1 - تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم أنواع:
(1) تصرفه باعتباره رسولا، وهو قسمان:
القسم الأول: أن يحكم حكما شرعيا بوحي من الله تعالى، والأصل في هذا أن يكون حكما كليا وتشريعا عاما في الأعيان والأزمان إلا ما خصه الدليل، وهذا القسم خاص به فلا يشاركه في التشريع أحد من الأمة لا الراعي ولا الرعية، وهو فيه معصوم.
القسم الثاني: إبلاغ هذا التشريع وإرشاد الناس به وحثهم عليه، وهذا واجب عليه هو معصوم فيه، وليس مختصا به بل يرثه عنه العلماء فيجب عليهم البلاغ والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إلا أنهم غير معصومين في بلاغهم وفهمهم له.
(ب) تصرفه صلى الله عليه وسلم باعتباره قاضيا، فبهذا الاعتبار يفصل في الخصومات ويحكم فيها بمقتضى طرق الإثبات من البينات ودلائل الأحوال والأمارات. . إلخ. وهذا المنصب ورثه عنه ولي الأمر العام، ويكون لغيره بإذنه وتنصيبه إياه فيحكمون بين الناس على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بالهوى ومحض الرأي.
(ب) تصرفه صلى الله عليه وسلم باعتباره إماما أعظم للمسلمين، فإليه بهذا الاعتبار إبرام العهود الدولية وقسمة الغنائم وإقامة الحدود. إلى آخر ما ذكر في النقول من هذا الجنس، وهذا المنصب يرثه عنه ولي أمر المسلمين العام، فله ما للرسول صلى الله عليه وسلم من التصرف بحكم الإمامة.
2 - معنى كون هذه التصرفات للإمام بحكم الإمامة الكبرى أنها مختصة به لا يقوم بها غيره إلا بإذنه ممن يرى فيه الأهلية لها، وليس معنى كونها له(33/20)
أنه يشرع فيها شرعا جديدا بل يجب عليه أن يقوم بها باعتباره مسئولا عن الأمة، وعليه أن يتبع فيها حكم الشرع ويطبقه فيها تطبيقا يكفل لهم المصلحة الخالصة أو الراجحة، ويدفع المضرة أو يخففها عنهم. فإنه صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله كان يقوم بها على مقتضى ما أمره الله وفق المقاصد الشرعية، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) الآية، وقال: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2) .
3 - للإمام العام سلطة البلاغ والإرشاد، وسلطة الحكم والقضاء، وسلطة التنفيذ بخلاف غيره فإنه لا يملك سلطة القضاء أو التنفيذ إلا بإذنه وتنصيبه في ذلك، ومن ذلك يعرف أن من تصرفات الإمام ما يكون بطريق القضاء، وقد ذكر القرافي ثلاثة ضوابط لما يكون فيه ذلك وأوضحها بالأمثلة، ومنها ما يكون بغير طريق الحكم والقضاء، وقد ذكر القرافي منها عشرين نوعا مع الإيضاح بالأمثلة.
4 - قد يكون للناس الخيار بين أمرين أو أمور فيما يأتون وما يذرون من شئون معاشهم ونظام حياتهم، وقد تنشأ مضرة عن تخلية سبيلهم ليختار كل لنفسه ما شاء مما هو مباح له، أو فوضى عامة شاملة، فيجب على ولي الأمر العام ومن أنابه عنه أن يحملهم على أحد الأمرين أو الأمور، ويلزمهم بالوقوف عنده رعاية للمصلحة، ودفعا للمضرة، ومن خالف ذلك فله تعزيره بما يتناسب مع خطر اعتدائه، ويراه كافيا في تأديبه وردع أمثاله، مثال ذلك أن للتاجر زيادة السعر ونقصانه وعرض السلع بالأسواق واحتكارها، فلإمام المسلمين إذا رأى من التجار التواطؤ على الاحتكار ورفع الأسعار وانتهاز الفرص ورأى ما يلحق المستهلكين من المضرة بسبب صنيع هؤلاء أن يحدد الأسعار ويمنع الاحتكار على وجه يكفل العدالة والرحمة، ويقضي على الأثرة والأزمة والغلاء المصطنع، ومن ذلك التعليم ودوام الموظفين بالنسبة للأوقات، وطرق المواصلات بالنسبة
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) سورة الأعراف الآية 158(33/21)
للسيارات والقطارات فلولي الأمر العام أن يضع نظاما يحدد أوقات العمل، وينظم سير المواصلات.
وأخيرا فهذا ما ذكره العلماء فيما لولي الأمر العام أن يتعرف فيه من شئون الأمة بالإمامة والفتيا والقضاء، وليس فيه ذكر لإلزام القضاة أن يحكموا بمذهب أو قول معين، لكن يمكن أن يقال: إن هذه التصرفات لم تذكر على وجه الحصر بدليل ما تقدم في البحث من قول بعض العلماء بإلزام القضاة بذلك، وقد سبقت أدلته مع المناقشة، ويمكن أن يقال أيضا: إنه وإن لم يذكر صريحا لكنه شبيه بما ذكر في البناء على رعاية مصلحة الأمة والمحافظة على الشريعة واستمرار الحكم بها، أو يقال: إنه مندرج تحت تصرف الإمام بالإلزام بأمر من أمرين أو أمور للأمة فيها الخيار رعاية للمصلحة ومنعا للفوضى، فإن التقليد في المسائل الفقهية غالب على أهل زماننا، والمقلد مخير في من يتبعه من الأئمة المجتهدين، وعليه لا يتأتى الإلزام لمن كان مجتهدا ولو في المذهب.
هذا ما تيسر جمعه وإعداده مع الاجتزاء ببعض النقول عن بعض لكونه في معناه، وإلى أصحاب الفضيلة أعضاء هيئة كبار العلماء النظر وترجيح ما يرونه، والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(33/22)
" مصادر البحث "
(أ) كتب المذهب الحنفي:
1 - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، للكاساني، الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية عام 1327 هـ.
2 - تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق لعثمان بن علي الزيلعي، الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية عام 1314 هـ.
3 - تنوير الأبصار، والدر المختار، ورد المحتار الشهير بحاشية ابن عابدين، الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية بمصر عام 1318 هـ، وكذلك اعتمد على نسخة أخرى.
4 - معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، للطرابلسي، طبعة أولى بالمطبعة الأميرية سنة 1300 هـ.
5 - رسالة رسم المفتي " ضمن مجموعة رسائل ابن عابدين، طبع بالأستانة بالمطبعة العثمانية عام 1321 هـ ".
(ب) كتب المذهب المالكي:
1 - مختصر خليل وعليه مواهب الجليل للحطاب الطبعة الأولى بالمطبعة الأميرية.
2 - مختصر خليل وعليه الشرح الكبير للدردير، وحاشية الدسوقي، طبعة حلبية.
3 - فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ عليش.(33/23)
4 - حاشية علي الصعيدي على شرح أبي الحسن على رسالة ابن أبي زيد، طبع مطبعة محمد عاطف.
5 - تزيين الممالك بمناقب مالك للسيوطي.
6 - مناقب الإمام مالك لعيسى بن مسعود الزواوي. كلاهما في أول المدونة طبعة أولى بالمطبعة الخيرية عام 1335 هـ.
7 - تبصرة الحكام لابن فرحون، طبع بالمطبعة البهية بمصر عام 1302 هـ
8 - الأحكام في أصول الأحكام للآمدي طبع بمطبعة مؤسسة النور.
9 - الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي الناشر مكتبة المطبوعات الإسلامية طبع سنة 1387 هـ.
10 - مراقي السعود وشرحها لمحمد الأمين الجكني الشنقيطي، طبع بمطبعة المدني.
(جـ) كتب المذهب الشافعي:
1 - المجموع شرح المهذب للنووي، طبع مطبعة العاصمة بالقاهرة.
2 - نهاية المحتاج، شرح المنهاج للرملي، طبعة حلبية.
3 - المحلى على المنهاج طبعة حلبية.
4 - قليوبي على شرح المنهاج، طبعة حلبية.
5 - المهذب للشيرازي، طبعة حلبية.
6 - الفقيه والمتفقه، طبع مطابع القصيم.
7 - الأحكام السلطانية والولايات الدينية للماوردي، الطبعة الأولى بالمطبعة الحلبية عام 1380 هـ.
(د) كتب المذهب الحنبلي:
1 - المغني والشرح الكبير.
2 - الإقناع وشرحه الكشاف.
3 - المنتهى وشرحه.(33/24)
4 - الإنصاف.
5 - الفتاوى المصرية.
6 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام.
7 - تفضيل مذهب أهل المدينة، طبع مطبعة الإمام.
8 - المنتقى للذهبي " مختصر منهاج السنة " طبع المطبعة السلفية ومكتبتها عام 1374 هـ.
9 - مسودة آل تيمية.
10 - إعلام الموقعين.
11 - الأحكام السلطانية لأبي يعلى.
12 - السياسة الشرعية.
13 - زاد المعاد.
(هـ) كتب أخرى:
1 - مجلة المنار.
2 - فتاوى المنار.
3 - المدخل الفقهي العام للزرقا.
4 - المدخل للفقه الإسلامي لمدكور.
5 - مقدمة في إحياء علوم الدين للمحمصاني.
6 - رسالة الصحابة " ضمن المجموعة الكاملة لابن المقفع ".(33/25)
وجهة نظر
أحمد الله وأصلي وأسلم على رسوله، وأسأل الله أن يهدينا جميعا سواء السبيل.
وبعد: فمما لا شك فيه أن هذا الأمر الذي نبحثه أمر خطير وله شأن كبير، وآمل أن تنظره هذه الهيئة نظرة فاحصة مبنية على ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما، وتحصيل أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما، وقد ظهر لي من إثارة هذا البحث ومما سمعته من كلام بعض من حضره، أن هناك اتجاها لتدوين الأحكام الشرعية على شكل مواد، وأخشى أنه إذا رفضت هذه الهيئة الإشراف على هذا الأمر أو وضع بديل عنه، أن يسند إلى غيرها فتحصل مفسدة أكثر، وفي نظري أنه لو تولى هذا الأمر أهل العلم بالشريعة وأخذوا بزمامه واشترطوا إشرافهم عليه وقيدوه بالقيود الشرعية أو اقترحوا له بديلا لكان ذلك أصلح وأكثر محافظة على تحكيم الشريعة في كل شيء، وبناء على ما تقدم، وعلى ما هو معلوم لدى الجميع من ضعف المستوى العلمي لدى كثير من القضاة بحيث لا يمكن اعتبارهم من أهل الاجتهاد والترجيح مع وجود قضايا كثيرة جدت في هذا الزمن، وهي غير منصوص عليها في كتب المذهب بالإضافة إلى وجود اختلاف الأحكام في كثير من المسائل المتساوية من أجل ترجيح قول على قول أو رواية في المذهب على أخرى لا من أجل اختلاف وقائع القضية أو ملابساتها، فإنني أرى أن تبحث من قبل هذه الهيئة في دوراتها القادمة المسائل التي فيها الخلاف المشهور، مع المسائل المستجدة، وتقرر فيها ما تراه راجحا بالدليل ويعمم على المحاكم للعمل به ويترك ما عدا ذلك على ما هو عليه من الحكم بالراجح في مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - ويؤكد على(33/26)
المحاكم بالتزام ذلك، وأن من ظهر له الحكم في مسألة ما بخلاف ذلك فعليه رفع وجهة نظره مع بيان مستنده لمجلس القضاء، فإن ظهر للمجلس صحة وجهة نظره وافقه على ذلك وعممه على المحاكم، وإن لم تظهر له صحة وجهة نظره نبهه على ذلك، فإن اقتنع اعتبر الموضوع منتهيا، وإن لم يقتنع أحيلت المسألة إلى غيره، فإن لم تر هذه الهيئة دراسة " المسائل الخلافية والمستجدة ووضع حد لاختلاف الأحكام، والحالة ما ذكر فإني أرى أنه لا مانع من تدوين الأحكام الشرعية على القول الراجح بدليله ويعمم على المحاكم للعمل به، وإذا ظهر لأحد منهم الحكم في مسألة ما بخلاف ما هو مدون فيرفع عن ذلك لمجلس القضاء على ما هو موضح في الرأي الأول.
وأسأل الله أن يوفق الجميع لمعرفة الحق واتباعه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
حرر في 5 \ 4 \ 1393 هـ
مقدمه عضو الهيئة
راشد بن صالح بن خنين(33/27)
خلاصة رأيي
الحمد لله وحده. .
أرى أن يستغنى عن تدوين الأحكام بإلزام القضاة بأن يكون الحكم بالراجح في مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - حسبما هو مدون في الإقناع والمنتهى مع وضع حد لمسائل الخلاف في المذهب وتوحيد الحكم فيها، وهذا في نظري أفضل إجراء يقلل من اختلاف القضاة في أحكامهم، أما إذا بقي وضع القضاة كما هو الآن - فإنني لا أرى مانعا من تدوين الأحكام الشرعية مستمدة من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة، وذلك تفاديا لما يعرفه الجميع من وقوع تفاوت في الأحكام في قضايا متماثلة بالإضافة إلى ضعف المستوى العلمي لدى الكثيرين من القضاة، وما لذلك من آثار على القضاء والمشرفين عليه والبلاد عامة. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
وحرر في 6 \ 4 \ 1393 هـ
صالح بن علي بن غصون
عضو هيئة كبار العلماء(33/28)
" وجهة نظر "
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. . .
وبعد فلقد كانت مسألة تدوين الأحكام الشرعية الراجحة في كتاب يعمم على المحاكم وإلزام القضاة التمشي بموجبه موضع دراسة من قبل هيئة كبار العلماء في دورتها الثالثة بناء على رغبة المقام السامي، وبعد الاطلاع على البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث حول تلك المسألة وتبادل الرأي بشأنها أسفرت الدراسة عن انقسام الرأي في المسألة بين مانع ومجيز.
وحيث إننا نحن الموقعين أدناه نرى جواز ذلك تحقيقا للمصلحة العامة - وقد أدلى كل منا في المسألة برأيه مقتضبا حينما جرى استطلاع الآراء دون ذكر للاستنادات والمبررات والاعتبارات التي بنينا فيها آراءنا - فإننا نوضح ذلك فيما يلي: -
أولا: هناك مجموعة اعتبارات يحسن بنا قبل البدء في توجيه ما نراه إيرادها. .
(1) ما أجمع عليه المعنيون بالدراسات الاجتماعية من أن القضاء يعتبر عنوانا لما عليه البلاد من حال، فإن كان قويا مهيبا دقيقا في تحقيق العدل والإنصاف كان ذلك دليلا على قوة البلاد وحسن إدارتها، وإن كان غير ذلك دل على ضعفها واضطرابها وفوضويتها، كما أجمعوا على أن أول ما تفقده البلاد عند اضطرابها وتزعزعها النزاهة في المرافق القضائية.(33/29)
(ب) ما عليه بلادنا من اتصالات مختلفة بالبلدان الأجنبية الأخرى سواء ما كانت بلادنا متصلة بها أو كانت هي متصلة ببلادنا مما كان لذلك أثره في قيام علاقات مختلفة معها وما تبع هذا من قيام اتفاقيات وتبادل معلومات وخدمات.
(ب) إدراك الظروف والعوامل التي برزت للجهات المسئولة عندنا إيجاد وحدات قضائية لها استقلالها الكامل من الناحية الإدارية عن الجهة الإدارية للقضاء كمحاكم العمل والعمال ومكافحة الرشوة وفض المنازعات التجارية ومحاكم التأديب وغيرها. مما كان لذلك أثره في تفتت الوحدة الإدارية للقضاء في بلادنا وبالتالي تقلص الاختصاص القضائي من المحاكم الشرعية.
(د) الوضع القائم الآن ومنذ استتباب الأمن لحكومتنا الرشيدة مبني على الالتزام بالحكم بالراجح من مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وكان ذلك امتدادا لما كانت عليه الحكومة التركية من التزام محاكمها بالحكم الراجح من مذهب الإمام أبي حنيفة، هذا بالنسبة إلى الحجاز وغيره من المناطق التي كانت خاضعة للحكم التركي سابقا. أما بالنسبة لنجد وتوابعها فقد كان الحكم في محاكمها طبقا للراجح من مذهب الإمام أحمد، وذلك قبل قيام دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حتى وقتنا هذا.
(هـ) ما عليه قضاة زماننا بالنسبة للمراتب العلمية التي ذكرها أهل العلم مما جاء في بحث اللجنة الدائمة من أن من يمكن إسناد القضاء إليه لا يخلو من أربع حالات، إما أن يكون مجتهدا مطلقا كالأئمة الأربعة، أو مجتهدا منتسبا كشيخ الإسلام ابن تيمية، أو مجتهدا في المذهب ممن له قدرة على التخريج والترجيح واستنباط الأحكام من الأدلة الشرعية بناء على أصول الإمام الذي انتسب إليه كمتقدمي أصحاب الأئمة، أو مقلدا متعلما كأصحاب الأئمة المتأخرين ممن(33/30)
تبحروا في مذاهب أئمتهم وتمكنوا من تقرير أدلتهم إلا أنهم لم يبلغوا درجة الترجيح والتخريج.
(و) انتشار الوعي الحقوقي في البلاد وتطلع تلك الفئات الواعية إلى التعرف على المسالك القضائية وعجزها عن حصر تلك المسالك في إطار واضح المعالم، وما نتج عن ذلك من تساؤلات وتعريضات بنزاهة القضاء وخضوعه لتأثيرات خارجية واعتبارات شخصية.(33/31)
ثانيا:
أن أمر إثبات الراجح من أقوال أهل العلم وتدوين ذلك في كتاب وتعميمه على المحاكم الشرعية للعمل بمقتضاه ليس أمرا محدثا وإنما كانت الفكرة موضع إثارة وبحث الجهات المعنية بالمرافق القضائية وذلك منذ أكثر من عشرة قرون، وقد أوردت اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء في بحثها الموضوع فصلا تاريخيا للفكرة وكيف أنها برزت من حيز التفكير إلى نطاق العمل بعد أن تكاثرت الأسباب الملحة في الأخذ بها فنجتزئ بذلك وتكتفي بإيراد حلقة تاريخية للفكرة لم تشر إليها اللجنة في بحثها. ذلك أن جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وغفر له، أراد أن يحمل القضاة على الأخذ بأحكام مختارة يجري تدوينها، ثم تعميمها على المحاكم فقد جاء في افتتاحية أم القرى في عددها الصادر بتاريخ 28 \ 2 \ 46 هـ ما نصه:
إن جلالة الملك - حفظه الله - يفكر في وضع مجلة للأحكام الشرعية يعهد إلى لجنة من خيار علماء المسلمين الاختصاصيين استنباطها من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة. وهذه المجلة ستكون مشابهة لمجلة الأحكام التي كانت الحكومة العثمانية وضعتها عام 1293 هـ، ولكنها تختلف عنها بأمور أهمها عدم التقيد حين الاستنباط بمذهب دون آخر بل تأخذ ما تراه في صالح المسلمين من أقوى المذاهب حجة ودليلا من الكتاب والسنة. وجاء فيها ما نصه:
فأصدر أمره إلى هيئة المراقبة القضائية بالشروع في عملها على الطريقة التالية: -(33/31)
إذا اتفقت المذاهب الأربعة على حكم من الأحكام فيكون هذا الحكم معتبرا وملزما لجميع المحاكم والقضاة. والمذاهب الأربعة هي متفقة في الأحكام الأساسية وفي كثير من الأحكام الفرعية. أما المسائل الخلافية فيشرع في تدوينها منذ اليوم وفي كل أسبوع تجتمع هيئة مراقبة القضاء مع جملة من فطاحل العلماء وينظرون فيما يكون اجتمع لدى الهيئة من المسائل الخلافية وأوجه حكم كل مذهب من المذاهب فيها، وينظر في أقوى المذاهب حجة ودليلا من كتاب الله وسنة رسوله فيصدر قرار الهيئة على إقراره والسير على مقتضاه، وبهذه الوسيلة تجتمع لدى الهيئة معظم المسائل الخلافية التي هي منشأ الصعوبة في التأليف بين أحكام المذاهب ويصدر القرار بشأنها، ويكون هذا القرار ملزما لسائر المحاكم الشرعية والقضاة وأساسا قويا لتوحيد الأحكام وتأليفها. اهـ. المقصود، ثم تحولت الفكرة إلى أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقا على المفتى به من مذهب الإمام أحمد فقد صدر قرار الهيئة القضائية رقم 3 في 17 \ 1 \ 47 المقترن بالتصديق العالي بتاريخ 24 \ 3 \ 1347 هـ بما يأتي: -
(أ) أن يكون مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبقا على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل نظرا لسهولة مراجعة كتبه والتزام المؤلفين على مذهبه ذكر الأدلة إثر مسائله.
(ب) إذا صار جريان المحاكم الشرعية على التطبيق على المفتى به من المذهب المذكور ووجد القضاة في تطبيقها على مسألة من مسائله مشقة ومخالفة لمصلحة العموم يجري النظر والبحث فيها من باقي المذاهب بما تقتضيه المصلحة، ويقرر السير فيها على ذلك المذهب مراعاة لما ذكر.
(جـ) يكون اعتماد المحاكم في سيرها على مذهب الإمام أحمد على الكتب الآتية: -
1 - شرح المنتهى.
2 - شرح الإقناع.(33/32)
فما اتفقا عليه أو انفرد به أحدهما فهو المتبع، وما اختلط فيه فالعمل على ما في المنتهى، وإذا لم يوجد بالمحكمة الشرحان المذكوران يكون الحكم بما في شرحي الزاد أو الدليل إلى أن يحصل بها الشرحان، وإذا لم يجد القاضي نص القضية في الشروح المذكورة طلب نصها في كتب المذهب المذكور التي هي أبسط منها وقضى بالراجح اهـ.
ولم يكن الإلزام بالعمل بالراجح من المذهب ابتداء من ولي الأمر، وإنما كان بمشورة هيئة علمية هي الهيئة القضائية فالتزم القضاة التابعون لرئاسة القضاة بذلك، واستمر الالتزام به حتى وقتنا هذا، ويندر من أحدهم الخروج عن المذهب، فإن خرج نقض حكمه كما كان الحال بالنسبة للحكم الصادر من رئيس وقضاة محكمة الرياض بعدد 57 \ 1 وتاريخ 2 \ 8 \ 86 هـ في قضية قسامة فقد جرى نقضه من هيئة التمييز بالرياض بعدد 6 \ 3 وتاريخ 6 \ 10 \ 87 هـ لعدة أسباب منها الخروج بذلك عن المذهب، وتأيد النقض من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله موجب خطابه رقم 3798 \ 2 \ 1 في 17 \ 11 \ 87 هـ، وكذا بالنسبة للحكم الصادر من محكمة الرياض بعدد 86 \ 1 وتاريخ 9 \ 6 \ 88 هـ في قضية قسامة فقد جرى نقضه من هيئة التمييز بعدد 7 \ 3 وتاريخ 26 \ 3 \ 90 هـ.
كما صدر من سماحة رئيس القضاة ومفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله خطابه رقم 1492 وتاريخ 21 \ 9 \ 80 هـ ويتضمن الاعتراض على الفتوى باعتبار الثلاث في الطلاق واحدة. وقد جاء فيه ما نصه:
نفيدكم أن الذي عليه الفتوى وقوع مثل هذا الطلاق ثلاثا، وهو الذي عليه الجماهير من أهل الفتوى إلى أن قال: فلا ينبغي لأحد أن يفتي بخلاف ما عليه الفتوى في عموم المحاكم في سائر أنحاء المملكة لما في ذلك من الاختلاف الذي هو شر. إلى آخره. وأخيرا فإن هيئة التمييز بالمنطقة الوسطى قد أصدرت قرارا برقم 88 \ 2 وتاريخ 20 \ 3 \ 91 هـ بصدد قضية رجل قتل(33/33)
غيلة، وحكم على قاتله بالقتل دون التفات إلى عفو الورثة. جاء فيه ما نصه: -
أولا: أن هذا الحكم مخالف للمفتى به في مذهب أحمد أو مخالف لمذهبه بالكلية، وقد صرح العلماء أن المقلد إذا خالف مذهب إمامه ينقض حكمه. . إلى أن قالت.
ثانيا: أن إمام المسلمين أصدر التعليمات المقيدة لأحكام القضاة بأن تكون على المفتى به من مذهب أحمد، وفي بعض الأوامر قيد الحكم في ذلك في كتب معينة، ولا يخفى أن هذا تعيين مشترط والمسلمون عند شروطهم، والقاضي إذا أقدم على الحكم بشيء لم يعينه إمامه فيه ولم يسمح له يكون قد حكم بغير ما ولي فيه، ومعروف حكم ذلك، وقد وقع القرار المشار إليه رئيس الهيئة الشيخ عبد العزيز بن رشيد وأعضاؤها المشايخ محمد البواردي ومحمد بن سليم ومحمد بن عودة وصالح بن غصون كما أن هيئة التمييز بالمنطقة الغربية قد أصدرت قرارها رقم 505 وتاريخ 15 \ 4 \ 90 هـ حول قضية وقف انتهت فيه إلى أن المادة (121) والمادة رقم (122) من مجموعة النظم قد جاء فيها: أنه إذا لم يكن للوقف أو الوصية شرط ثابت أو عمل يستأنس به يجري النظر في دعوى المستحقين على بعض على المفتى به من مذهب الواقف أو الموصي إن علم، وإلا فيجري النظر على المذهب الذي كان الحكم بمقتضاه في زمن الواقف، وقالت الهيئة: إن القاضي يتخصص فيما يخوله ولي الأمر له. ومن هذا الاستعراض التاريخي القريب لهذه الفكرة وما ذكر من الوقائع يتضح بأنها من حيث العموم موضع التنفيذ وأن العمل جار على اعتبارها في مجالات القضاء والإفتاء والتدريس. وأن ما يرغب ولي الأمر - حفظه الله - إعطاء الرأي نحوه لا يخرج عن كونه تنظيما لهذا الوضع القائم مع الخروج عن التقيد المذهبي، وذلك بتعيين الأقوال الراجحة من قبل هيئة علمية على مستوى يسمح لها بذلك وتدوينها في كتاب يجري تعميمه على المحاكم للعمل به بدلا من أن(33/34)
يكون الراجح من المذهب موضع ادعاء يجد كل مدع في كتب المذهب ما يؤيده ويسند دعواه مما كان لذلك أثره الواضح في اختلاف الأحكام في القضايا المتشابهة مما في أحكامها الخلاف القوي، كمسائل الشفعة والرهن والقسامة وإجبار الأب ابنته البكر البالغ على الزواج، والإقطاع من حيث اعتباره اختصاصا أو تمليكا، ومسألة الجد مع الإخوة واشتراط مطالبة المسروق منه في القطع وتكرار الإقرار فيه مرتين، إلى غير ذلك من مسائل الخلاف بل قد يقع اختلاف الأحكام من القاضي نفسه، كما كان الحال من أحدهم حيث حكم في قضيتي رهن لم يقبض بلزومه في إحداهما وعدم لزومه في الأخرى، وقد لا يتجه الإيراد على ذلك بما قاله عمر رضي الله عنه: (ذلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي إذ إن قضاة زماننا لا يمكن لأحد منهم مهما كانت حصيلته العلمية أن يكون في درجة عمر وأضرابه رضي الله عنهم بمن هم في مستوى يمكنهم من الاجتهاد المطلق بل قد يكون التردد في إلحاق أغلبهم بمرتبة علمية يجوز لأصحابها تقلد القضاء والفتوى، وقد كان للضرورة حكمها في قبول ذلك.(33/35)
ثالثا: مما سبق يتضح أن المسألة ليست وليدة التفكير، وأن إلزام القضاة بالحكم بمذهب إمام بعينه كان موضع التنفيذ في أماكن من البلاد الإسلامية المختلفة وفي أعصار متفاوتة ولا يزال العمل بذلك حتى وقتنا هذا بل وفي بلادنا بالذات. وأقوال أهل العلم في اعتبار ذلك وإجازته كثيرة نذكر منها ما يلي: -
المذهب الحنفي:
قال (1) ابن عابدين: لو قضى المجتهد فيه مخالفا لرأيه فيه ناسيا نفذ عنده، وفي العامد، روايتان، وعندهما لا ينفذ في الوجهين، واختلف
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 \ 498.(33/35)
الترجيح. قال في الفتح: والوجه الآن أن يفتي بقولهما لأن التارك لمذهبه عمدا لا يفعله إلا لهوى باطل، وأما الناسي فلأن المقلد ما قلده إلا ليحكم بمذهبه لا بمذهب غيره، هذا كله في القاضي المجتهد، وأما القاضي المقلد فإنما ولاه ليحكم بمذهب أبي حنيفة فلا يملك المخالفة فيكون معزولا بالنسبة إلى ذلك الحكم.
وقال أيضا تحت مطلب قضاء القاضي بغير ما ذهب ما نصه:
وحاصل هذه المسألة أنه يشترط لصحة القضاء أن يكون موافقا لرأيه أي لمذهبه مجتهدا كان أو مقلدا فلو قضى بخلافه لا ينفذ لكن في البدائع إذا كان مجتهدا ينبغي أن يصح، ويحمل على أنه اجتهد فأداه اجتهاده إلى مذهب الغير.
ويأخذ (1) . القاضي كالمفتي بقول أبي حنيفة على الإطلاق ثم بقول أبي يوسف، ثم بقول محمد ثم بقول زفر والحسن بن زياد " وهو الأصح وصحح في الحاوي اعتبار قوة المدرك، والأول أضبط (نهر) ولا يخير إلا إذا كان مجتهدا، المقلد متى خالف معتمد مذهبه لا ينفذ حكمه وينقض هو المختار للفتوى كما بسطه المصنف في فتاويه وغيره. . وفي القسهتاني وغيره.
وقال (2) . ابن عابدين: ولو قيد السلطان القاضي بصحيح مذهبه كما في زمننا تقيد بلا خلاف، ولو قيده بضعيف المذهب فلا خلاف بعدم صحة حكمه.
وقال (3) . أيضا نقلا عن معروضات أبي السعود: إن العبد الآبق إذا كان من عبيد العسكرية فقد صدر الأمر السلطاني بمنع القضاة من بيعه كيلا يتخذ العبيد الإباق وسيلة للتخلف من خدمة الجيش - ثم قال - وحينئذ لا يصح بيع هؤلاء العبيد بل يؤخذون من مشتريهم ويرجع المشتري بالثمن، وكذلك بيع العبيد الآبقين من الرعايا إذا بيعوا بغبن فاحش، وبذلك ورد الأمر السلطاني
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 \ 400.
(2) ابن عابدين 4 \ 369.
(3) حاشية ابن عابدين 3 \ 325.(33/36)
فليحفظ فإنه مهم.
وقال في حاشية ابن عابدين صفحة (458) جـ (5) : فأما المقلد فإنما ولاه ليحكم بمذهب أبي حنيفة فلا يملك المخالفة فيكون معزولا بالنسبة إلى ذلك الحكم انتهى. قال في الشرنبلالية: عن البرهان: وهذا صريح الحق الذي يعض عليه بالنواجذ اهـ.
وقال في النهر وادعى في البحر أن المقلد إذا قضى بمذهب غيره أو برواية ضعيفة أو بقول ضعيف نفذ. وأقوى ما تمسك به ما في البزازية إذا لم يكن القاضي مجتهدا أو قضى بالفتوى على خلاف مذهبه نفذ، وليس لغيره نقضه، وله نقضه كذا عن محمد، وقال الثاني: ليس له نقضه. انتهى.
