليد في حق من استطاع ذلك كولاة الأمور والهيئة المختصة بذلك، فيما جعل إليها، وأهل الحسبة فيما جعل إليهم، والأمير فيما جعل إليه، والقاضي فيما جعل إليه، والإنسان في بيته مع أولاده وأهل بيته فيما يستطيع.
أما من لا يستطيع ذلك، أو إذا غير بيده يترتب عليه الفتنة والنزاع، والمضاربات، فإنه لا يغير بيده، بل ينكر بلسانه ويكفيه ذلك لئلا يقع بإنكاره باليد ما هو أنكر من المنكر الذي أنكره، كما نص على ذلك أهل العلم.
أما هو فحسبه أن ينكر بلسانه فيقول يا أخي: اتق الله هذا لا يجوز، هذا يجب تركه، هذا يجب فعله، ونحو ذلك من الألفاظ الطيبة، والأسلوب الحسن.
ثم بعد اللسان القلب، يعني يكره بقلبه المنكر، ويظهر كراهته ولا يجلس مع أهله، فهذا من إنكاره بالقلب. . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 104
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(36/122)
س: بعض الناس يحاولون النيل من شباب الصحوة، بحجة أن فيهم تطرفا وتزمتا، فما تعليق سماحتكم على ذلك؟
جـ: الواجب تشجيع الشباب على الخير. وشكرهم على نشاطهم في الخير، مع توجيههم إلى الرفق والحكمة. وعدم العجلة في الأمور لأن الشباب وغير الشباب يكون عندهم زيادة غيرة، فيقعون فيما لا ينبغي فالواجب توجيه الشيخ والشاب إلى أن يتثبت في الأمور وأن يتحرى الحق في كل أعماله حتى تقع الأمور منه في موقعها، وقد رأى رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعض المنكرات، فحملته الغيرة لله على أن قال لصاحب المنكر: والله لا يغفر الله لك، فقال الله عز وجل: «من ذا الذي يتألى علي ألا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وما ذلك إلا لأنه تجاوز الحد الشرعي بجزمه بأن الله لا يغفر لصاحب هذا المنكر، وذلك يوجب على المؤمن التثبت والحذر من خطر اللسان وشدة الغيرة.
والمقصود أن الشاب والشيخ وغيرهما كلهم عليهم واجب إنكار المنكر. لكن بالرفق والحكمة والتقيد بنصوص الشرع. فلا يزيدون على الحد الشرعي. فيكونون غلاة كالخوارج والمعتزلة، ومن سلك سبيلهم، فيكونون جفاة متساهلين بأمر الله. ولكن يتحرون الوسط في كلامهم وإنكارهم. وتحريهم للأسباب التي تجعل قولهم مقبولا ومؤثرا. ويبتعدون عن الوسائل التي قد تنفر من قبول قولهم، ولا ينتفع بهم المجتمع، لقول الله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (2) الآية.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه (3) » . . وقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به، اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه (4) » رواه مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها.
__________
(1) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2621) .
(2) سورة آل عمران الآية 159
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(4) صحيح مسلم الإمارة (1828) ، مسند أحمد بن حنبل (6/258) .(36/123)
س: إن هداية الناس ثمرة لانتشار العلم الشرعي بين الناس، ولكن من الملاحظ أن الباطل أكثر انتشارا عبر الصحافة، وكافة وسائل الإعلام ومناهج التدريس، فما موقف الدعاة والعلماء من هذا؟
جـ: هذه واقعة منتشرة في الزمان كله، وحكمة أرادها الله سبحانه كما قال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (1) ، ويقول سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (2) .
لكن هذا يختلف: ففي بلاد يكثر، وفى بلاد يقل، وفي قبيلة يكثر، وفي قبيلة يقل، وأما بالنسبة إلى الدنيا فأكثر الخلق على غير الهدى. ولكن هذا يتفاوت بالنسبة إلى بعض الدول، وبعض البلاد، وبعض القرى، وبعض القبائل. فالواجب على أهل العلم أن ينشطوا، وألا يكون أهل الباطل أنشط منهم. بل يجب أن يكونوا أنشط من أهل الباطل، في إظهار الحق والدعوة إليه. أينما كانوا: في الطريق وفي السيارة، وفي الطائرة وفي المركبة الفضائية، وفي بيته وفى أي مكان. عليهم أن ينكروا المنكر بالتي هي أحسن. ويعلموا بالتي هي أحسن، بالأسلوب الطيب. والرفق واللين، يقول الله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) ، ويقول سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (4) . . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (5) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه (6) » . فلا يجوز لأهل العلم السكوت وترك الكلام للفاجر والمبتدع والجاهل،
__________
(1) سورة يوسف الآية 103
(2) سورة الأنعام الآية 116
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة آل عمران الآية 159
(5) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(6) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .(36/124)
فإن هذا غلط عظيم، ومن أسباب انتشار الشر والبدع، واختفاء الخير وقلته وخفاء السنة.
فالواجب على أهل العلم أن يتكلموا بالحق، ويدعوا إليه، وأن ينكروا الباطل ويحذروا منه، ويجب أن يكون ذلك عن علم وبصيرة، كما قال الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) وذلك بعد العناية بأسباب تحصيل العلم، من الدراسة على أهل العلم وسؤالهم عما أشكل، وحضور حلقات العلم والإكثار من تلاوة القرآن الكريم وتدبره، ومراجعة الأحاديث الصحيحة، حتى تستفيد وتنشر العلم كما أخذته عن أهله بالدليل، مع الإخلاص والنية الصالحة والتواضع، ويجب أن تحرص على نشر العلم بكل نشاط وقوة، وإلا يكون أهل الباطل أنشط في باطلهم، وأن تحرص على نفع المسلمين في دينهم ودنياهم. وهذا واجب العلماء شيوخا وشبابا أينما كانوا، بأن ينشروا الحق بالأدلة الشرعية، ويرغبوا الناس فيه، وينفروهم من الباطل ويحذروهم منه، عملا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2) ، وقوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) .
هكذا يكون أهل العلم، أينما كانوا يدعون إلى الله، ويرشدون إلى الخير، وينصحون لله ولعباده وبالرفق فيما يأمرون به، وفيما ينهون عنه، وفيما يدعون إليه، حتى تنجح دعوتهم، ويفوز الجميع بالعاقبة الحميدة، والسلامة من كيد الأعداء. . . والله المستعان.
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3(36/125)
س. أريد من سماحتكم تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (1) .
__________
(1) سورة النور الآية 35(36/125)
جـ: معنى الآية الكريمة عند العلماء: أن الله سبحانه ينورها. فجميع النور الذي في السماوات والأرض ويوم القيامة كله من نوره سبحانه.
والنور نوران: نور مخلوق وهو ما يوجد في الدنيا وفي الآخرة وفي الجنة وبين الناس الآن، من نور القمر والشمس والنجوم. . وهكذا نور الكهرباء والنار، كله مخلوق وهو من خلقه سبحانه وتعالى.
أما النور الثاني: فهو غير مخلوق، بل هو من صفاته سبحانه وتعالى والله سبحانه وبحمده بجميع صفاته هو الخالق وما سواه مخلوق، فنور وجهه عز وجل، ونور ذاته سبحانه وتعالى، كلاهما غير مخلوق بل هما صفة من صفاته جل وعلا.
وهذا النور العظيم وصف له سبحانه، وليس مخلوقا، بل هو صفة من صفاته كسمعه وبصره ويده وقدمه وغير ذلك من صفاته العظيمة سبحانه وتعالى، وهذا هو الحق الذي درج عليه أهل السنة والجماعة.(36/126)
س: ما تفسير قوله سبحانه وتعالى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} (1) من هو المستثنى هنا؟
جـ: الله أعلم بذلك. . وقال بعض أهل العلم: إنهم الملائكة: وقال بعضهم إنهم الشهداء. . والله سبحانه وتعالى هو أعلم بمراده بذلك.
__________
(1) سورة الزمر الآية 68(36/126)
س: أنا أحب الدعوة إلى الله ومتحمس لها، ولكن ليس عندي أسلوب حسن، فهل يكفي في ذلك اختياري لشريط لأحد العلماء والدعاة وأهديه لأقاربي والمسلمين عامة؟
جـ: نعم الشريط إذا كان من عالم معروف بحسن العقيدة وسعة العلم. إذا أهديته إلى إخوانك فقد أحسنت. ولك مثل أجره لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه. أما أنت فلا مانع من أن تتكلم بما تعلم من الحق بالأسلوب الحسن. مثل حث الناس على الصلاة في الجماعة، وأداء الزكاة وتحذيرهم من الغيبة والنميمة. وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم وما حرم الله من
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(36/126)
الفواحش، لأن هذه الأمور وأمثالها معلومة للمسلمين من العلماء وغيرهم.(36/127)
س: نريد من سماحتكم تشجيع الدعاة وطلبة العلم على إقامة الدروس والمحاضرات في كافة أنحاء البلاد، حيث لوحظ الجفاء في بعض المناطق، وقلة الدعاة وتكاسل طلبة العلم وإحجامهم عن الدروس والمحاضرات، مما يسبب انتشار الجهل وعدم العلم بالسنة وانتشار الشركيات والبدع حفظكم الله؟
جـ: لا شك أن الواجب على العلماء أينما كانوا أن ينشروا الحق وينشروا السنة ويعلموا الناس وأن لا يتقاعسوا عن ذلك، بل يجب على أهل العلم أن ينشروا الحق بالدروس في المساجد التي حولهم، وإن كانوا غير أئمة فيها. . وفي خطب الجمعة من أئمة الجوامع، يجب على كل واحد أن يعتني بخطبة الجمعة، ويتحرى حاجة الناس. . وهكذا المحاضرات والندوات يجب على القائمين به أن يتحروا حاجة الناس ويبينوا لهم ما قد يخفى عليهم من أمور دينهم، وما يلزم نحو إخوانهم من الجيران وغيرهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، وتعليم الجاهل، بالرفق والحكمة، ومتى سكت العلماء ولم ينصحوا ولم يرشدوا الناس تكلم الجهال، فضلوا وأضلوا، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (1) » رواه الإمام البخاري عن صحيحه.
فنسأل الله السلامة من كل سوء، لنا ولإخواننا المسلمين.
وبما ذكرنا يعلم أن الواجب على أهل العلم أينما كانوا في القرى والمدن، وفي القبائل وفي هذه البلاد، وفي كل مكان أن يعلموا الناس وأن يرشدوهم بما قال الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما أشكل عليهم في ذلك وجب عليهم أن يراجعوا الكتاب والسنة ويراجعوا كلام أهل العلم.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (100) ، صحيح مسلم العلم (2673) ، سنن الترمذي العلم (2652) ، سنن ابن ماجه المقدمة (52) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) ، سنن الدارمي المقدمة (239) .(36/127)
فالعالم يتعلم إلى أن يموت، ويتعلم ليعلم ما أشكل عليه، ويراجع كلام أهل العلم بالأدلة حتى يفتي الناس ويعلمهم على بصيرة، وحتى يدعو إلى الله على بصيرة.
فالإنسان في حاجة إلى العلم، إلى أن يموت ولو كان من الصحابة رضي الله عنهم، فكل إنسان محتاج إلى طلب العلم، والتفقه في الدين، ليعلم ويتعلم، فيراجع القرآن الكريم ويتدبره، ويراجع الأحاديث الصحيحة وشروحها، ويراجع كلام أهل العلم حتى يستفيد ويتضح له ما أشكل عليه، ويعلم الناس مما علمه الله، سواء كان في بيته أو في المدرسة، أو في المعهد أو في الجامعة، أو في المساجد التي حوله أو في السيارة، أو في الطائرة، أو في أي مكان، أو في المقبرة إذا حضر عند الدفن، ولم ينقض القبر بأن جلسوا ينتظرون، يذكرهم بالله، كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل.
والمقصود أن العالم ينتهز الفرصة في كل مكان مناسب، واجتماع مناسب، لا يضيع الفرصة، بل ينتهزها ليذكر ويعلم بالكلام الطيب، والأسلوب الحسن والتثبت والحذر من القول على الله بغير علم. . والله ولي التوفيق. .(36/128)
بحث في الوعد
وحكم الإلزام بالوفاء
به ديانة وقضاء
إعداد
فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع (1)
عضو هيئة كبار العلماء والقاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسولنا الأمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوه ومنه وكرمه وبعد:
فلقد استبشر أهل الغيرة والحسبة وأهل التقوى والصلاح من خواص المسلمين وعوامهم على قيام مؤسسات ومصارف إسلامية أخذ أصحابها على عواتقهم التقيد بقيود المكاسب الشرعية والابتعاد عن كل مكسب خبيث سواء أكان ذلك عن طريق الربا أو الجهالة أو الغرر أو القمار أو كان من أي طريق من طرق أكل أموال الناس بالباطل، وذلك لغرض إنقاذ الاقتصاد الإسلامي من جراثيم الربا ومصائبه، فاتجهت هذه المؤسسات التجارية الإسلامية إلى التعامل في التجارة بالبيع والشراء والإجارة والأخذ بالطرق المختلفة لتحقيق الكسب الحلال من عقود السلم والاستصناع والمرابحة والتأجير المنتهي بالتمليك ونحو ذلك مما تبتكره التجارة الدولية، ولا يتعارض مع القواعد والأصول الشرعية. وقررت في أجهزة إداراتها أقساما للرقابة الشرعية والفتوى.
__________
(1) وردت ترجمة للباحث في العدد (7) ص (290) من مجلة البحوث الإسلامية.(36/129)
واختارت أعضاء هيئاتها الشرعية ممن تثق بعلمه وأمانته وتقاه ورجعت إلى هذه الهيئات باستفتائها عن حكم أي طريق من طرق التجارة الدولية لتأخذ من هذه الطرق ما يضمن لها الكسب الحلال والاستثمار المشروع في حدود المقتضيات الشرعية، وقد ظهرت من هذه التحركات الاستثمارية بعض الإشكالات ومنها مسألة الوعد بالشراء أو البيع أو الإجارة أو القرض أو غير ذلك من أمور التجارة والإدارة المالية، وحكم الوفاء به من حيث الوجوب أو عدمه.
وقد صدر في الموضوع مجموعة من البحوث من بعض أعضاء وخبراء مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي قدمت هذه البحوث للمجمع وجرى نقاشها في الدورة الخامسة للمجمع التي جرى انعقادها في مدينة الكويت في الشهر الخامس من عام 1409 هـ، وصدر إثر ذلك قرار المجمع رقم 2 - 3 سيجرى إن شاء الله رصد نصه في ختام البحث.
وقد كان مني مساهمة متواضعة في تقديم بحث ضمن البحوث المقدمة للمجمع إلا أن هذا البحث لم يكن مني محل قناعة فاستعنت بالله تعالى في إعادة النظر في البحث المذكور وإعادة كتابته والله المستعان.(36/130)
الوعد: من وعد يعد من باب ضرب يضرب، عدة ووعدا. قال في تاج العروس قال في التهذيب: الوعد والعدة تكونان مصدرا واسما. فأما العدة فتجمع على عدات، وأما الوعد فلا يجمع. ووعد تكون متعدية بالباء في الغالب تقول: وعده بكذا. وتتعدى بنفسها فتقول: وعده الأمر. وواعده قال أبو معاذ: إذا واعدت زيدا إذا وعدك ووعدته ووعدت زيدا إذا كان الوعد منك خاصة. اهـ.
فالمواعدة مفاعلة وهي ما بين طرفين على نحو ما ذكره أبو معاذ ونقله عنه الزبيدي في التاج. والوعد والعدة مصدران لوعد يعد ويكونان اسمين ولعل الاسمية في العدة أكثر توغلا من الاسمية في الوعد. ولهذا يجوز جمع العدة على(36/130)
عدات، ولا يجوز في رأي جمهور أهل اللغة جمع الوعد.
والوعد معناه الالتزام للغير بما لا يلزم ابتداء. والموعدة نتيجة الوعد. قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} (1) ، وهذا المعنى يشمل النذر لأن النذر إيجاب طاعة غير واجبة فهو التزام بما لا يلزم ابتداء.
__________
(1) سورة التوبة الآية 114(36/131)
وقد جاءت لفظة الوعد في القرآن الكريم في مجموعة كثيرة من آياته يدل بعضها على أن الوفاء بالوعد متعين وأنه من شيم الصادقين، وأن إخلاف الوفاء به موجب للذم والعقوبة. قال تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) ، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (2) إلى قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (3) ، وقال تعالى في مدح إسماعيل عليه الصلاة والسلام والثناء عليه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (4) . وقد استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه وأبوه كافر معاند تحرجا من إخلاف وعده حيث وعده بالاستغفار له حتى تبين له أنه عدو لله فتبرأ منه قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} (5) .
__________
(1) سورة الصف الآية 3
(2) سورة التوبة الآية 75
(3) سورة التوبة الآية 77
(4) سورة مريم الآية 54
(5) سورة التوبة الآية 114(36/131)
وقد جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكدة القول بذم مخلف الوعد ودالة على وجوب الوفاء بالوعد واستحقاق مخلف الوعد العقوبة.
1 - ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد(36/131)
أخلف (1) » .
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في تفسيره في توجيه الاستدلال ما نصه: فكون إخلاف الوعد من علامات المنافق يدل على أن المسلم لا يجوز له أن يتسم بسمات المنافقين. اهـ (2) .
2 - وفيه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي، فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت قبله عدة فليأتنا. قال جابر: فقلت وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يديه ثلاث مرات قال جابر: فعد في يدي خمسمائة ثم خمسمائة ثم خمسمائة (3) » .
ففي هذا الحديث دليل على وجوب الوفاء بالوعد؛ لأن المال ليس لأبي بكر وإنما هو من بيت مال المسلمين فدل ذلك على أن هذه العدة دين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشنقيطي في توجيه الاستدلال: فجعل العدة كالدين وأنجز لجابر ما وعده به النبي صلى الله عليه وسلم من المال فدل ذلك على الوجوب. اهـ.
وفي حديث أبي هريرة دليل على وجوب الوفاء بالوعد وأن خلفه من علامات النفاق وصفات المنافقين الموجبة بمجموعها لعقابهم في الدنيا وفي الآخرة.
3 - وفي البخاري أن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله فقدمت فسألت ابن عباس فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل، قال ابن حجر في الفتح: والغرض من ذكر هذا الحديث في هذا الباب بيان توكيد الوفاء بالوعد لأن موسى صلى الله عليه وسلم لم يجزم بوفاء العشر ومع ذلك فوفاها فكيف لو جزم. اهـ.
وقال الشيخ الشنقيطي في توجيه الاستدلال بحديث ابن عباس: ووجه الدلالة منه أنه قضى أطيبهما وأكثرهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل فعلى
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (33) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد بن حنبل (2/357) .
(2) فتح الباري على صحيح البخاري، ج 5 ص289 - 290، وأضواء البيان تفسير الشيخ الشنقيطي، ج4، ص327.
(3) صحيح البخاري الشهادات (2683) ، صحيح مسلم الفضائل (2314) .(36/132)
المؤمنين الاقتداء بالرسل وأن يفعلوا إذا قالوا - إلى أن قال - ومن أقوى الأدلة في الوفاء بالعهد قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) لأن المقت الكبير من الله على عدم الوفاء بالقول يدل على التحريم الشديد في عدم الوفاء به. اهـ (2) .
وفي أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب لمحمد درويش الشهير بالحوت ما يلي:
4 - «إذا وعد أحدكم فلا يخلف» . رواه أبو يعلى والحاكم. وجه الدلالة أن الأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف عنه.
5 - «إن حسن العهد من الإيمان» . حسنه الحاكم وقال على شرطهما، وأقره الذهبي.
6 - «العدة دين» . فيه حمزة بن داود ضعفه الدارقطني لكن له عدة طرق فهو حسن.
7 - وفي صحيح البخاري في باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم: قال ابن عون عن ابن سيرين: قال الرجل لكريه: أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه (3) .
فهذا وعد من الرجل لكريه وقد دخل الكري في سبب الوعد فقضى شريح بلزومه عليه.
8 - وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد
__________
(1) سورة الصف الآية 3
(2) فتح الباري على صحيح البخاري، ج5، ص 290 - 291، وأضواء البيان ج4، ص328 والآية رقم (3) من سورة الصف.
(3) صحيح البخاري، ج3، ص 185 من كتاب الشروط.(36/133)
غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر (1) » . وجه الدلالة أن إخلاف الوعد من صفات المنافقين.
9 - وفيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من علامات المنافق ثلاثة وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان (2) » .
10 - وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عامر قال: «دعتني أمي يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها فقالت تعال أعطيك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تعطيه؟ فقالت: أعطيه تمرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة (3) » .
11 - أورد ابن القيم رحمه الله في الجزء الأول من كتابه إعلام الموقعين ص 386 - 387 «أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب أن يوفي بنذره في الجاهلية من اعتكافه في المسجد الحرام (4) » .
12 - وقال: قال ابن وهب حدثنا هشام بن سعد بن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وأي (5) المؤمن واجب» قال ابن وهب وأخبرني إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «ولا تعد أخاك عدة تخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة» . وجه الدلالة أن إخلاف الوعد همزة من همزات الشيطان لإيراث العداوة بين المسلمين قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} (6) الآية.
13 - وروى الترمذي في سننه وحسنه من حديث أبي جحيفة قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض قد شاب وكان الحسن بن علي يشبهه وأمر لنا بثلاثة عشر قلوصا فنبهنا نقيفها فأتانا موته فلم يعطونا شيئا فلما قام أبو بكر قال: من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليجئ فقمت إليه
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (34) ، صحيح مسلم الإيمان (58) ، سنن الترمذي الإيمان (2632) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5020) ، سنن أبو داود السنة (4688) ، مسند أحمد بن حنبل (2/189) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (33) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد بن حنبل (2/536) .
(3) سنن أبو داود الأدب (4991) ، مسند أحمد بن حنبل (3/447) .
(4) صحيح البخاري الاعتكاف (2042) ، صحيح مسلم الأيمان (1656) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1539) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3821) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3325) ، سنن ابن ماجه الصيام (1772) ، مسند أحمد بن حنبل (2/154) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2333) .
(5) وأي: الوأي هو الوعد.
(6) سورة المائدة الآية 91(36/134)
فأخبرته فأمر لنا بها (1) » . وجه الدلالة أن أبا جحيفة رضي الله عنه وهو أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم لأبي بكر ومعه أصحابه مطالبين بوفاء وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أجابهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر فأنجز لهم من بيت المال ما وعدهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفيذا لقوله رضي الله عنه ومناداته في الناس أن من كان له دين أو عدة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأتنا للوفاء بها. وقد مر توضيح ذلك في حديث جابر المتقدم ذكره.
14 - وفي إحياء علوم الدين للغزالي أن ابن عمر لما حضرته الوفاة قال: إنه كان خطب إلي ابنتي رجل من قريش وكان إليه مني شبه الوعد فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق، أشهدكم أني قد زوجته ابنتي.
15 - جاء في صحيح البخاري في باب من أمر بإنجاز الوعد أن أبا سفيان أخبر ابن عباس «أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم فزعمت أنه يأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي (2) » . وقد ذكر الشيخ محمد الشنقيطي في تفسيره وجه الاستدلال بهذا الحديث على وجوب الوفاء بالوعد فقال: فإن جميع المذكورات في هذا الحديث مع الوفاء بالعهد كلها واجبة وهي الصلاة والصدق والعفاف وأداء الأمانة (3) .
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3544) ، سنن الترمذي الأدب (2826) .
(2) صحيح البخاري الشهادات (2681) ، مسند أحمد بن حنبل (1/263) .
(3) أضواء البيان ج4، ص 327.(36/135)
وأورد فيما يلي مجموعة من أقوال أهل العلم في التفسير والحديث واللغة والفقه في حكم الوفاء بالوعد:
1 - قال ابن حجر رحمه الله في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري في معرض شرحه الأحاديث التي أوردها البخاري في صحيحه في باب من أمر بإنجاز الوعد ما نصه! .
قوله: باب من أمر بإنجاز الوعد. وجه تعلق هذا الباب بأبواب(36/135)
الشهادات أن وعد المرء كالشهادة على نفسه. قاله الكرماني، وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعد لا يضارب بما وعد به مع الغرماء. اهـ. ونقل الإجماع في ذلك مردود فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل. وقال ابن عبد البر وابن العربي: أجل من قال به عمر بن عبد العزيز. وعن بعض المالكية: إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به وإلا فلا، فمن قال لآخر: تزوج ولك كذا فتزوج لذلك وجب الوفاء به وخرج بعضهم الخلاف على أن الهبة هل تملك بالقبض أو قبله؟ . وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكالات على الأذكار للنووي ولم يذكر جوابا عن الآية يعني قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) وحديث آية المنافق. قال: والدلالة للوجوب فيها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد. وننظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء، أي يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك؟ قوله: وفعله الحسن أي الأمر بإنجاز الوعد - إلى أن قال - قوله وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب هو سعيد بن عمرو بن الأشوع كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق وذلك بعد المائة وقد وقع بيان روايته كذلك عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه قوله: قال أبو عبد الله هو المصنف رأيت إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه يحتج بحديث ابن الأشوع أي هذا الذي ذكره عن سمرة بن جندب. والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد - إلى أن قال - ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث أحدها حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل. . . . ثانيها حديث أبي هريرة في آية المنافق. . . ثالثها حديث جابر في قصته مع أبي بكر فيما وعده به النبي صلى الله عليه وسلم من مال البحرين. . . ورابعها حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى به. اهـ (2) .
ومما ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه وابن حجر في شرحه يتضح أن
__________
(1) سورة الصف الآية 3
(2) (2) فتح الباري على صحيح البخاري، ج 5، ص 290- 291.(36/136)
من القائلين بوجوب الوفاء بالوعد عمر بن عبد العزيز وابن الأشوع وسمرة بن جندب وإسحاق بن راهويه والقاضي شريح.
2 - وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (1) قال الثالثة: من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: «العدة دين» . وفي الأثر: «وأي المؤمن واجب» . إلى أن قال في المسألة الرابعة: قال مالك ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم. وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان - إلى أن قال - وفي البخاري {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (2) وقضى ابن الأشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب قال البخاري. ورأيت إسحاق بن إبراهيم - يعني ابن راهويه - يحتج بحديث ابن الأشوع. اهـ (3) .
3 - وقال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره أضواء البيان على قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} (4) ما نصه:
اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد. فقال بعضهم: يلزم الوفاء به مطلقا، وقال بعضهم: لا يلزم مطلقا، وقال بعضهم: إن أدخله بالوعد في ورطة لزم الوفاء به، وإلا فلا. ومثاله ما لو قال له: تزوج. فقال له: ليس عندي ما أصدق به الزوجة فقال: تزوج والتزم لها بالصداق وأنا أدفعه عنك: فتزوج على هذا الأساس: فإنه قد أدخله بوعده في ورطة التزام الصداق، واحتج من قال بلزومه بأدلة منها آيات من كتاب الله دلت بظواهر عمومها على ذلك وبأحاديث، فالآيات كقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (5) الإسراء: آية (34) . وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (6) المائدة آية (1) ، وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} (7) النحل آية (91) . وقوله
__________
(1) سورة مريم الآية 54
(2) سورة مريم الآية 54
(3) (2) تفسير القرطبي ج 11، ص 116.
(4) سورة مريم الآية 54
(5) سورة الإسراء الآية 34
(6) سورة المائدة الآية 1
(7) سورة النحل الآية 91(36/137)
هنا: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (1) مريم آية (54) ، ونحو ذلك من الآيات. والأحاديث: كحديث «العهد دين» فجعلها دينا دليل على لزومها: قال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس.
«العدة دين» رواه الطبراني في الأوسط، والقضاعي وغيرهما عن ابن مسعود، بلفظ قال: «لا يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) » . . وذكره بلفظ " عطية " ورواه البخاري في الأدب المفرد موقوفا. ورواه الطبراني، والديلمي عن علي مرفوعا بلفظ «العدة دين، ويل لمن وعد ثم أخلف ويل له. . . " ثلاثا» . ورواه القضاعي بلفظ له «عدة المؤمن دين وعدة المؤمن كالأخذ باليد» ، وللطبراني في الأوسط عن قباش بن أشيم الليثي مرفوعا: «العدة عطية» وللخرائطي في المكارم عن الحسن البصري مرسلا: «أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلم تجده عنده، فقالت: عدني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن العدة عطية» وهو في مراسيل أبي داود، وكذا في الصمت لابن أبي الدنيا عن الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «العدة عطية» . وفي رواية لهما عن الحسن أنه قال: «سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فقال: " ما عندي ما أعطيك " قال: عدني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " العدة واجبة» قال في المقاصد بعد ذكر الحديث وطرقه: وقد أفردته مع ما يلائمه بجزء. انتهى منه، وقد علم في الجامع الصغير على هذا الحديث من رواية علي عند الديلمي في مسند الفردوس بالضعف.
وقال شارحه المناوي: وفيه دارم بن قبيصة، قال الذهبي: لا يعرف اهـ. ولكن قد مر لك أن طرقه متعددة، وقد روي عن غير علي من الصحابة كما قدمنا روايته عن ابن مسعود، وقباش بن أشيم الكناني الليثي رضي الله عنهما. وسيأتي في هذا المبحث إن شاء الله أحاديث صحيحة دالة على الوفاء بالوعد.
واحتج من قال: بأن الوعد لا يلزم الوفاء به بالإجماع على أن من وعد
__________
(1) سورة مريم الآية 54
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/410) ، سنن الدارمي الرقاق (2715) .(36/138)
رجلا بمال إذا فلس الواعد لا يضرب للموعود بالوعد مع الغرماء، ولا يكون مثل ديونهم اللازمة بغير الوعد، حكى الإجماع على هذا ابن عبد البر، كما نقله عنه القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة، وفيه مناقشة. وحجة من فرق بين إدخاله إياه في ورطة بالوعد فيلزم، وبين عدم إدخاله إياه فيها فلا يلزم أنه إذا أدخله في ورطة بالوعد ثم رجع في الوعد وتركه في الورطة التي أدخله فيها فقد أضر به وليس للمسلم أن يضر بأخيه لحديث «لا ضرر ولا ضرار (1) » . وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال مالك: إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له: نعم، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه، قال مالك ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال: نعم وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء: أن العدة لا يلزم منها شيء، لأنها منافع لمقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها، وفي البخاري {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (2) مريم: آية (54) وقضى ابن أشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب، قال البخاري: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع اهـ. كلام القرطبي، وكلام البخاري الذي ذكر القرطبي بعضه، هو قوله في آخر كتاب " الشهادات ": باب من أمر بإنجاز الوعد وفعله الحسن {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (3) وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة وقال المسور بن مخرمة: «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر صهرا له، قال: وعدني فوفى لي، (4) » قال أبو عبد الله: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع: حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره قال أخبرني أبو سفيان: أن هرقل قال له: «سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة قال: وهذه
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .
(2) سورة مريم الآية 54
(3) سورة مريم الآية 54
(4) صحيح البخاري فرض الخمس (3110) ، سنن أبو داود النكاح (2069) .(36/139)
صفة نبي، (1) » حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف (2) » .
حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال: «لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو كانت له قبله عدة فليأتنا، قال جابر: فقلت وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة (3) » .
حدثنا محمد بن عبد الرحيم، أخبرنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس، قال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل - انتهى من صحيح البخاري - وقوله في ترجمة الباب المذكور " وفعله الحسن " يعني الأمر بإنجاز الوعد. ووجه احتجاجه بآية {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} (4) أن الثناء عليه بصدق الوعد يفهم منه أن إخلافه مذموم فاعله: فلا يجوز، وابن الأشوع المذكور هو سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي، كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وقد وقع بيان روايته المذكورة عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه وهو إسحاق بن إبراهيم الذي ذكر البخاري أنه رآه يحتج بحديث ابن أشوع: كما قال ابن حجر في " الفتح " والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد. وصهر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أثنى عليه بوفائه له بالوعد هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسره المسلمون يوم بدر كافرا، وقد وعده برد ابنته إليه وردها إليه، خلافا لمن زعم أن الصهر المذكور أبو بكر
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2681) ، مسند أحمد بن حنبل (1/263) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (33) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد بن حنبل (2/357) .
(3) صحيح البخاري الشهادات (2683) ، صحيح مسلم الفضائل (2314) .
(4) سورة مريم الآية 54(36/140)
رضي الله عنه، وقد ذكر البخاري في الباب أربعة أحاديث في كل واحد منها دليل على الوفاء بإنجاز الوعد.
الأول: حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل وهو طرف من حديث صحيح مشهور، ووجه الدلالة منه في قوله: «فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف وأداء الأمانة، (1) » وقد ذكر بعد ذلك أن هذه الأمور صفة نبي والإقتداء بالأنبياء واجب ".
الثاني: حديث أبي هريرة في آية المنافق، ومحل الدليل منه قوله: «وإذا وعد أخلف (2) » فكون إخلاف الوعد من علامات المنافق يدل على أن المسلم لا يجوز له أن يتسم بسمات المنافقين.
الثالث: حديث جابر في قصته مع أبي بكر، ووجه الدلالة منه أن أبا بكر قال: «من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة (3) » . . . الحديث.
فجعل العدة كالدين، وأنجز لجابر ما وعده به النبي صلى الله عليه وسلم من المال، فدل ذلك على الوجوب.
الرابع: حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى، ووجه الدلالة منه أنه قضى أطيبهما وأكثرهما، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل، فعلى المؤمنين الاقتداء بالرسل، وأن يفعلوا إذا قالوا، وفي الاستدلال بهذه الأحاديث مناقشات من المخالفين. ومن أقوى الأدلة في الوفاء بالعهد قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (4) الصف آية (3) لأن المقت الكبير من الله على عدم الوفاء بالقول يدل على التحريم الشديد في عدم الوفاء به، وقال ابن حجر في " الفتح " في الكلام على ترجمة الباب المذكور، وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض، لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء اهـ.
ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل، وقال ابن عبد البر وابن العربي أجل من قال به عمر بن عبد العزيز: انتهى محل الغرض من كلام الحافظ في الفتح.
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2681) ، مسند أحمد بن حنبل (1/263) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (33) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد بن حنبل (2/536) .
(3) صحيح البخاري الشهادات (2683) .
(4) سورة الصف الآية 3(36/141)
وقال أيضا: وخرج بعضهم الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في الهبة، هل تملك بالقبض أو قبله؟ فإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة وما استدل به كل فريق منهم فاعلم أن الذي يظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم: أن إخلاف الوعد لا يجوز لكونه من علامات المنافقين، ولأن الله يقول: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به ولا يلزم به جبرا بل يؤمر به ولا يجبر عليه لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر على الوفاء به لأنه وعد بمعروف محض والعلم عند الله تعالى (2) اهـ.
4 - وقال ابن العربي في أحكام القرآن على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3) ما نصه: فإن من التزم شيئا لزمه شرعا. . . والملتزم على قسمين أحدهما النذر وهو على قسمين، نذر تقرب مبتدأ كقوله لله علي صوم وصلاة وصدقة ونحوه من القرب فهذا يلزمه الوفاء به إجماعا. ونذر مباح هو ما علق بشرط رغبة كقوله: إن قدم غائبي فعلي صدقة أو علق بشرط رهبة كقوله: إن كفاني الله شر كذا فعلي صدقة فاختلف العلماء فيه فقال مالك وأبو حنيفة يلزمه الوفاء به وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يلزمه الوفاء به وعموم الآية حجة لنا لأنها بمطلقها تتضمن ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط. وقد قال أصحابه إن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة وهذا وإن كان من جنس القربة إلا أنه لم يقصد به القربة وإنما قصد منع نفسه من فعل أو الإقدام على فعل، قلنا القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات. وهذا تكلف في التزام هذه القربة مشقة لجلب نفع أو دفع ضر، فلم يخرج عن سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب. . . . فإن كان القول منه وعدا فلا يخلو إما أن يكون منوطا بسبب كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا فهذا لازم إجماعا من الفقهاء وإن كان
__________
(1) سورة الصف الآية 3
(2) (1) أضواء البيان ج4، ص 300 - 305.
(3) سورة الصف الآية 2(36/142)
وعدا مجردا فقيل يلزم بمطلقه وتعلقوا بسبب الآية. . . والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر اهـ (1) .
5 - وقال الزبيدي في تاج العروس على مادة " وعد " ما نصه:
واختلف في حكم الوفاء بالوعد هل هو واجب أو سنة. قال شيخنا وأكثر العلماء على وجوب الوفاء بالوعد وتحريم الخلف فيه. . . وقال القاضي أبو بكر بن العربي بعد سرد كلام: وخلف الوعد كذب ونفاق وإن قل فهو معصية، وقد ألف الحافظ السخاوي في ذلك رسالة مستقلة سماها التماس السعد في الوفاء بالوعد جمع فيها فأوعى وكذا الفقيه أحمد بن حجر المكي ألم على هذا البحث في الزواجر ونقل حاصل كلام السخاوي برمته فراجعه. اهـ.
6 - ولابن القيم رحمه الله بحث نفيس في الجزء الأول من كتابه إعلام الموقعين تحت عنوان " أمر الله بالوفاء بالعقود " اتضح منه قوله بلزوم الوفاء بالوعد فذكر بعض الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة ورد رد القائلين بعدم اللزوم.
وأكد هذا الرأي في الجزء الثالث من إعلام الموقعين حيث قال:
المثال الحادي والثلاثون: اختلف الناس في تأجيل القرض والعارية إذا أجلها فقال الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه وأبو حنيفة لا يتأجل شيء من ذلك بالتأجيل وله المطالبة به متى شاء. وقال مالك يتأجل بتأجيل، فإن أطلق ولم يؤجل ضرب له أجل مثله وهذا هو الصحيح لأدلة كثيرة في موضعها. اهـ (2) 7 - وقال الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله في حاشيته على الروض المربع في باب القرض ما نصه:
قضية تشبيهه بالصرف عدم جواز التأجيل في القرض وعنه صحة تأجيله
__________
(1) أحكام القرآن ج4، ص 1788.
(2) إعلام الموقعين ج 3، ص 445.(36/143)
ولزومه إلى أجله. وهو مذهب مالك وصوبه في الإنصاف. وقال الشيخ تقي الدين: الحال يتأجل بتأجيله سواء كان الدين قرضا أو غيره لقوله: المسلمون على شروطهم وقال ابن القيم هو الصحيح لأدلة كثيرة. اهـ. وقال على قول الزاد، قال الإمام القرض حال وينبغي أن يفي بوعده، لأن الوفاء بالوعد مستحب، واختار الشيخ لزومه إلى أجله. وفي الإنصاف اختار الشيخ صحة تأجيله ولزومه إلى أجله سواء كان قرضا أو غيره وذكره وجها وهو الصواب وهو مذهب مالك والليث وذكره البخاري عن بعض السلف. اهـ (1) .
8 - وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في فتاواه ص 375 ما نصه: مرادهم بقولهم: الحال لا يتأجل إنه إذا حل عليه دين فرضي بالتأجيل بعد حلوله إن وعد لا يجب عليه الوفاء به بل ليس له الوفاء به ولو شرط على نفسه ذلك لم يلزم. وليس له مأخذ غير ما عللوه به. ومأخذ القائلين بتأجيله بعد حلوله إذا رضي صاحب الحق أولى فإن الشارع أمر بالوفاء بالعهود والوعود وذم المخلفين للوعد وأخبر أنه من نعوت المنافقين. وهذا القول هو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد واختاره الشيخ وجملة من الأصحاب - إلى أن قال - والصواب أن القرض والعارية والديون الحالة تلزم بالتأجيل ولا يطالب صاحبها قبل حلول الأجل. اهـ.
9 - وقال الأستاذ الفاضل مصطفى الزرقاء في كتابه المدخل الجزء الثاني ص 1023 - 1024 تفريعا على قاعدة المعلق بالشرط يجب ثبوته عند ثبوت الشرط ما نصه: الأصل في الوعد أنه لا يلزم صاحبه قضاء وإن كان الوفاء به مطلوبا ديانة فلو وعد شخص آخر بقرض أو بيع أو بهبة أو بفسخ أو بإبراء أو بأي عمل حقوقي آخر لا ينشئ بذلك حقا للموعود فليس له أن يجبره على تنفيذه بقوة القضاء، غير أن الفقهاء الحنفيين لاحظوا أن الوعد إذا صدر معلقا على شرط فإنه يخرج عن معنى الوعد المجرد، ويكتسي ثوب الالتزام والتعهد فيصبح
__________
(1) الروض المربع وحاشيته ج 5، ص 40.(36/144)
عندئذ ملزما لصاحبه (شرح العلامة علي الحيدر على المجلة) وذلك فيما يظهر اجتنابا لتغرير الموعود بعد ما خرج الوعد مخرج التعهد وقد قال ابن نجيم في الحظر والإباحة من الأشباه جـ 2 ص 110 لا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقا. وعلى هذا قرر الفقهاء أنه لو قال شخص لآخر: بع هذا الشيء من فلان وإذا لم يعطك فأنا أعطيك فلم يعطه المشتري الثمن بعد المطالبة التزم القائل، وكذا لو باع شيئا بغبن فاحش فقال المشتري للبائع المغبون إذا رددت إلي الثمن فسخت لك البيع كان هذا الوعد ملزما ويصبح البيع كبيع الوفاء الذي هو في معنى الرهن - إلى أن قال - وفي الاجتهاد المالكي أربعة آراء فقهية حول لزوم الوعد وعدم لزومه قضاء، والمشهور من هذه الآراء أنه يعتبر الوعد بالعقد ملزما للواعد قضاء إذا ذكر فيه سببا ودخل الموعود تحت التزام مالي بمباشرة ذلك السبب بناء على الوعد، وذلك كما لو وعد شخص آخر بأن يقرضه مبلغا من المال بسبب عزمه على الزواج ليدفعه مهرا أو ليشتري به بضاعة فتزوج الموعود أو اشترى البضاعة ثم نكل الواعد عن القرض، فإنه يجبر قضاء على تنفيذ وعده (الفروق للقرافي جـ 4 ص 24 - 25 ورسالة الالتزام للحطاب وهي منشورة في الجزء الأول من فتاوى الشيخ عليش بحث مسائل الالتزام) وهذا وجيه جدا فإنه بنى الالتزام على فكرة دفع الضرر الحاصل فعلا للموعود من تغرير الواعد فهو أوجه من الاجتهاد الحنفي الذي بنى الالتزام على الصور اللفظية للوعد هل هي تعليقية أو غير تعليقية، فإن التعليق وعدمه لا يغير شيئا من حقيقة الوعد اهـ. وجاء في حاشية المدخل للزرقاء قوله: وقال أصبغ من فقهاء المالكية: يكفي للإلزام بالوعد ذكر السبب من زواج أو بناء أو غيرهما ولو لم يباشر الموعود. اهـ.
ونظرا إلى أن جمهور القائلين بالالتزام بالوعد على تفصيل بينهم هم فقهاء المذهب المالكي، وقد كتب أبو عبد الله محمد عليش في الموضوع بحثا قيما مستفيضا تكلم فيه عن الوعد وأقسامه وحكم كل قسم مستعرضا في ذلك نصوص فقهاء مذهبه - المذهب المالكي - وذلك في كتابه فتح العلي المالك المشهور بفتاوى عليش وذلك في الجزء الأول ص 254 - 258 رأيت أن هذا(36/145)
البحث كاف عن استعراض أقوال فقهاء المذهب المالكي، وعليه فقد جرى مني نقله بكامله والله المستعان.
10 - قال أبو عبد الله محمد أحمد عليش المتوفى 1299 هـ في كتابه فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك ما نصه:
تنبيه:
يجب الوفاء بنذر العتق وإن لم يكن في ملك الناذر حينئذ ما يعتقه، قال في كتاب النذور من المدونة فيمن نذر عتق رقبة فلم يستطعها أن الصوم لا يجزئه فهذا يدل على أنه يلزم الوفاء به، وإن لم يكن في ملكه من يعتقه، وقال في رسم العبرة من سماع يحيى من كتاب العتق في رجل جعل على نفسه رقبة من ولد إسماعيل، قال مالك: ليعتق رقبة، قيل: أيجزئه رقبة من الذبح؟ قال: ليعتق رقبة أقرب الرقاب إلى ولد إسماعيل، قال ابن رشد: وهذا كما قال لأن للشريف في النسب حرمة توجب التنافس في العبيد من أجلها وكزيادة في ثمنها والأجر على قدر ذلك. اهـ.
فصل:
وأما العدة فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئا الآن وإنما هي كما قال ابن عرفة إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل ولا خلاف في استحباب الوفاء بالوعد، وقد قال مالك في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم من كتاب الحج ومن كتاب العدة فيمن هلك وعليه مشي إلى بيت الله عز وجل فسأل ابنه أن يمشي عنه فوعده بذلك، فقال مالك: أما إذا وعد فإني أحب له أن لو فعل ذلك ولكن ما ذلك رأي أو يمشي أحد عن أحد ولكني أحب له إذا وعده أن يفعل ذلك. قال ابن رشد: المعنى في هذه المسألة أن مالكا استحب له أن يفي لأبيه بما وعده به من المشي عنه وإن كان ذلك عنده لا قربة فيه من ناحية استحباب الوفاء بالوعد في الجائزات التي لا قربة فيها. اهـ.
فالوفاء بالعدة مطلوب بلا خلاف، واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب جامع البيوع وفي كتاب العارية، وفي كتاب العدة ونقلها عنه غير واحد فقيل يقضي بها مطلقا، وقيل لا يقضي بها(36/146)
مطلقا، وقيل: يقضي بها إن كانت على سبب وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شيء كقولك أريد أن أتزوج أو أن أشتري كذا أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا، أو أريد أن أركب غدا إلى مكان كذا فأعرني دابتك، أو أن أحرث أرضي فأعرني بقرك، فقال: نعم ثم بدا له قبل أن يتزوج أو أن يشتري أو أن يسافر فإن ذلك يلزمه ويقضي عليه به فإن لم يترك الأمر الذي وعدك عليه وكذا لو لم تسأله وقال لك هو من نفسه: أنا أسلفك كذا لتقضي دينك أو لتتزوج أو نحو ذلك، فإن ذلك يلزمه ويقضي بها عليه ولا يقضي بها إن كانت على غير سبب، كما إذا قلت: أسلفني كذا ولم تذكر سببا أو أعرني دابتك أو بقرك ولم تذكر سفرا ولا حاجة فقال: نعم ثم بدا له والراجح يقضي بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العدة في شيء وهذا هو المشهور من الأقوال قال في آخر الرسم الأول من سماع أصبغ من جامع البيوع قال أصبغ: سمعت أشهب وسئل عن رجل اشترى من رجل كرما فخاف الوضيعة فأتى ليستوضعه فقال له: بع وأنا أرضيك قال: إن باع برأس ماله أو بربح فلا شيء عليه وإن باع بالوضيعة كان عليه أن يرضيه فإن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد وإن لم يكن أراد شيئا أرضاه بما شاء وحلف بالله ما أراد أكثر من ذلك إن لم يكن أراد شيئا يوم قال ذلك: قال أصبغ. . وسألت عنها ابن وهب فقال عليه رضاه بما يشبه ثمن تلك السلعة والوضيعة فيها قال أصبغ قول ابن وهب هو أحسن عندي وهو أحب إلي إذا وضع فيها قال محمد بن رشد قوله: بع وأنا أرضيك عدة إلا أنها عدة على سبب وهو البيع.
والعدة إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب في المشهور من الأقوال، وقد قيل إنها لا تلزم بحال وقيل إنها تلزم على كل حال، وقيل إنها تلزم إذا كانت على سبب وإن لم يحصل السبب. وقول أشهب إن زعم أنه أراد شيئا سماه فهو ما أراد يريد مع يمينه ومعناه إذا لم يسم شيئا يسيرا لا يشبه أن يكون أرضاه والدليل على أنه يحلف على مذهبه إذا قال أكثر من ذلك وجوابه هذا على أصله في كثير من مسائله إذ لا يؤخذ بأكثر مما يقربه على نفسه أنه أراده فيدخل فيها من الخلاف ما يدخل في يمين التهمة، وأما ابن وهب فأخذه(36/147)
بمقتضى ظاهر لفظه وألزمه إرضاءه إلا أن لا يرضى بما يقول الناس فيه أنه أرضاه فلا يصدق إن لم يرض ويؤخذ بما يقول الناس فيه أنه أرضاه، هذا معنى ولو حلف ليرضيه لم يبر إلا باجتماع الوجهين وهما أن يضع عنه ما يرضى به وما تقول الناس فيه أنه أرضاه، وقد مضى ما يدل على هذا في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النذور في الحلف ليرضين غريمه من حقه. اهـ.
قلت: وهذا القول الذي شهره ابن رشد في القضاء بالعدة إذا دخل بسببها في شيء قال الشيخ أبو الحسن في أول كتاب الأول وفي كتاب الغرر، أنه مذهب المدونة لقولها في آخر كتاب الغرر وإن قال اشتر عبد فلان وأنا أعينك بألف درهم فاشتراه لزمه ذلك الوعد. اهـ.
وهو قول ابن القاسم في سماعه من كتاب العارية وقول سحنون في كتاب العدة ونصه في سماع عيسى قلت لسحنون ما الذي يلزم من العدة في السلف والعارية قال ذلك أن يقول الرجل للرجل: اهدم دارك وأنا أسلفك، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، وعزاه له ابن رشد في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب العارية، وقال القرافي في الفرق الرابع عشر بعد المائتين قال سحنون الذي يلزم من الوعد: اهدم دارك وأنا أسلفك، ما تبني به أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك أو اشتر سلعة أو تزوج امرأة وأنا أسلفك لأنك أدخلته بوعدك في ذلك. أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفاء به بل الوفاء به من مكارم الأخلاق. اهـ.
وقال اللخمي في كتاب الشفعة لها ذكر حجة مقابل المشهور القائل بلزوم إسقاط الشفعة قبل الشراء ما نصه: ولو قال له اشتر هذا الشخص والثمن علي فاشتراه لزم أن يغرم الثمن الذي اشتراه به لأنه أدخله في الشراء، وهذا قول مالك وابن القاسم. اهـ.
والقول بأنه يقضي بها إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببها في شيء هو قول أصبغ في كتاب العدة وقول مالك في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم وهو قوي أيضا.(36/148)
والقول بعدم القضاء بها مطلقا في سماع أشهب من كتاب العارية والقول بالقضاء بها مطلقا لم يعزه ابن رشد وهذان القولان ضعيفان جدا والله أعلم.
فرع:
إذا قال له غرمائي يلزمونني بدين فأسلفني أقضهم فقال: نعم ثم بدا له فقال أصبغ من سماع عيسى من كتاب العدة يلزمه ذلك ويحكم عليه به، وهو جار على قوله بلزوم العدة إذا كانت على سبب ولم يدخل بسببها في شيء، وقال ابن القاسم إنما يلزمه إذا اعتقد الغرماء منها على موعد أو أشهد بإيجاب ذلك على نفسه وذلك على أصله من أنه لا يقضي بالعدة إلا إذا دخل بسببها في شيء ولو قال أشهدكم أني فاعل أو أفعل فظاهر كلام مالك في سماع ابن القاسم من العارية أنه تردد في الحكم عليه بذلك وأن الظاهر اللزوم. قال ابن رشد ولو قال أشهدكم أني قد فعلت لما وقف في إيجابه عليه ولزوم القضاء به. اهـ.
فرع:
قال في سماع أشهب من كتاب العارية فيمن حلف ليوفين غريمه إلى أجل فلما خشي الحنث ذكر ذلك الرجل فقال لا تخف ائتني هذه العشية أعطيكها، فلما كان العشي جاءه فأبى أن يعطيه فقال له أغررتني حتى خفت أن يدخل علي الطلاق أتراه له لازما فقال له لا والله ما أرى ذلك لازما له وما هو من مكارم الأخلاق ولا محاسنها قال ابن رشد قد قيل: إنه يلزمه وهو الأظهر لأنه غره ومنعه أن يحتال لنفسه بما يبر به من سلف أو غيره. اهـ. قلت فالقول الأول مبني على أن العدة لا يقضي بها ولو كانت على سبب وعلى المشهور أيضا لأنه قد أدخله بسبب العدة في عدم الاحتيال لنفسه حتى خشي الحنث والله تعالى أعلم.
تنبيه:
وأما الفرق بين ما يدل على الالتزام وما يدل على العدة فالمرجع فيه إنما هو إلى ما يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال بحيث دل الكلام على الالتزام(36/149)
ولهذا قال الشيخ خليل في مختصره في باب الخلع ولزوم البينونة إن قال: إن أعطيتني ألفا فارقتك أو أفارقك إن فهم الالتزام أو الوعد إن ورطها فالشرط في قوله إن ورطها راجع إلى الوعد قال في التوضيح كما لو باعت قماشا أو كسرت حليها والله تعالى أعلم.
ولا يفرق بين العدة والالتزام بصيغة الماضي والمضارع كما قد يتبادر للفهم من كلام ابن رشد في رسم حلف من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، وسيأتي في الباب الثالث إن شاء الله تعالى ذكره بتمامه فإن الالتزام قد يكون بصيغة المضارع إذا دلت القرائن عليه كما يفهم من كلام الشيخ خليل الماضي في مسألة الخلع ومن كلام ابن رشد المتقدم قريبا ومن كلام أصبغ الآتي في الفرع بعد هذا، نعم صيغة الماضي دالة على الالتزام وإنفاذ العطية والظاهر من صيغة المضارع الوعد إلا أن تدل قرينة على الالتزام كما يفهم من كلام ابن رشد فتأمله والله تعالى أعلم.
فرع:
قال أصبغ في سماع عيسى من كتاب العدة لو سألك مدين أن تؤخره إلى أجل كذا وكذا فقلت أؤخرك لزمك تأخيره إلى أجل، قلت سواء قلت أنا أؤخرك أو قد أخرتك أوجبهما وأوكدهما. اهـ. ونقل هذا في الذخيرة واقتصر عليه وهو جار على قول أصبغ في القضاء بالعدة إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببه في شيء. وأما على المشهور فإنما يلزمه في قوله: أؤخرك إذا ورطه بذلك أو تدخل قرينة على أنه أراد التأخير لا الوعد به فتأمله وهو يبين لك ما ذكرته من أن صيغة الماضي دالة على الالتزام وصيغة المضارع إنما تدل عليه مع قرينة ولم يتكلم ابن رشد على هذه المسألة بشيء بل قال: مضى تحصيل فيها في سماع ابن القاسم من كتاب العارية ويشير إلى ما تقدم من ذكر الأقوال الأربعة في القضاء بالعدة.
فرع:
قال في رسم حلف ليفعلن من سماع ابن القاسم ومن كتاب النكاح سئل(36/150)
مالك عن رجل كانت تحته امرأة فخطب أختها لابنه فقالت له عمتها على صداق أختها فقال لن أقصر بها إن شاء الله تعالى فزوجوه ثم إن الابن طلقها قال: أيقر هو بذلك؟ قال: نعم، قد قلت هذا القول ووعدتهم ولم أوجب على نفسي صداقا فرأيته يراه عليه وقال مرة فيصطلحوا وكأنه يراه عليه تشبيها، ويجاب ولم يبينه، قال ابن القاسم: أرى ذلك عليه إذا زوجوه على ذلك كأنه إنما تزوج على المكافأة قال سحنون مثله قال محمد بن رشد: أما إذا كان قولهم قد زوجناك جوابا لقوله لن أقصر بها عن صداق أختها فبين أن ذلك يلزمه كما قال ابن القاسم لأنه بمنزلة أن لو قال له نزوجك على أن لا تقصر بها عن صداق أختها. وأما إن انقطع ما بين الكلامين فالأمر محتمل والأظهر إيجاب ذلك عليه كما ذهب إليه مالك، وإن كان لم يبينه لأن ذلك أقوى من العدة الخارجة على سبب، وفي التفسير ليحيى عن ابن القاسم أنه يحلف أنه ما أراد إيجاب ذلك على نفسه ولا يلزمه شيء فإن لكل غرم نصف الصداق ووجه ذلك أنه رأى قوله لن أقصر بها إن شاء الله عدة لا تلزم فلم يلزمه شيء إذا حلف أنه لم يرد إيجاب ذلك على نفسه، وحلف بالتهمة دون تحقيق الدعوى ولذلك لم ترد اليمين وذلك فقوله على القول بلحوق يمين التهمة وأنها لا ترجع، وقد اختلف في الوجهين. انتهى والله تعالى أعلم (1) . 11- وفي الفروق للقرافي الفرق الرابع عشر بعد المائتين بحث مستفيض في مسألة الوعد وحكم الإلزام به، وقد تعقبه ابن الشاط في بعض آرائه في ذلك في حاشيته على الفروق (2) وحيث إن البحث والمناقشة قد لا تخرج عما ذكره عليش في النقل المتقدم عنه رحمه الله فقد رأيت الاكتفاء بلفت النظر إليه لمن يرغب الاستزادة من كلام أهل العلم في ذلك دون نقله اجتنابا للتكرار.
__________
(1) فتح العلي المالك - فتاوى عليش - جـ1 ص254 - 258.
(2) أنوار الشروق على أنوار الفروق لابن الشاط حاشية على الجزء الرابع من الفروق ص 21.(36/151)
وبعد استعراضنا ما تقدم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكلام بعض أهل العلم يظهر لنا قوة القول بلزوم الوفاء بالوعد لا سيما إذا دخل(36/151)
الموعود في سببه يدل على صحة القول بذلك كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والقياس الصحيح وبهذا أخذ مجموعة من الصحابة والتابعين والمحققين من أهل العلم.
فمن الاستدلال بكتاب الله تعالى قوله تعالى؛ {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (1) وجه الاستدلال بها أن الله تعالى ذم قوما يقولون على سبيل الوعد ما لا يفعلون بحيث لا يلتزمون بالوفاء به فمقتهم الله بذلك فلو لم يكن الوفاء بالوعد واجبا لما استحقوا من الله هذا المقت والذم.
وقوله تعالى على لسان موسى عليه السلام مخاطبا صهره شعيبا: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ} (2) . بعد أن قال لشعيب: ذلك بيني وبينك فلم يعط موسى شعيبا وعدا قاطعا وإنما جعل لنفسه الخيار ونفى عن نفسه العدوان في تخلفه عن الوفاء بالوعد غير الجازم في إتمام عشر سنوات وهذا يعني أن عدم الوفاء بالوعد الجازم عدوان من الواعد على الموعود.
وقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (3) وجه الاستدلال بهذه الآية أن الله تعالى عاقب من وعد الله فأخلف وعده وكذب في تعهده والعقوبة يستحقها من يتخلف عن أداء ما وجب عليه لا من له الخيار في الأداء.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} (4) ، فإبراهيم عليه السلام يعلم كفر أبيه ولكنه تحرج عن الحنث في الوفاء بالوعد فاستغفر لأبيه للموعدة التي وعدها إياه فلو لم يكن الوفاء بالوعد لازما لما استغفر إبراهيم عليه السلام لمشرك عدو لله.
ومن الاستدلال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن من آية المنافق إذا وعد أخلف وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. ووجه الدلالة أن النفاق
__________
(1) سورة الصف الآية 3
(2) سورة القصص الآية 28
(3) سورة التوبة الآية 77
(4) سورة التوبة الآية 114(36/152)
خلق ذميم يستحق صاحبه العقوبة، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) . فلو لم يكن الوفاء بالوعد واجبا لما كان إخلاف الوعد صفة من صفات النفاق. ومن الاستدلال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «إذا وعد أحدكم فلا يخلف،» وقوله صلى الله عليه وسلم: «العدة دين،» واعتباره صلى الله عليه وسلم عدم الوفاء للصبي بما يوعد كذبا، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن وعدك أخاك عدة تخلفه فيها وأن ذلك يورث العداوة، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وأي المؤمن واجب،» والوأي هو الوعد.