وما في الفتح يجب أن يعول عليه في المذهب، وما في البزازية محمول على روايتين عنهما إذ قصارى الأمر أن هذا منزل منزلة الناسي لمذهبه وقد مر عنهما في المجتهد أنه لا ينفذ، فالمقلد أولى.(33/37)
المذهب المالكي:
ويجب (1) . على كل من الخليفة والقاضي إذا لم يكن مجتهدا مطلقا أن يحكم بالراجح من مذهب إمامه أو أصحاب إمامه لا بمذهب غيره ولا بالضعيف من مذهبه، وكذا المفتي فإن حكم بالضعيف نقض حكمه إلا إذا لم يشتهر ضعفه، وكان الحاكم به من أهل الترجيح وترجح عنده ذلك الحكم فلا ينقض، وإن حكم بغير مذهب إمامه لم ينفذ حكمه، لكن القول بأنه يلزمه الحكم بمذهب إمامه ليس متفقا عليه حتى قبل ليس مقلده رسولا أرسل إليه بل حكوا خلافا إذا اشترط السلطان عليه ألا يحكم إلا بمذهب إمامه، فقيل: لا يلزمه الشرط، وقيل: بل ذلك يفسد التولية، وقيل: يمضي الشرط للمصلحة " الشرح الكبير والدسوقي على مختصر خليل ". .
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي 4 \ 130.(33/37)
وسئل (1) . القرافي: هل يجب على الحاكم أن لا يحكم إلا بالراجح عنده كما يجب على المجتهد ألا يفتي إلا بالراجح عنده أو له أن يحكم بأحد القولين، وإن لم يكن راجحا عنده؟ فأجاب قائلا: إن الحاكم إن كان مجتهدا فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلدا جاز له أن يفتي بالمشهور من مذهبه، وأن يحكم به، وإن لم يكن راجحا عنده مقلدا في رجحان القول المحكوم به إمامه الذي يقلده، كما يقلده في الفتيا، وأما اتباع الهوى في الحكم أو الفتيا حرام إجماعا. . إلخ.
قال (2) . محمد بن عبد الرحمن الحطاب: قال ابن الحاجب: وللإمام أن يستخلف من يرى غير رأيه في الاجتهاد أو التقليد، ولو شرط الحكم بما يراه كان الشرط باطلا والتولية صحيحة، قال الباجي: كان في سجلات قرطبة ولا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده، قال في التوضيح: للإمام أن يستخلف من يرى غير رأيه كالمالكي يولي شافعيا أو حنفيا، ولو شرط أي الإمام على القاضي الحكم بما يراه الإمام من مذهب معين أو اجتهاد له كان الشرط باطلا وصح العقد، وهكذا في الجواهر عن الطرطوشي، وقال غيره العقد غير جائز وينبغي فسخه ورده، وهذا إنما هو إذا كان القاضي مجتهدا، وهكذا المازري فيه، قال: وإن كان الإمام مقلدا وكان متبعا لمذهب مالك أو اضطر إلى ولاية قاض مقلد لم يحرم على الإمام أن يأمره أن يقضي بين الناس بمذهب مالك، ويأمره أن لا يتعدى في قضائه مذهب مالك لما يراه من المصلحة في أن يقضي بين الناس بما عليه أهل الإقليم والبلد الذي فيه هذا القاضي، وقد ولى سحنون رجلا سمع بعض كلام أهل العراق، وأمره أن لا يتعدى الحكم بمذهب أهل المدينة. انتهى المقصود.
قال (3) . ابن فرحون: قال الشيخ أبو بكر الطرطوشي أخبرنا القاضي أبو
__________
(1) الأحكام 1 \ 52 - 56.
(2) مواهب الجليل 6 \ 98.
(3) تبصرة الحكام 1 \ 48.(33/38)
الوليد الباجي أن الولاة كانوا بقرطبة إذا ولوا رجلا القضاء شرطوا عليه في سجله أن لا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده، قال الشيخ أبو بكر: وهذا جهل عظيم منهم يريد أن الحق ليس في شيء معين، وإنما قال الشيخ أبو بكر هذا لوجود المجتهدين وأهل النظر في قضاة ذلك الزمان فتكلم على أهل زمانه وكان معاصرا للإمام أبي عمر بن عبد البر، والقاضي أبي الوليد الباجي، والقاضي أبي الوليد بن رشد والقاضي أبي بكر بن العربي، والقاضي أبي الفضل والقاضي أبي محمد بن عطية صاحب التفسير، وغير هؤلاء من نظرائهم، وقد عدم هذا النمط في زماننا من المشرق والمغرب. وهذا الذي ذكره الباجي عن ولاة قرطبة ورد نحوه عن سحنون؛ وذلك أنه ولى رجلا القضاء وكان الرجل ممن سمع بعض كلام أهل العراق فشرط عليه سحنون أن لا يقضي إلا بقول أهل المدينة ولا يتعدى ذلك. قال (1) . ابن رشد وهذا يؤيد الباجي ويؤيد ما قاله الشيخ أبو بكر، فكيف يقول ذلك والمالكية إذا تحاكموا إليه فإنما يأتونه ليحكم بينهم بمذهب مالك. انتهى المقصود.
قال (2) . الدسوقي: بل حكوا خلافا إذا اشترط السلطان عليه أن لا يحكم إلا بمذهب إمامه، فقيل: لا يلزمه الشرط، وقيل بل ذلك يفسد التولية، وقيل يمضي الشرط للمصلحة.
__________
(1) الدسوقي على مختصر خليل 4 \ 130.
(2) مواهب الجليل.(33/39)
المذهب الشافعي:
قال (1) . النووي وجلال الدين المحلي: " ويحكم باجتهاده إن كان مجتهدا أو اجتهاد مقلده بفتح اللام إن كان مقلدا بكسرها حيث ينفذ قضاء المقلد ".
وقال (2) . قليوبي على قول النووي " واجتهاد مقلده " أي المعتمد عند مقلده إن لم يكن هو متبحرا وإلا فباعتماده لا يجوز له الحكم بغير مذهبه.
__________
(1) المحلى على المنهاج 4 \ 29.
(2) قليوبي على المنهاج 4 \ 298.(33/39)
وقال (1) . الرملي على قول النووي (مجتهد) قال: فلا يتولى جاهل بالأحكام الشرعية ولا مقلد، ومضى إلى أن قال بعد بيان صفة المجتهد المطلق: واجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه. أما مقلد لا يعدو ومذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه، وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع، فإنه مع المجتهد كالمجتهد في نصوص الشرع، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه، كما لا يجوز له الاجتهاد مع النص.
قال (2) . الإمام فخر الدين في كتابه ملخص البحر لا يجوز لمفتي على مذهب إمام أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته في ذلك المذهب، وأما المقلد فلا يجوز له الحكم بغير مذهب مقلده، إذا ألزمناه اتباعه ذكره الغزالي واقتصر عليه في الروضة وغيرها، وقال ابن الصلاح: لا يجوز لأحد في هذا الزمان أن يحكم بغير مذهبه، فإن فعل نقض لفقد الاجتهاد، وكذا في أدب القضاء للفزي كلام ابن الصلاح، ومرادهم بالمقلد من حفظ مذهب إمامه ونصوصه لكن عاجز عن تقويم - وفي نسخه تقديم - أدلته غير عارف بغوامضه ا. هـ بواسطة - المنقور.
__________
(1) نهاية المحتاج 8 \ 240.
(2) مجموع المنقور 2 \ 152.(33/40)
المذهب الحنبلي:
وعلى المقلد (1) . أن يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها ويقلد كبار مذهبه في ذلك ويحكم به، ولو اعتقد خلافه لأنه مقلد ومخالفة المقلد في فتواه نص إمامه كمخالفة المفتي نص الشارع (الإنصاف) ومن حاشية ابن قندس قوله: " فعلى هذا يراعي ألفاظ إمامه " ومتأخرها ويقلد كبار مذهبه في ذلك ظاهره وجوب مراعاة ألفاظ إمامه ووجوب الحكم بمذهب إمامه وعدم الخروج عن الظاهر
__________
(1) الإنصاف 11 \ 179.(33/40)
عنه وهذا كله يدل على أنه لا يصح حكمه بغير ذلك لمخالفته الواجب عليه - إلى أن قال -: وظاهر ما ذكره المصنف هنا وجوب العمل بقول إمامه والمنع من تقليده غيره، وظاهره ترجيح القول من منع تقليد غيره، وهذا هو اللائق لقضاة الزمان ضبطا للأحكام ومنعا من الحكم بالتشهي. فإن كثيرا من القضاة لا يخرجون من مذهب إمام بدليل شرعي بل لرغبة في الدنيا وكثرة الطبع، فإذا ألزم بمذهب إمامه كان أضبط وأسلم دائما يحصل ذلك إذا نقض حكمه بغير مذهب إمامه، وإلا فمتى أبقيناه حصل مراد قضاة السوء ولم تنحسم مادة السوء، ويرشح ذلك بأن يقال: هذه مسألة خلافية فبعضهم ألزم بذلك وبعضهم لم يلزمه، والإمام إذا ولاه الحكم على مذهب إمامه دون غيره فهو حكم من الإمام بإلزامه بذلك فيرتفع الخلاف - إلى أن قال -: قال بعض أصحابنا: مخالفة المفتي إمامه الذي قلده كمخالفة المفتي نص الشارع - إلى أن قال - قال النووي في الروضة: فرع إذا استقضى مقلدا للضرورة فحكم بغير مذهب مقلده قال الغزالي: إن قلنا: لا يجوز للمقلد تقليد من شاء بل عليه اتباع مقلده نقض حكمه، وإن قلنا: له تقليد من شاء لا ينقض - ثم قال -: الذي تقرر أن مذهبنا أن الحاكم لا يجوز له الحكم بغير مذهبه بخلاف الشافعية فيجوز أن يحكم بغير مذهب إمامه قال شيخنا.
قال (1) . شيخ الإسلام ابن تيمية: وأولو الأمر صنفان: الأمراء والعلماء وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس فعلى كل منهم أن يتحرى بما يقوله ويفعله طاعة الله ورسوله، واتباع كتاب الله ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان الواجب، وإن لم يمكن لضيق الوقت أو عجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه هذا أقوى الأقوال، وقد قيل ليس له التقليد بكل حال، وقيل له التقليد بكل حال والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد.
__________
(1) جزء 21 - من فتاوى شيخ الإسلام صحيفة (732 - 74) .(33/41)
وقال: ثم قد يكون الحاكم وقت الوقف له مذهب وبعد ذلك يكون للحاكم مذهب آخر. كما يكون في العراق وغيرها من بلاد الإسلام، فإنهم كانوا يولون القضاء تارة لحنفي وتارة لمالكي وتارة لشافعي وتارة لحنبلي. وهذا القاضي يولي في الأطراف من يوافقه على مذهبه تارة أو يخالفه أخرى، ولو شرط الإمام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته أن يحكم بمذهب معين بطل الشرط وفي فساد العقد وجهان.
ولا ريب أن هذا إذا أمكن القضاة أن يحكموا بالعلم والعدل من غير هذا الشرط (فعلوا) ، فأما إذا قدر أن في الخروج عن ذلك من الفساد جهلا وظلما أعظم مما في التقدير كان ذلك من باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، ولكن هذا لا يسوغ لواقف أن يجعل الخطر في الوقف إلا لذي مذهب معين دائما مع إمكان إلا أن يتولى في ذلك المذهب، فكيف إذا لم يشترط ذلك؛ ولهذا كان في بعض بلاد الإسلام يشرط على الحاكم أن لا يحكم إلا بمذهب معين كما صار أيضا في بعضها بولاية قضاة مستقلين ثم عموم النظر في عموم العمل، وإن كان في كل من هذا نزاع معروف، وفيمن يعين إذا تنازع الخصمان: هل يعين الأقرب أو بالقرعة؟ فيه نزاع معروف وهذه الأمور التي فيها اجتهاد إذا فعلها ولي الأمر نفذ.
أما العلماء المعاصرون الذين يرون التدوين والإلزام فإننا نورد أقوالهم ما يلي: -
قال (1) . الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا: والاجتهاد الإسلامي قد أقر لولي الأمر العام من خليفة أو سواه أن يحد من شمول بعض الأحكام الشرعية وتطبيقها ويأمر بالعدل بقول ضعيف مرجوح إذا اقتضت المصلحة الزمنية ذلك، فيصبح هو الراجح الذي يجب العمل به وبذلك صرح فقهاؤنا وفقا لقاعدة
__________
(1) المدخل الفقهي العام 1 \ 391 ونسبه إلى رد المحتار 1 \ 55.(33/42)
(المصالح المرسلة) . وقاعدة تبدل الأحكام بتبدل الزمان ونصوص الفقهاء في مختلف الأبواب تفيد أن السطان إذا أمر بأمر في موضوع اجتهادي " أي قابل للاجتهاد غير مصادم للنصوص القطعية في الشريعة " كان أمره واجب الاحترام والتنفيذ شرعا.
وقال (1) . أيضا تعليقا على ذلك: جاء في كتاب الوقف من الدر المختار وحاشيته رد المحتار نقلا عن معروضات المولى أبي السعود - وهو مفتي المملكة العثمانية، ثم قاضي القسطنطينية في عهد السلطانين سليمان وسليم، ومن كبار رجال المذهب الحنفي المتأخرين المعول على فتاويهم وترجيحاتهم - أنه إذا صدر الأمر السلطاني بعدم نفاذ وقف المدين في القدر الذي يتوقف تسديد الدين من أمواله عليه قطعا لما يلجأ إليه بعض الناس من وقف أموالهم لتهريبها من وجه الدائنين.
وبناء على الأمر صرح الفقهاء من بعده بعدم نفاذ مثل هذا الموقف شرعا، وقد كانت النصوص في أصل المذهب صريحة في نفاذ وقف المدين ولو كان دينا محيطا بجميع أمواله؛ لأن الدين إنما يتعلق بذمته لا بعينه، ومضى إلى أن قال: والمهم جدا في هذه النصوص ليس هو الموضوعات التي وردت فيها بل المبدأ الفقهي الذي تتضمنه لما له من تأثير ذي بال في شتى الأحكام وقال الدكتور أحمد موافي - في كتابه الفقه الجنائي المقارن:
ومن القواعد المقررة في الشرعية الإسلامية أن لولي الأمر ولاية حمل الناس على ما يختاره لهم من الأحكام وصياغتها في نصوص مكتوبة يلزم بها القضاة.
وينهي الدكتور أحمد موافي بحثه بقوله: وهكذا نخلص مما تقدم إلى: -
1 - أن تدوين الأحكام في الشرع عمل سائغ.
2 - أن الأحكام موجودة من قبل التدوين على عكس القوانين الوضعية فإنها
__________
(1) المدخل الفقهي العام 1 \ 392 وما بعدها.(33/43)
لا تعتبر قائمة إلا من بعد تدوينها.
3 - وأن غير المدون في القوانين لا يعتبر حكما، ولكنه في الشرع يستدل عليه بالاجتهاد ويستنبط بالطرق المرسومة لذلك في علم الأصول.
4 - وأنه يمكن مسايرة التطور بالبحث عن حكم الله وصياغته في مواد كلما دعت حاجة المجتمع ومصلحته إلى ذلك؛ لأنه حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله.
5 - وأن لولي الأمر ولاية حمل الناس على إلزامهم باتباع حكم بذاته غير مقيد في ذلك المجتمع ومصلحته ما دام يرى المصلحة في ذلك.
هذا وقد أسلفنا أن الشرع الإسلامي من وضع الله سبحانه وتعالى، فكل حكم في الشريعة الإسلامية منه جلت قدرته قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (1) فقد أنزل الله الشريعة على رسوله بالقرآن الكريم ومما أوحاه إليه من أحكام وبما أمره عليه من اجتهاد، وفي ذلك يقول سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
وقال الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر المتوفى عام 1365 هـ، وكان رئيسا لمحكمة مصر الشرعية العليا - القاضي المقلد لا ينفذ قضاؤه بخلاف مذهب متبوعه عامدا أو ناسيا؛ لأنه إنما ولي ليحكم بمذهب متبوعه - كأبي حنيفة مثلا - فهو معزول عن الحكم بغير هذا المذهب، وللسلطان أن يحكم ويقضي بين الخصوم على المفتى به، ومتى صادف مجتهدا فيه نفذ أمره ولا شبهة في أن علة عدم نفاذ حكم القاضي بخلاف مذهبه سواء كان مجتهدا أم مقلدا انحصرت في أمرين:
- الأول: اتباع الهوى.
- الثاني: عزله عن خلاف مذهبه.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 57
(2) سورة الجاثية الآية 18(33/44)
ونحن لا نخالف في هذا ونصرح بأن الحكم بالهوى باطل. ونصرح بأن الحكم بخلاف ما أذن به القاضي من الحاكم الذي ولاه باطل. ولكن الذي نتحدث عنه شيء وراء هذا كله؛ ذلك أننا نتحدث عن شيء سيضعه الحاكم ويلزم فيه القضاة باتباع مذاهب معينة غير مذاهبهم لمصلحة رآها ورآها المسلمون، ونحن نصرح بأن هذا جائز شرعا، وأن القاضي يجب عليه شرعا أن يقضي في مثل هذا بما يقيده به الحاكم، ولا يجوز له أن يقضي بغير ما قيده به الحاكم، وإلا كان قضاؤه باطلا؛ وذلك لأن القاضي نائب عن الحاكم في الحكم، وقد كان يجوز للحاكم أن يقضي بالأقوال التي يريد تقييد قضائه بها فيجب عليهم اتباع شروط التوكيل عنه، إلى أن قال: والمجتهد يحرم عليه شرعا أن يعمل بغير رأيه سواء كان مجتهدا مطلقا أو مجتهدا في مسألة أو مسائل خاصة، والمقلد الذي يستطيع النظر في الأدلة وترجيح بعضها على بعض يجب عليه أن يعمل بما يرجح عنده بالدليل، ولا يجوز له أن يتخير، ومن يستطيع الترجيح يتخير أو يعمل بما يطمئن إليه قلبه.
والقاضي والمفتي لا يحيدان عن هذا غير أن القاضي يمتاز عمن يريد العمل لنفسه؛ ذلك أنه عندما يقلد القضاء من الحاكم يجب عليه اتباع شروط الحاكم الذي ولاه، فإن ولاه على أن يحكم بمذهب إمام معين كأبي حنيفة مثلا وجب عليه امتثاله، وإن حتم عليه العمل بالراجح وجب عليه امتثاله، وإن نص في منشوره على العمل بأقوال قيل: إنها مرجوحة في مسائل معينة وجب عليه امتثاله، وإن نص في منشوره على العمل بغير مذهب أبي حنيفة في مسائل معينة وجب عليه امتثاله، ومتى حكم القاضي بما يقيده له الحاكم الذي ولاه لا يمكن أن يقال: إن حكمه للهوى والغرض ولا أنه حكم بأخذ المال.
أما الشيخ أبو الأعلى المودودي فقد دعا في كتابه القانون الإسلامي إلى تدوين الأحكام الفقهية على شكل مواد وفق الأسلوب الحديث لتنفذها المحاكم وتدرسها كليات الحقوق.
ومن هذه الأقوال التي نقلناها عن عدد من علماء المذاهب الأربعة وما(33/44)
اطلعنا عليه ضمن بحث اللجنة الدائمة نستطيع أن نقول: إن الإجماع يكاد يكون منعقدا على أن من توفرت فيه من القضاة شروط الاجتهاد التي ذكرها العلماء في كتبهم، فإنه لا يجوز إلزامهم بالحكم بمذهب معين، أما إذا كان القاضي مقلدا ولا يتصف بأي شروط من شروط الاجتهاد كما هو حال قضاتنا - فإن الأقوال طافحة وصريحة بأن إلزام أمثال هؤلاء بالحكم بمذهب معين - أمر سائغ. والذين لا يجيزون الإلزام بالحكم بمذهب معين فإنهم لا يقولون بأن غير المجتهد من القضاة لا يصح إلزامه؛ لأنهم يرون أن تولية القضاء غير المجتهد غير صحيح وهو رأي فيه من الحرج والضيق الشيء الكثير، وما أحسن قول شهاب الدين بن عطوة في هذا المقام حيث يقول: فإن ولاية الحكام في وقتنا ولايات صحيحة؛ لأنهم سدوا من ثغور الإسلام ثغرا سده فرض كفاية - ولو - أهملنا هذا القول ومشينا على طريقة التفاؤل التي يمشي عليها من مشى من الفقهاء الذين يذكر كل منهم في كتابه شروطا في القاضي إذا قلنا به - لم يصح أن يكون أحد قاضيا حتى يكون من أهل الاجتهاد، ثم يذكر في شروط الاجتهاد أشياء ليست موجودة في الحكام فهذه إحالة أو كالتناقض، وكانت تعطيلا للأحكام وسدا للباب وألا ينفذ حق ولا يكاتب فيه ولا تقام بينه إلى غير ذلك من القواعد الشرعية - فكان هذا غير صحيح. اهـ.(33/46)
رابعا: لئن كان للإلزام بالحكم بقول معين بعض المآخذ التي قد يكون من أهمها تبلد الفكر والجمود بالبحث، فإن في ذلك من المصالح العامة التي تعود على الضروريات الخمس بالعناية والرعاية والحفاظ ما يدعو إلى التغاضي عن هذه المآخذ تطبيقا لقاعدة ارتكاب أدنى المفسدتين لتفويت أعلاهما، فالدواعي إلى الأخذ بذلك كثيرة نذكر منها ما يلي: -
(1) ما عليه غالب القضاة من مستوى علمي ضعيف لا يستطيعون به الاجتهاد لأنفسهم ولا إدراك الراجح من مذهب من هم منتسبون إليه من بين الأقوال المبثوثة في كتب المذهب، لا سيما وفي الكتب المؤلفة في المذهب أقوال مختلفة يذكر كل مؤلف في الغالب أن ما ذكره في هذه(33/46)
المسألة مثلا هو المذهب كما هو الأمر بالنسبة للمنتهى والإنصاف وغيرهما من كتب الحنابلة.
(ب) ما نتج عن إطلاق الأمر للقاضي في تعيينه الراجح من المذهب أو إطلاق الأمر إليه في الاجتهاد في الحكم بما يراه من الاختلاف في الأحكام الصادرة من المحاكم، ومن الاختلاف في اتجاهاتها فهذه تحكم بصرف النظر عن دعوى القسامة مثلا لعجز المدعي عن إحضار خمسين رجلا يحلفون خمسين يمينا على قتل المدعي صاحبهم، والأخرى تحكم بقتل المدعى عليه لحلف ورثة القتيل خمسين يمينا فيترك الأول ويقتل الثاني، كما أن إحدى المحاكم تحكم بقطع يد السارق بغض النظر عن مطالبة المسروق منه ذلك، بينما تشترط المحكمة الأخرى للحكم بقطع يده مطالبة المسروق منه بذلك فتقطع يد الأول وتترك يد الثاني، وهذه تحكم بالشفعة، وهذه تمنعها، وهذه تحكم بملكية المقطع، والأخرى تحكم بالاختصاص دون التملك، مما كان لذلك أثره السيئ في نفوس كثير من الناس قد يكون منه اتهام القضاة في أحكامهم بالهوى والتشفي والاستهانة بالحقوق ومجريا.
(جـ) كثرة الشكاوى من فئات مختلفة داخل البلاد وخارجها من أن القضاء في البلاد غير واضح المعالم حتى لطلبة العلم أنفسهم إذ إن أحدهم يمكن أن يكون طرفا في خصومة عند أحد القضاة، وقد يكون مستواه العلمي أعلى من مستوى القاضي نفسه، ومع ذلك لا يدري بم يحكم القاضي به، وقد كان لذلك أثره السيئ في تبرم البعض من حال القضاء لدينا وفي الطعن فيه من بعضهم بأنه يحكم أنه غير واضح المعالم في تحقيق العدل وفض النزاع ليس موضع ثقة.
(د) القضاء على التعللات التي كانت تبريرا لإيجاد محاكم مستقلة عن الجهة الإدارية للقضاء لدينا كمحاكم الرشوة والتزوير ومكافحة المخدرات وفض المنازعات التجارية وغيرها مما هو موجود أو في طريقه إلى الوجود(33/47)
مما كان له أثره في تفتت الوحدة القضائية وتقلص اختصاص المحاكم الشرعية.
(هـ) منع الجائز لدى بعض أهل العمل قد يترتب عليه حصول مفسدة، ويخشى أن في الإبقاء على الوضع القائم ما يدعو إلى ما لا تحمد عقباه.
وفي التاريخ من ذلك عبر.
(و) استحالة تنفيذ الرأي الذي أشار إليه بعض الزملاء في إعطاء بعض القضاة الحرية فيما يحكمون به للثقة بقدراتهم العلمية وتقييد الآخرين بالراجح من مذهب الإمام أحمد لاستحالة تصنيف القضاة إلى هذين القسمين.
(ز) اختلاف وجهات النظر حتى لدى محكمي التمييز في الرياض ومكة، ونذكر لذلك مثالا: فقد سبق أن قامت محكمة التمييز بالرياض بنقض حكم بالقسامة صادر من محكمة الرياض؛ لأنه كان مبنيا على قول مرجوح في المذهب بينما كانت محكمة التمييز في مكة المكرمة تشير إلى المحكمة الكبرى بمكة في قضية قتل بأن تحكم فيها بالقسامة بالقول المرجوح الذي قامت محكمة التمييز في الرياض بنقض الحكم المبني عليه.
(حـ) أن اختلاف الأحكام القضائية في صدر الإسلام لم يبعث على تدوين أحكام موحدة وعلى الإلزام برأي معين لقوة العلماء في ذلك العهد وكفايتهم فتوفرت الثقة في نفوس الأمة وأمنت الفتنة فلم يكن ثم حاجة إلى التدوين والإلزام به. أما في زمننا هذا وما قبله من أزمان بعد أن طرأ الضعف على الكيان الإسلامي فالحاجة ملحة إلى التدوين بالطريقة المقترحة والإلزام بالحكم بمقتضى ما دون أمر لا بد منه رعاية للمصلحة وحفظا للحقوق وإبقاء على العمل بأحكام الشريعة في المحاكم الشرعية.
(ط) حدوث مسائل جديدة ليس في الكتب الفقهية المعتمدة لدى القضاة لها(33/48)
ذكر كالمعاملات المصرفية ومسائل المقاولات والمناقصات وشروط الجزاء ومشاكل الاستيراد والتصدير والتأمين بمختلف جوانبه ونحو ذلك مما لا قدرة لغالب القضاة على معرفة الحكم الذي يحكمون به في الخلاف حولها، مما كان سببا في إيجاد محاكم أخرى لها جهة إدارية مستقلة عن الجهة الإدارية للمحاكم الشرعية، وفي اشتمال هذه المحاكم على قضاة قانونيين يشتركون مع القضاة الشرعيين، وذلك كمحاكم الرشوة وفض المنازعات التجارية وغيرها.
(ى) هناك مجموعة من الحكومات الإسلامية ممن أبعدها الاستعمار عن روح الشريعة، فبعد أن استقلت وتنفست الصعداء من ثقل وطأة المستعمر عليها راحت تخطط لعروبتها إلى الحكم بالشريعة الإسلامية إلا أنها تقرر العجز في اختيار ما تراه وليس أمامها شيء ميسور يمكن أن تسير عليه، ونمثل لذلك بباكستان. وإن الغيورين على الشريعة الإسلامية أخذوا في الآونة الأخيرة يطالبون بوضع قانون إسلامي مستمد من الشريعة الإسلامية - وعقدت لأجل ذلك المؤتمرات، ولذلك فإن على بلادنا أن تأخذ بزمام المبادرة وتقدم للعالم الإسلامي أحكاما إسلامية مدونة، وبلادنا أقدر البلاد الإسلامية على مثل تلك المبادرة لعدم وجود أي سيادة أو فكر للقانون الوضعي، والحمد الله.(33/49)
خامسا: أن الإلزام بقول معين كان موضع الاعتبار والتنفيذ من الصدر الأول في الإسلام. ففي عهد عثمان رضي الله عنه جمع القرآن على حرف واحد ومنع القراءة بالحروف الأخرى، وأحرق المصاحف المخالفة؛ وذلك تحقيقا لمصلحة المسلمين وحفاظا على وحدة القرآن أن يكون موضع اختلاف، وكان الخير فيما فصل، ولا يرد ما قيل بأن الرسم العثماني كان مشتملا على جميع القراءات السبع حسب العرضة الأخيرة، فإن العرضة الأخيرة لم يشهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا زيد بن ثابت وليس في أمر عثمان للأربعة الأفاضل الذين(33/49)
عهد إليهم بالمهمة أن يكون الجمع طبقا للعرضة الأخيرة. ثم إن تنقيط المصحف كان في القرن الأول من قرون الإسلام، قام به الحجاج بن يوسف، وقد تلقاه الناس بالقبول والارتياح، واعتبرت هذه مزية كريمة للحجاج مع أن التنقيط يستلزم إلغاء القراءات الأخرى في الرسم العثماني على افتراض أن يشملها بدون تنقيط. وفي عهد معاوية ألزم بتوريث المسلم من الكافر دون العكس، فكان شريح يقضي بذلك ويقول: هذا قضاء أمير المؤمنين، وفي زمننا صدرت عن الجهة المسئولة في القضاء لدينا مجموعة تعاميم لاعتبارها في المحاكم والتمشي بموجبها، ومن ذلك الاستشمام ومقادير الديات ونظام المساييل وغيرها.(33/50)
سادسا: ما يقال بأن التدوين خطوة إلى إلغاء الشريعة الإسلامية والاستدلال على ذلك بأن حكومة ما دونت الراجح من مذهب من هي منتسبة إليه في مواد وألزمت العمل بذلك في محاكمها ثم ألغت الشريعة مطلقا، فهذا مردود لأن تلك الحكومة لم يقتصر تنكرها للدين على المسلك القضائي في المحاكم وإنما نفضت يدها من الدين مطلقا وانتقلت إلى دولة علمانية، ثم إن هناك مجموعة من الحكومات الإسلامية ليست دولة أو دولتين لم يكن لها مواد مدونة من الشريعة الإسلامية، وإنما كانت محاكمها تحكم بالراجح من مذهب إمام ما من أئمة المسلمين فكان منها والعياذ بالله أن ألغت العمل بالشريعة الإسلامية وأخذت بقوانين أوربا وغيرها وتركت التعاليم الإسلامية عن القضاء خاصة بالأحوال الشخصية. نقصد بذلك أن التدوين ليس وسيلة إلى تحقق ما بدت المخاوف منه.
وأما القول بأن في التدوين تبليدا للفكر وجمودا به عن البحث والاستقصاء فيجاب عن ذلك بأمرين: الأمر الأول: أن الإلزام بمذهب معين كان موضع التنفيذ لدى كثير من ولاة أمر المسلمين على مختلف الأمصار والأعصار ولم يكن هذا مانعا من الاتساع الفقهي بل إن مطولات الكتب في الفقه لم(33/50)
توجد إلا في هذه الفترات.
الأمر الثاني: أن الإلزام ليس شاملا للجهات العلمية المختلفة وإنما هو خاص بالقضاة فيما يحكمون به مع أن القاضي إذا كان لديه الأهلية في البحث والاستقصاء والاجتهاد فإن الجهة المختصة به إداريا ستعير اجتهاده ما يستحقه، كما أن تدوين الأحكام لا يمكن أن يكون شاملا لجميع القضايا؛ فإن الأمر كما قيل: " القضايا ممدودة والأحكام محدودة " فللقضاة مجال البحث والتحقيق في قياس ما لم ينص عليه على ما نص عليه، وذلك بالرجوع إلى المصادر الشرعية المستقى منها هذا التدوين. ثم إن طبيعة العمل القضائي لا سيما في العصور المتأخرة تقتضي تبلد الفكر وركود الحصيلة، والقضاة يقررون ذلك ويكثرون من الشكوى منه، وقد روي عن الإمام أبي حنيفة أنه لا يرى أن يتولى القاضي القضاء أكثر من سنتين خشية ضياع علمه. .(33/51)
سابعا: أن النهوض بالمرفق القضائي يتطلب مجموعة عوامل يعتبر التدوين في نظرنا أحدها لا أنه العامل الوحيد للنهوض بمستواه، بمعنى أن الاقتصار عليه لا يعطي نتيجة مرضية في ذلك.
لذلك كله وبحكم ممارسة أكثرنا للأعمال القضائية مدة طويلة - حكما وتدقيقا - وما نتج عن ذلك من إدراك لأحوال القضاة واطلاع على جوانب النقص في أحكام غالبيتهم، وتحسبا لما نخشى وقوعه في حال رفض هذه الفكرة - فإننا نرى جواز تدوين الأحكام الشرعية المختارة من أرجح أقوال العلماء دليلا في كتاب يجري تعميمه على المحاكم وإلزام القضاة الحكم بموجبه، وإلى أن يتم التدوين نرى أن يؤكد ما سبق صدوره في عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله - من أن الحكم يكون بالراجح من مذهب الإمام أحمد ما عدا المسائل التي يصدر فيها قرار من هيئة كبار العلماء أو مجلس القضاء الأعلى بأن الراجح فيها من حيث الدليل خلاف الراجح في المذهب. وإذا ظهر لأحد القضاة وجه(33/51)
للحكم في قضية بخلاف ذلك فعليه الرفع عن وجهة نظره مع ذكر مستنده إلى مرجعه لدراسة ذلك في مجلس القضاء الأعلى.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم(33/52)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(33/53)
من الفتوى رقم 5003
س: ما حكم الإسلام فيمن يكفر المسلم فقد ظهر في مصر جماعة تكفر المسلم بموجب أن يكون قد ارتكب شيئا من المعاصي خلاف الشرك بالله فهل فعل المعاصي وارتكاب الكبيرة يوجب تكفير صاحبها مع أنه يقر بالشهادتين؟
الحمد الله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: تختلف كبائر الذنوب في فحشها وعظم جرمها، فمنها ما هو شرك ومنها ما ليس بشرك، ومذهب أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفرون مسلما بما كان منها دون الشرك، مثل قتل النفس وشرب الخمر والزنا والسرقة وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات المؤمنات وأكل الربا ونحو ذلك من الكبائر، ولكن يقيم ولي الأمر عليه عقوبة ما ارتكبه من الذنوب من قصاص أو حد أو تعزير، وعليه التوبة والاستغفار، أما ما كان من الكبائر، مثل الاستغاثة بغير الله كدعاء الأموات لتفريج الكربات والنذر للأموات والذبح لهم فهذه الكبائر وأمثالها كفر يجب البيان لمن ارتكبها وإقامة الحجة عليه، فإن تاب بعد البيان قبلت توبته، وإلا قتله ولي أمر المسلمين لردته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/54)
من الفتوى رقم 7233
س: ما حكم نفي الإيمان عن المسلم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا يجوز، بل هو حرام؛ لما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه (1) » . متفق عليه، وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من دعا رجلا بالكفر أو قال: يا عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه (2) » . متفق عليه. حار: رجع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) البخاري برقم 6104، ومسلم برقم 60، والترمذي برقم 2639.
(2) البخاري برقم 6045، ومسلم برقم 61، والترمذي برقم 4687.(33/55)
فتوى رقم 9232
س: رجل مسلم قال لأخيه: أنت كافر، مع أن المسبوب يقيم الصلوات الخمس ويصوم، فما الحكم، وجزاكم الله خيرا؟ وما علاج كثرة(33/55)
النسيان؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا يجوز للمسلم نسبة أخيه للكفر إذا لم يصدر منه ذلك، ويجب عليه التوبة إلى الله والاستغفار واستسماح أخيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن ذلك في الأحاديث الصحيحة. أما علاج النسيان وبطء الحفظ فهو تقوى الله عز وجل، ومداومة المذاكرة، وتكرار ما أردت حفظه، وسؤال الله الإعانة على ذلك. ونسأل الله لنا ولك التوفيق والسداد في تحقيق ما أردت.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/56)
من الفتوى رقم 4446
س: هل يمكن للرجل أن يقول لصاحبه أنت كافر قبل أن يعلمه بعمله؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إذا كان صاحبه كافرا فالمشروع أن يعلمه أن عمله كفر وينصحه بتركه بالأسلوب الحسن، فإذا لم يترك عمله الذي أوجب كفره أجريت عليه أحكام الكفار، وهو متوعد بما توعد الله به من مات على كفره من الكفار بالخلود في النار، والواجب التثبت في هذه الأمور وعدم التعجل(33/56)
بالتكفير حتى يتضح الدليل.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/57)
من الفتوى رقم 6109
س: هل من حق العلماء أن يقولوا على شخص ما إنه كافر ويتهموه بالكفر؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: تكفير غير المعين مشروع بأن يقال: من استغاث بغير الله فيما دفعه من اختصاص الله كافر، كمن استغاث بنبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء أن يشفيه أو يشفي ولده مثلا.
وتكفير المعين إذا أنكر معلوما من الدين بالضرورة كالصلاة أو الزكاة أو الصوم بعد البلاغ واجب، وينصح، فإن تاب وإلا وجب على ولي الأمر قتله كفرا، ولو لم يشرع تكفير المعين عندما يوجد منه ما يوجب كفره ما أقيم حد على مرتد عن الإسلام.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/57)
من الفتوى رقم 6201
س: نريد معرفة حكم من لم يكفر الكافر؟
الحمد لله وحده والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: من ثبت كفره وجب اعتقاد كفره والحكم عليه به وإقامة ولي الأمر حد الردة عليه إن لم يتب، ومن لم يكفر من ثبت كفره فهو كافر، إلا أن تكون له شبهة في ذلك فلا بد من كشفها.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/58)
من الفتوى رقم 4252
س: هل يجوز للمسلم أن يقول على اليهودي أو المسيحي: كافر؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: يجوز للمسلم أن يقول لليهودي أو المسيحي: إنه كافر؛ لأن الله وصفهم في القرآن بهذا الوصف، وهذا معلوم لمن تدبر القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (1) وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى.
__________
(1) سورة البينة الآية 6(33/58)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/59)
من الفتوى رقم 4319
س: هل يجوز أن تدعو النصراني كافرا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: نعم يجوز أن نسمي اليهودي والنصراني ونصفهما ونحكم عليهما بالكفر؛ لتسمية الله إياهما بذلك وحكمه عليهما به، قال الله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (1) وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى، وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (2) الآية، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (3) الآية، إلى غير ذلك من النصوص القرآنية والنبوية التي فيها الحكم بكفرهم.
__________
(1) سورة البينة الآية 1
(2) سورة المائدة الآية 17
(3) سورة المائدة الآية 73(33/59)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/60)
من الفتوى رقم 6397
س: أسلمت حديثا إحدى الشابات البوذيات المثقفات بعد دراسة عميقة للإسلام استمرت سبع سنوات، وهي الآن نشطة في الدعوة للإسلام، ولقد أسلم على يديها بعض الأفراد من رجال ونساء، وفي إحدى جولاتها مع بعض الذين اهتدوا للتعريف بالإسلام والدعوة إليه في إحدى المناطق النائية وجه إليها أحد البوذيين هذا السؤال: كيف تحكمون بدخول النار لغير المسلم بينما نحن في هذه المنطقة لم نسمع عن الإسلام إلا الآن؟ فهل آباؤنا في النار؟ وما ذنبهم طالما أنكم معشر المسلمين لم تبلغوا دين الحق إلينا؟ ولقد اتصلت بنا هذه الأخت المهتدية وتريد منا جوابا شافيا على سؤال الرجل الذي دخل في الإسلام بعد هذا اللقاء.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: المسلمون لا يحكمون على غيرهم بأنهم في النار إلا بشرط وهو أن يكونوا قد بلغهم القرآن أو بيان معناه من دعاة الإسلام بلغة المدعوين لقول الله عز وجل: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (1) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 19(33/60)
وقوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (1) فمن بلغتهم الدعوة الإسلامية من غير المسلمين وأصر على كفره فهو من أهل النار لما تقدم من الآيتين، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (2) » . خرجه مسلم في صحيحه، والأدلة في هذا المعنى من الآيات والأحاديث كثيرة، أما الذين لم تبلغهم الدعوة على وجه تقوم به الحجة عليهم فأمرهم إلى الله عز وجل، والأصح من أقوال أهل العلم في ذلك أنهم يمتحنون يوم القيامة فمن أطاع الأوامر دخل الجنة ومن عصى دخل النار، وقد أوضح هذا المعنى الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره لقول الله عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (3) والعلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه " طريق الهجرتين " في آخره تحت عنوان " طبقات المكلفين " فنرى لك مراجعة الكتابين لمزيد الفائدة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الإسراء الآية 15
(2) أحمد 2 \ 317 و350 و4 \ 396 و398، ومسلم برقم 153، وابن مردويه، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، والطبراني كما في الدر المنثور 2 \ 325، والحاكم 2 \ 342.
(3) سورة الإسراء الآية 15(33/61)
فتوى رقم 11043
س: عندنا تفشي ظاهرة عبادة القبور، وفي نفس الوقت وجود من يدافع عن هؤلاء ويقول: إنهم مسلمون معذورون بجهلهم فلا مانع من أن يزوجوا من فتياتنا، وأن نصلي خلفهم، وإن لهم كافة حقوق المسلم على المسلم، ولا يكتفون بل يسمون من يقول بكفر هؤلاء: إنه صاحب بدعة يعامل معاملة المبتدعين بل ويدعون أن سماحتكم تعذرون عباد القبور بجهلهم حيث أقررتم مذكرة لشخص يدعى الغباشي يعذر فيها عباد القبور، لذلك أرجو من سماحتكم إرسال بحث شاف كاف تبين فيه الأمور التي فيها العذر بالجهل من الأمور التي لا عذر فيها، كذلك بيان المراجع التي يمكن الرجوع إليها في ذلك، ولكم منا جزيل الشكر.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: يختلف الحكم على الإنسان بأنه يعذر بالجهل في المسائل الدينية أو لا يعذر باختلاف البلاغ وعدمه، وباختلاف المسألة نفسها وضوحا وخفاء وتفاوت مدارك الناس قوة وضعفا. فمن استغاث بأصحاب القبور دفعا للضر أو كشفا للكرب بين له أن ذلك شرك، وأقيمت عليه الحجة أداء لواجب البلاغ، فإن أصر بعد البيان فهو مشرك يعامل في الدنيا معاملة الكافرين واستحق العذاب الأليم في الآخرة إذا مات على ذلك، قال الله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (1) ، وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (2)
__________
(1) سورة النساء الآية 165
(2) سورة الإسراء الآية 15(33/62)
وقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (1) ، وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (2) » . رواه مسلم، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب البيان وإقامة الحجة قبل المؤاخذة، ومن عاش في بلاد يسمع فيها الدعوة إلى الإسلام وغيره ثم لا يؤمن ولا يطلب الحق من أهله فهو في حكم من بلغته الدعوة الإسلامية وأصر على الكفر، ويشهد لذلك عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم، كما يشهد له ما قصه الله تعالى من نبأ قوم موسى إذ أضلهم السامري فعبدوا العجل وقد استخلف فيهم أخاه هارون عند ذهابه لمناجاة الله، فلما أنكر عليهم عبادة العجل قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى، فاستجابوا لداعي الشرك، وأبوا أن يستجيبوا لداعي التوحيد فلم يعذرهم الله في استجابتهم لدعوة الشرك والتلبيس عليهم فيها لوجود الدعوة للتوحيد إلى جانبها مع قرب العهد بدعوة موسى إلى التوحيد.
ويشهد لذلك أيضا ما قصه الله من نبأ نقاش الشيطان لأهل النار وتخليه عنهم وبراءته منهم، قال الله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) فلم يعذروا بتصديقهم وعد الشيطان مع مزيد تلبيسه وتزيينه
__________
(1) سورة الأنعام الآية 19
(2) أحمد 2 \ 317 و350 و4 \ 396 و398، ومسلم برقم 153، وابن مردويه، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، والطبراني كما في الدر المنثور 2 \ 325، والحاكم 2 \ 342.
(3) سورة إبراهيم الآية 22(33/63)
الشرك واتباعهم لما سول لهم من الشرك لوقوعه إلى جانب وعد الله الحق بالثواب الجزيل لمن صدق وعده فاستجاب لتشريعه واتبع صراطه السوي.
ومن نظر في البلاد التي انتشر فيها الإسلام وجد من يعيش فيها يتجاذبه فريقان فريق يدعو إلى البدع على اختلاف أنواعها شركية وغير شركية ويلبس على الناس ويزين لهم بدعته بما استطاع من أحاديث لا تصح وقصص عجيبة غريبة يوردها بأسلوب شيق جذاب، وفريق يدعو إلى الحق والهدى ويقيم على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة، ويبين بطلان ما دعا إليه الفريق الآخر وما فيه من زيف، فكان في بلاغ هذا الفريق وبيانه الكفاية في إقامة الحجة، وإن قل عددهم فإن العبرة ببيان الحق بدليله لا بكثرة العدد، فمن كان عاقلا وعاش في مثل هذه البلاد واستطاع أن يعرف الحق من أهله إذا جد في طلبه وسلم من الهوى والعصبية، ولم يغتر بغنى الأغنياء ولا بسيادة الزعماء ولا بوجاهة الوجهاء ولا اختل ميزان تفكيره، وألغى عقله، وكان من الذين قال الله فيهم: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} (1) {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} (2) {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} (3) {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (4) {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (5) .
أما من عاش في بلاد غير إسلامية ولم يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن القرآن والإسلام فهذا على تقدير وجوده حكمه حكم أهل الفترة يجب على علماء المسلمين أن يبلغوه شريعة الإسلام أصولا وفروعا إقامة للحجة وإعذارا إليه، ويوم القيامة يعامل معاملة من لم يكلف في الدنيا لجنونه أو بلهه أو صغره وعدم تكليفه، وأما ما يخفى من أحكام الشريعة من جهة الدلالة أو لتقابل الأدلة وتجاذبها فلا يقال لمن خالف فيه آمن وكفر ولكن يقال أصاب وأخطأ، فيعذر
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 64
(2) سورة الأحزاب الآية 65
(3) سورة الأحزاب الآية 66
(4) سورة الأحزاب الآية 67
(5) سورة الأحزاب الآية 68(33/64)
فيه من أخطأ ويؤجر فيه من أصاب الحق باجتهاد أجرين، وهذا النوع مما يتفاوت فيه الناس باختلاف مداركهم ومعرفتهم باللغة العربية وترجمتها وسعة اطلاعهم على نصوص الشريعة كتابا وسنة ومعرفة صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها ونحو ذلك.
وبذا يعلم أنه لا يجوز لطائفة الموحدين الذين يعتقدون كفر عباد القبور أن يكفروا إخوانهم الموحدين الذين توقفوا في كفرهم حتى تقام عليهم الحجة؛ لأن توقفهم عن تكفيرهم له شبهة وهي اعتقادهم أنه لا بد من إقامة الحجة على أولئك القبوريين قبل تكفيرهم بخلاف من لا شبهة في كفره كاليهود والنصارى والشيوعيين وأشباههم، فهؤلاء لا شبهة في كفرهم ولا في كفر من لم يكفرهم، والله ولي التوفيق، ونسأله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يمنحهم الفقه في الدين، وأن يعيذنا وإياهم من شر أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن القول على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/65)
من الفتوى رقم 5609
س: ما حكم تذنيب الخطابات والعرائض بكلمة: ودمتم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: يكره ذلك، لأن الدوام لله سبحانه والمخلوق لا يدوم.(33/65)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/66)
من الفتوى رقم 7717
س: هل يجوز أن أقول للضابط في الشرطة أو القوات المسلحة: حاضر يا سيدي؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: يجوز أن تقول له: حاضر، ولا يجوز أن تقول له: يا سيدي لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لما قال له بعض الصحابة: أنت سيدنا قال: السيد الله تبارك وتعالى (1) » . رواه أبو داود بإسناد صحيح.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 4 \ 24 و25، وأبو داود برقم 4806، وابن السني في عمل اليوم والليلة برقم 387، والبخاري في الأدب برقم 211، والبيهقي في الأسماء والصفات 22، والنسائي في عمل اليوم والليلة برقم 245 و 246 و 247.(33/66)
من الفتوى رقم 9234
س: أنا مدرس في مدرسة ثانوية ليلي، ومما قرأته في كتاب التوحيد عبارة ترددت فيها واستنكرتها فأرجو إفادتي عن مدى صحتها ومناسبتها لمقام رب العالمين: فقد ورد في كتاب التوحيد الذي ألفه محمد قطب في الصف الثاني الثانوي صفحة 23 في السطر 17 العبارة: " فإذا جاء الرسول من عند الله يقول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (1) وهو ما قاله كل رسول لقومه فهو في الحقيقة ينادي برد السلطان المغتصب إلى الله صاحب الحق وحده في التشريع للناس وفي تقرير الحلال والحرام والمباح وغير المباح، وفي كتاب الصف الثالث لنفس المؤلف صفحة 82 في آخرها ثلاثة أسطر ذكر أن معنى لا إله إلا الله رد السلطة المغتصبة التي يستعبد بها الناس إلى صاحبها الحقيقي إلى الله سبحانه وتعالى رب الجميع. وقد أمسكت عنها فلم أصفها بجواز أو عدمه فأرجو إفادتي.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا نعلم بأسا فيما ذكرته من حيث المعنى، ولكن الأسلوب فيه سوء أدب مع الله؛ لأنه سبحانه لا يستطيع أحد أن يقهره على أخذ حقه بل هو القاهر فوق عباده ولكن المشرك والحاكم بغير ما أنزل الله قد اعتديا على حق الله وحكمه وخالفا شرعه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة هود الآية 84(33/67)
فتوى رقم 8217
س: سمعت بعض الكلمات التي يرددها بعض الناس فأريد أن أعرف ما هو موقف الإسلام من هذه الكلمات على سبيل المثال عندما يتوفى شخص معين يقول بعض الناس: (المرحوم فلان) وإذا كان ذا منصب كبير قالوا: (المغفور له فلان) ، فهل هم اطلعوا على اللوح المحفوظ وعرفوا أن فلانا مغفور له وفلانا مرحوم؛ لذا كان من الواجب علي التساؤل حول هذه النقطة، وقد قال تعالى في كتابه العزيز: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (1) أفتوني.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. وبعد:
جـ: ثبوت مغفرة الله لشخص أو رحمته سبحانه إياه بعد موته من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله تعالى، ثم من أعلمه الله بذلك من ملائكته ورسله وأنبيائه، فإخبار شخص غير هؤلاء عن ميت بأن الله قد غفر له أو رحمه لا يجوز إلا من ورد فيه نص عن المعصوم صلى الله عليه وسلم وبدون ذلك يكون رجما بالغيب، وقد قال الله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (2) ، وقال: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (3) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (4) ، ولكن يرجى للمسلم المغفرة والرحمة ودخول الجنة فضلا من الله ورحمة ويدعى له بالمغفرة والرحمة بدلا من الإخبار عنه بأنه مرحوم مغفور له، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (5)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 187
(2) سورة النمل الآية 65
(3) سورة الجن الآية 26
(4) سورة الجن الآية 27
(5) سورة النساء الآية 48(33/68)
وفي صحيح البخاري عن خارجة بن زيد بن ثابت «أن أم العلاء - امرأة من الأنصار - قد بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في بيوتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل رسول الله، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه، فقلت: بأبي أنت يا رسول الله فمن يكرمه الله؟ فقال: أما هو فقد جاءه اليقين والله إني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي قالت: فوالله لا أزكي أحدا بعد أبدا (1) » ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي (2) » هذا كان قبل أن ينزل الله قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} (3) {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (4) الآية وقبل أن يعلمه سبحانه أنه من أهل الجنة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1243) .
(2) صحيح البخاري الجنائز (1243) ، مسند أحمد بن حنبل (6/436) .
(3) سورة الفتح الآية 1
(4) سورة الفتح الآية 2(33/69)
من الفتوى رقم 8886.
س: لدينا شركة لتعبئة المياه كتبت عبارة على لوحات كبيرة وضعتها(33/69)
على الطرقات العامة للدعاية، وهذه العبارة هي " لا زال في عالمنا بعض هبات الطبيعة " وبجانبها منظر لتدفق الماء من مكان ما، ولقد ذكرتهم أن هذه العبارة لا تصح شرعا؛ حيث إن الذي وهبنا الماء هو الله تبارك وتعالى وحده وليست الطبيعة كما يقول الشيوعيون، قاتلهم الله أو ما هي الطبيعة التي تدعون أنها لها إرادة وهي التي تهب الماء وغيره، ولكنهم ردوا على أن هذه العبارة على طريق المجاز، كقول أحدهم: (بنى الأمير البلدة) ، فما حكم الشرع في هذه العبارة؟ أرجو تبيين ذلك مشكورين، وحيث إن الناس يقرءونها ليلا ونهارا، وربما اعتقد بعضهم بصحتها، وهذا خطر على عقيدتهم، أسأل الله عز وجل أن يرد المسلمين إلى دينهم، وأن يعتقدوا العقيدة الصحيحة التي لا لبس فيها ولا شك.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا يجوز أن يقال ولا أن يكتب: " لا زال في عالمنا بعض هبات الطبيعة " ولو ادعي في ذلك أنه مجاز؛ لأن فيه تلبيسا على الناس، وإيناسا للقلوب بما عليه أهل الإلحاد، إذ لا يزال كثير من الكفرة ينكر الرب، ويسند إحداث الخير والشر إلى غير الله حقيقة، فينبغي للمسلم أن يصون لسانه وقلمه عن مثل هذه العبارات صيانة لنفسه عن مشاركة أهل الإلحاد في شعارهم ومظاهرهم، وبعدا عما يلهجون به في حديثهم حتى يكون طاهرا من شوائب الشرك في سيرته الظاهرة وعقيدته الباطنة، ويجب عليه قبول النصيحة وألا يتمهل لتصحيح خطئه وينتحل الأعذار لتبرير موقفه، فالحق أحق أن يتبع، وقد قال الأول: إياك وما يعتذر منه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/70)
من الفتوى رقم 10751
س: ما حكم الشرع في نظركم في هذه الألفاظ: (يعلم الله) (لا سمح الله) (لا قدر الله) (إرادة الله) (الله ورسوله أعلم) .
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: قوله: (يعلم الله) لا بأس بذلك إذا كان صادقا، وقوله: (لا سمح الله، لا قدر الله) لا بأس به إذا كان المراد بذلك طلب العافية مما يضره، وقوله (إرادة الله) إذا أراد بذلك أن ما أصابه من مرض وفقر ونحو ذلك هو من قدر الله وإرادته الكونية فلا بأس، وقوله: (الله ورسوله أعلم) يجوز في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما بعد وفاته فيقول: الله أعلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاته لا يعلم ما يحدث بعد وفاته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/71)
من الفتوى رقم 4971
س: العين والفم أيهما أشد ذنبا من الآخر؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: قد يكون ما يفعله الإنسان بفمه أشد نكرا وإثما مما يفعله بعينه،(33/71)
فقد يصدر منه الشرك الذي هو أكبر ذنب عصي الله به والقول على الله بغير علم وغير ذلك من كبائر اللسان المعروفة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان الفرج والفم (1) » ، وبذلك يعلم أن الفم أخطر من العين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 2 \ 291 و392 و442، وابن ماجه برقم 4300.(33/72)
من الفتوى رقم 189
س: هل النبي صلى الله عليه وسلم حاضر وناظر " أي يعلم الغيب فالحاضر عنده والغائب سواء "؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الأصل في الأمور الغيبية اختصاص الله بعلمها، قال الله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1) آية 59 من سورة الأنعام، وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (2) آية (65) من سورة النمل،
__________
(1) سورة الأنعام الآية 59
(2) سورة النمل الآية 65(33/72)
لكن الله تعالى يطلع من ارتضى من رسله على شيء من الغيب، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (1) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (2) ، وقال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (3) آية (9) من سورة الأحقاف، وثبت في حديث طويل من طريق أم العلاء أنها قالت: «لما توفي عثمان بن مظعون أدرجناه في أثوابه فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: لا أدري بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي " وقلت: والله لا أزكي بعده أحدا أبدا (4) » رواه أحمد وأخرجه البخاري في كتاب الجنائز من صحيحه، وفي رواية له «ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به (5) » وقد ثبت في أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلمه الله بعواقب بعض أصحابه فبشرهم بالجنة، وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند البخاري ومسلم «أن جبريل سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الساعة فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل (6) » ، ثم لم يزد على أن أخبر بأماراتها فدل على أنه علم من الغيب ما أعلمه الله به دون ما سواه من المغيبات وأخبر به عند الحاجة.
س: أقسام الغيب، وهل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، وهل كان علمه له كليا أو جزئيا؟
جـ: من الغيب ما استأثر الله بعلمه فلم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا كتحديد الوقت الذي يقوم فيه الخلق لله رب العالمين للحساب،
__________
(1) سورة الجن الآية 26
(2) سورة الجن الآية 27
(3) سورة الأحقاف الآية 9
(4) صحيح البخاري المناقب (3929) ، مسند أحمد بن حنبل (6/436) .
(5) صحيح البخاري الجنائز (1243) ، مسند أحمد بن حنبل (6/436) .
(6) صحيح البخاري الإيمان (50) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .(33/73)
فإنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (1) سورة الأعراف، وقال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} (2) سورة الأحزاب، وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} (3) {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} (4) {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} (5) {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (6) النازعات، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما، الحديث الطويل المشهور «أن جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل (7) » ثم أخبره بأماراتها.
ومن الغيب ما أعلمه الله بعض عباده كالأمور المستقبلة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فكانت معجزة له وآية من آيات الله خص الله بها رسوله وهي داخلة في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (8) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (9) سورة الجن، وفي قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} (10) سورة آل عمران، وبهذا يتبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم الغيب علما كليا وإنما كان يعلمه علما جزئيا في حدود ما أطلعه الله عليه كشأنه في ذلك شأن إخوانه النبيين، والمقصود الإيضاح بالمثال لا للاستقصاء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 187
(2) سورة الأحزاب الآية 63
(3) سورة النازعات الآية 42
(4) سورة النازعات الآية 43
(5) سورة النازعات الآية 44
(6) سورة النازعات الآية 45
(7) صحيح البخاري الإيمان (50) ، صحيح مسلم الإيمان (10) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4991) ، سنن ابن ماجه المقدمة (64) ، مسند أحمد بن حنبل (2/426) .
(8) سورة الجن الآية 26
(9) سورة الجن الآية 27
(10) سورة آل عمران الآية 179(33/74)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(33/75)
من الفتوى رقم 1552
س: في عدد العربي 205 ص 45 التاريخ ديسمبر 1975 م في سؤال وجواب أثبت أن الرجل هو الذي يحدد نوع الجنين، فما موقف الدين من هذا؟
وهل يعلم الغيب أحد غير الله؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: إن الله سبحانه وتعالى هو وحده الذي يصور الحمل في الأرحام كيف يشاء فيجعله ذكرا أو أنثى كاملا أو ناقصا، إلى غير ذلك من أحوال الجنين، وليس ذلك إلى أحد سوى الله سبحانه؟ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) ، وقال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} (2) {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (3) فأخبر سبحانه أنه وحده الذي له ملك السماوات والأرض وأنه الذي يخلق ما يشاء فيصور الحمل في الأرحام كيف يشاء من ذكورة أو
__________
(1) سورة آل عمران الآية 6
(2) سورة الشورى الآية 49
(3) سورة الشورى الآية 50(33/75)
أنوثة، وعلى أي حال شاء من نقصان أو تمام ومن حسن وجمال أو قبح ودمامة إلى غير ذلك من أحوال الجنين ليس ذلك إلى غيره ولا إلى شريك معه، ودعوى أن زوجا أو دكتورا أو فيلسوفا يقوى على أن يحدد نوع الجنين دعوى كاذبة، وليس إلى الزوج ومن في حكمه أكثر من أن يتحرى بجماعه زمن الإخصاب رجاء الحمل، وقد يتم له ما أراد بتقدير الله وقد يتخلف ما أراد، إما لنقص في السبب أو لوجود مانع من صديد أو عقم أو ابتلاء من الله لعبده، وذلك أن الأسباب لا تؤثر بنفسها وإنما تؤثر بتقدير الله أن يرتب عليها مسبباتها، والتلقيح أمر كوني ليس إلى المكلف منه أكثر من فعله بإذن الله، وأما تصريفه وتكييفه وتسخيره وتدبيره بترتيب المسببات عليه فهو إلى الله وحده لا شريك له، ومن تدبر أحوال الناس وأقوالهم وأعمالهم تبين منهم المبالغة في الدعاوى والكذب والافتراء في الأقوال والأفعال جهلا منهم وغلوا في اعتبار العلوم الحديثة وتجاوزا للحد في الاعتداد بالأسباب، ومن قدر الأمور قدرها ميز بين ما هو من اختصاص الله منها وما جعله الله إلى المخلوق بتقدير منه لذلك سبحانه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/76)
من الفتوى رقم 4910
س: يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (1) ،
__________
(1) سورة لقمان الآية 34(33/76)
من ضمن الآية الكريمة أن الله يقول: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} (1) لقد صار بيني وبين أحد الأصدقاء نقاش كبير حول هذه الآية، فلقد قال لي: إن العلم الحديث والأطباء قد توصلوا لمعرفة ما في رحم المرأة هل هو ذكر أم أنثى بواسطة الأشعة، وقلت له: الله سبحانه يقول {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} (2) هل معنى الآية أن العلم لم يكتشف ما في الأرحام أم أن الآية تفسيرها غير ذلك؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: ثبت في الأحاديث الصحيحة أن مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، وأنها المذكورة في الآية المسئول عنها، من ذلك ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله (4) » ، وفي رواية له عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفاتيح الغيب خمس ثم قرأ: (6) » رواه الإمام أحمد عنه وعن ابن مسعود بمعناه، وروي من طرق أخرى تؤيد ما دلت عليه الآية، ومعنى الآية أن الله تعالى استأثر بعلم الساعة فلا يجليها لوقتها إلا هو، فلا يعلمها لميقاتها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وقد أعلمهم الله بأماراتها، ولا يعلم متى ينزل الغيث ولا في أي مكان ينزل إلا الله، وقد يعرف ذلك أهل الخبرة عند وجود الأمارات وانعقاد الأسباب علما تقريبيا إجماليا يشوبه شيء من التخمين وقد يتخلف، واختص سبحانه أيضا بعلم ما في الأرحام تفصيلا من
__________
(1) سورة لقمان الآية 34
(2) سورة لقمان الآية 34
(3) صحيح البخاري التوحيد (7379) ، مسند أحمد بن حنبل (2/24) .
(4) سورة لقمان الآية 34 (3) {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
(5) صحيح البخاري التوحيد (7379) ، مسند أحمد بن حنبل (2/24) .
(6) سورة لقمان الآية 34 (5) {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ}(33/77)
جهة تخلقه وعدم تخلقه ونموه وبقائه لتمام مدته وسقوطه قبلها حيا أو ميتا وسلامته وما قد يطرأ عليه من آفات دون أن يكسب علمه بذلك من غيره أو يتوقف على أسباب أو تجارب بل يعلم ما سيكون عليه قبل أن يكون وقبل أن تكون الأسباب، فإن مقدر الأسباب وموجدها عليم لا يتخلف ولا يختلف عنه الواقع وهو الله سبحانه، وقد يطلع المخلوق على شيء من أحوال ما في الأرحام من ذكورة أو أنوثة أو سلامة أو إصابته بآفة أو قرب ولادة أو توقع سقوط الحمل قبل التمام لكن ذلك بتوفيق من الله إلى أسباب ذلك من كشف بأشعة لا من نفسه ولا بدون أسباب وذلك بعدما يأمر الله الملك بتصوير الجنين، ولا يكون شاملا لكل أحوال ما في الرحم بل إجمالا في بعضه مع احتمال الخطأ أحيانا، ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا من شئون دينها ودنياها، فهذا أيضا مما استأثر الله بعلمه تفصيلا، وقد يتوقع الناس كسبا أو خسارة على وجه الإجمال مما يبعث فيهم أملا وإقداما على السعي أو خوفا وإحجاما بناء على أمارات وظروف محيطة بهم، فكل هذا لا يسمى علما، وكذا لا تدري نفس بأي أرض تموت في بر أو بحر في بلدها أو بلد آخر إنما يعلم تفصيل ذلك الله وحده؛ فإنه سبحانه له كمال العلم والإحاطة بجميع الشئون علنها وغيبها ظاهرها وباطنها.