فتعبيره صلى الله عليه وسلم بالوجوب ونهيه عن إخلاف الوعد ووصفه إخلاف الوعد كذبا، كل ذلك يدل على وجوب الوفاء بالوعد وأن عدم الوفاء به محرم يعاقب عليه الواعد، والاستدلال على وجوب الوفاء بالوعد بالقياس يتضح من إجماع أمة الإسلام على انعقاد الالتزام بما يلزم ابتداء على من التزم لله تعالى طاعة غير واجبة فمن نذر لله صلاة أو صياما أو صدقة لزمه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك.
ولأمره صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يفي بنذره في الجاهلية باعتكافه ليلة في المسجد الحرام.
فالنذر في الحقيقة التزام من العبد لربه بما نذر له مما لم يلزم ابتداء والوعد من المرء لغيره من الناس التزام بما لا يلزم ابتداء فكلاهما يجتمعان في الالتزام بما لا يلزم ابتداء ويفترقان بأن النذر لله والوعد لأحد من خلقه، وهذا الفرق في نظري لا يؤثر في الوجوب وعدمه بل قد يكون اتجاه القول بوجوب الوفاء للمخلوق أولى من القول بوجوب الوفاء للخالق لأن حقوق الله تعالى على عباده مبنية على التسامح والسعة وحقوق العباد فيما بينهم مبنية على الشح والتضييق، ومن نظر في مسائل هذه القاعدة أدرك حقيقتها، فإذا كان النذر لله - وهو وعد في الحقيقة - واجب الأداء بشرطه فإن الوعد للمخلوق أولى في الوجوب بشرطه.
وما ذكره ابن حجر رحمه الله في رده على المهلب حينما قال باتفاق العلماء
__________
(1) سورة النساء الآية 145(36/153)
على أن الوفاء بالوعد ليس بفرض ولكنه مندوب وذلك بقوله: نقل الإجماع في ذلك مردود فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل اهـ. أقول ليس القائل به قليلا فقد نقلنا بعضا من قول الله تعالى في الوجوب وعقوبة مخلف الوعد ونقلنا ما تيسر لنا نقله من أقوال رسول الله في ذلك.
ونقول: قال بذلك وفعله أبو بكر رضي الله عنه في حديث جابر بن عبد الله المتقدم ذكره ولا يرد على فعل أبي بكر رضي الله عنه في وفائه وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر القول بأن أبا بكر فعل ما هو مندوب فتصرفه في بيت مال المسلمين بالعطاء الجزل وهو هو تقى وصلاحا وأمانة وشعورا بحقوق الولاية العظمى وواجباتها وهو يؤدي عدات وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته تصرفه هذا يظهر منه جليا أنه يرى وجوب الوفاء بالوعد، فقد طلب حضور من له عدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حضر وادعى العدة وفاه كجابر وصاحب الثلاث عشرة قلوصا.
وقال بذلك وطالب به جابر بن عبد الله وهو من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حظي بمزيد صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى الكثير من أحاديثه ويعتبر من فقهاء الصحابة، فلو لم ير القول بلزوم الوفاء بالوعد لما تقدم لأبي بكر رضي الله عنه طالبا إنفاذ عدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن أبا بكر لا يعطيه من ماله الخاص وإنما يعطيه من بيت مال المسلمين.
وقال بذلك عبد الله بن عمر حينما أنفذ وعده بتزويجه ابنته من وعده تزويجه إياها وقال تعليلا لذلك فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق.
وقال بذلك سمرة بن جندب ذكره عنه سعيد بن عمرو بن الأشوع واعتبر ذلك من سمرة مستند الأخذ به، فهؤلاء أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يقول بلزوم الوفاء بالوعد سواء أكان ذلك قولا باللسان أم قولا بلسان الحال.
وممن قال به من التابعين وغيرهم:
1 - عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال ابن حجر في الفتح: وقال ابن عبد البر(36/154)
وابن العربي أجل من قال به عمر بن عبد العزيز (1) . اهـ
2 - الحسن البصري. قال البخاري وفعله الحسن. قال في الفتح: قوله: وفعله الحسن أي ألزم بإنجاز الوعد (2) . اهـ.
3 - سعيد بن عمرو بن الأشوع، قال ابن حجر في الفتح وقضى ابن الأشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب. . . . . وقد وقع بيان روايته كذلك عن سمرة بن جندب في تفسر إسحاق بن راهويه، قوله: قال أبو عبد الله هو المصنف رأيت إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه يحتج بحديث ابن الأشوع أي هذا الذي ذكره عن سمرة بن جندب والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد. اهـ (3) .
4 - عبد الله بن شبرمة. قال العيني في عمدة القارئ: وفي تاريخ المستملي: إن عبد الله بن شبرمة قضى على رجل بوعده وحبسه وتلا قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (4) سورة الصف آية 3.
5 - أبو بكر بن العربي. قال في كتابه أحكام القرآن: والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر. أ. هـ (5) .
6 - القاضي شريح قال البخاري في صحيحه: وقال ابن عون عن ابن سيرين قال الرجل لكريه أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه، وذكر مسألة أخرى. قال ابن حجر في الفتح:
__________
(1) فتح الباري ج 5، ص 290
(2) فتح الباري ج 5، ص 290
(3) فتح الباري ج 5، ص 290
(4) سورة الصف الآية 3
(5) أحكام القرآن ج4، ص 1788(36/155)
وحاصله أن شريحا في المسألتين قضى على المشترط بما اشترطه على نفسه بغير إكراه (1) اهـ.
7 - محمد بن إسماعيل البخاري حيث بوب في صحيحه بما يستظهر منه أنه يقول بإنجاز الوعد قال ابن حجر: قوله باب من أمر بإنجاز الوعد. وجه تعلق هذا الباب بأبواب الشهادات أن وعد المرء كالشهادة على نفسه قاله الكرماني. أ. هـ (2) .
8 - أحمد بن حجر العسقلاني قال في الفتح: وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكالات على الأذكار للنووي ولم يذكر جوابا عن الآية يعني قوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (3)
وحديث آية المنافق ثلاث قال: والدلالة للوجوب منها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد. وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء أي يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك؟! أ. هـ (4) .
9 - إسحاق بن إبراهيم بن راهويه شيخ البخاري قال البخاري في صحيحه: رأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع. قال ابن حجر أي هذا الذي ذكره عن سمرة بن جندب والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد. أ. هـ (5) .
10 - الإمام الغزالي. قال في الإحياء: الآفة الثالثة عشرة الوعد الكاذب فإن اللسان سباق إلى الوعد والنفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفا وذلك من أمارات النفاق قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (6) المائدة آية (1) إلى أن قال- ثم إذا فهم مع ذلك الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر. وقد يفهم الجزم في
__________
(1) فتح الباري ج 5، ص 354.
(2) فتح الباري ج 5، ص 290.
(3) سورة الصف الآية 3
(4) فتح الباري ج 5، ص 290.
(5) فتح الباري ج 5، ص 290.
(6) سورة المائدة الآية 1(36/156)
الوعد إذا اقترن به حلف أو إقامة شهود على الوعد أو قرائن أخرى. أ. هـ (1) .
11 - ونقل تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية عن أبيه تقي الدين السبكي أنه يقول بلزوم الوفاء بالوعد.
12 - وذكر ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم وجوب الوفاء مطلقا عن طائفة من أهل الظاهر وغيرهم (2) .
13 - وقال به من الحنابلة مجموعة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ذكره عنهما ابن قاسم في نقل متقدم، وكذلك الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وتقدم النقل عنه.
14 - وصدرت فتاوى الهيئات الشرعية للمصارف الإسلامية- دار المال الإسلامي، بيت التمويل الكويتي، شركة الراجحي المصرفية للاستثمار- بلزوم الوفاء بالوعد.
15 - صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في الدورة الخامسة المنعقدة في الكويت في أول الشهر الخامس لعام 1409هـ وذلك برقم 3- 4 هذا نصه:
" إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1- 6 من جمادى الأولى لعام 1409 هـ كانون الأول ديسمبر 1988م بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوعي الوفاء بالوعد والمرابحة للأمر بالشراء واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما قرر: أولا: إن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور وحصول القبض المطلوب شرعا هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من
__________
(1) إحياء علوم الدين ج 3، ص 132.
(2) جامع العلوم والحكم، ص 376.(36/157)
موجبات الرد بعد التسليم وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه.
ثانيا: الوعد وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد يكون ملزما للواعد ديانة إلا لعذر وهو ملزم قضاء إذا كان معلقا على سبب يدخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
ثالثا: المواعدة وهي التي تصدر من الطرفين تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الإنسان ما ليس عنده. أهـ.
وقد وفق مجمع الفقه الإسلامي في النص في قراره على أثر الإلزام بالوفاء وذلك بتنفيذ الوعد أو بالتعويض عن الضرر الواقع فعلا على الموعود بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر حيث إن هذا يعني أن الخيار بين الأمرين ليس للواعد وإنما هو للقضاء في حال اللجوء إليه، فمتى أمكن تنفيذ الوعد وانتفت موانع التنفيذ تعين الإلزام بالوفاء بالوعد فإذا وجد مانع من التنفيذ تعين الحكم للموعود بقيمة الضرر الواقع عليه فعلا نتيجة التخلف عن الوفاء بالوعد.
إلا أن قراره بعدم جواز المواعدة في بيع المرابحة إذا لم يكن بين المتواعدين خيار فيه نظر حيث إن كل واحد من المتواعدين أعطى وعدا التزم به للآخر ببيع أو شراء أو تأجير أو تمليك أو غير ذلك من مواضع العقود. وتعليل منع الإلزام بالمواعدة في بيع المرابحة بتشبيهه بالبيع نفسه حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكا للمبيع نفسه حتى لا يعتبر بائعا ما ليس عنده. هذا التعليل غير ظاهر فليست المواعدة بيعا ولا شراء ولا تمليكا ولا تأجيرا وإنما هي وعد من كل واحد من المتواعدين بإجراء ذلك عند تمام شروط صحة التعاقد(36/158)
بموجبها، ولا تسري آثار العقد على أي واحد من المتواعدين إلا بعد وقوع العقد واستيفاء شروط صحته، ومن ذلك أن يكون المبيع مملوكا للبائع وقت العقد، ولهذا جاء النص في قرار المجمع على أن من أثر الإلزام في حالة تعذر الوفاء بالوعد التعويض عن الضرر الواقع فعلا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر، فانتفاء آثار العقد في المواعدة به على كل واحد من المتواعدين من حيث الدرك والقبض وخيارات العقد وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالعقد بعد وقوعه انتفاء آثار ذلك عن المواعدة يبعدها كل البعد عن اعتبارها بيعا أو شبه بيع، هذا يعني سقوط التعليل بعدم جوازها فهي وعدان من المتواعدين بها لا بيعا ولا شبه بيع. قال ابن حزم رحمه الله في المحلى جـ5 ص497 ما نصه:
التواعد في بيع الذهب بالذهب أو الفضة، وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا لأن التواعد ليس بيعا. اهـ والله أعلم ".
16 - صدر قرار عن المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي المنعقد في دبي عام 1399 هـ الموافق 1979م جاء فيه ما نصه:
الوعد بالشراء مرابحة:
يطلب العميل من المصرف شراء سلعة معينة يحدد جميع أوصافها ويحدد مع المصرف الثمن الذي سيشتريها به العميل بعد إضافة الربح الذي يتفق عليه بينهما. وهذا التعامل يتضمن وعدا من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوه عنها. ووعدا آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقا لذات الشروط ومثل هذا الوعد ملزم للطرفين طبقا لأحكام المذهب المالكي. وملزم للطرفين ديانة طبقا لأحكام المذاهب الأخرى. وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه. اهـ.
وفي عام 1403 هـ الموافق 1983 م عقد المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي وأصدر قراره الذي جاء فيه:(36/159)
يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراة للآمر وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الوعد السابق هو أمر جائز شرعا طالما كانت تقع على المصرف مسؤولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي.
وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزما للآمر أو المصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو حفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل وإن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعا. وكل مصرف مخير في أخذ ما يراه في مسألة القول بالإلزام حسبما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه، اهـ.(36/160)
وخلاصة القول في المسألة أن لأهل العلم فيها خمسة أقوال:
أحدها: أن الوفاء بالوعد مستحب ومن مكارم الأخلاق وأن التخلف عن الوفاء به من الأمور المكروهة ولكنه لا يلزم قضاء.
الثاني: أن الوفاء بالوعد لازم ديانة وقضاء مطلقا سواء أكان له سبب أم لا سبب له.
الثالث: أن الوفاء بالوعد لازم قضاء وديانة إذا كان له سبب سواء أدخل الموعود في سبب الوعد أم لم يدخل.
الرابع: أن الوفاء بالوعد لازم قضاء وديانة إذا كان له سبب ودخل الموعود في سبب الوعد.
الخامس: أن الوفاء بالوعد لا يلزم ديانة ولا قضاء إذا لم يكن للوعد سبب بحيث لم يتضرر الموعود من إخلاف الوعد.
والذي يظهر لي بعد تأملي أدلة القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقا أن القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقا سواء أكان للوعد سبب أم لم يكن له سبب هو القول الذي تسنده الأدلة الصريحة من كتاب الله تعالى ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أقوال وأفعال بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن القياس الصحيح على(36/160)
النذر ومن التوجيهات الصحيحة لأقوال مجموعة من أهل العلم بالتفسير والحديث واللغة والفقه، وفي القول بذلك مصلحة كبرى لعموم المسلمين وتسهيل لمعاملاتهم التجارية وليس في ذلك ترتيب مضرة على الواعد فهو الذي التزم على نفسه ولغيره بما لا يلزمه ابتداء طائعا مختارا غير مكره ولا ملجأ.
والوعد عهد وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والوعود والعهود واعتبر - صلى الله عليه وسلم - المتخلف عن الوفاء بالوعد فيه خصلة من خصال المنافقين وأن إخلاف الوعد كذب والكذب نوع من الفجور.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويجنبناه وألا نقول على الله إلا الحق. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من كل ذنب وخطأ وخطيئة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(36/161)
صفحة فارغة(36/162)
الدعوة إلى الله
منهجها ومقوماتها
د \ محمد بن أحمد الصالح (1)
أستاذ الفقه بكلية الشريعة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. . أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله وظيفة الرسل. . ومهمة الأنبياء. . ليردوا الناس إلى توحيد الخالق. . لأن الناس هم الأساس الحقيقي للتغيير، والجماهير هم الذين ذهب إليهم الأنبياء والرسل وعلى رأسهم أميرهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد اتجهوا إلى أفراد الأمة يقوون الضعيف، ويعلمون الجاهل، ويشدون أزر المستوحش في هذه الحياة، كل ذلك لغرس الإيمان بالله في النفوس، والاعتماد عليه، والتعلق به، والاستناد إليه عندما يشعرون بالضعف والمسكنة، أمام متاعب الحياة، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) .
وهكذا كانت مهمة خاتم الرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (3) .
وكان الأمر له أمرا إلى الدعاة من بعده.
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (4)
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد العاشر ص 303.
(2) سورة الأنبياء الآية 25
(3) سورة المائدة الآية 67
(4) سورة النحل الآية 125(36/163)
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (1) .
وكانت أهم صفات الأمة المسلمة الدعوة إلى الله يصفها بها رب العالمين الإيمان لأهميتها ويجعل منها أساس الخيرية على العالمين، قال تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (2) . وهكذا يجعل واجب هذه الأمة الدعوة إلى الله أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر على رأي، ويجعله واجب طائفة منها على وجه آخر. تبعا لاختلاف حول تفسير قوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) .
فالذين فسروا منكم بأن من بيانية. قالوا إنه واجب الأمة كلها وأن الغرض " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الله " فرض عين على كل قادر عليه والذين فسروا من بأنها تبعيضية قالوا أنه واجب طائفة من الأمة إذا قامت به سقط عن الباقين، ولعلهم استدلوا بقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (4) .
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وإذا كانت هذه مهمة الأنبياء والمرسلين فقد وجب أن يكون الدعاة من بعدهم على مستوى رفيع يتسنى معه حسن حمل الرسالة وحسن أدائها، ونتناول بإذن الله في مبحثين: صفات الدعاة، ثم طرق الدعوة إلى الله.
__________
(1) سورة الشورى الآية 15
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) سورة آل عمران الآية 104
(4) سورة التوبة الآية 122(36/164)
المبحث الأول
صفات الدعاة
لا بد للداعية من صفات يرتفع بها إلى أهلية حمل الرسالة التي حملها الرسل من قبل لا بد له من:
1 - إيمان عميق.
2 - علم دقيق.
3 - خلق وثيق.
1 - أما الإيمان العميق:
وليس الإيمان علم القلب فحسب، لكنه كذلك عمل القلب، فالعلم بالله وأسمائه وصفاته وإن كان لازما إلا أنه لا يكفي وحده لقيام الإيمان بل لا بد معه من عمل القلب، حبا لله ورجاء في الله، وخوفا من الله واعتصاما بالله، وحبا في الله وبغضا في الله. . إلخ.
هذا الإيمان بتفصيلاته يورث الداعية إلى الله شجاعة في الدعوة فهو لا يخشى إلا الله قال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} (1) .
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (2) {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (3) .
وينبثق عن هذا الإيمان نشيد يردده الداعية في كل وقت ويواجه فيه الظلم
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 39
(2) سورة آل عمران الآية 173
(3) سورة آل عمران الآية 174(36/165)
والظالمين قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} (2) .
فيعطي ذلك كله الداعية طاقة من التوكل لا تمنعه الأخذ بالأسباب كما تعطيه طاقة على مواجهة الأحداث والصبر عليها.
كذلك فالداعية ينفث هذا الإيمان بين من يدعوهم تصحيحا لعقائدهم واستكمالا لنقصها، وزيادة فيما كان طيبا منها.
والعقيدة دائما نقطة البدء اللازمة إما عطاء لمن حرمها أو تصحيحا لمن غلط فيها أو استكمالا لما نقص منها.
__________
(1) سورة التوبة الآية 51
(2) سورة التوبة الآية 52(36/166)
2 - العلم الدقيق:
فاقد الشيء لا يعطيه ومن ثم فالداعية الجاهل لا يستطيع أن يعلم غيره.
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا ... كيما يصح به وأنت سقيم
بيد أن العلم المطلوب بالنسبة للداعية يتعدد، فهو
أولا: العلم بالدعوة، العلم بأصول هذا الدين، وفروضه، وأحكامه. والعلم بمصادر هذا الدين من قرآن، وسنة وكيفية تفهمهما، وما يتفرع عن هذه المصادر ويستمد منها مثل الإجماع والقياس والمصلحة إلخ. وذلك اللون من العلم لازم وإلا فكيف يدعو إلى ما لا يعلم؟ . وهو
ثانيا: العلم بأحوال المدعوين، العلم بعقلياتهم وعقائدهم وظروفهم وبيئتهم، فذلك يمكنه من حسن الاختيار، لما يناسبهم(36/166)
ولما يعالج أدواءهم، وقد كان كل نبي يعرف ظروف قومه فيدعوهم بعد التوحيد إلى ترك ما يغضب الله.
فبعد أن يدعوهم إلى الله يقول: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} (1) {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} (2) {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (3) {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (4) وصالح يقول لقومه ثمود: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ} (5) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (6) {وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} (7) {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} (8) {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} (9) ولوط يقول لقومه: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} (10) {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} (11) وشعيب يقول لقوله: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} (12) {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} (13) {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (14) .
وهكذا. . يلزم معرفة ظروف المدعوين وأدوائهم تماما كما يفحص الطبيب أولا ليحدد الداء قبل أن يصف الدواء. وهو
ثالثا: العلم بالتيارات الفكرية المختلفة:
وهو وإن كان يدخل في ظروف المدعوين، لكننا خصصناه بالذكر لأنه لا يحظى في بلاد كثيرة إسلامية باهتمام المفكرين والذين يخططون لإعداد الدعاة.
وذلك رغم أن التيارات الفكرية العالمية صارت تتحكم في العالم وتتقاسم
__________
(1) سورة الشعراء الآية 128
(2) سورة الشعراء الآية 129
(3) سورة الشعراء الآية 130
(4) سورة الشعراء الآية 131
(5) سورة الشعراء الآية 146
(6) سورة الشعراء الآية 147
(7) سورة الشعراء الآية 148
(8) سورة الشعراء الآية 149
(9) سورة الشعراء الآية 150
(10) سورة الشعراء الآية 165
(11) سورة الشعراء الآية 166
(12) سورة الشعراء الآية 181
(13) سورة الشعراء الآية 182
(14) سورة الشعراء الآية 183(36/167)
فيه النفوذ وصار لها من التأثير والأهمية ما يجعل الإلمام بها مهما لكل داعية لدفع أثرها من النفوس فالكفر يسبق الإيمان والتخلية تسبق التحلية وهدم الأنقاض يسبق البناء قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} (1) وهو
رابعا العلم بطرق الدعوة ووسائلها وغاياتها:
أو بعبارة عامة- العلم بفن الدعوة. فالدعوة إلى الله فن لا يستطيعه إلا من آتاه الله أسبابه وسعى إليها سعيا حثيثا فالأمر يقتضي الاستعداد أولا ثم التدريب أو الممارسة ثانيا.
والدعوة إلى الله. . ليست هي الخطابة ولا القدرة على الحديث بألوانه المختلفة، إنما هي قبل ذلك كله إخلاص والتزام وقدوة ومواقف يقفها الداعية لله انتصارا للحق وانتصارا من البغي.
__________
(1) سورة البقرة الآية 256(36/168)
3 - أما الصفة الثالثة: فهي الخلق الوثيق:
وهي مرتبطة بالإيمان والعلم وناتجة عنهما: وهي التي تغزو قلوب المدعوين قبل أن يغزوها حلو الكلام أو حسن الاستدلال. . وفي مقدمة الأخلاق اللازمة للداعية. . الإخلاص والتجرد. . يليها الحلم يليها الصبر.
فلئن كانت الأخلاق صفة لازمة على وجه عام فتلك الألوان من الأخلاق لازمة بوجه خاص لأنها تساعد الداعية على ممارسة الدعوة كما تحفظ له حسن الاستمرار وحسن الإنتاج.
ويذكر بعض الفقهاء تلك الصفات عند الحديث عن النهي عن المنكر وهو أحد شقي الدعوة. . فيقولون:
العلم قبل الإنكار، والحلم عند الإنكار، والصبر بعد الإنكار.(36/168)
ولقد يكون واضحا علة العلم قبل الإنكار وعلة الحلم عند الإنكار أما الصبر بعد الإنكار فهو صبر لازم لما يستتبع الإنكار عادة من انصراف المدعوين في البداية مما يلزم معه الصبر عليهم.
قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (1) .
والصبر معها على أذى الطاغين: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (2) . {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (3) .
وأخيرا الصبر انتظارا للنصر:
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (4) {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} (5) {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (6) .
ولذا كان من صفات المؤمنين {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (7) تلك كانت صفات لازمة: إيمان عميق، وعلم دقيق، وخلق وثيق.
ننتقل بعدها للحديث بإذن الله عن طرق الدعوة.
__________
(1) سورة الكهف الآية 28
(2) سورة البقرة الآية 214
(3) سورة آل عمران الآية 142
(4) سورة النصر الآية 1
(5) سورة النصر الآية 2
(6) سورة النصر الآية 3
(7) سورة العصر الآية 3(36/169)
المبحث الثاني
طرق الدعوة
تمهيد:
ليست الدعوة علما يلقن أو فنا يدرس بقدر ما هي موهبة وفضل يؤتيه الله من يشاء وإن كان من كسب للإنسان فهو أولا من خلقه فالتحلي بخلق الإسلام هو أكبر دعوة يسير بها المسلم بين الناس، هي التي تفتح قلوبهم وعقولهم على هذا النور العظيم.
ثم هي ثانيا في إحساسه بمسئوليته تجاه الدعوة أنها ليست حكرا على صنف من الناس وإنما الأمة كلها شاهدة على الناس بما دعتهم إليه بسلوكها وإيمانها وعملها: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) . {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (2) وهذه الأمة التي تكررت في الآيتين هي التي وجه الله إليها الخطاب.
قال جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (3) .
فكان فهمها الصحيح ولتكونوا أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويزيد من مسئوليتنا تجاه الدعوة إحساسنا بتخلي الكثيرين عنها، ثم إحساسنا بتجمع الأعداء عليها من كل جانب كأنها تركة أيتام تجمع حولها اللئام.
وليس من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - رجال يدفعون عنه.
وبعد فإن الخلق إذا تحلى به المسلم فإنه يصير دعوة تتحرك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) سورة آل عمران الآية 110
(3) سورة آل عمران الآية 104(36/170)
العوامل التي تنهض بها الدعوة
تتوقف طرق الدعوة على عدة عوامل:
1 - من ندعو:
فأسلوب الدعوة إلى الشباب غير أسلوب الدعوة إلى الشيوخ، وأسلوب الدعوة إلى النساء غير أسلوب الدعوة إلى الرجال، وأسلوب الدعوة إلى الأطفال غير أسلوب الدعوة إلى الكبار وأسلوب الدعوة إلى المؤمنين غير أسلوب الدعوة لغير المؤمنين. ويكفي أن نأخذ نموذجا من منهج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخرج الإمام أحمد - رضي الله عنه - في المسند من رواية أبي أمامة، قال «إن فتى من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إئذن لي بالزنا فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا مه مه فقال: أدنه فدنا منه قريبا قال: فجلس، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال أفتحبه لعمتك؟ قال لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم.
قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه. فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (1) » . فصرف الله عنه السوء وكان تساؤل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير دعوة لترك الزنا.
__________
(1) الفتح الرباني 16 \ 70 مسند الإمام أحمد 5 \ 256.(36/171)
أسلوب القرآن في الدعوة:
وفي القرآن أساليب كثيرة لدعوة غير المسلمين، تستجيش فيهم فطرتهم السليمة، وتستجيش فيهيم عقولهم السليمة، وتستجيش فيهم القيم والمثل والأخلاق، {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} (1)
__________
(1) سورة الأنعام الآية 14(36/171)
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (1) {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (2) {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا} (3)
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 22
(2) سورة طه الآية 74
(3) سورة طه الآية 75(36/172)
مكان الدعوة
أين ندعو:
مكان الدعوة كذلك يكيف طريقها، فالدعوة في بلاد الإسلام غير الدعوة في ديار غير المسلمين. والدعوة في مكان انتشر فيه العلم غير الدعوة في مكان خيم عليه الجهل، والقصد بالجهل والعلم العلم بالدين والجهل به ولو بلغ أصحابه أرقى المؤهلات العلمية في تخصصات أخرى. . بيد أن ارتفاع المستوى الفكري بصفة عامة يحدد كذلك أسلوب الدعوة.(36/172)
إلى من ندعو:
فأسلوب الدعوة إلى العقيدة يغاير أسلوب الدعوة إلى المعاملات وقد قدمنا الحديث في هذا العنصر الأخير.
هذه العناصر إلى جوار غيرها كالظروف السائدة وكالزمان القائم إلى غير ذلك تحدد أسلوب الدعوة وهي بعد ذلك:(36/172)
أسلوب السلوك والأخلاق:
وهو أول الأساليب وأنجعها وأنجحها في الدعوة وهو أهم الأساليب(36/172)
كذلك من ناحية من يخاطب ومن يخاطب فهو خطاب في الواقع من الكافة إلى الكافة.
كل إنسان يستطيع هذا الخطاب وكل إنسان يفهم هذا الخطاب وبهذا الخطاب فتحت القلوب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولنأخذ مثلا أول:
حيث داهم أعرابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم فرفع عليه السيف وقال له من يمنعك مني؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الله فسقط السيف فأمسك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له من يمنعك مني. . فقال لا أحد. . ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صفح عنه فدخل الإسلام (1) .
ولنأخذ مثلا ثانيا:
يوم فتح مكة حين قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهم الذين آذوه وأخرجوه من بلده «ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء (2) » .
ولنأخذ مثلا ثالثا:
أسلوب يوسف عليه السلام مع إخوته الذين ألقوا به في الجب قال: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} (3) .
ثم لنعلم بعد ذلك:
أنه بهذا الأسلوب فتحت على المسلمين مساحات من الأرض أكثر مما فتحت بحد السيف، إن السيف يطيح برءوس الطغاة، أما السلوك والأخلاق فتفتح قلوب الناس.
__________
(1) واسمه: غوث بن الحارث، صحيح البخاري 5 \ 146- 147، 4 \ 47- 48. طبعة مصطفى الحلبي. سنة 1345 هـ.
(2) سيرة ابن هشام 4 \ 32 مراجعة محمد محيي الدين عبد الحميد.
(3) سورة يوسف الآية 92(36/173)
وإذا كان السلوك والأخلاق أسلوبا عاما يخاطب به الكافة الكافة فهو أسلوب أخص وألزم لمن اتخذ الدعوة مهنة له ومهمة، وبغيره يغدو كل أسلوب آخر سيفا مغلولا وسلاحا مغمدا لا قيمة له.
ولذا فننصح الدعاة أن يكون لهم من الفهم الدقيق والإيمان العميق، والخلق الوثيق ما يفتحون به القلوب:
المواقف والمثل:
لعل هذه تدخل في الأولى لكنها أخص فلا يستطيعها إلا أولو العزم، ونحن نندب الدعاة أن يأخذوا دائما بالعزيمة فليس لمن كان في موضع القدوة أن يترخص ولذلك لم يترخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين اشتد به أذى الكفار ودعاه عمه أن يلين لكنه قال: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه (1) .
ولم يترخص عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - ويتبع نهج ملوك بني أمية ويسير في ركابهم وإنما أعرض عن بهجة الحياة الدنيا وزخرفها وعاد بالأمة إلى عهد الخلفاء الراشدين وصدق عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها فكان - رضي الله عنه - هو المجدد الأول.
ولم يترخص الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - حين دعاه الحكام أن يقول إن القرآن مخلوق بل احتمل الأذى والعذاب.
وهكذا فإن على الداعية أن يقتدي بهؤلاء وغيرهم من المصلحين والمجددين والعلماء العاملين أمثال العز بن عبد السلام وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية وإمام الدعوة محمد بن عبد الوهاب وسيد قطب ممن تحملوا العذاب في سبيل الحق لأنهم علموا أن ثباتهم يبقيهم مشاعل على الطريق تضيء لمن خلفهم وهم كثير، وأن لينهم مع الباطل وترخصهم يطفئ ضوءهم
__________
(1) سيرة ابن هشام 1 \ 278 مراجعة محمد محيى الدين.(36/174)
فلا يعودون صالحين لأن يضيئوا لمن خلفهم وكم من الناس أطفأ بترخصه نوره الذي آتاه الله، وكم من الناس نزل أكثر من ذلك ليصح فيه قول الله {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} (1) {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} (2) .
ولئن كانت الأخلاق سببا ناجحا للدعوة، فالمواقف والمثل سبب أنجح.
ولننظر من القديم. . غلام كان موقفه سببا في إيمان أمه حين قتل الغلام (الراهب) وقتل (جليس الملك) وجرب الملك مع الغلام وسيلتين للقتل فنجا منهما فدعا الملك أن يربطه بجذع نخلة ويجمع شعبه كله في صعيد واحد ثم يطلق السهم ويقول باسم الله رب الغلام ففعل الملك المقالة وأصاب السهم صدغ الغلام فسقط شهيدا فقال الناس أجمعون: أمنا بالله رب الغلام ولم يكن موقف الغلام دافعا إلى إيمان أمته فحسب، بل دفعها إلى الإصرار على هذا الإيمان حين شق لهم الملك الأخاديد وأضرمها بالنيران وخير شعبه بين الرجوع عن دينهم أو الإلقاء في النار، ففضلوا جميعا أن يلقوا في النيران على أن يرجعوا عن الحق الذي آمنوا به وخلد القرآن قصتهم في سورة البروج {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} (3) {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} (4) {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} (5) {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} (6) {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (7) .
وفي الزمن الحديث أيضا خلد الدعوة الإسلامية في مصر قتل حسن البنا سنة 1949 سنة 1368 هـ، وقتل عبد القادر عودة ومن معه سنة 1374 هـ - 1955م. وقتل سيد قطب ومن معه سنة 1966م 1385 هـ.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 175
(2) سورة الأعراف الآية 176
(3) سورة البروج الآية 4
(4) سورة البروج الآية 5
(5) سورة البروج الآية 6
(6) سورة البروج الآية 7
(7) سورة البروج الآية 8(36/175)
وبين القديم والحديث مواقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومواقف الصحابة - رضي الله عنهم - ومواقف الأئمة التابعين - رضي الله عنهم - ومواقف الأئمة والدعاة والعلماء من بعدهم فلم يخل وجه الأرض من قائم لله بحجة.(36/176)
من وسائل الدعوة الخطابة والمحاضرة والدرس:
وهي كلها وسائل كلامية وإلى جوارها المقال والخطابة والقصة وهي وسائل كتابة وكل واحد من هذه له أصول ولكن يجمعها في مجال الدعوة:(36/176)
1 - ابتغاء وجه الله:
لأنه بذلك ينقلب العمل عبادة يراد بها وجه الله ومن التمس رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس.(36/176)
2 - الثقة بالله:
وهي تشيع الثقة والطمأنينة والثبات فتكون عامل نجاح للخطيب والمحاضر والكاتب ما دام في نطاق الإسلام.
ويؤكدها قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه «أنا عند حسن ظن عبدي بي (1) » .
__________
(1) المقاصد الحسنة للسخاوي. ص: 96.(36/176)
3 - اتقاء ما يغضب الله لفظا ومعنى: فالمؤمن ليس بطعان ولا لعان ولا بذيء ولا سباب، وهو ما يعلمنا إياه القرآن:
قال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (1) . {قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (2) {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} (3) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 108
(2) سورة سبأ الآية 25
(3) سورة سبأ الآية 26(36/176)
4 - الصدق:
والمؤمن يفطر على كل خلق إلا الكذب والخيانة وحديث الصدق من القلب يصل إلى القلب ولو كان بعيدا عن الطلاء والزخرف فماذا لو كان الشكل متقنا بجوار صدق الموضوع.(36/177)
5 - الإحساس بالأمانة:
فالداعية حامل أمانة يبذل في سبيلها ويدافع عنها ولو أدى به الوقت أن يبذل في سبيلها الروح فإنه يفعل، فوضعه مغاير لمن يؤدي وظيفة حسبما اتفق.
بقي أن نقول إن الأساليب تتغاير للزمن. . في القديم كانت الخطابة هي الوسيلة الأولى، واليوم تقدمتها وسائل. . أخطرها ما يقدم على الشاشة والمسرح لأنه يترك تأثيرا عميقا في نفوس الحاضرين بما يستحوذ على كل الحواس. . سمعا، وبصرا، وفؤادا، إلى جوار ذلك نقول:
إنه لا قيمة على المستوى العام لكل وسائل الدعوة إذا بقيت وسائل الإعلام في أيدي خدمة اليهود وعملائهم الذين ينفذون مخططاتهم في إشاعة الانحلال بين الشعوب الإسلامية ليسهل على الصهيونية أن تحقق حلمها التلمودي في أن تركب الجنس الإسلامي كما امتطت من قبل الجنس النصراني وسخرته لأغراضها.
وينبغي أن تنقل وسائل الإعلام إلى أيدي الدعاة المخلصين ليسخروها في خدمة دعوة الإسلام حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} (1) {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} (2) {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (3) .
وإذا كانت الدعوة الصالحة المخلصة الصادقة تتحقق من خلال هذه
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 60
(2) سورة الأحزاب الآية 61
(3) سورة الأحزاب الآية 62(36/177)
المقومات وتبلغ حدها وتحقق أهدافها بصدق الداعية وإخلاصه في دعوته ولكونه يمثل إسلاما متحركا بما في الكلمة من معنى. فإن لنا في دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب خير مثل للدعوة الصادقة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. والتي أضحت مثلا لكل زعماء الإصلاح ورواده من بعده.
والله نسأل أن يوفق علماء المسلمين ودعاتهم إلى الأخذ بكتاب الله وسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - والعمل على إخراج الناس من الظلمات إلى النور كما نسأله تعالى أن يهدي ضال المسلمين ويثبتهم على الصراط المستقيم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(36/178)
أهمية الوقف
وحكمة مشروعيته
الدكتور: عبد الله بن أحمد الزيد
مقدمة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم وبعد:
فإن الله سبحانه وتعالى حين خلق الإنسان يسر له سبل السعادة والفلاح في الدارين فأرسل الرسل لهدايته إلى الطريق المستقيم الذي يوصله إلى جنته فجاءت شرائع الله سبحانه محققة لمصالح العباد فشرع له فعل الطاعات وترك المنهيات في حياته تقربا إليه لمرضاته ولم تقتصر شرائع الله على تحصيل الأعمال الصالحة في فترة الحياة فقط فقد شرع له من الوسائل والأسباب ما يحقق له تلك الغاية بعد مماته وهي الصدقات الجارية كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (1) » .
والوقف أحد تلك الأسباب التي تكون طريقا لزيادة الحسنات وتكثير الأعمال الصالحة في الدنيا والآخرة في حياة الفرد وبعد مماته، وقد غفل عنه كثير من الناس في عصرنا الحاضر وانشغلوا في أمور الحياة والتكاثر في الأموال
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الوصايا 3 \ 1255، وأبو داود في كتاب الوصايا برقم (288) ، والنسائي (2 \ 129) ، والترمذي في الوقف (1 \ 359) ، والبيهقي في السنن (6 \ 278) ، والإمام أحمد في المسند (2 \ 372) .(36/179)
والأولاد وقلما نجد من يعتني بهذا الأمر إلا القلة من الناس، مع أن ذلك من الأمور الهامة التي عن طريقها تتحقق سعادة الإنسان في آخرته وتزداد أعماله الصالحة وهو بهذا يعتبر وسيلة عظيمة بعد انقضاء الأجل لرفع الدرجات والتكفير عن السيئات، هذا من جانب النفع العائد على الموقف أما المنافع التي تعود على الأحياء وعلى المجتمع بأسره فكثيرة وعظيمة وأهمها تحقيق مبدأ التكافل بين المسلمين والبر والصلة بالقريب والصديق وسد حاجة الفقير وتوفير حاجات الناس والتسهيل والتيسير على المجتمع بأسره بما يتحقق عن طريق الوقف من خدمات وما يموله من مشاريع لها صفة النفع العام. . روي عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه- أنه قال: (لم نر خيرا للميت ولا للحي من هذه الحبس الموقوفة أما الميت فيجري أجرها عليه وأما الحي فتحبس عليه ولا توهب ولا تورث ولا يقدر على استهلاكها) (1) .
وقد جرى إعداد هذا البحث لبيان أهمية الوقف والتعريف به وبيان حكمه ومشروعيته وأهدافه ليكون تنويرا لمن من الله عليه بالتوفيق والقبول ولمن يتلمس أسباب جلب الأعمال الصالحة له في حياته وبعد مماته ويبحث عن مواطن البر والإحسان لتكثير حسناته ورفع درجاته وسميته (أهمية الوقف وحكمة مشروعيته) ورتبته على مقدمة وأربعة فصول وخاتمة.
الفصل الأول: في تعريف الوقف لغة واصطلاحا.
الفصل الثاني: في تاريخ الوقف.
الفصل الثالث: في حكم الوقف.
الفصل الرابع: في أهداف الوقف وحكمة مشروعيته.
أسال الله الكريم أن ينفع به وأن ينير به بصائر العباد وأن يجعله سببا لحصول الثواب لي ولمن استفاد منه إنه ولي ذلك والقادر عليه ورحم الله من استفاد منه فدعا لي في ظهر الغيب وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) انظر الإسعاف في أحكام الأوقاف (ص \ 2) .(36/180)
الفصل الأول
في تعريف الوقف وفيه مبحثان
المبحث الأول: تعريف الوقف لغة:
الوقف لغة يطلق ويراد به الحبس كما أنه يطلق ويراد به المنع، فأما الوقف بمعنى الحبس فهو مصدر من قولك: وقفت الشيء وقفا، أي حبسته. ومنه وقف الأرض على المساكين وللمساكين، وقفت الدابة والأرض ونحو ذلك أي جعلتها محبوسة على ما وقفت عليه ليس لأحد تغييرها ولا التصرف فيها.
والأصل (وقف) فأما (أوقف) في جميع ما تقدم من الدواب والأرضين وغيرها فهي لغة رديئة (1) . وقيل: (وقف) وأوقف سواء.
و (أحبس) بالألف بمعنى (وقف) أكثر استعمالا من (حبس) بدون الألف على العكس من (وقفت) و (أوقف) ولهذا قال بعضهم: إن (أحبس) أفصح من (حبس) .
وتعقب هذا القول بأن (حبس) هي الواردة في الأخبار الصحيحة عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وهو أفصح العرب لسانا وأبلغهم بيانا.
من ذلك حديث عمر - رضي الله عنه - حين قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - «حبس الأصل وسبل الثمرة (2) » أي اجعلها وقفا.
ومنه الحديث الآخر «ذلك حبيس في سبيل الله (3) » أي موقوف على الغزاة يركبونه في الجهاد.
__________
(1) انظر لسان العرب (9 \ 359- 360)
(2) سيأتي تخريجه.
(3) أخرجه أبو داود في السنن في كتاب المناسك باب العمرة رقم (1990)(36/181)
والحبيس فعيل بمعنى مفعول أي محبوس على ما قصد له لا يجوز التصرف فيه لغير ما صير له (1) .
واحتبست فرسا في سبيل الله أي وقفت، فهو محتبس وحبيس و (الحبس) بالضم ما وقفت (2) .
وسمي الموقوف (وقفا) من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول، ولهذا جمع على (أفعال) تقول: (وقف) و (أوقاف) كوقت وأوقات.
وأما الوقف بمعنى المنع فلأن الواقف يمنع التصرف في الموقوف فإن مقتضى المنع أن تحول بين الرجل وبين الشيء الذي يريده، وهو خلاف الإعطاء، ويقال هو تحجير الشيء، من منعه فامتنع منه وتمنع (3) .
وأصل (وقف) يطلق على الوقوف خلاف الجلوس من وقف بالمكان وقوفا فهو واقف، ويقال: وقفت الدابة تقف وقوفا، ووقفتها أنا أي جعلتها تقف (4) .
ويقال: وقفت على ما عند فلان أي تبينته وفهمته قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} (5) الآية 27 من سورة الأنعام. ووقفته على ذنبه أي أطلعته عليه.
ورجل وقاف أي متأن غير عجل، قال الشاعر:
وقفتني بين شك وشبهة ... وما كنت وقافا على الشبهات
وفي الحديث: «وكان وقافا عند كتاب الله (6) » .
وواقفه مواقفة ووقافا، وقف معه في حرب أو خصومة وتوقيف الناس في الحج وقوفهم بالمواقف واستوقفته سألته الوقوف (7) .
__________
(1) انظر لسان العرب (6 \ 44) ، القاموس المحيط (2 \ 205) .
(2) انظر الصحاح للجوهري (3 \ 915) .
(3) انظر لسان العرب (8 \ 343) .
(4)) انظر المرجع السابق (9 \ 359)
(5) سورة الأنعام الآية 27
(6) أخرجه البخاري في كتاب التفسير، سورة الأعراف باب خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين، وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب الاقتداء بسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي باب قوله (وأمرهم شورى بينهم) .
(7) انظر الصحاح للجوهري (3 \ 915- 4 \ 144) ، لسان العرب (6 \ 44 - 9 \ 359) ، القاموس المحيط (2 \ 205)(36/182)
المبحث الثاني
تعريف الوقف اصطلاحا
عرف الفقهاء الوقف بتعاريف كثيرة ومختلفة تبعا لاختلاف مذاهبهم في الوقف فكل منهم يعرفه تعريفا ينسجم مع آرائه في مسائله الجزئية.
فبعضهم يرى أن الوقف لازم وآخرون يرون أنه غير لازم وبعضهم يشترط فيه القربة وغيرهم على العكس من ذلك.
كما اختلفوا في الجهة المالكة للعين الموقوفة، وفي كيفية إنشائه هل هو عقد أم إسقاط؟ وما يترتب على ذلك من اشتراط القبول أو التسليم لتمامه وغير ذلك.
ولهذه الأسباب فقد اختلف الفقهاء في تعريف الوقف تبعا لرأي كل منهم في تلك المسائل، ولذا فسوف اقتصر على ذكر تعاريف أصحاب المذاهب الأربعة فقط، ولا يعني هذا أن تلك التعاريف صادرة من أئمة المذاهب أنفسهم الذين ينسب لهم ذلك المذهب كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - رحمهم الله- ولكن المتأخرين من فقهاء كل مذهب(36/183)
صاغوها بما يتفق مع قواعد مذهبهم فجاءت تلك التعاريف مطابقة لما قرره إمام المذهب.
وعند الرجوع إلى كتب أصحاب تلك المذاهب نجد أن للوقف تعاريف كثيرة تختلف قي ألفاظها عن الأخرى وإن اتفقت في كثير من الأحيان في معانيها، ولذا فسوف أذكر أهم التعاريف التي صدرت عن أصحاب تلك المذاهب مع شرح موجز لألفاظ كل تعريف، مع الالتزام بعدم إعادة شرح اللفظ في التعريف اللاحق إذا كان قد تم شرحه في التعريف السابق وذلك تجنبا للتكرار.(36/184)
أولا: تعريف الحنابلة للوقف:
عرفه ابن قدامة في المقنع بأنه (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) (1) .
وعرفه في المغنى بأنه (تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة) (2) .
وكلا التعريفين متفقان في المعنى إلا أنه عبر (بالثمرة) في التعريف الذي ذكره في المغني بدل (المنفعة) التي عبر بها في المقنع، وكلاهما بمعنى واحد. وإن كان التعبير (بالمنفعة) أشمل وأكثر دلالة على المقصود.
شرح التعريف:
قوله: (تحبيس) من الحبس وهو المنع ضد الإطلاق، وهو اسم جنس يشمل كل حبس كالرهن والحجر، والمقصود إمساك العين ومنع تملكها بأي سبب من أسباب التملكات (3) .
قوله: (الأصل) أي العين الموقوفة.
قوله: (تسبيل المنفعة) أي إطلاق فوائد العين الموقوفة وعائداتها- من غلة
__________
(1) انظر المقنع (2 \ 307)
(2) انظر المغني (5 \ 597)
(3) انظر كشاف القناع (2 \ 489) .(36/184)
وريع وغير ذلك- للجهة المقصودة في الوقف والمعنية به، أي يجعل سبيلا أي طريقا لمصرفها (1) .
وعبر (بتسبيل المنفعة) لأنه أراد أن يكون على بر أو قربة (2) .
والتسبيل يقتضي إخراج الأحباس الأخرى غير الوقف كالرهن والحجر لأنها غير مسبلة.
واحترز بقوله: (المنفعة) عن إعطاء الذات كالهبة فإن الواهب يعطي ذات العين الموهوبة له بخلاف الوقف فإن المعطى هو منفعته وثمرته لا غير.
الاعتراض على هذا التعريف:
اعترض على هذا التعريف بأنه لم يجمع شروط الوقف (3) .
وأجيب بأن التعريف هدفه ذكر حقيقة الشيء المعرف دون الدخول في تفصيل جزئياته، وهذا التعريف اقتصر على ذكر حقيقة الوقف فقط، ولم يدخل في تفاصيل أخرى تعتبر من الأمور المختلف فيها، بل ترك بيان ذلك وتفصيله عند الكلام عن تلك الأمور، إذ أن الدخول في التفاصيل قد يخرج التعريف عن دلالته ويبعده عن الهدف المقصود منه.
وعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه (كل عين تجوز عاريتها) (4) .
شرح التعريف:
قوله: (كل عين) أي كل مال وقوله: (تجوز عاريتها) قيد أخرج به ما لا يجوز إعارته كوقف الدار لمن يشرب فيها الخمر أو يبيعه فيها.
__________
(1) انظر المرجع السابق (4 \ 267) .
(2) انظر المبدع (5 \ 313) ، المجموع شرح المهذب (14 \ 218) .
(3) انظر الإنصاف (7 \ 3) .
(4) انظر الاختيارات الفقهية (ص 171) .(36/185)
الاعتراض على هذا التعريف:
أنه يدخل في هذا التعريف أشياء كثيرة لا يجوز وقفها عند الإمام أحمد- رحمه الله- وأصحابه (1) .
واستحسن برهان الدين بن مفلح في كتابه المبدع شرح المقنع تعريف الوقف بأنه (حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، ممنوع من التصرف في عينه بلا عذر، مصروف منافعه في البر تقربا إلى الله تعالى) (2) .
وعرفه تقي الدين محمد بن أحمد بن النجار الفتوحي في منتهى الإرادات بأنه (تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به مع بقاء عينه، ممنوع من التصرف في عينه بلا عذر، مصروف منافعه في البر تقربا إلى الله تعالى) (3) .
وهذا التعريف والذي قبله متقاربان في المدلول، ولذا سنشرح الألفاظ الزائدة فيهما عما تقدم، ثم نورد ما عليهما من اعتراض.
فقوله: (مال) قيد خرج به ما ليس بمال كالخمر والخنزير فإن كلا منهما ليس بمال عند المسلمين، وإنما المال عندهم هو العين المعينة المملوكة ملكا يقبل النقل ويحصل منها فائدة (4) .
وقوله: (يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه) قيد آخر احترز به عما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالريحان والطعام، إذ لا يجوز وقفهما لأن الأول
__________
(1) انظر الإنصاف (7 \ 3) .
(2) انظر المبدع (5 \ 313) .
(3) انظر منتهى الإرادات مع شرحه (2 \ 489- 450) .
(4) انظر روضة الطالبين (5 \ 314) .(36/186)
لا يضر إلا نادرا كما أنه يسرع إليه الفساد، والثاني: لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه (1) .
وقوله: (ممنوع من التصرف في عينه بلا عذر) يخرج ما كان التصرف فيه لعذر كالوقف المتعطل فإنه يجوز التصرف فيه بما هو من مصلحته.
وقوله: (مصروف منافعه في البر) يخرج ما كانت منافعه في معصية الله من المحرمات كالوقف على أهل الحرب أو الزنا.
وقوله: (تقربا إلى الله تعالى) أي ينوي به القربة وفيه إشارة إلى أن التقرب إلى الله شرط لصحة الوقف.
واحترز بقوله: (مالك) في تعريف الفتوحي عمن ليس بمالك فلا يجوز وقف مال الغير.
وقوله: (مطلق التصرف) قيد احترز به عن المحجور عليه لسبب من أسباب الحجر المعتبرة شرعا وقصد به المكلف الحر الرشيد.
وقوله: (بقطع تصرفه وغيره في رقبته) أخرج به ما ليس بوقف من أموال الحبس الأخرى كالمال المرهون.
الاعتراض على هذين التعريفين:
اعترض على هذين التعريفين بأنهما قد أدخلا شروط الوقف في تعريفه وهذا خروج بالتعريف عن المقصود منه (2) .
ثم إنهما أدخلا أمورا مختلفا فيها في التعريف والأولى الاقتصار على ما يدل على الشيء المعرف بصرف النظر عن الجزئيات الخلافية فيه.
__________
(1) انظر أسنى المطالب شرح روضة الطالب (2 \ 457)
(2) انظر الإنصاف (7 \ 3) ، كشاف القناع (4 \ 267)(36/187)
ثانيا: تعريف الوقف عند الحنفية:
يفرق فقهاء الحنفية بين تعريف الوقف عند أبي حنيفة - رحمه الله- وبين تعريفه على رأي الصاحبين- رحمهما الله تعالى-.(36/187)
وسبب ذلك اختلافهم في جملة من المسائل أهمها:
1 - اختلافهم في عقد الوقف من حيث اللزوم وعدمه.
2 - اختلافهم في الجهة التي تنتقل إليها العين الموقوفة، وهل تخرج العين عن ملك واقفها أم لا؟
ولهذا فسوف نبين هنا تعريف الوقف على رأي الإمام أبي حنيفة - رحمه الله- ثم نتبعه ببيان تعريفه على رأي صاحبيه.
1 - تعريف الوقف عند أبي حنيفة:
لقد ذكر بعض فقهاء الحنفية تعريف الوقف مما يشبه رأي الإمام أبي حنيفة، وبعضهم نص في تعريفه على أنه هو نفسه تعريف الوقف عند أبي حنيفة.
(ا) فنجد الإمام السرخسي قد عرفه بقوله: (حبس المملوك عن التمليك من الغير) (1) .
فقوله: (المملوك) قيد يراد به الاحتراز عن غير المملوك لأن الواقف إذا لم يكن مالكا للعين الموقوفة حين الوقف فإنه لا يصح وقفه، ولو آلت العين إلى ملكه بعد ذلك. فمن وقف أرضا غير مملوكة له بناء على أن نيته شراؤها ووقفها فإنه لا يصح وقفه.
ويراد من قيد (عن التمليك من الغير) أن العين الموقوفة لا يصح أن يجري عليها أي تصرف من التصرفات التي تجوز للمالك في ملكه.
كما أن إضافة (من الغير) إلى (التمليك) تفيد بقاء العين على ملك الواقف، حيث خص الغير دون الواقف نفسه (2) .
__________
(1) انظر المبسوط للسرخسي (12 \ 27)
(2) انظر حاشية ابن عابدين (4 \ 337) .(36/188)
وما جاء بعد كلمة (حبس) في التعريف هو في مجموعه قيد أخرج به ما ليس بوقف، إذ أن الراهن غير ممنوع من تمليك العين المرهونة من الغير عند استيفاء شروط ذلك.
الاعتراضات على هذا التعريف:
اعترض على هذا التعريف بعدة اعتراضات أهمها:
1 - أن قوله (حبس المملوك) يقتضي لزوم الوقف وعدم جواز الرجوع فيه وهذا خلاف قول الإمام أبي حنيفة حيث إن الوقف غير لازم عنده، وعلى هذا فإن هذا التعريف لا يناسب الوقف غير اللازم، إذ لا حبس فيه لأنه غير ممنوع من بيعه، بخلاف اللازم فإنه محبوس حقيقة (1) .
2 - أن هذا التعريف غير مانع وذلك لأن لفظ (المملوك) الوارد في التعريف لفظ عام يشمل كان مملوك سواء كان عقارا أو منقولا وأبو حنيفة - رحمه الله- لا يرى صحة وقف المنقول.
(ب) ونجد المرغيناني يعرف الوقف فيقول: (وهو في الشرع عند أبي حنيفة - رحمه الله: (حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة) (2) .
وبمثل هذا التعريف عرفه التمرتاشي في تنوير الأبصار (3) .
__________
(1) انظر المرجع السابق.
(2) انظر الهداية (3 \ 13) .
(3) انظر تنوير الأبصار مع حاشية ابن عابدين (4 \ 337) .(36/189)
وإذا كان هذا التعريف هو تعريف الوقف عند أبي حنيفة فهو في الحقيقة تعريف للوقف غير اللازم، فإن غالبية فقهاء الحنفية ينقلون عنه أنه يرى جواز الوقف إلا أنه غير لازم كالعارية (1) .
الاعتراض على هذا التعريف:
1 - يعترض عليه بمثل ما اعترض به على التعريف الأول الذي عرف الوقف به السرخسي، وذلك أنه أورد لفظ (الحبس) المقتضي للزوم الوقف وهو خلاف قول أبي حنيفة - رحمه الله- فتعريفه بأنه حبس غير صحيح.
وفي هذا يقول الكمال بن الهمام في فتح القدير: (ولفظ "حبس " إلى آخره، لا معنى له لأن له أن يبيعه متى شاء وملكه مستمر فيه كما لو لم يتصدق بمنفعته فلم يحدث الواقف إلا مشيئة التصدق بمنفعته وله أن يترك ذلك متى شاء، وهذا القدر كان ثابتا له قبل الوقف) (2) .
2 - كما يعترض عليه بأن جعل ملكية العين باقية على ملك الواقف، يرد عليها (وقف المسجد) فإنه وقف على ملك الله تعالى.
وعلى هذا فإن هذا التعريف غير جامع.
ويمكن دفع هذا الاعتراض: بأنه تعريف للوقف المختلف فيه، وليس هو للوقف المتفق عليه.
ويجاب عن ذلك بأن إيراده تعريفا للوقف يرد هذا الجواب وهو إنما أورده معرفا به الوقف، ولو أراد التفصيل لذكر له تعريفين ولم يقتصر على هذا التعريف فقط.
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين (4 \ 337) .
(2) انظر فتح القدير (5 \ 4) .(36/190)
3 - ومن الاعتراضات عليه أيضا أن التعريف قيد مصرف الإنفاق بـ (التصدق بالمنفعة) فإذا أخذ بإطلاق التصدق فإنه لا يصرف إلا إلى الفقراء لأنهم مصرف الصدقات، مع أن الحنفية يجيزون الوقف على النفس وعلى الأغنياء بشرط أن يكون آخره للفقراء وعلى هذا يكون التعريف غير جامع (1) .
ورد هذا الاعتراض بأن في التصدق على الغني نوع قربة دون قربة الفقير.
ويدفع هذا الرد بأنه لو كان هذا النوع من القربة كافيا في الوقف، لصح الوقف على الأغنياء دون أن يجعل آخره للفقراء (2) .
وبناء على هذا الاعتراض زاد ابن الهمام على هذا التعريف عبارة: أو صرف منفعتها إلى من أحب (3) .
كما زاد أيضا صاحب الدر على هذا التعريف عبارة: (ولو في الجملة (4) ، وذلك ليدخل فيه الوقف على نفسه ثم على الفقراء وكذا على الأغنياء ثم على الفقراء) .
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين (4 \ 337- 338) .
(2) انظر المرجع السابق.
(3) انظر فتح القدير مع الهداية (5 \ 42) ، وحاشية ابن عابدين (4 \ 338) .
(4) انظر الدر المختار بحاشية ابن عابدين (4 \ 337) .(36/191)
2 - تعريف الوقف عند الصاحبين:
أورد فقهاء الحنفية للوقف تعاريف كثيرة- على رأي الصاحبين- كلها لا تخرج في معناها ومضمونها عن تعريف صاحب تنوير الإبصار حيث يقول: (وعندهما هو: حبسها على ملك الله تعالى، وصرف منفعتها على من أحب) (1) .
وقد زاد صاحب الدر المختار كلمة (حكم) بعد (على) وقبل (ملك الله تعالى) ليفيد أنه لم يبق على ملك الواقف، ولا انتقل إلى ملك غيره بل صار
__________
(1) انظر تنوير الأبصار مع شرحه الدر المختار وحاشية ابن عابدين (4 \ 338- 339) .(36/191)
على حكم ملك الله تعالى (1) .
الاعتراض على هذا التعريف:
يمكن الاعتراض بمثل لما اعترض به على تعريف السرخسي السابق.
كما يمكن الاعتراض عليه بأنه أطلق القول في قوله: (وصرف منفعتها على من أحب) فدخل في ذلك صرفها إلى الأغنياء وحدهم، وهو خلاف قول الحنفية (2) .
__________
(1) انظر الدر المختار بحاشية ابن عابدين (4 \ 338) .
(2) انظر حاشية ابن عابدين (4 \ 339) .(36/192)
ثالثا: تعريف الوقف عند المالكية:
أمثل تعريف للوقف عند المالكية ما عرفه به ابن عرفة حيث قال: (هو إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازما بقاؤه في ملك معطيها ولو تقديرا) (1) .
فقوله: (إعطاء منفعة) احترز به عن إعطاء الذات كالهبة فإن الواهب يعطي ذات العين الموهوبة للموهوب له.