وجملة القول: إن علم الله من نفسه غير مكتسب من غيره ولا متوقف على أسباب وتجارب، وأنه يعلم ما كان وما سيكون وأنه لا يشوب علمه غموض ولا يخلف، وأنه عام شامل لجميع الكائنات تفصيلا جليلها ودقيقها بخلاف غيره سبحانه، والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/78)
من الفتوى رقم 5113
س: إذا قلنا لإخواننا هنا: إن علم الغيب خاص بالله تعالى فلا يعلم الغيب رسول ولا ملك قالوا لنا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، وهذا القرآن الذي جاء به هو غيب و. . و. . و. . ويستدلون أيضا بقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (1) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (2) ، والرسول ممن ارتضاه الله يعلم الغيب، فما رد فضيلتكم في هذا؟ وهل يجوز القول بأن الرسول يعلم الغيب استنادا إلى هذه الآية؟ الرجاء من معاليكم الرد على هذا السؤال.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: علم الغيب خاص بالله تعالى لقوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (3) وقوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (4) ، لكنه سبحانه يطلع من يشاء من عباده كالملائكة والأنبياء والمرسلين على ما شاء من غيبه لقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (5) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (6) ، ومن ذلك ما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي ومنه القرآن، وكذلك شأن الله مع أنبيائه ورسله السابقين غير أن علمهم ذلك ليس لهم من أنفسهم بل بإعلام الله إياهم، ثم إن هذه النصوص لا تدل على أن أنه تعالى علمهم كل غيب
__________
(1) سورة الجن الآية 26
(2) سورة الجن الآية 27
(3) سورة النمل الآية 65
(4) سورة الأعراف الآية 188
(5) سورة الجن الآية 26
(6) سورة الجن الآية 27(33/79)
وإنما تدل على أنه علمهم ما شاء منه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/80)
من الفتوى رقم 7443
س: لماذا اختلف الأئمة الأربعة في بعض الأمور الشرعية؟ هل الرسول يعرف بأن هؤلاء سيأتون بعده؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعرف أو لا يعرف أن الأئمة الأربعة رحمهم الله سيأتون بعده لأنه لا يعلم الغيب وإنما يعلم ما علمه الله. أما أسباب اختلاف العلماء فكثيرة، منها أن كل واحد منهم لا يحيط بالعلم كله فقد يخفى عليه ما علم غيره، وقد يفهم من النصوص ما لا يفهمه غيره عندما يختفي عليه الدليل الواضح، وقد بسط الكلام في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه " رفع الملام " فراجعه تجد المطلوب واضحا إن شاء الله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/80)
من الفتوى رقم 3552
س: ما حكم زيارة المرابطين الذين يزعمون علم الغيب ما حكم الشرع فيهم ومن سكت عنهم ومن زارهم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: علم الغيب من اختصاص الله جل وعلا، ومن ادعى علم الغيب من الناس فقد ادعى لنفسه ما هو من اختصاص الله جل وعلا وجعل نفسه شريكا له في ذلك، وقد يظهر الله ما شاء من الغيب لمن ارتضاه من رسله، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (1) ، وقال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (2) ، وقال تعالى. {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (3) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (4) ، فقد دلت هذه الآيات على أنه جل وعلا منفرد بالغيب دون خلقه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على ثبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب الحصى وينظر في الكتب ويزجر الطير ويدير علم الغيب ممن ارتضاه من الرسل فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه.
وبهذا يعلم أن زيارتهم محرمة وأنهم كفار، ولا يجوز السكوت عنهم ولا عمن زارهم بل الواجب بيان الحق للكل أداء للأمانة وبراءة للذمة ونصحا للأمة.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 59
(2) سورة النمل الآية 65
(3) سورة الجن الآية 26
(4) سورة الجن الآية 27(33/81)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/82)
من الفتوى رقم 3502
س: قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (1) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (2) فهل الولي من أمة الرسول تابع له في علم الغيب؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: إن الله سبحانه حكم بأن علم الأمور الغيبية خاص به فقال:
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (3) ولم يستثن من ذلك إلا من ارتضى من رسله فيظهره على ما شاء من الغيب، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (4) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (5) ، فمن ادعى من أمم الأنبياء والمرسلين أنه يعلم الغيب فهو كاذب، ومن زعم أن أحدا من الأولياء والصالحين أتباع الرسل عقيدة وعملا يعلم الغيب
__________
(1) سورة الجن الآية 26
(2) سورة الجن الآية 27
(3) سورة النمل الآية 65
(4) سورة الجن الآية 26
(5) سورة الجن الآية 27(33/82)
فهو مخطئ كاذب لمخالفته ما نزل من آيات القرآن وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث الدالة على اختصاص الله تعالى بعلم المغيبات.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/83)
من الفتوى رقم 41
س: أفتونا عن الملائكة الموكلين بالإنسان لإحصاء أعماله في مدة الحياة وهم " رقيب " و " وعتيد " عندما يموت الإنسان هل يموت الملكان أو أين يكون مصيرهما بعد وفاة الإنسان؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: أحوال الملائكة وشئونهم من الغيبيات، ولا تعرف إلا من قبل السمع ولم يرد نص في موت كتبة الحسنات والسيئات عند موت من تولوا كتابة حسناته وسيئاته، ولا نص ببقاء حياتهم ولا عن مصيرهم، وذلك إلى الله وليس ما سئل عنه مما كلفنا اعتقاده، ولا يتعلق به عمل، فالسؤال عن ذلك دخول فيما لا يعني، لذا ننصح السائل أن لا يدخل فيما لا يعنيه، ويبذل جهده في السؤال عما يعود عليه وعلى المسلمين بالنفع في دينهم ودنياهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/83)
من الفتوى رقم 5611
س: هل رأى محمد ربه تبارك وتعالى ليلة الإسراء؟
ج: لم ير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ربه في الدنيا بعيني رأسه على الصحيح من قولي العلماء في ذلك، وإنما رأى جبريل عليه السلام على صورته معترضا الأفق، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (1) {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} (2) {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} (3) {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} (4) {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (5) {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} (6) {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (7) {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} (8) {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} (9) {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} (10) {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (11) {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} (12) {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} (13)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النجم الآية 5
(2) سورة النجم الآية 6
(3) سورة النجم الآية 7
(4) سورة النجم الآية 8
(5) سورة النجم الآية 9
(6) سورة النجم الآية 10
(7) سورة النجم الآية 11
(8) سورة النجم الآية 12
(9) سورة النجم الآية 13
(10) سورة النجم الآية 14
(11) سورة النجم الآية 15
(12) سورة النجم الآية 16
(13) سورة النجم الآية 17(33/84)
فتوى رقم 6506
س: أنا شاب مسلم في بدء الالتزام وتعرضني تبعات من الشيطان كثيرة كلما استطعت أن أتغلب عليها أتى لي بواحدة أخرى، وبعد ما كنت قد وصلت مرحلة طيبة من الالتزام وكنت أرى بحمد الله وبمنه علي أني أحسن قليلا من الذين هم حولي بدأت أرى الناس الذين كنت أراهم أقل مني التزاما(33/84)
أراهم الآن أحسن مني وأسبق مني إلى طاعة الله، وأنظر إلى نفسي فأجد نفسي في انحدار شديد بعيدا عن الالتزام الذي كنت فيه، وإني أقاوم نفسي والشيطان بكل طريقة ولا أجد من يشعر بما يمزق صدري وقلبي من الداخل أو من أفضي إليه بما يدور في نفسي من أباطيل يضعها الشيطان في صدري، وإن هذا الوسواس لا يتركني لحظة واحدة في كل حركة وفي كل سجدة في المسجد وفي الشارع وفي المنزل وفي المدرسة، فهل من أحد يقف بجانبي أمام هذا الشيطان، فهل من أحد يسخره الله في مساعدتي؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: ننصحك بترك الوساوس والإعراض عنها والإكثار من تلاوة القرآن والأعمال الصالحة واللجوء إلى الله والتضرع إليه ودعائه سبحانه أن يدفع عنك كيد الشيطان، ويثبتك على الحق، ويسدد خطاك، فإنه سبحانه بيده نواصي العباد جنهم وإنسهم يصرفها كيف يشاء، وإياك والإعجاب بعبادتك والاغترار بحسن سلوكك وكثرة أعمالك الصالحات، ولا تنظر في العبادة وشئون الآخرة إلى من هو دونك؛ فإن ذلك مدرجة للغرور وقلة الأعمال الصالحات والتباطؤ عنها ولعب الشيطان على المسلم وتثبيط همته عن الخير وانظر إلى من هو فوقك في الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتمسك بذلك والحرص عليه فإنها أدعى إلى الازدياد من الأعمال الصالحات والمسارعة إلى مغفرة الله ورحمته والنهوض إلى الدرجات العلى والنعيم المقيم، عسى الله أن يثبتك على الحق ويهديك سواء السبيل ويزيل عنك الوساوس.
وننصحك أيضا بقراءة كتاب تلبيس إبليس تأليف أبي الفرج بن الجوزي فإنه غني بالكتابة في الموضوع، ونرجو أن ينفعك الله بقراءته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/85)
من الفتوى رقم 8691
س: أنوي أصلي وأصوم وأقرأ القرآن وأحاول جاهدا أن أنفذ أوامر القرآن والسنة ولكني يدخلني شعور أني ما أفعل إلا ليقال أنه رجل متدين، وهذا الشعور قد يجعلني أترك أمورا خوفا منه، فكيف أتخلص منه؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: عليك بأداء شعائر الإسلام امتثالا لأمر الله وطلبا لمثوبته ولا تلتفت إلى ما ينتابك من الوسوسة بأن عملك هذا رياء، وحارب ذلك ما استطعت.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/86)
من الفتوى رقم 7349
س: أنا شاب في سن التاسعة عشرة ولله الحمد أؤدي الصلوات كلها في المسجد جماعة، وحتى صلاة الفجر، وبعض الأحيان أؤذن في المسجد وأحفظ حوالي ستة أجزاء من القرآن، ولكن هناك شيء يضايقني هو أنني عندما أخلو بنفسي أي أجلس في الغرفة لوحدي أو عندما أنام أتخيل أو أتصور والعياذ بالله(33/86)
أنني سافرت إلى لندن وأنني ارتكبت الزنا وصحبت بنات السوء، فهل علي إثم في ذلك بالرغم من أنه لا يؤثر علي فأعمل العادة السرية إلا نادر؛ فإنني أخاف أن ينطبق علي الحديث الذي فيما معناه أن من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر زاده الله بعدا.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: أولا الوسوسة وأحاديث القلب فيما ذكر لا يؤخذ بها المسلم لما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به (1) » .
ثانيا: الاستمناء باليد المسمى العادة السرية حرام.
ثالثا: الحديث الذي ذكرت ضعيف لكن معناه مشهور عن جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ونرجو ألا تشغلك الوساوس ما دمت مبتعدا عن المعاصي.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) البخاري برقم 5269، ومسلم برقم 127 في النسخة المرقمة.(33/87)
من الفتوى رقم 7484
س: كيف أتخلص من وسواس الشيطان في الصلاة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: لا تتبعه فيما يوسوس به لك في صلاتك بل أعرض عنه واشغل نفسك بتدبر ما تقرأ من القرآن والتفكر في عظمة الله وجلاله في التكبير والتسبيح والتحميد في قيامك وركوعك وسجودك وجلوسك للتشهد وسائر الأقوال والأفعال المشروعة في صلاتك، ولتستعذ بالله منه ثلاث مرات، ولتنفث مع ذلك عن يسارك.
س: إذا عملت عمل خير أجد وسواسا بحب السمعة وحب مدح الناس، ولكنني لا ألبث أن أذكر الله بسرعة وأستعيذ بالله من هذا الوسواس ومن الرياء والسمعة فيزول هذا الوسواس بإذن الله، فهل يحاسبني الله على هذا الوسواس الذي هو خارج إرادتي، وهل هذا ناتج من ضعف الإيمان عندي فماذا يجب علي؟
ج: إذا كان الواقع ما ذكرت من الوسوسة وصدك عنها بسرعة واستعاذتك بالله من شرها وشر الشيطان فنرجو أن يشملك الله بعفوه ورحمته وأن يرزقنا وإياك الإخلاص في القول ويحفظنا من كيد الشيطان ونزغاته.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/88)
فتوى رقم 7654
س: أرجو من حضرتكم قراءة رسالتي هذه كاملة للتعرف على استفساراتي: متى يرتد الشخص والعياذ بالله؟ قد يبدو سؤالي غريبا ولكنه محيرني أشد الحيرة، في بعض الأحيان قد تنتابني الوساوس في بعض تصرفاتي وأفعالي مصورة هذه الأفعال على أنها أفعال تدل على الردة والعياذ بالله، أحب أن أعلمكم بأن قلبي والحمد لله مطمئن تماما بالإيمان، إنما تساورني الشكوك كما ذكرت في كل عمل أقوم به أو قبل أن أقول به على سبيل المثال: إذا تحدثت لشخص أو عدة أشخاص تداخلني الشكوك قبل أن أنطق الكلمة بأن هذه الكلمة قد تدل على الكفر والعياذ بالله، فأتردد في كلامي وأتلعثم وأحيانا لا أجد فرصة في مراجعة نفسي في أن أقولها أو لا أقولها، ونظرا للإحراج واستمراري في كلامي تخرج الكلمة مني قهرا دون أن أقصد بها الكفر والعياذ بالله، فتداخلني الوساوس، هل أكون وقتها كمن ارتد؟ أعوذ بالله من ذلك، ومما يزيد وساوسي أني قد شعرت بالكلمة قبل أن أقولها، فهل أكون كمن أجبر على الكفر؟ حيث إن عيون الأشخاص الذين أتحدث معهم معلقة منتظرة مني مواصلة الحديث، ثم أجد أن هذه حجة واهية فتزداد شكوكي، ورغم هذا أشعر بأنني لن أترك هذا الدين أبدا مهما عذبت، فكيف بي في تلك اللحظات أثناء الحديث؟ إنه شعور غريب ينتابني ويقض مضجعي، وإذا حاولت أن أتغاضى عن ذلك لا أستطيع حيث تداخلني الشكوك مرة أخرى، هل يجب علي الآن أن أغتسل كمن أراد الدخول في الإسلام فلا تصح صلاتي إلا بذلك؟ وهل تلغى كل أعمالي الصالحة السابقة كمن ارتد والعياذ بالله؟ فيجب علي مثلا أن أعيد أداء فريضة الحج، ومما يحدث لي أيضا في حالات الضيق أو الغضب أن أجد نفسي تندفع برغبة نحو أفكار معينة (لا أستطيع ذكرها) ثم لا ألبث أن أتمالك أعصابي وأحاول التخلص من هذه الأفكار، فهل يعتبر ذلك(33/89)
كفرا والعياذ بالله، ومما أريد أن أقوله أني قرأت حديثا شريفا بما معناه أنه إذا كفر مسلم أخاه قد باء به أحدهما، فهل معنى هذا أن المسلم لو كفر شخصا آخر فقد كفر أي أصبح حكمه كحكم المرتد تماما، فكيف إذا شعرت بأن ذلك الشخص مثلا كافر ولم أصرح بذلك؟ وأريد أن أسأل أيضا: هل يعتبر الاعتقاد في بعض الخرافات كرقم النحس (13) أو التشاؤم من يرمي الأظافر على الأرض وغيرها من هذه الخرافات هل تعتبر كفرا؟ علما بأن المعتقد بها مسلم تماما ومؤمن بكل ما جاء في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا تاب الشخص ولم يعتقد بها هل يكون كمن دخل الإسلام؟ أي يجب عليه الاغتسال ونحوه، ثم أريد أن أسأل: هل تعتبر وساوسي وشكوكي في نفسي هذه مهما بلغت ذنبا أؤاخذ عليه أم لا؟ علما بأنني أقضي أحيانا ساعات في التفكير فيها محاولا التخلص منها، ولن أطيل رسالتي أكثر من هذا، وأضع هذا السؤال إجمالا لكل ما شق وهو: متى يرتد الشخص؟ لا أريد أن أسأل كيف يعرف المرتد إنما كيف يعرف الإنسان نفسه إذا ارتد والعياذ بالله؟ كما أريد أن أسأل: هل يجب على المرتد إن أراد العودة إلى الإسلام أن يغتسل مثله مثل الكافر إذا أسلم حتى ولو لم يجنب في فترة ارتداده، وسؤال آخر: الحج فريضة تؤدى مرة واحدة في العمر باستثناء حالة الردة والعياذ بالله، هل توجد حالات أخرى يصبح فيها على المسلم فرضا أن يحج مرة ثانية؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: أولا: للإسلام نواقض كثيرة بينها العلماء في باب حكم المرتد، ومن ارتد عن الإسلام ثم عاد إليه لا يحبط ما سبق أن عمله أيام إسلامه من الأعمال الصالحات لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) فاشترط سبحانه في إحباط الأعمال موت صاحبها على الكفر.
__________
(1) سورة البقرة الآية 217(33/90)
ثانيا: الخواطر النفسية والوساوس الشيطانية لا يؤاخذ بها المسلم ولا يرتد بها عن الإسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها (1) » متفق على صحته.
ثالثا: ادفع عنك الوساوس والخواطر الخبيثة واستعذ بالله منها وأكثر من ذكر الله وتلاوة القرآن ومخالطة الأخيار، وعالج نفسك عند دكتور الأمراض النفسية والعصبية، واتق الله ما استطعت والجأ إليه في كل ما أصابك ليكشف عنك الغمة ويزيل ما بك من الكرب، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (3)
نسأل الله لك الشفاء وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الطلاق (5269) ، صحيح مسلم الإيمان (127) ، سنن الترمذي الطلاق (1183) ، سنن النسائي الطلاق (3433) ، سنن أبو داود الطلاق (2209) ، سنن ابن ماجه الطلاق (2040) ، مسند أحمد بن حنبل (2/491) .
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 3(33/91)
من الفتوى رقم 7811
س: إذا كان المسلم مصابا بكثرة النسيان فما الدعاء الذي يقوله إذا أصيب بالوسوسة وكثرة الهواجيس وضيق الصدر، هل هناك دعاء ورد عنه صلى الله عليه وسلم يقوله من أصيب بهذه الأشياء؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: يذكر الله تعالى كثيرا أو يستعيذ به من الشيطان لما رواه البخاري(33/91)
ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته (1) » ، وفي رواية لمسلم فليقل: «آمنت بالله (2) » ، وروى مسلم عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي يلبسها علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك الشيطان يقال له خنزب، فإذا وجدته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني (3) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري بدء الخلق (3276) ، صحيح مسلم الإيمان (134) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (134) ، سنن أبو داود السنة (4721) ، مسند أحمد بن حنبل (2/331) .
(3) الإمام أحمد 4 \ 216، ومسلم برقم 2203، وعبد بن حميد في المنتخب رقم 380.(33/92)
فتوى رقم 8440
س: تعرفت على أصدقاء وكانوا نصارى فدعوتهم إلى الإسلام فوافقوا ولكن على شرط أن أجيب على سؤال منهم هو أنهم يعترفون أن الله سبحانه هو خالق السماوات والأرض وما بينهما وهو خالق كل شيء، ولكنهم يسألون مم تكون الله وكيف تكون؟ ومن خلقه؟
وعندما سألوني هذه الأسئلة أحرجت جدا وخرجت ولم أعد إليهم ثانية.
أرجو إفتائي في هذا الأمر، وما هو الجواب الذي يليق بمقام الله سبحانه(33/92)
وتعالى، والذي أستطيع أن أقوله لهم وبدون إحراج وجزاكم الله خيرا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: إن هذه الأسئلة من إلقاء الشيطان ووسوسته يوحي بها إلى أتباعه من شياطين الإنس وغيرهم ليضلهم عن الصراط المستقيم. والله تبارك وتعالى هو الأول فليس قبله شيء وهو الآخر فليس بعده شيء. وهو واحد لا مثل له ولا شبيه ولا والد ولا ولد ولم يكن له كفوا أحد، وثبت في صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا: هذا الله خلقنا فمن خلق الله؟ فقال أبو هريرة - وهو آخذ بيد رجل -: صدق الله رسوله قد سألني اثنان وهذا الثالث (1) » ، وفي رواية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس يسألونك يا أبا هريرة حتى يقولوا: هذا الله فمن خلق الله؟ قال: فبينما أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب فقالوا: يا أبا هريرة: هذا الله فمن خلق الله؟ قال: فأخذ حصى بكفه فرماهم ثم قال: " قوموا قوموا صدق خليلي (2) » ، وفي الصحيحين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك ليستعذ بالله ولينته (3) » ، وفي رواية أخرى قال: «لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا: خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله (4) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه ج 1 ص 120 حديث 135.
(2) مسلم في صحيحه 1 \ 121 حديث 135.
(3) البخاري برقم 3276 الفتح، ومسلم ج 1 ص 120 رقم 134، والنسائي في عمل اليوم والليلة برقم 663.
(4) رواه البخاري برقم 7296، ومسلم ج 1 ص 119، وأبو داود برقم 4721، واللفظ لهما، والنسائي في عمل اليوم والليلة برقم 662.(33/93)
وأخرج أبو داود الرواية الأخيرة، وله أيضا نحوه وقال: «فإذا قالوا ذلك فقولوا: ثم ليتفل عن يساره ثلاثا وليستعذ من الشيطان (5) »
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أبو داود برقم 4722، والنسائي في عمل اليوم والليلة برقم 661.
(2) سورة الإخلاص الآية 1 (1) {اللَّهُ أَحَدٌ}
(3) سورة الإخلاص الآية 2 (2) {اللَّهُ الصَّمَدُ}
(4) سورة الإخلاص الآية 3 (3) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}
(5) سورة الإخلاص الآية 4 (4) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}(33/94)
من الفتوى رقم 8894
س: إنني أعيش في هذه الفترة وأنا لا أعرف كيف أصنع فإن إخلاص النية لله أمر ليس بالسهل والهين فإن إخلاص النية لله من الفروض الواجبة؛ ولذلك كان أحد الصحابة يقول: إن الإخلاص عزيز، ولذلك فإنه كيف يصنع الإنسان حتى يكون مخلصا لله؟ ماذا يصنع الإنسان حتى تكون دراسة العلم والحصول على أعلى الدرجات والمراكز يكون ذلك من أجل الله؟ ماذا يصنع الإنسان حتى يقف الإنسان في صلاته مستشعرا عظمة الله سبحانه وتعالى؟ إنني آت في صلاتي وأخرج منها ولا شيء، وكأنني لم أكن واقفا بين يدي جبار السماوات والأرض حتى إنني أخشى أن يكون غضبي عندما أرى منكرا حمية فقط وليس خالصا لله، وإنني هنا ليس معنى كلامي أنني أسأل ذلك الأمر سمعة أو رياء فليس معنى أن العمل به رياء أو سمعة أنه خالص لوجه الله فيمكن أن يكون فعله ليس من أجل شيء، ولكني أصنعه فقط لأنني أريد أن أفعل ذلك الأمر أن أصوم مثلا أو أقوم بالليل، أرجو من فضيلتكم أن توضح(33/94)
لي الأمر بعد أن تحدث معي في هذا الأمر أخ وقال لي: إن العمل يمكن أن يفعله الإنسان، وهذا الأمر بعيد عن الرياء والسمعة ولا يكون خالصا لوجه الله أن يصلي بالليل، لماذا؟ لأنه يريد أن يفعل ذلك فقط. أرجو من فضيلتكم توضيح ذلك الأمر لي.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: اجتهد في إسلام وجهك لله، وأخلص قلبك له، واقصد بعملك أن تنال رضاه وأن يثيبك عليه، وارج الله والدار الآخرة، ودع عنك الوسوسة، وادفع كيد الشيطان فإنه يريد أن يقلق راحتك ويملأك بالشكوك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/95)
من الفتوى رقم 9306
س: دائما أجد نفسي في شك (وسواس) مستمر في صلاتي، في صيامي، شعور يلازمني باستمرار وأحيانا يتطرق الشك إلى عدم وجود الله وتفاهة الصلاة وغيرها، فهل الوسواس مرض عضوي أم نفسي أم تطبع؟ وهل لي ذنب في ذلك؟ وما موقفي من الله يوم القيامة؟ وهل أجد في الإسلام علاجا للشك والوسواس؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: هذه الشكوك والوساوس التي تنتابك من الشيطان، فعليك الإعراض عنها وعدم الالتفات إليها والاستعاذة بالله من الشيطان والإكثار من(33/95)
قول: (آمنت بالله ورسله) والاستعاذة بالله من الشيطان كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك من وقع في مثل هذه الوساوس.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/96)
من الفتوى رقم 1674
س: ما حكم الإسلام في الأحزاب وهل تجوز الأحزاب بالإسلام، مثل حزب التحرير، وحزب الإخوان المسلمين؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: لا يجوز أن يتفرق المسلمون في دينهم شيعا وأحزابا يلعن بعضهم بعضا ويضرب بعضهم رقاب بعض، فإن هذا التفرق مما نهى الله عنه، وذم من أحدثه أو تابع أهله وتوعد فاعليه بالعذاب العظيم، وقد تبرأ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم منه، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (1) ، إلى قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) ، الآيات، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (3) {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (4) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 103
(2) سورة آل عمران الآية 105
(3) سورة الأنعام الآية 159
(4) سورة الأنعام الآية 160(33/96)
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعضكم (1) » ، والآيات والأحاديث في ذم التفرق في الدين كثيرة.
أما إن كان ولي أمر المسلمين هو الذي نظمهم ووزع بينهم أعمال الحياة ومرافقها الدينية والدنيوية ليقوم كل بواجبه في جانب من جوانب الدين والدنيا فهذا مشروع، بل واجب على ولي أمر المسلمين أن يوزع رعيته على واجبات الدين والدنيا على اختلاف أنواعها، فيجعل جماعة لخدمة علم الحديث من جهة نقله وتدوينه وتمييز صحيحه من سقيمه. . إلخ، وجماعة أخرى لخدمة فقه متونه تدوينا وتعلما، وثالثة لخدمة اللغة العربية قواعدها ومفرداتها وبيان أساليبها والكشف عن أسرارها، وإعداد جماعة رابعة للجهاد وللدفاع عن بلاد الإسلام وفتح الفتوح وتذليل العقبات لنشر الإسلام، وأخرى للإنتاج صناعة زراعة وتجارة. . إلخ. فهذا من ضرورات الحياة التي لا تقوم للأمة قائمة إلا بها، ولا يحفظ الإسلام ولا ينتشر إلا عن طريقه، هذا مع اعتصمام الجميع بكتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الخلفاء الراشدون وسلف الأمة ووحدة الهدف وتعاون جميع الطوائف الإسلامية علي نصرة الإسلام والذود عن حياضه وتحقيق وسائل الحياة السعيدة، وسير الجميع في ظل الإسلام وتحت لوائه على صراط الله المستقيم، وتجنبهم السبل المضلة والفرق الهالكة، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) .
س: أيهما أفضل: العمل للإسلام من خلال السياسة أم العمل للإسلام من خلال دعوة الناس إلى العودة إلى طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
ج: الواجب العمل للإسلام بدعوة الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على المنهاج الذي أرشد الله إليه وأمر به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم في قوله:
__________
(1) صحيح البخاري العلم (121) ، صحيح مسلم الإيمان (65) ، سنن النسائي تحريم الدم (4131) ، سنن ابن ماجه الفتن (3942) ، مسند أحمد بن حنبل (4/358) ، سنن الدارمي المناسك (1921) .
(2) سورة الأنعام الآية 153(33/97)
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ، وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (2) ، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم طريق الدعوة إلى الله بقوله وكتبه وعمله فقال: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (3) » ، رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن، وقال لمعاذ حينما بعثه إلى اليمن: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم ترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب (4) » ، رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن، وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه حينما أعطاه الراية يوم غزوة خيبر: «أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم (5) » رواه البخاري ومسلم.
وكتب عليه الصلاة والسلام إلى ملوك الأمم يدعوهم إلى الإسلام ويأمرهم بعبادة الله وحده وذكر في كتبه إلى أهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (6) ،
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .
(4) البخاري برقم 1458 و 1496 و 4347، ومسلم برقم 19، وأبو داود برقم 1584، والترمذي برقم 625 وليس في المجتبى 5 \ 55، وأحمد 1 \ 233،
(5) الإمام أحمد 5 \ 333، والبخاري برقم 2942 و 3009 و 4210، ومسلم برقم 2406.
(6) سورة آل عمران الآية 64(33/98)
ووعدهم الأجر مضاعفا إن استجابوا وأنذرهم عقوبة إثمهم وإثم أممهم إن هم أعرضوا، ودعا إلى الإسلام بعمله، فكان مثال الكمال في توحيد الله وعبادته وفي أعلى درجات مكارم الأخلاق في سيرته ومعاملاته للناس، لا يغضب لنفسه ولا ينتقم لها إنما يغضب إذا انتهكت محارم الله، وكان كما وصفه الله في كتابه الكريم بالمؤمنين رءوف رحيم وقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1) إلى غير ذلك من بيانه عليه الصلاة والسلام لمنهاج الدعوة بقوله وكتابته وعمله، فهذه سياسة الدعوة المحمدية الرشيدة الحكيمة الرحيمة رسمها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى دعاة الجماعات الإسلامية أن يسلكوا سبيلها سبيل الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ينزلوا كل من يدعونهم منزلته ويخاطبوا كلا بما يفهم عسى الله أن ينصر بهم دينه ويوجه سهامهم إلى نحور أعدائهم لا إلى إخوانهم فإنه مجيب الدعاء.
س: هل يجوز وقوف دقيقة مثلا مع الصمت تحية للشهداء حيث إنه عندما تبدأ حفلة معينة يقف الناس دقيقة مع الصمت حدادا أو تشريفا لأرواح الشهداء؟
ج: ما يفعله بعض الناس من الوقوف زمنا مع الصمت تحية للشهداء أو الوجهاء أو تشريفا وتكريما لأرواحهم وحدادا عليهم - من المنكرات والبدع المحدثة التي لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أصحابه ولا السلف الصالح ولا تتفق مع آداب التوحيد لإخلاص التعظيم له، بل اتبع فيها بعض جهلة المسلمين بدينهم من ابتدعها من الكفار وغلوهم في عاداتهم القبيحة وغلوهم في رؤسائهم ووجهائهم أحياء وأمواتا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم.
__________
(1) سورة القلم الآية 4(33/99)
والذي عرف في الإسلام من حقوق أهله الدعاء لأموات المسلمين والصدقة عنهم وذكر محاسنهم والكف عن مساويهم. . إلى كثير من الآداب التي بينها الإسلام وحث المسلم على مراعاتها مع إخوانه أحياء وأمواتا، وليس منها الوقوف حدادا مع الصمت تحية للشهداء أو الوجهاء بل هذا مما تأباه أصول الإسلام.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/100)
من الفتوى رقم 4889
س: من هو الموفق أمام الله؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: الموفق هو من تمسك بدين الإسلام فأخذ به اعتقادا وقولا وعملا مستنيرا بالقرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه السلف الصالح من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/100)
فتوى رقم 5623
س: قرأت كثيرا من السبل لتغير هذه الأوضاع، والحق أقول: إن لكل منهم دليلا وحجة ولكن لعلمي المحدود لا أستطيع أن أميز أفضل الطرق المناسبة لعصرنا الذي بعدنا فيه كل البعد عن الدين فلا نعرف منه إلا طقوسا وحفلات لا ترضي الله والرسول؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: لا طريق يوصل إلى الجنة إلا الطريق الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعده وسلك هذا الطريق نجا، ومن حاد عنه هلك. . .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/101)
من الفتوى رقم 5845
س: هل كون الإنسان أو المؤمن يقول: " أنا وطني " حرام؟ هل كون الإنسان يتكلم عن السياسة الخارجية أو الداخلية حرام؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: المفخرة العظمى والكرامة والدرجة العليا في الانتساب إلى الإسلام وفي نصرته والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله، فليقل المسلم أنا(33/101)
مسلم، فهذا أعظم لشأنه وأعلى لدرجته، وبالإسلام والأخوة فيه يجمع شمل المسلمين، والنعرة الوطنية معول هدم وتفريق لجماعة المسلمين إذا كان المقصود منها الفخر على إخوانه المسلمين غير المواطنين، أما إن كان المقصود من ذلك التعريف بأنه يحمل الجنسية الوطنية وليس من دولة أخرى فلا حرج في ذلك، وقد كتب سماحة الرئيس العام الشيخ عبد العزيز بن باز رسالة في القومية.
ثم الكلام في السياسة الداخلية والخارجية للأمة ليس حراما ما دام يحقق المصلحة للإسلام والمسلمين، ولا يثير فتنا تعود عليهم بالفرقة والفشل والخيبة والانهيار.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/102)
من الفتوى رقم 8973
س: ما موقف الشباب من الإسلام؟ وبماذا تنصح الشباب في الفترة الحرجة من حياتهم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: يجب على المسلم أن يعتصم بحبل لله وأن يتمسك بكتابه تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يدعو إلى سبيل الله وألا يتعصب لما رآه إذا ظهر الصواب في غيره بل يتبع الحق حيثما كان، فإن الحق أحق أن يتبع، وبالجملة فليتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة له في عمله وحسن خلقه وسمعته، وفي دعوته لقوله تعالى:(33/102)
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (1) الآية.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21(33/103)
من الفتوى رقم 6648
س: ما الفرق بين الشريعة والطريقة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: الشريعة هي ما أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله إلى الناس ليقوموا به على وجه التعبد به لله وابتغاء القربى إليه به وفق ما أمرتهم به رسلهم صلوات وسلامه عليهم أجمعين.
والطريقة المعتبرة السائرة وفق هذا، أي وفق منهاج لله الذي أنزله على خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (1) ، ووفق قوله صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي (2) » فهي داخلة في الشريعة، أما الطريقة المخالفة لهذا كالطرق
__________
(1) سورة الأنعام الآية 153
(2) الطبراني في الصغير رقم 724، والعقيلي في الضعفاء 2 \ 262، والترمذي برقم 2643.(33/103)
الصوفية والتيجانية والنقشبندية والقادرية وغيرها فهي طرق مبتدعة لا يجوز إقرارها ولا السير فيها إلى الله سبحانه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(33/104)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
التساهل في الحكم بغير شريعة الله
س: كثير من المسلمين يتساهلون في الحكم بغير شريعة الله والبعض يعتقد أن ذلك التساهل لا يؤثر في تمسكه بالإسلام، والبعض الآخر يستحل الحكم بغير ما أنزل الله ولا يبالي بما يترتب على ذلك، فما هو الحق في ذلك؟
ج: هذا فيه تفصيل وهو أن يقال: من حكم بغير ما أنزل وهو يعلم أنه يجب عليه الحكم بما أنزل الله وأنه خالف الشرع ولكن استباح هذا الأمر ورأى أنه لا حرج عليه في ذلك وأنه يجوز له أن يحكم بغير شريعة الله، فهو كافر كفرا أكبر عند جميع العلماء، كالحكم بالقوانين الوضعية التي وضعها الرجال من النصارى أو اليهود أو غيرهم ممن زعم أنه يجوز الحكم بها أو زعم أنها أفضل من حكم الله أو زعم أنها تساوي حكم الله، وأن الإنسان مخير إن شاء حكم بالقرآن والسنة وإن شاء حكم بالقوانين الوضعية، من اعتقد هذا كفر بإجماع العلماء كما تقدم، أما من حكم بغير ما أنزل الله لهوى أو لحظ عاجل وهو يعلم أنه عاص لله ولرسوله وأنه فعل منكرا عظيما وأن الواجب عليه الحكم بشرع الله، فإنه لا يكفر بذلك الكفر الأكبر لكنه قد أتى منكرا عظيما ومعصية كبيرة وكفرا أصغر كما قال ذلك ابن عباس ومجاهد وغيرهما من أهل العلم: وقد ارتكب بذلك كفرا دون كفر، وظلما دون ظلم وفسقا دون فسق، وليس هو الكفر الأكبر، وهذا قول أهل السنة والجماعة، وقد قال الله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (1) ، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} (2) ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (3) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 49
(2) سورة المائدة الآية 44
(3) سورة المائدة الآية 45(33/105)
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1) ، وقال عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) وقال عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (3) ، فحكم الله هو أحسن الأحكام وهو الواجب الاتباع وبه صلاح الأمة وسعادتها في العاجل والآجل وصلاح العالم كله، ولكن أكثر الخلق في غفلة عن هذا. والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) سورة المائدة الآية 47
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة المائدة الآية 50(33/106)
س: أرجو شرح قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} (1) {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (2) {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (3) ، هل يفهم من هذا أن من دخل الجنة يخرج منها إذا شاء الله، وهل نسخت هاتان الآيتان بشيء من القرآن إذ إنهما وردتا في سورة مكية؟
ج: الآيتان ليستا منسوختين بل محكمتان، وقوله عز وجل: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (4) اختلف أهل العلم في معنى ذلك مع إجماعهم على أن نعيم الجنة دائم أبدا لا ينقضي ولا يزول ولا يخرجون منها؛ ولهذا قال تعالى: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (5) لإزالة بعض ما قد يتوهم بعض الناس أن هناك خروجا فهم
__________
(1) سورة هود الآية 106
(2) سورة هود الآية 107
(3) سورة هود الآية 108
(4) سورة هود الآية 107
(5) سورة هود الآية 108(33/106)
خالدون فيها أبدا؛ ولهذا قال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (1) {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} (2) يعني آمنين من الموت، وآمنين من الخروج، وآمنين من الأمراض؛ ولهذا قال عز وجل بعد ذلك: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (3) {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (4) ، فهم فيها دائمون ولا يخرجون ولا يموتون، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} (5) {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (6) {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} (7) {كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} (8) {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} (9) {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (10) {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (11) ، فأخبر سبحانه أن أهل الجنة في مقام أمين لا يعتريه خراب ولا زوال وأنهم آمنون أيضا لا خطر عليهم من موت ولا مرض ولا خروج ولا يموتون أبدا.
فقوله: إلا ما شاء ربك قال بعض أهل العلم: معناه مدة مقامهم في القبور ليسوا في الجنة، وإن كان المؤمن في روضة من رياض الجنة لكنها ليست هي الجنة ولكنه شيء منها فإنه يفتح للمؤمن وهو في قبره باب إلى الجنة يأتيه من ريحها وطيبها ونعيمها وينقل بعد ذلك إلى الجنة فوق السماوات في أعلى شيء.
وقال بعضهم: إلا ما شاء ربك يعني مدة إقامتهم في موقف القيامة للحساب والجزاء وذلك بعد خروجهم من القبور فإنهم بعد ذلك ينقلون إلى الجنة، وقال بعضهم: مجموع الأمرين مدة بقائهم في القبور ومدة بقائهم في الموقف ومرورهم على الصراط في كل هذه الأماكن ليسوا في الجنة لكنهم ينقلون منها إلى الجنة. ومن هذا يعلم أن المقام مقام واضح ليس فيه شبهة ولا شك، فأهل الجنة في الجنة أبد الآباد ولا موت ولا مرض ولا خروج
__________
(1) سورة الحجر الآية 45
(2) سورة الحجر الآية 46
(3) سورة الحجر الآية 47
(4) سورة الحجر الآية 48
(5) سورة الدخان الآية 51
(6) سورة الدخان الآية 52
(7) سورة الدخان الآية 53
(8) سورة الدخان الآية 54
(9) سورة الدخان الآية 55
(10) سورة الدخان الآية 56
(11) سورة الدخان الآية 57(33/107)
ولا كدر ولا حزن ولا حيض ولا نفاس بل في نعيم دائم وخير دائم، وهكذا أهل النار يخلدون فيها أبد الآباد ولا يخرجون منها كما قال عز وجل في حقهم: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} (1) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، أما قوله عز وجل في حقهم: إلا ما شاء ربك فقيل: إن المراد بذلك مقامهم في القبور، وقيل: مقامهم في الموقف وهم بعد ذلك يساقون إلى النار ويخلدون فيها أبد الآباد كما قال تعالى في حقهم في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (2) ، وقال سبحانه في سورة المائدة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (3) ، والله ولي التوفيق.
***
__________
(1) سورة فاطر الآية 36
(2) سورة البقرة الآية 167
(3) سورة المائدة الآية 37(33/108)
س: هل يجوز أن أختم القرآن الكريم لوالدي علما أنهما أميان لا يقرآن ولا يكتبان؟ وهل يجوز أن أختم القرآن لشخص يعرف القراءة والكتابة ولكن أريد إهداءه هذه الختمة؟ وهل يجوز لي أن أختم القرآن لأكثر من شخص. .؟
ج: لم يرد في الكتاب العزيز ولا في السنة المطهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن صحابته الكرام ما يدل على شرعية إهداء تلاوة القرآن الكريم للوالدين ولا لغيرهما وإنما شرع الله قراءة القرآن للانتفاع به والاستفادة منه وتدبر معانية والعمل بذلك. قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) ، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (2) ،
__________
(1) سورة ص الآية 29
(2) سورة الإسراء الآية 9(33/108)
وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (1) ، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة (2) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إنه يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن أصحابهما (3) » المقصود أنه أنزل للعمل به وتدبره والتعبد بتلاوته والإكثار من قراءته لا لإهدائه للأموات أو غيرهم، ولا أعلم في إهدائه للوالدين أو غيرهم أصلا يعتمد عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (4) » ، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك، وقالوا: لا مانع من إهداء ثواب القرآن وغيره من الأعمال الصالحات وقاسوا ذلك على الصدقة والدعاء إلى الأموات وغيرهم، ولكن الصواب هو القول الأول للحديث المذكور وما جاء في معناه، ولو كان إهداء التلاوة مشروعا لفعله السلف الصالح. والعبادة لا يجوز فيها القياس لأنها توقيفية لا تثبت إلا بالنص من كلام الله عز وجل أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم للحديث السابق وما جاء في معناه. أما الصدقة عن الأموات وغيرهم والدعاء لهم والحج عن الغير ممن قد حج عن نفسه وهكذا العمرة عن الغير ممن قد اعتمر عن نفسه، وهكذا قضاء الصوم عمن مات وعليه صيام فكل هذه العبادات قد صحت بها الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. . والله ولي التوفيق. .
__________
(1) سورة فصلت الآية 44
(2) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (804) ، مسند أحمد بن حنبل (5/249) .
(3) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (805) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2883) ، مسند أحمد بن حنبل (4/183) .
(4) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(33/109)
حكم بيع واقتناء الحيوانات المحنطة
س: ما حكم اقتناء الحيوانات والطيور المحنطة وما حكم بيع ما ذكر؟ وهل هناك فرق بين ما يحرم اقتناؤه حيا وما يجوز اقتناؤه حيا في حالة التحنيط؟ وما الذي ينبغي على المحتسب حيال تلك الظاهرة؟
ج: اقتناء الطيور والحيوانات المحنطة سواء ما يحرم اقتناؤه حيا أو ما جاز اقتناؤه حيا فيه إضاعة للمال وإسراف وتبذير في نفقات التحنيط، وقد نهى الله عن الإسراف والتبذير، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال؛ ولأن ذلك وسيلة إلى تصوير الطيور وغيرها من ذوات الأرواح، وتعليقها ونصبها في البيوت أو المكاتب وغيرها، وذلك محرم فلا يجوز بيعها ولا اقتناؤها، وعلى المحتسب أن يبين للناس أنها محرمة وأن يمنع ظاهرة تداولها في الأسواق، وقد وقع الشرك في قوم نوح بسبب تصوير ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا رجالا صالحين في قوم نوح ماتوا في زمن متقارب، فزين الشيطان لقومهم أن يصوروا صورهم وينصبوها في مجالسهم ففعلوا فوقع الشرك في قوم نوح بسبب ذلك كما ذكر ذلك البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذكر ذلك غيره من المفسرين والمحدثين والمؤرخين، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(33/110)
هل الوصية واجبة وما نصها الشرعي؟
س: هل كتابة الوصية واجبة، وهل يلزم لها شهود، وحيث إنني لا أعرف النص الشرعي أرجو إرشادي إليه، جزاكم الله خيرا؟
ج: تكتب الوصية حسب الصيغة التالية: أنا فلان بن فلان أو فلانة بنت فلان أوصي بأني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وأوصي من تركت من أهلي وذريتي وسائر أقاربي بتقوى الله وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله والتواصي بالحق والصبر عليه، وأوصيهم بمثل ما أوصى به إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنيه ويعقوب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) ثم يذكر ما يرغب أن يوصي به من ثلث ماله أو أقل من ذلك أو مال معين لا يزيد على الثلث، ويبين مصارفه الشرعية، ويذكر الوكيل على ذلك. والوصية ليست واجبة بل مستحبة إذا أحب أن يوصي بشيء لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده (2) » لكن إذا كانت عليه ديون أو حقوق ليس عليها وثائق تثبتها لأهلها وجب عليه أن يوصي بها حتى لا تضيع حقوق الناس، وينبغي أن يشهد على وصيته شاهدين عدلين، وأن يحررها لدى من يوثق بتحريره من أهل العلم حتى يعتمد عليها، ولا ينبغي أن يكتفي بخطه فقط؛ لأنه قد يشتبه خطه على الناس، وقد لا يتيسر من يعرفه من الثقات، والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 132
(2) صحيح البخاري الوصايا (2738) ، صحيح مسلم الوصية (1627) ، سنن الترمذي الجنائز (974) ، سنن النسائي الوصايا (3619) ، سنن أبو داود الوصايا (2862) ، سنن ابن ماجه الوصايا (2699) ، مسند أحمد بن حنبل (2/4) ، موطأ مالك الأقضية (1492) ، سنن الدارمي الوصايا (3175) .(33/111)
حكم الإسبال إذا كان عادة وليس خيلاء
س: الأخ الذي رمز لاسمه (أبو محمد) من الزلفى من المملكة العربية السعودية يقول في سؤاله في الحديث: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث ما معناه: إن الذي يسبل ثيابه في النار، فنحن ثيابنا تحت الكعبين وليس قصدنا التكبر ولا الافتخار وإنما هي عادة اعتدنا عليها فهل فعلنا هذا حرام؟ وهل الذي يسبل ثيابه وهو مؤمن بالله يكون في النار أرجو الإفادة، جزاكم الله خيرا؟
ج: لقد ثبت عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما أسفل من الكعبين من الإزار فهو في النار (1) » رواه الإمام البخاري في صحيحه، وقال عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان في ما أعطى، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب (2) » أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تدل على تحريم الإسبال مطلقا، ولو زعم صاحبه أنه لم يرد التكبر والخيلاء؛ لأن ذلك وسيلة للتكبر، ولما في ذلك من الإسراف وتعريض الملابس للنجاسات والأوساخ، أما إن قصد بذلك التكبر فالأمر أشد والإثم أكبر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة (3) » ، والحد في ذلك هو الكعبان فلا يجوز للمسلم الذكر أن تنزل ملابسه عن الكعبين للأحاديث المذكورة، أما الأنثى فيشرع لها أن تكون ملابسها ضافية تغطي قدميها، وأما ما ثبت عن الصديق رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لست ممن يفعله خيلاء (4) » فالمراد بذلك أن من استرخى إزاره بغير
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5787) ، سنن النسائي الزينة (5330) ، مسند أحمد بن حنبل (2/498) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (106) ، سنن الترمذي البيوع (1211) ، سنن النسائي البيوع (4458) ، سنن أبو داود اللباس (4087) ، سنن ابن ماجه التجارات (2208) ، مسند أحمد بن حنبل (5/158) ، سنن الدارمي البيوع (2605) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3665) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2085) ، سنن الترمذي اللباس (1731) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، سنن ابن ماجه اللباس (3569) ، مسند أحمد بن حنبل (2/67) ، موطأ مالك الجامع (1696) .
(4) صحيح البخاري اللباس (5784) ، سنن النسائي الزينة (5335) ، سنن أبو داود اللباس (4085) ، مسند أحمد بن حنبل (2/147) .(33/112)
قصد وتعاهده وحرص على رفعه لم يدخل في الوعيد لكونه لم يتعمد ذلك، ولم يقصد الخيلاء ولم يقصد ذلك بل تعاهد رفعه وكفه.
وهذا بخلاف من تعمد إرخاءه فإنه متهم بقصد الخيلاء وعمله وسيلة إلى ذلك، والله سبحانه هو الذي يعلم ما في القلوب، والنبي صلى الله عليه وسلم أطلق الأحاديث في التحذير من الإسبال وشدد في ذلك ولم يقل فيها إلا من أرخاها بغير خيلاء، فالواجب على المسلم أن يحذر ما حرم الله عليه، وأن يبتعد عن أسباب غضب الله وأن يقف عند حدود الله يرجو ثوابه ويخشى عقابه عملا بقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) ، وقوله عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (3) .
وفق الله المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح أمرهم في دينهم ودنياهم إنه خير مسئول.
__________
(1) سورة الحشر الآية 7
(2) سورة النساء الآية 13
(3) سورة النساء الآية 14(33/113)
س: ما هي الأشياء التي تستطيع المرأة المسلمة كشفها أمام المرأة الكافرة كالبوذية مثلا؟ وهل صحيح أنه لا يجوز لها إلا كشف وجهها؟
ج: الصحيح أن المرأة تكشف للمرأة سواء كانت مسلمة أو كافرة ما فوق السرة وتحت الركبة، أما ما بين السرة والركبة فهو عورة في حق الجميع لا تراه المرأة من المرأة سواء كانت مسلمة أو غير مسلمة قريبة أو بعيدة، كالعورة للرجل مع الرجال، فللمرأة أن ترى من المرأة صدرها ورأسها وساقها ونحو ذلك كالرجل يرى من الرجل صدره وساقه ورأسه وأما قول بعض أهل العلم: إن المرأة الكافرة لا تكشف لها المؤمنة فهو قول مرجوح في أصح قولي العلماء(33/113)
لأن اليهوديات كن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا الوثنيات يدخلن على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لحاجتهن، ولم يحفظ أنهن كن يتحجبن منهن وهن أتقى النساء وأفضلهن.(33/114)
س: من تجب تغطية الوجه عنه؟
ج: تجب تغطية الوجه عن الرجل الأجنبي وهو من ليس محرما للمرأة في أصح قولي العلماء، سواء كان الأجنبي ابن عم أو ابن خال أو من الجيران أو من غيرهم لقوله تعالى يخاطب المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يأتي بعدهم: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (1) .
وهذا يعم أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من المؤمنات كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (2) والجلباب ما يوضع على الرأس والوجه فوق الثياب وهو الذي تغطي به النساء الرأس والوجه والبدن كله، وما يوضع على الرأس يقال له خمار فالمرأة تغطي بالجلباب رأسها ووجهها وجميع بدنها فوق الثياب كما تقدم. وقال الله جل وعلا: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (3) الآية. فقوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (4) فسره ابن مسعود رضي الله عنه وجماعة بالملابس الظاهرة وفسره قوم بالوجه والكعبين، والأول أصح لأنه موافق للأدلة الشرعية وللآيتين السابقتين، وحمل بعضهم قول من فسره بالوجه والكفين أن هذا كان قبل وجوب الحجاب لأن المرأة كانت في أول الإسلام تبدي وجهها وكفيها للرجال ثم نزلت آية الحجاب
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 53
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة النور الآية 31(33/114)
فمنعن من ذلك ووجب عليهن ستر الوجه والكفين في جميع الأحوال، ثم قال سبحانه: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (1) والخمر جمع خمار وهو ما يستر به الرأس وما حوله سمي خمارا لأنه يستر ما تحته كما سميت الخمر خمرا لأنها تستر العقول وتغيرها، والجيب الشق الذي يخرج منه الرأس فإذا ألقت الخمار على وجهها ورأسها فقد سترت الجيب، وإذا كان هناك شيء من الصدر سترته أيضا، ثم قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (2) إلى آخر الآية، والزينة تشمل الوجه والرأس وبقية البدن فيجب على المرأة أن تغطي هذه الزينة حتى لا تفتن ولا تفتن، ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما سمعت صوت صفوان بن معطل فخمرت وجهي وكان قد رآني قبل الحجاب فعلم بذلك أن النساء بعد نزول آية الحجاب مأمورات بستر الوجه وأنه من الحجاب المراد في الآية الكريمة وهي قوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (3) (الآية) ، وأما ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن أسماء: «إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا (4) » وأشار إلى وجهه وكفيه، فهو حديث ضعيف لا يجوز الاحتجاج به لعلل كثيرة منها انقطاعه بين عائشة والراوي عنها، ومنها ضعف بعض رواته وهو سعيد بن بشير، ومنها تدليس قتادة رحمه الله وقد عنعن، ومنها مخالفته للأدلة الشرعية من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب تحجب المرأة في وجهها وكفيها وسائر بدنها، ومنها أنه لو صح وجب حمله على أن ذلك قبل نزول آية الحجاب جمعا بين الأدلة. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) سورة الأحزاب الآية 53
(4) سنن أبو داود اللباس (4104) .(33/115)
س: ما حكم ما أعلن في مؤتمر عقد في أمريكا، ومن ضمن توصياته التنبيه على بعض المنتجات لأنها تحوي لحم الخنزير، ومن تلكم المنتجات صابون ومعجون وجبن. . إلخ مع رجاء التوجيه، وهل لديكم علم عن هذا(33/115)
المؤتمر وعن تلكم المنتجات؟
ج: قد وجه إلينا أسئلة عن هذه الأشياء التي ذكرها السائل من المنتجات، وما حصل في هذا المؤتمر وأحيل إلى الجهات المختصة هنا في المملكة، فذكرت أنه لم يرد إلى المملكة شيء من ذلك، ولم يثبت لدينا شيء في ذلك يخالف ما ذكرته الجهات المختصة في المملكة، مما يدعى أنه من لحم الخنزير أو من شحمه فيما يرد إلى هذه المملكة من طعام أهل الكتاب، والأصل الحل حتى يثبت ما يخالف ذلك لقول الله عز وجل: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (1) . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 172(33/116)
س: ما حكم استعمال بعض العطور التي تحتوي على شيء من الكحول؟
ج: الأصل حل العطور والأطياب التي بين الناس إلا ما علم أن به ما يمنع استعماله لكونه مسكرا أو يسكر كثيره أو به نجاسة ونحو ذلك، وإلا فالأصل حل العطور التي بين الناس كالعود والعنبر والمسك. . . إلخ، فإذا علم الإنسان أن هناك عطرا فيه ما يمنع استعماله من مسكر أو نجاسة ترك ذلك ومن ذلك الكلونيا، فإنه ثبت عندنا بشهادة الأطباء أنها لا تخلو من المسكر ففيها شيء كبير من الاسبيرتو وهو مسكر، فالواجب تركها إلا إذا وجد منها أنواع سليمة، وفيما أحل الله من الأطياب ما يغني عنها والحمد لله، وهكذا كل شراب أو طعام فيه مسكر يجب تركه، والقاعدة أن ما أسكر كثيره فقليله حرام كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما أسكر كثيره فقليله حرام (1) » . . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن الترمذي الأشربة (1865) ، سنن أبو داود الأشربة (3681) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3393) ، مسند أحمد بن حنبل (3/343) .(33/116)
س: المسك ودهن العود أو الورد ونحو ذلك من أنواع الطيب إذا استخدمته المرأة وكانت رائحته واضحة، فما حكم استعمالها خاصة إذا خرجت(33/116)
المرأة من منزلها، وهل يعتبر تكريم الزائرات بتبخيرهن وتعطيرهن في حكم ذلك؟
ج: خروج المرأة بالطيب إلى الأسواق أمر ممنوع، وليس لها أن تخرج بذلك ولا أن تعين الزائرات والضيوف بذلك بل عليها أن تنصح وأن تقول: نود أن نطيبكم ولكن خروج المرأة بالطيب إلى الأسواق أمر ممنوع، وبذلك تجمع بين النصيحة وترك ما حرم الله فعله.(33/117)
صفحة فارغة(33/118)
فصل في وجوب إخراج الزكاة على الفور
للشيخ الحافظ زين الدين أبي الفرج
عبد الرحمن بن أحمد بن رجب - رحمه الله تعالى
736 هـ - 795 هـ
تحقيق: د. عبد الله بن محمد بن أحمد الطريقي (1) .
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فمن أشرف العلوم وأفضلها علوم الكتاب والسنة بدراستهما ولتدبر معانيهما، والعمل بمقتضى ما جاء بهما، وعلى ذلك نشأ علماء هذه الأمة الذين خلفوا تراثا علميا عظيما من العلوم والمعارف التي لا تحصى.
وقد حرص فقهاء هذه الأمة - عليهم رحمة الله - أن يبينوا أحكام هذا الدين وأن يخرجوها للناس يانعة شهية، وقد أثمرت جهودهم في خدمة العلوم الشرعية؛ وذلك لسلامة النية وإخلاص العمل.
وقد كان من هؤلاء العلماء الشيخ الحافظ زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد المشهور بابن رجب - عليه رحمة الله - فقد خدم العلم
__________
(1) وردت للباحث ترجمة في العدد 14 ص 259(33/119)
خدمة جليلة حيث ألف الكتب الكثيرة في أصناف شتى من العلوم والمعارف، وهذا يدل على غزارة علمه، ونباهة شأنه، وطول باله، وكثرة اطلاعه. ونظرا لبلوغه هذا الشأن في خدمة العلم فقد كتب وألف الكتب الكبار ولم يقتصر على ذلك فقد كتب أيضا عن بعض المسائل الفقهية الدقيقة كهذا الفصل في وجوب إخراج الزكاة على الفور، ونظرا لما في هذا الموضوع من فائدة علمية مفيدة رغبت أن يتم نشره لتعم فائدته، وذلك لما علم من مؤلفه من أنه محدث وفقيه جمع بين الحديث والفقه، وهذه طريقة الحفاظ الذين حفظوا الأحاديث وتفقهوا فيها في فهمها ومعناها وفقه أحكامها، ووجه دلالاتها. نسأل الله العلم النافع المتبوع بالعمل الصالح إنه حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.(33/120)
ترجمة موجزة للمؤلف.
هو الإمام الحافظ العلامة زين الدين وجمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن الملقب بـ (رجب) بن الحسن بن محمد بن أبي البركات سعود البغدادي الدمشقي الحنبلي.
ولد عبد الرحمن بن رجب في بغداد سنة 736 هـ، ونشأ في أسرة علمية قدم من بغداد مع والده إلى دمشق وهو صغير سنة 744 هـ، واشتغل بالحديث باعتناء والده.
طلبه للعلم:
نشأ ابن رجب في أسرة علمية، وقد كان أول طلبه للعلم على جده وعلى والده، فقد كان يجالس العلماء ويستقي منهم العلم.
وقد التقى بكبار العلماء، فسمع بدمشق من محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ابن الخباز (ت 756 هـ) ، وإبراهيم بن داود العطار (ت 752 هـ) .
وسمع بمصر من أبي الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم الميدوني (ت 754 هـ) ، وأبي الحرم محمد بن محمد القلانسي الحنبلي (ت 765 هـ) ، وغيرهما.
وسمع بمكة من الفخر عثمان بن يوسف بن أبي بكر النووي الفقيه المالكي (ت 756 هـ) .(33/121)
كما رافق زين الدين العراقي (ت 806 هـ) ، ثم لازم الإمام ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) .
قال ابن حجر في الدرر الكامنة (1) : (وأكثر من المسموع وأكثر الاشتغال حتى مهر. . . وقرأ القرآن بالروايات وأكثر الشيوخ، وخرج لنفسه مشيخة مفيدة) ا. هـ.
وقد نبغ في علم الحديث وتخصص في فنونه وقصده الوافدون للاستفادة من علمه وفهم صناعة الأسانيد وفن العلل.
وأما في الفقه فقد برع فيه كذلك حتى صار من أعلام المذهب الحنبلي يشهد لذلك كتابه (القواعد الفقهية) الذي يدل على معرفته بالفقه وأصوله.
مع أنه لم يقتصر على علمي الحديث والفقه، بل تناول كثيرا من الفنون فقد ألف في التاريخ والتفسير والوعظ. . . وغيرها.
وقد اقتصر على العلم والعبادة فكان لا يعرف شيئا من أمور الناس ولا يتردد على أحد من ذوي الولايات.
مؤلفاته:
ذكر المؤرخون لابن رجب الكثير من الكتب والتصانيف الجيدة المفيدة، منها الكبير كشرح سنن الترمذي، ومنها الصغير الذي لا يتجاوز عددا من الورقات، وهي متنوعة في فنون عدة في الحديث والتفسير والفقه والوعظ والتاريخ. . . وغيرها.
قال عنه الحافظ ابن حجر: (صنف شرح الترمذي فأجاد فيه في نحو عشرين مجلدة، وشرح قطعة كبيرة من البخاري، وعمل وظائف الأيام وسماه " اللطائف " بطريق الوعظ، وفيه فوائد) (2) .
__________
(1) 2 \ 429.
(2) إنباء الغمر: 1 \ 460، الدرر الكامنة: 2 \ 429(33/122)
وقال ابن العماد: (له مصنفات مفيدة ومؤلفات عديدة) (1) .
وقال ابن فهد: (له المؤلفات السديدة والمصنفات المفيدة) (2) .
وقد ذكر المؤرخون جزءا من هذه المؤلفات، والبعض الآخر منها منسوب إلى ابن رجب في فهارس المكتبات وفي بطون الكتب التي تنقل عن هذه المصنفات) .
وفاته:
توفي - رحمه الله - ليلة الاثنين رابع شهر رمضان سنة 795 هـ. بأرض الخميرية ببستان كان استأجره، وصلي عليه من الغد، ودفن بالباب الصغير.
__________
(1) شذرات الذهب: 6 \ 329.
(2) لحظ الألحاظ: 181.(33/123)
وصف المخطوط:
يوجد لهذا الفصل في وجوب إخراج الزكاة على الفور لابن رجب يوجد له - حسب علمي - نسخة واحدة مخطوطة ملحقة بآخر كتاب أحكام الخواتم للمؤلف، مخطوط ضمن مجموع في دار الكتب المصرية رقم 79 فقه حنبلي، خطها نسخ معتاد، يقع كتاب أحكام الخواتم في 47 ل، ويقع هذا الفصل في ثلاث لوحات ونصف اللوحة، تتراوح الأسطر في كل صفحة بين 17 و 18 سطرا، ما عدا الصفحة الأخيرة ففيها ثمانية أسطر فقط، وقد كتب في آخرها بخط مغاير: (بلغ مقابلة وتصحيحا على حسب الطاقة) . وهي منقولة من خط المؤلف كما يظهر ذلك في آخرها حيث كتب: (آخر ما وجد من خط المؤلف) .
ولها صورة في المكتبة المركزية بجامعة الملك سعود.(33/123)
بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر يا كريم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين وسلم تسليما.
وبعد: فهذا فصل في وجوب إخراج الزكاة على الفور، قد صرح بذلك أصحابنا في كتبهم، وكلام الإمام أحمد (1) .
قال في رواية جعفر (2) بن محمد: إذا وجبت الزكاة لا يخرجها إلا جملة لا يفرط (3) .
وقال في رواية ابن هانئ، وصالح: وسئل أتؤخر الزكاة؟ قال: لا (4) .
__________
(1) أحمد بن محمد بن حنبل إمام المذهب ت 241 هـ يدل عليه.
(2) في المخطوط: ابن جعفر.
(3) لم أجده.
(4) مسائل الإمام أحمد رواية إسحاق بن هانئ: 1 \ 116، مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح: 1 \ 125.(33/126)
قال في رواية أبي داود: لا يؤخرها عن محلها (1) .
وقال بكر بن محمد: سئل أبو عبد الله (2) عن رجل يكون وقت زكاته فيخرج فيعطي قليلا قليلا، فكأنه كره إذا حلت عليه إلا أن يقدمها، قال: ما يأمن الحدثان، قال: ولكن يخرج قليلا قليلا قبل أن تحل، فإذا حلت تعين تخريجها.
وقال الأثرم سئل أبو عبد الله عن رجل يحول الحول على ماله فيؤخر عن وقت الزكاة، قال: ولم يؤخر؟ يخرجها إذا حال الحول، وشدد في ذلك.