وقوله: (شيء) أي مال أو متمول وعبر بـ (شيء) لقصد التعميم لكل الأشياء إلا أنه خصصه بما جاء في التعريف وقوله: (مدة وجوده) قيد احترز به عن العارية والعمرى لأن للمعير الحق في استرجاع العين المعارة متى شاء، كما أن الشيء المعمر يرجع بعد موت المعمر ملكا له أو لورثته.
وقوله: (لازما بقاؤه في ملك معطيها) . قيد خرج به العبد المخدم حياته بموت قبل موت سيده لعدم لزوم بقائه في ملك معطيه لجواز بيعه برضاه مع معطاه.
__________
(1) انظر شرح منح الجليل (4 \ 34) .(36/192)
قوله: (ولو تقديرا) يحتمل أن يكون اللفظ راجعا إلى الملك فيكون المعنى: إن ملكت داري فلانا فهي حبس.
ويحتمل أن يكون اللفظ راجعا إلى الإعطاء فيكون المعنى: داري حبس على من سيكون، وعلى كلا الاحتمالين فالمراد بالتقدير: التعليق، ولم يرجح المالكية أيا من الاحتمالين وذلك لأنهم يجيزون الوقف المعلق (1) .
الاعتراضات على هذا التعريف:
اعترض على هذا التعريف باعتراضين:
الأول: أن هذا التعريف يفيد تأبيد الوقف، وقد خرج به الوقف المؤقت، وذلك لأن المالكية يرون صحته، وعلى هذا فإن التعريف غير جامع.
الثاني: اعترض الشيخ محمد عليش - رحمه الله- على هذا التعريف بأن الوقف تمليك انتفاع لا منفعة كما تقرر (2) .
__________
(1) انظر المرجع السابق، وتسهيل شرح منح الجليل بحاشية شرح منح الجليل (4 \ 34) .
(2) انظر شرح منح الجليل مع تسهيله (4 \ 34) .(36/193)
رابعا: تعريف الوقف عند الشافعية:
قال محرر المذهب الإمام النووي في تعريفه للوقف بأنه (حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته وتصرف منافعه إلى البر تقربا إلى الله تعالى) .(36/193)
وعرفه في تصحيح التنبيه فقال: قال أصحابنا (الوقف تحبيس ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع تصرف الواقف وغيره في رقبته ويصرف في جهة خير تقربا إلى الله تعالى) (1) .
وعرفه ابن حجر الهيتمي، والشيخ عميرة، بأنه (حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح) (2) .
وعرفه الشربيني الخطيب والرملي الكبير بأنه: (حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود) (3) .
وعند استعراض تلك التعريفات للشافعية نجد أن القدر المشترك بينها هو تعريف الشيخ القليوبي القائل بأن الوقف: (حبس ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه على مصرف مباح) .
وقد مر شرح أكثر ألفاظه أما قوله: (على مصرف مباح) فهو قيد احترز به عن الوقف على جهة غير مباحة.
وتعبير بلفظ (مباح) بدل (بر) في التعريفات الأخرى يزيل شبهة اشتراط
__________
(1) انظر المجموع شرح المهذب (14 \ 219) .
(2) انظر حاشية قليوبي وعميرة (3 \ 97) ، وتحفة المحتاج بشرح المنهاج (6 \ 235) .
(3) انظر نهاية المحتاج شرح المنهاج (4 \ 259) .(36/194)
القربة لصحة الوقف فعلى هذا يصح الوقف ولو بغير نية القربة إذا كان لغرض غير محرم.
واستحسن صاحب كفاية الأخيار حذف كلمة (مال) الواردة في التعريف، ليشمل التعريف (الكلب المعلم) كما هو رأي في المذهب الشافعي (1) .
ويعترض البعض على وجود عبارة (بقطع التصرف في رقبته) مع عبارة (حبس) في أول التعريف معللا بأن وجود تلك العبارة تكرار لا معنى له، فهي لمعنى الحبس.
كما يعترض على هذه التعاريف بما سبق الاعتراض به على تعريف ابن مفلح من الحنابلة على الوقف.
__________
(1) انظر كفاية الأخيار (1 \ 603) .(36/195)
التعريف المختار:
التعريف الذي أميل إليه من التعاريف السابقة هو قول ابن قدامة - رحمه الله- ومن وافقه بأن الوقف (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) .
وقد اخترت هذا التعريف للأسباب الآتية:
أولا: أن هذا التعريف اقتباس من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «حبس الأصل وسبل الثمرة (1) » .
والرسول - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب لسانا وأكملهم بيانا، وأعلمهم بالمقصود من قوله.
ثانيا: أن هذا التعريف جامع مانع لكونه قد سلم من الاعتراضات التي اعترض بها على التعريفات الأخرى.
__________
(1) أخرجه النسائي كتاب الأحباس- (6 \ 232) وابن ماجه في السنن في أبواب الأحكام (2 \ 54) رقم (2419) والشافعي في مسنده (ص 339) والإمام أحمد في المسند 2 \ 114، والطحاوي في معاني الآثار (4 \ 95) والبيهقي في السنن الكبرى (6 \ 162) قال الألباني في إرواء الغليل (6 \ 31) (صحيح) ، وأخرجه البخاري في الوصايا (3 \ 1017) بلفظ (تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن ينفق ثمره) .(36/195)
ثالثا: أن هذا التعريف يؤدي المعنى الحقيقي للوقف بأقصر عبارة تفيد المقصود منه دون الدخول في تفصيلات جانبية كبقية التعاريف الأخرى.
رابعا: أن ذكر الأركان والشروط ضمن التعريف يخرجه عن الغرض الذي وضع لأجله.(36/196)
الفصل الثاني
لمحة من تاريخ الوقف عند المسلمين
إن أول وقف في الإسلام هو مسجد (قباء) الذي أسسه الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مهاجرا إلى المدينة قبل أن يدخلها.
ثم بعد ذلك المسجد النبوي بالمدينة، حيث بناه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السنة الأولى للهجرة عند مبرك ناقته حين قدم المدينة (1) .
أما أول وقف خيري في الإسلام فقد اختلف المسلمون فيه:
فقيل إن أول صدقة في الإسلام هي صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين وقف الحوائط (2) السبعة بالمدينة التي كانت لرجل يهودي اسمه مخيريق، وكان محبا ودودا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقاتل مع المسلمين يوم أحد وأوصى إن أصبت أي قتلت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله تعالى، وقد قتل يوم أحد وهو على يهوديته، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مخيريق خير يهود» وقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الحوائط السبعة فتصدق بها أي وقفها.
وقيل إن أول صدقة في الإسلام هي صدقة عمر بن الخطاب - رضي الله
__________
(1) انظر أحكام الأوقاف لمصطفى الزرقاء (ص \ 7) .
(2) الحوائط جمع حائط وهو الحديقة أو البستان. ينظر القاموس المحيط (2 \ 355) .(36/197)
عنه- سنة سبع من الهجرة حين رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من خيبر (1) .
وسواء قلنا أن أول صدقة في الإسلام هي صدقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو صدقة عمر بن الخطاب، فالوقف في الإسلام نوع من أنواع الصدقات التي رغب الشارع فيها وندب إليها وهو قربة من القرب التي يتقرب بها العبد إلى ربه ولا فرق في ذلك بين الوقف على جهة عامة كالفقراء وطلبة العلم ونحو ذلك أو الوقف على القرابة والذرية، إلا أن السلف الأول من هذه الأمة يفضلون أن يكون آخره للمساكين.
وقد توالت أوقاف الصحابة الكرام لا يبتغون من ذلك إلا مرضاة الله تعالى، والتقرب إليه واستمر الناس من بعدهم يقفون أموالهم تقربا إلى الله تعالى.
إلا أنه ظهر في آخر عصر الصحابة اتخاذ الوقف طريقا لحرمان بعض البنات من نصيبهن، حتى لقد صاحت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها- باستنكار ذلك، فكانت تقول: (ما وجدت للناس مثلا اليوم في صدقاتهم إلا كما قال الله عز وجل: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} (2) الأنعام (139) ، والله انه ليتصدق الرجل الصدقة العظيمة على ابنته فترى غضارة صدقته عليها وترى ابنته الأخرى وإنه لتعرف عليها الخصاصة لما حرمها من صدقته (3) .
ولقد هم عمر بن عبد العزيز أن يرد صدقات الناس التي أخرجوا منها النساء ولكن المنية عاجلته قبل أن ينفذ ذلك.
ولقد كثرت الأوقاف في العصر الأموي كثرة عظيمة بمصر والشام وغيرهما من البلاد المفتوحة بسبب ما أغدقه الله على المسلمين بعد الفتوحات
__________
(1) انظر نيل الأوطار (6 \ 26) ، الوقف والوصايا للدكتور أحمد الخطيب (ص \ 41) .
(2) سورة الأنعام الآية 139
(3) انظر المدونة الكبرى (6 \ 106) .(36/198)
الإسلامية، فتوافرت لديهم الأموال والدور والحوانيت، كما امتلك كثير منهم المزارع والحدائق وتيسرت لهم سبل الوقف (1) .
ولما كان زمن هشام بن عبد الملك، صارت للأوقاف إدارة خاصة بمصر تشرف عليها وترعاها، وأول من فعل ذلك توبة بن نمر قاضي مصر، فقد كانت الأحباس في أيدي أهلها وفي أيدي الأوصياء فلما تولى توبة قال: (ما أرى مرجع هذه الصدقات إلا إلى الفقراء والمساكين، فأرى أن أضع يدي عليها حفظا لها من الضياع والتوارث) .
ولم يمت توبة حتى صار للأوقاف ديوان مستقل عن بقية الدواوين يشرف عليه القاضي.
وكان لأهل مصر رغبة شديدة في الأحباس ولعل ذلك قد قر في نفوس المصريين قبل الإسلام، ولقد حدث أن ولي قضاء مصر إسماعيل بن اليسع الكندي، من قبل المهدي، سنة (164) وكان يذهب مذهب أبي حنيفة في عدم لزوم الوقف وقد نفذ رأي شيخه أبي حنيفة فتملل به المصريون وأبغضوه وذهب إليه الليث بن سعد وقال له: جئت مخاصما لك، فقال
__________
(1) انظر محاضرات في الوقف لأبي زهرة (ص \ 8) .(36/199)
له: في ماذا؟ قال في إبطال أحباس المسلمين، ثم كتب للمهدي كتابا جاء فيه: (إنك وليتنا رجلا يكيد سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا مع أنا ما علمناه في الدينار- والدرهم إلا خيرا) فكتب أمير المؤمنين بعزله (1) .
وقد وجدنا في كتاب الأم للشافعي وثيقة وقف كتبت في حياته (2) يستفاد منها أن الأحباس في ذلك الوقت وهو القرن الثاني وأول القرن الثالث تشبه في شروطها ومصارفها الأحباس في القرن الرابع عشر الهجري، وإن كانت عبارات الأقدمين فيها شيء من التكرار والبسط في العبارات ولكن المعنى واحد، وقد ورد في تلك الوثيقة بصريح اللفظ حرمان أولاد البنات وقصر الانتفاع على أولاد الصلب.
وقد كانت الأوقاف في مصر خاصة تقتصر على الدور والرباع، ولكن الأمر لم يستمر بل اتجه إلى وقف الأراضي والبساتين واتسع هذا الأمر في عهد المماليك، وقد كثرت الأحباس كثرة ملحوظة واتسع نطاقها، مما كان سببا في أن يجعل للأوقاف ثلاثة دواوين: ديوان لأحباس المساجد، وديوان لأحباس الحرمين الشريفين وجهات البر الأخرى المختلفة، وديوان للأوقاف الأهلية (3) .
وقد كانت أكثر الأوقاف في البلاد الإسلامية تسير على مقتضى تأبيد الوقف فيبقى الوقف جيلا بعد جيل وقد تجهل مصارفه والولاية عليه بمرور الزمن وترادف الحوادث المختلفة.
وقد اتخذ بعض الولاة من هذا ومن جواز استبدال الوقف طريقا للاستيلاء عليها باسم الاستبدال.
وقد عاونهم على ذلك بعض فسقة القضاة والشهود وكان هذا في القرن السابع والثامن وما يليه وبذلك صارت الأوقاف نهبا مقسما.
__________
(1) انظر أخبار القضاة لوكيع (3 \ 236)
(2) انظر الأم للشافعي (4 \ 59) ، محاضرات في الوقف لأبي زهرة (ص \ 9)
(3) انظر محاضرات في الوقف لأبي زهرة (ص \ 14) .(36/200)
ولقد كان لذلك أثره في الفقهاء الذين عاصروا تلك الفترة فمنهم من شدد في فتاويه في الاستبدال وصعب طريقه ومنهم من أكثر من النكير على فعل هؤلاء (1) .
وعلى كل حال فإن الأوقاف في ذلك الوقت تحت تصرف القضاة فهم الذين يولون النظار عليها ويحاسبونهم ويشرفون على أوجه صرف ريعها.
وفي عهد العباسيين كان لإدارة الوقف رئيس يسمى (صدر الوقف) أنيط به الإشراف على إدارتها وتعيين الأعوان لمساعدته على النظر عليها.
ولما تولى العثمانيون مقاليد السلطة في معظم البلاد الإسلامية اتسع نطاق الوقف لإقبال السلاطين وولاة الأمور في الدولة العثمانية على الوقف، وصارت له تشكيلات إدارية تعنى بالإشراف عليه وصدرت تعليمات متعددة لتنظيم شئونه وبيان أنواعه وكيفية إدارته، ولا زال الكثير من هذه الأنظمة معمولا بها إلى يومنا هذا.
فمن الأنظمة التي صدرت في العهد العثماني: نظام إدارة الأوقاف (2) الذي نظم كيفية مسك القيود من قبل مديري الأوقاف، وكيفية محاسبة مدير الأوقاف الجديد لمن سبقه، وتعمير وإنشاء المباني على العقارات الخيرية، وكيف يتم تحصيل حاصلات الوقف وغير ذلك من الأحكام المنظمة لأعماله، وقد اهتم العثمانيون بالأوقاف اهتماما بالغا فتعددت في عصرهم أغراضه وكثرت أهدافه حتى شمل الكثير من الأعمال التي تساعد على بنيان المجتمع وتكافله وما يحتاج إليه من خدمات عامة كبناء الحصون والقلاع وتسليح الجيوش ومن ذلك أيضا وقف الأربطة والبيوت على عابري السبيل وعلى طلبة العلم، وغير ذلك من المقاصد الحسنة التي كان لها الأثر الأكبر في توفير كثير من متطلبات الحياة للناس وتمكين المسلمين من اتصال بعضهم ببعض ودفع الحركة العلمية والثقافية حتى أعجب بأفعالهم كثير من غير المسلمين وتأثروا بأخلاقهم وفي
__________
(1) انظر المرجع السابق (ص \ 15)
(2) صدر هذا النظام في 19 جمادى الآخرة سنة (1280) انظر الوقف في الشريعة والقانون لزهدي يكن (ص \ 185) .(36/201)
هذا يقول السائح (دولوير) في كتابه الذي نشره سنة 1654 (ص 189- 190) : (ولم تنحصر خيرات المسلمين في الأحياء فقط بل امتدت إلى الأموات، وشجعت الدولة العثمانية إقامة بيوت الضيافة التي يستفيد منها كل إنسان مهما كان دينه وتقدم فيها الخدمة لكل من يأتيها حسب حاجته لمدة ثلاثة أيام،، وينشئ بعض الأتراك على جوانب الطرق العيون الجارية لسقاية المسافرين) .
ويسهب بعد ذلك في بيان كثير من الأمور التي كان يفعلها الأتراك على سبيل الصدقة والقربة ممتدحا تلك الأعمال.
وقد توالت بعد ذلك القوانين والأنظمة الخاصة بالوقف منذ العهد العثماني إلى يومنا هذا.
وتعرض الوقف خلال تلك الفترة إلى حملات واسعة تهدف إلى إلغائه وخاصة الأهلي منه.
ففي القرن الثامن فكر (برقوق أتابك) بإبطال الأوقاف الأهلية، وقد عقد مجلسا من العلماء لاستفتائهم في ذلك.
ويرى البعض أن فكرة برقوق كانت تقتصر على إبطال أوقاف الأمراء السابقين (1) فقط أما في العصر الحاضر فقد كان موضوع إلغاء الوقف الذري مدار جدل محتدم بين مؤيد ومعترض.
وحجة مؤيدي الإلغاء أنه يساعد على البطالة والتسكع بين المستفيدين.
وعند النظرة الأولى لهذه الحجة نجد أنها مقبولة في ظاهر الأمر، ولكن عند إمعان النظر والتركيز على الأسباب الحقيقية لهذه الدعوى نجد أنها
__________
(1) انظر أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية للكبيسي (1 \ 46- 47) .(36/202)
مرفوضة من أساسها. وما كانوا ليقولوا هذه المقالة لو أنه نظام مستورد من شرق أو من غرب، ولكنه الإسلام الذي أصبح غرضا يرمى وهدفا يقصد ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولو أن أصحاب هذه المقالة وضعوا الحلول المناسبة لمواطن البطالة الأخرى بين الناس، تلك التي خلفت لنا صفوفا متراصة في الأندية والمقاهي ودور اللهو التي امتلأت بالعاطلين مع الاهتمام البالغ بما يعين على ذلك ويشجع على ارتياد تلك الأماكن بشتى الأساليب وعلى أعلى المستويات، لو فعلوا ذلك لما وجدوا لتلك الحجة من أثر.
غير أنهم قصدوا إزالة نظام الوقف الذري الذي ندب إليه الشرع ليقضوا بذلك على الترابط الأسري بين المسلمين مما يعينهم على هدم الأسرة المسلمة الذي يسعون إليه (1) .
ومع التسليم جدلا بما قالوا فليس ذلك بسبب الوقف نفسه وإنما هو راجع إلى الأسلوب المتبع في ذلك الوقف مما أخرجه عن مقصده الأساسي.
فلوا أننا أعدنا النظر وجددنا الأساليب بما يحقق المصلحة الشرعية من الوقف لزالت تلك العيوب.
ومع ذلك فقد أثبتت الأيام أن لأصحاب تلك الفكرة قوة استطاعت تنفيذها في كثير من بلاد المسلمين، وهكذا تكون الحال إذا تولى الأمر غير أهله من الفسقة والمنافقين وعملاء أعداء المسلمين.
__________
(1) المرجع السابق (1 \ 47) .(36/203)
الفصل الثالث
في أهداف الوقف وحكمة مشروعيته
يطلق فقهاء المسلمين (الحكمة من الشيء) ويريدون بذلك ما يسمى في الاصطلاح الحديث (الهدف من الشيء) والهدف من الشيء هو السبب المبين لمصلحة ومزية الشيء المراد.
الوقوف على حكمة الشيء من دواعي القناعة والاطمئنان إلى صحته وأهمية ما يحصل بسببه من منافع. وقبل أن نقف على أهداف الوقف والحكمة منه ينبغي لنا أن نتصور الأمور التالية:
1 - أن الإسلام دين شامل لكل ما يعود بالنفع على الإنسان سواء في أمور دينه أو دنياه.
2 - أن ذلك الشمول يتمشى مع متطلبات المرء بما يحقق له العزة والكرامة في الدارين.
3 - أن أحكام الإسلام جاءت متفقة مع حاجته سليمة من كل عيب أو نقص يخل بها عند تطبيقها لأنها كلها جاءت من عند الحكيم العليم الذي يعلم بحكمته ما يصلح له وما لا يصلح فأرشده إلى ما فيه الخير كل الخير، وحذره عما فيه الشر.
4 - أن الشريعة الإسلامية جاءت لتحقيق مصالح العبد سواء في أمور دينه أو في مصالحه الدنيوية التي يتمتع بها في حياته ويستعين بها على تأدية ما وجب عليه تجاه خالقه ومنشئه.
5 - أن الإنسان مهما أوتي من ذكاء وفطنة ودراية فأحكامه عبارة عن نظريات قابلة للصواب والخطأ غير ملائمة لكل المجتمعات، وعلى هذا فكل ما وضعه من حلول لمشاكل المجتمع فإنه ينطبق عليه هذا الوصف.
فكل هذه الأمور مجتمعة تجعلنا نجد أن في الوقف الذي أقره الشرع(36/204)
الحنيف تحقيقا لكثير من المصالح الدينية التي تعود على الموقف في الآخرة كما أن فيه معالجة حقيقية لكثير من احتياجات المجتمع الدنيوية التي لا غنى له عنها فإن المسلم مأمور وموعود، مأمور بالإنفاق للتوسعة على من هو في حاجة من العباد ولرفع الضيق والحرج والمشقة عنهم، ولتهيئة سبل الراحة والطمأنينة للمسلمين، وموعود مقابل ذلك بالأجر الجزيل من الله سبحانه وتعالى.
ولهذا نجد أن الله سبحانه وتعالى- قد رغب في البذل والإنفاق في كثير من الآيات في القرآن الكريم. قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (1) وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (2) . وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (3) .
كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد حث على التصدق وفعل المعروف وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (4) » .
وهناك آيات وأحاديث كثيرة حثت على التصدق والبذل والإنفاق في وجوه البر والإحسان، ولسنا في صدد حصرها ولكن يكفينا ما ذكرناه لإظهار ترغيب الشريعة الإسلامية بهذا الأمر.
والإنسان حبب إليه تملك المال وجمعه والحرص عليه وأقرت الشريعة الإسلامية الملكية الفردية بعد أن جعلت لها قواعد معينة لكي تتلاءم تلك الملكية مع الواقع الفعلي لبنى البشر بما يحفظ لكل حقه من غير ظلم لأحد على
__________
(1) سورة آل عمران الآية 92
(2) سورة البقرة الآية 245
(3) سورة البقرة الآية 261
(4) صحيح مسلم الوصية (1631) ، سنن الترمذي الأحكام (1376) ، سنن النسائي الوصايا (3651) ، سنن أبو داود الوصايا (2880) ، مسند أحمد بن حنبل (2/372) ، سنن الدارمي المقدمة (559) .(36/205)
حساب الآخر لأن الناس متفاوتون في الإمكانات والقدرات، فمنهم من تتهيأ له الظروف فينال نصيبا وافرا من المال بسبب ما يسره الله له.
وصنف آخر قل نصيبه أو عدم لسبب آخر قد يكون مرجعه عوامل طبيعية كقلة الموارد، وقد يكون مرجعه الشخص نفسه وما جبله الله عليه من قدرة وطاقة، أو لعاهة فيه ابتلي بها ومنعته من القيام على أمور نفسه كالآخرين. ولهذا نجد أن الإسلام حافظ على الملكية الفردية وجعلها حقا من حقوق المرء ولكنه مقابل ذلك لم يترك الفئة الأخرى التي قدر لها عدم المقدرة على تحصيل المال. فجعل لتلك الفئة نصيبا مما في أيدي أصحاب الأموال لكي يحصل التوازن بين بني البشر وتظهر حكمة الله وعدله بين خلقه. فجاء ضمان هذا الحق لتلك الفئة بأسلوبين:
أحدهما: إلزامي وهو الحق المتمثل في الزكاة الواجبة على أصحاب الأموال لتلك الفئة، ولسنا بصدد الحديث عنها، الثاني: أسلوب تطوعي رغب الإسلام به وحث عليه وهو أنواع الصدقات الأخرى، والوقف نوع من أنواع الصدقات، وقد تركت الشريعة الإسلامية للمالكين سعة من أمرهم في أن يحققوا ما يرونه مناسبا من أوجه الإنفاق.
وإذا كان الدين الإسلامي لا يفرض هذا الأسلوب كما فرض الأسلوب الأول، فإنه بلا شك يحبذه ويستحسنه كما يستحسن سائر أعمال البر الأخرى.
فقد أمر الإسلام بكل ما يقوي عرى الصلة والتراحم بين المسلمين ويحقق التكافل فيما بينهم، وحض على التعاون والتكاتف في كل سبل الخير والبر والمعروف، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) .
ودعوة الإسلام إلى التعاون فيما بين المجموعة لا يترتب عليه مردود عكسي على الترابط الخاص فيما بين الأقارب والأسر بل إن الإسلام دعا إلى مراعاة ذلك وقدمه على الترابط العام بين المسلمين قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (2) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة الأنفال الآية 75(36/206)
والوقف فيه تحقيق لكلا الغرضين، التكافل العام بين المسلمين، والتكافل الخاص في نطاق الأسرة الواحدة.
ولما كان المال محببا إلى النفوس ويصعب على المرء التفريط فيه، فقد شرع الإسلام حبس عين المال، والتصدق بمنفعتها وفي هذا تحقيق لرغبة الإنسان المتمشية مع ما جبل عليه من حرص على المال، وذلك لأن عين ماله باقية في الوقف ليس لأحد التصرف فيها.
كما أن في ذلك تحقيقا لنفع الآخرين بريع هذا المال، ومراعاة لحالهم، وفيه أيضا تحقيق لحصول الأجر والثواب لصاحب ذلك المالك الموقوف (1) . فاجتمع بذلك تحقيق الرغبتين وتعميم النفع للجميع.
كما أن في الوقف تحقيقا لمصالح الأمة وتوفيرا لاحتياجاتهم ودعما لتطويرها ورقيها، وذلك بما يوفره من دعم لمشروعاتها الإنمائية، وأبحاثها العلمية، وذلك أن الوقف لا يقتصر على الفقراء وحدهم وإنما يمتد نفعه ليشمل كثيرا من المجالات التي تخدم البشرية.
ومن خلال هذا العرض الموجز لتلك التصورات يمكننا أن نوضح الهدف العام للوقف، والأهداف الخاصة له، ولو أن مجالات الوقف واسعة ومتجددة يصعب الإلمام بها ووضعها تحت عبارة تشملها، ولكنني سوف أبين الأهداف التي وقفت عليها أو استنبطتها من الواقع الفعلي لما يحققه الوقف من مصالح مراعيا في ذلك الشمولية في الألفاظ ليدخل تحتها ما يستجد من مجالات خيرة وما يبتكر من وسائل للاستفادة من الوقف مستقبلا في تحقيقها.
__________
(1) انظر أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية للكبيسي (1 \ 136) .(36/207)
الهدف العام للوقف:
هو إيجاد مورد دائم ومستمر لتحقيق غرض مباح من أجل مصلحة معينة.
فالإيجاد هو الإنشاء لشيء لم يكن موجودا إنشاء اختياريا، والمورد هو(36/207)
المصدر الذي يزود منه غيره جمعه موارد وهي المناهل، واحترز (بدائم) عن عدم التأبيد في الوقف و (بالاستمرار) بعدم توقيته بوقت معين، واحترز (بالمباح) عن الوقف على المحرمات واحترز (بالمصلحة المعينة) من الوقف على ما لا نفع فيه وعلى غير المعين.(36/208)
الأهداف الخاصة للوقف:
للوقف عند المسلمين عدة أهداف خيرية واجتماعية حميدة، منها ما يقصد به المجتمع ومنها ما يقصد به حماية الأسر وتلاحمها وترابطها وتعاونها على البر والتقوى بصفتها اللبنة الأولى للمجتمع ومنها ما يعود على الموقف نفسه من أجر وثواب يناله بسبب الوقف وإليك أهم أهداف الوقف:
1 - تحقيق مبدأ التكافل بين الأمة المسلمة وإيجاد التوازن في المجتمع فإن الله - سبحانه وتعالى- جعل الناس مختلفين في الصفات متباينين في الطاقة والقدرة، والوقف عامل من عوامل تنظيم الحياة بمنهج حميد يرفع من مكانة الفقير ويقوي الضعيف، ويعين العاجز، ويحفظ حياة المعدم، من غير مضرة بالغني ولا ظلم يلحق بالقوي، وإنما يحفظ لكل حقه بغاية الحكمة والعدل، فتحصل بذلك المودة وتسود الأخوة ويعم الاستقرار، وتتيسر سبل التعاون والتعايش بنفوس راضية مطمئنة.
2 - في الوقف ضمان لبقاء المال ودوام الانتفاع به والاستفادة منه مدة طويلة، فإن الموقوف محبوس أبدا على ما قصد له لا يجوز لأحد أن يتصرف به تصرفا يفقده صفة الديمومة والبقاء.
3 - في الوقف استمرار للنفع العائد من المال المحبس، فثوابه مستمر لموقفه حيا أو ميتا وداخل في الصدقة الجارية التي أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنها من العمل الذي لا ينقطع، وهو أيضا مستمر النفع للموقوف عليه ومتجدد الانتفاع منه أزمنة متطاولة (1) . قال الدهلوي (استنبطه - أي
__________
(1) المرجع السابق (1 \ 138) .(36/208)
الوقف- النبي - صلى الله عليه وسلم - لمصالح لا توجد في سائر الصدقات فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالا كثيرا ثم يفنى فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى، ويجئ أقوام آخرون من الفقراء فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبسا للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم منافعه ويبقى أصله) (1) .
4 - للوقف هدف أعلى وأسمى من بقية الأهداف وهو امتثال أمر الله - سبحانه وتعالى- بالإنفاق والتصدق والبذل في وجوه البر. كما في الآيات التي سبق ذكرها وغيرها من الآيات المماثلة، كما أن فيه امتثالا لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصدقة وحثه عليها.
5 - في الوقف تحقيق لأهداف اجتماعية واسعة وأغراض خيرية شاملة كدور العلم والوقف على طلبة العلوم الشرعية والعلوم المباحة التي تعود بالنفع على المسلمين والتي هي من متطلبات المجتمع المسلم، وما يتبع ذلك من أبحاث ودراسات تكون من وسائل تنمية المجتمع المسلم وإغنائه عما بيد عدوه.
وقد قام على الوقف جامعات علمية نشرت نورها على الأرض، وحملت رسالة الإسلام إلى الناس، وبسبب الوقف وحده نشطت في البلاد الإسلامية حركة علمية منقطعة النظير غير متأثرة بالأحداث السياسية والاجتماعية التي سادت بلاد المسلمين. فوفرت للمسلمين نتاجا علميا ضخما وتراثا إسلاميا خالدا، وفحولا من العلماء لمعوا في التاريخ العالمي كله (2) .
فمن الوقف يمكن إيجاد مؤسسات وقفية تعمل بحرية كاملة بعيدا عن المؤثرات الخارجية تؤدي غرضا أو أغراضا متعددة تخدم المجتمع، وتساهم في
__________
(1)) انظر حجة الله البالغة (2 \ 116) .
(2) انظر أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية للكبيسي (1 \ 138) .(36/209)
نشر الإسلام وتبلغ رسالته تدعم تلك المؤسسات الوقفية من قبل من يسر الله لهم أموالا تزيد عن حاجتهم.
كما أن في تلك المؤسسات تحقيقا لغرض كثير من الأفراد الذين يرغبون في فعل الخير ولكن أعمالهم والتزاماتهم تمنعهم من ذلك أو ليس لديهم الخبرة الكافية للقيام بتلك الأعمال فإذا وجد من يخدمهم باستغلال ما ينفقونه على سبل الخير من المتخصصين في مجال الاستفادة به بما يحقق الغاية منه دفعهم هذا إلى كثرة الإنفاق لاطمئنانهم إلى أن عائد ما ينفقونه سوف يصرف في مصرفه السليم.
6 - بالوقف يمكن للمرء أن يؤمن مستقبله ومستقبل ذريته بإيجاد مورد ثابت يضمنه ويكون واقيا لهم عن الحاجة والعوز والفقر، فقد جبلت النفس البشرية على الحرص على المال وفي الوقف وسيلة مباحة لتحقيق تلك الرغبة.
7 - في الوقف وسيلة لحصول الأجر والثواب من الله تعالى وتكثيرها. كما أن فيه وسيلة للتكفير عن الذنوب ومحوها، وفي الكل تحقيق للراحة والطمأنينة النفسية في الدنيا، والفوز بنتائج ذلك في الدار الآخرة.
8 - في الوقف حماية للمال ومحافظة عليه من عبث العابثين كإسراف ولد أو تصرف قريب، فيبقى المال وتستمر الاستفادة من ريعه، ويدوم جريان أجره له.
9 - وأيضا في الوقف بر للموقوف عليه وقد حث الشرع الكريم على البر ورغب فيه ففي البر تدوم الصلة وتنقطع البغضاء ويتحاب الناس فتسمو الهمم وتأتلف القلوب وتتعاون على الأمور النافعة وتتجنب الكيد للآخرين وتتجه إلى العمل المنتج النافع. كما أن ذلك من أسباب ترابط الأسرة الواحدة وتماسكها وهي اللبنة الأولى للمجتمع.
10 - في الوقف تطويل لمدة الانتفاع من المال ومد نفعه إلى أجيال متتابعة، فقد تتهيأ السبل لجيل من الأجيال لجمع ثروات طائلة ولكنها قد(36/210)
لا تتهيأ للأجيال التي تليه فعن طريق الوقف يمكن إفادة تلك الأجيال اللاحقة بما لا يضر الأجيال السابقة.
وسبق قول زيد بن ثابت - رضي الله عنه- (لم نر خيرا للميت ولا للحي من هذه الحبس الموقوفة، أما للميت فيجري أجرها عليه وأما الحي فتحبس عليه ولا توهب ولا تورث ولا يقدر على استهلاكها) .
11 - الحاجة ماسة إلى الوقف ففيه تحقيق لكثير من الأهداف والأغراض التي ذكرنا، وبعدمه يحرم المجتمع منها (1) .
__________
(1) انظر الإسعاف في أحكام الأوقاف (ص 2) .(36/211)
الفصل الرابع
في حكم الوقف وبيان مشروعيته
للعلماء في مشروعية الوقف مذاهب: فمنهم من أجازه مطلقا ومنهم من منعه مطلقا ومنهم من أجازه في حال ومنعه في أخرى.
فذهب الجمهور من العلماء: إلى أن الوقف جائز شرعا في كل شيء ينتفع به ويجوز فيه الملك.
وهو قول الحنابلة (1) والمالكية (2) والشافعية ورواية عن أبي حنيفة (3) . مع اختلاف بينهم في بعض الشروط على ما سيأتي تفصيله.
وذهب آخرون إلى منع الوقف مطلقا، وهو قول: شريح وأبي حنيفة في رواية عنه، وهو مذهب أهل الكوفة.
وذهب آخرون إلى جوازه في الكراع والسلاح فقط، وروي هذا القول عن ابن مسعود، وعلي، وابن عباس - رضي الله عنهم - (4) .
ويحسن بنا هنا سرد ما استدل به كل فريق على رأيه، فنقول وبالله التوفيق:
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة (5 \ 597- 599) والمبدع لابن مفلح (312) .
(2) انظر المدونة الكبرى (6 \ 98) .
(3) انظر المجموع شرح المهذب (14 \ 216) . وانظر بدائع الصنائع (6 \ 218) حاشية ابن عابدين (3 \ 494) .
(4) انظر المحلي (10 \ 174) ، أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية للكبيسي (1 \ 99) .(36/212)
أولا: أدلة الجمهور:
أولا: استدلوا بأدلة عامة شملت جميع أنواع التبرعات ومنها الوقف:(36/212)
1 - منها قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (1) آل عمران (92) أي من الصدقات والوقف منها فهو مندوب إليه.
قال القرطبي: عند تفسير هذه الآية (ففي هذه الآية دليل على استعمال ظاهر الخطاب، وعمومه، فإن الصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين- لم يفهموا من فحوى الخطاب حين نزلت الآية غير ذلك) انظر: تفسير القرطبي (4: 132) ، وتفسير ابن كثير (3: 138) .
2 - ومثل الآية الماضية بهذا المعنى:
قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) سورة الحج آية: 77. وقوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} (3) سورة آل عمران آية: 115. وقوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} (4) سورة البقرة آية: 280.
3 - ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (5) » .
وقال في كفاية الأخيار: (1: 603) بعد ذكر هذا الحديث: (وحمل العلماء الصدقة الجارية على الوقف، قال جابر رضي الله عنه: ما بقي أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له مقدرة إلا وقف) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 92
(2) سورة الحج الآية 77
(3) سورة آل عمران الآية 115
(4) سورة البقرة الآية 280
(5) تقدم تخريجه في المقدمة.(36/213)
ثانيا: استدلوا بأدلة نصت عن جواز الوقف كوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك:
1 - ما ورد عن عمرو بن الحارث أنه قال: «ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته(36/213)
درهما، ولا دينارا، ولا عبدا، ولا أمة، ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة (1) » .
وهذا فيه التصريح بجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأرض صدقة ولا يتأتى ذلك إلا بحبسها على ما هي عليه، وهذا هو الوقف.
2 - أخرج أبو داود في كتاب الخراج والفيء والإمارة باب في صفايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأموال (3: 141) رقم (2967) من طرق عن أسامة بن زيد عن الزهري عن مالك بن أوس الحدثان قال:
(كان فيما احتج به عمر أنه قال: «كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك، فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه، وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل، وأما خيبر فجزأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أجزاء (2) » . . الحديث.
3 - وروي عن ابن طاوس، عن أبيه أنه قال: أخبرني حجر المدري «أن صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل منها أهله بالمعروف غير المنكر (3) » .
4 - روي عن عائشة - رضي الله عنها- «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل سبع حيطان له بالمدينة صدقة على بني المطلب وبني هاشم (4) » .
وقالوا: تلك الأحاديث نص في جواز الوقف لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) أخرجه البخاري في الوصايا باب (الوصايا) وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وصية الرجل مكتوبة عنده (3 \ 1005 رقم 2588) واللفظ له. وفي الجهاد، باب بغلة النبي البيضاء (3 \ 1054 رقم 2718) نحوه، وفي الجهاد أيضا باب من لم ير كسر السلاح عند الموت (3 \ 1066 رقم 2755) نحوه. وأحمد في المسند (4 \ 279) ، والدارقطني في الأحباس (4 \ 185- 186) . والبيهقي في الوقف باب الصدقات المحرمات (6 \ 160) . كلهم عن عمرو بن الحارث، بروايات عديدة.
(2) الحديث سكت عنه المنذري، انظر مختصر سنن أبي داود (4 \ 216) .
(3) أخرجه ابن أبي شيبه في مصنفه (6 \ 253) ، والخصاف في أحكام الأوقاف (ص 3) وأخرجه الخلال في كتاب الوقف بتحقيقي (1 \ 224) ، انظر نصب الراية (3 \ 479) .
(4) رواه البيهقي في السنن الكبرى (6 \ 160) .(36/214)
ثالثا: استدلوا بما ثبت من وقف أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وموافقته على ذلك وحثه عليه، منها:
1 - ما ورد في وقف عمر بن الخطاب المشهور «أنه تصدق بمال له يقال له ثمغ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان نخلا فقال عمر يا رسول الله إني استفدت مالا وهو عندي نفيس فأردت أن أتصدق به فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن ينفق ثمره) فتصدق به عمر (1) » وفيه أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - له وهو صريح في ذلك.
قال النووي في الكلام على هذا الحديث: (فيه دليل على صحة أصل الوقف وأنه مخالف لشوائب الجاهلية) (2) .
2 - ما ورد في وقف عثمان بن عفان - رضي الله عنه- لبئر رومة حين قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «من يشتري بئر رومة فيكون دلوه فيها كدلاء المسلمين فاشتراها عثمان - رضي الله عنه - (3) » .
3 - ما ورد أيضا في وقف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- فقد روى جعفر بن محمد عن أبيه أن علي بن أبي طالب قطع له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- ينبع ثم اشترى على قطيعة عمر أشياء فحفر فيها عينا فبينما هم يعملون تفجر عليهم مثل عنق الجزور من الماء فأتى علي وبشر بذلك فقال بشر الوارث ثم تصدق بها على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وابن السبيل القريب والبعيد وفي السلم والحرب. . . الحديث (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الوصايا (3 \ 1017) رقم (2613) ومسلم نحوه في كتاب الوصية (3 \ 1255) رقم (1632) ، والنسائي في الأحباس (6 \ 230) ، والترمذي في الأحكام (2 \ 417) ، وابن ماجه في الأحكام (2 \ 54) ، وابن أبي شيبة في مصنفه (6 \ 252) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4 \ 95) ، والبيهقي في السنن (6 \ 159) .
(2) انظر شرح النووي لصحيح مسلم (11 \ 86) .
(3) رواه البخاري تعليقا في الشرب (2 \ 829) ، وفي الوصايا (3 \ 1021) ، والترمذي في المناقب (5 \ 288) ، والنسائي في الأحباس (6 \ 233) .
(4) رواه البيهقي في السنن الكبرى (6 \ 161) ، والخلال في كتاب الوقوف بتحقيقي (1 \ 220) .(36/215)
وفيه أنه تصدق بأملاكه بينبع على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وابن السبيل.
4 - ورد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- أنه قال: «كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت هذه الآية قام أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: وإن أحب أموالي إلي (بيرحاء) وأنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله؛ فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه (3) » .
5 - ما ورد عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- أنه قال: «لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أمر بالمسجد وقال: يا بني النجار ثامنوني حائطكم هذا فقالوا لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله (4) » .
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة باب الزكاة في الأقارب (2 \ 530 رقم 1392) واللفظ له. وفي الوكالة، باب إذا قال الرجل لوكيله ضعه حيث أراك الله (2 \ 814 رقم 2193) . وفي الوصايا باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه (3 \ 1011 رقم 2601) . وفي باب من تصدق إلى وكيله ثم رد الوكيل إليه، بهذا السياق الذي ذكرناه (3 \ 1014 رقم 2707) . وفي باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز (3 \ 1019 رقم 2617) . وفي التفسير باب (لن تنالوا البر. إلى.. به عليم) (4 \ 1659 رقم 4279) . وفي الأشربة باب استعذاب الماء (5 \ 2128 رقم 5288) . ومسلم في الزكاة باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين (2 \ 693 رقم 998) و (2 \ 694) ومالك في الموطأ في كتاب الجامع باب الترغيب بالصدقة (ص 703 رقم 1828) . وأحمد والمسند مثله (3 \ 141) ، ومختصرا في (3 \ 262) . والدارمي في الزكاة، باب أي الصدقة أفضل؟ بهذا اللفظ (1 \ 390) . والدارقطني في الأحباس باب كيف يكتب الحبس (4 \ 191) كلهم عن أنس بن مالك- رضي الله عنه.
(2) سورة آل عمران الآية 92 (1) {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(3) سورة آل عمران الآية 92 (2) {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(4) أخرجه البخاري في الصلاة، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية؟ (1 \ 165 رقم 418) وفي أبواب فضائل المدينة باب حرم المدينة (2 \ 661 رقم 1769) وفي البيوع باب صاحب السلعة أحق بالسوم (2 \ 742 رقم 2000) . وفي الوصايا باب إذا وقف جماعة أرضا مشاعا فهو جائز (3 \ 1019 رقم 2619) . وفي باب الأرض للمسجد (3 \ 1020 رقم 2622) . وفي باب إذا قال الواقف لا نطلب ثمنه إلا إلى الله فهو جائز (3 \ 1022 رقم 2627) .(36/216)
6 - ما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أنه قال: «بعث النبي- صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب على الصدقات فمنع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا وقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس، عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي علي ومثلها. - وفي لفظ عند البخاري - هي عليه ومثلها معها (1) » .
فقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد على حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، ولو كان ذلك غير جائز لما أقره النبي - صلى الله عليه وسلم -.
7 - ما ورد عن هشام بن عروة أن الزبير جعل دوره صدقة قال: (وللمردودة من بناتي أن تسكن غير مضرة ولا مضر بها فإن استغنت بزوج فلا شيء لها) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الزكاة باب في قوله تعالى (وفي الرقاب. . . إلى. . . وفي سبيل الله) التوبة (60) . ومسلم في الزكاة؛ باب وتقديم الزكاة ومنعها (2 \ 676 رقم 983) وأبو داود والزكاة (باب في تعجيل الزكاة (2 \ 115 رقم 1623) والنسائي والزكاة (باب إعطاء السيد المال بغير اختيار المصدق) (5 \ 33) وأحمد في المسند (2 \ 322) والبيهقي في السنن الكبرى (6 \ 163)(36/217)
رابعا: استدل الجمهور بإجماع العلماء من السلف ومن بعدهم على القول بصحة الوقف.
قال ابن قدامة في المغني: (5: 597- 598) (وأكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحة الوقف قال جابر: لم يكن أحد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ذو مقدرة إلا وقف، وهذا إجماع منهم فإن الذي قدر على الوقف وقف واشتهر ذلك فلم ينكره أحد فكان إجماعا.
وقال القرطبي: في تفسيره (3: 339) فإن المسألة إجماع من الصحابة، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص والزبير وجابر كلهم أوقفوا الأوقاف.(36/217)
وقال الشوكاني: في نيل الأوطار (6: 26) (وقد ذهب إلى جواز الوقف ولزومه جمهور العلماء، قال الترمذي لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافا في جواز وقف الأرضين) .
وقال في موضع آخر: (6: 24) (ويدل عليه إجماع المسلمين على صحة وقف المساجد والسقايا) .
فهذه النقول تدل على إجماع الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم على الوقف وصحته وأنه مشروع بل مندوب إليه.(36/218)
ثانيا: أدلة الفريق الثاني. وهم القائلون بجواز الوقف في السلاح والكراع فقط.
1 - حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وكان ينفق على أهله نفقة سنته ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله (1) » .
ورد الاستدلال بهذا الحديث بأن ذلك لا يعني منع الوقف في غير السلاح والكراع كما أنه - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه الوقف في غير السلاح والكراع على ما سبق في أدلة الجمهور كما في رواية عمرو بن الحارث المتقدمة في (1 \ 2) من أدلة الجمهور وكما في رواية عائشة المتقدمة في (4 \ 2) من أدلة الجمهور فوجب الأخذ بها.
2 - ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (6: 250) وابن حزم في المحلى (10: 174) من طريق ابن فضيل عن مطرف عن رجل عن القاسم قال: قال عبد الله بن مسعود: (لا حبس إلا في كراع أو سلاح) .
ورد الاستدلال به: بأنه لم يثبت ذلك عنه، وأن تلك الرواية باطلة لسببين:
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد (3 \ 1064) رقم (2748) ، وفي الخمس (3 \ 1127) رقم (2927) وفي المغازي (4 \ 479) رقم (3809) ، وفي التفسير (4 \ 1852) رقم (4603) ، وفي النفقات (5 \ 5049) رقم (5043) ، وفي الفرائض (6 \ 2475) رقم (3647) ، وفي الاعتصام بالكتاب والسنة (6 \ 2664) ، رقم (6875) ومسلم في الجهاد (3 \ 1376) ، رقم (1757) ، وأبو داود في الإمارة (3 \ 141) ، رقم (2960) ، والترمذي في والجهاد (3 \ 131) ، رقم (1773) ، والنسائي في الفيء، (7 \ 132) وأحمد في المسند (1 \ 25-48) .(36/218)
1 - أنها عن رجل لم يسم.
2 - أن والد القاسم ناقل الرواية لا يحفظ عن أبيه فقد مات أبوه وهو ابن ست سنين فكيف بولده (1) وعلى فرض صحته فلا يقابل ذلك ما ثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
3 - وروى ابن أبي شيبة في مصنفه (6: 250) قال: حدثنا هشيم عن إسماعيل بن خالد عن الشعبي قال: قال علي لا حبس عن فرائض الله إلا ما كان من سلاح أو كراع.
وهذا مردود بمخالفته الواقع وفعل علي - رضي الله عنه- فإن وقفه (ينبع) مشهور وقد تقدم في أدلة الجمهور.
ويمكن أن يقال: إنه قصد أن الأفضل أن يكون الوقف في السلاح والكراع، ولا يمتنع فيما سواه.
ثالثا: أدلة الفريق الثالث: وهم القائلون بمنع الوقف مطلقا هي:
1 - استدلوا بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (2) المائدة 103.
فقد عاب الله سبحانه وتعالى على العرب ما كانت تفعله، من تسييب البهائم وحمايتها عن الانتفاع بها والوقف مثل ذلك.
ورد الاحتجاج بالآية: بأن الله سبحانه وتعالى إنما عاب عليهم أن تصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم، أو تكليف فرض عليهم في قطع طريق الانتفاع وإذهاب نعمة الله وإزالة المصلحة للعباد في تلك الإبل ونحوها. وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والوقوف لأنه إنما قصد بها نفع العباد (3) .
ثم إن الوقف غرضه الانتفاع بمنافعه من قبل الموقوف عليهم على عكس إهدار المنافع فيما ذكر في الآية الكريمة.
__________
(1) انظر المحلى (10 \ 174)
(2) سورة المائدة الآية 103
(3) راجع تفسير القرطبي (3 \ 338- 339) .(36/219)
2 - ما روي «أن عبد الله بن زيد بن عبد ربه جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن حائطي هذا صدقة وهو إلى الله تعالى ورسوله، فجاء أبواه فقالا: يا رسول الله كان قوام عيشنا فرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهما، ثم ماتا فورثهما بعدهما (1) » .
ورد هذا الحديث بما قاله البيهقي بعد روايته للحديث حيث قال: (هذا مرسل) ، وعلى فرض صحته فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبطله بسبب أنه جميع ما يملك، وليس لأحد أن يضر بنفسه وبمن يعول بسبب الوقف.
قال ابن قدامة: في المغني (5 \ 599) في معرض الرد على الحديث: (وحديث عبد الله بن زيد إن ثبت فليس فيه ذكر الوقف والظاهر أنه جعله صدقة غير موقوفة استناب فيها رسول - صلى الله عليه وسلم - فرأى والديه أحق الناس بصرفها إليهما، ويحتمل أن الحائط كان لهما وكان هو يتصرف فيه بحكم النيابة فتصرف بهذا التصرف بغير إذنهما فلم ينفذاه فأتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فرده إليهما) .
وقال ابن حزم في المحلى (10 \ 179) بعد ذكره الحديث: (لا حجة لهم فيه لوجوه) : أولها: أنه منقطع، والثاني: أن فيه أنه قوام عيشهم وليس لأحد أن يتصدق بقوام عيشه بل هو مفسوخ إن فعله) .
3 - روى الدارقطني (4: 68) قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز أخبرنا كامل بن طلحة أخبرنا ابن لهيعة أخبرنا عيسى بن لهيعة عن عكرمة قال: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ما أنزلت سورة النساء، وفرض فيها الفرائض يقول: «لا حبس بعد سورة النساء (2) » .
__________
(1) أخرجه الدارقطني من عدة طرق في الأحباس (4 \ 200- 201) . وابن حزم في المحلى (10 \ 178) والبيهقي في السنن الكبرى (6 \ 163) من طريق أبي بكر بن حزم عن عبد الله زيد بن عبد ربه. وقال: (هذا مرسل، أبو بكر بن حزم لم يدرك عبد الله بن زيد. وروي من أوجه أخر عن عبد الله بن زيد كلهن مراسيل) .
(2) ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4 \ 97) وابن حزم في المحلى (10 \ 178) والبيهقي في السنن الكبرى (6 \ 162) . كلهم من طريق ابن لهيعة عن عيسى بن لهيعة وهما ضعيفان.(36/220)
وهو ضعيف بل قال ابن حزم: في المحلى (10: 178) بأنه حديث موضوع.
وبيان تقرير وضعه: أن آية المواريث أو بعضها نزلت بعد أحد وحبس الصحابة بعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد خيبر أي بعد نزول آية المواريث وهذا متواتر.
ولو صح الخبر لكان منسوخا لاستمرار الحبس بعلمه - صلى الله عليه وسلم - إلى أن مات.
4 - وروى الدارقطني أيضا (4: 68) عن ابن عباس قال قال: - صلى الله عليه وسلم - «لا حبس عن فرائض الله عز وجل (1) »
وهو ضعيف أيضا وبمثل ما قيل في الذي قبله يقال فيه.
وعلى فرض صحته فليس فيه ما يؤيد دعواهم لأن الوقف ليس حبسا عن فرائض الله، وإنما هو تصرف في العين حال الحياة كما يتصرف في الصدقة والهبة ونحو ذلك. ولأن معناه إبطال ما كان سائدا في الجاهلية من حبس الأموال والنساء، وتسييب السيب ونحو ذلك.
قال أبو الطيب: في التعليق المغني على الدارقطني (4: 68) (وكأنه أشار إلى فعلهم في الجاهلية من حبس مال الميت ونسائه كانوا إذا كرهوا النساء لقبح أو قلة مال حبسوهن عن الأزواج لأن أولياء الميت أولى بهن عندهم) .
وقال الطرابلسي في كتاب الإسعاف في أحكام الأوقاف (ص: 13) (وأما الجواب على قوله - صلى الله عليه وسلم - «لا حبس عن فرائض الله» فنقول: إنه محمول على أنه لا يمنع أصحاب الفرائض عن فروضهم التي قدرها الله لهم في سورة النساء بعد الموت بدليل نسخها لما كانوا عليه من حرمانهم الإناث قبل نزولها وتوريثهم بالمواخاة والموالاة مع وجودهن.
__________
(1) وأخرجه أيضا البيهقي في السنن الكبرى (6 \ 162) وقال لم يسنده غير ابن لهيعة عن أخيه وهما ضعيفان. وقال: (هذا اللفظ إنما يعرف من قول شريح القاضي)(36/221)
5 - قول شريح القاضي (جاء محمد ببيع الحبس) وهو دليل على إبطال الوقف.
ورد الاستدلال به من وجوه:
أحدها: أنه منقطع فلا تقوم به حجة بل الصواب عكسه فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بإثبات الحبس وإقرارها كما تقدم في وقف عمر - رضي الله عنه-.
الثاني: أنه خلاف الواقع فلم يكن الوقف يعرف في الجاهلية بصفته بعد النبوة بل هو تشريع إسلامي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كما جاء بالصلاة والصيام وباقي التشريعات.
الثالث: أنه محمول على حبس الجاهلية وما كانوا يحبسونه من السوائب والبحائر والحوامي وما أشبهها فنزل القرآن الكريم بإحلال ما كانوا يحرمون منها وإطلاق ما حبسوا بغير أمر الله.
نقل الذهبي أن عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: (حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول: اجتمع مالك وأبو يوسف عند أمير المؤمنين فتكلموا في الوقوف وما يحبسه الناس فقال يعقوب: هذا باطل) .
قال شريح جاء محمد بإطلاق الحبس فقال مالك: إنما أطلق ما كانوا يحبسونه لآلهتهم من البحيرة والسائبة وأما الوقوف: فهذا وقف عمر قد استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «حبس أصلها وسبل ثمرتها (1) » وهذا وقف الزبير فأعجب الخليفة ذلك منه) (2) .
وقال الطرابلسي في كتاب الإسعاف قي أحكام الأوقاف (ص: 14) (قول شريح جاء محمد ببيع الحبس) محمول على حبس الكفرة مثل البحيرة والوصيلة والسائبة والحام) .
__________
(1) صحيح البخاري الوصايا (2764) ، صحيح مسلم الوصية (1633) ، سنن الترمذي الأحكام (1375) ، سنن النسائي الأحباس (3603) ، سنن أبو داود الوصايا (2878) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2397) ، مسند أحمد بن حنبل (2/55) .
(2) انظر سير أعلام النبلاء (8 \ 11) .(36/222)
6 - وروى عطاء بن السائب قال: أتيت شريحا في زمن بشير بن مروان، وهو يومئذ قاض فقلت يا أبا أمية أفتني فقال: يا ابن أخي إنما أنا قاض ولست بمفت قال: فقلت إني والله ما جئت أريد خصومة. إن رجلا من الحي جعل داره حبسا قال عطاء: فدخل من الباب الذي في المسجد في المقصورة فسمعته حين دخل وتبعته وهو يقول لحبيب الذي يقدم الخصوم إليه (أخبر أنه لا حبس عن فرائض الله) (1) .
وقد سبق الجواب على الرواية المذكورة بهذا اللفظ عن ابن عباس. قال ابن حزم: في المحلى (10: 177) بعد أن ساق قول شريح هذا:
(وأما قوله (لا حبس عن فرائض الله) فقول فاسد، لأنهم لا يختلفون في جواز الهبة، والصدقة في الحياة والوصية بعد الموت، وكل هذه مسقطة لفرائض الورثة عما لو لم تكن فيه لورثوه على فرائض الله عز وجل، فيجب بهذا القول إبطال كل هبة وكل وصية لأنها مانعة من فرائض الله تعالى بالمواريث) .
اعتراض وجوابه:
قال المانعون: يحتمل أن تكون أوقاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قبل نزول آية المواريث. وأن ما كان بعد ذلك يحتمل أن ورثتهم أمضوه بالإجازة.
وهذا مردود من وجوه:
الأول: أنه بالرجوع إلى نزول آية المواريث نجد أنها نزلت في أوس بن ثابت الأنصاري - رضي الله عنه- فقد مات فجاء ابنا عمه وأخذا الميراث ولم يتركا لامرأته وأولاده شيئا كما هي عادة أهل الجاهلية.
فتشكتهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله هذه الآية.
وذكر القرطبي في تفسيره (5: 58) بعض الروايات في سبب نزول هذه الآية غالبها قريبة من قصة أوس بن ثابت.
__________
(1) رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار (4 \ 99) . والبيهقي في السنن الكبرى (6 \ 162) واللفظ له.(36/223)
وأوس قتل في أحد وأحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة النبوية ووقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ووقف عمر كان في خيبر وقد كان فتحها سنة سبع من الهجرة النبوية الشريفة (1) .
فنتبين من هذا أن نزول آية المواريث كان قبل وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ووقف عمر - رضي الله عنه - فانتفي ما قالوه.
الثاني: قولهم يحتمل أن ورثتهم أجازوه مردود بأن عمر وعثمان وعليا - رضي الله عنهم- تركوا بعد وفاتهم أبناء لهم صغارا فلو كان الحبس غير جائز لما حل ترك أنصباء الصغار تمضي حبسا. انظر: المحلي لابن حزم (10- 185) .
ولو علم الصحابة أن الوقف لا ينفذ إلا بالإجازة من قبل الورثة. لأخرجوا الوقف مخرج الوصية، ولم يتصرفوا بالغلة حال حياتهم ولكنهم علموا صحة الوقف فعملوا به.
الخلاصة:
مما تقدم يتبين أن الراجح والله أعلم الذي يؤيده الدليل ويعضده النص هو جواز الوقف على وجه الاستحباب عملا بما هو صريح اللفظ متواتر المعنى وحملا للمحتمل عليه وتوفيقا بين الأدلة.
قال ابن قدامة: في المغني: (5: 597) (والوقف مستحب) . وقال البهوتي في كشاف القناع (4 \ 267) : (وهو مسنون لقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} (2) ولفعله - صلى الله عليه وسلم -.
فعلم من ذلك أن القول بصحة الوقف هو القول الصائب إن شاء الله تعالى، ولم يزل المسلمون من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عصرنا هذا يوقفون الوقوف. ولو لم يكن في الأمر إلا وقف عمر بن الخطاب لكفى دليلا على جوازه فإنه قد وقع منه بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم.
__________
(1) انظر البداية والنهاية (4 \ 204) .
(2) سورة الحج الآية 77(36/224)
الخاتمة
يتضح لك أيها القارئ الكريم أن هذا البحث الموجز وضع أمامك الوقف بصورته الحقيقية الناصعة لدى المسلمين وبين لك بعض مباحثه المهمة دون الدخول في تفصيل أحكامه ولعل ذلك كافي لإيضاح أهميته وبيان ما يحققه من أهداف سامية تعود على المجتمع وعلى الأسرة وعلى الفرد.
وقد أبان الفصل الأول المقصود من كلمة "وقف " وعرف بها تعريفا تاما سواء في اصطلاح أهل اللغة العربية أم في اصطلاح علماء الفقه والشريعة وحدد المقصود منها عند كل منهم.
وفي الفصل الثاني جرى سرد لتاريخ الوقف عند المسلمين وعند غيرهم من الأمم برز من خلال السرد التاريخي عدة أمور أهمها: ثبوت الوقف كنظام اجتماعي درج عليه كثير من الأمم. وكذا ظهر من خلال هذا الفصل أهمية الوقف في الحياة العامة والنتائج التي حققها أثناء تطبيقه وخاصة في العصور الإسلامية التي صار الوقف فيها مصدرا لغالب النتاج الفكري لدى المسلمين سواء في تنمية المهارات واكتساب العلوم، أو في مجال الصناعة والاختراع، أو في مجال توفير حاجات الناس.
وفي الفصل الثالث تم كشف أهداف الوقف وحكمة مشروعيته وظهر من خلال ذلك أهمية الوقف، والمقاصد التي يحققها لبناء المجتمع وحصول الأجر والثواب، للواقف. وأن في الوقف حلا لكثير من المشاكل الاجتماعية التي تنتاب المجتمعات في كل عصر وحين.
وفي الفصل الرابع ظهر القول الصحيح في حكم الوقف وأن القول باستحبابه هو الذي يعضده الدليل وهو الموافق لما عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وعرف من خلال هذا الفصل الرأي المقابل لرأى الجمهور وظهر ضعفه وأن ما تشدق به من خالف الجمهور لا يعتبر دليلا يعول عليه.
كما ظهر مدى ترغيب الشريعة بالأعمال الصالحة ووضح السبيل لمن يريد رفع درجاته في الدار الآخرة بما أعطاه الله من مال وأملاك في الحياة الدنيا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله أعلم.(36/225)
صفحة فارغة(36/226)
تعدد الزوجات في الإسلام
بقلم: د. محمد بن مسفر بن حسين الطويل الزهراني
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وبعد:
فهذا بحث قصير عن نظام تعدد الزوجات في الإسلام، وتعدد الزوجات موضوع هام وحساس اشتد حوله الجدل كثيرا، وما زال وسيبقى إلى ما شاء الله. وهذا النظام الاجتماعي الإسلامي مثار نقد وطعن ومادة للهجوم علي الإسلام والمسلمين عند الغربيين وعند من تأثر بأفكارهم. وهؤلاء جميعا يحاولون دائما أن يوهموا الناس أن الدين الإسلامي هو الذي أتى بتعدد الزوجات وأن التعدد يكاد يكون مقصورا على الأمم التي تدين بالإسلام، وأن تعدد الزوجات لا تقوم له قائمة إلا لدى الشعوب المتأخرة في ميدان الحضارة والمدنية.
والحقيقة أن هذا النظام كان سائدا قبل ظهور الإسلام في شعوب كثيرة متحضرة وغير متحضرة، مثل الصينيين والهنود والفرس والمصريين القدماء والعبريين والعرب والشعوب الجرمانية والسكسونية التي ينتمي إليها سكان أوربا الشرقية والغربية مثل: ألمانيا والنمسا وسويسرا وتشيكوسلوفاكيا والسويد وإنجلترا وبلجيكا وهولندا والنرويج. وما زال هذا النظام منتشرا في الوقت الحاضر في بلاد الهند والصين واليابان وإفريقيا (1) .
والإسلام لم ينشئ نظام تعدد الزوجات ولم يوجبه على المسلمين خاصة،
__________
(1) علي عبد الواحد وافي: قصة الزواج والعزوبة، القاهرة 1395هـ ص 52.(36/227)
فلقد سبقته إلى إباحته الأديان السماوية التي أرسل بها أنبياء الله قبل محمد صلى الله عليه وسلم " اليهودية والنصرانية" والنظم الدينية الأخرى كالوثنية والمجوسية، فلما جاء الإسلام أبقى على التعدد مباحا ووضع له أسسا تنظمه وتحد من مساوئه وأضراره التي كانت موجودة في المجتمعات البشرية التي انتشر فيها التعدد.
كما أن الشريعة الإسلامية لم تجعل نظام تعدد الزوجات فرضا لازما على الرجل المسلم، ولا أوجبت الشريعة الإسلامية على المرأة أو أهلها أن يقبلوا الزواج برجل له زوجة أو أكثر. بل أعطت الشريعة المرأة وأهلها الحق في القبول إذا وجدوا أن في هذا الزواج منفعة ومصلحة بابنتهم أو الرفض إذا كان الأمر على العكس من ذلك.
وسنتحدث هنا على تعدد الزوجات في الإسلام بتركيز شديد ومن خلال أربعة مباحث هي:
1 - مشروعية تعدد الزوجات في الإسلام.
2 - شروط تعدد الزوجات في الإسلام.
3 - مبررات تعدد الزوجات في الإسلام.
4 - موقف أعداء الإسلام من تعدد الزوجات.(36/228)
1 - مشروعية تعدد الزوجات في الإسلام:
ورد تشريع تعدد الزوجات في القرآن الكريم، وبالتحديد في آيتين فقط من سورة النساء وهما:
1 - {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (1) .
2 - {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) .
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) سورة النساء الآية 129(36/228)
وتفيد هاتان الآيتان كما فهمها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعون وجمهور المسلمين الأحكام التالية:
1 - إباحة تعدد الزوجات حتى أربع كحد أعلى.
2 - أن التعدد مشروط بالعدل بين الزوجات، ومن لم يكن متأكدا من قدرته على تحقيق العدل بين زوجاته فإنه لا يجوز له أن يتزوج بأكثر من واحدة. ولو تزوج الرجل بأكثر من واحدة وهو واثق من عدم قدرته على العدل بينهن فإن الزواج صحيح وهو آثم.
3 - العدل المشروط في الآية الأولى هو العدل المادي في المسكن والمأكل والمشرب والملبس والمبيت والمعاملة.
4 - تضمنت الآية الأولى كذلك شرطا ثالثا هو القدرة على الإنفاق على الزوجة الثانية وأولادها، كما يظهر في تفسير قوله تعالى: {أَلَّا تَعُولُوا} (1) أي: لا تكثر عيالكم فتصبحوا غير قادرين على تأمين النفقة لهم، والأرجح أن العول الجور.
5 - تفيد الآية الثانية أن العدل في الحب والميل القلبي بين النساء غير مستطاع، وأنه يجب على الزوج ألا ينصرف كلية عن زوجته فيذرها كالمعلقة، فلا هي ذات زوج ولا هي مطلقة، بل عليه أن يعاملها بالحسنى حتى يكسب مودتها، وإن الله لا يؤاخذه على بعض الميل إلا إذا أفرط في الجفاء، ومال كل الميل عن الزوجة الأولى (2) .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل كل العدل في الأمور المادية بين زوجاته ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يميل عاطفيا إلى زوجته السيدة عائشة - رضي الله عنها- أكثر من بقية زوجاته، وكان عليه الصلاة والسلام يبرر ميله القلبي هذا بقوله: «اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك (3) » وقد زعم بعض من ليس له علم بالشريعة الإسلامية أن القرآن الكريم منع تعدد
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) مصطفى السباعي: المرأة بين الفقه والقانون بيروت 1982م ص-97-98.
(3) سنن الترمذي بيروت 1394هـ، جـ3 ص 304، سنن أبي داود، جـ1 ص 333.(36/229)
الزوجات في الآيتين السابقتين، بحجة أن الآية الأولى تبيح التعدد شريطة العدل بين الزوجات. وتقرر الآية الثانية- كما يزعمون- أن العدل بين الزوجات مستحيل، وعلى هذا الاعتبار فإن التعدد مشروط بأمر يستحيل القيام به، وبالتالي فهو ممنوع.
ونرى هنا أن هذه الدعوى باطلة كل البطلان للأسباب التالية:
1 - أن العدل المشروط في الآية الأولى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (1) هو غير العدل الذي حكم باستحالته في الآية الثانية {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (2) فالعدل في الآية الأولى هو العدل في الأمور المادية المحسوسة والذي يستطيع الإنسان أن يقوم به، وهو العدل في المسكن والملبس والطعام والشراب والمبيت والمعاملة. أما العدل المستحيل الذي لا يستطيعه الرجل فهو العدل المعنوي في المحبة والميل القلبي.
2 - ليس معقولا أن يبيح الله تعدد الزوجات ثم يعلقه بشرط مستحيل لا يقدر الإنسان على فعله، ولو أراد الله سبحانه وتعالى أن يمنع التعدد لمنعه مباشرة وبلفظ واحد، وفي آية واحدة، لأن الله قادر على ذلك وعالم بأحوال عباده.
3 - نص الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على تحريم الجمع بين الأختين فقال عز وجل: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} (3) كما «نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أن تنكح المرأة على عمتها أو العمة على ابنة أخيها، أو المرأة على خالتها أو الخالة على بنت أختها (4) » .
فما هو معنى تحريم الجمع بين الأختين والجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها إذا كان التعدد- أصلا- محرما؟ .
4 - ثبت من الحديث النبوي الشريف أن العرب الذين دخلوا في الإسلام
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) سورة النساء الآية 129
(3) سورة النساء الآية 23
(4) سنن الترمذي، جـ2 ص 297.(36/230)
كان لدى بعضهم أكثر من أربع زوجات، وكان لدى قيس بن ثابت عندما أسلم ثمان زوجات، وكان لدى غيلان بن سلمة الثقفي عشر زوجات وكان عند نوفل بن معاوية خمس زوجات، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقتصر كل واحد منهم على أربع زوجات فقط ويفارق الأخريات. وهذا دليل قوي على إباحة الإسلام للتعدد.
5 - عدد الرسول صلى الله عليه وسلم زوجاته، وكان في عصمته عندما توفي تسع زوجات. كما أقر تعديد أصحابه للزوجات. وظل المسلمون يقومون بالتعدد خلال 1400سنة لفهمهم التام واعتقادهم الراسخ بإباحة الإسلام للتعدد ويرى الدكتور مصطفي السباعي أن القائلين بهذه الدعوى الباطلة عبارة عن فريقين؛ الأول منهما حسن النية، رأى هجوم الغربيين ومن يجري في فلكهم على نظام تعدد الزوجات في الشريعة الإسلامية، فظن أنه يستطيع بهذا القول أن يخلص الإسلام مما يتهمونه به.
أما الفريق الثاني فيرى السباعي أنه فريق سيئ النية، وهدفه هو أن يخدع المسلمين بهذا القول الباطل ويشككهم في فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته ومن جاء بعدهم من المسلمين خلال أربعة عشر قرنا، بحجة أنهم جميعا لم يفهموا الآيات الكريمة التي ورد فيها ذكر التعدد (1) .
ويرى الشيخ محمود شلتوت أن الآية الثانية (2) تتعاون مع الآية الأولى (3) على تقرير مبدأ التعدد الأمر الذي يزيل التحرج منه، وفي ضوء هذا المبدأ عدد النبي صلى الله عليه وسلم زوجاته، وعدد الأصحاب والتابعون زوجاتهم، ودرج المسلمون بجميع طبقاتهم وفي جميع عصورهم يعددون الزوجات، ويرون أن التعدد مع العدل بين النساء حسنة من حسنات الرجال إلى النساء بصفة خاصة وإلى
__________
(1) مصطفي السباعي: المرأة بين الفقه والقانون ص 101.
(2) هي: '' ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ''.
(3) هي: '' فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ''.(36/231)
المجتمع بصفة عامة (1) ويصف الشيخ محمود شلتوت القائلين بأن التعدد غير مشروع لارتباطه بشرط يستحيل القيام به بأنهم يعبثون بآيات الله ويحرفونها عن مواضعها (2) .
كذلك وضحت السنة النبوية الشريفة أفضلية الزواج بأكثر من واحدة، فقد جاء في صحيح البخاري (3) أن سعيد بن جبير قال: "وقال لي ابن عباس: هل تزوجت قلت: لا. قال فتزوج فإن خير هذه الأمة أكثرها نساء ".
ويذكر ابن حجر (4) أن معنى هذا الحديث هو أن خير أمة محمد صلى الله عليه وسلم هو من كان أكثر نساء من غيره ممن يتساوى معه فيما عدا ذلك من الفضائل. وورد في حديث نبوي آخر ما معناه: أن بعض الصحابة أرادوا أن يضاعفوا جهودهم في العبادة، وينقطعوا لها، ويتركوا شهوات الدنيا، فقال واحد منهم: «أما أنا فلا آكل اللحم. وقال الثاني: أما أنا فأصلي ولا أنام. وقال الثالث: أما أنا فأصوم ولا أفطر. وقال الرابع: أما أنا فلا أتزوج النساء. فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك خطب في الناس وقال: إنه بلغني كذا وكذا، ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني (5) » .
"وأتزوج النساء" الواردة في الحديث تشمل الزوجة الواحدة وأكثر من الواحدة.
ويبين ابن قدامة في معرض حديثه عن النكاح أن الإسلام يحث على تعدد الزوجات وأن التعدد ليس مجرد إباحة، ولكنه مندوب إليه، فيقول: " ولأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج وبالغ في العدد، وفعل ذلك أصحابه، ولا يشتغل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا بالأفضل " (6) .
__________
(1) محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة، القاهرة 1395 هـ ص 183
(2) المرجع نفسه ص 182.
(3) كتاب النكاح، جـ5 ص 1951.
(4) فتح الباري، بشرح صحيح الإمام البخاري، الرياض جـ 9 ص 114.
(5) صحيح مسلم بيروت 1389 هـ جـ9 ص 114.
(6) ابن قدامة: المغني، جـ 6 ص 447.(36/232)
ويلاحظ كذلك أن الإسلام أباح للمسلم بأن يعاشر ما ملكت يمينه من الإماء دون التقيد بعدد معين، كما قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) ولكن الشريعة الإسلامية لا تسمي هذه المعاشرة زواجا، وإنما يطلق عليها تسريا والحكمة من التسري هي أنه يترتب على التسري بعض الالتزامات والحقوق ومنها أن ولد الأمة "ملك اليمين " الذي أنجبته من سيدها يعتبر ابنا شرعيا لذلك السيد، ويولد حرا، والأمة نفسها تصبح تبعا لذلك أم ولد. وهذا العمل قصد منه- بلا شك- تيسير عتق ملك اليمين (2) .
وقد قامت عدة حركات- مناوئة للعقيدة الإسلامية- تطالب بمنع التعدد أو تقييده، وكان من أبرزها تلك الحركة التي قامت في الديار المصرية سنة 1365هـ / 1945 م، ونادى القائمون بها بمنع تعدد الزوجات أو على الأقل، وضع شروط جديدة له غير الشروط التي حددتها الشريعة الإسلامية من أجل الحد من الإقبال على التعدد، ومؤدى الشروط الجديدة هو عدم إباحة تعدد الزوجات إلا بوجود مبرر قوي يخضع تقديره للقضاء، وأن على من يرغب أن يعدد أن يقدم دليلا على أن زواجه بامرأة أخرى له مبرر قوي، فإذا اقتنع القاضي بما أبداه الرجل من أسباب تدعوه للزواج على زوجته، أذن له القاضي عند ذلك بالزواج. وإذا لم يقتنع القاضي رفض طلب الرجل.
وقد حدد بعض هؤلاء الدعاة نوع المبرر المقبول الذي يسمح القضاء بموجبه بتعدد الزوجات، ويتمثل في حالتين فقط لا ثالث لهما، وهما مرض الزوجة مرضا مزمنا لا شفاء منه، وعقم الزوجة الثابت بمرور أكثر من ثلاث سنوات عليه. وفي غير هاتين الحالتين يحرم القانون على الرجل الزواج على امرأته.
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) صبحي الصالح: النظم الإسلامية نشأتها وتطورها، بيروت 1982م ص 471.(36/233)
ويرى أصحاب هذه الدعوى أن الزواج بواحدة هو الأصل في الإسلام، وأن التعدد هو الاستثناء، ولا يعمل بالاستثناء إلا عند الضرورة (1) .
ونقول نحن هنا إن هذا الكلام غير صحيح، فالآيتان الكريمتان اللتان جاء فيهما تشريع التعدد وهما الآية (3) والآية (129) من سورة النساء لم يظهر فيهما ما يفيد أن الزواج بواحدة هو الأصل، وأن التعدد هو الاستثناء والعكس- في نظرنا- هو الصحيح، فقد بدأت الآية الكريمة (3) بالتعدد وهو الأصل، ثم ذكرت الزواج بواحدة، وهو الاستثناء والأصل دائما يقدم على الاستثناء.
كذلك لم تشترط آيتا التعدد أن تكون الزوجة مريضة، أو عقيما لكي يتسنى للرجل الزواج عليها. هذا بالإضافة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب من أصحابه بعد نزول آيتي التعدد أن يفارقوا ما زاد على الأربع زوجات، ولم يقل لهم آنذاك أن بقاء أكثر من زوجة لدى الرجل مشروط بكون زوجته مريضة مرضا مستعصيا أو بكونها عقيما. وكان الوقت آنذاك وقت تشريع.
ويرى الشيخ محمد أبو زهرة أن تقييد تعدد الزوجات بدعة دينية ضالة لم تقع في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في عصر الصحابة، ولا في عصر التابعين (2) .
وإذا كان نظام تعدد الزوجات يفرض على الزوجة الأولى لظرف من الظروف زوجة أخرى، فإنه لا يحرمها من أن تكون سيدة منزلها والمتصرفة في شئونه، فالإسلام يجعل لكل امرأة متزوجة الحق في أن تكون لها دار مستقلة، ولا يجعل لإحدى الزوجات سيطرة على الزوجات الأخريات.
ويرى بعض الفقهاء أن للمرأة الحق في أن تشترط وقت زواجها أن لا يتزوج زوجها عليها، فإذا تم الزواج، ولم يلتزم الزوج فيما بعد بهذا الشرط كان للمرأة الحق في طلب الطلاق، كما يظهر في النص الفقهي التالي: " وإن
__________
(1) العطار: تعدد الزوجات بيروت 1396 هـ ص 279- 286.
(2) محمد أبو زهرة: تنظيم الإسلام للمجتمع، القاهرة 1385هـ ص 77- 79.(36/234)
تزوجها وشرط لها أن لا يتزوج عليها، فلها فراقه إذا تزوج عليها " (1) وإذا فات الزوجة أن تشترط هذا الشرط في عقد الزواج فإن لها الحق في طلب الطلاق إذا قصر زوجها في حق من حقوقها أو ألحق بها أذى، ولا نختلف هنا على أن اشتراك امرأة مع امرأة أخرى أو أكثر في زوج واحد لا يريحها ولا يمنحها السعادة التي تنشدها في حياتها ولكن الضرر الذي يلحق بالمرأة عند اشتراكها مع غيرها في زوج واحد أقل كثيرا من الضرر الذي يلحق بها إذا بقيت بدون زواج.
ونرى هنا أن الغيرة عند بعض النساء تكون قوية جدا لدرجة أنها تسيطر على كل تصرفاتها، وتكون أشد ما تكون عند اقتران زوجها بامرأة أخرى والغيرة أمر عاطفي بحت، يظهر منها ثلاثة مشاعر مختلفة هي حب المرأة لزوجها، وأنانيتها المفرطة في الاستئثار به دون غيرها من النساء، ثم خوف المرأة على مستقبلها. والعاطفة لا تقدم إطلاقا على الشرع في أي أمر من الأمور وكما أن تعدد الزوجات يبعث الألم والغيرة في نفس الزوجة الأولى فإنه يبعث الأمل في نفس الزوجة الجديدة، ويتيح لها أن تحيا حياة زوجية آمنة زد على ذلك أنه ليس كل النساء هن المتزوجات فقط، فالتشريع جاء لكل النساء المتزوجات وغير المتزوجات، فإذا وفق بعضهن في الحصول على أزواج فما هو ذنب الأخريات- وهن بلا شك كثيرات- أن يبقين بدون زواج وقد جعل لهن الإسلام الحق كل الحق في الزواج والعيش في بيت وأسرة تماما مثل المتزوجات؟
ويرى العقاد - ونحن معه- أن تحريم التعدد يكره المرأة على حالة واحدة لا تملك سواها، وهي البقاء عزباء لا عائل لها، وقد تكون عاجزة عن إعالة نفسها (2) . وعلى وجه العموم فإن أخذ بعض الرجال والنساء بنظام تعدد الزوجات يعد برهانا واضحا وقويا على أنهم اختاروا طريق الاستقامة بدلا من طريقة الغواية والضلال، لأن التعدد يرسم سبيلا للمحافظة على الأخلاق،
__________
(1) ابن قدامة: المغني، جـ 6 ص 548.
(2) المرأة في القرآن بيروت 1389هـ ص 107- 108.(36/235)
ويوثق الروابط الاجتماعية، ويحفظ للبيت المسلم أمنه واستقراره، وهو الطريق السليم المشروع لإشباع الرغبات دون التردي في مهاوي الشهوات.(36/236)
2 - شروط تعدد الزوجات في الإسلام:
شرع الله سبحانه وتعالى تعدد الزوجات وأباحه لعباده، وحددت الشريعة الإسلامية له شروطا لا يجوز الأخذ به دونها وهي:
(أ) العدد.
(ب) النفقة.
(ج) العدل بين الزوجات.
(أ) العدد:
كان نظام تعدد الزوجات معروفا ومباحا قبل ظهور الإسلام وكانت الديانة اليهودية (1) والديانات الوضعية مثل الوثنية والمجوسية والبوذية تبيح التعدد بغير تحديد للعدد. ولم يرد في الديانة المسيحية نص صريح يمنع أتباع هذه الديانة من التزوج بامرأتين أو أكثر (2) .
وكان نظام تعدد الزوجات معروفا لدى القبائل العربية في الجاهلية ولم تكن له آنذاك ضوابط معينة ولا حدود معروفة. وقد تضمن الحديث النبوي الشريف- كما ذكرنا سابقا- عدة شواهد على وجود التعدد لدى العرب قبل الإسلام على هذا النحو غير المحدد، ومنها:
1 - روي «عن قيس بن ثابت أنه قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اختر منهن أربعا (4) » .
__________
(1) اليهودية: ديانة سماوية أرسل بها موسى عليه السلام لبني إسرائيل.
(2) مصطفى السباعي. المرأة بين الفقه والقانون ص 74، أحمد علي طه: تعدد الزوجات القاهرة 1394هـ ص 8.
(3) سنن ابن ماجه جـ1 ص 628.
(4) من سبل السلام للصنعاني جـ 3 ص 224: '' قيس بن الحارث ''. (3)(36/236)
2 - وروي «أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اختر منهن أربعا وفارق سائرهن (1) » .
3 - وروي «عن نوفل بن معاوية أنه قال: أسلمت وتحتي خمس نسوة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فارق واحدة وامسك أربعا (2) » ولما ظهر الإسلام هذب التعدد، ووضع له الأسس والشروط المناسبة وقيده بالعدد، وجعله قاصرا على أربع زوجات فقط، وشدد فيه على العدل بين الزوجات في الأمور المادية التي يستطيع الإنسان القيام بها. واشترط فيه قدرة الرجل على الإنفاق على زوجاته وأولاده. وظهر هذا بوضوح في الآية الكريمة: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} (3) .
ويلاحظ أن التعدد في الإسلام ليس مشروطا- كما يقال- بكون الزوجة الأولى مريضة أو لا تنجب، وإنما هو مباح من الأصل، وللمسلم أن يتزوج اثنتين أو ثلاثا أو أربعا ما دام يرى في نفسه القدرة على الإنفاق على زوجاته والعدل بينهن (4) .
وها هو عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه يعرض ابنته حفصة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وهو يعرف أن لدى الصديق أكثر من زوجة ولم يكن مريضات ولا عقيمات. وعرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنته حفصة كذلك على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو زوج لإحدى بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجد رضي الله عنه في ذلك غضاضة ولا ضررا على ابنته.
وهناك ثلاث وجهات نظر حول الحد الأقصى لتعدد الزوجات تخالف ما أجمع عليه المسلمون وهو أنه لا يجوز الزواج بأكثر من أربع، وهي:
__________
(1) سنن الترمذي، جـ3 ص 435، سنن ابن ماجه، جـ1 ص 638.
(2) الصنعاني سبل السلام، جـ3 ص 224، ابن قدامة. المغني، جـ 6 ص 540
(3) سورة النساء الآية 3
(4) محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة ص 187.(36/237)
أولا: زعم فريق أن الآية الكريمة: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (1) تفيد إباحة الجمع إلى تسع زوجات، مستدلين على زعمهم بأن الكلمات: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (2) الواردة في الآية الكريمة ألفاظ مفردة معدول بها عن أعداد مفردة، وأن الواو الموجودة بين هذه الكلمات للجمع، فيكون معنى {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (3) اثنين وثلاثا وأربعا ومجموعها تسع (2+3+4=9) .
ثانيا: ويقول فريق آخر أن الآية الكريمة: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (4) تفيد إباحة الجمع للرجل إلى ثماني عشرة زوجة، ويرون أن الكلمات: {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (5) ألفاظ مفردة معدول بها عن ألفاظ مكررة وأن الواو الموجودة بين هذه الكلمات للجمع، وتفسير الآية الكريمة عندهم هو فانكحوا ما طاب لكم من النساء اثنين اثنين، وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا فيكون المجموع حسب فهمهم ثماني عشرة (2+2 + 3+3+4+4 =18) .
ثالثا: وادعى فريق ثالث أن الآية الكريمة: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (6) تبيح تعدد الزوجات بدون حصر للأسباب التالية:
1 - أن صيغة: {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (7) تفيد العموم، وأن {مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (8) كلمات معدول بها عن أعداد مكررة إلى غير نهاية ذكرت بعد صيغة العموم السابقة الذكر على سبيل المثال لا الحصر والتحديد وأنها بهذا الوضع تفيد رفع الحرج عن المسلم في تزوج من شاء من الزوجات إلى غير حد.
2 - أن الزواج كملك اليمين كلاهما غير مقيد بعدد.
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) سورة النساء الآية 3
(3) سورة النساء الآية 3
(4) سورة النساء الآية 3
(5) سورة النساء الآية 3
(6) سورة النساء الآية 3
(7) سورة النساء الآية 3
(8) سورة النساء الآية 3(36/238)
3 - أن الأخبار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تقييد تعدد الزوجات بأربع إنما هي أخبار آحاد، وخبر الآحاد لا ينسخ به القرآن الذي فهموا منه أنه يبيح تعدد الزوجات بدون حد.
ونقول لهؤلاء أن المراد هو أحد هذه الأعداد، فمثنى يراد بها اثنتين، وكلمة ثلاث يراد بها ثلاثة، وكلمة ورباع يراد بها أربعة، وأن الواو الموجودة بين هذه الكلمات هي للتخيير وليست للجمع، فقد أجمعت الأمة الإسلامية على أنه لا يجوز الزواج بأكثر من أربع نسوة، ولم ينقل عن أحد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بعده إلى يومنا هذا أنه جمع بين أكثر من أربع زوجات، وأن فهم هؤلاء للآية الكريمة: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (1) فهم خاطئ بني على أساس خاطئ، ولو كان تعدد الزوجات يباح في الإسلام إلى تسع أو إلى ثماني عشرة أو إلى ما لا نهاية لصرح القرآن بهذا ولم يدع للمسلمين مجالا للشك والحيرة، كما أن تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع زوجات يعتبر من خصوصياته التي لا يجوز الاقتداء به فيها (2) .
وقد يسأل بعض من الناس عن حكمة تحديد الإسلام للحد الأقصى لعدد الزوجات بأربع فقط لا أقل ولا أكثر. وهنا نقول إن التحديد العددي لكثير من الأمور شيء يعلمه الله سبحانه وتعالى وحده، فبالنسبة للأمور الشرعية لا نعلم لماذا كان عدد الصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمس صلوات فقط؟ ولماذا لم تكن أربعا أو ستا؟ ولا نعلم شيئا عن تحديد عدد ركعات صلاة الظهر بأربع، وصلاة المغرب بثلاث ركعات فقط بينما صلاة الفجر ركعتان.
وهكذا الأمر بالنسبة لعدد الأعضاء في جسم الإنسان؛ فالإنسان له عينان ويدان ورجلان، فما الحكمة في الاقتصار على عينين فقط أو يدين فقط؟ ولماذا تشتمل اليد الواحدة والرجل الواحدة على خمس أصابع فقط؟ وليست أربع أو ست أو أكثر أو أقل؟ علم هذه الأمور عند الله تعالى. ولم تخل كتابات بعض
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) انظر هذه القضية في كتاب تعدد الزوجات لعبد التواب هيكل ص 22- 54.(36/239)
المفكرين من محاولات لتبرير جعل الحد الأقصى لتعدد الزوجات أربع زوجات فقط فذكر بعضهم أنه ربما كان التحديد متفقا على عدد فصول السنة. وقد يكون التحديد منسجما مع نسبة عدد الرجال إلى نسبة عدد النساء، وهذه النسبة في الغالب (1: 4) بحيث لو اقتصر التعدد على زوجتين فقط لظل هناك عدد من النساء بدون أزواج ولو زاد العدد على أربع زوجات لأدى ذلك إلى بقاء بعض الرجال عزابا بدون زواج، ومن ثم كان الحد الأقصى المعقول بناء على هذا الاعتبار هو أربع زوجات فقط.
ويرى آخرون أن هذا التحديد قد يستهدف كل أنواع النساء في الغالب وبالتالي يتمكن الرجل من أن تكون لديه الزوجة الطويلة والزوجة القصيرة والزوجة النحيفة والزوجة البدينة هذا بالنسبة للقوام. أما بالنسبة للون فيكون له إذا أراد الزوجة البيضاء والشقراء والسمراء والصفراء. أو يكون لدى الرجل الزوجة ذات الدين، وذات الجمال، وذات المال وذات الحسب والنسب، وهي الخصال الأربع التي تغري الواحدة منها الرجل بالتزوج بالمرأة، فالبعض يفضل المرأة المتدينة، والبعض الآخر يفضل المرأة الجميلة أو ذات المال أو ذات الحسب.
وقد يتفق هذا التحديد مع الدورة الشهرية للمرأة، وعادة يستمر حيض المرأة أسبوعا كل شهر، وبطبيعة الحال يترك الرجل زوجته في فترة الحيض حتى إذا مضت أربعة أسابيع- إذا كان متزوجا أربع زوجات- عاد إلى الزوجة الأولى فيجدها طاهرة.
وعلى العموم فإن هذه كلها تفسيرات اجتهادية قابلة للخطأ والصواب، والأخذ والرد والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.(36/240)
(ب) النفقة:
وتشمل النفقة الطعام والشراب والكسوة والمسكن والأثاث اللازم له.(36/240)
ويجب أن تكون لدى الرجل الذي يقدم على الزواج بادئ ذي بدء القدرة المالية على الإنفاق على المرأة التي سيتزوج بها. وإذا لم يكن لديه من أسباب الرزق ما يمكنه من الإنفاق عليها، فلا يجوز له شرعا الإقدام على الزواج. ويظهر هذا واضحا جليا في الحديث النبوي الشريف التالي: قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (2) » .
وهكذا الأمر بالنسبة للرجل الذي لا يستطيع أن ينفق على أكثر من زوجة واحدة، فإنه لا يحل له شرعا أن يتزوج بأخرى، فالنفقة على الزوجة أو الزوجات واجبة بالإجماع (3) . ويظهر هذا الوجوب من ثنايا خطبة حجة الوداع (4) ، حيث قال صلى الله عليه وسلم مخاطبا المسلمين.
«واتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح. ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف (6) » كما يتبين وجوب النفقة على الزوجة في الحديث النبوي الشريف.
«ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في نفقتهن وكسوتهن وطعامهن (7) » وجاء في حديث آخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن حق الزوجة على زوجها فقال مخاطبا السائل: «وتطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت (8) » .
__________
(1) صحيح مسلم، جـ 9 ص 172، ابن حجر: فتح الباري جـ 9 ص 112.
(2) الباءة: القدرة عل تكاليف الزواج. (1)
(3) ابن قدامة. المغني جـ 7 ص 564.
(4) ابن هشام، سيرة النبي صلى الله عليه وسلم القاهرة 1356هـ جـ 4 ص 276.
(5) ابن هشام: سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، جـ 4 ص 276.
(6) ضربا غير مبرح أي ضربا غير شديد مؤلم (5)
(7) ابن قدامة: المقنع، جـ 3 ص 307.
(8) سنن أبي داود جـ 1 ص 334.(36/241)
ولا خلاف بين الفقهاء في أنه يجب على الرجل القيام بكل ما يلزم زوجته أو زوجاته من طعام مناسب ولبس ومسكن مناسب وما يتبع ذلك من احتياجات.(36/242)
3 - العدل بين الزوجات:
قال الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (1) .
والمراد بالعدل في هذه الآية الكريمة هو العدل الذي يستطيعه الإنسان ويقدر على تحقيقه، وهو التسوية بين الزوجات في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمبيت والمعاملة بما يليق بكل واحدة منهن أما العدل في الأمور التي لا يستطيعها الإنسان، ولا يقدر عليها مثل المحبة والميل القلبي، فالزوج ليس مطالبا به، لأن هذا الأمر لا يندرج تحت الاختيار، وهو خارج عن إرادة الإنسان، والإنسان- بلا شك- لا يكلف إلا بما يقدر عليه. كما يظهر في قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) والعدل في المحبة والميل القلبي هو الذي قال عنه الله سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (3) .
ويحاول بعض الناس أن يتخذ من هذه الآية الكريمة دليلا على تحريم التعدد وهذا غير صحيح فشريعة الله لا يمكن أن تبيح الأمر في آية وتحرمه في آية أخرى فالعدل المطلوب في الآية الأولى هو العدل في المعاملة والنفقة والمعاشرة وسائر الأوضاع الظاهرة بحيث لا تتميز إحدى الزوجات بشيء دون
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) سورة النساء الآية 129(36/242)
الأخريات سواء في الملبس أو المسكن أو الطعام أو المبيت. أما العدل في المحبة والعاطفة والمشاعر، وهو المشار إليه في الآية الثانية، فهذا شيء لا يملكه الإنسان، فالقلوب ليست ملكا لأصحابها، وإنما هي بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء (1) . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الناس معرفة بدينه وبمشاعره وأحاسيسه القلبية وأشد الناس حرصا على تحقيق العدل بين زوجاته، كان يقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك (2) » وذلك بعد أن عدل بين زوجاته في كل شيء ما عدا العاطفة فإن قلبه صلى الله عليه وسلم كان يميل أكثر إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. وفي حالة حب الزوج لإحدى زوجاته لجمالها أو لخلقها وتعلقه بها أكثر من زوجاته الأخريات فإن الله سبحانه وتعالى قد نهاه وحذره من أن يميل نهائيا أو يشتط في الميل إلى التي تعلق بها قلبه الأمر الذي يؤدي إلى ترك الزوجة الأخرى أو الزوجات الأخريات معلقات فلا هن متزوجات لعدم حصولهن على حقوقهن كزوجات ولا هن مطلقات فيستطعن الزواج وذلك لأنهن مرتبطات بعلاقة زوجية، ويظهر هذا النهي عن الاشتطاط في الميل في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: إن العدل المشار إليه في هذه الآية هو العدل في الحب والجماع (4) .
وإذا أقدم المسلم على التعدد وهو على يقين بعدم قدرته على العدل بين زوجاته في الأشياء المادية، وهي المعاملة والمأكل والمشرب والملبس والمسكن والمبيت، فهو آثم عند الله سبحانه وتعالى، وكان من الواجب عليه ألا يتزوج بأكثر من واحدة.
__________
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن جـ 1ص 582.
(2) سنن أبي داود، جـ 1ص 333، سنن الترمذي، جـ 3 ص 304، ابن حجر: فتح الباري، جـ 9 ص313.
(3) سورة النساء الآية 129
(4) ابن حجر: فتح الباري جـ 9 ص 313.(36/243)
وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم وشدد على موضوع العدل بين الزوجات ووضح عليه الصلاة والسلام عقاب الزوج الذي يقصر في حق من حقوق زوجاته فقال: «إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما، جاء يوم القيامة وشقه ساقط (1) » .
وإذا ثبت تقصير الزوج في حق زوجة من زوجاته، فإن لها الحق شرعا في الشكوى إلى الحاكم، وهناك يطلب الحاكم من الزوج إمساك زوجته بالمعروف أو تسريحها بإحسان كما قال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (2) وفي آية ثانية: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (3) .
أما المبيت فهو أن يخصص الزوج لكل زوجة من زوجاته ليلة أو أكثر يبيت فيها معها في بيتها إذا كان لها بيت مستقل، أوفي الحجرة الخاصة بها، ويتساوى في ذلك الصحيحة والمريضة والحائض والنفساء. لأن القصد من المبيت هو الأنس الذي يحصل للزوجة، لأن الرجل يستمتع بزوجته دون حدوث الوطء فيستمتع كل منهما بالآخر بالنظر والملامسة والتقبيل وما إلى ذلك (4) .
ولا يلزم الزوج أن يجامع زوجته في ليلتها، ولا يجب عليه أن يساوي بين زوجاته في الجماع، وله أن يجامع بعضهن دون البعض الآخر، ولكن يستحب
__________
(1) سنن الترمذي، جـ 2 ص 304، سنن أبي داود، جـ 1 ص 333 وتعني عبارة ''وشقه ساقط '' أي أن نصفه مائل.
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) سورة البقرة الآية 231
(4) صحيح مسلم، جـ 10 ص 46.(36/244)
له أن يسوي بينهن في ذلك (1) .
والسنة في المبيت أن يكون لكل زوجة ليلة واحدة مع يومها (2) ويجوز أن يجعل القسم ليلتين ليلتين، أو ثلاثا ثلاثا، ولا يجوز الزيادة على ثلاث ليال إلا برضى زوجاته (3) .
وإذا سافر الزوج سفرا يحتاج منه إلى مرافقة إحدى زوجاته فإن له الحق في اختيار من يريد أن ترافقه منهن. وإذا رفضت زوجاته الأخريات ذلك، وتنازعن فيمن تسافر معه، فعند ذلك لا بد للزوج أن يلجأ إلى الاقتراع، ومن وقعت عليها القرعة خرجت معه.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار رفيقته في السفر من زوجاته بالقرعة كما جاء في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، وأيتهن خرج سهمها خرج بها معه (4) » .
وإذا تزوج الزوج بامرأة أخرى، فإن كانت ثيبا أقام معها ثلاثة أيام وإن كانت بكرا أقام معها سبعة أيام، ولا يحق للزوجات الأخريات المطالبة بقضاء مثل هذه المدة عندهن (5) .
وأخيرا نقول: إن العدل بين الزوجات لا يعني مطلق التسوية بين الزوجتين أو الزوجات، بل العدل هنا هو إعطاء كل زوجة ما هي في حاجة إليه فعلا إلى درجة الكفاية اللائقة بمثلها في الطعام والشراب والملبس
__________
(1) المصدر نفسه ص 46- 47.
(2) ابن الأثير: جامع الأصول بيروت 1392 هـ جـ11 ص 515.
(3) صحيح مسلم، جـ 10 ص 46-47.
(4) سنن أبي داود، جـ 1 ص 334، ابن الأثير. جامع الأصول جـ11 ص 515.
(5) صحيح مسلم، جـ10 ص 44- 45 والكلام للإمام النووي.(36/245)
والمسكن. يقول ابن حجر: "فإذا وفي لكل واحدة منهن كسوتها ونفقتها والإيواء إليها لم يضره. ما زاد على ذلك من ميل قلب أو تبرع بتحفة" (1) .
هذه هي الشروط الثلاثة التي وضعتها الشريعة الإسلامية لإباحة تعدد الزوجات، وأرى هنا اجتهادا - إذا جاز لي ذلك أن أضيف إلى هذه الشروط تحريم الجمع بين المحارم، فقد ورد في الكتاب والسنة نصوص تحرم تحريما قطعيا أن يجمع الرجل المسلم في عصمته بين الأختين، وقال الله سبحانه وتعالى في ذلك: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ} (2) وتستمر الآية الكريمة في تعديد المحرمات من النساء حتى قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (3) وجاء في الحديث النبوي الشريف عن أبي خراش الرعيني عن الديلمي قال: «قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية فقال: إذا رجعت فطلق إحداهما (4) » .
وتحريم الجمع بين الأختين هو من أجل الحفاظ على صلات المودة والرحمة بين أفراد الأسرة المسلمة. والمعروف أن كل زوجة تعمل باستمرار على أن يكون خير زوجها لها، وتكره أن يعطي زوجها لوالده أو لوالدته أو لواحد من إخوانه أو أخواته شيئا من ماله. وهكذا الأمر بالنسبة لمن لديه أكثر من زوجة، فإن الزوجة تكره أن يعطي زوجها لضرتها مثل ما يعطيها، ولهذا الاحتمال حرم الله على الرجل أن يجمع في عصمته بين أختين حتى لا تسعى الواحدة منهما إلى حرمان أختها من خير زوجها، فيكون ذلك سببا في قطع صلات الرحمة والمودة والقرابة بينهما، أو على الأقل تفتر بينهما هذه العلاقات بسبب الغيرة والنزاع حول الزوج. ويذكر ابن حجر (5) . أن الجمع بين الأختين حرام
__________
(1) فتح الباري، جـ 9 ص 313.
(2) سورة النساء الآية 23
(3) سورة النساء الآية 23
(4) سنن ابن ماجه، جـ1 ص 627. وورد الحديث بألفاظ مختلفة في سنن الترمذي جـ 2 ص 299.
(5) فتح الباري، جـ 9 ص 160(36/246)
بالإجماع سواء كانتا شقيقتين أو من أب أو من أم. ويستوي في ذلك النسب والرضاع. وإذا كان الجمع بين الأختين حراما فإن الجمع بين الأم وابنتها يكون من باب أولى حراما، وذلك لأن القرابة بين الأم وابنتها واجبة الأصل، والجمع بينهما كزوجتين لرجل واحد يؤدي إلى قطع أواصر القرابة والمودة، ويتسبب في إيقاع العداوة بينهما (1) .
كذلك يحرم الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وبين العمة وبنت أخيها، وبين الخالة وبنت أختها، وقد ثبت هذا التحريم بأحاديث رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها:
1 - قال جابر رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها (2) » .
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو العمة على ابنة أخيها أو المرأة على خالتها أو الخالة على بنت أخيها (3) » .
وجاء في بعض الروايات تحريم الجمع بين العمتين أو الخالتين سواء كانت العمتان أو الخالتان أختين أو غير أختين (4) .
وعلى العموم فإنه يحرم على الرجل أن يجمع في عصمته بين امرأتين بينهما رحم محرمة، لما قد يؤدي هذا الجمع من إيقاع العداوة بينهما وقطع صلة الأرحام.
__________
(1) صحيح البخاري، جـ 5 ص 1965.
(2) صحيح البخاري، جـ 5 ص 1965. وقد ورد هذا الحديث بألفاظ مختلفة قليلا في كتاب سنن الترمذي، جـ2 ص 297.
(3) سنن الترمذي، جـ2 ص 297، سنن أبي داود جـ1 ص 322.
(4) سن أبي داود، جـ1 ص 323، ابن قدامة: المغني، جـ 6 ص 573.(36/247)
(ج) مبررات تعدد الزوجات في الإسلام:
الإسلام نظام يتوافق مع فطرة الإنسان وتكوينه، وينسجم مع ضرورات حياته، ويعنى الدين الإسلامي برعاية خلق الإنسان، ويحرص على نظافة المجتمع، ولا يسمح بقيام واقع مادي يؤدي إلى فساد الأخلاق وانحلال المجتمع (1) .
ولقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل الأسرة عماد الحياة وقاعدة العمران، وأساس نشأة المجتمعات، وقيام الحضارات، ولذلك أحاط الله سبحانه وتعالى بنيان الأسرة بمجموعة من القواعد الثابتة والركائز الصلبة لحماية هذا البنيان مما قد يعتريه من وهن أو ضعف. ومن هذه القواعد تشريع نظام تعدد الزوجات.
والدين الإسلامي، وهو يبيح للمسلم أن يتزوج بأربع زوجات كحد أعلى لم يكن هدفه إشباع الرغبة الجنسية لدى الرجل فحسب، وإنما هناك مبررات ودوافع قد تحمل الرجل على أن يتزوج بأكثر من امرأة. ومن هذه المبررات ما يلي:
1 - الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي توفي وفي عصمته تسع زوجات، ورسول الله صلى الله عليه وسلم- بلا شك- أسوة وقدوة للمسلم في كل شيء إلا ما خص به من أمور. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (2) ومن هذا المنطلق يجب على كل مسلم ومسلمة الاعتقاد بإباحة التعدد سمعا وطاعة لله ولرسوله، لأن إنكار هذه الإباحة يؤدي إلى الكفر والعياذ بالله.
2 - تدل الإحصائيات التي جرت وتجرى في بلاد العالم المختلفة دلالة واضحة على أن عدد الإناث أكثر من عدد الذكور، وذلك نتيجة لكثرة ولادة البنات.
__________
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن، جـ1 ص 579.
(2) سورة الأحزاب الآية 21(36/248)
ولأن موت الرجال بمشيئة الله تعالى وقدرته- أكثر من موت النساء، فالرجال هم وقود المعارك العسكرية، وتلتهم الحروب عددا كبيرا منهم. هذا بالإضافة إلى تعرض الرجال للحوادث بشكل أكثر من النساء، فهم يخرجون للكسب وطلب الرزق وينتقلون من أجل ذلك من مكان إلى آخر، ويبذلون كل ما في وسعهم من جهد للحصول على لقمة العيش، الأمر الذي يجعلهم أكثر قابلية للمرض والموت هذا في الوقت الذي يكون فيه النساء في بيوتهن.
ويترتب على ما سبق أن ذكرناه آنفا وجود فارق بين نسبة الإناث ونسبة الذكور، ومن ثم يكون تعدد الزوجات هو العلاج الناجح لهذا الفارق. وقد أظهرت الإحصائيات التي أجريت في أوربا عقب الحرب العالمية الثانية أن نسبة النساء هناك كانت تمثل آنذاك (7) إلى (1) من نسبة الرجال أي أن كل رجل يقابله سبع نسوة، حيث كثر النساء في أوربا كثرة فاحشة عقب تلك الحروب التي ذهبت بالكثير من الرجال.
وجاء في الكتاب السنوي للأمم المتحدة عن تعداد السكان الصادر سنة 1964م- 1384هـ أن الإحصاءات أثبتت أن عدد النساء في الاتحاد السوفيتي يزيد على عدد الرجال بنحو عشرين مليون نسمة، ونحو مليوني نسمة في الولايات المتحدة الأمريكية، ونحو ثلاثة ملايين في ألمانيا الغربية (1) .
ومما يضاعف المشكلة ويزيد الفرق أن بعض الرجال لا يتزوجون بسبب ظروف اقتصادية تتمثل في عدم قدرتهم على توفير النفقة اللازمة لفتح بيت وتكوين أسرة.
كما أن بعضهم يؤخر الزواج إلى سن متأخرة نسبيا من أجل تحسين مستواه المادي ليتمكن من الإنفاق على المرأة التي سيرتبط بها والأولاد الذين سيرزق بهم. وهذا على العكس من الفتيات اللاتي يكن مستعدات للزواج في سن مبكرة.
__________
(1) محمد فتحي عثمان: الفكر الإسلامي والتطور، الكويت 1388 هـ ص 232.(36/249)
وتظهر في أغلب التقديرات زيادة عدد النساء الصالحات للزواج على عدد الرجال الصالحين للزواج بنسبة (4) إلى (1) وهذا بطبيعة الحال اختلال يجب معالجته لتكرر وقوعه بنسب مختلفة، ونجد أمامنا في هذه الحالة ثلاثة حلول هي:
(1) أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة صالحة للزواج ثم يبقى عدد من النساء بدون زواج.
(2) أن يتزوج كل رجل صالح للزواج امرأة واحدة فقط زواجا شرعيا ثم يعاشر حراما في الظلام واحدة أو أكثر من النساء اللواتي ليس لهن مقابل من الرجال في المجتمع.
(3) أن يتزوج الرجال الصالحون للزواج- كلهم أو بعضهم- أكثر من امرأة واحدة زواجا شرعيا في وضح النهار بدلا من العشيقة أو البغي التي يعاشرها حراما بعيدا عن أعين الناس.
ولمناقشة هذه الحلول واختيار الحل الأفضل منها نرى أن الحل الأول وهو أن تبقى المرأة بلا زوج أمر غير طبيعي، وضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها فالمرأة لا يمكن أن تستغني عن الرجل، والعمل والكسب لن يعوضا المرأة عن حاجتها الفطرية إلى الحياة الطبيعية، سواء في ذلك مطالب الجسد والغريزة أو مطالب الروح والعقل من السكن والأنس بالعشير.
أما الحل الثاني فهو ضد الشريعة الإسلامية، ولا يتناسب مع أخلاق المجتمع الإسلامي العفيف، كما أنه ضد كرامة المرأة وإنسانيتها، ويؤدي بالتالي إلى شيوع الفاحشة في المجتمع.
ويكون الحل الثالث - بلا شك هو الحل الأمثل الملائم الذي يختاره الإسلام لمواجهة الواقع الذي يعيشه الناس (1) .
__________
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن جـ1 ص 579- 580.(36/250)
ويقول الشيخ محمد الغزالي في أحد أعداد صحيفة (المسلمون) الصادرة في عام 1410هـ يقول: إن النسبة بين عدد الرجال وعدد النساء إما أن تكون متساوية وإما أن تكون راجحة لأحد الطرفين، فإذا كانت متساوية أو كان عدد النساء أقل فإن نظام تعدد الزوجات لا بد أن يختفي تلقائيا، ويكتفي كل شخص طوعا أو كرها بما عنده. أما إذا كان عدد النساء أكثر من عدد الرجال فنكون بين واحد من ثلاثة حلول، فإما أنه نقضي على بعض النساء بالحرمان حتى الموت من الزواج. وإما أن نبيح اتخاذ العشيقات والخليلات فنقر بذلك جريمة الزنا. وإما أن نسمح بتعدد الزوجات. وبالتأكيد فإن المرأة ترفض حياة الحرمان من الزواج، وتأبى فراش الجريمة والعصيان، وبالتالي لا يبقى أمامها إلا أن تشارك غيرها في رجل يرعاها وينسب إليه أولادها. ولا مناص بعد ذلك من الاعتراف بمبدأ تعدد الزوجات الذي أباحه الإسلام.
وعموما فإن النساء دائما أكثر من الرجال، وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقل الرجال ويكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد (1) » وجاء في حديث آخر: «وترى الرجل الواحد يتبعه أربعون امرأة يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء (2) » والحديثان يدلان دلالة واضحة على أن عدد النساء يكون دائما أكثر من عدد الرجال.
ويمكن للواحد منا أن يتأكد من هذا الأمر بالنظر في عدد الشباب والشابات خاصة أو في عدد الأطفال ذكورا وإناثا في الأسرة التي له صلة بها، وسيرى- كما رأيت- الفارق الواضح بين عدد الجانبين.
3 - ومن المعروف أن الرجل يكون مستعدا لوظيفة النسل من البلوغ إلى نهاية العمر الطبيعي، وهو في المتوسط ثمانون سنة، قد تزيد قليلا أو تنقص، وأن فترة الإخصاب عند المرأة تقف عند سن اليأس، وتكون هذه السن عند بعضهن في الأربعين وعند البعض الآخر في الخامسة والأربعين، والغالبية في الخمسين من العمر. ويكون الفارق هنا قرابة ثلاثين سنة بين
__________
(1) صحيح البخاري، جـ5 ص 2005.
(2) المصدر نفسه جـ5 ص 2005.(36/251)
فترتي الإخصاب عند الرجل والمرأة. ومن الطبيعي أن يستفاد من هذا الفرق في الإخصاب لعمران الأرض بالتكاثر والتناسل. وكثرة النسل مطلب شرعي، وفيها تحقيق لمباهاة الرسول صلى الله عليه وسلم بأمته كما جاء في الحديث النبوي الشريف التالي: «النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم (1) » .
كما أن المرأة إذا حملت يكون حملها شاغلا لها عن الأمور الحياتية الأخرى حتى نهاية مدة الحمل، وهي تسعة شهور. هذا بالإضافة إلى أن استعداد المرأة للحمل في فترة الرضاعة يكون ضعيفا جدا، ومدة الحمل والرضاعة في الغالب عامان ونصف العام كما قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (2) ويكون الرجل في خلال هذه الثلاثين شهرا على أهبة الاستعداد للقيام بوظيفته الطبيعية إن لم يكن يوميا فثلاث أو أربع مرات في الأسبوع، وذلك حسب المزاج وسلامة البنية وحسن الغذاء. واقتصار الرجل على زوجة واحدة في هذه الفترة التي ليست بقصيرة يكون عائقا له عن أداء وظيفته الطبيعية لإعفاف نفسه أولا وللإنجاب وهو الأهم ثانيا.
4 - أعطى الله بعض الرجال طاقة جنسية كبيرة، ورغبة قوية على الوطء (الجماع) ويشعر هذا الرجل أن الزوجة الواحدة لا تكفي لإعفافه وسد حاجته الجنسية وبخاصة إذا كان زمن حيض الزوجة يستغرق جزءا كبيرا من أيام الشهر، وعند ذلك يجد الرجل أنه أصبح مضطرا إلى أحد أمرين أولهما: أن يجد مصرفا مباحا مشروعا لشهوته، وهو الزواج بامرأة ثانية وثانيهما ارتكاب جريمة الزنا التي تذهب بالدين والمال والصحة، وتكون
__________
(1) سنن ابن ماجه، جـ1 ص 592، الشوكاني: نيل الأوطار بيروت، جـ 6 ص 226.
(2) سورة الأحقاف الآية 15(36/252)
شرا على الزوجة (1) .
يقول سيد قطب (2) عن هذه القضية: إن من الأمور الواقعية التي لا نستطيع أن ننكرها أن الزوج يرغب في أداء الوظيفة الفطرية "الجنس " ولا تكون لدى المرأة رغبة في معاشرة الرجل لمرضها أو كبر سنها مع وجود رغبة مشتركة لدى الزوجين في دوام العشرة الزوجية وكراهية الانفصال وهنا نجد أنفسنا في مواجهة هذه المشكلة أمام ثلاثة احتمالات هي:
(أ) أن نكبت الرجل، ونمنعه بالقوة من مزاولة نشاطه الفطري.
(ب) إعطاء الرجل الحرية في معاشرة من يشاء من النساء الساقطات.
(ج) أن نبيح لهذا الرجل أن يتزوج بامرأة ثانية مع الاحتفاظ بزوجته.
ويظهر هنا أن الاحتمال الأول ضد الفطرة، وفوق طاقة الإنسان، وإذا أكرهناه على ذلك فإن النتيجة ستكون حتما كراهية الحياة الزوجية والنفور منها.
أما الاحتمال الثاني فهو ضد الأخلاق الإسلامية، ويخالف المنهج الإسلامي الرامي إلي تطهير الحياة البشرية وتزكيتها. ويكون الاحتمال الثالث هو وحده الذي يلبي ضرورات الحياة الفطرية الواقعية ويحقق المنهج الإسلامي، ويحتفظ للزوجة الأولى بالرعاية ودوام العشرة.
5 - قد تكون الزوجة عقيما وليست لديها القدرة على الإنجاب، والزوج يرغب في الذرية، ومن ثم يكون أمامه طريقان لا ثالث لهما وهما:
(أ) أن يطلق زوجته العقيم، ويتزوج بثانية تحقق رغبته في النسل.
(ب) أن يتزوج امرأة أخرى، ويبقي الزوجة الأولى في عصمته.
والطريق الأولي يؤدي إلى أن تبقى المرأة- في أغلب الأحوال- بلا زوج لأن الرجال لا يرغبون بطبيعة الحال في التزوج بامرأة مطلقة وعقيم لا تنجب، الأمر الذي يسبب لها التعاسة والشقاء طوال حياتها.
__________
(1) محمد رشيد رضا: حقوق النساء في الإسلام ص 51- 52.
(2) في ظلال القرآن، جـ1 ص 580- 581.(36/253)
ولا شك أن 99% من الزوجات يفضلن الطريق الثاني، ويعملن جاهدات على الابتعاد عن الطريق الأول الذي يحطم عليهن بيوتهن، ويحرمهن مما يحتجن إليه من مسكن وكساء وغذاء ودواء، وشريك للحياة (1) .
ويلاحظ هنا أن إبقاء الرجل زوجة هذه حالتها تحت عصمته من الأمور التي يستحق عليها الشكر والثناء من الناس والأجر من الله تعالى.
6 - قد تكون الزوجة مصابة بمرض مزمن لا تستطيع معه القيام بالواجبات الزوجية فيضطر الزوج إلى أن يتزوج عليها. وتبقى في عصمته يرعاها ويؤمن لها ما تحتاج إليه من متطلبات الحياة.
7 - قد يكون لدى الرجل رغبة قوية في الإكثار من النسل، وأولاد زوجته الأولى قليلون، فيتزوج الرجل عند ذلك بأخرى من أجل تحقيق هذه الرغبة النبيلة التي دعا إليها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله.
«تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة (2) » . وفي قوله في حديث آخر: «تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم (3) » .
8 - يكون الرجل كثير الأسفار بحكم عمله، وتطول مدة إقامته في غير بلده، ولا يستطيع أن يأخذ زوجته معه كلما دعته الضرورة إلى السفر وبطبيعة الحال سيكون في غربته بين أمرين من أجل إشباع حاجته الفطرية (الجنس) أولهما أن يفتش عن امرأة يعاشرها بطريقة غير مشروعة، وثانيهما أن يتزوج بثانية ويقيم معها إقامة مشروعة وهو قادر على ذلك صحيا وماديا. وبالتأكيد فإن الأمر الثاني هو الحل الأفضل والأمثل لحل مشكلته، لأن في الأمر الأول إشاعة للفاحشة وانتشار الفساد.
__________
(1) سيد قطب: في ظلال القرآن، جـ 1 ص 581.
(2) سنن النسائي، جـ6 ص 65- 66 ابن الأثير: جامع الأصول، جـ 11 ص428، الشوكاني: نيل الأوطار، جـ 6 ص 231- 232.
(3) ابن حجر: فتح الباري، جـ 9 ص 111.(36/254)
9 - قد يكره الرجل زوجته لسبب من الأسباب، ولا يجد نحوها ميلا أو رغبة، ربما لأنها سيئة الخلق أو دميمة الخلقة، الأمر الذي يفقد الرجل رغبته الجنسية نحوها. وترى هذه المرأة أن من مصلحتها وخيرها أن تعيش مع زوجها الكاره لها لأسباب تحتم عليها ذلك، فيتزوج الرجل بامرأة يستمتع بها وتعصمه عن الوقوع في الفاحشة (1) .
10 - يتيح نظام تعدد الزوجات فرص الزواج أمام كثير من العانسات والأرامل والمطلقات، فعيش بعض النساء بدون زواج أشد ضررا من عيش بعضهن بنصف أو ثلث أو ربع زوج (2) .
11 - كما أن نظام تعدد الزوجات يعالج بعض المشكلات الإنسانية، ويسهم في حلها إسهاما حقيقيا ومنها:
(أ) امرأة توفي زوجها وعندها أطفال، ففي هذه الحالة الإسلام يحث الرجال على الزواج منها لسببين هامين، أولهما: إعفاف المرأة وصون كرامتها في بيت تجد فيه الراحة والاطمئنان، وكل ما تحتاج إليه من متطلبات الحياة. وثانيهما كفالة أطفالها الأيتام ورعايتهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرق بينهما (3) » .
(ب) امرأة تولد وجمالها بسيط أو يكون بها عاهة، وهي بطبيعة الحال ليس لها دخل في خلقها، فهل يجوز لنا أن نحرمها من متعة الحياة الزوجية وإنجاب الأطفال؟ والجواب لا يجوز لنا ذلك، والإسلام يشحذ همم المؤمنين ويشجعهم على الزواج بأمثال هذه المرأة، وإدخال الفرحة والسرور إلى قلبها.
(ج) امرأة بقيت لظروف معينة بدون زوج، حتى وصلت سن اليأس
__________
(1) محمد عبد الله عرفه: حقوق المرأة في الإسلام ص 88- 89.
(2) عبد الناصر العطار: تعدد الزوجات ص 15- 17.