قيل له: فإن حال الحول فابتدأ في إخراجها فجعل يخرج أولا فأولا؟ قال: لا يحل غير صرفها كلها إذا حال عليها الحول، وشدد في ذلك (3) .
وقال في رواية ابن منصور، وصالح: وسئل عن قول سفيان الثوري: إذا وجبت عليه الزكاة فجعلها في كيس فجعل يعطي قليلا قليلا
__________
(1) كذا في المخطوط: عن محلها، والذي في مسائل أبي داود: 84 عن حلها.
(2) كنية الإمام أحمد.
(3) المغني مع الشرح الكبير: 2 \ 541.(33/127)
يدعي الموضع، قال: لا بأس إذا كان لا يجد، فإذا وجد لأن يفرغ منه أحب إلي، قال أحمد: جيد (1) ، وهذه الرواية قد تشعر بعدم التحريم.
وقال في رواية العباس بن محمد الخلال في الرجل يؤخر الزكاة حتى تأتي عليها سنون ثم يزكي: فنخاف عليه الإثم في تأخيره.
وقال في رواية يعقوب بن بختان (2) في رجل عليه زكاة عام لم يعطه وأعطى زكاة عام قابل قال: جائز، ولكن يعطي الماضي (3) .
وهذا يشعر بعدم التحريم أيضا.
ونقل عن يعقوب بن بختان أيضا في الرجل تجب عليه الزكاة وله قرابة وقوم قد كان عودهم فيعطيهم وهم عنه غيب يدفعها إليهم؟
قال: ما أحب أن يؤخرها إلا أن يجد مثلهم في الحاجة (4) .
فهذا نص على جواز التأخير لمن لا يجد مثلهم في الحاجة، وقد نص في مواضع على أنه لا يؤخرها بعد الحول ليجريها على أقاربه (5) ، منهم محمد بن يحيى الكحال (6) ، والحسن بن محمد والفضل بن زياد.
__________
(1) لم أجده
(2) في المخطوط: حسان
(3) المبدع: 2 \ 399.
(4) المبدع: 2 \ 299 الفروع: 2 \ 542.
(5) المغني مع الشرح الكبير: 2 \ 542.
(6) في المخطوط: المحال.(33/128)
ونقل عنه إسحاق بن هانئ (1) ، وعبد الله أبو مسعود الأصبهاني (2) .
وأبو طالب، وسندي، وغيرهم الجواز.
وفي رواية عبد الله أنه يجوز ذلك تعجيلا للزكاة (3) . فحمل أبو بكر عبد العزيز المنع والجواز على اختلاف حالتين، لا على اختلاف قولين، المنع على تأخيرها ليجريها عليهم بعد الحول، والجواز على إجرائها عليهم قبل الحول (4) وهذا التفصيل قد نقله الحسن بن محمد عن أحمد.
وخالف صاحب المحرر أبا بكر في ذلك وقال: ظاهره الجواز مطلقا (5) ، وأخذ منه جواز تأخير الزكاة للقرابة، ولكن لأحمد نصوص أخرى
__________
(1) مسائل الإمام أحمد رواية إسحاق بن هانئ: 1 \ 116.
(2) هكذا في المخطوط: عبد الله أبو المسعود الأصبهاني ولم أجد له ترجمة بهذا الاسم.
(3) مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله: 152.
(4) المبدع: 2 \ 400، الفروع: 2 \ 543.
(5) المحرر: 1 \ 224.(33/129)
تدل منع كراهة (1) إجرائها عليهم شيئا فشيئا قبل الحول معللا بأنه يخص بزكاته قرابتهم دون غيرهم ممن هو أحوج منهم، وقال: لا يعجبني فإن كانوا مع غيرهم سواء في الحاجة فلا بأس (2) ، نقله عنه جعفر بن محمد.
وكذا نقل عنه أبو داود إذا كان غيرهم أحوج، وإنما يريد أن يغنيهم ويدع غيرهم فلا، فإن استووا في الحاجة فهم أولى (3) .
ونقل عنه أيضا إذا كان له قرابة يجري عليهم أيعطيهم من الزكاة؟ قال: إن كان عدها من عياله: فلا.
قيل: إنما يجري عليها شيئا معلوما كل شهر؟ قال: إذا كفاها ذلك (4) .
قيل: لا يكفيها؟ فلم يرخص له أن يعطيها من الزكاة، ثم قال: لا يوفى بالزكاة مال (5) .
ومعنى هذا أنه كان عودها الإجراء عليها من غير الزكاة قال: لا توفى بالزكاة فقد وفى بها ماله.
ولم يذكر الخلال ولا أبو بكر (6) آخر الرواية، وأشكل فهمها من كتابهما.
وبما يتفرع (7) على جواز تأخير أداء الزكاة أنه يجوز أن يتحرى بها شيئا معينا تضاعف فيه الصدقة، فمن قال: إنه يجوز تأخيرها لمن لا يجد مثلهم في
__________
(1) هكذا في المخطوط: تدل منع كراهة، ولعلها تدل على كراهة.
(2) المغني مع الشرح الكبير: 2 \ 548، المبدع: 2 \ 400.
(3) مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود: 82، وانظر المغني: 2 \ 547.
(4) المغني مع الشرح الكبير: 2 \ 548.
(5) مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود: 83.
(6) أبو بكر عبد العزيز بن جعفر المتقدم.
(7) هكذا في المخطوط: وبما يتفرع، ولعل الأقرب ومما يتفرع.(33/130)
الحاجة لم يبعد على قوله أنه يجوز تأخيرها لشهر يفضل فيه (1) الصدقة أيضا. وقد يتخرج على ذلك أنه يجوز نقل الزكاة إلى بلد بعيد لقرابة فقراء حاجتهم شديدة، وقد سئل (2) أحمد في هذه الصورة في رواية الأثرم، وقال: لا أدري وتساءل التوقف يتخرج على وجهين غالبا؟
وأجازه النخعي لذى القرابة خاصة (3) .
وأجازه مالك في النقل إلى المدينة خاصة،.
والنقل فيه تأخير الإخراج، فكما يؤخر الأداء إلى الوصول إلى مكان فاضل تفضل فيه صدقة ثواب النفقة فلذلك تؤخر إلى زمان فاضل تفضل فيه الصدقة بل التأخير إلى الزمان أولى لأنه ليس فيه عدول عن فقراء بلد الصدقة ولا نقل لها عن غيرهم.
وقد استشكل أحمد (4) قول عثمان (5) : (هذا شهر زكاتكم) (6) .
__________
(1) هكذا يفضل فيه، ولعل الأقرب تفضل فيه.
(2) في المخطوط كلمة غير ظاهرة لي قريبة من سئل لذا أثبتها.
(3) المغني مع الشرح الكبير: 2 \ 531، الأموال لأبي عبيد: 530.
(4) أي الإمام أحمد بن حنبل.
(5) الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
(6) سوف يأتي بعد قليل بتمامه مع تخريجه.(33/131)
قال إبراهيم بن الحارث: سئل أحمد عن قول عثمان (هذا شهر زكاتكم) ؟ قال: ما فسر، أي وجه هو؟ قيل فليس يعرف وجهه؟ قال: لا.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: حديث عثمان: (هذا شهر زكاتكم) ما وجهه؟ قال: لا أدري.
وأما عفان فحدثنا به من قال: حدثنا ابن المبارك - حدثنا معمر عن الزهري، عن السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان يقول: (هذا شهر زكاتكم) يعني رمضان.
قال القاضي أبو يعلى: لقد نقل عن السائب بن يزيد أنه قال ذلك في المحرم شهر رمضان، ونقل عنه أنه قال ذلك في المحرم.(33/132)
قلت: قوله: (يعني رمضان) ليس هو من قول السائب، بل من قول من بعده من الرواة.
وحمل القاضيهذا الحديث على أن الإمام يبعث سعاته في أول السنة، وهو أول محرم، فمن كان حال حوله أخذ فيه (1) زكاته، ومن تبرع بأداء زكاة لم تجب عليه قبل منه، ومن قال: لم يحل حولي أخره. وقد نص أحمد (2) وغيره (3) على أن من خشي أن يرجع عليه الساعي بالزكاة أنه عذر له في تأخير إخراجها.
وقال مالك وغيره من العلماء: لا تجب الزكاة في الأموال الظاهرة إلا يوم مجيء السعاة، نقله عنه أبو عبيد (4) .
وقالت طائفة: معنى قول عثمان (هذا شهر زكاتكم) يستحب فيه تعجيل زكاتكم، نقل ذلك القاضيفي خلافه، ورده على قائله.
وروى أبو عبيد في كتاب الأموال (5) حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب (6) ، عن السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: (هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم، ومن لم
__________
(1) هكذا في المخطوط فيه، ولعل الأقرب منه، أو فيه أي في المحرم.
(2) انظر المغني مع الشرح الكبير: 2 \ 542، الفروع: 2 \ 542.
(3) انظر المجموع: 6 \ 165.
(4) كتاب الأموال: 340 وانظر المدونة: 1 \ 327 - 328 - 335 - 33، جواهر الإكليل: 1 \ 122.
(5) 395، وانظر المغني: 2 \ 546.
(6) أي الزهري، محمد بن مسلم.(33/133)
يكن (1) عنده لم يطلب (2) منه حتى يأتي بها تطوعا ومن أخذ منه لم تؤخذ منه حتى يأتي هذا الشهر من قابل) .
قال إبراهيم: أراه يعني شهر رمضان (3) قال أبو عبيد (4) : " وقد جاءنا في بعض الأثر، ولا أدري عمن هو أن هذا الشهر الذي أراد عثمان المحرم ا. هـ.
وقد قال بعض السلف: ذلك الشهر الذي كان يخرج فيه الزكاة نسي، وإن ذلك من المصائب على هذه الأمة، فروى أبو زرعة في تاريخه قال:
__________
(1) في كتاب الأموال: 395 تكن.
(2) في كتاب الأموال: 395 تطلب.
(3) انظر المغني مع الشرح الكبير 2 \ 546، وكتاب الأموال: 395.
(4) في كتاب الأموال: 395.(33/134)
سألت أبا مسهر عن عبد العزيز بن الحصين هل (1) يؤخذ عنه؟ فقال: أما أهل الحزم فلا يفعلون، قال: فسمعت أبا مسهر يحتج بما أنكره على عبد العزيز بن الحصين، حدثنا (2) سعيد بن عبد العزيز عن الزهري فقال: (كان من البلاء على هذه الأمة أن نسوا ذلك الشهر يعني شهر الزكاة، قال أبو مسهر: قال عبد العزيز: سماه لنا الزهري (3) .
وقد روي أن الصحابة كانوا يخرجون زكاتهم في شهر رمضان إعانة على الاستعداد لرمضان لكن من وجه لا يصح.
روى يحيى بن سعيد العطار الحمصي، حدثنا سيف بن محمد عن
__________
(1) في تاريخ أبي زرعة: 1 \ 377 ممن.
(2) في تاريخ أبي زرعة: 1 \ 377 فقال: حدثنا.
(3) تاريخ أبي زرعة: 1 \ 377، وانظر الجرح والتعديل: 1 \ 288 - 289، لسان الميزان: 4 \ 29.(33/135)
ضرار (1) بن عمرو، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استهل شهر شعبان أكبوا على المصاحف فقرءوها وأخذوا في زكاة أموالهم فقووا بها الضعيف والمسكين على صيام شهر رمضان، ودعا المسلمون مملوكيهم فحطوا عنهم ضرائب شهر رمضان، ودعت الولاة أهل السجون فمن كان عليه حد أقاموا عليه، وإلا خلوا سبيله (3) » .
يحيى ومن فوقه إلى يزيد كلهم ضعفاء.
وأما مذاهب العلماء في هذه المسألة:
قال ميمون بن مهران: إذا حال الحول أخرج زكاته، وله أن يشتغل بتفريقها شهرا لا يزيد عليه.
قال أبو عبيد (4) : حدثنا علي بن ثابت، عن جعفر بن برقان عن
__________
(1) في المخطوط: ضراب، والمثبت من مصادر ترجمته.
(2) ذكره الحافظ في الفتح عن أنس وقال: إنه موقوف، فتح الباري: 13 \ 311.
(3) في المخطوط: السنجوق والتصحيح من فتح الباري: 13 \ 311. (2)
(4) في كتاب الأموال: 508.(33/136)
ميمون بن مهران قال: (اجعلها صررا ثم ضعها فيمن (1) تعرف ولا يأتي عليك الشهر حتى تفرقها) (2) .
وصرح أصحابنا بجواز تأخير إخراجها يسيرا من غير تقدير (3) وحكوا عن مالك (4) ، والشافعي، ومحمد بن الحسن أنه يجب إخراجها على الفور.
وعن أبي يوسف لا يجب ما لم يطالبه الإمام.
وحكوا في كتب الخلاف منهم القاضي، وابن عقيل عن الحنفية أنهم قالوا: تسقط الزكاة بتلف المال قبل إمكانه وبعده، على أنه لا يجب إخراجها
__________
(1) تكررت كلمة فيمن في المخطوط.
(2) ذكره أبو عبيد في كتاب الأموال بنفس السند: 508 رقم 1814.
(3) انظر المغني مع الشرح الكبير: 2 \ 542، المبدع: 2 \ 399، الفروع: 2 \ 542.
(4) انظر التفريع لابن الجلاب: 1 \ 275، جواهر الإكليل: 1 \ 142.(33/137)
على الفور (1) ، وأنه لا يجب بدون مطالبة الساعي، وهذا يشبه المحكي عن أبي يوسف كما تقدم.
__________
(1) بدائع الصنائع: 2 \ 3 البحر الرائق: 218 \ 2(33/138)
مراجع التحقيق
1 - أخبار القضاة، لوكيع - محمد بن خلف بن حيان (ت 306 هـ) عالم الكتب، بيروت.
2 - الاستيعاب في أسماء الأصحاب، لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر (ت 436 هـ) مطبوع بهامش الإصابة لابن حجر، دار الفكر بيروت 1398 هـ - 1978 م.
3 - الإصابة في تمييز الصحابة، لإمام الحفاظ في زمانه شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) دار الفكر بيروت، 398 ا. هـ - 1978 م.
4 - الأموال، للإمام الحافظ الحجة أبي عبيد القاسم بن سلام (ت 224 هـ) تحقيق وتعليق محمد خليل هراس، مكتبة الكليات الأزهرية ودار الفكر 1401 هـ - 1981 م.
5 - إنباء الغمر بأنباء العمر لشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) الطبعة الثانية، دار الكتب العلمية، بيروت.
6 - إيضاح المكنون، لمؤلفه إسماعيل باشا البغدادي (ت 1329 هـ) دار العلوم الحديثة - بيروت.
7 - البحر الرائق شرح كنز الدقائق، لزين الدين ابن نجيم الحنفي (ت 970 هـ) كراتشي.
8 - بدائع الصانع في ترتيب الشرائع، لعلاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني (ت 587 هـ) دار الكتاب العربي - بيروت 1402 هـ - 1982 م.
9 - البداية والنهاية، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير (ت 774 هـ) مكتبة المعارف - بيروت 1397 هـ - 1977 م.
10 - تاريخ أبي زرعة الدمشقي، للحافظ عبد الرحمن بن عمرو بن عبد الله بن صفوان (ت 281 هـ) تحقيق شكر الله بن نعمة الله القوجاني، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق 1980 م.
11 - تاريخ بغداد، للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، (ت 463 هـ) دار الكتاب العربي.
12 - التاريخ الكبير لشيخ المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ) دار الكتب العلمية.
13 - التفريع، لأبي القاسم عبيد الله بن الحسين بن الجلاب البصري (ت 378 هـ) دراسة وتحقيق د. حسين بن سالم الدهان، دار الغرب الإسلامي ط الأولى 1408 هـ - 1987م.(33/139)
14 - تهذيب الأسماء واللغات، لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي (ت 676 هـ) دار الكتب العلمية.
15 - تهذيب التهذيب، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ) ط الأولى سنة 1325 هـ.
16 - الجرح والتعديل، للإمام الحافظ أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي، (ت 327 هـ) ، الطبعة الأولى سنة 1371 هـ - 1952 م.
17 - جواهر الإكليل شرح مختصر خليل للشيخ صالح عبد السميع الأبي، دار المعرفة بيروت.
18 - حاشية ابن عابدين المعروفة برد المحتار، تأليف المحقق محمد أمين الشهير بابن عابدين (ت 1252 هـ) ، دار إحياء التراث العرب، ط الثانية 1407 هـ - 1987 م.
19 - حاشيتا قليوبي (ت 1069 هـ) وعميرة (ت 957 هـ) على شرح جلال الدين المحلي (ت 864 هـ) على شرح منهاج الطالبين للنووي (ت 676 هـ) دار الفكر.
20 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ) ط الثالثة 1400 هـ - 1980 م دار الكتاب العربي.
21 - الدارس في تاريخ المدارس، تأليف عبد القادر بن محمد النعيمي الدمشقي (ت 978 هـ) دار الكتاب العربي.
22 - الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لشيخ الإسلام شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني (852 هـ) تحقيق محمد سيد جاد الحق، ط الثانية 1385 هـ - 1966 م.
23 - الذيل على طبقات الحنابلة، لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب (ت 795 هـ) دار المعرفة.
24 - السنن الكبرى لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ) ط الأولى سنة 1346 هـ.
25 - سير أعلام النبلاء لشمس الدين محمد بن أحمد الذهبي (ت 748 هـ) ط الثانية مؤسسة الرسالة.
26 - شذرات الذهب في أخبار من ذهب، للمؤرخ الفقيه عبد الحي بن العماد (ت 1089 هـ) المكتب التجاري بيروت.
27 - شرح محمد بن عبد الباقي الزرقاني (ت 1122 هـ) على موطأ الإمام مالك، دار المعرفة 1398 هـ - 1978 م.
28 - صفة الصفوة، لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت 597 هـ) ط الثانية 1399 هـ - 1979 م.
29 - الضعفاء الكبير، للحافظ أبي جعفر محمد بن عمرو بن موسى العقيلي (ت 322 هـ) تحقيق د. عبد المعطي أمين قلعجي، ط الأولى 1404 هـ - 1984 م دار الكتب العلمية.(33/140)
30 - طبقات الحفاظ، لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) دار الكتب العلمية 1403 هـ - 1983 م.
31 - طبقات الحنابلة، لأبي الحسين محمد بن أبي يعلى بن الفراء (ت 526 هـ) دار المعرفة.
32 - طبقات الشافعية الكبرى، لتاج الدين أبي نصر عبد الوهاب ابن تقي الدين السبكي (771 هـ) ، ط الثانية، دار المعرفة، بيروت.
33 - الطبقات الكبرى، تأليف محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري (230 هـ) دار صادر بيروت.
34 - العبر في خبر من غبر، لمؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي (748 هـ) ط الأولى 1455 هـ - 1985 م.
35 - الفتاوى الهندية، لجماعة من علماء الهند، ط الثالثة 1400 هـ - 1980 م دار إحياء التراث العربي.
36 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ) ، المطبعة السلفية ومكتبتها سنة 1380 هـ.
37 - الفروع، لشمس الدين المقدسي أبي عبد الله محمد بن مفلح (ت 763 هـ) ، ومعه تصحيح الفروع لعلاء الدين أبي الحسين المرداوي (ت 855 هـ) ط الثالثة 1388 هـ - 1967 م. عالم الكتب.
38 - الفوائد البهية في تراجم الحنفية للعلامة أبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي (ت 1304 هـ) ، دار المعرفة - بيروت.
39 - قوانين الأحكام الشرعية ومسائل الفروع الفقهية، تأليف محمد بن أحمد بن جزي الغرناطي (ت 741 هـ) دار العلم للملايين سنة 1979 م.
40 - الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة للإمام الذهبي (ت 748 هـ) ط الأولى 1392 هـ - 1972 م، دار الكتب الحديثة - القاهرة.
41 - الكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل، لشيخ الإسلام أبي محمد عبد الله بن قدامة المقدسي (ت 620 هـ) ، ط الثالثة 1402 هـ - 1982 م.
42 - الكافي في فقه أهل المدينة المالكي، لأبي عمر بن عبد البر (ت 463 هـ) ط الأولى، مكتبة الرياض الحديثة 1398 هـ - 1978 م.
43 - الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي الجرجاني (ت 365 هـ) ط الثانية دار الفكر بيروت.
44 - كشف الظنون، لمؤلفه مصطفى بن عبد الله أفندي المعروف بالكاتب الجلبي وبالحاج خليفة (ت 1067) دار العلوم الحديثة بيروت.
45 - لسان الميزان، للحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (852 هـ) ط الثانية، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات 1390 هـ - 1971 م.
46 - المبدع في شرح المقنع، لأبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح(33/141)
47 - المجموع شرح المهذب، لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي (ت 676 هـ) ، ومعه فتح العزيز شرح الوجيز للرافعي، إدارة الطباعة المنبرية، مطبعة التضامن الأخوي بمصر.
48 - المحرر في الفقه لشيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات ابن تيمية (652 هـ) دار الكتاب العربي بيروت.
49 - المدونة الكبرى، للإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ) رواية سحنون بن سعيد التنوخي (ت 240 هـ) عن عبد الرحمن بن القاسم (ت 191 هـ) عن مالك، دار صادر بيروت.
50 - مراصد الإطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع لصفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي (ت 739 هـ) ، ط الأولى 1373 هـ - 1954 م، دار المعرفة.
51 - مسائل الإمام أحمد، رواية ابنه صالح (ت 266 هـ) ، تحقيق فضل الرحمن دين محمد، ط الأولى 1408 هـ - 1988 م الدار العلمية.
52 - مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (290 هـ) تحقيق زهير الشاويش، ط الأولى 1401 هـ - 1981 م المكتب الإسلامي.
53 - مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني (ت 275 هـ) دار المعرفة بيروت.
54 - مسائل الإمام أحمد رواية إسحاق بن هانئ (ت 275 هـ) تحقيق زهير الشاويش ط الأولى 1400 المكتب الإسلامي.
55 - مسند الشافعي، لأبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (ت 204 هـ) ط الأولى 1400 هـ - 1980 م - دار الكتب العلمية.
56 - المصنف في الأحاديث والآثار، للإمام الحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت 235 هـ) تحقيق الأستاذ عامر العمري الأعظمي، الدار السلفية الهند.
57 - المغني والشرح الكبير لموفق الدين ابن قدامة (ت 620 هـ) وفي أسفله الشرح الكبير على متن المقنع لأبي الفرج عبد الرحمن بن قدامة (ت 682 هـ) دار الكتاب العربي 1403 هـ - 1983 م.
58 - المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد، لبرهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد مفلح (ت 884 هـ) تحقيق د. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين ط الأولى مكتبة الرشد للنشر والتوزيع 1410 هـ - 1990 م.
59 - المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد لأبي اليمن مجير الدين عبد الرحمن بن محمد العليمي (ت 928 هـ) تحقيق محيي الدين عبد الحميد ط الثانية 1404 هـ - 1984 م عالم الكتب.
60 - موطأ الإمام مالك بن أنس (ت 179 هـ) رواية يحيى بن يحيى الليثي (ت 234 هـ) من منشورات الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة العربية السعودية.(33/142)
تفسير سورة الناس
تأليف شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى
تحقيق وتعليق: د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي (1) .
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين: أما بعد. .
فإن الشرور التي تصيب الإنسان - أعاذنا الله وإياكم منها - إما أن تكون من الخارج، وإما أن تكون من الداخل ولا ثالث لهما.
ولذا فقد وردت النصوص بالأمر بالاستعاذة بسورتي الفلق والناس؛ لاشتمالهما معا على الحرز من الشرور كلها داخلها وخارجها.
ففي سورة الفلق استعاذة من {شَرِّ مَا خَلَقَ} (2) {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} (3) {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (4) {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (5) وهذه تشمل كل شر من خارج الإنسان.
وفي سورة الناس استعاذة من شر الوسوسة التي هي أصل الشرور من داخل الإنسان.
وبالاستعاذة بالسورتين يحترز الإنسان من الشرور كلها داخلها وخارجها. ولضرورة أن يعرف المسلم الكلام الذي يستعيذ به ويناجي به ربه
__________
(1) '' ورددت ترجمة للباحث في العدد 27 '' صفحة 257 من مجلة البحوث الإسلامية.
(2) سورة الفلق الآية 2
(3) سورة الفلق الآية 3
(4) سورة الفلق الآية 4
(5) سورة الفلق الآية 5(33/143)
فقد بحثت عن تفسير لهما ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل حتى وقفت على مخطوطة لشيخ الإسلام الإمام \ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى. فسر بها السورتين، تبين لي أنها تلخيص من الشيخ لتفسير ابن القيم رحمه الله تعالى لهما فما زادني هذا إلا حرصا عليها فحسبك بابن القيم علما ومعرفة في موضوع هاتين السورتين خاصة وفي العلوم الشرعية عامة.
وحسبك بالشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى قدرة على التقاط درر الكلام وجواهره.
أما موضوع سورة (الناس) وهو (الوسواس) فقد يستهين به بعض الناس ويحسبونه أمرا هينا، وقد يقول أحدهم ليس الخوف من الوسواس والوسوسة وإنما الخوف من تخلي بعض الشباب عن التمسك والإلزام بالدين، وغاب عن أذهان هؤلاء - ولم يجهلوا - أن أول معصية من البشر كانت عن طريق الوسوسة، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} (1) ، وقال سبحانه: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا} (2) .
وقد رد ابن القيم رحمه الله تعالى على أولئك الذين يرون أن الوسواس خير من التفريط في الدين فقال: " وأما قولكم: إن الوسواس خير مما عليه أهل التفريط والاسترسال وتمشية الأمر كيف اتفق، إلى آخره ".
فلعمر الله إنهما لطرفا إفراط وتفريط، وغلو وتقصير، وزيادة ونقصان وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الأمرين في غير موضع. . فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه. وخير الناس النمط الأوسط، الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين، ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطا (3) .
__________
(1) سورة طه الآية 120
(2) سورة الأعراف الآية 20
(3) إغاثة اللهفان: ابن القيم ج: 1 ص: 201.(33/144)
وقد حرصت على التعليق على بعض المسائل وإلحاق بعض الفوائد المتعلقة بالموضوع خاصة من أقوال ابن القيم رحمه الله تعالى نفسه صاحب أصل التفسير، سواء كان النقل من تفسيره أو من غيره، ونقلت عن بعض علماء المسلمين الآخرين.(33/145)
التعريف بالتفسير:
قلت إن هذا التفسير مختصر لتفسير ابن القيم، وينبغي أن أؤكد هنا أن الشيخ لم يكن في تلخيصه آلة صماء، يبتر النص بترا، ويرقع الجمل ترقيعا، بل ظهرت شخصيته العلمية، وبرزت معالم فكره، وما يؤيده وما لا يؤيده.
وقد يكون القصد في بعض المواضع الاختصار فحسب، وقد يظهر للمتمعن أن القصد ليس الاختصار في مواضع أخرى، وذلك حين يحذف كلمة أو كلمتين بين جمل متصلة، في هذه الكلمة أو الكلمتين اعترك العلماء، وتعددت الأقوال، فإيرادها أخذ بقول وحذفها وحدها قد يكون رفضا لهذا القول، وبذا يظهر جانب من شخصية الشيخ العلمية.
هذا فضلا عن زيادة في جملة، أو تغيير في عبارة، أو ربط بين جملة وأخرى.
وينبغي أن أوضح أيضا أن الشيخ رحمه الله تعالى قد اختصر هذا المختصر وطبع عدة مرات.(33/145)
أصول الكتاب
بحثت في مكتبات كثيرة عن نسخ مخطوطة لهذا التفسير، وبعد بحث وتنقيب لم أعثر إلا على نسخة واحدة، أما بقية النسخ الواردة في فهارس بعض المكتبات فهي للتفسير المختصر لسورة الناس، وليست لهذا التفسير، وقد طبع هذا المختصر عدة مرات كما أشرت آنفا، أما هذا التفسير فلم أجده مطبوعا من قبل.
ولأجل التحقق من صحة النسخة المخطوطة وسلامتها من التصحيف أو التحريف قمت بمقابلتها على النسخ المطبوعة لتفسير سورة الناس لابن القيم رحمه الله تعالى ضمن (تفسير المعوذتين) .
أما النسخة المخطوطة لهذا التفسير فقد صورتها من مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وهي برقم (2320) وهي مصورة عن المتحف العراقي كما كتب بخط اليد وتقع في خمس صفحات، في كل صفحة نحو ثلاثة وثلاثين سطرا، كما أنه يوجد نسخة لتفسير سورة الإخلاص ومعها تفسير المعوذتين في مكتبة الآثار العامة - ببغداد رقم (35179) ، ونسخة أخرى في خزائن مكتبة الأوقاف ببغداد برقم (3279) بعنوان (تفسير سورة الإخلاص، والفلق، والناس) .
وقد طلبت تصويرهما عن طريق مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وقد بادر المركز بإرسال طلب التصوير قبل سنتين ولم يتيسر ذلك حتى الساعة، علما أني لا أعرف أي التفسيرين فيهما التفسير المختصر أو التفسير المطول للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم وأن يغفر لي ما شابه من نقص أو قصور، إنه سميع مجيب وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(33/146)
صفحة فارغة(33/147)
وأما سورة الناس.
فقد تضمنت أيضا (1) .
مستعاذا به.
ومستعاذا منه.
ومستعيذا (2) .
فأما المستعاذ به فهو: الله رب الناس ملك الناس إله الناس، فذكر ربوبيته للناس، وملكه إياهم، وإلهيته لهم، ولا بد من مناسبة في ذكر في الاستعاذة من الشيطان.
فأضافهم في الكلمة الأولى (3) إلى ربوبيته، المتضمنة خلقهم،
__________
(1) أي كما تضمنت ذلك سورة الفلق التي سبق للشيخ أن فسرها.
(2) في المخطوطة (مستعاذ به، ومستعاذ منه، ومستعيذ) وهو لحن فصححته.
(3) أي قوله سبحانه (رب الناس) .(33/148)
وتربيتهم، وتدبيرهم، وإصلاحهم، وحفظهم مما (1) يفسدهم، وهذا معنى ربوبيته لهم، وذلك يتضمن (2) قدرته التامة، ورحمته الواسعة، وعلمه بتفاصيل أحوالهم، وإجابة (3) دعواتهم، وكشف كرباتهم.
وأضافهم في الكلمة الثانية (4) إلى ملكه، فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم في الشدائد والنوائب، فلا صلاح لهم، ولا قيام إلا به.
وأضافهم في الكلمة الثالثة (5) إلى إلهيته فهو إلههم الحق، ومعبودهم الذي لا إله لهم (6) سواه، ولا معبود لهم غيره، فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشاركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد، فكذلك (7) هو وحده إلههم ومعبودهم فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته، كما لا شريك معه (8) في ربوبيته وملكه.
وهذه طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة.
__________
(1) في المخطوطة (لمن) والصواب كما جاء في تفسير ابن القيم رحمه الله تعالى (مما) .
(2) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية: لابن قاسم ج 3: ص 112.
(3) في المخطوطة (وبإجابة) والصواب ما أثبته من تفسير ابن القيم.
(4) أي قوله سبحانه: (ملك الناس) .
(5) أي قوله سبحانه: (إله الناس) .
(6) في المخطوطة (لا إله سواه: وأثبت ما في تفسير ابن القيم لقوله بعد: (ولا معبود لهم غير) .
(7) إشارة إلى أن توحيد الربويية يستلزم توحيد الألوهية.
(8) في المخطوطة (كما لا معه شريك) وأثبت ما في تفسير ابن القيم.(33/149)
فإذا كان هو ربنا ومليكنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره، فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف، ولا يرجى ولا يحب سواه، ولا يذل لغيره، ولا يخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه (1) ، لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه، إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك فهو ربك فلا رب لك سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقا وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى روحك وحياتك وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه، فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه، فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى الأعداء (2) وأعظمهم عداوة.