(3) صحيح البخاري بيروت 1401 هـ جـ 9 ص 439، سنن الترمذي جـ 2 ص 321.(36/255)
وهي راغبة في الزواج، فالأفضل لها طبعا أن تتزوج رجلا متزوجا بأخرى فيملأ عليها حياتها، ويؤنس وحدتها بدلا من أن تظل بقية حياتها عزباء.
(د) قد يتوفى أحد إخوان الرجل أو أحد أقاربه، ويترك زوجته وأولاده فيخشى عليهم الرجل من الضياع والتشرد، فيتزوج عند ذلك بدافع إنساني محض بأرملة أخيه أو قريبه ليرعاها ويرعى أولادها، ويحميهم من العوز والضياع (1) .
(هـ) قد يكون للرجل المتزوج قريبة لا يأويها أحد غيره، ويكون لديها أولاد لا يمكن أن يؤمن لهم الزوج الغريب الرعاية الكافية، فإذا تزوجها قريبها المتزوج أصلا، وأصبحت في عصمته، فقد كفل لها بذلك ولأولادها الأيتام العطف والحنان والرعاية والحماية من شرور الحياة (2) .
وأخيرا نقول إن هذه ليست كل المبررات للأخذ بنظام تعدد الزوجات وهناك بالتأكيد مبررات أخرى تختلف من مجتمع إلى آخر، وتكون دافعا للرجل المسلم على تعدد زوجاته.
ومما لا شك فيه أن نظام تعدد الزوجات- كما رأينا- يحفظ المجتمعات الإنسانية من الفساد الخلقي الذي يؤدي إلى انتشار البغاء وكثرة اللقطاء ويحمي الناس من الإصابات بالأمراض التناسلية التي تنتشر الآن على نطاق واسع ومنها الزهري ومرض انعدام المناعة " الإيدز".
__________
(1) وهبي سليمان: المرأة المسلمة ص 163.
(2) العقاد: المرأة في القرآن ص 108.(36/256)
4 - موقف أعداء الإسلام من تعدد الزوجات:
إن نظام تعدد الزوجات نظام إلهي محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأن كل ما يأتينا من الله سبحانه وتعالى عن طريق القرآن الكريم أو السنة النبوية المشرفة فهو حق لا باطل فيه. وإذا كان لتعدد(36/256)
الزوجات مساوئ كما يذكر بعض من كتب عن هذا النظام من أعداء الأمة الإسلامية فإن تلك المساوئ ناتجة عن قصورنا وسوء تطبيقنا للنظام، وإن ما يحدث في بعض حالات تعدد الزوجات من خلافات وظلم فإن سببها هو تهاون الزوج وعدم عدالته وسوء معاملته لبعض زوجاته. هذا بالإضافة إلى ضعف الوازع الديني لدى بعض الزوجات الأمر الذي يدفعها إلى إثارة المشاكل مع زوجها وزوجاته الأخريات.
وفيما يلي بعض الشبه التي يثيرها أعداء الإسلام نحو نظام تعدد الزوجات وسنذكرها ونقوم بالرد عليها إن شاء الله ردا مقنعا، وهي ولله الحمد شبه وليست حقائق كما سنرى. وهذه هي الشبه:
1 - إباحة الدين الإسلامي للرجل أن يعدد زوجاته وتحريم ذلك على المرأة.
2 - يكون الزواج بأكثر من امرأة سببا في إثارة الخصام والنزاع بين أفراد الأسرة الواحدة الأمر الذي يؤدي إلى تفكك الأسرة وتشرد الأطفال. وبمعنى آخر يكون التعدد سببا للعداوة بين زوجات الرجل الواحد وتنتقل العداوة بالتالي إلى أولادهن.
3 - إن في تعدد الزوجات ظلما للمرأة وهضما لحقوقها وإهدارا لكرامتها ووسيلة لتسلط الرجل عليها من أجل إشباع شهواته.
4 - يؤدي تعدد الزوجات إلى إهمال تربية النشء وتشردهم.
5 - يكون تعدد الزوجات سببا رئيسا في كثرة النسل، وكثرة النسل يؤدي إلى انتشار الفقر والبطالة في البلاد.
6 - الظروف الاقتصادية في العصر الحديث لا تسمح للرجل بأن يعدد زوجاته لأن هذا التعدد يفرض عليه أعباء مالية، فهو سيطالب بالإنفاق على عدد من الزوجات والأولاد في الوقت الذي ازدادت فيه مطالب كل فرد وقلت الموارد المالية.(36/257)
ونقول هنا لأعداء الإسلام الذين يحاربون نظام تعدد الزوجات: إن الله سبحانه وتعالى شرع التعدد، وأباحه لعباده، وأن التعدد سنة أنبياء الله عليهم أفضل الصلاة والسلام، فقد تزوجوا النساء، وجمعوا بينهن في حدود شريعة الله، وأنتم أيها المتحاملون على التعدد أعداء لله ورسوله وأعداء للمرأة نفسها، فالتعدد يكون في معظم الأحيان سياجا يحمي الأسرة من التصدع، ويصون المرأة من الضياع والحرمان.
أما فيما يتعلق بالشبهة الأولى وهي أن الإسلام أباح للرجل أن يعدد زوجاته وحرم ذلك على المرأة فنقول إن المساواة بين الرجل والمرأة في نظام الزواج لا ينبغي أن تكون مساواة مطلقة لاختلاف طبيعة كل من الرجل والمرأة، والمساواة بين مختلفين تعني ظلم أحدهما، فالمرأة خلق الله تعالى لها رحما واحدة، وهي تحمل في وقت واحد ومرة واحدة في السنة ويكون لها تبعا لذلك مولود واحد من رجل واحد. أما الرجل فغير ذلك من الممكن أن يكون له عدة أولاد من عدة زوجات، ينتسبون إليه ويتحمل مسئولية تربيتهم والإنفاق عليهم، وتعليمهم وعلاجهم وكل ما يتعلق بهم وبأمهاتهم من أمور. أما المرأة فعندما تتزوج بثلاثة أو أربعة رجال، فمن من هؤلاء الرجال يتحمل مسئولية الحياة الزوجية؟ أيتحملها الزوج الأول؟ أو الزوج الثاني؟ أم يتحملها الأزواج الثلاثة أو الأربعة؟ ثم لمن ينتسب أولاد هذه المرأة متعددة الأزواج؟ أينتسبون لواحد من الأزواج؟ أم ينتسبون لهم جميعا؟ أم تختار الزوجة أحد أزواجها فتلحق أولادها به؟ (1) .
وفي الحقيقة إن سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه جعلت نظام الزوج الواحد والزوجة الواحدة يصلح لكل من الرجل والمرأة. وجعلت نظام تعدد الأزواج لا يصلح للمرأة، بينما جعلت نظام تعدد الزوجات مناسبا جدا للرجل؛ فالمرأة - كما هو معروف- لها رحم واحد، فلو تزوجت بأكثر من رجل لأتى الجنين من دماء متفرقة، فيتعذر عند ذلك تحديد الشخص المسئول عنه
__________
(1) سعيد الجندول: الجنس الناعم في ظل الإسلام، بيروت 1399 هـ، ص 73- 74.(36/258)
اجتماعيا واقتصاديا وقانونيا. بينما صلحت طبيعة الرجل لأن يكون له عدة زوجات، فيأتي الجنين من نطفة واحدة، وبالتالي يكون والد هذا الجنين معروفا ومسئولا عنه مسئولية كاملة في جميع الأحوال.
وتقوم المسئولية الاجتماعية في نظام تعدد الزوجات على أساس رابطة الدم وهي رابطة طبيعية متينة، بينما يفتقر نظام تعدد الأزواج إلى أساس طبيعي تبنى عليه الروابط الاجتماعية، لأن الإنسان بغير اقتصار المرأة على زوج واحد لا يستطيع أن يعرف الأصل الطبيعي له ولأولاده (1) .
كما أن تعدد الأزواج يمنع المرأة من أداء واجبات الزوجة بصورة متساوية وعادلة بين أزواجها سواء أكان ذلك في الواجبات المنزلية أو في العلاقات الجنسية وبخاصة وأنها تحيض لمدة خمسة أو سبعة أيام في كل شهر، وإذا حملت تمكث تسعة أشهر في معاناة جسدية تحول دون القيام بواجباتها نحو الرجال الذين تزوجوها. وعند ذلك سيلجأ الأزواج- بلا شك - إلى الخليلات من بنات الهوى أو يطلقونها فتعيش حياة قلقة غير مستقرة (2) .
وختاما فإن المجتمع لا يستفيد شيئا من نظام تعدد الأزواج للمرأة بعكس نظام تعدد الزوجات للرجل الذي يتيح فرص الزواج أمام كثير من العانسات والمطلقات والأرامل. هذا إلى جانب أنه لو أبيح للمرأة أن تتزوج ثلاثة أو أربعة رجال لزاد عدد العانسات زيادة كبيرة وأصبح النساء في وضع اجتماعي لا يحسدن عليه (3) .
وهكذا فإنه ليس من العدالة في شيء أن يباح للمرأة أن تعدد أزواجها بحجة مساواتها بالرجل. وليس عدلا كذلك أن يحرم الرجل من صلاحيته في أن يعدد زوجاته بدعوى مساواته بالمرأة في حق الزواج. وسنرى في الصفحات القليلة لهذا البحث أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى الرجل صلاحية تعدد
__________
(1) عبد الناصر العطار: تعدد الزوجات ص 13- 16.
(2) محمد عبده: المسلمون والإسلام، القاهرة 1964م ص 94.
(3) العطار: تعدد الزوجات ص 13- 16.(36/259)
الزوجات لخير المرأة ومن أجل إسعادها، وزيادة فرص الزواج أمامها.
ونأتي بعد ذلك إلى الشبهة الثانية القائلة بأن تعدد الزوجات يؤدي إلى قيام النزاع بين أفراد الأسرة الواحدة نتيجة للعداوة بين زوجات الرجل الواحد وبين أولادهن فنقول: إن هذا النزاع يرجع إلى الغيرة الطبيعية التي لا يمكن أن تتخلص منها النفوس البشرية، فالغيرة موجودة في كل مكان تتساوى فيه الفرص للأفراد، وهكذا تظهر الغيرة بين النساء في ظل نظام تعدد الزوجات.
والغيرة والحزن اللذين تحس بهما المرأة حينما يتزوج زوجها بأخرى شيء عاطفي، والعاطفة لا يصح أن تقدم في أي أمر من الأمور على الشرع (1) .
والضرر الذي يلحق بالمرأة نتيجة للتعدد أخف بكثير من الأضرار التي تلحق بها في حالة بقائها بدون زوج.
ويلاحظ أن الغيرة بين الزوجات لم تمنع الرسول عليه الصلاة والسلام ولم تمنع أصحابه من الأخذ بنظام تعدد الزوجات. وتحدث العداوة كثيرا بين الزوجة الواحدة وبين أقرباء زوجها، وقد يرجع ما يحدث من خلافات ومنازعات في بعض حالات تعدد الزوجات إلى تهاون الزوج وضعفه وعدم عدله وإنصافه في معاملة أهل بيته. هذا بالإضافة إلى ضعف الوازع الديني في نفوس بعض الزوجات بحيث لا يستطعن كبح جماح الغيرة، ومن ثم يعمدن إلى العمل على إلحاق الضرر بضرائرهن، وتعكير صفو الأسرة (2) .
كما يلاحظ أن النزاع بين الزوجات وبين الزوج إنما يحدث في الغالب من أجل الحصول على مطلب من مطالب الحياة الأسرية من مأكل وملبس ومسكن وما شابه ذلك. وقد يكون النزاع حول مكانة كل زوجة من زوجها، ومكانة كل ولد لدى والده. ولهذه المنازعات شبيه في حالة وحدة الزوجة ففيه نجد الزوجة تتنازع مع زوجها في بعض الأحيان من أجل مكانتها عنده بالنسبة لأمه أو أخته. وقد تختلف معه خلافا حادا يؤدي إلى الطلاق لأنه لم يوفر لها بعض ما تحتاج إليه من ملابس أو أثاث أو حلي.
__________
(1) زكي شعبان: الزوج والطلاق في الإسلام ص 43.
(2) محمد عبد الله عرفة: حقوق المرأة في الإسلام ص 96.(36/260)
ونرى أن علاج هذه المشكلات الأسرية يعتمد في الدرجة الأولى على شخصية الرجل وعلى قدرته على إدارة شئون منزله، فإذا كان الرجل عادلا حازما فإن النزاع لا يجد طريقا إلى منزله. أما إذا كان ضعيف الشخصية فإن النزاع سيدب- بلا شك- بين أفراد أسرته، وسواء أكان لديه زوجة واحدة أم عدة زوجات.
وقد تتألف الأسرة من زوج واحد وزوجة واحدة فقط وأولاد ولكن أمور هذه الأسرة ليست على ما يرام وذلك لوجود تنافر بين الزوجين أو لأن العلاقة الزوجية بينهما لم تقم على أساس سليم. أو يكون النزاع لسوء خلقهما معا أو سوء خلق واحد منهما.
وتقول الشبهة الثالثة: إن في نظام تعدد الزوجات هضما لحقوق المرأة، وإهدارا لكرامتها، وهذا كلام غير صحيح ألبتة، فتعدد الزوجات رحمة للنساء، وذلك لأن عدد الرجال الصالحين للزواج أقل بكثير من عدد النساء الصالحات للزواج كما مر بنا في ثنايا هذا البحث، ووجود المرأة كزوجة ثانية أو ثالثة أو حتى رابعة في أسرة خير لها من أن تكون بدون زواج. ويقول أحد المفكرين الغربيين المنصفين عن هذا الموضوع:
" إن نظام الزواج بامرأة واحدة فقط وتطبيقه تطبيقا صارما قائم على أساس افتراض أن عدد أعضاء الجنسين متساويا، وما دامت الحالة ليست كذلك، فإن في بقائه قسوة بالغة لأولئك اللاتي تضطرهن الظروف إلى البقاء عانسات " (1) .
كذلك نرى أن في التعدد صيانة للمرأة بجعلها زوجة فاضلة بدلا من أن تكون خليلة أو عشيقة. ويجب أن يعلم النساء أن اكتفاء الرجل بزوجة واحدة لا يحقق آمال الكثيرات من النساء اللواتي لهن الحق في أن يكن زوجات وأمهات وربات بيوت. وعدم أخذ الرجال بنظام التعدد يؤدي إلى بقاء الكثيرات من النساء بلا زواج ولا أولاد ولا أسر، وهذا يمثل خطرا كبيرا على
__________
(1) محمد فتحي عثمان: الفكر الإسلامي والتطور ص 232.(36/261)
المرأة نفسها وعلى المجتمع الذي تعيش فيه (1) .
وليس في إباحة الإسلام لتعدد الزوجات ظلما للمرأة ولا هضما لحقوقها فقد أعطاها الإسلام الحق في أن تشترط في عقد الزواج أن لا يتزوج زوجها عليها، ويكون لها حسب هذا الشرط الخيار في أن تطالب بفسخ عقد الزواج إذا تزوج زوجها عليها لأن الزوج قد أخل بشرط من شروطه. أو ترضى بالأمر الواقع وتقبل بمشاركة غيرها لها في بيت الزوجية.
ولو فات الزوجة أن تشترط هذا الشرط في عقد الزواج فإن الشريعة الإسلامية تعطيها الحق في طلب الطلاق إذا قصر زوجها في حق من حقوقها (2) .
وإذا كان التعدد يلحق بعض الضرر بالمرأة التي يتزوج عليها زوجها، فإن منفعته مؤكدة للزوجة الجديدة، لأنها لم تقبل بالزواج من رجل متزوج في الأصل إلا لأنها ترى في قبولها فائدة لها، وأن الضرر الذي ينالها كزوجة ثانية أقل بكثير من الأضرار التي ستتعرض لها إذا بقيت بدون زواج، والضرر الكثير يدفع - كما هو معروف شرعا- بالضرر القليل.
ونأتي الآن إلى الشبهة الرابعة التي تقول أن التعدد يكون سببا رئيسيا من إهمال تربية النشء، ونقول إن الإهمال لا ينجم عن التعدد وحده بل إن له أسبابا كثيرة منها عدم مبالاة الأب بتربية أولاده أو انحرافه عن جادة الصواب بشرب الخمر أو تعاطي المخدرات أو لعب القمار أو مصاحبة رفقاء السوء وغير ذلك. وقد يكون الإهمال نتيجة لاختلاف وقع بين الزوجين حول أمر من الأمور المتعلقة بشئون الأسرة.
كما أن فقد الأطفال لمن يعولهم ويتعهدهم بالرعاية والتوجيه يعد سببا من الأسباب التي تحول دون تربيتهم تربية سليمة.
__________
(1) محمد عبد الله عرفة: حقوق المرأة في الإسلام ص 87 وما بعدها.
(2) أبو زهرة: تنظيم الإسلام للمجتمع، ص 76.(36/262)
أما بخصوص تشرد الأطفال وارتباطه بتعدد الزوجات فيقول الشيخ محمود شلتوت (1) : إنه ليس لتعدد الزوجات من حالات التشرد أكثر من (3%) بالمائة وهي نسبة ضئيلة جدا لا يصح أن يذكر بإزائها أن للتشرد أثرا بتعدد الزوجات، وأن تتخذ تلك العلاقة أساسا للتفكير في وضع حد للتعدد مع ما للتعدد من فوائد اجتماعية كثيرة. واعتمد الشيخ شلتوت في كلامه هذا على إحصائية أجراها مكتب الخدمة الاجتماعية في القاهرة لبحث حالات التشرد.
وتقرر الشبهة الخامسة أن تعدد الزوجات يؤدي إلى كثرة النسل وكثرة النسل تؤدي إلى البطالة والفقر، وهذا بطبيعة الحال منطق غير سليم ومرفوض فكثرة النسل مع حسن التربية من أعظم عوامل قوة الأمة وازدهار حياتها وأوضح الأمثلة على ذلك اليابان والصين. والبطالة والفقر موجودان- كما نعلم- في بعض البلاد العربية والإفريقية وأستراليا مع أن أرضها واسعة، ومواردها كثيرة، ولو أحسن أهلها استغلالها لزال الفقر واختفت البطالة، واستوعبت تلك البلاد أضعاف من يعيشون فيها.
ونرى أن الإكثار من النسل في البلاد الإسلامية مطالب شرعي وهام، فهو يساعد الأمة على زيادة الإنتاج الزراعي والصناعي والتجاري، وبه يستغني المسلمون عن العمالة الأجنبية، المخالفة لهم في المعتقد والعادات والتقاليد.
وأخيرا فإن كثرة النسل في المجتمعات الإسلامية ليست سببا في الفقر فإن رزقهم على الله تعالى، وهو الرزاق ذو القوة المتين، والعكس هو الصحيح فإن كثرة الأولاد توسع في الرزق ولا تضيقه، قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} (2) {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} (3) سورة الإسراء، الآية (31) . .
__________
(1) الإسلام عقيدة وشريعة، ص 190.
(2) سورة الإسراء الآية 31
(3) سورة الإسراء الآية 31(36/263)
أما الشبهة الأخيرة، وهي أن الظروف الاقتصادية في العصر الحديث لا تسمح للرجل بأن يعدد زوجاته لأن هذا التعدد يفرض عليه أعباء مالية، فهو سيكون مطالبا بالإنفاق على عدد من الزوجات والأولاد، في الوقت الذي ازدادت فيه مطالب كل فرد، وقفت في الوقت نفسه الموارد المالية.
وأقول هنا: إن قضية تعدد الزوجات قضية اجتماعية ودينية وليست قضية اقتصادية، وأن المشكلات الاقتصادية التي تتعرض لها الأسرة عند تعدد الزوجات أهون بكثير من المشكلات الاجتماعية التي تتعرض لها الأسرة عندما يكون بها عانس أو مطلقة أو أرملة، والأرزاق بيد الله سبحانه وتعالى، والإنسان لا يضمن رزقه في ظل نظام الزوجة الواحدة، حتى يشكو منه في ظل تعدد الزوجات. وقد يكون للرجل الواحد زوجة واحدة ولكنها مسرفة مبذرة، وأكثر خطورة اقتصادية من أربع زوجات صالحات مدبرات لدى رجل آخر.
وفي العصر الحديث، وفي بعض البلاد الإسلامية يزيد دخل الفرد كلما زاد عدد زوجاته، لأن أبواب العمل أصبحت مفتوحة أمام النساء، وكل امرأة تعمل تحصل على راتب شهري وهذا يتيح للزوجة والزوج فرصة طيبة للادخار والاستثمار ورفع مستوى المعيشة وتحقيق الرفاهية لكل أفراد الأسرة.
وحديث عبد الله بن مسعود الذي رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلق الإنسان بين أن الرزق والأجل والعمل والشقاوة والسعادة تكتب على الإنسان عند نفخ الروح وهو في بطن أمه بعد مضي 120 يوما (1) . . ولا يخرج أي إنسان للحياة إلا ورزقه مقدر له من الله فيجب التوكل عليه سبحانه.
__________
(1) انظر هذا الحديث بتمامه وشرحه الذي رواه البخاري ومسلم في جامع العلوم والحكم لابن رجب ص 44- 55.(36/264)
قائمة مصادر ومراجع البحث
أولا: القرآن الكريم.
ثانيا: المصادر:
1 - ابن الأثير، مجد الدين أبو السعادات (ت 606هـ / 1209 م) .
جامع الأصول في أحاديث الرسول، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط، بيروت 1392 هـ.
2 - ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني (ت 852 هـ / 1448 م) .
فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الرياض (بدون تاريخ) .
3 - ابن قدامة، أبو محمد عبد الله بن أحمد المقدسي (ت 620 هـ / 1222 م) .
المغنى، مكتبة الجمهورية، القاهرة (بدون تاريخ) .
4 - ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني (ت 275 هـ / 888 م) .
سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت (بدون تاريخ) .
5 - ابن هشام، أبو محمد عبد الملك (ت 218 هـ \ 833 م) .
سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، القاهرة 1356 هـ.
6 - أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 275 هـ / 888 م) .
صحيح سنن المصطفي، دار الكتاب العربي، بيروت (بدون تاريخ) .
7 - البخاري، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل (ت 256 هـ / 869 م) .
صحيح البخاري، بيروت 1401 هـ.
8 - الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى (ت 279 هـ \ 892 م) .
سنن الترمذي (الجامع الصحيح) بيروت 1394 هـ.
9 - الشوكاني، محمد بن علي بن محمد (ت 1255هـ / 1839 م) .
نيل الأوطار، شرح منتقى الأخبار، بيروت (بدون تاريخ) .
10 - الصنعاني، محمد بن إسماعيل (ت 1182هـ / 1768 م) .
سبل السلام، شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام لابن حجر، الرياض 1400 هـ.
11 - مسلم، أبو الحجاج مسلم بن الحجاج القشيري (ت 261 هـ \ 874 م) .
صحيح مسلم بشرح النووي، بيروت 1389 هـ.(36/265)
ثالثا: المراجع:
12 - أحمد علي طه ريان:
تعدد الزوجات ومعيار تحقيق العدالة بينهن، القاهرة 1394 هـ.
13 - زكي الدين شعبان:
الزواج والطلاق في الإسلام، القاهرة 1384 هـ
14 - سعيد عبد العزيز الجندول:
الجنس الناعم في ظل الإسلام، بيروت 1399 هـ.
15 - سيد قطب:
في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت 1402 هـ.
16 - عباس محمود العقاد:
المرأة في القرآن، بيروت 1389 هـ.
17 - عبد الناصر توفيق العطار:
تعدد الزوجات من النواحي الدينية والاجتماعية والقانونية، بيروت 1396 هـ.
18 - علي عبد الواحد وافي:
قصة الزواج والعزوبة في العالم، القاهرة 1395 هـ.
19 - عمر رضا كحالة:
الزواج، بيروت 1397 هـ.
20 - محمد أبو زهرة.
تنظيم الإسلام للمجتمع، القاهرة 1385 هـ.
21 - محمد رشيد رضا:
حقوق النساء في الإسلام، القاهرة 1398 هـ.
22 - محمد عبد الله عرفة:
حقوق المرأة في الإسلام، القاهرة 1398 هـ.
23 - محمد عبده:
المسلمون والإسلام، القاهرة 1384 هـ.
24 - محمد فتحي عثمان:
الفكر الإسلامي والتطور، الكويت 1388 هـ.
25 - مصطفي السباعي:
المرأة بين الفقه والقانون، بيروت 1382 هـ.(36/266)
سجود الشكر
وأحكامه في الفقه الإسلامي
إعداد
الدكتور: عبد الله بن عبد العزيز الجبرين.
الأستاذ المساعد بالكلية المتوسطة بالرياض
قسم الدراسات الإسلامية.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام الشاكرين وقدوة المؤمنين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد. . فإن نعم الله على خلقه كثيرة لا تحصي، قال الله تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} (1) ، وقال جل وعلا: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (2) وشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعم من أعظم أسباب دوامها واستمرارها، وأن كفرها من أكبر أسباب زوالها، قال الله تعالى:
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 34
(2) سورة لقمان الآية 20(36/267)
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (1) وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (2) .
وشكره جل وعلا على نعمه يكون بالقلب وذلك بأن يستشعر العبد بأن الله وحده هو الذي وهبه هذه النعم تفضلا منه وكرما، وأن يقصد الخير، ويضمره للخلق، ويكون باللسان، بالثناء على الله، والاعتراف له قولا بالتفضل والإنعام، وذكره تعالى بأنواع الذكر، كما يكون أيضا بالجوارح، وذلك بالاستعانة بهذه النعم على القيام بأوامر الله، واجتناب محارمه، والتقرب إليه سبحانه وتعالى بأنواع القربات من النوافل وغيرها (3) .
ومن أعظم ما يشكر به العبد ربه سبحانه وتعالى عند تجدد النعم أو اندفاع النقم أن يخر لله ساجدا، فيضع أشرف عضو من أعضاء جسمه- وهو الوجه- على الأرض وينكس جوارحه خضوعا وتذللا لله جل وعلا، وشكرا له على هذه النعم، ويذكره في هذا السجود وهو على هذه الحال بأنواع الذكر من الشكر والتسبيح والدعاء والاستغفار وغيرها فيكون العبد قد شكر المنعم جل وعلا بهذا السجود بقلبه ولسانه وجوارحه.
ولذلك فإنه يرجى لمن شكر الله سبحانه وتعالى بهذه العبادة العظيمة أن يزيده من النعم، وأن يجعل هذه النعم إكراما له لا استدراجا أو ابتلاء واختبارا.
ومن أجل أهمية هذا الموضوع الذي هو شكر الله جل وعلا بالسجود له، ونظرا إلى أن هذه العبادة العظيمة والسنة النبوية الثابتة قد هجرها كثير من الناس، ونظرا إلى أن مسائل هذا الموضوع لم تنتظم في رسالة مستقلة، أحببت أن أجمع هذه المسائل في بحث مستقل.
أسأل أن ينفع بهذا العمل كاتبه وقارئه وجميع المسلمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 7
(2) سورة النحل الآية 112
(3) الفتاوى الكبرى 1 \ 215 تفسير ابن كثير 1 \ 36، مختصر منهاج القاصدين ص 277.(36/268)
المبحث الأول: حكم سجود الشكر:
اتفق أهل العلم على أن سجود الشكر غير واجب (1) ، ثم اختلفوا بعد ذلك في مشروعيته على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه سنة يستحب فعلها، وهذا قول جمهور أهل العلم (2) ، وممن قال بذلك الإمام الشافعي (3) والإمام أحمد (4) وإسحاق والليث وداود وأبو ثور وابن المنذر (5) وأبو يوسف في رواية عنه، ومحمد بن الحسن الشيباني، وهو المشهور من مذهب الحنفية (6) وقال به بعض المالكية (7) ، وهو مذهب الشافعية (8) والحنابلة (9) ، ونقل عن الإمام مالك أنه قال: لا بأس به.
وقد روي فعل هذا السجود عن كثير من السلف، فقد روي عن أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سجد لما جاءه خبر فتح اليمامة وقتل مسيلمة الكذاب.
__________
(1) مجموع الفتاوى 21 \ 293.
(2) سنن الترمذي 4 \ 141، شرح السنة 3 \ 317.
(3) الأم 1 \ 134.
(4) الإفصاح 1 \ 146، الإنصاف 2 \ 200، المبدع 2 \ 33، 34.
(5) الأوسط لوحة 280، المغني 2 \ 371، المجموع 4 \ 70.
(6) رد المحتار 1 \ 524، فتح القدير 1 \ 523.
(7) عارضة الأحوذي 7 \ 73، التاج والأكليل 2 \ 61.
(8) المجموع 4 \ 68.
(9) الإنصاف 2 \ 200.(36/269)
وروي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سجد لما جاءه خبر بعض الفتوحات في عهده رضي الله عنه وروي أيضا أن كعب الأحبار قال لعمر رضي الله عنه: إنا لنجد: "ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء" فقال عمر: "إلا من حاسب نفسه " قال كعب: "إلا من حاسب نفسه ". فكبر عمر وخر ساجدا.
وسجد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين وجد ذا الثدية مع قتلى الخوارج بعد وقعة النهروان بينه وبينهم، لأنه عرف أنه على الحق،(36/270)
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن الخوارج أنهم شر الناس، وأن سيماهم أن فيهم رجلا ليس له ذراع، وعلى رأس عضده مثل حلمة الثدي.
وثبت أن كعب بن مالك رضي الله عنه سجد لما جاءته البشرى بتوبة الله عليه (1) .
وروي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها سجدت لما وجدت شيئا فقدته كان أعطاها إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) رواه البخاري (4418) ومسلم 17 \ 87-98.(36/271)
وروي أن الحسن البصري سجد لما بشر بموت الحجاج بن يوسف، وكان مختبئا خوفا منه (1)
__________
(1) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر (134) والخرائطي في فضيلة الشكر (66) وأبو نعيم في الحلية 2 \ 159.(36/272)
القول الثاني: أن سجود الشكر غير مشروع، بل هو مكروه لا يستحب فعله، روي هذا القول عن إبراهيم النخعي، ونقل عن الإمام أبي حنيفة (1) وعن الإمام مالك في الرواية المشهورة عنه (2) ، وهو المشهور من مذهب المالكية (3)
__________
(1) رد المحتار 2 \ 524، الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 21، 373، مراقي الفلاح مع حاشيته للطحاوي ص 323.
(2) المدونة 1 \ 104، البيان والتحصيل 1 \ 392، وينظر المجموع 2 \ 70، ورحمة الأمة ص 43.
(3) مختصر خليل مع شرحه للخرشي 1 \ 351.(36/272)
القول الثالث: أن سجود الشكر محرم، لا يجوز فعله، وهذا قول لبعض المالكية (1) .
واستدل أصحاب هذا القول بقوله تعالى مخبرا عن داود عليه السلام: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (2) ، قالوا: في هذه الآية دلالة على أن السجود للشكر مفردا لا يجوز لأنه ذكر معه الركوع (3) ، فدل على أن الجائز هو أن يأتي بركعتين شكرا، فأما سجدة مفردة فلا (4) .
__________
(1) التاج والإكليل 2 \ 61، تفسير القرطبي 15 \ 183.
(2) سورة ص الآية 24
(3) فعلى هذا يكون معنى الآية أن داود عليه السلام قام إلى الصلاة ثم ركع ثم خر من الركوع إلى السجود.
(4) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي- تفسير سورة ص- 15 \ 183.(36/272)
ويمكن أن يجاب عن الاستدلال بهذه الآية بأن المراد بالركوع في هذه الآية السجود، لأنه قد يعبر عن السجود بالركوع، قال الشاعر:
فخر على وجهه راكعا ... وتاب إلى الله من كل ذنب (1)
قال ابن العربي المالكي عند تفسيره لهذه الآية: " لا خلاف بين العلماء أن الركوع هاهنا السجود، لأنه أخوه، إذ كل ركوع سجود، وكل سجود ركوع، فإن السجود هو الميل، والركوع هو الانحناء، وأحدهما يدل على الآخر، ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئة، ثم جاء على تسمية أحدهما بالآخر، فسمي السجود ركوعا " (2) .
ثم لو سلم أن ما فعله داود عليه الصلاة والسلام هو الصلاة، فليس في ذاك دلالة على المنع من سجود الشكر أو كراهته، إذ هو مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على تحريم ما عداه على الصحيح، وإنما يدل على الندب، وهذا في حق نبينا صلى الله عليه وسلم، فغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من باب أولى، ثم لو سلم أن الفعل يدل على تحريم ما عداه، فإن هذا العمل من شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد في شرعنا ما يخالفه (3) ، وقد ورد في شرعنا ما يخالفه (4) ، فلا يكون حجة.
واستدل أصحاب القول الثاني، وهم القائلون بكراهية سجود الشكر بأدلة أهمها:
الدليل الأول: ما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله
__________
(1) المرجع السابق 15 \ 182.
(2) أحكام القرآن 4 \ 1639، وينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 23 \ 145.
(3) المستصفى 1 \ 248-251، روضة الناظر ص 142- 145.
(4) سيأتي ذكر الأدلة على مشروعية سجود الشكر عند الكلام على أدلة القول الأول.(36/273)
عنه قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وانقطعت السبل، فادع الله أن يسقينا، فدعا، فمطرنا، فما كدنا أن نصل إلى منازلنا، فما زلنا نمطر إلى الجمعة الأخرى، قال: فقام ذلك الرجل- أو غيره- فقال: يا رسول الله تهدمت البيوت وتقطعت السبل، فادع الله أن يصرفه عنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم حوالينا ولا علينا " قال: فلقد رأيت السحاب يتقطع يمينا وشمالا، يمطرون ولا يمطر أهل المدينة (1) »
وجه الاستدلال بالحديث: أنه صلى الله عليه وسلم لم يسجد لتجدد نعمة المطر أولا، ولا لدفع نقمته آخرا (2) ، فدل ذلك على أن السجود عند تجدد النعم أو اندفاع النقم غير مستحب، إذ لو كان مستحبا ما تركه صلى الله عليه وسلم (3) .
وأجيب عن الاستدلال بهذا الحديث بأن ترك السجود في بعض المواضع لا يدل على أن السجود للشكر غير مستحب، فإن المستحب يفعل تارة ويترك أخرى، وقد يترك صلى الله عليه وسلم فعل المستحب في بعض الأحيان بيانا لعدم وجوبه، ويمكن أن يجاب عن ذلك أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم ترك السجود حينئذ لأن فيه مشقة، لأنه كان على المنبر (4) .
الدليل الثاني: قالوا: إن البشارات كانت تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده، ولم ينقل عن أحد منهم أنه سجد سجدة الشكر، ولو كانوا فعلوا ذلك لنقل إلينا نقلا متظاهرا، لحاجة العامة إلى جوازه، وكونه قربة، ولو كان مستحبا لم يتركه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه.
__________
(1) صحيح البخاري الأحاديث (1013-1019) ،: صحيح مسلم 5 \ 191- 195.
(2) المجموع 4 \ 70.
(3) المغني 2 \ 372.
(4) المغني 2 \ 372، المجموع 4 \ 70.(36/274)
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بأن ما ذكروه من عدم النقل غير مسلم، فقد نقل فعل هذا السجود عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) ، وعن-جماعة من أصحابه (2) فثبت بذلك ظهوره واشتهاره، وبطل ما قالوه (3) ، وكون بعض العلماء لم يطلع على ذلك لا يدل على عدم وروده، قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى بعد ذكره لخلاف الإمامين أبي حنيفة ومالك قال: " وإنكار ورود سجود الشكر عن النبي صلى الله عليه وسلم من مثل هذين الإمامين مع وروده عنه صلى الله عليه وسلم من هذه الطرق التي ذكرها المصنف وذكرناها من الغرائب " (4) .
الدليل الثالث: استدل بعض المالكية لهذا القول بأن سجود الشكر لم يكن من عمل أهل المدينة، فدل ذلك على أنه غير مشروع.
ويمكن أن يجاب عن ذلك بعدم التسليم بأنه ليس من عمل أهل المدينة، فقد ورد هذا السجود عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم وهم من أكابر أهل المدينة رضي الله عنهم أجمعين، ثم لو سلم أنه لم يكن من عمل أهل المدينة فإن الصحيح أن عملهم ليس حجة، وإنما الحجة إجماع المسلمين (5) .
الدليل الرابع: قال بعضهم: إن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من السجود للشكر منسوخ (6) .
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بأن النسخ لا يثبت إلا بدليل، وهو غير موجود، وأيضا فإن بعض الصحابة رضي الله عنهم قد فعلوا هذا السجود
__________
(1) وسيأتي ذكر ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك قريبا عند ذكر أدلة القول الأول.
(2) سبق ذكر ما نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم في ذلك.
(3) المغني 2 \ 372.
(4) نيل الأوطار 3 \ 129.
(5) الأحكام لابن حزم 4 \ 202، التمهيد لأبي الخطاب 3 \ 273، المستصفى 1 \ 187، فواتح الرحموت 2 \ 232.
(6) مراقي الفلاح (مطبوع مع حاشيته للطحطاوي ص 323) .(36/275)
في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام (1) ، وهذا يدل على أن سجود الشكر غير منسوخ (2) .
الدليل الخامس: أن الإنسان لا يخلو في جميع أحيانه من نعمة من نعم الله عليه، فلو كلف السجود لذلك للزمه الحرج والمشقة (3) ، ولا معنى لتخصيص بعضها بالسجود (4) .
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بأن المشروع هو السجود عند النعم الحادثة التي يندر وقوعها، وليس عند النعم المستمرة، فالنعم المستمرة إنما يكون شكرها بأنواع الطاعات، ثم إن سجود الشكر سنة وليس بواجب، فليس في تركه في بعض الأحيان إثم أو حرج، واستدل أصحاب القول الأول بأدلة أهمها:
الدليل الأول: ما رواه البراء بن عازب رضي الله عنهما في حديثه الطويل في قصة إسلام همدان، وفيه: «فكتب علي رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خر ساجدا، ثم رفع رأسه فقال: السلام على همدان، السلام على همدان (5) »
__________
(1) سبق تخريج هذه الآثار ص 2-4.
(2) انظر 053 حاشية رد المحتار 1 \ 524، وحاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص 323.
(3) مراقي الفلاح مع حاشيته للطحطاوي ص 323، المجموع 4 \ 70، فيض القدير 5 \ 118.
(4) إعلام الموقعين 2 \ 410.
(5) رواه البيهقي 2 \ 369 من طريقين أحدهما صحيح عن أبي عبيدة بن أبي السفر قال سمعت إبراهيم بن يوسف بن أبي إسحاق عن أبيه عن أبي إسحاق عن البراء فذكره وإسناده حسن، أبو عبيدة بن أبي السفر صدوق يهم كما في التقريب 1 \ 18، ومثله شيخه إبراهيم بن يوسف كما في التقريب 1 \ 47، وأبو إسحاق قيل إنه اختلط بآخره، وأنكر ذلك الذهبي في الميزان 3 \ 270، فقال: ''شاخ ونسي ولم يختلط '' وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما لجماعة من العلماء من روايتهم عن أبي إسحاق، ومنهم يوسف بن أبي إسحاق الراوي عنه هنا، انظر الكواكب النيرات ص 303، بل إن البخاري قد أخرج صدر هذا الحديث في صحيحه (4349) من طريق شريح بن مسلمة عن إبراهيم بن يوسف - كما في رواية البيهقي هنا- ولذلك فقد أخرج الإسماعيلي الحديث بتمامه في مستخرجه على صحيح البخاري بإسناد البيهقي كما في الفتح 8 \ 66، وقال البيهقي بعد إخراجه لهذا الحديث: ''أخرج البخاري صدر هذا الحديث. . . وسجود الشكر في تمام الحديث صحيح على شرطه ''. وصحح إسناد هذا الحديث أيضا المنذري في مختصر السنن 4 \ 86، وابن الهمام في فتح القدير 1 \ 425، وابن القيم في زاد المعاد 1 \ 360 وذكر إن إسناده على شرط البخاري.(36/276)
الدليل الثاني: ما رواه أبو بكر رضي الله عنه «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا جاءه أمر سرور أو بشر به خر ساجدا شكرا لله (1) »
الدليل الثالث: ما رواه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لقيت جبريل عليه السلام، فبشرني، وقال: من صلى عليك صليت عليه، ومن سلم عليك سلمت عليه، فسجدت لله شكرا (2) »
الدليل الرابع: ما ثبت في الصحيحين من أن كعب بن مالك رضي الله عنه سجد شكرا لما بشر بتوبة الله عليه سبق تخريجه. وهذا الأثر وإن كان موقوفا على
__________
(1) رواه الإماء أحمد 5 \ 45، وأبو داود (2774) والترمذي (1578) وابن ماجه (1394) وابن أبي الدنيا في كتاب الشكر ص 46، والخرائطي في فضيلة الشكر ص54، والحاكم 1 \ 276، والدارقطني 1 \ 148، 147، 410، والخطيب في تاريخ بغداد 2 \ 124، و4 \ 157، والبيهقي 2 \ 369، وابن عدي 2 \ 475، وابن المنذر في الأوسط لوحة 280 من طرق عن بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه عن أبي بكرة فذكره. وبكار مختلف في توثيقه، انظر تهذيب التهذيب 2 \ 478، 479، وقال في التقريب ''صدوق يهم '' وأبوه ''صدوق '' كما في التقريب.
(2) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر (38) وعبد بن حميد في المنتخب (82) ، والحاكم 1 \ 550، والبيهقي 2 \ 371، والمخلص كما في جلاء الأفهام ص 33 من طريق سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو عن عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الرحمن بن عوف فذكره. ورجاله ثقات، عدا عبد الواحد بن محمد فلم يوثقه سوى ابن حبان. ورواه الإمام أحمد (1664) ، من طريق سليمان بن بلال به، دون ذكر عاصم بن عمر، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند. ورواه أيضا، أحمد (1662) ، والبيهقي في الموضع السابق من طريق يزيد بن الهاد عن عمرو بن أبي عمرو عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الرحمن بن عوف فذكره، ورجاله، ثقات، عدا أبي الحويرث، وهو صدوق سيئ الحفظ كما في التقريب، وصحح هذا الإسناد أيضا الشيخ أحمد شاكر. وقد حسن هذا الحديث الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء (474) .(36/277)
الصحابي فقد قال: إنه في حكم المرفوع، لأنه رضي الله عنه فعل هذه العبادة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل عليه، ولم ينكر عليه ذلك، فدل ذلك على مشروعية سجود الشكر.
الدليل الخامس: ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في (ص) وقال: سجدها داود توبة، ونسجدها شكرا (1) »
الدليل السادس: ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «خرج صلى الله عليه وسلم يتبرز، فاتبعته بإداوة من ماء، فوجدته ساجدا في شربة، فتنحيت عنه، فلما فرغ رفع رأسه، فقال: أحسنت يا عمر حين تنحيت عني،
__________
(1) رواه النسائي في تفسيره 2 \ 219، رقم (458) ، وفي سننه الكبرى- كما في تحفة الأشراف 40 \ 414، رقم (5506) ، وفي المجتبي في كتاب الافتتاح باب سجود القرآن 2 \ 159 عن إبراهيم بن الحسن المصيصي عن حجاج بن محمد عن عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره. ورواته ثقات، إلا أن حجاج بن محمد اختلط بآخرين، وكان كما ذكر ابن سعد قدم بغداد من المصيصة لحاجة فتغير، ولم يزل بها حتى مات، فلعل إبراهيم بن الحسن المصيصي سمع منا بالمصيصة قبل اختلاطه، وقيل: إن ابن معين أمر أولاد حجاج أن لا يدخلوا عليه أحدا بعد اختلاطه، وقال بعض العلماء: إن أحاديث الناس عند صحاح إلا ما روى سنيد عنه، وقال الإمام الذهبي بعد ذكره اختلاط حجاج: ''ما هو تغيرا يضر. . . وحديثه في دواوين الإسلام ولا أعلم شيئا أنكر عليه مع سعة علمه''. انظر الطبقات الكبرى 7 \ 333، وسير أعلام النبلاء 9 \ 449، وتهذب التهذيب 1 \ 205، 206، و 4 \ 244. قال السيوطي في الدر المنثور 7 \ 165: '' أخرجه النسائي وابن مردويه بسند جيد '' وجود إسناد هذه الرواية أيضا الشوكاني في فتح القدير 4 \ 428، وقال شيخنا عبد العزيز بن باز من بعض دروسه: ''هذا سند لا بأس به''، وقال الحافظ في الدراية 1 \ 211: ''رواته ثقات''، وقال ابن كثير في تفسيره: ''رجال إسناده كلهم ثقات''. ورواه محمد بن الحسن الشيباني كتاب الحجة باب سجود القرآن 1 \ 109 ومن طريقه الدارقطني في سننه في سجود القرآن 1 \ 407، والطبراني في الكبير 12 \ 34، رقم (12386) ، وفي الأوسط 2 \ 11، رقم (1012) والخطيب في تاريخ بغداد 13 \ 54 عن عمر بن ذربه كما في الرواية السابقة. ورجاله ثقات، عدا محمد بن الحسن ففي روايته ضعف انظر الميزان 3 \ 153، ولسان الميزان 5 \ 121. وقال أبو محمد الغساني في كتابه تخريج الأحاديث الضعاف وسنن الدارقطني ص 150 بعد ذكره لهذه الرواية: ''محمد بن الحسن ليس بقوي''. ورواه الدارقطني في الموضع السابق من طريق عبد الله بن بزيع عن عمر بن ذربه كما في الروايتين السابقتين. وعبد الله بن بزيع ضعيف جدا. انظر: الكامل 4 \ 1566، ولسان الميزان 3 \ 263 ورواه الشافعي في كتابه القديم كما في معرفة السنن للبيهقي 3 \ 252 عن سفيان عن عمر بن ذر عن أبيه مرسلا ورواه الببهقي في سننه الكبرى 2 \ 319، وفي معرفة السنن 3 \ 252 عن طريق ابن المقرئ عن سفيان به كما في الرواية السابقة. ثم قال البيهقي في السنن: ''هذا هو المحفوظ مرسلا، وقد روي من أوجه عن عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن حبير عن ابن عباس موصولا، وليس بقوي''. ورواه عبد الرزاق في مصنفه 3 \ 338، رقم (5870) عن معمر عن عمر بن ذر به كما في الروايتين السابقتين.(36/278)
إن جبرائيل أتاني فقال: من صلى عليك صلاة صلى الله عليه عشرا، ورفعه عشر درجات (1) »
الدليل السابع: ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعا، قال: «مر رجل بجمجمة إنسان، فحدث نفسه، فخر ساجدا، فقيل له: ارفع رأسك فأنت أنت وأنا أنا (2) »
وهذه القصة قد تكون من شرع من قبلنا وقد قصها النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها، وقد ورد في شرعنا ما يوافقها، فتكون حجة على مشروعية سجود الشكر.
الدليل الثامن: ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر بحاجة فخر ساجدا (3) »
__________
(1) رواه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ص (24) من طريق سلمة بن وردان حدثني مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر فذكره، وسلمة بن وردان ضعيف كما في التقريب. ورواه الطبراني في الصغير (1016) وفي الأوسط، والضياء في المختارة كما في القول البديع ص 158، 159، من طريق الأسود بن يزيد عن عمر، وقال السخاوي: ''قلت: إسناده جيد، بل صححه بعضهم''.
(2) رواه البزار كما في كشف الأستار (755) عن الوليد بن عمر بن سكين ثنا حبان بن هلال ثنا جعفر بن سليمان عن محمد بن المنكدر عن جابر فذكره، وإسناده حسن، رجاله ثقات عدا الوليد بن عمر، وهو صدوق كما في التقريب، وعدا جعفر بن سليمان- وهو الضبعي- فهو '' صدوق، زاهد '' كما في التقريب، وقال الهيثمي في المجمع 2 \ 287: ''رجاله ثقات''. وقال البزار: '' لم أحسب جعفر بن سليمان سمع ابن المنكدر ولا روى عنه إلا هذا على أنه روى عن من هو دونه في السن، مثل بشر بن المفضل وعبد الوارث''. وقول البزار فيه نظر، فقد ذكر الإمام مسلم في مقدمة صحيحه أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديما وحديثا أن إمكان اللقاء كاف للاتصال، انظر صحيح مسلم مع شرحه للنووي 1 \ 130، ولا شك في إمكان اللقاء بين هذين الراويين، وأيضا فقد ذكر المزي في تهذيب الكمال لوحة 196 ابن المنكدر في شيوخ جعفر بن سليمان، والله أعلم.
(3) رواه ابن ماجه (1392) عن يحيى بن عثمان بن صالح عن أبيه عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمر بر الوليد بن عبدة السهمي عن أنس بن مالك فذكره، وإسناده ضعيف، يحيى بن عثمان صدوق، لينه بعضهم؛ لكونه حدث من غير أصله، كما في التقريب، وابن لهيعة اختلط بعد احتراق كتبه، وقال في نيل الأوطار 3 \ 128: ''في سنده ضعف واضطراب''.(36/279)
الدليل التاسع: ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد سجود الشكر (1) »
الدليل العاشر: ما رواه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه فدعا الله ساعة، ثم خر ساجدا، فمكث طويلا ثم قام فرفع يديه ساعة، ثم خر ساجدا- فعل ذلك ثلاث مرات- ثم قال: "إني سألت ربي وشفعت لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي، فخررت لربي ساجدا شكرا، ثم رفعت رأسي، فسألت ربي لأمتي، فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجدا لربي شكرا، ثم قمت فسألت ربي لأمتي فأعطاني الثلث الأخير، فخررت ساجدا لربي عز وجل (2) »
الدليل الحادي عشر: ما رواه أبو موسى رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته سجد سجدة الشكر، وقال: سجدت شكرا (3) »
الدليل الثاني عشر: ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به رجل به زمانة فنزل وسجد، ومر به أبو بكر فنزل وسجد، ومر به عمر فنزل وسجد (4) » الدليل الثالث عشر: مما روي عن عرفجة «أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا به زمانة فسجد، وأن أبا بكر أتاه فتح فسجد، وأن عمر أتاه فتح فسجد (5) »
__________
(1) رواه الإمام أحمد في المسند 5 \ 393 من طريق ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن أبي تميم الجيشاني عن سعيد عن حذيفة فذكره مطولا، ورجاله ثقات، عدا ابن لهيعة، فهو صدوق، وقد اختلط بعد احتراق كتبه كما في التقريب.
(2) رواه أبو داود (2775) والبيهقي 2 \ 370 ص طريق يحيى بن الحسن بن عثمان عن الأشعث بن إسحاق بن سعد عن عامر بن سعد عن أبيه فذكره، ويحيى بن الحسن وشيخه الأشعث لم يوثقهما سوى ابن حياد في كتاب الثقات 9 \ 249، و6 \ 62، 63. والحديث صححه ابن القيم في زاد المعاد 3 \ 584، وحسن إسناده الشربيني في مغني المحتاج 1 \ 218، وابن الهمام في فتح القدير 1 \ 524.
(3) قال الهيثمي 2 \ 289: ''رواه الطبراني في الكبير، وفيه جماعة بن مصعب ضعفه يحيى بن معين والبخاري وجماعة، ووثقه علي بن يحيى، وذكره ابن حبان في الثقات''.
(4) سبق تخريجه.
(5) سبق تخريجه.(36/280)
الدليل الرابع عشر: أن سجود الشكر روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم (1) ، ولم يثبت عن أحد ممن عاصرهم خلاف قولهم (2) ، فهذا كالإجماع منهم على مشروعيته.
الدليل الخامس عشر: قياس سجود الشكر عند النعم المتجددة على السجود والصلاة عند الآيات المتجددة، فكما أنه يشرع السجود عند الآيات المتجددة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم آية فاسجدوا (3) » ، وكما أنه تشرع الصلاة عند حدوث الآيات المخوفة كالكسوف والخسوف فكذلك يشرع السجود عند حدوث نعمة عظيمة، أو اندفاع نقمة عظيمة (4) .
والراجح من هذه الأقوال هو القول الأول، وهو القول بمشروعية سجود الشكر، وذلك لقوة أدلته، فالأحاديث التي استدل بها أصحاب هذا القول منها ما هو صحيح، ومنها ما هو حسن، ومنها ما فيه ضعف يسير بحيث يتقوى بغيره، فبعض هذه الأحاديث يكفي لإثبات مشروعية سجود الشكر، فكيف بمجموعها، كيف وقد عضد هذه الأحاديث الآثار الواردة عن بعض الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، ولم يثبت عن أحد ممن عاصرهم رضي الله عنهم خلاف ذلك، وهذا كالإجماع منهم على مشروعيته، فضلا عن أن ذلك هو مقتضى النظر السليم والقياس الصحيح، وأيضا فإن الأدلة التي استدل بها القائلون بعدم مشروعية سجود الشكر كلها ضعيفة، وقد أجيب عنها كما سبق.
__________
(1) وقد سبق ذكر من روى ذلك عنهم منهم.
(2) المحلى 5 \ 12، المسألة، (557) .
(3) روى أبو داود (1197) ، والترمذي (3891) ، والبغوي (1156) من طريقين أحدهما حسن عن الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قيل لابن عباس رضي الله عنهما بعد صلاة الصبح: ماتت فلانة لبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فسجد، فقيل له: أتسجد هذه الساعة؟ فقال: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ''إذا رأيتم آية فاسجدوا''. فأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الترمذي: ''حسن غريب ''، والحكم بن أبان ''صدوق عابد له أوهام''، كما في التقريب 1 \ 190. فالحديث إسناده حسن إن شاء الله، وقد حسنه الشيخ محمد ناصر الدين في تعليقه على المشكاة 1 \ 470، والشيخ شعيب الأرناؤوط تعليقه على شرح السنة 4 \ 385.
(4) تهذيب السنن 1 \ 410، 411.(36/281)
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: " قد وردت أحاديث كثيرة بعضها صحيح وبعضها فيه ضعف، ومجموعها مما تقوم به الحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجود شكر في مواضع، ولم يرد في ذلك غير فعله صلى الله عليه وسلم فلم يكن واجبا " (1)
__________
(1) البحر الزخار 1 \ 286.(36/282)
المبحث الثاني. متى يشرع سجود الشكر؟
ذكر كثير من العلماء أنه لا يستحب السجود للنعم المستمرة كنعمة الإسلام، ونعمة العافية، ونعمة الحياة، ونعمة الغنى عن الناس، لأن نعم الله دائمة لا تنقطع، فلو سجد لذلك لاستغرق عمره في السجود، وإنما يكون شكر هذه النعم بالطاعات والعبادات (1) .
قال الإمام الشوكاني رحمه الله: " فإن قلت: نعم الله على عباده لا تزال واردة عليه في كل لحظة؟ قلت: المراد النعم المتجددة التي يمكن وصولها ويمكن عدم وصولها، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد إلا عند تجدد تلك النعم مع استمرار نعم الله سبحانه وتعالى عليه وتجددها في كل وقت " (2) .
وقد اتفق القائلون بمشروعية سجود الشكر على أنه يستحب السجود عند مفاجأة نعمة عامة لها شأن، وعند اندفاع بلية عامة من حيث لا يحتسب.
فمثال النعمة العامة انتصار المسلمين على عدوهم، ومثال اندفاع بلية عامة رجوع عدو أراد أن يداهم بلاد المسلمين، أو انقطاع وباء خطير تفشى في بلاد المسلمين.
واختلف العلماء بعد ذلك في بعض الحالات هل يستحب فيها سجود الشكر أم لا؟ وسنتكلم على هذه الحالات في المسائل الآتية:
__________
(1) إعلام الموقعين 2 \ 410، الإحكام للشيح عبد الرحمن بن قاسم 1 \ 331.
(2) البحر الزخار 1 \ 286.(36/282)
المسألة الأولى: السجود عند حدوث نعمة خاصة:
اختلف أهل العلم في سجود الشكر هل يستحب عند حدوث نعمة خاصة به أو اندفاع نقمة عنه، كأن يرزقه الله ولدا أو يجد ضالته أو ينجيه الله من هلكة ونحو ذلك، أم أنه لا يسجد إلا عند حدوث نعمة عامة للمسلمين، اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يستحب السجود لذلك، وبهذا قال الإمام الشافعي وأصحابه (1) والإمام أحمد وأكثر أصحابه، وهو الصحيح من مذهبه (2) ، وقال به بعض الحنفية (3) .
ويمكن أن يستدل لهذا القول بما يلي:
الدليل الأول: ما رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه سجد شكرا لما بشر بتوبة الله عليه (4) ، وكان سجوده في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والقرآن ينزل عليه، فدل ذلك على مشروعية السجود عند حدوث نعمة خاصة.
الدليل الثاني: ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعا قال: «مر رجل بجمجمة إنسان، فحدث نفسه فخر ساجدا (5) » . . .
الدليل الثالث: ما روي عن ابن عمر وعرفجة رضي الله عنهم «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به رجل به زمانة فنزل وسجد (6) »
وجه الاستدلال بهذه الأحاديث: أن السجود عند رؤية المبتلى سجود لأمر يخص الساجد (7) ، حيث إنه يسجد شكرا لله الذي عافاه مما أصاب هذا المبتلى.
__________
(1) المجموع 4 \ 68، وانظر دليل الفالحين 3 \ 643.
(2) المبدع 2 \ 34، الإنصاف 2 \ 200.
(3) الفتاوى الهندية 1 \ 127، حاشية الطحطاوي على الدر 1 \ 329.
(4) سبق تخريجه
(5) سبق تخرج هذه الحديث.
(6) سبق تخرج هذا الحديث.
(7) الفروع 1 \ 505، الإنصاف 2 \ 201.(36/283)
الدليل الرابع: ما رواه أبو بكرة رضي الله عنه «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا جاءه أمر يسر به أو بشر به خر ساجدا (1) »
وجه الاستدلال بهذا الحديث: أن لفظة "أمر" نكرة، فتشمل أي أمر سار سواء كان خاصا به أو عاما للمسلمين.
القول الثاني: أنه لا يشرع سجود الشكر عند أمر يخصه، وإنما يشرع عند حدوث نعمة عامة أو اندفاع نقمة عامة، وهو قول لبعض الحنابلة (2) .
والصحيح في هذه المسألة هو القول الأول، لقوة أدلته، ولأن السجود عند حدوث أمر يخصه سجود عند نعمة حادثة تستحق الشكر للمنعم جل وعلا فيستحب السجود عندها كما يستحب عند النعمة العامة، ولأن القول الثاني قول شاذ لا يسنده دليل من كتاب ولا سنة. والله أعلم.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) الإنصاف 2 \ 200.(36/284)
المسألة الثانية: السجود عند حصول نعمة تسبب فيها:
اختلف العلماء في السجود هل يشرع عند حصول نعمة تسبب فيها بنفسه وكان ينتظر حدوثها، أو اندفعت عنه نقمة تسبب هو في زوالها، أم أنه لا يسجد إلا إذا هجمت عليه نعمة أو اندفعت عنه نقمة من حيث لا يحتسب.
اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يسجد سواء تسبب في ذلك أم لا، وسواء كان ينتظر ذلك أم لا، وبهذا قال جمهور القائلين بمشروعية السجود، حيث إنهم لم يشترطوا المفاجأة وعدم التسبب.
ويمكن أن يستدل لهذا القول بما رواه أبو بكرة رضي الله عنه، «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا جاءه أمر يسر به خر ساجدا (1) » ، فلفظة "جاءه " عامة تشمل ما كان مجيئه مفاجئا وما لم يكن كذلك، وما تسبب فيه وما لم يتسبب فيه.
__________
(1) سبق تخريجه.(36/284)
القول الثاني: أنه لا يسجد إلا عند هجوم نعمة أو اندفاع نقمة من حيث لا يحتسب، فلو تسبب فيهما تسببا تقضي العادة بحصولهما عقبه ونسبتهما له فلا سجود حينئذ، كربح متعارف لتاجر يحصل عادة عقب أسبابه، وهذا قول لبعض الشافعية (1) .
والصحيح هو القول الأول؛ لأنه ليس هناك دليل يخص السجود للشكر بنعمة دون أخرى، ولأن القول الثاني قول شاذ لا يعضده دليل من كتاب ولا سنة، والله أعلم.
__________
(1) نهاية المحتاج 2 \ 103، شرح الوجيز 4 \ 205.(36/285)
المسألة الثالثة: السجود عند رؤية مبتلى:
اختلف أهل العلم في السجود هل يستحب عند رؤية شخص قد ابتلي في بدنه بعاهة أو في ماله بجائحة أو إفلاس أو في دينه بفسق أو كفر. . شكرا لله الذي عافاه وسلمه من هذه الآفات التي أصيب بها أو فعلها هذا المبتلى، اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يشرع السجود لذلك، لكن ينبغي له أن يخفي هذا السجود عن المبتلى إن كان الابتلاء في بدنه أو ماله، أما إن كان في دينه فإن كان يرجو أن يرتدع بذلك أو يرتدع غيره سجد أمامه، وإن كان يخشى أن يترتب على سجوده أمامه مفسدة أخفاه عنه، وهذا هو مذهب الشافعية (1) ، والحنابلة (2) .
القول الثاني: أنه لا يشرع السجود في هذه الحال (3) .
واستدل أصحاب هذا القول بما رواه أبو هريرة وابن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رأى صاحب بلاء، فقال: الحمد لله الذي عافاني
__________
(1) المهذب مع شرحه المجموع 4 \ 67، 68، الوجيز مع شرحه للرافعي 4 \ 205، نهاية المحتاج 2 \ 103، 104.
(2) الإنصاف 2 \ 201.
(3) قال في الفروع 1 \ 505: ''وظاهر كلام جماعة لا يسجد''.(36/285)
مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، عوفي من ذلك البلاء (1) »
قالوا: ظاهر هذا الحديث يدل على أنه لا يشرع السجود عند رؤية المبتلى (2) ، وإنما يشرع له أن يقول هذا الذكر الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
ويمكن أن يجاب عن استدلالهم بهذا الحديث بأنه ليس في الحديث ما يدل على عدم مشروعية سجود الشكر عند رؤية المبتلى، وإنما فيه الندب إلى أن يقول هذا الذكر عند رؤيته، فقد يقال: إنه يندب له في هذه الحال أن يقول هذا الذكر استدلالا بهذا الحديث، ويندب له أيضا أن يسجد استدلالا بالأحاديث التي ذكرت ضمن أدلة القول الأول، أو يقول هذا الذكر أثناء سجوده للشكر (3) .
واستدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الدليل الأول: ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مرفوعا، قال: «مر رجل بجمجمة إنسان، فحدث نفسه، فخر ساجدا (4) » . . .
الدليل الثاني: ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به
__________
(1) رواه الترمذي (3432) ، والطبراني في كتابه الدعاء (799) من طريق مطرف بن عبد الله المدني عن عبد الله بن عمر العمري عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فذكره، ورجاله ثقات، عدا عبد الله العمري وهو ''ضعيف'' كما في التقريب، وسهيل بن أبي صالح ''صدوق تغير حفظه بآخره '' كما في التقريب. ورواه الطبراني في الموضع السابق (800) من طريق عبد الله بن جعفر المدني عن سهيل بن أبي صالح به، وعبد الله بن جعفر ''ضعيف، يقال: تغير حفظه بآخره '' كما في التقريب. ورواه الطبراني في الموضع السابق (1170) ، أبو نعيم في الحلية 5 \ 13، وفي أخبار أصبهان 1 \ 271 من طرق عن مروان بن محمد الطاطري ثنا الوليد بن عتبة عن محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر فذكره، ورجاله ثقات، عدا الوليد بن عتبة، وقد قال فيه البخاري في تاريخه الكبير 8 \ 51: ''معروف الحديث ''. فالحديث بهذه الطرق حسن إن شاء الله، وقد حسنه المنذري في الترغيب، والهيثمي قي المجمع 10 \ 138، وحسنه أيضا الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول 4 \ 332، وذكره الشيخ محمد ناصر الدين في السلسلة الصحيحة 2 \ 153- 156، وذكر له، طرقا أخرى فيها شيء من الاضطراب.
(2) انظر الفروع 1 \ 505.
(3) سبق تخريجه.
(4) ينظر شرح المنتهى 1 \ 240، غاية المنتهى 1 \ 590.(36/286)
رجل به زمانة، فنزل وسجد، ومر به أبو بكر فنزل وسجد، ومر به عمر فنزل وسجد» .
الدليل الثالث: «ما روي عن عرفجة أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلا به زمانة فسجد (1) » .
الدليل الرابع: أن في السجود عند رؤية المبتلى شكرا لله الذي سلمه مما أصيب به هذا المبتلى (2) ، فيكون مشروعا، كما يشرع عندما تحدث له نعمة أو تندفع عنه نقمة.
والصحيح في هذه المسألة هو القول الأول، لقوة أدلته، فهي نص في محل النزاع، ولضعف دليل المخالفين، والله أعلم.
__________
(1) سبق تخريجهما.
(2) مغني المحتاج 1 \ 218.(36/287)
المبحث الثالث: هل لسجود الشكر شروط؟
اختلف أهل العلم في سجود الشكر، هل يشترط له ما يشترط لصلاة النافلة من الطهارة من الحدث، وطهارة البدن والثوب والمكان عن النجاسة، واستقبال القبلة وغيرها أم لا؟ اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: أن هذه الأمور ليست شرطا لصحة سجود الشكر، وهذا قول كثير من السلف (1) ، واختاره بعض المالكية (2) ، وكثير من المحققين كابن جرير الطبري (3) ، وابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم (4) ، والشوكاني والصنعاني (5) ، ورجحه كثير من مشايخنا، ومنهم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز والشيخ محمد بن صالح بن عثيمين والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين وغيرهم.
القول الثاني: أنه يشترط لسجود الشكر ما يشترط لصلاة النافلة، وهذا
__________
(1) تهذيب السنن 1 \ 53.
(2) المعيار المعرب 1 \ 144، مواهب الجليل 2 \ 62.
(3) ينظر حاشية الشيخ عبد الرحمن بن قاسم على الروض المربع 2 \ 233 نقلا عن ابن جرير.
(4) المحلى 1 \ 80، مجموع الفتاوى 23 \ 166، تهذيب السنن 1 \ 53- 56.
(5) نيل الأوطار 3 \ 129، سبل السلام 2 \ 415.(36/287)
هو مذهب الشافعية، وقال به أكثر الحنابلة، وبعض الحنفية (1) ، وبعض المالكية (2) .
واستدل أصحاب هذا القول بما يلي:
الدليل الأول: أن السجود المجرد كسجود التلاوة وسجود الشكر صلاة، لأنه سجود يقصد به التقرب إلى الله تعالى، له تحريم وتحليل، فشرط له شروط صلاة النافلة، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم (3) » ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ (4) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول (5) »
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بعدم التسليم بأن السجود المجرد كسجود
__________
(1) دور الإيضاح مع شرحه مراقي الفلاح ص 233.
(2) المعيار المعرب 1 \ 144، مواهب الجليل 2 \ 64.
(3) رواه عبد الرزاق (2539) ، والإمام أحمد 1 \ 123، 129، وأبو داود (61) ، والترمذي (3) ، وابن ماجه (275) ، والدارمي (687) ، والبيهقي 2 \ 173، 379، هـ أبو نعيم 8 \ 372، والخطيب 10 \ 117 عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد به عقيل عن محمد بن الحنفية عن أبيه فذكره، ورجاله ثقات، عدا عبد الله بن محمد بن عقيل هو ''صدوق، وحديثه لين، ويقال: تغير بآخره '' كما في التقريب، وصح هذا الإسناد الحافظ في الفتح 2 \ 322، وحسنه الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء 2 \ 9. وللحديث طريق أخرى عن علي رضي الله عنه، أخرجها أبو نعيم في الحلية 7 \ 124، وله شاهد رواه الترمذي (238) ، وابن ماجه (276) ، من طرق أحدها صحيح عن أبي سفيان عن أبي نضرة عن أبي سعيد فذكره، وأبو سفيان ''ضعيف'' كما في التقريب. فالحديث بهذه الطرق حسن إن شاء الله.
(4) رواه مسلم 3 \ 104.
(5) رواه مسلم 3 \ 102.(36/288)
التلاوة وسجود الشكر صلاة، لأنه لم يرد في الشرع تسميته صلاة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن له اصطفافا ولا تقدم إمام كما سن ذلك في سائر الصلوات، ولا يسلم أيضا بأن السجود المجرد له تحريم لعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك لا يسلم بأن له تحليل، لعدم وروده عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح ولا ضعيف (1) .
وكون السجود جزءا من الصلاة لا يدل على أنه صلاة، لأن التكبير والتسبيح وغيرهما مما يفعل في الصلاة من أجزاء الصلاة، ولم يقل أحد بأنه يشترط لها شروط الصلاة من الطهارة وغيرها (2) .
الدليل الثاني: أنه سجود يفعل على وجه القربة، فشرط فيه الطهارة، قياسا على سجود التلاوة (3) .
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بأن يقال: إن القول باشتراط الطهارة في الأصل المقيس عليه، الذي هو سجود التلاوة قول ضعيف، لأنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من المسلمين بالوضوء، ويبعد أن يكونوا جميعا متوضئين، وأيضا فإن المشركين أنجاس لا يطهرهم الماء، وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يسجد على غير طهارة.
__________
(1) سيأتي الكلام عن هاتين المسألتين بشيء من التفصيل في المبحث الرابع.
(2) المحلى 1 \ 80، مجموع فتاوى ابن تيمية 23 \ 169- 171 تهذيب السنن 1 \ 55.
(3) المعيار المعرب 1 \ 144.(36/289)
وقد أيد أصحاب القول الأول ما ذهبوا إليه من عدم وجوب الطهارة أو غيرها من شروط الصلاة لسجود الشكر بأدلة وتعليلات أهمها:
الدليل الأول: أن اشتراط الطهارة أو غيرها من شروط الصلاة لسجود الشكر يحتاج إلى دليل، وهو غير موجود، إذ لم يأت بإيجاب هذه الأمور لهذا السجود كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، ولا يجوز أن نوجب على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أحكاما لا دليل عليها.
الدليل الثاني: أن ظاهر حديث أبي بكرة وغيره من الأحاديث التي روي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد سجود الشكر تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتطهر لهذا السجود، حيث إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه أمر يسره أو بشر به خر ساجدا، فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد للشكر بمجرد وجود سببه سواء كان محدثا أم متطهرا، وهذا أيضا هو ظاهر فعل أصحابه رضي الله عنهم (1) .
الدليل الثالث: أنه لو كانت الطهارة أو غيرها من شروط الصلاة واجبة في سجود الشكر لبينها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، لحاجتهم إلى ذلك، ومن الممتنع أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السجود ويسنه لأمته وتكون الطهارة أو غيرها شرطا فيه، ولا يسنها ولا يأمر بها صلى الله عليه وسلم أصحابه، ولا يروى عنه في ذلك حرف واحد (2) .
الدليل الرابع: قياس سجود الشكر على سجود التلاوة، فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تطهر لسجود التلاوة، ولم ينقل أنه أمر بذلك، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون، ولم ينقل أنه أمر أحدا من المسلمين الذين سجدوا معه بالوضوء، ويبعد أن يكونوا جميعا متوضئين، ولم ينقل أنه أنكر على أحد من المشركين سجوده معه، مع أن
__________
(1) المعيار المعرب 1 \ 145، تهذيب سنن أبي داود 1 \ 55.
(2) تهذيب السنن 1 \ 55.(36/290)
المشرك نجس ولا يطهره الماء.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليهم القرآن في المجامع، فإذا مر بالسجدة سجد وسجدوا معه حتى لا يجد أحدهم مكانا لجبهته، ومن البعيد جدا أن يكونوا كلهم إذ ذاك على وضوء، فمن المعلوم أن مجامع الناس تجمع المتوضئ وغيره (1) ، وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يسجد على غير طهارة (2) .
الدليل الخامس: أن سبب سجود الشكر يأتي فجأة وقد يكون من يريد السجود على غير طهارة، وفي تأخير السجود بعد وجود سببه حتى يتوضأ أو يغتسل زوال لسر المعنى الذي شرع السجود من أجله.
الدليل السادس: أن الله سبحانه وتعالى أخبرنا عن السحرة أنهم سجدوا لما آمنوا بموسى عليه الصلاة والسلام، مع أنهم غير متوضئين، ولم ينكر عليهم جل وعلا هذا العمل، وقد ورد أيضا في شرعنا ما يماثله، ومن ذلك ما روي من قصة المشركين الذين أسلموا فاعتصموا بالسجود، ولم يقبل منهم ذلك خالد بن الوليد رضي الله عنه فقتلهم، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر لهم بنصف الدية، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا السجود مع أنهم لم يتوضئوا، ولم
__________
(1) تهذيب سنن أبي داود 1 \ 54.
(2) صحيح البخاري مع الفتح 2 \ 553، 554، مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 14.(36/291)
يكونوا يعرفون الوضوء، وهذا يدل على أن السجود المجرد لا تشترط له الطهارة وغيرها من شروط الصلاة (1) .
الدليل السابع: أن هذه الشروط من الطهارة وغيرها إنما تشترط للصلاة، ومما يدل على ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج من الخلاء، فأتي بطعام، فذكروا له الوضوء، فقال: أريد أن أصلي فأتوضأ؟ (2) » ومن المعلوم أن سجود الشكر ليس له صلاة، لأنه لم يرد في الشرع تسميته صلاة، ولأنه ليس بركعة ولا ركعتين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسن له تكبيرا ولا سلاما ولا اصطفافا ولا تقدم إمام كما سن ذلك في صلاة الجنازة وسجدتي السهو بعد السلام وسائر الصلوات، فلا يشترط لسجود الشكر ما يشترط للصلاة.
الدليل الثامن: قياس السجود المجرد على سائر الأذكار التي تفعل في الصلاة وتشرع خارجها كقراءة القرآن التي هي أفضل أجزاء الصلاة وأقوالها وكالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، فكما أن هذه الأمور لا تشترط لها الطهارة إذا فعلت خارج الصلاة مع أنها كلها من أجزاء الصلاة فكذلك السجود المجرد (3) .
__________
(1) مجموع الفتاوى 23 \ 166- 168، تهذيب السنن 1 \ 54، 55.
(2) رواه مسلم 4 \ 69.
(3) المحلى 1 \ 80، مجموع الفتاوى 21 \ 284، 285، تهذيب السنن 1 \ 54، 55.(36/292)
والصحيح في هذه المسألة هو القول الأول لقوة أدلته، ولضعف أدلة القول الثاني، وقد أجيب عنها كما سبق، ولأن الأصل في العبادات التوقيف، فلا يقبل فيها قول إلا بدليل، وليس هناك دليل شرعي صحيح يستند إليه في اشتراط هذه الأمور في سجود الشكر، فتبقى الذمة على أصل البراءة، حتى يثبت خلافه، ومع هذا فإن الأولى والأكمل أن يتطهر المسلم لهذا السجود، خروجا من خلاف من أوجبه، ولأن المسلم يستحب له أن يكون على طهارة في جميع أحيانه، ويتأكد هذا الاستحباب عند الإتيان بشيء من العبادات ولأنه قد اتفق أهل العلم على استحباب الطهارة لسجود التلاوة (1) ، فكذلك سجود الشكر. والله أعلم.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 21 \ 279.(36/293)
المبحث الرابع: صفة سجود الشكر وكيفيته: وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هل يجب لسجود الشكر تكبير في أوله أو في آخره؟
للعلماء في هذه المسألة قولان:
القول الأول: أنه ليس لسجود الشكر تكبير لا في أوله ولا في آخره، لعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من أصحابه (1) .
القول الثاني: أنه يجب في أوله تكبيرة واحدة، وفي آخره تكبيرة أخرى للقيام من السجود (2) .
واستدل أصحاب هذا القول بأن السجود المجرد صلاة، فيجب فيه ما يجب في الصلاة (3) ، ومن ذلك التكبير، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم (4) »
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 21 \ 277، و23 \ 169، نيل الأوطار 3 \ 129، البحر الزخار 1 \ 286.
(2) شرح المنتهى 1 \ 240.
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية 21 \ 169، الفروع 1 \ 505.
(4) سبق تخريجه.(36/293)
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بأن الصحيح أن السجود المجرد ليس بصلاة (1) فلا يجب فيه ما يجب في الصلاة.
ويمكن أن يستدل لهذا القول كذلك بما ذكره بعض العلماء في سجود التلاوة من أنه سجود مفرد، فيجب التكبير إذا سجد وإذا رفع، قياسا على السجود للسهو بعد السلام (2) .
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن السجود للسهو بعد السلام تابع للصلاة، فيجب فيه ما يجب في سجود الصلاة، أما السجود المجرد فليس تابعا للصلاة، فالقياس غير صحيح.
ويمكن أن يستدل لهذا القول أيضا بقياس سجود الشكر على سجود التلاوة، فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا (3) »
__________
(1) وقد سبق الكلام على هذه المسألة في المبحث الثالث.
(2) المغني 2 \ 360، المبدع 2 \ 31، كشاف القناع 1 \ 448.
(3) رواه عبد الرزاق: (5911) ، من طريق أبي داود (1413) ، ومن طريقهما البيهقي 2 \ 325 عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر به، وعبد الله بن عمر هذا هو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وهو ضعيف كما في التقريب، فالحديث بهذا الإسناد ضعيف، وقال النووي في المجموع 40 \ 58، 64: ''إسناد ضعيف ''، وقال الحافظ في البلوغ ص 71: ''رواه أبو داود بسند فيه لين''، وانظر الإرواء 2 \ 224، 225، رقم (472) . ورواه ابن حبان (كما في الإحسان2749) ، الحاكم 1 \ 232 من طريق عبيد الله بن عمر بن نافع به دون ذكر موضع الشاهد من الحديث، وهو قوله ''كبر'' وعبيد الله هذا هو أخو عبد الله بن عمر المذكور في الإسناد السابق، وعبيد الله ثقة من رجال الصحيحين. وقد روى هذا الحديث أيضا البخاري (1076) ، ومسلم 5 \ 74 من طريق عبيد الله عمر عن نافع به بنحو رواية ابن حبان والحاكم السابقة. (تنبيه) : يفهم من كلام ابن الملقن رحمه الله في البدر المنير (جـ3، ص 10 من مخطوطة تركيا) ، والحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 2 \ 9، والإمام الشوكاني في نيل الأوطار 3 \ 126 أن في رواية الحاكم في المستدرك لهذا الحديث ذكر التكبير كما في رواية عبد الرزاق، وقد تمت مراجعة هذا الحديث في ثلاث نسخ خطية لكتاب المستدرك، وليس فيها كلها ذكر التكبير في هذا الحديث، وكذلك ليس في المستدرك المطبوع ذكر التكبير كما سبق، وأيضا فليس للتكبير ذكر عند جميع من خرج رواية عبيد الله بن عمر لهذا الحديث، كالبخاري ومسلم وابن حبان وهذا كله يدل على أن القول بأن في رواية الحاكم ذكر التكبير وهم من ابن الملقن رحمه الله تبعه فيه الحافظ ابن حجر وتبعهما في ذلك الإمام الشوكاني. والله أعلم.(36/294)
ويمكن أن يناقش هذا الدليل بعدم التسليم بوجوب تكبير الافتتاح في سجود التلاوة، لعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث الذي استدلوا به والذي فيه ذكر التكبير في سجود التلاوة حديث ضعيف، ولهذا فقد ذهب كثير من السلف إلى عدم التكبير في سجود التلاوة (1) .
والأقرب في هذه المسألة هو القول الأول، لعدم ورود التكبير في هذا السجود عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن أدلة القول الثاني فيها ضعف، وقد أجيب عنها كما سبق، ومع ذلك فلو كبر الساجد في أول السجود أو في آخره خروجا من خلاف من أوجبه فلا حرج عليه في ذلك إن شاء الله.
__________
(1) مجموع الفتاوى 23 \ 165.(36/295)
المسألة الثانية: هل يجب في سجود الشكر ذكر معين؟
للعلماء في ذلك قولان:
القول الأول: أنه لا يجب لسجود الشكر ذكر معين، وإنما يستحب أن يأتي بذكر يناسب المقام.
قال الشوكاني رحمه الله: " فإن قلت لم يرد في الأحاديث ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم في سجود الشكر، فماذا يقول الساجد للشكر؟ قلت: ينبغي أن يستكثر من شكر الله عز وجل، لأن السجود سجود شكر " (1) .
القول الثاني: أنه يجب أن يقول فيه: سبحان ربي الأعلى مرة واحدة (2) ، لأن سجود الشكر صلاة، فيجب فيه ما يجب في سجود الصلاة (3) .
__________
(1) السيل الجرار 1 \ 286.
(2) المبدع 2 \ 32، شرح المنتهى 1 \ 240، غاية المنتهى 1 \ 590.
(3) الفروع 1 \ 505.(36/295)
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بأن الصحيح أن سجود الشكر ليس بصلاة (1) ، فلا تشترط فيه شروط الصلاة.
والراجح في هذه المسألة هو القول الأول، لأنه لم يرد في سنة المصطفي صلى الله عليه وسلم ما يدل على إيجاب ذكر معين في هذا السجود، لكن يستحب للساجد أن يكثر من شكر الله على هذه النعمة، وأن يكثر من التسبيح والدعاء والاستغفار، وإن أتى في سجوده عند رؤية مبتلى بالذكر الذي ندب النبي صلى الله عليه وسلم من رآه أن يقوله فحسن، فقد روى أبو هريرة وابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من رأى صاحب بلاء، فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا، عوفي من ذلك البلاء (2) »
__________
(1) سبق الكلام على هذه المسألة.
(2) سبق تخريجه.(36/296)
المسألة الثالثة: هل يجب في سجود الشكر تشهد أو سلام؟
اختلف أهل العلم في سجود الشكر هل يجب بعد الرفع منه تشهد أو سلام على أربعة أقوال:
القول الأول: أنه لا يجب في سجود الشكر تشهد أو سلام، وهذا هو المنصوص عن الإمام الشافعي، وبه أنه قال الإمام أحمد في رواية عنه، وهو وجه في مذهب الشافعية، لعدم ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أحد من أصحابه رضي الله عنهم" (1) .
القول الثاني: أنه لا يشرع في هذا السجود تشهد أو سلام بل هو بدعة، لا يجوز فعله (2) .
القول الثالث: أنه يجب السلام لسجود الشكر، ولا يجب له، تشهد، وإنما
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 21 \ 277، تهذيب السنن 1 \ 53، 54، المجموع 4 \ 68، البحر الزخار 1 \ 286.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 23 \ 170، 171.(36/296)
يجلس بعد رفعه من السجود هنيهة ثم يسلم، وبهذا قال الإمام أحمد في رواية عنه (1) ، وهو المشهور عند متأخري أصحابه (2) ، وهو وجه في مذهب الشافعية (3) ، وقد ذكر بعض من اختار هذا القول أنه يجزئ فيه تسليمة واحدة (4) .
واستدل أصحاب هذا القول بأن السجود المجرد صلاة، فيجب التسليم منه (5) ، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم (6) »
ويمكن أن يناقش هذا الدليل بأن الصحيح أن السجود المجرد ليس صلاة، فلا يشرع فيه ما يشرع في الصلاة (7) ولو كان مشروعا لفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولنقل عنه (8) .
ويمكن أن يستدل لهذا القول أيضا بما ذكره بعض العلماء في سجود التلاوة من قياس التحليل على التحريم، وذلك بأن السجود عبادة لها تحريم، وهو تكبيرة الإحرام، فكذلك يشرع لها تحليل وهو السلام، كصلاة الجنازة، بل أولى، لأن السجود فعل، وصلاة الجنازة قول (9) .
وقد أجيب عن هذا الدليل بعد التسليم بوجوب تكبيرة الإحرام في أول السجود، فإن الصحيح أنها غير واجبة (10) فالقياس غير صحيح (11) .
__________
(1) المرجع السابق 21 \ 277.
(2) تهذيب السنن 1 \ 53، شرح المنتهى 1 \ 240، مطالب أولي النهى 1 \ 590.
(3) المجموع 4 \ 68، دليل الفالحين 3 \ 647.
(4) شرح المنتهى 1 \ 240، مطالب أولى النهي 1 \ 590.
(5) مجموع فتاوى ابن تيمية 23 \ 169، تهذيب السنن 1 \ 54.
(6) سبق تخريجه.
(7) سبق الكلام عن هذه المسألة.
(8) تهذيب السنن 1 \ 54.
(9) تفسير القرطبي 3 \ 358، سبل السلام 2 \ 413.
(10) سبق الكلام على هذه المسألة.
(11) سبل السلام 2 \ 413.(36/297)
القول الرابع: أنه يجب في سجود الشكر تشهد وسلام، وهذا القول وجه في مذهب الشافعية (1) .
ويمكن أن يستدل لهذا القول بأن سجود الشكر صلاة، فيجب فيه ما يجب في الصلاة من التشهد والسلام.
ويمكن مناقشة هذا الدليل بما نوقش به الدليل الأول للقول الثالث.
ويمكن أن يستدل له بالقياس على سجود السهو، فقد روي «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تشهد بعد سجود السهو ثم سلم (2) »
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل بأن الأحاديث التي ذكر فيها التشهد بعد سجود السهو قد تكلم أهل العلم فيها كلها، وعلى فرض صحتها فإن سجود السهو تابع للصلاة، بخلاف سجود الشكر، فلا يصح قياس أحدهما على الآخر.
والراجح في هذه المسألة هو القول الأول، وهو أنه لا يجب في سجود
__________
(1) المجموع 4 \ 68، وانظر تهذيب سنن أبي داود 1 \ 53.
(2) روى أبو داود (1039) ، والترمذي (395) وابن الجارود (247) والحاكم 1 \ 323، وابن المنذر في الأوسط 3 \ 316، 317 رقم (1712) ، وابن حبان (موارد الظمآن 536) ، وابن خزيمة (1062) والبيهقي 2 \ 355 من طريق أشعث بن عبد الملك الحمراني عن ابن سيرين عن خالد الحداء عن أبي قلابة عن أبي الملهب عن عمران بن حصين فذكره، ورجاله ثقات، وقال الشيخ محمد ناصر الدين في الارواء 2 \ 130 ''ضعيف شاذ''. وله شاهد رواه الإمام أحمد 1 \ 428 وأبو داود (1028) ، والنسائي وسننه الكبرىكما في التحفة (9605) ، والبيهقي 2 \ 355، من طريق محمد بن سلمة عن خصيف عن أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسناده ضعيف، ''خصيف '' سيئ الحفظ، وقد اختلط بآخره كما في التقريب ''وأبو عبيدة'' لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وروى البيهقي في الموضع السابق من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثني الشعبي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم تشهد بعد أن رفع رأسه من سجدتي السهو. وإسناده ضعيف لسوء حفظ ابن أبي ليلى. وقال الحافظ في الفتح 3 \ 98، 99 بعد ذكره للأحاديث السابقة وما فيها من ضعف، قال: ''قد يقال: إن الأحاديث الثلاثة في التشهد باجتماعها ترتقي إلى درجة الحسن، قال العلائي: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله، أخرجه ابن أبي شيبة.(36/298)
الشكر تشهد أو سلام، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله، إذ لو فعله لنقل، لأنه مما تتوافر الدواعي على نقله للحاجة إلى ذلك، والله أعلم.(36/299)
المبحث الخامس: سجود الشكر في أثناء الصلاة: وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: السجود عند قراءة سجدة (ص) في أثناء الصلاة:
قبل أن نذكر حكم السجود عند قراءة سجدة (ص) في أثناء الصلاة، يحسن أن نمهد لذلك ببيان حكم هذه السجدة هل هي سجدة شكر أم سجدة تلاوة؟
وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنها سجدة شكر، فيسجد المسلم شكرا لله على النعمة التي أنعم الله بها على نبيه داود -عليه السلام-، بقبول توبته ومغفرة ذنوبه، والوعد بالزلفى وحسن المآب، والتلاوة سبب لتذكر ذلك.
بهذا قال الإمام أحمد في رواية عنه، اختارها أكثر أصحابه (1) ، وقال به أكثر الشافعية (2) .
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة أهمها:
الدليل الأول: ما رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- «عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سجد في (ص) ثم قال: سجدها داود توبة، ونسجدها شكرا (3) » .
الدليل الثاني: ما رواه البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: «"ص" ليست من عزائم السجود، وقد رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يسجد فيها (4) » .
__________
(1) الروايتين 1 \ 144، المستوعب 2 \ 656، (طبع استنسل) الإنصاف 2 \ 196.
(2) المجموع 2 \ 61، شرح الوجيز 4 \ 186.
(3) سبق تخريجه
(4) صحيح البخاري، حديث (1069)(36/299)
الدليل الثالث: ما روي عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: «قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (ص) وهو على المنبر، فلما بلغ السجدة نزل فسجد، فسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تشزن الناس للسجود، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إنما هي توبة نبي، ولكني رأيتكم تشزنتم، فنزل وسجد وسجدوا (1) »
القول الثاني: أنها سجدة تلاوة، وبهذا قال الإمام أحمد في رواية عنه (2) ، والإمام أبو حنيفة وأصحابه (3) ، وهو مذهب المالكية.
وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة أهمها:
الدليل الأول: استدلوا بجميع الأحاديث التي روي فيها «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سجد في (ص) (4) »
__________
(1) رواه أبو داود (1410) ، والدارمي (1466) ، وابن حبان كما في موارد الظمآن (689) ، والحاكم 2 \ 431، والبيهقي في سننه الكبرى 2 \ 318، وفي الصغرى (863) ، والدارقطني 1 \ 408 من طريقين أحدهما صحيح عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد به، ورجاله ثقات، عدا سعيد بن أبي هلال، فقد قال فيه الحافظ في التقريب: ''صدوق، لم أر لابن حزم في تضعيفه سلفا، إلا أن الساجي حكى عن أحمد أنه اختلط''، وقد أخرج له البخاري ومسلم في صحيحيهما، وقال البيهقي: ''هذا حديث حسن الإسناد صحيح ''، وقال النووي في المجموع 4 \ 61: ''رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري''. ورواه ابن حبان كما في موارد الظمآن (690) عن ابن مسلم حدثنا حرملة بن يحيى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عياض.. فذكره. وقد صحح هذا الحديث أيضا الرملي في نهاية المحتاج 2 \ 93، والقسطلاني في إرشاد الساري 2 \ 282، والشربيني في مغني المحتاج 1 \ 215، وابن كثير في تفسيره 4 \ 49، وحسنه الشيح عبد القادر الأرناؤوط في تعليقه على زاد المعاد 5 \ 557، وقال الشوكاني في نيل الأوطار 3 \ 120: ''رجال إسناده رجال الصحيح''.
(2) الروايتين والوجهين 1 \ 143، شرح الزركشي 1 \ 936، المستوعب 2 \ 656 (طبع استنسل) ، الإنصاف 2 \ 196.
(3) عمدة القاري 7 \ 98، بدائع الصنائع 1 \ 193، وانظر الحجة 1 \ 109، 113، واللباب 1 \ 314
(4) سبق ذكر بعض هذه الأحاديث ضمن أدلة القول الأول. وروى البخاري (4807) من طريق العوام قال: سألت مجاهدا عن سجدة (ص) فقال: سألت ابن عباس من أين سجدت؟ فقال: أو ما تقرأ: (ومن ذريته داود وسليمان) ، (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) فكان داود ممن أمر نبيكم -صلى الله عليه وسلم- أن يقتدي به، فسجدها داود، فسجدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وروى الدارقطني 1 \ 406، وأبو يعلى - كما في المقصد العلي ص416- من طريق حفص بن غياث عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يسجد في (ص) ، ورجاله ثقات، عدا محمد بن عمرو - وهو الليثي - فهو ''صدوق له أوهام'' كما في التقريب، وحفص بن غياث تغير حفظه قليلا في الآخر كما في التقريب. وروى الإمام أحمد (كما في الفتح الرباني 4 \ 182) من طريق يزيد، ثنا حميد، ثنا بكر أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري -رضي الله عنه- رأى رؤيا أنه يكتب (ص) فلما بلغ سجدتها، قال: فرأى الدواة والقلم وكل شيء بحضرته انقلب ساجدا، قال: فقصها على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلم يزل يسجد بها بعد، ورجاله ثقات، لكن بكر وهو المزني تابعي، ولم يذكر أنه سمع الحديث من أبي سعيد، وقال الحافظ في التلخيص 2 \ 10: ''اختلف في وصله وإرساله''. وله شاهد بنحوه من حديث ابن عباس رواه الترمذي (579) ، (3424) ، وابن ماجه (1053) ، وابن حبان كما في الإحسان (2757) ، وابن خزيمة (562، 563) ، والحاكم 1 \ 220، والعقيلي 1 \ 242 من طريق الحسن بن محمد عن ابن جريج عن عبيد الله بن أبي يزيد أنه سمع ابن عباس يقول فذكره. وحسنه ابن حجر كما في الفتوحات الربانية 2 \ 276، والحسن بن محمد ''مقبول'' كما في التقريب.(36/300)
الدليل الثاني: ما روي عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- «عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان (1) »
قالوا: فتبين بهذا الحديث أن في (ص) سجدة تلاوة (2) .
الدليل الثالث: أن هذه السجدة مكتوبة في مصحف عثمان -رضي الله عنه-، فدل ذلك على أنها سجدة تلاوة (3) .
__________
(1) رواه أبو داود (1401) ، وابن ماجه (1057) ، ويعقوب بن سفيان في المعرفة 2 \ 527، والحاكم 1 \ 223، والبيهقي 2 \ 316، والدارقطني 1 \ 408، والمزي في تهذيب الكمال لوحة 745 من طريق الحارث بن سعيد عن عبد الله بن منين عن عمرو بن العاص فذكره، وإسناده ضعيف، الحارث بن سعد ''مقبول '' كما في التقريب 1 \ 140، ولم يتابع، وقال الحافظ في التلخيص 2 \ 9: ''حسنه المنذري والنووي، وضعفه عبد الحق وابن القطان، وفيه عبد الله بن منين وهو مجهول..''.
(2) اللباب 1 \ 315، وانظر المبدع 2 \ 30.
(3) اللباب 1 \ 314(36/301)
ويمكن مناقشة هذه الأدلة بأنها لا تفيد أن هذه السجدة سجدة تلاوة، وإنما تدل على مشروعية السجود عند قراءتها فقط، فيكون السجود فيها سجود شكر، كما هو صريح في حديث ابن عباس (1) ، وأيضا فإن في إسناد حديث عمرو بن العاص ضعفا كما سبق.
والصحيح في هذه المسألة هو القول الأول، لقوة أدلته، وكونها نصا في محل النزاع، لا سيما حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، ولأن في هذا القول جمعا بين الأدلة، والجمع بين الأدلة أولى من قبول بعضها ورد بعضها، والله أعلم.
أما حكم السجود عند قراءة هذه الآية في أثناء الصلاة: فعلى القول بأنها سجدة تلاوة يستحب السجود عند قراءتها.
أما على القول بأنها سجدة شكر، وهو القول الصحيح كما سبق، فقد اختلف أصحاب هذا القول في جواز السجود في هذه الحال على قولين:
القول الأول: أنه يجوز السجود عند قراءتها في أثناء الصلاة، وهذا القول وجه في مذهب الشافعية (2) ، ووجه في مذهب الحنابلة (3) .
ويمكن أن يستدل لهذا القول بما رواه أبو رافع -رحمه الله- قال: "صليت مع عمر الصبح فقرأ بـ (ص) فسجد فيها".
القول الثاني: أنه لا يجوز السجود بها في أثناء الصلاة، وهذا القول هو
__________
(1) المغني 2 \ 355، شرح الزركشي 1 \ 636، وقد سبق ذكر حديث ابن عباس قريبا.
(2) المجموع 1 \ 68، روضة الطالبين 1 \ 335، نهاية المحتاج 2 \ 95.
(3) شرح الزركشي 2 \ 636.(36/302)
المشهور في مذهب الحنابلة (1) ، وهو وجه في مذهب الشافعية (2) .
وعلى هذا القول فلو سجد لها في أثناء الصلاة فإن كان ناسيا أو جاهلا صحت صلاته، ويسجد للسهو (3) ، وإن كان متعمدا فقد اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: تبطل الصلاة، لأن هذه السجدة سجدة شكر فتبطل بها الصلاة كما لو سجد للشكر عند تجدد نعمة (4) ، وهذا القول هو الصحيح من مذهب الحنابلة (5) ، وهو وجه في مذهب الشافعية (6) .
القول الثاني: أن صلاته صحيحة، لأن سبب هذه السجدة من الصلاة، وله تعلق بالقراءة فهي كسائر سجدات التلاوة (7) .
وقال بهذا القول بعض الحنابلة (8) ، وهو وجه في مذهب الشافعية (9) .
والأحوط أن لا يسجد المصلي عند قراءتها في أثناء الصلاة خروجا من الخلاف، فإن سجد لم نجرؤ على القول ببطلان صلاته، لفعل عمر -رضي الله عنه-، والله أعلم.
__________
(1) الإنصاف 2 \ 196، شرح الزركشي 1 \ 636
(2) المجموع 4 \ 68، نهاية المحتاج 2 \ 94.
(3) المهذب 4 \ 60، المغني 2 \ 373، شرح الوجيز 4 \ 187.
(4) المجموع 4 \ 61، نهاية المحتاج 2 \ 94، كشاف القناع 1 \ 447.
(5) الإنصاف 2 \ 197.
(6) المجموع 4 \ 60، 61، شرح الوجيز 1 \ 187.
(7) المغني 2 \ 373، المهذب 4 \ 60، المبدع 2 \ 30، شرح الوجيز 4 \ 187، نهاية المحتاج 2 \ 95.
(8) المبدع 2 \ 30، الإنصاف 2 \ 196.
(9) المهذب 4 \ 60، نهاية المحتاج 2 \ 95.(36/303)
المسألة الثانية: هل يسجد للشكر إذا بشر بما يسره وهو يصلي: للعلماء في هذه المسألة قولان:
القول الأول: أنه لا يجوز السجود لذلك، لأن سبب السجود، في هذه الحالة(36/303)
ليس من الصلاة، وليس له تعلق بها، بخلاف سجود التلاوة (1) ، فإن سجد متعمدا بطلت صلاته، كما لو زاد فيها سجودا متعمدا (2) ، أو سجد فيها لسهو صلاة أخرى (3) ، وكما لو صلى فيها صلاة أخرى (4) .
وهذا القول هو مذهب الشافعية (5) ، وقال به أكثر الحنابلة (6) .
القول الثاني: أنه يستحب سجود الشكر في هذه الحالة، وهذا قول لبعض الحنابلة (7) ، وليس لهم دليل سوى القياس على سجود التلاوة (8) .
ويمكن أن يناقش دليلهم بأن ما ذكروه من القياس غير صحيح، لأنه قياس مع الفارق فإن سجود التلاوة سببه من أفعال الصلاة، وهو القراءة، أما سجود الشكر فسببه من خارج الصلاة (9) .
والراجح في هذه المسألة، هو القول الأول، لقوة دليله، ولأن القول الثاني قول شاذ، لا يستند إلى دليل من كتاب ولا سنة، وما ذكروه من القياس، فهو قياس غير صحيح كما سبق، والله أعلم.
__________
(1) المغني 2 \ 272، روضة الطالبين 1 \ 320، ص 151، إعانة الطالبين 1 \ 212.
(2) الشرح الكبير لابن قدامة 1 \ 377، كشاف القناع 1 \ 405.
(3) الكافي لابن قدامة 1 \ 160.
(4) المغني 4 \ 68.
(5) المجموع 4 \ 68.
(6) الإنصاف 2 \ 201، المبدع 2 \ 34.
(7) الإنصاف 2 \ 201، المبدع 2 \ 34، الشرح الكبير 1 \ 377.
(8) المبدع 2 \ 34، الفروع 1 \ 505، الإنصاف 2 \ 201، سبل السلام 2 \ 415.
(9) المبدع 2 \ 34، شرح الوجيز 4 \ 206، شرح المنتهى 1 \ 340، الإنصاف 2 \ 201.(36/304)
المبحث السادس: سجود الشكر على الراحلة بالإيماء
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يجوز فعلها على الراحلة، ويومئ على قدر(36/304)
استطاعته.
القول الثاني: أنه لا يشرع السجود في هذه الحالة (1) .
واستدل أصحاب هذا القول بأن السجود على الراحلة بالإيماء يبطل ركنه الأظهر، وهو تمكين الجبهة من موضع السجود (2) ، وبأن سجود الشكر يندر وقوعه بخلاف صلاة النافلة (3) .
واستدل أصحاب القول الأول بأن سجود الشكر نافلة فتسومح فيه، لمشقة النزول كما سومح سجود الصلاة وسجود السهو وسجود التلاوة في النافلة المقامة على الراحلة، فكما أن هذه السجدات تجوز بالإيماء على الراحلة بلا خلاف، فكذلك سجود الشكر (4) .
والأقرب في هذه المسألة هو القول الأول لقوة دليله، ولأن الصحيح أن سجود التلاوة خارج الصلاة يصح على الراحلة بالإيماء، فكذلك سجود الشكر، ولأن الشارع قد جعل الإيماء بدلا عن السجود في كل موضع يشق فيه السجود أو يتعذر، ولا شك أن في نزول المسافر عن راحلته ليسجد مشقة عليه، وقد لا يجد في كثير من الأحيان مكانا مناسبا يسجد فيه، والله أعلم.
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) الوسيط 2 \ 681، شرح الوجيز 4 \ 207، مغني المحتاج 1 \ 219، شرح المحلى للمنهاج 1 \ 209.
(3) المجموع 4 \ 68.
(4) شرح الوجيز 4 \ 207، نهاية المحتاج 2 \ 104.(36/305)
المبحث السابع: قضاء سجود الشكر:
اختلف أهل العلم فيمن حصلت له نعمة أو بشر بها، أو اندفعت عنه نقمة فلم يتمكن من سجود الشكر في وقته، أو نسي أن يسجد ثم أراد أن يسجد بعد ذلك قضاء لما فاته من سجود الشكر، اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: أنه يجوز له قضاء هذا السجود الذي فاته.
القول الثاني: أنه يشرع القضاء إن كان الفصل قصيرا، أما إن طال الفصل فلا، وهذا هو المشهور من مذهب الشافعية (1) .
واستدل أصحاب هذا القول بأن السجود متعلق بسبب عارض، لا يفعل إلا عند وجوده، فلا يجوز فعله إذا طال الفصل بعد وجود سببه، لأنه قد فات وقته، كصلاة الكسوف، ولأن السجود المجرد لا يجوز فعله ابتداء بغير سبب، فلا يشرع قضاؤه.
واستدل أصحاب القول الأول بالقياس على صلاة النافلة، فكما أنه يشرع قضاء صلاة النافلة، فكذلك سجود الشكر (2) ، فقد روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكره (3) »
وروى قيس بن عمرو -رضي الله عنه- قال: «رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا يصلي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: صلاة الصبح ركعتان؟ ، فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما، فصليتهما الآن،
__________
(1) المجموع 1 \ 69، روضة الطالبين 1 \ 323، 326، المغني 2 \ 359، 371، 372.
(2) المجموع 4 \ 69، وانظر الغاية القصوى 1 \ 309.
(3) رواه أبو داود (1431) ، والحاكم 1 \ 302، والبيهقي 2 \ 480 من طريق عثمان بن سعيد عن أبي غسان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد فذكره، وإسناده صحيح، وصححه الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء 2 \ 153.(36/306)
فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - (1) » .
والأقرب في هذه المسألة هو القول الأول، وهو أنه يجوز قضاء سجود الشكر إذا لم يتمكن من أدائه في وقته، لقوة دليله، ولأن السجود يشرع عند رؤية مبتلى (2) ، وهو إنما تذكر برؤيته نعمة حدثت له قبل ذلك، فإذا جاز سجود الشكر في هذه الحالة فقضاؤه من باب أولى، والله أعلم.
هذا وإذا بشر الإنسان بما يسره أو حصلت له نعمة ولم يسجد، ولم يأت له عذر في ترك السجود عند حصول سببه، فقد ذكر بعض أهل العلم أنه لا يشرع له قضاء هذا السجود بعد ذلك (3) ، وذلك لأنه غير معذور في تأخير السجود، والله أعلم.
__________
(1) رواه الإمام أحمد 1 \ 447، وأبو داود (422) وابن خزيمة (116) ، والبيهقي 2 \ 456، من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن قيس بن عمرو، وقال الترمذي: ''محمد بن إبراهيم التيمي لم يسمع من قيس''. ورواه ابن خزيمة (1116) وابن حبان كما في موارد الظمآن (613) والحاكم 1 \ 275 عن الربيع بن سليمان المرادي عن أسد بن موسى عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده قيس بن عمرو، ورجاله ثقات، عدا أسد بن موسى، وهو ''صدوق يغرب'' كما في التقريب 1 \ 63. وله شاهد من حديث أبي هريرة رواه الترمذي (423) ، والحاكم 1 \ 274 من طريق عمرو بن عاصم عن همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يصل ركعتي الفجر فليصلها بعد ما تطلع الشمس) . ورجاله ثقات عدا عمرو بن عاصم، فهو ''صدوق في حفظه شيء''، كما في التقريب، وقتادة مشهور بالتدليس كما في طبقات المدلسين ص67، وقد روى الحديث بالعنعنة، وصححه الشيخ محمد ناصر الدين في صحيح الجامع (6542) ، فحديث قيس بن عمرو حسن أو صحيح والله أعلم.
(2) سبق الكلام على هذه المسألة.
(3) حاشية قليوبي 1 \ 209.(36/307)
الخاتمة
الحمد لله وحده وبعد: فمن خلال هذا البحث المتواضع تبين لي أمور أهمها:
أولا: أن سجود الشكر من أعظم ما يشكر به العبد ربه جل وعلا؛ لما فيه من الخضوع لله بوضع أشرف الأعضاء، وهو الوجه على الأرض، ولما فيه من شكر الله بالقلب واللسان والجوارح.
ثانيا: أن سجود الشكر من السنن النبوية الثابتة التي هجرها كثير من الناس.
ثالثا: أن الخلاف في مشروعية سجود الشكر يعد خلافا ضعيفا، لمخالفته ما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن كثير من أصحابه -رضي الله عنهم- في ذلك.
رابعا: أن سجود الشكر يشرع كلما حصلت للمسلمين نعمة عامة، أو اندفعت عنهم نقمة، أو حصلت للمسلم نعمة خاصة، سواء تسبب في حصولها أو لم يتسبب، وكلما اندفعت عنه نقمة، كما أنه يشرع عند رؤية مبتلى في دينه أو ماله أو بدنه.
خامسا: أن الصحيح أنه لا يشترط لسجود الشكر ما يشترط للصلاة من الطهارة وستر العورة واستقبال القبلة وغيرها.
سادسا: أن القول الراجح في صفة سجود الشكر أنه لا يجب فيه تكبير في أوله أو في آخره، أو تشهد أو سلام، وأنه لا يجب فيه ذكر معين، وإنما يشرع للساجد أن يقول في سجوده ما يناسب المقام من حمد الله وشكره ودعائه واستغفاره ونحو ذلك.
سابعا: أن سجود الشكر يشرع للراكب على الراحلة بالإيماء، ويومئ على قدر استطاعته.(36/308)
ولذلك فإنني أوصي نفسي أولا، وأوصى كل مسلم بأن يحافظ على هذه العبادة العظيمة التي هجرها كثير من المسلمين، فيسجد شكرا لله كلما حدثت له نعمة أو لعموم المسلمين، بحصول مرغوب أو دفع مرهوب والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.(36/309)
صفحة فارغة(36/310)
الإيمان باليوم الآخر
أدلته وأثره في حياة الإنسان
بقلم: د \
أحمد محمد أحمد جلي.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبيه الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن الإيمان باليوم الآخر هو أحد أركان العقيدة الإسلامية ومن أهم أصولها بعد الإيمان بالله تعالى، وقد وردت الإشارة إليه في كثير من الآيات القرآنية كما في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (1) وفي العديد من الأحاديث كما في حديث جبريل الذي ورد فيه الإيمان باليوم الآخر من بين أركان الإيمان: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. . . (2) » .
وهو عبارة عن الاعتقاد الجازم بانتهاء هذه الحياة الدنيا وما فيها، وبداية حياة جديدة هي الدار الآخرة، وما يتم فيها من بعث ونشر وحشر وحساب وجزاء وفقا للتفاصيل التي بينها القرآن وأخبر بها الرسول- صلوات الله وسلامه عليه-.
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) رواه الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. انظر صحيح مسلم. شرح النووي. كتاب الإيمان. جـ1، ص: 157، وأخرج البخاري نحوه عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. صحيح البخاري. كتاب الإيمان. باب سؤال جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان. جـ1. ص: 18.(36/311)
اهتمام القرآن بالحياة الآخرة:
لقد اهتم القرآن اهتماما عظيما بهذا الركن من أركان العقيدة، وفصل القول فيما يحدث في ذلك اليوم، وفي الحياة الآخرة من مشاهد ومواقف. وبين مصائر الناس بعد حسابهم، وأصناف النعيم التي تنتظر الفائزين الناجين، وما يتعرض له الأشقياء من ألوان العذاب وأنواعه، ويظهر هذا الاهتمام فيما يأتي: أولا: ربط القرآن بين الإيمان بالله تعالى وبين الإيمان باليوم الآخر في آيات كثيرة. كما في آية البقرة السالفة الذكر، وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (2) {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (3) {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (4) {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (5) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (6) .
ثانيا: ورد ذكر اليوم الآخر في القرآن بأسماء مختلفة تصف في كثير من الأحيان ما يقع فيه من أحداث، وما يصيب الناس من أهوال، فهو يوم البعث، ويوم القيامة، ويوم الدين، ويوم الحساب، ويوم
__________
(1) سورة البقرة الآية 62
(2) سورة البقرة الآية 126
(3) سورة البقرة الآية 228
(4) سورة البقرة الآية 232
(5) سورة آل عمران الآية 114
(6) سورة المائدة الآية 69(36/312)
الفتح، ويوم التلاق، ويوم الجمع، ويوم التغابن، ويوم الخلود، ويوم الخروج، ويوم الحسرة، ويوم التناد، ويسمى ذلك اليوم أيضا بالآزفة، والساعة، والطامة، والصاخة، والحاقة، والغاشية، والواقعة، ولا تكاد تخلو سورة من سور القرآن من الإشارة إلى هذا اليوم. . إما بوصفه وتصوير ما يقع فيه كقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} (1) {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (2) {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (3) {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} (4) {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (5) {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (6) {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} (7) {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} (8) {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (9) {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} (10) {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} (11) {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (12) {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} (13) {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} (14) {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} (15) {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} (16) {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (17) {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} (18) {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} (19) {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} (20) {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} (21) {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (22) {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} (23) {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} (24) {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} (25) أو بتقريره كحقيقة لا ينبغي الشك فيها وأنه آت لا ريب فيه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (26) {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (27) . {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (28) .
__________
(1) سورة الحاقة الآية 13
(2) سورة الحاقة الآية 14
(3) سورة الحاقة الآية 15
(4) سورة الحاقة الآية 16
(5) سورة الحاقة الآية 17
(6) سورة الحاقة الآية 18
(7) سورة الحاقة الآية 19
(8) سورة الحاقة الآية 20
(9) سورة الحاقة الآية 21
(10) سورة الحاقة الآية 22
(11) سورة الحاقة الآية 23
(12) سورة الحاقة الآية 24
(13) سورة الحاقة الآية 25
(14) سورة الحاقة الآية 26
(15) سورة الحاقة الآية 27
(16) سورة الحاقة الآية 28
(17) سورة الحاقة الآية 29
(18) سورة الحاقة الآية 30
(19) سورة الحاقة الآية 31
(20) سورة الحاقة الآية 32
(21) سورة الحاقة الآية 33
(22) سورة الحاقة الآية 34
(23) سورة الحاقة الآية 35
(24) سورة الحاقة الآية 36
(25) سورة الحاقة الآية 37
(26) سورة الحج الآية 6
(27) سورة الحج الآية 7
(28) سورة التغابن الآية 7(36/313)
ثالثا: بين القرآن أن عقيدة الإيمان باليوم الآخر من العقائد التي جاءت بها الرسالات الإلهية جميعا، فنوح -عليه السلام- يخاطب قومه كما ورد في القرآن: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} (1) {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} (2) وإبراهيم يدعو ربه قائلا: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (3) ، وموسى يخطابه ربه سبحانه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} (4) {فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} (5) ، كما خاطب القرآن في العديد من آياته مشركي العرب مؤكدا لهم حقيقة البعث وما يجري في اليوم الآخر من أحداث. [انظر آية التغابن السالفة الذكر] .
رابعا: جادل القرآن في كثير من آياته وحاج الذين أنكروا البعث وإمكانية الحياة الآخرة، واستبعدوا العودة إلى الحياة بعد تحولهم إلى رفات وعظام وتراب، فقالوا كما أخبر عنهم القرآن: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (6) {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} (7) {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} (8)
__________
(1) سورة نوح الآية 17
(2) سورة نوح الآية 18
(3) سورة الشعراء الآية 82
(4) سورة طه الآية 15
(5) سورة طه الآية 16
(6) سورة ق الآية 3
(7) سورة ق الآية 4
(8) سورة الجاثية الآية 24(36/314)
إمكانية البعث والأدلة عليه:
استند منكرو الحياة الآخرة والبعث على أمرين: أولهما، أن هذه الحياة ستظل مستمرة إلى ما لا نهاية، وأن هذا النظام المشاهد في العالم من تعاقب(36/314)
الليل والنهار، وتكون الإنسان من نطفة، والنطفة من إنسان، وتولد النبات، وتولد الحيوان، لا ينعدم أبد الدهر. وثانيهما، أن بعث الإنسان وإعادة أجزائه بعد تحللها وفنائها غير ممكن. وقديما قال المشركون كما يقول أتباعهم من الماديين المعاصرين:
حياة ثم موت ثم نشر ... حديث خرافة يا أم عمرو
ويقول آخر في رثاء أهل بدر من المشركين:
فماذا بالقليب , قليب بدر ... من الشيزى تكلل بالسنام
يخبرنا الرسول بأن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام (1)
وحكى عنهم القرآن قولهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} (2) ، وقد جاءت ردود القرآن مؤكدة نهاية العالم وفناءه من ناحية، ومبرهنة على إمكانية البعث والحياة الآخرة من ناحية أخرى، كما تؤكد الحقائق العلمية المعاصرة أيضا هذه الحقائق وتشهد لها.
__________
(1) الملل والنحل '' الشهرستاني ''. جـ 2، ص: -236- 237.
(2) سورة سبأ الآية 7(36/315)
نهاية العالم وفناؤه:
إن هذا العالم ليس أزليا بل هو حادث، وإنه قابل للفناء، بل إنه سائر إليه لا محالة، وأن العلم الحديث قدم لنا العديد من الأدلة والقوانين العلمية التي تؤكد أن العالم بما فيه من أشياء يسير إلى نهاية محتومة (1) .
فالعالم ما هو إلا مجموعة أشياء وكائنات، وأن تلك الأشياء والكائنات يجري عليها الفناء باستمرار، فإننا نلاحظ فناء الإنسان والحيوان والنبات وجريان العدم على أفرادها، ونرى الزلازل والبراكين تجتاح أنحاء كثيرة من العالم، وتدمر المدن والقرى، وتغير معالم الأرض في كثير من البلاد. فالعالم في
__________
(1) الله يتجلى في عصر العلم (نخبة من العلماء الأمريكيين) ص: 27 الله جل جلاله. ''سعيد حوى '' ص: 21 \ 28.(36/315)
مجمله إذن عرضة للفناء، والعلم يكشف لنا أن الكون عبارة عن فضاء لا حدود له تدور فيه نيران هائلة لا حصر لها وهي السيارات والنجوم ومثالها كما يقول- وحيد الدين خان -: كملايين الخذاريف التي تدور على سطح معين بأقصى سرعة، وهذا الدوران يمكن أن يتحول في يوم ما إلى صدام عظيم لا يمكن تصوره. فدراسة علم الفلك تؤكد إمكان اصطدام الأجرام السماوية وتثبت أن الغريب حقا هو عدم توقع هذا الصدام، وهذا الواقع هو بعينه ما نسميه القيامة (1) ومن ناحية أخرى، فإن العلم يكشف أن بطن الأرض يحتوي على مادة شديدة الحرارة نشاهدها عندما ينفجر البركان. وهذه المادة تؤثر على الأرض بشتى الطرق، فمنها ما تصدر عنه أصوات مروعة رهيبة، وما نحس به من الهزات الأرضية التي نسميها الزلازل (2) وكما يعبر أحد الجغرافيين: " إن هناك جهنم طبيعية تلتهب تحت بحارنا الزرقاء، ومدننا الحضارية المكتظة بالسكان، وبكلمة أخرى نحن واقفون على ظهر لغم "ديناميت " عظيم، ومن الممكن أن ينفجر في أي وقت ليهدم النظام الأرضي بأكمله (3) وبعد أن يستعرض وحيد الدين خان رأي العلم في واقع الكون وما يحدق به من عوامل التدمير والفناء ينتهي إلى القول بأن " فكر الآخرة التي تقرر أن نظام الكون الموجود حاليا سوف يدمر يوما، لا تعني سوى أن واقع الكون الذي نشاهده في صورة صغيرة أولية، سوف يتجلى يوما في صورة نهائية كبرى. فالقيامة حقيقة معلومة في أعماقنا ونحن اليوم نعرفها في حد "الإمكان "، وسوف نلقاها غدا في صورة واقع (4) .
وقد أشار القرآن من قبل إلى هذه الحقيقة فقرر أن للكون نهاية محتومة ينتهي إليها وأن كل ما فيه مصيره الفناء {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (5) {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (6) ،
__________
(1) الإسلام يتحدى: 115- 116.
(2) المرجع نفسه: ص: 113- 114.
(3) المرجع نفسه: ص؛ 114.
(4) المرجع نفسه: ص: 116.