ثم إن الله سبحانه كرر الاسم الظاهر (3) ، ولم يوقع المضمر موقعه (4) ، فيقول: رب الناس، وملكهم، وإلههم، تحقيقا لهذا المعنى (5) ، فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه.
__________
(1) هذه الأمور التي ذكرها من أنواع العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله تعالى.
(2) في المخطوطة (أعداء العدو) وهو خطأ فأثبت ما في تفسير ابن القيم.
(3) أي (الناس) في قوله تعالى: (رب الناس، ملك الناس، إله للناس) .
(4) في المخطوطة (وقعه) وهو خطأ فصححته فأثبت ما في تفسير ابن القيم.
(5) أي المناسبة التي بينها للإضافات الثلاث.(33/150)
ولم يعطف بالواو لما فيها من الإيذان بالمغايرة.
قدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب، وأخر الإلهية لخصوصها لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده، ووحده، واتخذه إلها دون غيره، فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه ولكن المشرك ترك (1) إلهه الحق واتخذ إلها غيره.
ووسط صفة الملك بين الربوبية والإلهية لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره، المطاع إذا أمر، فملكه (2) لهم تابع لخلقه إياهم، فملكهم (3) من كمال ربوبيته، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه، وملكه يستلزم إلهيته، فهو الرب، الملك، الإله. خلقهم بالربوبية وقهرهم بالملك واستعبدهم بالإلهية.
فتأمل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على
__________
(1) في المخطوطة (ولكن ترك) وزدت كلمة (المشرك) من تفسير ابن القيم.
(2) في تفسير ابن القيم (وملكه) .
(3) تفسير ابن القيم (فملكه) .(33/151)
أبدع نظام وأحسن سياق (رب الناس، ملك الناس، إله الناس) .
وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان (1) وتضمنت معنى جميع أسمائه الحسنى (2) .
أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى.
فإن الرب هو: القادر، الخالق، البارئ، المصور، الحي، القيوم، العليم، السميع، البصير، المحسن، المنعم، الجواد، المعطي، المانع، النافع، الضار، المقدم، المؤخر، يهدي ويضل، ويسعد، ويشقي، ويعز ويذل، إلى غير ذلك من المعاني الربوبية.
وأما الملك: فهو الآمر، الناهي، المعز، المذل الذي يصرف أمور عباده كما يحب، ويقلبهم كما يشاء، فهو العزيز، الجبار، المتكبر الحافظ، الرافع، المعز، المذل، العظيم، الجليل، الوالي، المتعالي، الملك، المقسط، الجامع، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك.
وأما الإله فهو الجامع لصفات الكمال، ونعوت الجلال، فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى.
__________
(1) لاشتمالها على الربوبية و (الملك) و (الألوهية) .
(2) سيبين بعد ذلك وجه تضمن هذه الأسماء (الرب، الملك، الإله) للأسماء الحسنى.(33/152)
ولهذا (1) كان القول الصحيح أن الله: أصله الإله، وأن اسم الله تعالى هو: الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى، والصفات العليا وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر، وإنما غاية أصل العلم الاستدلال بما يظهر منها على ما وراءه (2) .
وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر (3) الذي هو سبب الذنوب والمعاصي وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة.
فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من ظلم الغير بالسحر والحسد وهو شر من خارج (4) .
وسورة الناس تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من داخل.
فالشر الأول لا يدخل تحت التكليف، ولا يطلب منه الكف عنه، لأنه ليس من كسبه.
والشر الثاني الذي في سورة الناس يدخل تحت التكليف ويتعلق به النهي، فهذا شر المعائب، والأول شر المصائب، والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب ولا ثالث لهما.
فتضمنت سورة الناس الاستعاذة من شر العيوب كلها لأن أصلها كلها
__________
(1) أي لكون الإله جامعا لصفات الكمال ولكونه أصلا لاسم الله فإن اسم الله جامع لمعاني الأسماء الحسنى.
(2) أي الاستدلال بالمعاني الظاهرة على ما وراءها من الاستنباطات والنتائج واللوازم.
(3) يعني الوسواس
(4) في المخطوطة (وهو شر خارج) والصواب ما أثبته من تفسير ابن القيم.(33/153)
الوسوسة.
وأصل الوسوسة الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس فيحترز منه، فالوسواس الإلقاء الخفي في النفس:
إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه.
وإما بغير صوت ما يوسوس الشيطان إلى العبد.
و (الوسواس الخناس) . وصفان لموصوف محذوف. وهو الشيطان.
فالوسواس: الشيطان، لأنه كثير الوسوسة.
وأما (الخناس) فهو فعال من خنس يخنس. إذا توارى واختفى (1) فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان (2) وبذر فيه الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها. فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس.
__________
(1) قال ابن منظور: (خنس الرجل إذا توارى وغاب) لسان العرب مادة خنس ج: 6 ص: 71.
(2) قال الله تعالى: '' ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين '' (الزخرف: 36) .(33/154)
والانخناس: تأخر ورجوع (1) معه اختفاء، قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب (2) في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس.
ويقال: رأسه كرأس الحية، وهو واضع رأسه على ثمرة (3) القلب يمنيه ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس، وإذا لم يذكره عاد ووضع رأسه يوسوس إليه. وجيء بلفظ (الفعال) دون (الفاعل) (4) إعلاما بشدة (5) هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله وأن ذلك دأبه. فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلا (6) لأنه يعذبه بذكر الله وطاعته وفي أثر عن بعض السلف، أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر، لأنه كلما اعترضه صب عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد.
وأما شيطان الفاجر فهو معه في راحة ودعة، ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله وتوحيده واستغفاره وطاعته عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار، فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه.
__________
(1) ولا رجوع ولا اختفاء إلا بعد تقدم وظهور فالانخناس اختفاء بعد ظهور فهو يجمع أمرين الاختفاء والرجوع.
(2) الخرطوم وهو الأنف. انظر لسان العرب لابن منظور ج: 12 ص 173.
(3) تطلق الثمرة ويراد بها طرف الشيء، ومنه حديث ابن عباس أنه أخذ بثمرة لسانه أي بطرفه.
(4) أي بلفظ (الخناس) دون الخانس. .
(5) لو قال: (إعلاما بتكرار هروبه ورجوعه كلما ذكر الله ودأبه على ذلك) لكان أظهر كما سيأتي بيانه.
(6) قال ابن مسعود رضي الله عنه: (شيطان المؤمن مهزول) انظر إحياء علوم الدين: الغزالي ج: 3 ص: 31.(33/155)
وتأمل كيف جاء بناء الوسواس (1) مكررا لتكريره (2) الوسوسة الواحدة مرارا حتى يعزم عليها العبد.
وجاء بناء الخناس على وزن (الفعال) الذي يتكرر منه نوع الفعل، لأنه كلما ذكر الله انخنس فإذا غفل العبد عاوده (3) بالوسوسة، فجاء بناء اللفظين مطابقا لمعنييهما.
وقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (4) صفة ثالثة للشيطان، فذكر وسوسته أولا، ثم ذكر محلها ثانيا، وأنها في صدور الناس.
وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد ونفوذا إلى قلبه وصدره فهو يجري منه مجرى الدم، وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات ومن وسوسته:
أنه يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله، ولهذا يضاف
__________
(1) أي مكررا من الواو والسين وانظر ما جاء هامش ص 28.
(2) في المخطوطة (لتكرره) وصححته من تفسير المعوذتين لابن القيم.
(3) في المخطوطة (عاد) وأثبت ما في تفسير المعوذتين لابن القيم.
(4) سورة الناس الآية 5(33/156)
النسيان إليه (1) كما قال تعالى عن صاحب موسى: " فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان ". وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه (الوسواس إلى آخر السورة) ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة جميع شره، فإن قوله (من شر الوسواس) (2) يعم كل شره، ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة فإن القلب يكون فارغا من الشر فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه ويشهيه فيصير شهوة، ويزينها ويحسنها له، فتصير إرادة، ثم لا يزال يمثل (3) ويشهي وينسي ضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها فلا يرى إلا التذاذه بالمعصية فقط وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادة عزيمة جازمة (4) فيشتد الحرص من القلب، فلا يزال الشيطان بالعبد يقوده إلى الذنب وينظم
__________
(1) من باب إضافة الشيء إلى سببه كما قال ابن القيم في تفسيره ص: 107.
(2) في المخطوطة (الوسواس) وأثبت ما في تفسير ابن القيم.
(3) في تفسير ابن القيم (يمثل له) .
(4) في المخطوطة (فتصير الإرادة جازمة) وأثبت ما في تفسير ابن القيم.(33/157)
شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة. فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة.
فلهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها أهم، وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا.
فمن شره أنه لص سارق لأموال الناس فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف، وكذلك يبيت في البيت الذي لم يذكر فيه اسم الله فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم، ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم، ويدل على عوراتهم فيأمر العبد بالمعصية، ثم يلقي في قلوب أعدائه يقظة ومناما أنه فعل كذا وكذا.
ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس (1) فيصبح والناس يتحدثون به، وما ذاك إلا أن الشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته فيغتر العبد، ويقول: هذا ذنب لم يره إلا الله، ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته، وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة.
ومن شره أنه يعقد على رأس العبد إذا نام عقدة تمنعه من اليقطة كما في صحيح البخاري: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد (2) » . . . الحديث.
__________
(1) في المخطوطة (لا يطلع عليه إلا الله أحدا من الناس) وأثبت ما في تفسير ابن القيم.
(2) صحيح البخاري الجمعة (1142) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (776) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1607) ، سنن أبو داود الصلاة (1306) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1329) ، مسند أحمد بن حنبل (2/243) ، موطأ مالك النداء للصلاة (426) .(33/158)
ومن شره أنه يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح.
ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه أن يسلكه، فإن خالفه وسلكه ثبطه وعوقه. فإن عمله وفرغ منه سعى فيما يبطله.
ويكفي من شره أنه أقسم ليأتينهم من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم.
فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر فلا خلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده ولا يمكن حصر أجناس شره، فضلا عن آحادها، إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه، ولكن ينحصر شره في ستة (1) أجناس.
فإذا ظفر بذلك من ابن آدم (2) استراح وهو أول ما يريد من العبد، فإن يئس منه من ذلك، وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه (3) نقله إلى (المرتبة الثانية) من الشر وهي: البدعة.
__________
(1) في المخطوطة (أربعة) ولكنه ذكر ستة كابن القيم في تفسيره.
(2) في المخطوطة (بابن آدم) وأثبت ما في تفسير المعوذتين: لابن القيم.
(3) لعله يريد من ولدوا في ديار الإسلام ولم يعرفوا الشرك.(33/159)
وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي لأن ضررها متعد وهو ذنب لا يتاب منه وهي مخالفة لدعوة الرسل. ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به، فإذا نال منه البدعة وجعله من أهلها، صار نائبا له وداعيا من دعاته، وإن عجز من هذه المرتبة نقله إلى (المرتبة الثالثة) وهي الكبائر على اختلاف أنواعها. فهو أشد حرصا على أن يوقعه فيها، ولا سيما إن كان عالما متبوعا فهو حريص على ذلك لينفر الناس منه ثم يشيع من ذنوبه في الناس ويستنيب منهم من يشيعها تقربا (1) - بزعمه - إلى الله - وهو نائب إبليس ولا يشعر، فإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم هذا إذا أحبوا إشاعتها فكيف إذا تولوا هم إشاعتها، فإن عجز عن هذه المرتبة نقله إلى (المرتبة الرابعة) وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض (2) » وذكر حديثا معناه أن كل واحد منهم جاء بعود حطب حتى أوقدوا نارا عظيمة فطبخوا.
ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها، فيكون صاحب
__________
(1) وما أكثر الذين يخوضون في أعراض العلماء في مجالس العامة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/403) .(33/160)
الكبيرة الخائف أحسن حالا منه، فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى: (المرتبة الخامسة) وهي: انشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب بل عاقبتها فوات الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها، فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة، وكان حافظا لوقته شحيحا به، يعلم أنه مقدار أنفاسه وانقطاعها وما يقابلها من النعيم والعذاب نقله إلى: (المرتبة السادسة) وهي أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليفوته ثواب العمل الفاضل فيأمره بفعل الخير المفضول ويحضه عليه إذا تضمن ترك ما هو أفضل منه، وقل من يتنبه لهذا من الناس فإنه إذا رأى فيه داعيا قويا إلى نوع من الطاعة فإنه لا يكاد (1) يقول هذا الداعي من الشيطان فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير (2) ولم يعلم أن الشيطان يأمره بسبعين بابا من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا، وأجل، وأفضل.
وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد يكون سببه تجريد متابعة الرسول، وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله، وأحبها إليه، وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحة لله، ولرسوله ولكتابه، ولعباده المؤمنين، خاصتهم وعامتهم، وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك لا يخطر بقلوبهم (3) .
فإذا أعجزه العبد من هذه المراتب الست سلط عليه حزبه من
__________
(1) أي يستبعد أن يكون هذا من وسوسة الشيطان لجهله أن الشيطان قد يأمر بخير لتفويت أعظم منه فضلا.
(2) في المخطوطة (خيرا) وصححته من تفسير المعوذتين لابن القيم.
(3) في المخطوطة (محجوبون، ذلك لا يخطر بقلوبهم) .(33/161)
الإنس والجن بأنواع الأذى، والتكفير، والتبديع، والتحذير منه ليشوش عليه قلبه، وليمنع الناس من الانتفاع به.
فحينئذ يلبس المؤمن لأمة (1) الحرب ولا يضعها عنه، إلى الموت ومتى وضعها أسر وأصيب فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله.
فتأمل هذا الفصل وتدبره، واجعله ميزانك، تزن به نفسك، وتزن به الناس، والله المستعان.
وتأمل السر في قوله تعالى: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (2) ولم يقل قلوبهم، والصدر هو ساحة القلب، وهو بمنزلة الدهليز وبيته، فمنه تدخل (3) الواردات إليه فتجتمع في الصدر ثم تلج في القلب، ومن القلب تخرج (4) الأوامر، والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود.
ومن فهم هذا فهم قوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} (5) فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته ويلقي ما يريد إلقاءه إلى القلب.
فهو موسوس (6) في الصدر وسوسة واصلة إلى القلب، ولهذا قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} (7) ولم يقل: فيه، لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله إليه فدخل في قلبه (8) .
وقول تعالى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (9) .
__________
(1) اللأمة: الدرع. لسان العرب جـ: 12 ص: 532.
(2) سورة الناس الآية 5
(3) في المخطوطة (يدخل) .
(4) في المخطوطة (يخرج) .
(5) سورة آل عمران الآية 154
(6) في المخطوطة (فهو سوس) وهو خطأ فصححته.
(7) سورة طه الآية 120
(8) فالوسوسة في الصدر ومنه إلى القلب.
(9) سورة الناس الآية 6(33/162)
اختلف الناس في هذا الجار والمجرور، وبم يتعلق فقال الفراء وجماعة: هو بيان للناس الموسوس في صدورهم أي أن الموسوس في صدورهم قسمان: إنس وجن، فالوسواس يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي، وهذا القول ضعيف جدا لوجوه منها:
أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي.
(والناس) (1) اسم لبني آدم، فلا يدخل الجن في مسماهم.
والصواب القول الثاني وهو: أن قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (2) بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان، إنس، وجن، فالجني يوسوس في صدر الإنسي، والإنسي يوسوس إلى الإنسي (3) .
__________
(1) هذا هو الوجه الثاني.
(2) سورة الناس الآية 6
(3) عند ابن القيم (في صدور الإنس) .(33/163)
فالموسوس نوعان: إنس، وجن.
فإن الوسوسة هي: الإلقاء الخفي في القلب (1) وهذا مشترك بين الجن والإنس، وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى الواسطة لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم على أن الجني قد يتمثل ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي كما في البخاري (2) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الملائكة تحدث في العنان - والعنان الغمام - بالأمر يكون في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة
__________
(1) ذكرت تعريف الوسوسة فيما سبق.
(2) رواه البخاري في صحيحه جـ: 4 ص: 94 وليس فيه (من عند أنفسهم) .
(3) صحيح البخاري بدء الخلق (3288) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (824) .(33/163)
فتقرها (2) القارورة، فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم» .
فهذه (3) وسوسة وإلقاء من الشيطان (4) بواسطة الأذن، ونظير اشتراكهما (5) في هذه الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} (6) ،.
ونختم الكلام على السورتين في ذكر قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان ويحترز منه، وذلك عشرة أسباب: (أحدها) الاستعاذة
__________
(1) في المخطوطة (تحدر) . (3)
(2) (1) في أذن الكاهن، كما تقر في المخطوطة (فيقرها. . كما يقر) .
(3) في المخطوطة (فهذا) .
(4) يعني شيطان الجن.
(5) أي شيطان الجن وشيطان الإنس.
(6) سورة الأنعام الآية 112(33/164)
بالله من الشيطان الرجيم.
قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1) والمراد بالسميع هاهنا سميع الإجابة لا السمع العام.
(الحرز الثاني) قراءة هاتين السورتين.
فإن لهما تأثيرا عجيبا في الاستعاذة (2) بالله من شره ودفعه؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما تعوذ المتعوذون بمثلهما وكان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم وأمر عقبة بن عامر أن يتعوذ بهما دبر كل صلاة وذكر صلى الله عليه وسلم أن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي، وثلاثا حين يصبح كفته من كل شيء.
(الحرز الثالث) قراءة آية الكرسي (3) .
__________
(1) سورة فصلت الآية 36
(2) في المخطوطة (والاستعاذة) .
(3) رواه البخاري ج: 8ص: 104، وانظر الحديث بتمامه ج: 3ص: 63 - 64.(33/165)
(الحرز الرابع) قراءة سورة البقرة.
ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان (1) » .
(الحرز الخامس) خاتمة البقرة.
فقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه (2) » .
(الحرز السادس) أول سورة حم المؤمن. إلى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} (3) .
ففي الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي ليلى عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم المؤمن إلى قوله: وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح (5) » ، وعبد الرحمن المليكي، وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي، وهو محتمل على غرابته.
__________
(1) رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح ولفظه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: '' لا تجعلوا بيوتكم مقابر، وإن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان ''. الجامع الصحيح: للترمذي جـ: 5 ص: 157، وقول المصنف رحمه الله تعالى: (ففي الصحيح) إشارة إلى رواية مسلم ولفظه: '' لاتجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة '' صحيح مسلم جـ: 1 ص: 539.
(2) رواه البخاري جـ: 6 ص: 104، ومسلم جـ: 1 ص 555.
(3) سورة غافر الآية 3
(4) سنن الترمذي كتاب فضائل القرآن (2879) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3386) .
(5) سورة غافر الآية 3 (4) {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}(33/166)
(الحرز السابع) لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة.
ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك (1) » .
فهذا حرز عظيم النفع، جليل الفائدة، يسير سهل على من يسره الله عليه (الحرز الثامن) : وهو من أنفع الحروز من الشيطان: كثرة ذكر الله عز وجل وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة الناس، فإن وصف الشيطان فيها بأنه الخناس والخناس إذا ذكر العبد ربه انخنس، فإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس، فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل.
(الحرز التاسع) الوضوء، والصلاة.
وهذا من أعظم ما يتحرز العبد به ولا سيما عند الغضب والشهوة فإنها نار
__________
(1) صحيح البخاري جـ: 4 ص: 95، وصحيح مسلم جـ: 4 ص: 2071.(33/167)
تصلى (1) في قلب ابن آدم، كما روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم (2) » فما أطفأ (3) العبد جمرة الغضب بمثل الوضوء والصلاة، فإن الصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال على الله فيها أذهبت أثر ذلك جملة، وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل.
(الحرز العاشر) إمساك فضول النظر، والكلام، والطعام، ومخالطة الناس فإن الشيطان إنما ينال غرضه من ابن آدم من هذه الأبواب الأربعة فإن فضول النظر: يدعو إلى الاستحسان، ووقوع المنظور (4) إليه في القلب والاشتغال به، وفي المسند عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «النظرة (5) سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلي يوم يلقاه» أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابا من الشر كلها مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب، وكم من حرب جرتها كلمة واحدة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وهل يكب
__________
(1) عند ابن القيم (تغلي) .
(2) من حديث طويل وفيه '' ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاح أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض. الحديث '' رواه الترمذي: وقال هذا حديث حسن صحيح جـ: 4 ص: 483 - 484، وإلامام أحمد في مسنده. جـ: 3 ص: 19.
(3) في المخطوطة (طفى) والتصويب من تفسير المعوذتين لابن القيم.
(4) في المخطوطة (يدعو إلى استحسان وقوع المنظور) .
(5) في المخطوطة (النظر) .(33/168)
الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم (1) » . وفي الترمذي: «أن رجلا من الأنصار توفي فقال بعض الصحابة: طوبى له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فما يدريك فلعله تكلم بما لا يعنيه، أو بخل بما لا ينقصه (2) » .
وأكثر المعاصي إنما تولد من فضول الكلام والنظر، وهما أوسع مداخل الشيطان فإن جارحتيهما لا يملان ولا يسأمان بخلاف شهوة البطن. فإنه إذا امتلأ (3) لم يبق فيه إرادة للطعام، وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا.
وكان السلف يحذرون من فضول الكلام (4) وكانوا يقولون ما من شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان (5) ،.
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده جـ: 5 ص: 231، والترمذي جـ: 5 ص: 12، وقال (هذا حديث حسن صحيح) ، ورواه الحاكم في المستدرك جـ: 2 ص: 413، (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.
(2) رواه الترمذي جـ: 4 ص: 2316 وقال: (هذا حديث غريب) ، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت بلفظ آخر ص: 73 - 74.
(3) في المخطوطة (امتلى) .
(4) في المخطوطة (من فضول النظر) وهو خطأ فهو يتحدث عن فضول الكلام
(5) وينسب هذا القول لابن مسعود رضي الله عنه (انظر تصفية القلوب: يحيى بن حمزة اليماني ص 100) .(33/169)
وأما فضول الطعام (1) فهو داع لأنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقلها (2) عن الطاعات وحسبك بهذين شرا فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام، ولهذا جاء في بعض الآثار " ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم "، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن (3) » .
ولو لم يكن في الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله، فإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة غلبه الشيطان وشهاه وهام به في كل واد، فإن النفس إذا شبعت تحركت وطافت على أبواب الشهوات وإذا جاعت سكنت وذلت.
وأما فضول المخالطة فهو الداء العضال، الجالب لكل شر، وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة، وكم زرعت من عداوة، وكم غرست في القلب من حزازة، ففضول المخالطة خسارة في الدنيا والآخرة، وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة.
ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى
__________
(1) في المخطوطة (وأما فضول الكلام) وهو سبق قلم.
(2) في المخطوطة (ويثقله) والصواب ما أثبته من ابن القيم
(3) ونص الحديث: '' ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطن حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث طعام وثلث شراب وثلث لنفسه '' رواه الإمام أحمد في مسنده جـ: 4 ص: 132. والحاكم في مستدركه جـ: 4 ص: 331 - 332، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني (إرواء الغليل جـ: 7 ص: 41) .(33/170)
خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر: -
(أحدها) من مخالطته كالغذاء، لا يستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه، هكذا على الدوام، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر.
وهم العلماء بالله وأمره، ومكائد عدوه، وأمراض القلوب، وأدويتها، الناصحون لله ولكتابه ولرسوله، ولخلقه، فهذا الضرب من مخالطتهم الربح كله.
(القسم الثاني) من مخالطتهم كالدواء، تحتاج إليه عند المرض فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا تستغني عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت تحتاج إليه في أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة.
(القسم الثالث) من مخالطتهم كالداء، على اختلاف أنواعه، وقوته، وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال، وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد أن تخسر عليه الدين والدنيا، أو أحدهما، فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف.
ومنهم من مخالطته كوجع الضرس، فإذا فارقك سكن الألم.
ومنهم من مخالطته حمى الربع وهو الثقيل البغيض الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه (1)
__________
(1) في المخطوطة (منزلته) .(33/171)
فيضعها في منزلتها، بل إن تكلم، فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين، مع إعجابه بكلامه، وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها.
ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال: " ما جلس إلى جنبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أثقل من الجانب الآخر ".
ورأيت يوما عند شيخنا (1) - قدس الله روحه - رجلا من هذا الضرب، والشيخ يحمله وقد ضعفت القوى عن حمله، فالتفت إلي وقال: مجالسة الثقيل حمى الربع. ثم قال: ولكن أدمنت أرواحنا على الحمل فصارت لها عادة، أو كما قال. وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى الربع، ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب، وليس له بد من معاشرته ومخالطته (2) فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا.
(القسم الرابع) من مخالطته هلكة، ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإن اتفق لآكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هذا الضرب في الناس - لا كثرهم الله - وهم أهل البدع والضلالة، الصادون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعون إلى خلافها فيجعلون البدعة سنة، والسنة بدعة.
إن جردت التوحيد قالوا: تنقصت الأولياء والصالحين، وإن جردت المتابعة للرسول قالوا: أهدرت الأئمة المتبوعين، وإن وصفت الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير قالوا: أنت من المشبهين، وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عن المنكر قالوا: أنت من
__________
(1) المراد به ابن تيمية رحمه الله تعالى شيخ ابن القيم مؤلف أصل التفسير.
(2) إشارة إلى قول المتنبي: ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى عدوا له ما من صداقته بد(33/172)
المفتنين، وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من الملبسين وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم فأنت عند الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين.
فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله ورسوله بإغضابهم وأن لا تبالي بذمهم ولا بغضهم، فإنه عين كمالك. كما قال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل
وقال آخر: (1) :
لقد زادني حبا لنفسي أنني (2) ... بغيض إلى كل امرئ , غير طائل (3)
فمن كان (4) بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم وهي فضول النظر، والكلام، والطعام، والمخالطة، واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة (5) التي يتحرز بها من الشيطان فقد أخذ بنصيبه من التوفيق وسد على نفسه باب جهنم، وفتح عليها باب الرحمة ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء، فعند الممات يحمد العبد التقى (6) و (عند الصباح يحمد القوم السرى) .
__________
(1) سقطت من المخطوطة.
(2) في المخطوطة (وقد) وكذا عند ابن القيم في المخطوطة (بأني) .
(3) هذا البيت للطرماح بن حكيم. انظر الشعر والشعراء لابن قتيبة ص390
(4) عند ابن القيم (فمن أيقظ بواب قلبه) .
(5) أي التي قبل هذا الحرز، فالمجموع عشرة.
(6) أحسبه مثلا لكني لم أجده في كتب الأمثال.(33/173)
والله الموفق لا رب غيره. ولا إله سواه.
آخر الكلام على السورتين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وسلم.(33/174)
المراجع:
ا - آفات اللسان، إبراهيم المشوخي، الطبعة الثالثة، 1406 هـ \ 1985 م، مكتبة المنار، الأردن.
2 - آكام المرجان في أحكام الجان، لأبي عبد الله عمر بن عبد الله الشبلي، دار الباز - مكة المكرمة.
3 - إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي، دار الندوة الجديدة، بيوت.
4 - أدب الدنيا والدين، لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي، تحقيق وتعليق \ مصطفى السقا، دار الباز، مكة المكرمة، الطبعة الرابعة 1398 هـ.
5 - الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد د. صالح بن فوزان الفوزان، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، السعودية الطبعة الأولى (1410 هـ) .
6 - تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم) . أبي السعود محمد بن محمد العمادي، دار المصحف، القاهرة.
7 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت، دمشق، الطبعة الأولى، 1399 هـ.
8 - الاعتصام، أبو إسحاق إبراهيم الشاطبي، دار المعرفة، بيروت.
9 - إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، ابن القيم، تحقيق \ محمد سيد كيلاني، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وشركاه بمصر (1381 هـ) .
10 - الإيضاح في علوم البلاغة، الخطيب القزويني، دار الكتاب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1405 هـ.
11 - إيقاظ الحواس في بعض أسرار سورة الناس، السيد عبد الله بن عبد الباري الأهدل، الطبعة الأولى، 1403 هـ، مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة. مكة المكرمة.
12 - البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، دار الفكر - الطبعة الثانية، 1403 هـ.
13 - بدائع الفوائد ابن القيم، دار الكتاب العربي، بيروت، مصورة عن طبعة إدارة الطباعة المنيرية.
14 - بضع رسائل في التوحيد والإيمان، الشيخ الإمام \ محمد بن عبد الوهاب، دار نشر الكتب الإسلامية، لاهور، باكستان.
15 - تاج العروس، محمد مرتضى الزبيدي، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.
16 - التأليف في خلق الإنسان د. وجيه السطل، دار الحكمة، دمشق.(33/175)
17 - الترغيب والترهيب، عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، ضبط وتعليق مصطفى عمارة، الناشر مصطفى الحلبي - مصر، الطبعة الثالثة، 1388 هـ.
18 - تصفية القلوب من درن الأوزار والذنوب، يحيى بن حمزة اليماني الذماري، المكتبة السلفية ومطبعتها، مصر.
19 - تفسير الفاتحة، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، تحقيق فهد بن عبد الرحمن الرومي، مكتبة الحرمين، الرياض، الطبعة الثالثة، 1409 هـ.
20 - تفسير سورة الفلق، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، تحقيق وتعليق فهد بن عبد الرحمن الرومي، مكتبة التوبة، الرياض، الطبعة الأولى 1410 هـ.
21 - التفسير الكبير، الفخر الرازي، الطبعة الثالثة، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
22 - تفسير ابن كثير، مكتبة النهضة الحديثة، بمصر، الطبعة الأولى، 1388 هـ.
23 - تفسير المعوذتين لابن القيم، تحقيق وتعليق مصطفى بن العدوي، مكتبة الصديق، الطائف، الطبعة الأولى، 1408 هـ.
24 - تهذيب التهذيب، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، دار الفكر، بيروت مصورة عن الطبعة الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بالهند 1325 هـ.
25 - جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق وتعليق وتخريج محمود وأحمد محمد شاكر، دار المعارف بمصر، وأيضا طبعة المطبعة الأميرية ببولاق، الطبعة الأولى 1329 (مصورة دار المعرفة - بيروت) .
26 - جامع البيان في تفسير القرآن، السيد معين الدين محمد بن عبد الرحمن الحسني الأيجي، الطبعة الثانية، 1397 هـ.
27 - الجامع الصحيح، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
28 - جامع العلوم والحكم، لأبي الفرج عبد الرحمن بن رجب: الناشر: المؤسسة السعيدية بالرياض.
29 - الجامع لأحكام القرآن، أبي عبد الله محمد القرطبي، أعاد طبعه دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1967 م.
30 - رسالة في حقيقة الصيام، ابن تيمية، خرج أحاديثها محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي - دمشق.
31 - سلسلة الأحاديث الضعيفة، محمد ناصر الدين الألباني، طبعة المكتب الإسلامي "، دمشق، الطبعة الأولى، 1399 هـ، وطبعة مكتبة المعارف - الرياض الطبعة الأولى، 1408 هـ (الثالث والرابع) .
32 - سنن الدارمي، دار الفكر - القاهرة، 1398 هـ.
33 - سنن أبي داود، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار إحياء السنة النبوية.
34 - سنن المصطفى، ابن ماجه، الطبعة الثانية، دار الفكر، بيروت.
35 - سنن النسائي، مع شرح الحافظ جلال الدين السيوطي، وحاشية الإمام السندي، دار(33/176)
الفكر، بيروت، 1398 هـ.
36 - شرح ديوان المتنبي، وضعه: عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتاب العربي بيروت.
37 - شرح العقيدة الطحاوية، علي بن علي بن محمد بن أبي العز، تحقيق د. عبد الله التركي، شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى 1408 هـ.
38 - أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك. أبو محمد عبد الله جمال الدين بن هشام، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، الطبعة الخامسة، 1386 هـ.
39 - الشعر والشعراء، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة، تحقيق د. مفيد قميحة، ونعيم زرزور، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1405 هـ.