(5) سورة الرحمن الآية 26
(6) سورة الرحمن الآية 27(36/316)
{لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) وبين أن القيامة تبدأ في صورة حدوث اضطراب في النظام الكوني يؤدي إلى فساده وتحلله، ويتمثل هذا في انفطار السماء، وانشقاق القمر، وطمس النجوم، وجمع الشمس والقمر، وزلزلة الأرض، وتشقق الجبال وتفتتها حتى تصبح هباء منبثا، إلى غير ذلك من الأحداث الرهيبة التي صورها القرآن في صور تبعث بالرهبة في النفوس. وتشعر بالهول والفزع الذي يحل بالناس في ذلك اليوم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} (2) {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (3) {الْقَارِعَةُ} (4) {مَا الْقَارِعَةُ} (5) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ} (6) {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} (7) {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} (8) {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} (9) {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} (10) {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (11) {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (12) {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} (13) {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} (14) {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} (15) {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} (16) {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} (17) {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (18) {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} (19) {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} (20) {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} (21) {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} (22) {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} (23) {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} (24) {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (25) {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} (26) {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} (27) {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} (28) {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} (29) {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} (30) {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} (31) {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (32) {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} (33) {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} (34) {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} (35) {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} (36) {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} (37)
__________
(1) سورة القصص الآية 88
(2) سورة الحج الآية 1
(3) سورة الحج الآية 2
(4) سورة القارعة الآية 1
(5) سورة القارعة الآية 2
(6) سورة القارعة الآية 3
(7) سورة القارعة الآية 4
(8) سورة القارعة الآية 5
(9) سورة المعارج الآية 8
(10) سورة المعارج الآية 9
(11) سورة الزلزلة الآية 1
(12) سورة الزلزلة الآية 2
(13) سورة الانفطار الآية 1
(14) سورة الانفطار الآية 2
(15) سورة الانفطار الآية 3
(16) سورة الانفطار الآية 4
(17) سورة الانفطار الآية 5
(18) سورة التكوير الآية 1
(19) سورة التكوير الآية 2
(20) سورة التكوير الآية 3
(21) سورة التكوير الآية 4
(22) سورة التكوير الآية 5
(23) سورة التكوير الآية 6
(24) سورة التكوير الآية 7
(25) سورة التكوير الآية 8
(26) سورة التكوير الآية 9
(27) سورة التكوير الآية 10
(28) سورة التكوير الآية 11
(29) سورة التكوير الآية 12
(30) سورة التكوير الآية 13
(31) سورة التكوير الآية 14
(32) سورة الواقعة الآية 1
(33) سورة الواقعة الآية 2
(34) سورة الواقعة الآية 3
(35) سورة الواقعة الآية 4
(36) سورة الواقعة الآية 5
(37) سورة الواقعة الآية 6(36/317)
البراهين على إمكانية البعث:
قدم القرآن العديد من الأدلة والبراهين على إمكانية البعث، ورد حجج المنكرين للمعاد، وفند شبههم التي تتلخص كما يقول ابن القيم في ثلاثة أشياء أحدها: اختلاط أجزائهم بأجزاء الأرض على وجه لا يتميز ولا يحصل معه تمييز شخص عن شخص. الثاني: أن القدرة لا تتعلق بذلك. الثالث: أن ذلك أمر لا فائدة فيه. أو إنما الحكمة اقتضت دوام هذا النوع الإنساني شيئا بعد شيء هكذا أبدا كلما مات جيل خلفه جيل آخر. فأما أن يميت النوع الإنساني كله ثم يحيه بعد ذلك فلا حكمة في ذلك. فجاءت براهين المعاد في القرآن مبنية على ثلاثة أصول: أحدها: تقرير كمال علم الرب سبحانه. وثانيها: تقرير كمال قدرته، وثالثها: تقرير كمال حكمته. ومن بين ما قدمه القرآن من أدلة على إمكانية البعث ما يلي:
1 - كان من أهم شبهات منكري المعاد والبعث استحالة إيجاد الأشياء والكائنات بعد عدمها وفنائها، وقد رد عليهم القرآن وبرهن لهم أن هذا غير مستحيل، إذ أن من موجبات العقل أن إعادة الشيء الذي كان موجودا ثم فني أسهل من إيجاده ابتداء، فالله -سبحانه وتعالي- الذي أوجد الأشياء من العدم وأبرزها إلى الوجود، بعد أن لم تكن شيئا، لا يستحيل عليه أن يعيدها مرة ومرة بعد فنائها، ويلاحظ أن الذي يبني بيتا ثم يهدمه لا يستحيل عليه إعادة بنائه، كما كان أو أفضل مما كان، والذي يخترع اختراعا معينا أو يركب جهازا ما لا يصعب عليه أن يعيده مرة أخرى إذا ما فرق أجزاءه أو كسره باختياره وإرادته. وقد أشار القرآن إلى هذا الدليل في قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (1) {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (2) . فاحتج القرآن- كما قال ابن القيم - بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، إذ كل عاقل
__________
(1) سورة يس الآية 78
(2) سورة يس الآية 79(36/318)
يعلم علما ضروريا أن من قدر على هذه قدر على هذا، وأنه لو كان عاجزا عن الثانية عجز عن الأولى بل كان أعجز وأعجز، ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه وعلمه بتفاصيل خلقه اتبع ذلك بقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (1) فهو عليم بالخلق الأول وتفاصيله ومواده وصورته وكذلك عليم بالخلق الثاني، فإذا كان تام العلم كامل القدرة، كيف يتعذر عليه أن يحصي العظام وهي رميم (2) وإلى نفس هذا المعنى يشير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (3) .
وقد قال ابن عباس في تفسيره لهذه الآية: أهون عليه بمعنى أيسر عليه، وقال مجاهد: الإعادة أهون عليه من البداءة، والبداءة عليه هينة، وروى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «قال الله تعالى: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك- فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد (4) » ويتفق مع هذه المعاني قوله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (5) .
وهكذا نرى أن حياتنا التي نعيشها اليوم دليل قوي على إمكانية وجود الحياة مرة ثانية وليس هناك في منطق العقل ما يمنع إعادة التجربة التي نمر بها أو ما يشبهها مرة ثانية.
2 - ومن الأدلة على إمكانية البعث ما أشار إليه القرآن من ظاهرة النوم واليقظة باعتبارهما نموذجا متكررا للموت والحياة، فالنوم أخو الموت إذ أن كلا منهما عبارة عن انسحاب من الحياة أو توقف الأعضاء عن أداء
__________
(1) سورة يس الآية 79
(2) مختصر الصواعق المرسلة '' ابن القيم '' جـ1. ص: 101.
(3) سورة الروم الآية 27
(4) صحيح البخاري: كتاب تفسير القرآن. سورة قل هو الله أحد. جـ6. ص 95.
(5) سورة الأنبياء الآية 104(36/319)
وظائفها على درجات متفاوتة بينهما، واليقظة شبيهة بالبعث إذ أن كلا منهما يعني عودة الأعضاء إلى أداء وظائفها مع اختلاف بينهما في الدرجة. فكما تتم عملية النوم للإنسان والحيوان، وعملية الاستيقاظ لهما، تتم عملية الموت والحياة الكاملة لهما {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) وفي آية أخرى {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (2) ، ولذلك أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تتحول هذه الحقيقة الاعتقادية إلى أمر واقعي يتذكره المرء كل صباح ومساء حتى لا نغفل يوما واحدا عن مصيرنا، فأمرنا أن نقول عند النوم فيما رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا آوى أحدكم إلى فراشه، فلينفض فراشه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه، ثم يقول: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين (3) » ، وعند اليقظة: «الحمد لله الذي عافاني في جسدي، ورد علي روحي وأذن لي بذكره (4) » ، وفي حديث آخر عن حذيفة قال «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى فراشه قال: باسمك أموت وأحيا، وإذا قام قال: الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور (5) »
3 - ومن الأدلة على إمكانية البعث وإحياء الموتى، ظاهرة الإحياء المتكررة للأرض الموات، والتي يراها الإنسان ويشاهدها في مجال الطبيعة الواسعة. فالإنسان يشاهد أمامه أرضا قفرة لا حياة فيها، ثم ينزل عليها الغيث أو
__________
(1) سورة الأنعام الآية 60
(2) سورة الزمر الآية 42
(3) صحيح البخاري، كتاب الدعوات، 13، جـ7 ص: 149.
(4) سنن التزمذي كتاب الدعوات، باب ما جاء في الدعاء، إذا أوى إلى فراشه: جـ 5 ص: 472- 473.
(5) صحيح البخاري، كتاب الدعوات، 7 جـ 7 ص: 147.(36/320)
تسقى بالماء فتدب فيها الحياة وتنبت فيها الزروع وأنواع النبات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع، وليس البعث إلا شبيها بهذه العملية المتكررة والتي يشاهدها الإنسان دوما {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) ، وقوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (2) {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (4) .
فجعل الله سبحانه وتعالى- كما يقول ابن القيم - إحياء الأرض بعد موتها نظير إحياء الأموات، وإخراج النبات منها نظير إخراجهم من القبور، ودل بالنظير على نظيره، وجعل ذلك آية ودليلا على خمسة مطالب: أحدها، وجود الصانع وأنه الحق المبين، وذلك يستلزم إثبات صفات كماله وقدرته وإرادته وحياته وعلمه وحكمته ورحمته وأفعاله. الثاني، أنه يحصي الموتى. الثالث، عموم قدرته على كل شيء. الرابع، إتيان الساعة وأنها لا ريب فيها. الخامس، أنه يخرج الموتى من القبور كما أخرج النبات من الأرض (5) ، «وقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كيف يحصي الله الموتى؟ ما آية ذلك في خلقه؟ فقال للسائل: أما مررت بوادي أهلك محلا؟ قال بلى. قال أما مررت به يهتز خضرا؟ قال قلت؟ بلى. قال: ثم مررت به محلا؟ قالت بلى، قال: فكذلك يحصي الله الموتى، وذلك آيته قي خلقه (6) »
4 - نبه القرآن الكريم إلى عظيم قدرة الله تعالى التي أبدع بها السماوات وخلق بها الأرض وما فيها، ولا خلاف في أن
__________
(1) سورة فصلت الآية 39
(2) سورة الحج الآية 5
(3) سورة الحج الآية 6
(4) سورة الحج الآية 7
(5) إعلام الموقعين: '' ابن القيم ''، ص: 144- 145.
(6) المسند (ابن حنبل) : جـ 4، ص؛ 11.(36/321)
خلق الإنسان أقل شأنا من خلق السماوات والأرض، ومن ثم فإن الله القادر على خلق السماوات والأرض لا يعجزه خلق الإنسان- الذي هو جزء من هذا الكون- وإعادته: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} (1) {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (2) {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3) فأخبر سبحانه أن الذي أبدع السماوات والأرض على جلالتها، وعظم شأنها، وكبر أجسامها وسعتها، وعجيب خلقهما، أقدر على أن يخلق عظاما كانت رميما فيردها إلى حالتها الأولى كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (4) ، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (5) .
5 - ومن الأدلة على إمكانية البعث ما أشار إليه القرآن من قدرة الله تعالى على إخراج الأشياء من أضدادها. فإذا كانت الحياة ضد الموت، والبعث ضد الفناء، فإن الله الذي يخرج الضد ممن ضده قادر على إحداثه، كما ورد في قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (6) ، فالله هو الذي يخرج الإنسان الحي من النطفة، ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي، وكذلك الأنعام والبهائم، فالنطفة ميتة ثم ينشئ الله منها إنسانا حيا، ومن الإنسان الحي تخرج النطفة الميتة" (7) ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (8)
__________
(1) سورة يس الآية 81
(2) سورة يس الآية 82
(3) سورة يس الآية 83
(4) سورة غافر الآية 57
(5) سورة الأحقاف الآية 33
(6) سورة آل عمران الآية 27
(7) مختصر تفسير الطبري (اختصار وتحقيق محمد علي الصابوني. وصالح أحمد رضا. جـ 1 ص: 100.
(8) سورة الأنعام الآية 95(36/322)
" إذ الله هو الذي يخرج السنبل الحي من الحب الميت، ويخرج الحب الميت من السنبل الحي، والشجر الحي من النوى الميت، والنوى الميت من الشجر الحي " (1) .
ومما يدل أيضا على قدرة الله تعالى على إخراج الأشياء من أضدادها قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} (2) ، أي أن الذي جعل لكم بقدرته من الشجر الأخضر نارا تحرق الشجر لا يمتنع عليه فعل ما أراد ولا يعجزه إحياء العظام البالية وإعادتها خلقا جديدا، وقد أخبر سبحانه- كما يقول ابن القيم- بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، فالذي يخرج الشيء من ضده هو الذي يفعل ما أنكره الملحد من إحياء العظام وهي رميم " (3) .
6 - ومن الأدلة أيضا ما أشار إليه القرآن ولفت إليه نظر الإنسان من أن يتدبر في المراحل التي مر ويمر بها خلقه وتكونه وانتقاله من مرحلة التراب إلى أن يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يصبح طفلا وكهلا ثم يتوفى. فهذه المراحل في كل واحد من البشر، يلاحظها الإنسان ويشاهدها ولا سبيل إلى إنكارها، ويرتبط بها في النص القرآني مرحلة البعث وما يعقبه من تقييم للأعمال وجزاءه عليها. فالإنسان لا ينبغي أن ينكر البعث، وهو الحلقة الأخيرة من مراحل مسار الإنسان لا لشيء إلا لأنه لم يشاهده، فالله الذي خلق الإنسان ابتداء وجعله ينتقل في تلك المراحل لا يعجزه أن يعيده كما بدأه ويبعثه مرة أخرى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (4) {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (5) {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} (6) .
__________
(1) مختصر تفسير الطبري، جـ1. ص: 240.
(2) سورة يس الآية 80
(3) مختصر الصواعق '' ابن القيم ''، جـ1. ص: 101.
(4) سورة الحج الآية 5
(5) سورة الحج الآية 6
(6) سورة الحج الآية 7(36/323)
ويعلق ابن القيم على هذه الآية بقوله: " يقول سبحانه إن كنتم في ريب من البعث فلستم ترتابون في أنكم مخلوقون، ولستم ترتابون في مبدأ خلقكم من حال إلى حال إلى حين الموت، والبعث الذي وعدتم به نظير النشأة الأولى لا ترتابون فيها، فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها " (1) .
ويقول سيد قطب: "إن هذه الأطوار التي يمر بها الجنين ثم يمر بها الطفل بعد أن يرى النور، لتشير إلى أن الإرادة المدبرة لهذه الأطوار ستدفع بالإنسان إلى حيث يبلغ كماله الممكن في دار الكمال، إذ أن الإنسان لا يبلغ كماله في حياة الأرض فهو يقف ثم يتراجع: {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} (2) فلا بد من دار أخرى يتم فيها تمام الإنسان.
فدلالة هذه الأطوار على البعث دلالة مزدوجة. فهي تدل على البعث من ناحية أن القادر على الإنشاء قادر على الإعادة، وهي تدل على البعث لأن الإرادة المدبرة تكمل تطوير الإنسان في الدار الآخرة، وهكذا تلتقي نواميس الخلق والإعادة، ونواميس الحياة والبعث، ونواميس الحساب والجزاء، وتشهد كلها بوجود الخالق المدبر القادر الذي ليس في وجوده جدال " (3) .
7 - بين القرآن أنه لو لم تكن هناك حياة أخرى لكانت الحياة الدنيا عبثا، ولو
__________
(1) إعلام الموقعين: جـ1. ص: 140.
(2) سورة الحج الآية 5
(3) في ظلال القرآن. '' سيد قطب '' جـ 4. ص: 2411.(36/324)
لم يكن هناك يوم آخر يبعث في الناس ويحاسبون على أعمالهم التي قاموا بها في الحياة الدنيا، لكان الخلق كله باطلا، وهذا أمر لا يتفق مع حكمة الله تعالى وعدله، فالله تعالى خلق الإنسان لغايات معينة وجعله كائنا مكلفا مسئولا، وربط هذا التكليف والمسئولية بالحساب والجزاء، ومن ثم نفى القرآن عدم الغاية والقصد من الخلق {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (1) ، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} (2) . {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (3) . {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} (4) {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (5) ، {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (6) {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (7) ، والحياة فيها الخير والشر، ومن الناس المحسن والمسيء، الكافر والمؤمن، الصالح والطالح، وقد تكون الغلبة في هذه الحياة للأشرار وقد يفلت الظالمون والمجرمون من عاقبة ما ارتكبوا من آثام وجرائم.
وعدل الله لا يسوي بين من أحسن وأساء: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (8) . وحكمته تعالى تقتضي أن تكون هناك حياة أخرى غير هذه الحياة، يقام فيها ميزان العدل الإلهي، وينال كل عامل جزاء عمله خيرا كان أم شرا، وهذا ما أكده القرآن وأشارت إليه آياته: {إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (9) . {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (10) .
__________
(1) سورة الدخان الآية 38
(2) سورة ص الآية 27
(3) سورة القيامة الآية 36
(4) سورة المؤمنون الآية 115
(5) سورة المؤمنون الآية 116
(6) سورة الملك الآية 1
(7) سورة الملك الآية 2
(8) سورة الجاثية الآية 21
(9) سورة يونس الآية 4
(10) سورة آل عمران الآية 30(36/325)
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (1) {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (2) . {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} (3) {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} (4) {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (5) .
8 - وقد رد القرآن على حجج الملحدين الذين أنكروا البعث بحجة أن أجزاءهم قد تفرقت، واختلط بعضها ببعض، ومن ثم لا يمكن جمعها بعد تفرق، ووصلها بعد تمزق، وقد رد عليهم القرآن وبين أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يتحلل من جسم الإنسان بعد موته وأنه ما من جزء من أجزائه إلا وهو معلوم لديه، ومحفوظ عنده سبحانه، وإن اختلط بالأرض، وامتزج بالتربة، وهذا ما يفهم من قول الله -عز وجل-: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} (6) {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} (7) {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} (8) . فمهما أصاب الجسم إذن من تبديل وتغيير ومهما تمزقت أجزاء الجسم وتحللت، فإن الله -سبحانه وتعالى- قادر على جمعها وإعادتها إلى حالتها السابقة: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} (9) {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (10) . وهكذا يرد القرآن على المشركين الذين تصوروا صعوبة جمع العظام الذاهبة في التراب، المتفرقة في الثرى، بتأكيده أنه ليس فقط قادرا على جمع العظام- بل إنه قادر على تسوية البنان وتركيبه في موضعه كما كان، وهي كناية- كما يقول سيد قطب- عن إعادة
__________
(1) سورة الإسراء الآية 13
(2) سورة الإسراء الآية 14
(3) سورة الزلزلة الآية 6
(4) سورة الزلزلة الآية 7
(5) سورة الزلزلة الآية 8
(6) سورة ق الآية 2
(7) سورة ق الآية 3
(8) سورة ق الآية 4
(9) سورة القيامة الآية 3
(10) سورة القيامة الآية 4(36/326)
التكوين الإنساني بأدق ما فيه، وإكماله بحيث لا تضيع منه بنان، ولا تختل عن مكانها بل تسوى تسوية، لا ينقص منها عضو، ولا شكل هذا العضو مهما صغر ودق " (1) .
وقد تشكك بعض الملحدين، واستبعد آخرون أن تحصى على الإنسان أقواله وأعماله، وأن يحاسب من ثم على كل ما قدمت يداه من قول أو عمل، ولكن جاء القرآن داحضا هذا الشك ومبينا أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما يحيك في صدر الإنسان وتوسوس به نفسه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (2) . وأن كل ما يلفظ به الإنسان من كلام أيا كان نوعه، يحفظ في سجل كامل {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (3) . وقد أثبت العلم الحديث إمكانية استرجاع ما يصدر عن الإنسان من الأصوات، ذلك أن كلام الإنسان يتحول إلى موجات هوائية، وأن هذه الموجات تبقى كما هي في الأثير إلى الأبد بعد حدوثها للمرة الأولى. ومن الممكن سماعه مرة أخرى، ولكن علم البشر الآن قاصر عن إعادة هذه الأصوات أو حفظ تلك الموجات مرة أخرى، ولكن من ناحية علمية نظرية من الممكن التقاط هذه الأصوات مرة أخرى، وسماع الأصوات القديمة إذا ما نجح الإنسان في اختراع آلة تقوم بذلك. وهذا يؤكد إمكانية ما أخبر عنه الوحي من أن كل ما ينطق به الإنسان مسجل وسيحاسب عليه يوم القيامة" (4) .
ونفس الشيء يمكن أن يقال عن الأعمال. فإن العلم الحديث يؤكد بأن جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان فردا أم جماعة في الضوء أم في الظلام - موجودة في الفضاء في حالة صور، ومن الممكن في أية لحظة تجميع هذه الصور، حتى يعرف كل ما جاء به الإنسان من أعمال طيلة حياته سواء كانت
__________
(1) في ظلال القرآن: جـ6، 3768 \ 69
(2) سورة ق الآية 16
(3) سورة ق الآية 18
(4) الإسلام يتحدى، ص 122- 124(36/327)
تلك الأعمال خيرة أم شريرة، حسنة أم قبيحة، فكل ما يحدث تصدر عنه حرارة بصفة دائمة وهذه الحرارة تعكس الأشكال وأبعادها تماما، وقد تم اختراع آلات دقيقة لتصوير الموجات الحرارية التي تخرج عن أي كائن، وبالتالي تعطي هذه الآلة صورا فوتغرافية كاملة للكائن غير أن الآلات التي تم اختراعها إلى الآن لا تستطيع تصوير الموجات الحرارية إلا خلال ساعات قليلة من وقوع الحادث، أما الموجات القديمة فلا تستطيع هذه الآية تصويرها لضعفها" (1) وإذا ما تذكرنا قدرة الله الشاملة التي لا تقاربها قدرة الإنسان مهما ملك من الإمكانات والوسائل، وعلم الله الشامل الذي لا يماثله علم البشر مهما اكتشف وتعلم، تأكد لنا ما أخبر به القرآن من أن كل إنسان سيعرض عليه كل ما قام به من أعمال صغيرة كانت تلك الأعمال أم كبيرة، أقوالا كانت أم أفعالا أم خطرات النفس: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (2) {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (3) {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (4) .
9 - وبالإضافة إلى هذه الأدلة العقلية والبراهين الاعتبارية التي قدمها القرآن لإثبات البعث وإمكان تحققه، فإن القرآن قدم نماذج وأشار إلى أحداث تم فيها إحياء بعض الموتى من الإنس أو الحيوان، وهذه طريقة لا شك أعظم لمن يؤمن بالقرآن من طريقة البرهان السالفة الذكر، لأنه لا شيء أدل- كما يقول ابن تيمية - على إمكانية الشيء من وجوده وتحققه، وقد أشار القرآن إلى بني إسرائيل الذين سألوا الله الرؤية وجعلوها شرطا لإيمانهم فأهلكهم الله بالصاعقة ثم بعثهم: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (5) {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (6) .
__________
(1) نفس المرجع ص: 124-127.
(2) سورة الكهف الآية 49
(3) سورة الإسراء الآية 13
(4) سورة الإسراء الآية 14
(5) سورة البقرة الآية 55
(6) سورة البقرة الآية 56(36/328)
وإلى قصة القوم الذين فروا من الطاعون ونزلوا واديا حماية لأنفسهم من الموت، فأماتهم الله ثم أحياهم وكان في إحيائهم- كما يقول ابن كثير - دليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني في يوم القيامة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} (1) وقصة القتيل الذي تخاصم فيه قومه فأمر الله أن يضربوه ببعض أجزاء البقرة وبين لهم كيف يمكن عودة الميت إلى الحياة: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (2) {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3) وأورد القرآن قصة الرجل الذي مر على قرية وهي خربة، فاستبعد عودة أهلها إلى الحياة مرة أخرى، فأراه الله عجيب قدرته في الإعادة والإحياء، فأماته مائة عام ثم بعثه، وأراه كيف أن طعامه طيلة هذه المدة لم يفسد، بينما حماره أصبح عظاما بالية وأوقفه الله على كيفية دبيب الحياة في العظام البالية وعودة حماره إلى الحياة مرة ثانية: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4)
__________
(1) سورة البقرة الآية 243
(2) سورة البقرة الآية 72
(3) سورة البقرة الآية 73
(4) سورة البقرة الآية 259(36/329)
ويورد القرآن أيضا قصة إبراهيم -عليه السلام- وكيف أمره الله بتفريق أجزاء الطير، ثم أراه كيف يعيدها مرة أخرى للحياة {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (1) . ويورد القرآن قصة أصحاب الكهف وكيف أماتهم الله ثلاثمائة وتسعة أعوام ثم بعثهم. وكانوا نموذجا حيا لإمكانية البعث والمعاد {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} (2) ، فهذه النماذج جميعها وغيرها مما ورد في القرآن تدل أوضح الدلالة وأبينها على إمكانية البعث وتحققه ولا يماري فيها إلا معاند متكبر.
__________
(1) سورة البقرة الآية 260
(2) سورة الكهف الآية 21(36/330)
أثر عقيدة الإيمان بالآخرة في حياة الإنسان
إن للإيمان باليوم الآخر أثرا عظيما في حياة الناس أفرادا وجماعات، إذ تختلف حياة من يؤمن باليوم الآخر عن ذلك الذي لا يؤمن بأن هناك حياة أخرى بعد هذه الحياة، كما تختلف حالة المجتمعات التي يسود بين أفرادها الإيمان بالآخرة عن تلك المجتمعات التي يؤمن أفرادها بأن الدنيا هي نهاية المطاف، ويظهر هذا الأثر في حياة الإنسان الفكرية والنفسية والخلقية، فالذي يؤمن بالحياة الأخرى يجد من خلال هذه العقيدة تفسيرا لكثير من ظواهر الحياة الإنسانية وما ينبغي أن يسود حياة الإنسان من قيم وفضائل وأخلاق وتضحيات، إذ أن الذي يعتقد بأن الحياة الدنيا هي نهاية المطاف ستكون غايته الأولى وهمه الأكبر الحصول على أكبر قدر من متعها ولذائذها المادية،(36/330)
وسيصير همه في هذا المجال، الصراع من أجله. ومن ثم لن يعرف معنى للقيم الإنسانية، كمعاني الإخاء والمساواة والفضائل الإنسانية؛ من تعاون على الخير إذا ما تصادمت مع متعه الدنيوية، بينما الذي يؤمن بأن الدنيا هي عبارة عن دار ابتلاء وامتحان، وأن متاعها زائل موقوت وأن كل متاع يفوته فيها امتثالا لأمر الله وطاعته، سيعوض عنه في الآخرة متاعا أعلى وأحق وأبقى، وأن كل مجانبة لأمر الله من أجل متاع الدنيا يجازى عليه في الآخرة عذابا ليس في طاقة البشر احتماله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} (1) . إن من يدرك هذا ستهون عنده قيمة الحياة الدنيا قياسا إلى الآخرة، وسيبذل جهده في سبيل إبراز أعلى القيم الإنسانية من خلال عمله.
وللإيمان بالحياة الآخرة أثر أيضا في سلوك الإنسان وتصرفاته- فمن يؤمن بأن هناك حياة أخرى، تجده يعيش مطمئنا راضيا يتمتع بالسكينة والقناعة وأمثالها من المشاعر التي هي أساس الحياة الإنسانية، لأن مثل هذا الشخص مطمئن غاية الاطمئنان إلى عدالة الله المطلقة ورحمته وكرمه ومتيقن تماما بأن الدنيا وما فيها موقوت وأنها الطريق إلى وجود حقيقي وخالد. ومن ثم فيتحمل مثل هذا الشخص الابتلاء، ويتحلى بالصبر على المصائب عن رضى، فيصبر على الضراء، كما يعتبر النعم نوعا من الابتلاء يستحق موقف الشكر، ويستخدم ما يناله من نعم فيما يعود عليه وعلى غيره بالخير والنفع، ومن ثم يكون سعيدا في حال السراء والضراء، كما عبر حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان ذلك خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان له خيرا، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن (2) » أما الشخص الذي لا يؤمن بحياة أخرى فإنه يسابق السنوات القليلة المحدودة التي يعيشها في الدنيا، ويسيطر عليه شعور الضيق والقلق والاضطراب كلما تقدم به العمر وقصرت به طموحاته وآماله، وغالبا ما يكون
__________
(1) سورة النساء الآية 56
(2) مسلم، كتاب الزهد، باب المؤمن أمره كله خير. جـ 8، ص: 227.(36/331)
أمثال هؤلاء عرضة للأمراض النفسية والعصبية، والإصابة بأنواع الاكتئاب النفسي والقلق والانتحار، لأنه حصر الوجود كله في هذه الحياة الدنيا فإن فشل فيه أو عجز عن القيام بما يسعى له فقد قيمة الحياة والوجود بأسره. . بينما المؤمن تتسع الحياة عنده لتشمل الآخرة، ويكون له منها غاية وهدف يسعى لتحقيقه ويسعد بذلك كما عبر ربعي بن عامر التميمي: (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها- ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام) (1) .
أما الأثر الأخلاقي للإيمان باليوم الآخر، فيتمثل في الشعور الدائم برقابة الله تعالى، فالذي يؤمن بالله يعلم ما توسوس به نفس الإنسان، وإنه محص عليه كل أعماله صغيرة كانت أم كبيرة ومحاسبه على ما يقدم، لن يجرؤ على الإقدام على غير ما يرضي الله من أقوال أو أفعال، وسيكون في حذر دائم ويقظة لا تغفل عن المحاسبة. وقد اتخذ القرآن من التذكير بهذه الحقائق وسيلة إلى الدعوة إلى الأخلاق الفاضلة والقيم الإنسانية والتمسك بها: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (2) {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (3) ، مؤكدا أن هذه الحياة الدنيا متاع زائف، ولحظات عابرة، ومن ثم لا ينبغي الأخذ منها إلا بالقدر المأذون فيه، وما فات منها لا ينبغي الحسرة عليه، وما أصاب الإنسان لا ينبغي السرور به - فضلا عن عدم التكالب عليها وإضاعة العمر في سبيل الصراع حولها. وبدلا من هذا ينبغي السعي إلى النعيم المقيم، واللذة التي لا تنفد، والمتاع الذي لا يزول، ولا يحول في دار غير هذه الدار وحياة غير هذه الحياة" {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (4) {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (5) {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (6) .
__________
(1) حياة الصحابة، '' الكاندهلوي '' جـ 1. ص: 220.
(2) سورة البقرة الآية 223
(3) سورة البقرة الآية 272
(4) سورة العنكبوت الآية 64
(5) سورة الحديد الآية 20
(6) سورة الحديد الآية 21(36/332)
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (1) {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (2) .
__________
(1) سورة الأعلى الآية 16
(2) سورة الأعلى الآية 17(36/333)
المراجع
1 - الإسلام يتحدى " وحيد الدين خان " ترجمة ظفر الإسلام خان، مراجعة وتقديم، عبد الصبور شاهين، القاهرة المكتب الإسلامي، ط. سابعة (1397 هـ \ 1977 م) .
2 - إعلام الموقعين عن رب العالمين (ابن قيم الجوزية) . راجعه وقدم له وعلق عليه، طه عبد الرءوف سعد، بيروت دار الجبل 1973م.
3 - الله جل جلاله " سعيد حوى " بيروت دار الدعوة، ط. ثالثة 1392 هـ \ 1972م.
4 - الله يتجلى في عصر العلم (نخبة من العلماء الأمريكيين) تحرير جون كلوفر موتسما ترجمة الدمرداش عبد المجيد سرحان. القاهرة مؤسسة الحلبي. ط. ثالثة، 1968 م.
5 - تفسير القرآن العظيم (عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير) بيروت دار المعرفة 1388 هـ \ 1969 م.
6 - حياة الصحابة " الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي " حققه الشيخ ثابت العباس، " ومحمد علي دولة " دمشق. دار العلم للطباعة والنشر والتوزيع. ط. ثانية 1403 هـ \ 1983 م.(36/333)
7 - سنن الترمذي (أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة) تحقيق وتعليق إبراهيم عطوة عوض، مصر مكتبة مصطفى البابي الحلبي. ط. أولى 1385 هـ \ 1965م.
8 - صحيح البخاري (أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري) استانبول المكتبة الإسلامية 1979 م.
9 - صحيح مسلم (مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري) ، بيروت دار المعرفة، دون تاريخ.
10 - صحيح مسلم بشرح النووي، بيروت دار الفكر، دون تاريخ.
11 - كتاب الفوائد (ابن قيم الجوزية) بيروت دار مكتبة الحياة، دون تاريخ.
12 - في ظلال القرآن (سيد قطب) بيروت، القاهرة \ دار الشروق، ط. تاسعة 1400 هـ \ 1985 م.
13 - مختصر تفسير الطبري، اختصار وتحقيق، محمد علي الصابوني، وصالح أحمد رضا، بيروت دار القرآن الكريم، ط. أولى 1403 هـ \ 1983 م.
14 - مختصر الصواعق المرسلة (ابن قيم الجوزية) . الرياض توزيع إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، دون تاريخ.
15 - المسند (الإمام أحمد بن محمد بن حنبل) ، بيروت. نشر المكتب الإسلامي. دون تاريخ.
16 - الملل والنحل (أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني) تحقيق محمد سعيد كيلاني، بيروت دار المعرفة، دون تاريخ.(36/334)
إيضاح البيان
عن
معنى أم القرآن
سليمان بن عبد القوي، الطوفي، الحنبلي
ت. سنة 716 هـ
تحقيق
د. علي حسين البواب (1)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، وبعد:
مقدمة فهذا كتاب من الكتب التي عنيت بالقرآن الكريم، ودارت حول سورة الفاتحة، واستنباط بعض الأحكام والفوائد منها، وهو واحد مما ألف علماء العربية حول القرآن العظيم.
ومؤلف الكتاب هو سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الصرصري نجم الدين.
ولد في طوفى - من أعمال صرصر - بعد سنة سبعين وستمائة، وتلقى فيها العلوم والمعارف، وتردد على صرصر - وهي على بعد فرسخين من بغداد، فتلقى العلم على شيوخها، ثم ارتحل إلى بغداد سنة إحدى وتسعين وستمائة،
__________
(1) ورد للباحث ترجمة في العدد 18.(36/335)
آخذا ومفيدا من علماء العصر فيها، فحفظ " المحرر" في الفقه الحنبلي لمجد الدين بن تيمية، وتعلم العربية والفرائض والمنطق، وسافر إلى دمشق سنة أربع وسبعمائة، فالتقى بشيوخها ومنهم الإمام تقي الدين بن تيمية، وانتقل إلى مصر سنة خمس وسبعمائة، فأقام بها مدة، تلقى على علمائها، وفيها نال مكانة، وذاع صيته بين أئمة الحنابلة، وهناك ألف عددا من الكتب، وحدثت له فتنة، وسجن، فغادر القاهرة إلى دمياط، ثم إلى قوص - في الصعيد- حيث أقام فترة، ثم غادرها إلى مكة المكرمة حاجا عام أربعة عشر وسبعمائة، وزار المدينة المنورة، ثم حج ثانية في العام التالي، وارتحل بعدها إلى بيت المقدس، فمدينة الخليل -عليه السلام - وفيها وافته المنية سنة ست عشرة وسبعمائة.
أخذ الطوفي في رحلاته عن عدد كبير من علماء الأمصار من الفقهاء والأصوليين والمحدثين واللغويين والنحويين وغيرهم. وممن تلمذ لهم: علي بن محمد الصرصري، وعبد الله بن محمد الزريراتي، ومحمد بن الحسين الموصلي، وإسماعيل بن علي بن الطبال، وأبو بكر أحمد بن علي القلانسي، وتقي الدين بن تيمية، ومحمد بن أبي الفتح البعلي، ويوسف بن عبد الرحمن المزي، وعبد المؤمن بن خلف الدمياطي، وأبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي، وغيرهم.
وتولى الطوفي التدريس ونال مكانة في عصره، ووصفه العلماء بالفضل، والمشاركة في العلوم، وسعة المعرفة، وشدة الذكاء، وقوة الحافظة، وكثرة العبادة، والتقلل من الدنيا.
وألف الطوفي عددا من الكتب في علوم مختلفة، منها: الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية- الإكسير في قواعد التفسير- الانتصارات الإسلامية- البلبل في أصول الفقه- تفسير بعض سور القرآن الكريم- جدل(36/336)
القرآن- حلال العقد في أحكام المعتقد- درء القول القبيح- شرح الأربعين النووية- الشعار المختار على مختار الأشعار- الصعقة الغضبية في الرد على منكري العربية- مختصر روضة الناظر- موائد الحيس على فوائد امرئ القيس - وغيرها.
رمي الطوفي بالتشيع، بل بالرفض، ونقل ذلك بعض من ترجم له، وكان أكثر من تعرض له وحمل عليه ابن رجب في " الذيل "، فقد جرحه، وكال له التهم، وذكر بعض الأدلة على ذلك.
واجتهد المحدثون ممن درسوا مؤلفات الطوفي أو كتبوا عنه في رد هذه الشبهة، وتحدثوا عن سببها، وأن الطوفي تكلم عند شيخه سعد الدين الحارثي في القاهرة بكلام عده الشيخ تطاولا، فأوكل شمس الدين ابن الشيخ أمر الطوفي إلى الشرط، واتهموه بالتشيع، فحبس وعزر، وطيف به في شوارع القاهرة.
وقد قدم الدكتور مصطفى زيد، والدكتور إبراهيم بن عبد الله، أدلة كثيرة واضحة تدل على أنه براء من هذه التهمة، وأنه حنبلي النشأة والثقافة، وأنه لم يعرف عنه منذ كان في بلده إلى أن دخل بغداد ودمشق والقاهرة شيء غير ذلك، وأن أقواله ونصوصه في مؤلفاته تبين بوضوح أنه لا علاقة له بالتشيع والرفض، بل إن فقهه الحنبلي، وعنايته بكتب المحدثين من أهل السنة تدل على عكس ذلك، وفي مؤلفاته مناقشات واعتراضات وردود على الشيعة، واعتراض على أصولهم، وأن ما نسب إليه ليس إلا دسيسة ومكيدة، وقد حيكت لعدد من العلماء قبله، بل لم ينج منها شيخه ابن تيمية(36/337)
إيضاح البيان عن معنى أم القرآن:
وهذا الكتاب الذي نقدم له- جعله المؤلف في فصول: تحدث في الأول عن معنى " أم "، وعن معنى " القرآن ". وفي الثاني قسم الكلام إلى مجمل ومبين،(36/337)
وذكر أن لكل منهما مراتب. وتحدث عن سبب الإجمال، وسبب البيان، وعن بعض مراتب الإجمال والبيان في القرآن الكريم. وفي الفصل الثالث بين أن القرآن يشتمل على مقاصد الإيمان من التصديق بالله تعالى والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر والقدر، وأن هذه المقاصد جميعها في الفاتحة- وأخذ يبين ذلك.
وذكر المؤلف أن ما في القرآن من القصص والأخبار تكميل للمقاصد المذكورة، وأن سورة الفاتحة تتضمن ذلك، كما أن في هذه السورة وعدا ووعيدا، ثم أشار إلى أن القرآن لا يخرج عن أن يكون ثناء على الله تعالى، أو عبادة له سبحانه، والفاتحة أولها ثناء وآخرها عبادة. ثم ذكر أسماء الفاتحة.
وبعد هذا أورد المؤلف بعض الفوائد، فذكر فضائل بعض السور وأسرار ذلك، وأسباب اختصاصها بما ورد فيها، وتخلله تفسير موجز لسورتي الفلق والناس.
أما نسبة الكتاب للطوفي فواضحة جلية، رغم أنني لم أقف على من نسب الكتاب له من القدماء، فقد ذكره إسماعيل باشا البغدادي وهو يعدد مؤلفات الطوفي (1) ، والكتاب في مجموع يحتوي على عدد من مؤلفاته، كتب في أول وآخر كثير منها اسم المؤلف، والأوضح من ذلك أن المؤلف أحالت فيه على كتابه "الرياض النواضر في الأشباه والنظائر" وهذا الأخير مما ذكره له المترجمون، كما أنه أحال على "الإيضاح " في كتابه " قاعدة جليلة في علم الكتاب والسنة" (2)
__________
(1) هدية العارفين 1 \ 400.
(2) ينظر ص 103 من مقدمة شرح مختصر الروضة لتحقيق د. آل إبراهيم.(36/338)
مخطوطة الكتاب:
يعرف لإيضاح البيان نسخة مخطوطة واحدة، وردت في فهرس مخطوطات برلين، وذكرها- بروكلمان (1) ، ولم يشر إلى غيرها، ولم يهتد الدارسون والمعنيون
__________
(1) تاريخ الأدب العربي- الأصل الألماني 2 \ 108.(36/338)
بالطوفي إلى غيرها. والكتاب في مجموع يحوي عدة رسائل للمؤلف، وكتاب "الإيضاح " تحت الرقم 940، ويبدأ من ق 49 أوينتهي في الورقة 57 ب. وفي كل صفحة تسعة عشر سطرا.
وقد جعل "الورد" مفهرس مخطوطات المكتبة نهاية الكتاب في الورقة 62، مدخلا معها تفسير المؤلف لسورتي " الطارق " و " الانشقاق "، وقد رجحت ألا تكونا منه، وأن تجعلا مستقلتين، وأنه لا علاقة بينهما وبين الفوائد التي أثبتها إيضاح البيان، ويرجح ذلك احتواء المجموع نفسه على تفسير سور " ق " و "القيامة" و "النبأ" للمؤلف نفسه، فهذا قوى في نفسه أن تكون سورتا " الانشقاق " و " الطارق " مثلها، وأن تنشر مستقلة (1) .
ورسالة إيضاح البيان- كسائر الكتب في المجموع- كتبت بخط نسخي واضح، في القرن التاسع الهجري تقديرا، وقد نسخت عن نسخة المؤلف التي كتبها بنفسه في القاهرة سنة 711 هـ- في سجنه، وناسخ المخطوطة- كما ذكر في آخر سورة " ق " و "حلال العقد" هو محمد بن عبد الوهاب بن محمد الأنصاري الحنبلي. وقد قابل الناسخ النسخة على الأصل، وأثبت بعض التصويبات.
وعن هذه النسخة حققت الكتاب، ووضحت ما يحتاج إلى توضيح، وخرجت ما يجب تخريجه، وعلقت عليه بعض التعليقات دون إطالة.
ونسأل الله تعالى أن ينفع بالكتاب، وأن يثيبنا عليه، وأن يعفو عن تقصيرنا.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) وهي كلها تحت الطبع الآن بتحقيقي.(36/339)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله بجميع محامده كلها، ما علمنا منها وما لم نعلم، على نعمه كلها، ما علمنا منها وما لم نعلم، على خلقه كلهم، ما علمنا منهم وما لم نعلم، ولقد كان فضل الله علينا عظيما.
هذه رسالة نترجمها بـ " إيضاح البيان عن معنى أم القرآن "، ونتبعه (1) فوائد أخر.
والكلام على ذلك في فصول:
__________
(1) الضمير يعود على '' الإيضاح ''.(36/344)
أحدها: بيان حقيقة لفظ "الأم " و" القرآن ":
أما الأم فيقال: هي أصل الشيء، فمنه أم الإنسان، لأنها أصله الذي خرج منه، ومكة أم القرى لأنها أصل القرى، لما ذكر من أنها دحيت من تحتها (1) ، فيقال إن الأرض كانت رابية حيث هي مكة، ثم بسطت من هناك قال الله -عز وجل-: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (2) . {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} (3) . {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} (4) . وأشباه ذلك. ويقال للأرض أم البشر، لأنها أصله، منها خلق، ومنه قوله -عز وجل-: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} (5) ، {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} (6) . وفي شعر أمية:
والأرض منشأنا , وكانت أمنا ... منها حقيقتنا , وفيها نولد (7)
وكذا قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} (8) أي يلازم الهاوية ملازمة الطفل أمه التي هي أصله. وقيل: هذا من قولهم: هوت أمه، دعاء عليه (9) ، ولعل أصله أن يتنكس على أم رأسه.
__________
(1) ينظر الطبري 1 \ 37، والقرطبي 1 \ 112، والمفردات- أم.
(2) سورة النازعات الآية 30
(3) سورة الذاريات الآية 48
(4) سورة نوح الآية 19
(5) سورة نوح الآية 17
(6) سورة ص الآية 71
(7) في القرطبي 1 \ 112، 20 \ 167 فالأرض معقلنا.. وفيه ديوان أمية 28 فالأرض معقلنا.... .
(8) سورة القارعة الآية 9
(9) ينظر مجمع الأمثال 2 \ 390(36/344)
ويقول النحاة "إن " الشرطية هي أم الباب، و "إلا" أم الباب في الاستثناء، يعني أصله الذي هو أكثر دورانا. وكذلك: روميه أم الروم: أي أصل بلادها التي ترجع إليها ويعتمد عليها {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} (1) ، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (2) يعني أصله الذي نقل منه، وهو اللوح المحفوظ (3) .
فأم الكتاب يستعمل بمعنيين: أحدهما هذا- لما ذكر. والثاني: الفاتحة لما نذكر إن شاء الله -عز وجل- من أنها متضمنة لكليات القرآن إجمالا.
وأما القرآن فالمراد به الكلام الإلهي الجامع النازل على محمد -صلى الله عليه وسلم-، مشتق من القرء: وهو الجمع، لجمعه ما ذكرنا. ومادة "قرأ" إلى هذا ترجع
__________
(1) سورة الزخرف الآية 4
(2) سورة الرعد الآية 39
(3) ينظر القرطبي 1 \ 111، 9 \ 31 والدر المنثور.(36/345)
الفصل الثاني:
اعلم أن الكلام من حيث هو على ضربين: مجمل، ومبين مفضل، والضربان متفاوتان في المراتب، فبعض المجمل أشد إجمالا من بعض، وبعض المبين أشد بيانا من بعض، حتى ينتهي المجمل إلى غاية الإجمال، والمبين إلى غاية البيان، وسبب الإجمال تارة قصور المتكلم عن البيان، وتارة قوة إدراك السامع بحيث يفهم بأدنى إشارة، فيتكل المتكلم على ذلك، فيقتصر على الإجمال. وتارة الأمران: قصور المتكلم وقوة السامع، فلا يبالي المتكلم- كان قاصرا عن البيان أو قادرا عليه، وتارة يعلق المصلحة بالإجمال من إخفاء سر أو امتحان سامع بإدراك معنى خفي، وغير ذلك من الأسباب.
وسبب البيان تارة فصاحة المتكلم وبلاغته، وتارة ضعف فهم السامع، فيحرص المتكلم على إفهامه، وتارة الأمران جميعا، وتارة اهتمام المتكلم بمعنى(36/345)
الكلام، فيحرص على إظهاره في بعض مراتب البيان وغير ذلك من الأسباب.
ومن أمثلة تفاوت مراتب البيان قوله -عز وجل-: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (1) الآيات، فإنه -عز وجل- أمرهم أولا بذبح بقرة وهي مسمى مطلق في غاية الإجمال، ثم بين لهم أنها {لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} (2) ثم بين لهم أنها {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} (3) ثم بين لهم أنها {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا} (4) فكان ذلك غاية البيان لهم، فحينئذ قالوا: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (5) .
ومن أمثلة ذلك أن الله -عز وجل- بين مواقيت الصلاة في كتابه بقوله -عز وجل-: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} (6) الآية ثم بقوله -عز وجل-: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (7) {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} (8) ثم بقوله -عز وجل-: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (9) {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} (10) وبقوله -عز وجل-: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (11) الآيات.
وهي متفاوتة في البيان على ترتيبها الذي ذكرناه. ثم جاءت السنة في رتبة ثانية من البيان، كحديث ابن عباس وجابر وبريدة وغير هذا. ثم جاء كلام الفقهاء في رتبة ثالثة من البيان، فهي في غايته. ثم إن كتب الفقهاء
__________
(1) سورة البقرة الآية 67
(2) سورة البقرة الآية 68
(3) سورة البقرة الآية 69
(4) سورة البقرة الآية 71
(5) سورة البقرة الآية 71
(6) سورة الروم الآية 17
(7) سورة الطور الآية 48
(8) سورة الطور الآية 49
(9) سورة ق الآية 39
(10) سورة طه الآية 130
(11) سورة الإسراء الآية 78(36/346)
متفاوتة في البيان، فبعضها أبين في ذلك من بعض، ولكن جملتها بلغت غاية البيان.
ومن أمثلة ذلك قوله -عز وجل-: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} (1) فهذا إشارة إلى قصتهم إجمالا، ثم استقصى بيانها في باقي السورة.
وكذلك قوله -عز وجل-: {نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُُونَ} (2) فهو إشارة إلى قصتهما إجمالا، ثم استقصى بيانها في سياق السيرة.
وكذلك قصص جماعة من الأمم مع أنبيائها، أجملها -عز وجل- في مكان كسورة " الذاريات "، وبينها في مكان كسورة " الأعراف" و " الشعراء " و " هود" وبعضها أبين من بعض بيانا مطلقا، أو من وجه، ولهذا يستفاد من ذلك في بعض السور ما لا يستفاد من بعض، ثم استقصى القصاص بيان ذلك، مثل وهب والكسائي، والثعلبي، وأجودها كتاب وثيمة بن موسى بن
__________
(1) سورة يوسف الآية 7
(2) سورة القصص الآية 3(36/347)
الفرات، وأبلغ من ذلك بيانا معاينة قصصهم لمن عاينها عند وقوعها. وإذا نظرت في كتابنا المسمى بـ "الرياض النواضر في الأشباه والنظائر" (1) لاحت لك بارقة كبيرة من البيان ومراتبه إن شاء الله -عز وجل-.
__________
(1) ذكره ابن رجب في الذيل 2 \ 367، وحاجي خليفة في كشف الظنون 1 \ 938(36/348)
الفصل الثالث:
إذا عرفت ما قدمناه من مراتب فاعلم أن القرآن في مراتب بيانه على ذلك: فالفاتحة التي هي أم القرآن مشتملة على مقاصده الكلية من حيث الإجمال، ثم باقي القرآن يبين ذلك في رتبة ثانية من البيان، ثم السنة بينته في رتبة ثالثة من البيان، لأنها بيان القرآن، لقوله -عز وجل-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) ثم العيان في الدنيا والآخرة بينه في رتبة رابعة، وهي غاية البيان، إذ لا أبين من العيان، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} (2) ، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} (3) ، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (4) ، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (5) ، {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا} (6) الآيات ونحوها.
ولنشرح ذلك على وجه يظهر، وذلك من وجوه:
أحدها: أن القرآن مشتمل على مقاصد الإيمان، وهي التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، كما ثبت ذلك في حديث جبريل في الحديث الصحيح، وهذا هو مقصود القرآن بالذات، ولذلك سمى إيمانا في قوله -عز وجل-: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (7) يعني بالقرآن فيما قاله بعضهم. وهذه المقاصد كلها مشار إليها في الفاتحة:
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) سورة الأعراف الآية 53
(3) سورة الأنعام الآية 158
(4) سورة الزمر الآية 47
(5) سورة يس الآية 63
(6) سورة الأحقاف الآية 34
(7) سورة المائدة الآية 5(36/348)
أما الإيمان بالله ففي قوله -عز وجل-: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) فإن إيجاب الحمد لله -عز وجل- يقتضي أنه موجود مستحق له.
وأما الإيمان بالملائكة فهو في ضمن قوله -عز وجل-: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) إذ العالمون من سوى الله -عز وجل-، ومنهم الملائكة، وأيضا في ضمن قوله -عز وجل-: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (3) ومن جملة المنعم عليهم ذوي الصراط المستقيم الملائكة، لقوله -عز وجل- في صفتهم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (4) وهذا هو مقصود الصراط المستقيم.
وأما الإيمان بالكتب فقد تضمنه قوله -عز وجل-: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (5) وهو القرآن في أحد الأقوال (6) ، وهي متلازمة: فالقرآن مراد على تجميعها قصدا أو التزاما، وسؤال الهداية يستلزم الإيمان به، إذ من لا يؤمن بشيء لا يسأل الهداية إليه، والإيمان به يستلزم الإيمان بجميع كتب الله -عز وجل-، لأنه موافق مصدق لها، آمر بالإيمان بها.
وأما الإيمان بالرسل: فقد تضمنه قوله -عز وجل-: {رَبِّ ابْنِ} (7) إذ هم صفوة العالمين، وأبين منه قوله -عز وجل-: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (8) لأن الرسل صفوة المنعم عليهم. وقد بين الله -عز وجل- ذلك في قوله -عز وجل-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} (9) الآية. فبدأ بهم: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} (10) ، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} (11) ، {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} (12) الآيات ونحوها.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 2
(2) سورة الفاتحة الآية 2
(3) سورة الفاتحة الآية 7
(4) سورة التحريم الآية 6
(5) سورة الفاتحة الآية 6
(6) ينظر الطبري 1 \ 57، والدر المنشور 1 \ 15.
(7) سورة التحريم الآية 11
(8) سورة الفاتحة الآية 7
(9) سورة مريم الآية 58
(10) سورة الزخرف الآية 59
(11) سورة النمل الآية 19
(12) سورة يوسف الآية 6(36/349)
وأما الإيمان باليوم الآخر ففي قوله -عز وجل-: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (1) يعني يوم الحساب والجزاء، وحين يدان الناس بأعمالهم: أي يجزون.
وأما الإيمان بالقدر ففي قوله -عز وجل-: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} (3) إذ فيه بيان أن الإعانة على عبادته منه، والاستعانة به والهداية إليه، وإلى الأول الإشارة بقوله -عز وجل-: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (4) ، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (5) ونحوها، وإلى الثاني الإشارة بقوله -عز وجل-: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} (6) ونحوها من الآيات المثبتة للقدر.
فأما ما في القرآن من القصص وأخبار الأولين والآخرين فهو خارج مخرج التكملة للمقاصد المذكورة، وربما تضمنه قوله -عز وجل-: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (7) إلى آخر السورة، لأن المخبر عنهم في القرآن لا يخرجون عن أن يكونوا منعما عليهم، أو مغضوبا عليهم، أو مهتدين، أو ضالين، فهذا وجه.
والوجه الثاني أن القرآن مشتمل على الوعد والوعيد، والحلال والحرام، وغيرهما من الأحكام والقصص والأخبار: أما الوعد ففي ضمن قوله -عز وجل-: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (8) وقوله -عز وجل-: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (9) والوعد فيه ظاهر لاشتماله على صفتي الرحمة والإنعام. وأما الوعيد ففي قوله -عز وجل-: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (10) إذ فيه إشارة إلى أنه -عز وجل- مالك يوم الحساب والجزاء، فيجازي كلا بفعله: {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (11) ، وأيضا قوله -عز وجل-: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (12) لأن صفتي الغضب والضلال تقتضيان ترتب الوعيد عليهما.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 4
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة الفاتحة الآية 6
(4) سورة الليل الآية 7
(5) سورة الصافات الآية 96
(6) سورة الأعراف الآية 178
(7) سورة الفاتحة الآية 7
(8) سورة الفاتحة الآية 3
(9) سورة الفاتحة الآية 7
(10) سورة الفاتحة الآية 4
(11) سورة الانفطار الآية 19
(12) سورة الفاتحة الآية 7(36/350)
وأما الحلال والحرام ونحوهما من الأحكام ففي قوله -عز وجل-: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (1) إذ المراد بالدين الجزاء المستلزم للتكليف بأحكام الأفعال المجازى عليها من إيجاب وحظر وكراهة وندب. وكذا قوله -عز وجل-: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (2) فصرح بلفظ التعبد الذي هو من التكليف الموجب لوجود الأحكام على المكلفين.
وأما القصص والأخبار ففي قوله -عز وجل-: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (3) إلى آخر السورة. ويقرره ما مر في الوجه قبله من أن المخبر عنهم إما منعم عليه أو مغضوب عليه، أو مهتد أو ضال. وما كان من الأخبار المعاديد، ففي قوله -عز وجل-: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (4) وهي مذكورة في كتاب "العاقبة" وكتاب البعث والنشور وغيرها من كتب السنة.
الوجه الثالث: أن القرآن لا يخرج عن أن يكون ثناء على الله -عز وجل- أو عبادة له -سبحانه وتعالى -، والفاتحة أولها ثناء وآخرها عبادة، أعني دعاء إليها. والعبادة تارة تكون بالدعاء نحو " اهدنا " وهو مخ العبادة كما صح به الحديث، ودل عليه قوله -عز وجل-: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} (5) الآية. وتارة بغير الدعاء نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (6)
فهذه ثلاثة أوجه في بيان اشتمال الفاتحة على مقاصد القرآن من حيث الإجمال، وربما أمكن استخراج غيرها عند إمعان النظر، لكني لم أستقصه وإنما أوردت ما ظهر.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 4
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة الفاتحة الآية 7
(4) سورة الفاتحة الآية 4
(5) سورة غافر الآية 60
(6) سورة الفاتحة الآية 5(36/351)
خاتمة:
تسمى هذه السورة "الحمد" تسمية لها بأول لفظ منها، و " الفاتحة " لافتتاح القرآن بها، و "أم القرآن " و " الكتاب " لما ذكرنا، و "السبع المثاني والقرآن العظيم " بالكتاب ونص السنة في حديث أبي بن كعب. . وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة: أي يتكرر ذكرها. وقيل: لأنها نزلت مرتين بمكة والمدينة.
وتسمى الواقية والشافية لأنها تقي وتشفي من اتقى واستشفى بها. والرقية لقوله -عليه الصلاة السلام- لأبي سعيد لما رقى بها اللديغ: «وما أدراك أنها رقية (1) » ، ولعل لها أسماء غير ما ذكرنا، والذي استحضرناه الآن هو هذا، والله -عز وجل- أعلم بالصواب.
__________
(1) البخاري- كتاب الطب باب 33- 10 \ 198.(36/352)
فصل:
وردت السنة بأن قراءة إذا زلزلت تعدل نصف القرآن، وقراءة قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقراءة قل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن، وهذا يشبه كلامنا المذكور على الفاتحة، والكلام عليه في فصول:
أحدها: أنه لا يمتنع ترتب الأجر الكثير على العمل اليسير لأسباب: منها نفاسة العمل في نفسه، كالكتابة المحررة الجيدة التي يساوي السطر منهما دينارا، كما يحكي عن بعض الكتاب أنه كان إذا سئل الصدقة كتب للسائل سطرا فيبيعه بدينار. ومنها عظم مصلحة العمل، كحركة هندسية يصلح بها(36/352)
قرص ببناء عظيم، أو يجري بها ماء إلى أرض، أو سقف بها اعوجاج في أمر ونحو ذلك ومنها كرم من له العمل، مثل أن يسقط سوط الملك من يده، فيناوله إياه بعض العامة، فيعطيه على ذلك مالا جزيلا. ويروى عن الشافعي - رضي الله عنه- أن سوطه سقط من يده، فناوله إياه بعض العامة، فقال الشافعي لغلامه: أعطه ما معك من النفقة، فكان خمسين دينارا، وقال: لو كان معنا غيرها لأعطيناه (1) ، وذلك لكرمه وسعة مروءته- رضي الله عنه-. وقد يتجه غير ذلك من الأسباب.
وإذا عرف ذلك فلا يبعد أن يعطي الله -عز وجل- قارئ سورة "الزلزلة" أجر قارئ نصف القرآن ببعض هذه الأسباب خصوصا وقد ثبت بالسنة الصحيحة أن بعض القرآن أعظم وأفضل من بعض، كما ثبت أن الفاتحة أعظم السور، وآية الكرسي أعظم الآيات (2) فقد تختص هذه السورة بخصائص يعلمها الشرع تقتضي أن يرتب على قراءتها من الأجر ذلك، كما اختص بعض الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال بخواص اختصت لأجلها بما ليس لغيرها من جنسها، وذلك كأشخاص الأنبياء والأولياء ظهر على أيديهم من المعجزات والخوارق ما لم يظهر على أيدي غيرهم من الأشخاص، وكما اختص رمضان والأشهر الحرم ويوم الجمعة وليلة القدر ويوم عرفة وعاشوراء ونحوها من الأزمنة بخصائصها المشهورة شرعا، وكما اختص المسجد الحرام بأن صلاة الفرض فيه أفضل منها في غيره وبسائر خصائصه.
واختص المساجد الثلاثة بشد الرحال إليها، وتضاعف الصلاة فيها على غيرها، ونحو ذلك. وكما اختص حال الجهاد بتضاعف أجر الصوم فيها، كما جاء في الحديث: «من صام يوما في سبيل الله باعده الله عن النار سبعين خريفا (3) »
__________
(1) في مناقب الشافعي للبيهقي 2 \ 221 أنه أعطاه تسعة دنانير أو سبعة، وفي السير 10 \ 37 سبعة.
(2) ينظر البخاري الوكالة- باب- 10- 4 \ 487، وجمال القراء 1 \ 55- 57.
(3) سنن النسائي- الصوم 4 \ 174.(36/353)
الفصل الثاني:
ينبغي لمن تلا هذه السور الثلاث منفردة، أو في جملة القرآن، بادئا من أوله أو من آخره في غير الصلاة أن يكرر سورة "الزلزلة" مرتين، وسورة " الإخلاص " ثلاثا، وسورة " الكافرون " أربعا ليستكمل بذلك ثلاث ختمات، أما في الصلاة ففي تكرار السورة خلاف مشهور، وتفصيل بين الفرض والنفل. وينبغي لمن كرر هذه السور أن يكرر البسملة في أول كل سورة بعدد قراءتها مرات، لاحتمال كونها آية من كل سورة.(36/354)
الفصل الثالث (1) :
في ذكر ما ظهر لي من مناسبة اختصاص هذه السور بما ذكر، أما توجيه أن " الزلزلة" تعدل نصف القرآن فلأن القرآن لا يخرج عن تقرير أمر معاش الناس ومعادهم.
وهذه السورة اختصت بذكر أمر المعاد من زلزلة الأرض عند قيام الساعة، وإخراج أثقالها وهم الموتى، إشارة إلى البعث. وتحديث أخبارها، وصدور الناس عنها أشتاتا كأنهم جراد منتشر، ورؤية كل عامل ما عمل من خير أو شر، فلم تتضمن شيئا غير ذكر المعاد. فلما اختصت بجنس نصف مضمون القرآن جاز أن يقال: إنها تعدل نصف القرآن، وصار هذا كما قيل: "إن الفرائض نصف العلم " كما كان للإنسان حالتا حياة وموت، وعلم الفرائض هو العلم المتعلق بإحدى حالتيه وهو الموت، سمي نصف العلم.
وأما توجيه أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن فلأن القرآن باعتبار قسمة أخرى لا يخرج عن تقرير التوحيد والنبوة وأحكام اليوم الآخر. وهذه السورة اختصت بتقرير التوحيد. وذكره، لم يذكر فيها غيره، فكانت
__________
(1) في الأصل (الفصل الأول) .(36/354)
بهذا الاعتبار تعدل ثلث القرآن، لاشتمالها على ثلث مضمونه وهو التوحيد.
وهذه القسمة لا تخالف ما ذكرناه من تضمن القرآن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لأن تقرير النبوة يتضمن إثبات الملائكة والكتب والرسل، لاستلزام النبوة نبيا يتلقى الوحي عن الله -عز وجل- بواسطة الملك.
وأما توجيه أن قل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن، فلأن الخطاب في القرآن إما للمؤمنين أو للكفار، والمؤمنون ضربان: أحدهما مؤمن بالكتاب الأول، فخوطب بالإيمان بالكتاب الثاني وهو القرآن، كقوله -عز وجل-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (1) يعني: يا أيها الذي آمنوا بالكتاب الأول آمنوا بمحمد والقرآن. الضرب الثاني: مؤمن بالكتاب الأول والآخر، وهم هذه الأمة، خوطبوا بتكميل الإيمان من فعل العبادات ونحوها من الفروع نحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} (2) ، {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} (3) وأشباه ذلك.
والكفار أيضا ضربان: ضرب يخاطب بالدعاء إلى الإيمان نحو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (4) {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (5) ونحو ذلك.
وضرب يخاطب بالتبرؤ مما هو عليه نحو: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (6) {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (7) إلى آخرها. فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يخاطبهم بأنه متبرئ منهم ومما يعبدون، فكانت هذه السورة ربع القرآن بهذا الاعتبار.
__________
(1) سورة النساء الآية 136
(2) سورة الجمعة الآية 9
(3) سورة البقرة الآية 282
(4) سورة البقرة الآية 21
(5) سورة الأنفال الآية 38
(6) سورة الكافرون الآية 1
(7) سورة الكافرون الآية 2(36/355)
خاتمة:
قولنا: هذه السورة تعدل نصف القرآن أو ثلثه أو ربعه يحتمل أنها تعدله في أجر قراءته، ويحتمل أنها تعدله في اقتسام مضمونه، وقد أشرنا إلى الاحتمالين جميعا، والله -عز وجل- أعلم بالصواب (1)
__________
(1) ينظر فتح الباري 9 \ 61.(36/356)
فصل:
وردت السنة بتأكيد أمر القلاقل: وهي سورة الكافرون والإخلاص والفلق والناس، وبتأكيد أمر المعوذات: وهي الثلاث الأخر، وقد تكلمنا على الأولين فلنتكلم على الآخرين.
وإنما سميت هذه المعوذات بكسر الواو لأن الله -عز وجل- أنزلهما معوذات لنبيه -عليه الصلاة والسلام- حين سحره لبيد بن الأعصم اليهودي، وليعوذ بها أمته، وإن كان لسورة الإخلاص سبب آخر (1) ، والكلام في نكت:
إحداهن: لما كانت الصفات تابعة للذات، كان اسم الذات مقدما على الصفات، وسورة الإخلاص مشتملة على اسم الذات، فلذلك قد قدمت في التعوذ على سورة الفلق والناس لاشتمالهما على أسماء الصفات نحو: رب الفلق ورب الناس ملك الناس.
الثانية: معنى (أعوذ) ألجأ وألوذ {بِرَبِّ الْفَلَقِ} (2) يعني فلق الصبح، من قوله -عز وجل-: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ} (3) وقول عائشة: «كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (4) » وأضاف نفسه -عز وجل- إلى الفلق لأنه من أعظم الآيات، ولذلك أقسم به في قوله -عز وجل-: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} (5) ويقال: فلق الصبح وفرق الصبح وقد قال -عز وجل-: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ} (6) فأتى
__________
(1) ينظر القرطبي 20 \ 251، والدر المنثور 6 \ 417.
(2) سورة الفلق الآية 1
(3) سورة الأنعام الآية 96
(4) البخاري- بدء الوحي 3- 1 \ 22، ومسلم الإيمان 73- 1 \ 139.
(5) سورة التكوير الآية 18
(6) سورة الشعراء الآية 63(36/356)
بمادة "فلق " و "فرق " فهما بمعنى. وقوله -عز وجل-: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} (1) هذا عام يتناول كل ما سوى الله -عز وجل-، لأنه خلقه. قوله -عز وجل-: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} (2) إلى آخر السورة هو من باب عطف الخاص على العام، لأن (الغاسق) و (النفاثات) و (الحاسد) من جملة ما خلق الله -عز وجل-. وإنما اختصت هذه بالذكر بعد العموم لأن متعلقاتها مهمة جدا، وذلك لأن قوام الإنسان ببدنه وعقله ودينه وباقي نعم الله -عز وجل- عليه. والغاسق إذا وقب: قيل: هو الثعبان إذا وثب وضرب، وهو يفسد البدن. والنفاثات: السحارات، والسحر مفسد للعقل، لأن الإنسان إذا سحر غلب خياله على عقله فعاد يخيل له ما لا وجود له في الخارج، وهو مفسد للبدن أيضا، ولذلك وجب القود بالقتل به عند جماعة من أهل العلم (3) والحاسد يفسد النعمة بالسعي في زوالها ببدنه ونفسه. ومن جملة النعمة الدين الحق، وقد يسعى الإنسان في إفساد الدين حسدا، كما حكى الله -عز وجل- عن أهل الكتاب أنهم كانوا يفعلون ذلك حسدا بالمسلمين، حتى قال -عز وجل-: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} (4) {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} (5) الآية. وإن قيل: إن الغاسق هو القمر، فإن له- فيما يقال- تأثيرا في الأجسام الأرضية. كتقطيع الثياب الكتان، وتمديد الزروع، ودوران المد والجزر معه في بعض البحار، فلعل له تأثيرات أخرى فيها شرور.
وإن قيل: إن الغاسق هو الفرج - على ما قيل- فشره ظاهر، وأكثر شرور العالم من جهته.
وإن قيل: هو الليل، فإن الشر فيه ظاهر مزعج. وأما ظهوره فلانتشار
__________
(1) سورة الفلق الآية 2
(2) سورة الفلق الآية 3
(3) ينظر تفسير القرطبي 2 \ 47، وفتح الباري 10 \ 224.
(4) سورة البقرة الآية 109
(5) سورة آل عمران الآية 69(36/357)
الهوام والشياطين فيه من الجن والإنس وغير ذلك. وأما إزعاجه فلأنه يلقى الإنسان نائما أو ساكنا فيكون له من الروع ما ليس له في النهار.
الثالثة: قوله -عز وجل-: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (1) {مَلِكِ النَّاسِ} (2) {إِلَهِ النَّاسِ} (3) الرب والملك والإله مترتبة في العموم والخصوص، فالرب أعمها، لأنه قد يكون ملكا وقد لا يكون، وكذلك الملك قد يكون إلها وهو الله -عز وجل- وحده، وقد لا يكون. وأضاف الله -عز وجل- نفسه إلى الناس لأنهم من أشراف العالم، كما كان الفلق من أعظم الآيات، فإذا تعوذ الإنسان بإله الناس امتنع الشيطان من الإقدام عليه امتناعا اختياريا واضطراريا لعظمة من تعوذ به، وهذا موجود في عرف الناس.
{مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} (4) أي الذي يوسوس كما بين بعد. والوسوسة في الأصل: الحركة والاضطراب، قال الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ... كما يناب بريح عشرق زجل (5)
ووسوسة الشيطان حركة روحانية خفية يلقيها الشيطان إلى نفس الإنسان بواسطة جريانه منه مجرى الدم، أو كما يشاء الله -عز وجل-: {الْخَنَّاسِ} (6) الذي يوسوس تارة ويخنس: أي يميل ويسكن تارة. ويقال: إن الشيطان خاتم على قلب ابن آدم، فإذا غفل عن الذكر وسوس الشيطان (7) ، فإذا ذكر الله -عز وجل- خنس: أي مال وسكت عن الوسوسة، ومنه {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} (8) {الْجَوَارِ الْكُنَّّسِ} (9) يعني النجوم تجري في أفلاكها ثم تخنس: أي تميل للغروب أو تجري في أفلاك استقامتها ثم تميل في أفلاك تداويرها، ونحوها من أحوال رجوعها.
قوله -عز وجل-: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (10) يحتمل
__________
(1) سورة الناس الآية 1
(2) سورة الناس الآية 2
(3) سورة الناس الآية 3
(4) سورة الناس الآية 4
(5) ديوان الأعشى ص 55 والعشرق: شجر صغير له حب إذا جف وحركه الريح سمع له صوت. والزجل: الصوت العالي.
(6) سورة الناس الآية 4
(7) الطبري 30 \ 229، والدر المنثور 6 \ 420.
(8) سورة التكوير الآية 15
(9) سورة التكوير الآية 16
(10) سورة الناس الآية 5(36/358)
هذا وجهين: أحدهما أن يكون المعنى الذي يوقع الوسوسة في صدور الناس، فيكون ذلك أعم من أن يكون هو في الصدور أو خارجا عنها، الثاني: أن يكون المعنى: الذي يوسوس كائنا أو مستقرا في صدور الناس، فيكون محل الجار والمجرور نصبا على الحال، وهو أوفق للسنة الصحيحة، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم (1) »
واعلم أن الوسوسة على القلب، وإنما يعبر عنه بالصدر لأنه محل القلب كما عبر عن العقل بالقلب لأنه محله في قوله -عز وجل-: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (2) وقوله -عز وجل-: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (3) هذا بيان لخنس الخناس وتقسيم له إلى نوعين الجنة والناس، أي من شر الوسواس الخناس الذي هو من الجنة والناس، وهذا نص قوله -عز وجل-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (4) وهو معنى قولهم: {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} (5) في بعض الأقوال والله -عز وجل- أعلم بالصواب.
__________
(1) البخاري- الاعتكاف- باب 8- 4 \ 278، ومسلم- السلام- باب 9- 4 \ 1712.
(2) سورة ق الآية 37
(3) سورة الناس الآية 6
(4) سورة الأنعام الآية 112
(5) سورة الأنعام الآية 128(36/359)
مصادر التحقيق
1 - القرآن الكريم.
2 - الإتقان في علوم القرآن- السيوطي - القاهرة - المكتبة التجارية 1318 هـ.
3 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل- لمحمد ناصر الدين الألباني - بيروت: المكتب الإسلامي 1399 هـ.
4 - تاريخ الأدب العربي- كارل بروكلمان - الأصل الألماني- ليون: إبريل 1943 م.
5 - تفسير القرآن الكريم (جامع البيان) - للطبري - القاهرة: مطبعة الحلبي 1954 م.
6 - تفسير القرآن الكريم (الجامع لأحكام القرآن- للقرطبي - القاهرة: دار الكاتب العربي 1967 م.
7 - جامع الأصول من أحاديث الرسول- لابن الأثير - تحقيق عبد القادر الأرناءوط - دمشق؛ مكتبة الحلواني 1389 هـ.
8 - جمال القراء- لعلم الدين السخاوي - تحقيق د. علي حسين البواب - مكة المكرمة: مكتبة التراث 1408 هـ.
9 - الدر المنثور- للسيوطي - القاهرة: المطبعة الميمنية 1314 هـ.
10 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة- لابن حجر العسقلاني - تحقيق محمد سيد جاد الحق - القاهرة: دار الكتب الحديثة 1385 هـ.
11 - ديوان أمية بن أبي الصلت - تحقيق سيف الدين الكاتب، وأحمد عصام الكاتب - بيروت: مكتبة دار الحياة 1980 م.
12 - الذيل على طبقات الحنابلة- لابن رجب - القاهرة: مطبعة السنة المحمدية 1952 م. تحقيق محمد حامد الفقي.
13 - سنن الترمذي (مع عارضة الأحوذي) القاهرة: المطبعة المصرية 1931 م.
14 - سنن أبي داود - تحقيق عزة الدعاس وعادل السيد - سوريا - حمص: دار الحديث 1388 هـ.
15 - سنن ابن ماجه - تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي - القاهرة: مكتبة الحلبي 1952 م.
16 - سنن النسائي - مصورة بيروت: دار الفكر 1398 هـ.
17 - سير أعلام النبلاء- للذهبي - تحقيق مجموعة من المحققين- بيروت: مؤسسة الرسالة 1401 هـ وما بعدها.
18 - شرح مختصر الروضة- للطوفي (الدراسة) إعداد د. إبراهيم بن عبد الله آل إبراهيم - الرياض 1409 هـ.
19 - صحيح البخاري - استانبول: المكتب الإسلامي 1979 م.
ومقدمة الكتاب بتحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي - بيروت: مؤسسة الرسالة 1410 هـ.(36/360)
20 - صحيح مسلم - تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي - القاهرة: مكتبة الحلبي.
21 - فتح الباري- لابن حجر العسقلاني - تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي - القاهرة: المكتبة السلفية.
22 - كشف الظنون- لحاجي خليفة - مصورة ببيروت: دار العلوم الحديثة عن طبعة استانبول.
23 - مجمع الأمثال- للميداني - تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد - القاهرة: المكتبة التجارية 1959 م.
24 - المستدرك على الصحيحين- للحاكم النيسابوري - سوريا - حلب: مكتب المطبوعات الإسلامية.
25 - المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي - د. مصطفى زيد - الطبعة الثانية- القاهرة - دار الفكر العربي 1384 هـ.
26 - المفردات- للراغب الأصبهاني - القاهرة: الحلبي.
27 - مقاييس اللغة- لأحمد بن فارس - تحقيق عبد السلام هارون - القاهرة: مطبعة الحلبي 1391 هـ.
28 - مناقب الإمام الشافعي - للبيهقي - تحقيق السيد أحمد صقر - القاهرة: دار التراث 1971 م.
29 - هدية العارفين في أسماء المؤلفين- لإسماعيل باشا البغدادي - استانبول: وكالة المعارف 1951م.
30 - وفيات الأعيان- لابن خلكان - تحقيق د. إحسان عباس - بيروت: دار الثقافة 1968 م.(36/361)
صفحة فارغة(36/362)
إثبات أن المحسن اسم من أسماء الله الحسنى
بقلم د. عبد الرزاق بن عبد المحسن العباد البدر
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الجود والامتنان، الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ من طين خلق الإنسان، وأصلي وأسلم على رسوله القائل أحسنوا فإن الله محسن يحب الإحسان.
وبعد. . .
فهذه فوائد متنوعة ولطائف متفرقة، جمعت شتاتها من أماكن عديدة حول إثبات أن المحسن اسم من أسماء الله الحسنى، وذكر الأدلة على ذلك من السنة بنقل الأحاديث الدالة على ذلك، وحكم أهل العلم عليها، وبيان جواز التعبيد لله به كغيره من أسماء الله الحسنى لثبوته اسما لله، ونقل أقوال أهل العلم ممن صرح بذلك، وذكر عدد ممن سمي بـ " عبد المحسن " إلى نهاية القرن التاسع، مع فوائد أخرى، سائلا الله الكريم التوفيق والسداد.
والداعي لجمع هذا الموضوع ولم شتاته هو وقوع التردد عند بعض الأفاضل من أهل العلم في صحة إطلاق هذا الاسم على الله -جل وعلا-، ولقد جمعت- بحمد الله وتوفيقه- من الأدلة والنقول عن أهل العلم في صحة تسمية الله بذلك ما فيه كفاية ومقنع وأسأله سبحانه أن يجعل عملي هذا لوجهه خالصا، ولسنة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- موافقا، ولعباده نافعا، إنه جواد كريم، وهذا أوان الشروع في المقصود، وقد رتبته حسب النقاط التالية:(36/363)
(أ) لقد صح تسمية الله بالمحسن في ثلاثة أحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحدها: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، وثانيها: عن شداد بن أوس -رضي الله عنه-، وثالثها: عن سمرة بن جندب -رضي الله عنه-، وبيانها كما يلي:(36/363)
أولا: حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا حكمتم فاعدلوا، وإذا قتلتم فأحسنوا فإن الله محسن يحب المحسنين» أخرجه ابن أبي عاصم في الديات (ص: 49) وابن عدي في الكامل (6 \ 2145) وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2 \ 113) والطبراني في الأوسط كما في مجمع الزوائد للهيثمي (5 \ 197) من طرق عن محمد بن بلال ثنا عمران القطان عن قتادة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فذكره.
قال الهيثمي ورجاله ثقات، وكذا قال المناوي في التيسير (1 \ 90) وقال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة (1 \ 761) .
وهذا إسناد جيد رجاله ثقات معروفون غير محمد بن بلال وهو البصري الكندي. قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وقال الحافظ: (صدوق يغرب) أهـ وقال في صحيح الجامع (1 \ 194) : "حسن ".
قلت: وقد رمز السيوطي في الجامع الصغير (1 \ 24) لضعفه فلم يصب.
ثانيا: حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه- قال: حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اثنتين قال: «إن الله محسن يحب الإحسان إلى كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» .
رواه عبد الرزاق في المصنف (4 \ 492) ومن طريقه الطبراني في الكبير (7 \ 332) عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس -رضي الله عنه-. فذكره.
ورجال إسناده كلهم ثقات، فمعمر بن راشد البصري ثقة ثبت فاضل من كبار السابعة (1) وأيوب هو السختياني ثقة ثبت حجة من الخامسة (2)
__________
(1) التقريب. (ص:541) .
(2) التقريب. (ص: 117) .(36/364)
وأبو قلابة البصري هو عبد الله بن زيد الجرمي ثقة فاضل كثير الإرسال من الثالثة (1) وأبو الأشعث الصنعاني هو شراحيل بن آده ثقة من الثانية (2) .
فإسناد الحديث صحيح لولا عنعنة أبي قلابة، وهو مدلس، قال الذهبي في ترجمته في الميزان: (إمام شهير من علماء التابعين، ثقة في نفسه إلا أنه مدلس عمن لم يلحقهم، وكان له صحف يحدث منها ويدلس (3) .
وأورده الحافظ اابن حجر في كتابه طبقات المدلسين في الطبقة الأولى (4) .
لكن الحديث صحيح ثابت بما قبله، ولذا صححه الألباني -حفظه الله-، انظر صحيح الجامع (1 \ 129) والإرواء (7 \ 293) .
وللحديث طريق أخرى فيها عنعنة أبي قلابة أيضا، فقد رواه البيهقي في سننه (9 \ 280) من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد ثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس -رضي الله عنه- فذكره، لكن لفظه: «إن الله محسان كتب الإحسان على كل شيء» .
ثالثا: حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله -عز وجل- محسن فأحسنوا، فإذا قتل أحدكم فليحسن مقتوله، وإذا ذبح فليحد شفرته وليرح ذبيحته» .
رواه ابن عدي في الكامل (6 \ 2419) قال ثنا محمد بن أحمد بن الحسين الأهوازي ثنا جعفر بن محمد بن حبيب ثنا عبد الله بن رشيد، ثنا مجاعة بن الزبير أو عبيدة عن الحسن عن سمرة، فذكره، وقد ذكر ابن رجب هذا الحديث في جامع العلوم والحكم. انظر (ص: 141) .
قلت: وإسناده ضعيف، عبد الله بن رشيد ليس بالقوي وفيه جهالة (5) . ومجاعة بن الزبير مختلف فيه وضعفه الدارقطني وغيره (6) والحسن مختلف في
__________
(1) التقريب. (ص: 304) .
(2) التقريب. (ص: 264) .
(3) الميزان. (2 \ 425) .
(4) طبقات المدلسين (ص: 21) .
(5) المغني في الضعفاء للذهبي (1 \ 481) .
(6) المغني في الضعفاء للذهبي (2 \ 145) .(36/365)
سماعه من سمرة (1) ، وقال المناوي في التيسير (1 \ 90) إسناده ضعيف. لكن الحديث صحيح، يشهد له الحديثان قبله، وقد صححه الألباني في صحيح الجامع (1 \ 129) .
قلت: فبهذه الأحاديث يعلم أن المحسن اسم من أسماء الله الحسنى دون شك أو ريب. والله أعلم.
__________
(1) انظر: جامع التحصيل للعلائي. (ص) 199) .(36/366)
(ب) وقد جاء تسمية الله بهذا الاسم في أقوال بعض المحققين من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فقد قال: "وكان شيخ الإسلام الهروي قد سمى أهل بلده بعامة أسماء الله الحسنى وكذلك أهل بيتنا غلب على أسمائهم التعبيد لله كعبد الله وعبد الرحمن وعبد الغني والسلام والقاهر واللطيف والحكيم والعزيز والرحيم والمحسن. . . " (1) .
وقال في موضع آخر: (. . . لأنه سبحانه بر جواد محسن يعطي العبد ما يناسبه. .) (2) .
وكذلك وقع في كلام العلامة ابن القيم تسمية الله بهذا الاسم في مواضع عديدة من مؤلفاته.
فقد قال في بدائع الفوائد في تفسيره لسورة الناس: (فتأمل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام وأحسن سياق رب الناس ملك الناس إله الناس وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان وتضمنت معاني أسمائه الحسنى، أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى فإن الرب هو القادر الخالق البارئ المصور الحي القيوم العليم السميع البصير المحسن. . إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى. .) (3) .
__________
(1) الفتاوى (1 \ 379) . وسيأتي ذكر عبد المحسن بن علي الحراني من آل ابن تيمية وقد سمي بعبد المحسن.
(2) الفتاوى. (5 \ 238) .
(3) البدائع. (2 \ 249) . وانظر أيضا البدائع (2 \ 211) .(36/366)
وقال في مدارج السالكين وهو بصدد ذكره لأسماء الله وما تقتضيه (. . واسم البر المحسن المعطي المنان ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها) (1) .
وقال في طريق الهجرتين: (وإقرار قلوبنا بأن الله الذي لا إله إلا هو. . . وأنه حكيم كريم جواد محسن. . ولا أحد أحب إليه الإحسان منه فهو محسن يحب المحسنين. .) (2) .
وقال في نونيته الكافية الشافية (3) وهو بصدد أسماء الله وصفاته:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فالبر حينئذ له نوعان
وصف وفعل فهو بر محسن ... مولى الجميل ودائم الإحسان
وكذلك الوهاب من أسمائه ... فانظر مواهبه مدى الأزمان
ونقل القرطبي وابن حجر عن ابن حزم عده لأسماء الله الحسنى التي جمعها من القرآن والسنة، وكان من ضمن هذه الأسماء اسم المحسن ولما ساقها القرطبي نقلا عن ابن حزم قال: "وفاته الصادق. . إلخ) مما يشعر أن القرطبي مقر له فيما ذكر من أسماء، وكذلك كلام ابن حجر يشعر بأنه مقر له فيما ذكر في أسماء حيث علق على الأسماء التي نقلها عن ابن حزم بأن سبعة وستين اسما منها مأخوذة من القرآن وباقيها ملتقط من الأحاديث (4) .
ثم إني لم أقف على كلام ابن حزم المشار إليه في شيء من كتبه وذلك بعد التتبع الذي وقفت عليه في كتبه من قوله يخالف ما نقلاه عنه حيث قال في فصله: (فلا يحل أن يسمى الله -عز وجل- القديم ولا الحنان. . ولا المحسن. . ولا بشيء لم يسم به نفسه أصلا وإن كان في غاية المدح) .
__________
(1) المدارج. (1 \ 416) .
(2) طريق الهجرتين. (ص: 120) .
(3) (ص: 151) .
(4) انظر التلخيص الحبير لابن حجر (4 \ 173) .(36/267)
فهذا يناقض ما نقلاه عنه، وعلى كل إن كان ما نقلاه عنه صحيحا وأحسبه كذلك فالجمع بين النقلين يسير، بحيث يقال إن ابن حزم كان يرى أن المحسن ليس اسما من أسماء الله لعدم بلوغ النص إليه أو لعدم ثبوته عنده ثم بلغه النص- أو ثبت عنده- الدال على صحة تسمية الله بالمحسن فصار إليه، والله أعلم.(36/368)
(جـ) ما صح تسمية الله به جاز التعبيد لله به، بل اتفق أهل العلم على استحسان الأسماء المضافة إلى الله كعبد الله وعبد الرحمن وما أشبه ذلك، واتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العزى وعبد هبل وعبد عمرو وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حكى ذلك ابن حزم، ونقله عنه ابن القيم (1) .
وقد سمي بعبد المحسن عدد من ذوي الفضل والعلم وغيرهم، وقد جمعت ما وقفت عليه ممن سمي بذلك إلى نهاية القرن التاسع- دون تقص دقيق- واقتصرت على الذين وجد لهم تراجم، وقد يأتي في ذكر أحد المترجمين أن من آبائه من سمي بعبد المحسن فلم أعد ذلك، وهاهي أسماؤهم:
1 - عبد المحسن بن عمرو بن يحيى بن سعيد أبو القاسم الصفار، روى عن أبي بكر أحمد بن عمرو بن جابر الرملي المتوفى سنة 333 هـ (2) .
2 - عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن غالب الصوري الشاعر المشهور ت 419 هـ (3) .
3 - عبد المحسن بن علي بن الحسن القزويني. سمع مع أبيه أبا منصور المقومي سنة ت 482 هـ (4) .
4 - عبد المحسن بن محمد بن علي البغدادي المعروف بالشيحي المحدث التاجر السفار أبو منصور ت 489 هـ (5) .
__________
(1) انظر مراتب الإجماع لابن حزم (ص: 154) وتحفة الودود لابن القيم. ص: (80) .
(2) انظر ترجمته في تاريخ دمشق لابن عساكر. (10 \ 448) .
(3) انظر ترجمته في شذرات الذهب لابن العماد (3 \ 211) .
(4) انظر ترجمته في التدوين في أخبار قزوين (3 \ 258) .
(5) انظر ترجمته في العبر للذهبي. (2 \ 360) . وشذرات الذهب لابن العماد. (3 \ 392) .(36/368)
5 - عبد المحسن بن صدقة بن عبد الله أبو المواهب المصري الشاعر ت 503 هـ (1) .
6 - عبد المحسن بن عبد المنعم بن علي الكفرطاي الشيرازي الشافعي ت 560 هـ (2) .
7 - عبد المحسن بن تريك الأزجي أبو الفضل ت 375 هـ (3) .
8 - عبد المحسن (طغدي) بن ختلع بن عبد الله أبو محمد الأميري البغدادي الفرضي يسمى طغدي ويسمى عبد المحسن وهو بطغدي أشهر ت 589 هـ (4) .
9 - عبد المحسن بن علي بن الفراش، توفي بعد 590 هـ بقليل (5) .
10 - عبد المحسن بن أحمد بن وهب الزابي أبو منصور البزاز ت 597 هـ (6) .
11 - عبد المحسن بن شفاء بن أبي المعالي التراسي الحميري ت 601 هـ (7) .
12 - عبد المحسن بن إسماعيل الوزير الصدر شرف الدين بن المحلى الفلكي ت 604 (8) .
13 - عبد المحسن بن يعيش بن إبراهيم بن يحيى الحراني الفقيه الحنبلي ت 611 هـ (9) .
14 - عبد المحسن بن أبي القاسم عبد المنعم بن إبراهيم رشيد الدين أبو محمد ابن النقار المصري ت 613 هـ.
15 - عبد المحسن بن نصر الله بن كثير الفقيه زين الدين ابن البياع الشامي
__________
(1) انظر ترجمته في تاريخ دمشق لابن عساكر. (10 \ 447) .
(2) انظر ترجمته في تاريخ دمشق لابن عساكر (10 \ 447) .
(3) انظر ترجمته في العبر للذهبي (3 \ 68) وشذرات الذهب لابن العماد (4 \ 251) .
(4) انظر ترجمته في تاريخ الإسلام للذهبي (وفيات سنة 589 هـ) .
(5) انظر: ترجمته في المختصر المحتاج إليه من تاريخ ابن الدبيثي للذهبي. (ص: 281) .
(6) انظر ترجمته في المختصر المحتاج إليه من تاريخ ابن الدبيثي للذهبي (ص: 281) .
(7) انظر ترجمته في تاريخ أربل لابن المستوفي (1 \ 408) .
(8) انظر ترجمته في تاريخ الإسلام للذهبي (وفيات سنة 604 هـ، ص: 158) .
(9) انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (2 \ 82) وشذرات الذهب لابن العماد (5 \ 47) .(36/369)
الأصل المصري الشافعي ت 621 هـ (1) .
16 - عبد المحسن بن خطيب الموصل أبي الفضل عبد الله بن أحمد بن محمد أبو القاسم بن الطوسي الموصلي ت 622 هـ (2) .
17 - عبد المحسن بن أبي العميد بن خالد بن عبد الغفار الأبهري الشافعي ت 624 (3) .
18 - عبد المحسن بن عبد الكريم بن ظافر بن رافع الحصري المصري الحنبلي الفقيه ت 625 (4) .
19 - عبد المحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن علي الخزرجي المصري الشافعي عرف بابن الدجاجي، ت 626.
20 - عبد المحسن بن أبي عبد الله بن علي بن عيسى أبو محمد العشيشي الشامي ثم المصري الفامي ت 633 هـ (5) .
21 - عبد المحسن بن عبد الله الفاضلي الزمام ت 634 هـ (6) .
22 - عبد المحسن بن أبي القاسم بن خلف بن رافع المسكي. ت 636 هـ (7) .
23 - عبد المحسن بن حمود التنوخي الحلبي الكاتب المنشئ ت 643 هـ (8) .
24 - عبد المحسن بن عبد الرحمن بن محمد الكندي الدشناوي، سمع الحديث من بهاء الدين ابن بنت الجميزي سنة 654 هـ (9) .
25 - عبد المحسن بن عبد الله بن الحسين بن رواحة الأنصاري، تقلد كتابة
__________
(1) انظر: ترجمته في طبقات الشافعية للسبكي (8 \ 40213) ، وتاريخ الإسلام للذهبي (وفيات سنة 621 هـ ص: 61) .
(2) انظر ترجمته في تاريخ إربل لابن المستوفي، وتاريخ الإسلام للذهبي (وفيات سنة 622، ص؛ 107) .
(3) انظر ترجمته في العبر للذهبي (3 \ 193) وشذرات الذهب لابن العماد (5 \ 114) .
(4) انظر ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (4 \ 172) وشذرات الذهب لابن العماد (5 \ 117) .
(5) انظر ترجمته في تاريخ الإسلام للذهبي (وفيات منة 633 هـ، ص: 136) .
(6) انظر ترجمته في التكملة لوفيات النقله للمنذري (3 \ 431) .
(7) انظر ترجمته في التكملة لوفيات النقله للمنذري (3 \ 521) .
(8) انظر ترجمته في العبر للذهبي (3 \ 246) وشذرات الذهب لابن العماد (5 \ 220) .
(9) انظر ترجمته في الطالع السعيد لأبي الفضل الأدفوي (ص: 338) .(36/370)
الجيش للملك الطاهر بحلب، روى عنه ابن أخيه عبد الله بن الحسين المتوفى 646 هـ (1) .
26 - عبد المحسن بن أبي العلاء مرتفع بن حسن بن عبد الله الخثعمي المصري الشافعي الأثري السراج ت 656 هـ (2) .
27 - عبد المحسن بن علي بن أبي الفتوح بن إبراهيم الأنصاري المصري أبو محمد المعروف بابن الزهر، ت 665 هـ (3) .
28 - عبد المحسن بن هبة الله بن أبي المنصور الفوي زكي الدين، توفي في عشر التسعين وستمائة (4) .
29 - عبد المحسن بن موسى بن سليمان المالكي المفتي نبيه الدين، كان حيا سنة 687 هـ (5) .
30 - عبد المحسن بن عبد الرحمن بن الحسين بن هارون البكري الأرمنتي ت 694 هـ (6) .
31 - عبد المحسن بن محمد بن أحمد هبة الله بن أحمد بن يحيى بن جراده العقيلي. ت 704 (7) .
32 - عبد المحسن بن عبد القدوس بن إبراهيم الشعراوي أبو أحمد الحنبلي ت 719 هـ (8) .
33 - عبد المحسن بن عيسى بن جعفر الأرمنتي. ت 729 هـ (9) .
34 - عبد المحسن بن علي بن محمد بن عبد الغني بن تيمية الحراني. ت 730 هـ (10) .
__________
(1) انظر ترجمته في تاريخ إربل (1 \ 714) وانظر تعليق المحقق (2 \ 674) .
(2) انظر ترجمته في تكملة إكمال الإكمال لابن الصابوني. (ص: 16) .
(3) انظر ترجمته في تكملة إكمال الإكمال لابن الصابوني (ص: 184) .
(4) انظر ترجمته في درة الحجال لابن القاضي (3 \ 164) .
(5) انظر ترجمته في درة الحجال لابن القاضي (3 \ 161) .
(6) انظر ترجمته في الطالع السعيد لأبي الفضل الأدفوي (ص: 337) .
(7) انظر ترجمته في الدرر الكامنة لابن حجر (2 \ 413) .
(8) انظر ترجمته في الدرر الكامنة لابن حجر (2 \ 412) .
(9) انظر ترجمته في الطالع السعيد لأبي الفضل الأدفوي (ص: 337) .
(10) انظر ترجمته في الدرر الكامنة لابن حجر (2 \ 413) .(36/371)
35 - عبد المحسن بن عبد اللطيف بن محمد بن الحسين بن رزين ت 733 هـ (1) .
36 - عبد المحسن بن عبد العزيز المخزومي. ت 735 هـ (2) .
37 - عبد المحسن بن أحمد بن محمد بن علي بن الصابوني أبو الفضل ت 736 هـ (3) .
38 - عبد المحسن بن محمد القيصري فقيه حنفي عروضي من الروم ت 755 هـ (4) .
39 - عبد المحسن بن الحسن بن سليمان الباريني جمال الدين من القرن الثامن (5) .
40 - عبد المحسن بن حمود الحلبي أمين الدين، كاتب السر للكامل سيف الدين أبي الفتوح المتوفى سنة 746 هـ.
41 - عبد المحسن بن محمد بن عبد المحسن قوام الدين أبو مسلم الفالي الشافعي ت 824 هـ (6) .
42 - عبد المحسن بن حسان البغدادي القطفني الباطايني الأديب كان حيا 835 هـ (7) .
43 - عبد المحسن بن البغدادي ثم المكي ت 848 هـ (8) .
44 - عبد المحسن بن عبد الصمد بن لطف الله بن محمد بن حسن الشرواني الشافعي ت 889 هـ (9) .
__________
(1) انظر ترجمته في الدرر الكامنة لابن حجر (2 \ 412) .
(2) انظر ترجمته في ذيل العبر للذهبي (4 \ 101) .
(3) انظر ترجمته في الدليل الشافي لابن تغري بردي (1 \ 429) . والدرر الكامنة (2 \ 411) .
(4) انظر ترجمته في ذيل العبر للذهبي (4 \ 539) .
(5) انظر ترجمته في الدرر الكامنة لابن حجر (2 \ 411) .
(6) انظر ترجمته في الضوء اللامع للسخاوي (5 \ 9) .
(7) انظر ترجمته في الضوء اللامع للسخاوي (5 \ 78) .
(8) انظر ترجمته في الضوء اللامع للسخاوي (5 \ 78) ، وإتحاف الورى بأخبار أم القرى لابن فهد (4 \ 240) .
(9) انظر ترجمته في الضوء اللامع للسخاوي (5 \ 78) .(36/372)
45 - عبد المحسن بن أحمد بن البدر حسين بن الأهدل اسمه محمد وسماه والده عبد المحسن تبركا بعبد المحسن الشاذلي فلم يحسن بذلك صنعا، كان حيا سنة 893 هـ (1) .
46 - عبد المحسن بن أحمد بن أبي بكر عبد الله بن ظهيرة القرشي المكي ت 898 هـ (2) .
47 - عبد المحسن بن علي بن عمر اليماني، من القرن التاسع (3) .
48 - عبد المحسن بن إبراهيم بن فتوح القوصي أبو محمد المشطاوي (4) .
49 - عبد المحسن بن محمد بن علي شهدايله (5) .
فهؤلاء من وقفت على ذكرهم إلى نهاية القرن التاسع ممن سموا بعبد المحسن، ولم أقصد حصر من سمي بذلك، ثم إن هذا الذي جمعت هنا كتب في مثله غير واحد من أهل العلم، وأفردوا فيه التصانيف، ومما صنف في ذلك:
- كتاب (من اسمه عطاء من رواة الحديث) للحافظ أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني ت 360 هـ، وهو مطبوع.
- كتاب (من اسمه صالح) لأبي موسى محمد بن أبي بكر المديني الأصبهاني ت 581 هـ.
- كتاب (المحمدون من الشعراء وأشعارهم) ، لعلي بن يوسف القفطي ت 646 هـ، وهو مطبوع.
- كتاب (العقد المثمن فيمن اسمه عبد المؤمن) لعبد المؤمن بن خلف الدمياطي ت 705.
- كتاب (من اسمه حسين) لجمال الدين حسين بن علي السبكي ت 722 هـ.
- كتاب (الألماس فيمن اسمه عباس) لعباس بن محمد بن محمد بن
__________
(1) انظر ترجمته في الضوء اللامع للسخاوي (5 \ 78) و (6 \ 306) .
(2) انظر ترجمته في الضوء اللامع للسخاوي (5 \ 78)
(3) انظر ترجمته في الضوء اللامع للسخاوي (5 \ 78) .
(4) انظر ترجمته في الطالع السعيد لأبي الفضل الأدفوي (ص: 335) .
(5) انظر نزهة الألباب لابن حجر (1 \ 408) .(36/373)
إبراهيم بن الحسين السملالي ت 1378 هـ.(36/374)
(د) إن أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة مشتقة وغير جامدة كما بين ذلك ابن القيم -رحمه الله- في كتابه بدائع الفوائد واحتج له، وبين أن المراد بالاشتقاق هو أن الاسم دال على صفة لله تعالى وليس علما محضا كما يزعم المعتزلة (1) ، وقال في نونيته:
أسماؤه أوصاف مدح كلها ... مشتقة قد حملت لمعان
وعليه فإن المحسن مشتق من أحسن يحسن إحسانا، ومعناه أن الإحسان وصف لازم له لا يخلو موجود من إحسانه طرفة عين فلا بد لكل مكون من إحسانه إليه بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد.
والله -جل وعلا- يحب من خلقه أن يتقربوا إليه بمقتضى معاني أسمائه، فهو الرحمن يحب الرحماء، وهو الكريم يحب الكرماء، وهو المحسن يحب المحسنين.
قال تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) البقرة \ 195.
وقال تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (3) القصص \ 77.
وقال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (4) الرحمن \ 60.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (5) النحل \ 128.
والإحسان من العبد هو أعلى مقامات الدين وأرفعها كما جاء ذلك في حديث جبريل المشهور، وفسر الإحسان في الحديث بأن يعبد العبد ربه كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله -جل وعلا- يراه لا يخفى عليه منه شيء.
__________
(1) بدائع الفوائد (1 \ 22) .
(2) سورة البقرة الآية 195
(3) سورة القصص الآية 77
(4) سورة الرحمن الآية 60
(5) سورة النحل الآية 128(36/374)
(هـ) وأختم هذه النقاط بذكر ثلاث فوائد مهمة:
الأولى: إن أسماء الله غير محصورة في عدد معين، وعليه فإن جمع بعض أهل العلم لتسعة وتسعين اسما من أسماء الله الحسنى المذكورة في الكتاب والسنة لا يعني أنهم يرون حصرها في تلك الأسماء التي ذكروها، وإنما(36/374)
مرادهم تقريب هذه الأسماء إلى الراغبين في حفظها وفهمها والعمل بما تقتضيه، حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة (1) » ز
الثانية: إن أسماء الله الحسنى المذكورة في الكتاب والسنة أكثر من تسعة وتسعين اسما كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (2) .
وعليه: فإن من جمع من أهل العلم تسعة وتسعين اسما من أسماء الله وجمع غيره أسماء أخرى، فوافقه الأول في بعضها وخالفه في بعض لا يعني ذلك أن ما اختلفا فيه بعضه ليس من أسماء الله لتجاوز ذلك التسعة والتسعين، بل قد يكون ما جمعاه كله من أسماء الله وإن جاوز التسعة والتسعين، وعلى كل فالعبرة في صحة ذلك الاسم أو عدمها قيام الدليل عليه من الكتاب والسنة.
الثالثة: أسماء الله توقيفية كما نص على ذلك جمع من أهل العلم وهو الحق والصواب ولا ريب في ذلك لأن الله بالنسبة لنا غيب لم نره فلا سبيل لنا أن نسميه بغير ما سمى به نفسه أو سماه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولأن تسميته بغير ذلك قول عليه بغير علم وهذا من أعظم المحرمات قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (3) إلى قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (4) الأعراف \ 33. ولأن تسميته بغير ما سمى به نفسه أو سماه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- أحد أنواع الإلحاد في أسماء الله، وقد توعد الله الملحدين في أسمائه بقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5) الأعراف. الآية: 180.
هذا ما أردت جمعه في هذا الموضوع، وأسأل الله أن أكون قد وفقت إلى الصواب، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) أخرجه البخاري (8 \ 169) ومسلم (2 \ 3062) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(2) الفتاوى (22 \ 482) .
(3) سورة الأعراف الآية 33
(4) سورة الأعراف الآية 33
(5) سورة الأعراف الآية 180(36/375)
فهرس المراجع
1 - إتحاف الورى لعمر بن فهد تحقيق د. عبد الكريم علي باز، نشر مركز إحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى، الأولى 1408 هـ.
2 - أخبار أصبهان لأبي نعيم. الدار العلمية، الهند، الثانية 1405 هـ.
3 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، للألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، الأولى 1399 هـ.
4 - بدائع الفوائد لابن القيم، دار الكتاب العربي، بيروت.
5 - تاريخ إربل لأبي البركات ابن المستوفى الإربلي، من منشورات وزارة الثقافة والإعلام العراقية، تحقيق سامي الصقار.
6 - تاريخ دمشق للحافظ أبي القاسم بن عساكر مصور لنسخة خطية، اعتنى بنشره مكتبة الدار، المدينة 1407 هـ.
7 - تحفة الودود بأحكام المولود لابن القيم، دار الكلمة الطيبة، الأولى 1403 هـ.
8 - التدوين في أخبار قزوين للرافعي. ط المطبعة العزيزية، حيدر أباد، الهند، 1404 هـ.
9 - تقريب التهذيب لابن حجر، دار الرشيد سوريا، 1408 هـ.
10 - التكملة لوفيات النقلة للمنذري، ط مؤسسة الرسالة، الثالثة.
11 - التلخيص الحبير لابن حجر، إدارة البحوث الإسلامية بالجامعة السلفية، باكستان.
12 - التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي، المكتب الإسلامي، بيروت.
13 - جامع التحصيل في أحكام المراسيل للحافظ صلاح الدين العلائي، تحقيق حمدي السلفي. الدار العربية للطباعة، العراق 1398 هـ.
14 - الجامع الصغير للسيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت.
15 - جامع العلوم والحكم لابن رجب، دار المعرفة، بيروت.(36/376)
تنبيه على نشرة مكذوبة
يروجها بعض الجهلة
الحمد لله والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه. أما بعد:
فقد اطلعت على نشرة مكذوبة يروجها بعض الجهلة وقليلو العلم والبصيرة في دين الله. ونص هذه النشرة (بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام-، وعلى آله وصحبه وسلم. قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (1) صدق الله العظيم. أخي المسلم أختي المسلمة. مرضت فتاة عمرها (13) عاما مرضا شديدا عجز الطب عن علاجها وفي ذات ليلة اشتد بها المرض فبكت حتى غلبها النوم، فرأت في منامها أن السيدة زينب -رضي الله عنها- وضعت في فمها قطرات، فاستيقظت من نومها، وقد شفيت من مرضها تماما. وطلبت منها السيدة زينب -رضي الله عنها- أن تكتب هذه الرواية (13) مرة وتوزعها على المسلمين للعبرة في قدرة الخالق جلت قدرته وتجلت في آياته ومخلوقاته وتعالى عما يشركون، فنفذت الفتاة ما طلب منها وقد حصل ما يلي:
1 - النسخة الأولى وقعت بيد فقير فكتبها ووزعها وبعد مضي (13) يوما شاء المولى الكريم أن يغتني هذا الفقير.
2 - النسخة الثانية وقعت في يد عامل فأهملها وبعد مضي (13) يوما فقد عمله.
3 - النسخة الثالثة وقعت في يد أحد الأغنياء فرفض كتابتها وبعد مضي (13) يوما فقد كل ما يملك من ثروة.
__________
(1) سورة يونس الآية 62(36/377)
بادر أخي المسلم أختي المسلمة بعد الإطلاع على هذه الرواية في كتابتها (13) مرة وتوزيعها على الناس قد تنال ما تتمنى من المولى الكريم جل شأنه وتعاظمت قدرته. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين) . اهـ.
ولما اطلعت على هذه النشرة المفتراة، رأيت أن من الواجب التنبيه على أن ما زعمه كاتبها من ترتب فوائد ومصالح لمن قام بكتابتها وترويجها، وترتب مضار لمن أهملها ولم يقم بنشرها، كذب لا أساس له من الصحة، بل هي من مفتريات الكذابين والدجالين الذين يريدون صرف المسلمين عن الاعتماد على ربهم سبحانه في جلب النفع ودفع الضر وحده لا شريك له مع الأخذ بالأسباب الشرعية والمباحة إلى الاعتماد والاتجاه إلى غيره -سبحانه وتعالى- في طلب جلب النفع ودفع الضر والأخذ بالأسباب الباطلة غير المباحة وغير المشروعة وإلى ما يدعو إلى التعلق على غير الله سبحانه وعبادة سواه. ولا شك أن هذا من كيد أعداء المسلمين الذين يريدون صرفهم عن دينهم الحق بأي وسيلة كانت. وعلى المسلمين أن يحذروا هذه المكائد ولا ينخدعوا بها كما أنه يجب على المسلم ألا يغتر بهذه النشرة المزعومة وأمثالها من النشرات التي تروج بين حين وآخر وسبق التنبيه على عدد منها ولا يجوز للمسلم كتابة هذه النشرة وأمثالها والقيام بتوزيعها بأي حال من الأحوال، بل القيام بذلك منكر يأثم من فعله، ويخشى عليه من العقوبة العاجلة والآجلة. لأن هذه من البدع والبدع شرها عظيم وعواقبها وخيمة وهذه النشرة على هذا الوجه من البدع المنكرة، ومن وسائل الشرك، والغلو في أهل البيت وغيرهم من الأموات، ودعوتهم من دون الله والاستغاثة بهم واعتقاد أنهم ينفعون ويضرون من دعاهم أو استغاث بهم، ومن الكذب على الله سبحانه، وقد قال سبحانه: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (1) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » ، متفق على صحته. فالواجب على جميع المسلمين الذين تقع في أيديهم هذه النشرة وأمثالها تمزيقها وإتلافها وتحذير الناس منها، وعدم الالتفات إلى ما جاء فيها من
__________
(1) سورة النحل الآية 105
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(36/378)
وعد أو وعيد؛ لأنها نشرات مكذوبة لا أساس لها من الصحة ولا يترتب عليها خير ولا شر، ولكن يأثم من افتراها ومن كتبها ووزعها ومن دعا إليها وروجها بين المسلمين؛ لأن ذلك كله من باب التعاون على الإثم والعدوان الذي نهي الله عنه في محكم كتابه بقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) .
نسأل الله لنا وللمسلمين السلامة والعافية من كل شر، وحسبنا الله ونعم الوكيل على من افترى هذه النشرة وأمثالها وأدخل في شرع الله ما ليس منه، ونسأل الله أن يعامله بما يستحق لكذبه على الله، وترويجه الكذب، ودعوته الناس إلى وسائل الشرك، والغلو في الأموات، والاشتغال بما يضرهم ولا ينفعه، وللنصيحة لله ولعباده جرى التنبيه على ذلك.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(36/379)
حديث شريف
«عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به (1) »
رواه مسلم
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1828) ، مسند أحمد بن حنبل (6/93) .(36/381)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} (1) {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} (2)
(سورة الأعراف)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 50
(2) سورة الأعراف الآية 51(37/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(37/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(37/3)
المحتويات
الافتتاحية:
العناية بالتراث الإسلامي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة:
أنواع البيوع التي يستعملها كثير من الناس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 21
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 113
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 167(37/4)
البحوث:
ذم الغلو د / الوليد بن عبد الرحمن آل فريان 179
بعض أنواع الشرك الأصغر د. عواد بن عبد الله المعتق 197
المبادرة والمسابقة إلى الأعمال الصالحة د / عبد الله بن مرحول السوالمة 247
بطلان أدلة المجاز مصطفى عيد الصياصنة 299
الرضاع وأحكامه محمد عودة السلمان 319
حكم الاستعانة بالكفار في قتال الكفار الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 351(37/5)
صفحة فارغة(37/6)
الافتتاحية
العناية بالتراث الإسلامي (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين. .
أما بعد:
فإن مما لا شك فيه أن التراث الإسلامي أمره مهم والعناية به واجبة، وعلى رأس هذا التراث كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، فهما أعظم تراث، وأفضل تراث، وأنفع تراث، وهما أصل دين الإسلام وأساسه، خلفهما لنا رسولنا ونبينا وإمامنا محمد بن عبد الله عليه من ربه الصلاة والتسليم، والله يقول في كتابه العظيم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (2) ، وعلى رأس المصطفين رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام، ثم صحابته الكرام ثم أتباعهم بإحسان، جعلنا الله وإياكم من أتباعهم بإحسان.
فكتاب الله فيه الهدى والنور، وهو أعظم التراث، وأفضل التراث وأصدقه، فيه الهدى والنور، فيه الدلالة على كل خير، والتحذير من كل شر، فيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والتحذير من سيئ الأخلاق وسيئ الأعمال، يقول الله عز
__________
(1) محاضرة ألقاها سماحة الشيخ بتاريخ 26 \ 7 \ 1410 هـ في جامعة أم القرى بمكة المكرمة.
(2) سورة فاطر الآية 32(37/7)
وجل في وصف نبيه - صلى الله عليه وسلم - في سورة القلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) وصف نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأنه (على خلق عظيم) وهذا الخلق العظيم وصفته السيدة عائشة - رضي الله عنها - بقولها: «كان خلقه القرآن (2) » لما سئلت عن ذلك، والأمر كما قال الله عنه، فإن خلقه هو القرآن، ممتثلا لأوامره، وينتهي عن نواهيه، ويدعو إليه، ويعمل بالصفات التي أثنى على أهلها القرآن، ويبتعد عن الصفات التي ذم أهلها القرآن، هكذا كان - صلى الله عليه وسلم -، على هذا الخلق العظيم، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، والدعوة إلى سبيله، كان - صلى الله عليه وسلم - مثلا أعلى في الأخلاق الفاضلة، والأعمال الصالحة، والصفات الحميدة، فهو خير الناس، وأفضلهم، وأكملهم علما وسيرة وخلقا، وأصدقهم قيلا، وأحسنهم عملا، عليه الصلاة والسلام، وهو - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى ما يدعو إليه القرآن العظيم في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (3) ويقول سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (4) ويقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} (5) فهو تبيان لكل شيء أوضح الله فيه كل شيء إجمالا وتفصيلا وجعله هدى وشفاء، جعله سبحانه هدى وشفاء للناس، شفاء لما في الصدور، من أمراض الشرك والكفر والحسد والكبر والنفاق، وشفاء للأبدان من أمراض كثيرة تستعصي على الأطباء ويشفيها القرآن، يقول جل وعلا:
__________
(1) سورة القلم الآية 4
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (746) ، سنن أبو داود الصلاة (1342) ، مسند أحمد بن حنبل (6/54) ، سنن الدارمي الصلاة (1475) .
(3) سورة الإسراء الآية 9
(4) سورة فصلت الآية 44
(5) سورة النحل الآية 89(37/8)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (1) ، ويقول جل وعلا: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} (2) .
فالواجب على أهل الإسلام العناية بهذا الكتاب العظيم، وحفظه والمذاكرة فيه، وتدبر معانيه، ونقل ألفاظه ومعانيه للناس كما أنزل؛ لأن فيه الهدى والنور، فيه الدلالة على كل خير، فيه الدعوة لكل ما ينفع العباد والبلاد، وفيه الترهيب من كل سوء.
ولهذا أوصى - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع بهذا الكتاب العظيم فيما رواه مسلم في الصحيح من حديث جابر - رضي الله عنه -، أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس يوم عرفة، وقال في خطبته: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله (3) » . وفي رواية الحاكم وغيره: «كتاب الله وسنتي» .
فالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو السبيل الوحيد للنجاة وهو الصراط المستقيم، فالواجب على أهل الإسلام بل على جميع المكلفين أن يدخلوا في دين الله وأن يلتزموا بدين الله وأن يعتصموا بهذا الكتاب العظيم والسنة المطهرة، وذلك فرض على جميع المكلفين من الجن والإنس، من العرب والعجم، من الذكور والإناث، والأغنياء والفقراء، والحكام والمحكومين، فرض عليهم جميعا أن يدخلوا في دين الله، وهو الإسلام، كما
__________
(1) سورة يونس الآية 57
(2) سورة الإسراء الآية 82
(3) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .(37/9)
قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} (1) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} (2) . فرض عليهم أن يدخلوا في دين الله وأن يعتصموا بكتابه وهو القرآن، وبسنة الرسول الصحيحة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - وليس لهم أن يحيدوا عن ذلك.
فالواجب على اليهود والنصارى، وعلى جميع المشركين، وعلى جميع أصناف الكفرة - الواجب على الجميع أن يدخلوا في دين الله وأن يلتزموا به، وهذا هو التراث الذي فيه سعادتهم إذا عقلوا.
وعلى أهل الإسلام الذين من الله عليهم بالإسلام أن يحمدوا الله على ذلك ويشكروه وأن يستقيموا على دينهم، وأن يحفظوا تراثهم العظيم، ويتواصوا به كثيرا ويتدبروه ويتعقلوه ويعملوا به، كما قال عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) ، وقال سبحانه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (4) ، وقال عز وجل: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (5) .
فالواجب على جميع المكلفين أن يدخلوا في دين الله (الإسلام) وأن يلتزموا به، وأن يخضعوا لأوامر الله وينتهوا عن نواهيه ويلتزموا بهذا الكتاب العظيم فيدينوا به، ويؤمنوا به، ويعملوا به مع سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنها الوحي الثاني.
__________
(1) سورة البقرة الآية 21
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة ص الآية 29
(4) سورة محمد الآية 24
(5) سورة الأنعام الآية 155(37/10)
وهذا التراث هو أعظم تراث ولا نجاة للعالم ولا سعادة للعالم إلا بحفظ هذا التراث والتفقه فيه، والاستقامة عليه، والدعوة إليه علما وعملا، وعقيدة، وخلقا، وسيرة، فكتاب الله فيه الهدى والنور، وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بيان ما قد يخفى، مع بيان أحكام جاءت بها السنة لم تذكر في كتاب الله، وأحكام فصلتها السنة لم تفصل في كتاب الله، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) ، وقال جل وعلا: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (2) .
فالله أنزل الكتاب عليه تبيانا لكل شيء، وأمره سبحانه أن يبين للناس وأن يشرح لهم ما قد يخفى عليهم، وأن يوضح لهم ما قد يختلفون فيه، حتى يرجعوا إلى الصواب، وحتى يستقيموا على الهدى. وقد بلغ البلاغ المبين عليه الصلاة والسلام، وأدى الأمانة ونصح الأمة، حتى قال لهم يوم عرفة بعد ما خطبهم وبين لهم ما يجب عليهم في حجهم، وبين لهم أمورا أخرى تهمهم وتهم المسلمين جميعا فيما يتعلق بالربا وأمور الجاهلية وبتحريم الدماء والأموال والأعراض، وما يتعلق بالنساء والوصية بهن خيرا وبيان حقوقهن على أزواجهن وحق أزواجهن عليهن - قال بعد ذلك وبعد ما أوصاهم بالقرآن: «وأنتم تسألون عني فما أنتم
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) سورة النحل الآية 64(37/11)
قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فرفع أصبعه إلى السماء فقال: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد (1) » ، يستشهد ربه وهو فوق العرش، فوق جميع المخلوقات سبحانه وتعالى، يستشهده عليهم، وكل عالم يشهد، وكل مسلم يشهد بأنه بلغ الرسالة، وكل مسلم عرف دين الله يشهد لهذا النبي الكريم أنه أدى الرسالة وأدى الأمانة وبلغ البلاغ المبين عليه الصلاة والسلام.
فعلينا جميعا معشر المسلمين، ومعشر طلاب العلم ومعشر العلماء، على الجميع أن يعظموا هذا التراث العظيم، وأن يحببوه إلى الناس ويذكروهم بهذا التراث ويتمسكوا به، ويعضوا عليه بالنواجذ، ويعملوا به مع سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنها الوحي الثاني، الموضح لكتاب الله، والدال على أحكام أخرى، أوحاها الله لنبيه عليه الصلاة والسلام. وهذا التراث العظيم، كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام: هما أعظم التراث، وهما أهم التراث والواجب العناية بهما، والوصية بهما والتمسك بهما قولا وعملا وعقيدة، في السر والجهر، في الشدة والرخاء، في الصحة والمرض، في السفر والإقامة، من الذكور والإناث، من العرب والعجم، من الجن والإنس، من الحكام والمحكومين، من الأغنياء والفقراء، على هؤلاء جميعا أن يعملوا بهذا القرآن وسنة رسول الله المطهرة، وأن يحفظوا هذا التراث حفظا يتضمن العمل والنصيحة، والدعوة إلى هذا التراث والاستقامة على معناه
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/321) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .(37/12)
والحرص على تبليغه لجميع العالم، وبكل الطرق وبجميع الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة، يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) .
ويقول عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) ، ويقول جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3) ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (4) » ، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (5) » . ويقول - صلى الله عليه وسلم - «لما بعث عليا إلى خيبر وأمره أن يدعو أهلها - وهم اليهود - إلى الإسلام قال - صلى الله عليه وسلم -: فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (6) » متفق على صحته.
فسيرته - صلى الله عليه وسلم - وأقواله وأعماله وتقريراته كلها من التراث وكلها من السنة، فالواجب العناية بذلك، والحرص على كتب السنة، فكتب السنة من أعظم التراث، وإن السنة التي جاءت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قوله وعمله وتقريراته وغزواته وغير ذلك يجب على أهل الإسلام والعلماء على الوجه الأخص والحكام وطلبة العلم العناية بها، ومن ذلك الكتب الإسلامية المشتملة على
__________
(1) سورة فصلت الآية 33
(2) سورة النحل الآية 125
(3) سورة يوسف الآية 108
(4) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(5) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(6) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(37/13)