40 - الصحاح، إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الثانية، 1402 هـ، على نفقة السيد حسن عباس الشربتلي.
41 - صحيح البخاري، المكتبة الإسلامية - إستانبول - تركيا - 1979 م.
42 - صحيح مسلم، تحقيق وتصحيح وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، رئاسة إدارات البحوث العلمية - الرياض، 1400 هـ.
43 - صفة الصفوة، جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي، دار المعرفة - بيروت، الطبعة الثالثة، 1405 هـ.
44 - الصمت، لابن أبي الدنيا، تحقيق د. محمد أحمد عاشور، دار الاعتصام القاهرة، الطبعة الأولى 1406 هـ.
45 - ضعيف الجامع الصغير وزيادته، محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، دمشق، بيروت، 1398 هـ.
46 - طبقات الشافعية الكبرى، تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب السبكي، تحقيق عبد الفتاح الحلو، محمود الطناحي، الطبعة الأولى، عيسى البابي الحلبي، مصر، 1383 هـ - 1964.
47 - غرائب التفسير وعجائب التأويل، محمود بن حمزة الكرماني، تحقيق د. شمران العجلي، الطبعة الأولى - 1408 هـ، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، مؤسسة علوم القرآن - دمشق.
48 - الفائق في غريب الحديث، محمود بن عمر الزمخشري، تحقيق علي البجاوي، محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة - بيروت، الطبعة الثانية.
49 - فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني تصحيح وتعليق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
50 - فقه اللغة وسر العربية، الإمام أبي منصور إسماعيل الثعالبي، دار الباز - مكة المكرمة.
51 - القاموس المحيط، الفيروزآبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ.
52 - الكشاف، محمود بن عمر الزمخشري، دار الباز - مكة المكرمة.(33/177)
53 - كشف الأستار عن زوائد البزار على الكتب الستة، نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، تحقيق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى، 1399 هـ.
54 - لسان العرب، ابن منظور، دار صادر بيروت.
55 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، وابنه محمد، مطابع الرياض، الطبعة الأولى، 1381 هـ.
56 - مجمع الأمثال، أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد مطبعة السنة المحمدية - القاهرة، 1374 هـ \ 1955 م.
57 - مجمع الزوائد، ومنبع الفوائد، نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1402 هـ.
58 - مدارج السالكين، ابن القيم، 1375 هـ \ 1956 م.
59 - المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبد الله الحاكم، مكتبة النصر الرياض.
60 - مسند الإمام أحمد، المكتب الإسلامي دار صادر بيروت، مصورة عن طبعة المطبعة الميمنية 1313 وطبعة دار المعارف بمصر سنة 1370 هـ تحقيق أحمد شاكر، وطبعة الاعتصام، تحقيق عبد القادر عطا والدكتور محمد أحمد عاشور.
61 - معاني القرآن، أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء، عالم الكتب، بيروت الطبعة الثانية، 1980 م.
62 - المعجم الكبير، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، وزارة الأوقاف، بغداد، الطبعة الأولى، 1399 هـ.
63 - المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي، ضمن إحياء علوم الدين - للغزالي، مكتبة مصطفى البابي الحلبي بمصر، 1358 هـ.
64 - مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، أبو محمد عبد الله بن هشام الأنصاري، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الباز، مكة المكرمة.
65 - مناهج الجدل في القرآن الكريم، د. زاهر عواض الألمعي، مطابع الفرزدق الرياض.
66 - منهاج العابدين، لأبي حامد الغزالي، مكتبة الجندي، بمصر، 1392 هـ.
67 - مؤلفات الشيخ الإمام \ محمد بن عبد الوهاب، تصنيف وإعداد عبد العزيز الرومي، د. محمد بلتاحي، د. سيد حجاب، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
68 - نزهة الألباء في طبقات الأدباء، لأبي البركات الأنباري، تحقيق د. إبراهيم السامرائي، مكتبة المنار - الأردن، الطبعة الثالثة، 1405 هـ.
69 - النهاية في غريب الحديث والأثر، مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري، ابن الأثير، تحقيق محمود الطناحي، المكتبة الإسلامية لصاحبها رياض الشيخ.
70 - الوابل الصيب من الكلم الطيب ابن القيم، تحقيق وتخريج عبد القادر الأرناؤوط - مكتبة دار البيان، دمشق، الطبعة الثانية - 1399 هـ.(33/178)
71 - وفيات الأعيان، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان، تحقيق د. إحسان عباس، دار صادر بيروت، 1397 هـ.
72 - وقاية الإنسان من الجن والشيطان، وحيد عبد السلام بالي، دار البشير القاهرة، دار الحمدان، الرياض، الطبعة الثانية.(33/179)
صفحة فارغة(33/180)
فضل الزراعة في الإسلام
الدكتور \ عبد الغني أحمد مزهر.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فهذا بحث في فضل الزراعة، وأهمية العناية بها في الإسلام أسأل الله تعالى أن ينفع به وأن يجعله خالصا لوجهه.(33/181)
فضل العمل والحث عليه:
أمر الإسلام بالعمل الشريف الذي يكفل للإنسان معيشته، ويحفظ عليه كرامته ومروءته ويصون ماء وجهه أن يراق، وجعل طلب الحلال فريضة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «طلب الحلال واجب على كل مسلم (1) » .
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط، وقال المنذري في الترغيب (2 \ 546) : إسناده حسن إن شاء الله.(33/181)
وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره، فيبيعها فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه (1) » .
وفي العمل تفضل على الناس بدلا من الحاجة إليهم واستغناء عن فضول أموالهم، وبذلك يكرم المرء نفسه أن تهون على غيره، فإن من عادة الناس أن يستخفوا بمن يحتاج إليهم، ويستهينوا بمن يتواكل عليهم، ومن يستعف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله (2) .
أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما (3)
وقال العباس بن عبيد:
الناس ما استغنيت كنت أخا لهم ... وإذا افتقرت إليهم فضحوكا (4)
وعن أيوب السختياني قال: الزم سوقك فإنك لا تزال كريما على إخوانك ما لم تحتج لهم (5) ، وعن أبي قلابة: إن أعظم العافية الغنى عن الناس، وقال الإمام أحمد: ما أحسن الاستغناء عن الناس.
وبالعمل يستطيع المرء أن يدرك كثيرا من وجوه الخير التي لا يستطيع إدراكها إلا من سعة كصلة الرحم، وقرى الضيف، والقيام بالمشروعات الخيرية، والصدقات الجارية، ومساعدة المحتاجين من الفقراء المساكين، أو المشاركة في كل ما هو عظيم الأثر كبير النفع للأمة، ولذا كان سعد بن عبادة
__________
(1) أخرجه البخاري (الزكاة 3 \ 335) ، وأحمد (1 \ 167) ، وابن ماجه (الزكاة 1 \ 588) .
(2) جزء من حديث أخرجه البخاري (الزكاة 3 \ 335) ، ومسلم (الزكاة 2 \ 729) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) البيت للقاضي عبد العزيز الجرجاني من قصيدة مشهورة.
(4) أخرجه ابن حبان في روضة العقلاء (87) .
(5) روضة العقلاء (226) ، الحلية لأبي نعيم (3 \ 11) .(33/182)
رضي الله عنه يقول: اللهم هب لي مجدا ولا مجد إلا بفعال ولا فعال إلا بمال، اللهم لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه (1) .
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: لا خير فيمن لا يريد جمع المال من حله يكف به وجهه، ويصل به رحمه، ويعطي من حقه (2) .
وقال أبو إسحاق السبيعي رحمه الله: كانوا يرون السعة عونا على الدين (3) .
وعن شعيب بن حرب رحمه الله: لا تحقرن فلسا تطيع الله في كسبه، وليس الفلس يراد، إنما الطاعة تراد، عسى أن تشتري بقلا فلا يستقر في جوفك حتى يغفر لك (4) .
إن من شأن البطالة والقعود عن العمل أن تزيد نسبة الجريمة في المجتمع، وتقضي على عنصري الطموح والتنافس الشريف اللذين هما دولاب الحياة والحركة، كما أن من شأنها أن تساعد على إيجاد جيل هزيل، فاتر العزيمة، متخاذل متواكل يستمرئ الذل وتهون عليه نفسه. كما أن من شأنها أيضا أن تولد لدى المرء شعورا بالحقد والضغينة على الآخرين وإساءة الظن بالأقارب والأصدقاء، والإكثار من الشكوى والتلوم عليهم.
إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلا وأوشكت ... صلات ذوي القربي له أن تنكرا (5)
__________
(1) أخرجه الدارقطني في كتاب الأسخياء، انظر الإصابة (3 \ 80) .
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (2 \ 1073) من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف.
(3) أخرجه أبو نعيم في الحلية.
(4) أخرجه الخلال في الحث على التجارة والصناعة والعمل (54) .
(5) البيتان للنابغة الجعدي انظر ديوانه ص 73.(33/183)
امتنان الله تعالى على عبادة بتهيئتهم للعمل:
امتن الله تعالى على عباده بجعله النهار لهم معاشا، ومسرحا يبتغون فيه من فضله {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (1) ، {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} (2) ، وامتن عليهم بجعله الأرض ميدانا لهذا الكسب والمعاش قال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} (3) ، وقال تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} (4) {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} (5) ، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (6) .
فأشار سبحانه بهذا إلى بعض نعمه على عباده بجعله الأرض مذللة طيعة لهم، لا غاية في الصلابة ولا غاية في الليونة، مهيأة للسير عليها بالأقدام، وعلى الركاب مهيأة للزرع والاستنبات مذللة للآلة التي صنعها الإنسان تستخرج كنوزها، وتحتفر آبارها، وأنهارها، وتحطم صخورها وتعبر طرقاتها، وتقيم السدود والأبراج عليها. وإلى جانب ذلك فإنه تعالى يأمر عباده بالمشي في مناكب الأرض لاستخراج خيراتها وجني ثمراتها والتمتع برزق الله المودع في طياتها، لكنه يذكر بالمصير إليه والوقوف بين يديه، من أجل أن يحسن الإنسان العمل، ولا يحمله الكسب على الغفلة والبطر.
روي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوا الرزق في خبايا الأرض (7) » .
__________
(1) سورة النبأ الآية 11
(2) سورة الروم الآية 23
(3) سورة الأعراف الآية 10
(4) سورة الحجر الآية 19
(5) سورة الحجر الآية 20
(6) سورة الملك الآية 15
(7) أخرجه الطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان، وضعفه النسائي والبيهقي وابن طاهر، فيض القدير (1 \ 542) .(33/184)
قال المناوي في فيض القدير: أي التمسوه في الحرث لنحو زرع وغرس (1) .
__________
(1) المناوي فيض القدير (1 \ 542) .(33/185)
احترام الإسلام للعمل:
ومن احترام الإسلام للعمل أن الله تعالى أمر بتخفيف الصلاة، وهي قيام بين يديه تعالى ومناجاة له، وذلك حتى لا يشق على المرضى، وبعض العملة الضاربين في الأرض المسافرين في جهاتها يتاجرون ويبتغون من فضل الله، وجعل ذلك عذرا يدعو إلى التخفيف كشأن القتال في سبيل الله {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} (1) قال الألوسي في تفسيره: " في قرن المسافرين لابتغاء فضل الله تعالى بالمجاهدين إشارة إلى أنهم نحوهم في الأجر "، أخرج سعيد بن منصور، والبيهقي في الشعب، وغيرهما عن عمر رضي الله عنه قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إلي من أن يأتيني وأنا بين شعبتي جبل ألتمس من فضل الله تعالى، وتلا هذه الآية (2) .
وقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض الأئمة إطالتهم الصلاة إذا كان يعرف من حال المصلين أن منهم مرضى، أو عمالا ومزارعين، وأصحاب نواضح ومهن، لا يستطيعون الغياب عنها طويلا.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «أقبل رجل بناضحين، وقد جنح الليل فوافق معاذا يصلي فترك ناضحيه، وأقبل إلى معاذ فقرأ معاذ سورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل بعد أن قطع الاقتداء بمعاذ، وأتم صلاته منفردا، فبلغ ذلك معاذا، فقال: إنه منافق، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا معاذا فقال:
__________
(1) سورة المزمل الآية 20
(2) الألوسي، روح المعاني (10 \ 142) .(33/185)
النبي صلى الله عليه وسلم: " أفتان يا معاذ، أو أفاتن أنت ثلاث مرات (1) » . . الحديث " (2) .
ومن احترام الإسلام للعمل أنه فضله مهما كان حقيرا أو دنيئا على مسألة الناس، لأنها أدنى الدناءات.
نقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن بعض السلف قوله: " كسب فيه دناءة خير من مسألة الناس " (3) .
والمقصود بالناس هنا جميع الناس الأقارب منهم والأباعد، حتى السلطان.
قال أحمد رحمه الله: " أخذ الأجرة على التعليم خير من جوائز السلطان، وجوائز السلطان خير من صلات الإخوان " (4) .
وعلى ذلك فإن السؤال لا يباح إلا في الحالة القصوى من العوز، أما لو أمكنه العمل في أي نوع من أنواع العمل المشروع، ولو كان فيه شيء من الدناءة، وحط النفس، فإنه لا يجوز له التعرض للسؤال أو مد الأيدي للناس، ولو كان السؤال بأساليب متعددة كالمدح والتعريض وغير ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الأذان (705) ، صحيح مسلم الصلاة (465) ، سنن النسائي الإمامة (835) ، سنن أبو داود الصلاة (790) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (986) ، مسند أحمد بن حنبل (3/308) ، سنن الدارمي الصلاة (1296) .
(2) أخرجه البخاري (الأدب 10 \ 515) .
(3) ابن تيمية، مجموع الفتاوى (30 \ 192) .
(4) مجموع الفتاوى (30 \ 192) .(33/186)
الإسلام والفراغ:
كره الإسلام للمسلم أن يعتاد القعود غير المثمر بحيث تتسع مساحة الفراغ في حياته ويضيع وقته فيما لا يعود عليه بخير في معاشه ولا معاده، فإن هذا هو الغبن والخسارة بعينها حتى ولو كان الإنسان ذا ثروة كبيرة، وكفاية في الدنيا.(33/186)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ (1) » ، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عن إضاعة الوقت في الجلسات على الطرقات تلك التي اعتاد الناس أن يجلسوها، ولما اعتذروا إليه بأنهم لا يستغنون عن مثل هذه المجالس وجههم إلى ضرورة شغل الوقت في عمل الخير فلا يصح أن تكون هذه المجالس خالية عن فائدة، وجعل للطريق حقا على المسلم ينبغي أن يؤديه وحرمة لا بد أن يرعاها (2) ، وعندما تتسع مساحة الفراغ في حياة الإنسان فإنه سيجنح إلى السوء واللغو واللهو، ولذا فقد عمرت المقاهي والمنزهات والمنتديات والمجالس في عصرنا هذا بالكلام الفاحش، أو النظرة الماكرة، أو اللعبة المحرمة، وخلت من معاني الخير والفضيلة إلا في مجال ضيق محدود.
__________
(1) أخرجه البخاري (الرقاق 11 \ 229) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، الغبن: النقص وضعف الرأي (مختار الصحاح 468) .
(2) أخرج البخاري ما يفيد ذلك (المظالم 5 \ 112) من حديث أبي سعيد الخدري.(33/187)
من تعلم مهنة فلا يتركها:
وكره الإسلام أيضا للمسلم أن يتعلم مهنة أو صنعة أو عملا نافعا ثم يتركه دون حاجة، وخاصة إذا كانت هذه المهنة مما يعم نفعها المسلمين، وتتعلق بها بعض مصالحهم، أو لها دور مؤثر في الاقتصاد أو تنمية المجتمع الإسلامي، أو في الدفاع عنه.
إن إحالة الإنسان على المعاش أو التقاعد ليس معناها أن يقطع صلته بالعمل، وما يتعلق بتخصصه فيخلد إلى الخمول والكسل، بل إن الفرصة تصبح متاحة أمامه بشكل أوسع للإبداع والإنتاج، والإفادة من الوقت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أو قد عصى (1) » .
__________
(1) أخرجه مسلم (الإمارة 3 \ 1523) من حديث عقبة بن عامر.(33/187)
فتعلم الرمي أو غيره من وسائل الفروسية والقوة، أو الأعمال النافعة نعمة من نعم الله تعالى على العبد، وكفر هذه النعمة إهمالها وتركها.
وقد امتن تعالى على نبيه داود عليه السلام بأن علمه صنعة الدروع، وأمره وقومه بالقيام بحقها من الشكر {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} (1) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 80(33/188)
رعاية شئون الأسرة:
وأوجب الإسلام على المسلم رعاية شئون أهله وأسرته، ولم يبح له أن يفرط في حقوقهم الدنيوية والأخروية، ومن حقوقهم الدنيوية أن يؤمن لهم قدرا كافيا من التعليم ومن القوت حتى تتسنى لهم الحياة الكريمة التي يترفعون بها عن الحاجة للناس، وهذا يتطلب منه العمل والجد ليوفر لهم ما يعيشون به كرماء أعزاء، دون إهمال لحقوقهم الأخروية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن عليه قوته (1) » ، وقال لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس (2) » .
__________
(1) أخرجه مسلم (الزكاة 2 \ 692) .
(2) أخرجه البخاري (الجنائز 3 \ 164) ، ومسلم (الوصية 3 \ 1251) .(33/188)
أي المكاسب أفضل:
اختلف العلماء أي المكاسب أفضل، مع اتفاقهم على أن العمل كله فاضل إذا كان مشروعا. فمنهم من ذهب إلى أن أفضل المكاسب الزراعة، ومنهم من رأى أن أفضلها كسب اليد أي الصناعة، وذهب آخرون إلى تفضيل التجارة على غيرها، وفريق آخر رأى أن أفضل المكاسب على الإطلاق ما يكتسب من أموال الكفار المحاربين عن طريق الجهاد في سبيل الله.(33/188)
قال الماوردي: أصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة، والأشبه بمذهب الشافعي أن أطيبها التجارة وقال: والأرجح عندي أن أطيبها الزراعة؛ لأنها أقرب إلى التوكل، قال النووي: والصواب أن أطيب الكسب ما كان بعمل اليد، فإن كان زراعة فهو أطيب الكسب لما يشمل عليه من كونه عمل اليد، ولما فيه من التوكل، ولما فيه من النفع العام للآدمي والدواب، ولأنه لا بد فيه في العادة أن يؤكل منه بغير عوض (1) .
وقال ابن حجر: وفوق ذلك من عمل اليد ما يكتسب من أموال الكفار بالجهاد وهو مكسب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو أشرف المكاسب لما فيه من إعلاء كلمة الله تعالى، وخذلان كلمة أعدائه والنفع الأخروي. قال: ومن لم يعمل بيده فالزراعة في حقه أفضل، ثم قال: والحق أن ذلك مختلف المراتب، وقد يختلف اختلاف الأحوال والأشخاص، والعلم عند الله تعالى (2) .
وقال العيني: ينبغي أن يختلف الحال في ذلك باختلاف حاجة الناس، فحيث كان الناس محتاجين إلى الأقوات أكثر كانت الزراعة أفضل للتوسعة على الناس (3) .
وباستعراض هذه الأقوال وغيرها يتبين لنا فضل العمل، وكسب اليد، ولا ريب أن الأعمال والمهن المشروعة كلها فاضلة، وإن كان بعضها أفضل من بعض، وأفضلها أعظمها نفعا للأمة وأعمها خيرا وفائدة لها، وأكثرها سدا لحاجاتها.
وتظهر لنا من خلال ذلك نظرة العلماء الواعية في مجال بناء المجتمع الإسلامي وتكافله على أساس الإفادة من جميع الطاقات، وتوزيع المهن
__________
(1) النووي، شرح صحيح مسلم (10 \ 213) ، ابن حجر، فتح الباري (4 \ 304) .
(2) ابن حجر، فتح الباري (4 \ 304) .
(3) بدر الدين العيني، عمدة القاري (12 \ 155) .(33/189)
والكفاءات وتوزيعها توزيعا شاملا يغطي جميع احتياجات الأمة، وهذا ما تسعى لتحقيقه الدول الناهضة حتى تحقق كفايتها وتميزها لا في مجال الإنتاج الغذائي فحسب، بل في مجال الصناعة والتجارة، والصناعات الحربية، واستخراج المواد الخام، وغير ذلك ولن تنال دولة استقلالها أو تحافظ على مقومات شخصيتها متميزة إذا كانت لا تستطيع الاستغناء عن غيرها من الدول في مواردها ومقوماتها المختلفة.
والأمة الإسلامية تملك بحمد الله من أسباب التكافل والتضامن ما يؤهلها للاكتفاء الذاتي في شئون حياتها كافة.
فلدى المسلمين ملايين الهكتارات من الأراضي المزروعة والأراضي الصالحة للزراعة والغابات والمراعي، والصحاري الغنية بالمواد الخام، والمناجم، والبترول، والمعادن، وتملك من الثروة الحيوانية ما لا يكاد يحصى من حيوان أليف وغير أليف، ولا تحتاج إلى غيرها في السواعد والأيدي العاملة. فمن غير السائغ بحال أن تكون أمة عدد سكانها نحو ألف مليون، وتملك مثل هذه الثروات عاجزة عن تأمين حاجاتها وكفايتها في شتى المجالات.(33/190)
فضل الشجرة والزراعة:
جاءت كلمة شجرة في القرآن الكريم مفردة في نحو تسعة عشر موضعا ومجموعة في نحو ستة مواضع، أما كلمة زرع ومشتقاتها فوردت في نحو ثلاثة عشر موضعا.
أما في الأحاديث النبوية فورد ذلك في مواضع كثيرة.
ومن اهتمام الإسلام بالشجرة، ولفت الأنظار للعناية بها أنه حتى في الجزاء على الأعمال الصالحة يوم القيامة قد ذكر الشجر على أنه مثوبة مكافئة لبعض الأعمال الخيرة من المؤمن وذلك لما في الشجرة من النفع والجمال،(33/190)
واكتمال النعمة، ففي الحديث. عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلة في الجنة (1) » ، وفي رواية " شجرة ".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقيت إبراهيم صلى الله عليه وسلم ليلة أسري بي فقال: يا محمد أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر (3) » .
وبلغ اهتمام الإسلام بالشجرة حدا لا يعرف له مثيل في شريعة سابقة، ولا في قانون وضعي وحسبنا أن نعلم أن الخلفاء وهم أعلى سلطة في الدولة الإسلامية، كانوا يوصون أمراء الأجناد والجيوش عندما يبعثونهم للقتال بالمحافظة على الشجرة وخاصة الشجرة المثمرة، مثلما يأمرونهم بالمحافظة على أرواح الأبرياء ممن لا علم لهم بالحرب ولم يشاركوا فيها: " لا تعقرن نخلا ولا تحرقنها ولا تعقروا البهيمة، ولا شجرة ثمر، ولا تهدموا بيعة، ولا تقتلوا الولدان ولا الشيوخ ولا النساء " ومن المعلوم أن الوصية في مثل هذا الموطن إنما تكون بالأمور الهامة التي تعتبر من مواد الدستور العام، وبالأمور التي تحقق عوامل النصر على أعداء الله.
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3464) .
(2) أخرجه الترمذي (الدعوات 5 \ 510) .
(3) قيعان: جمع قاع وهو المكان الواسع المستوي من الأرض (2)(33/191)
فهل عرف من قبل التحييد للشجرة، والحيوان الأعجم مما يملكه العدو، وإبعادها عن ميدان المعركة لكونهما عنصري خير ونفع للبشر؟ !
ولم يأذن الإسلام بقطع الأشجار المثمرة إلا في حدود ضيقة أشبه ما تكون بالضرورة التي يلجأ إليها للضغط على العدو المعاند المصر على القتال، حتى إن بعض الفقهاء منع ذلك مطلقا، وحمل ما ورد في ذلك على حالة خاصة لا تتعداها.
قال الحافظ ابن حجر: قوله - أي البخاري: (باب قطع الشجر والنخل) أي للحاجة والمصلحة إذا تعينت طريقا في نكاية العدو ونحو ذلك، وخالف في ذلك بعض أهل العلم، فقالوا: لا يجوز قطع الشجر المثمر أصلا، وحملوا ما ورد من ذلك: إما على غير المثمر، وإما على الشجر الذي قطع في قصة بني النضير كان في الموضع الذي يقع منه القتال، وهو قول الأوزاعي والليث وأبي ثور (1) ومن محافظة الإسلام على الشجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قضاء الحاجة والتخلي في ظل الشجرة التي ينتفع بظلها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا اللعانين، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم (2) » ويقاس على قضاء الحاجة رمي القمامات والأوساخ، والمياه النجسة والمتقذرة وغير ذلك مما يحول بين الناس وبين الانتفاع من الظل.
وقد دعا الإسلام إلى تكثير الشجر لما فيه من المنافع المتعددة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها (3) » .
__________
(1) ابن حجر، فتح الباري (5 \ 9) .
(2) أخرجه مسلم (الطهارة 1 \ 226) ، وأبو داود (الطهارة 1 \ 28) .
(3) أخرجه أحمد (3 \ 183) ، والبخاري في الأدب المفرد ص 97، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1 \ 11 - 13)(33/192)
ففي هذا الحديث حث على غرس الأشجار المثمرة عامة وإن كان المذكور فيه النخل.
كما أنه يشير إلى ضرورة العناية بالزراعة والعمل في الأرض، وأنه لا ينبغي أن ينقطع العمل في إعمار الأرض، والإفادة من خيراتها.
قال الأستاذ محمد قطب تعليقا على الحديث: والعمل في الأرض لا ينبغي أن ينقطع لحظة بسبب اليأس من النتيجة فحتى حين تكون القيامة بعد لحظة، حين تنقطع الحياة الدنيا كلها. . حتى عندئذ لا يكف الناس عن العمل، وعن التطلع إلى المستقبل، ومن كان في يده فسيلة فليغرسها (1) . وروى البخاري في كتاب الأدب المفرد عن داود بن أبي داود الأنصاري قال: قال لي عبد الله بن سلام: إن سمعت بالدجال قد خرج وأنت على ودية - أي فسيلة - تغرسها فلا تعجل أن تصلحه، فإن للناس بعد ذلك عيشا (2) .
وعن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي: أعزم عليك أن تغرس أرضك فقال أبي: أنا شيخ كبير أموت غدا. فقال عمر: أعزم عليك لتغرسنها، فلقد رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يغرسها بيده مع أبي (3) .
ولعل مما يشير إلى استحباب تكثير الشجر ما جاء في الحديث «أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن له أن يشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة (4) » .
__________
(1) محمد قطب قبسات من الرسول صلى الله عليه وسلم (ص 23) .
(2) الأدب المفرد ص 97.
(3) انظر السلسلة الصحيحة (1 \ 10) .
(4) المسند (5 \ 347) من حديث بريدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: '' إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ''.(33/193)
وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة المحافظة على الأشجار والبساتين من قبل أهلها، ومن قبل أصحاب الماشية ليلا ونهارا.
عن حرام بن سعد بن محيصة الأنصاري، عن أبيه عن البراء بن عازب «أنه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت فيه فكلم رسول صلى الله عليه وسلم فيها فقضى بأن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها (1) » قال الخطابي رحمه الله: " يشبه أن يكون إنما فرق بين الليل والنهار في هذا لأن في العرف أن أصحاب الحوائط، والبساتين يحفظونها بالنهار، ويوكلون بها الحفاظ والنواطير، ومن عادة أصحاب المواشي أن يسرحوها بالنهار ويردوها مع الليل، فمن خالف هذه العادة كان به خارجا عن رسوم الحفظ إلى حدود التقصير والتضييع " (2) .
ومن فضل الزراعة والعمل في الأرض الاشتغال عن الناس، والتنزه عن عيوبهم والبعد عن قيلهم وقالهم، خاصة إذا كان الإنسان ممن لا يملك القدرة على الإصلاح والإنكار، قال الشوكاني رحمه الله في تفسيره: (إن الاشتغال بالعمل فيها - أي الأرض - والاستغناء عن الناس بما يحصل فيها من القرب العظيمة، مع ما في ذلك من الاشتغال عن الناس والتنزه عن مخالطتهم التي هي - لا سيما في مثل هذا الزمان - سم قاتل، وشغل عن الله شاغل، وذلك إذا لم يكن في الإقبال على الزراعة تثبط عن شيء من الأمور الواجبة كالجهاد (3) .
ومن فضل الزراعة أن الأجر يحصل للغارس والزارع، وإن لم يقصدا ذلك حتى لو غرس وباعه، أو زرع وباع ذلك الزرع كان له بذلك صدقة لتوسعته على الناس في أقواتهم كما روي في حصول الأجر للجالب، وإن كان
__________
(1) أخرجه أبو داود في السنن (البيوع 3 \ 829 - 830) من طريقين مرفوعا، وأخرجه مالك في الموطأ (الأقضية 2 \ 747) مرسلا.
(2) الخطابي، معالم السنن، (3 \ 829) .
(3) الشوكاني، فتح القدير (5 \ 313) .(33/194)
يفعله للتجارة والربح.
وقد ذكر غير واحد من العلماء أن الأجر يحصل للمزارع بما يولد من الغراس والزرع، كذلك وإن أجره مستمر ما دام الغرس والزرع وما تولد منه إلى يوم القيامة، وحتى لو انتقل ملكه إلى غيره (1) .
ووردت أحاديث كثيرة تبين فضل الغرس والزرع، وتثبت الأجر لفاعله ما انتفع بذلك منتفع من إنسان أو حيوان أو طير، أو حشرة، ومن ذلك.
حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة (2) » .
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل يغرس غرسا إلا كتب الله له من الأجر قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغرس (3) » .
وعن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين يقول: «من نصب شجرة فصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر كان له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل (4) » .
والأجر في الغرس والزرع لا ينحصر في زراعة المثمر وحسب، بل يحصل
__________
(1) انظر شرح مسلم للنووي (10 \ 213) ، عمدة القاري (12 \ 156) .
(2) أخرجه البخاري (الحرث والمزارعة 5 \ 3) ، ومسلم (المساقاة 3 \ 1189) .
(3) أخرجه أحمد (5 \ 41) قال المنذري في الترغيب (3 \ 376) رواته محتج بهم في الصحيح إلا عبد الله بن عبد العزيز الليثي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3 \ 67) فيه عبد الله بن عبد العزيز وثقه مالك وسعيد بن منصور وضعفه جماعة وبقيه رجاله رجال الصحيح.
(4) أخرجه أحمد (4 \ 61) ، (5 \ 374) وإسناده فيه فنج عن عبد الله بن وهب بن منبه، عن أبيه قال الهيثمي (مجمع الزوائد 3 \ 68) : فنج ذكره ابن أبي حاتم ولم يوثقه ولم يجرحه، وبقية رجاله ثقات.(33/195)
بزراعة المثمر وغير المثمر، وذلك لحصول الانتفاع للحيوان، والطير، والدواب، بل لحصول النفع للإنسان من جهة أخرى غير الأكل، فيقاس على الأكل ما ينتفع من الأشجار والمزروعات من تنزه، وتجميل للبيئة، أو تمتع برؤيتها، واستظلال بظلها، أو ما تحققه من منافع أخرى كثيرة كتطييب المناخ، وحفظ للتربة، وصد للغبار والأتربة وتنقية للهواء من التلوث، وكذلك ما يستفاد منها في أغراض الصناعة كصناعة الورق، والثقاب، وصناعة الأخشاب المختلفة المتعددة الأغراض.
والزرع في هذه الأحاديث المتقدمة المراد به ما يستنبته الإنسان من مزروعات مختلفة مما يتغذى منه أو مما يتغذى عليه الحيوان والطير كالقمح والأرز، والذرة، والبقول، والخضروات، وكالشعير والبرسيم والحشائش المتنوعة ويحصل الأجر للمزارع ولو كان الأكل منه على وجه الغصب أو الانتهاب أو السرقة أو الاعتداء، فضلا عن الإطعام.
ويدل لذلك ما رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه دخل على أم مبشر الأنصارية - وهي زوج زيد بن حارثة - في نخل لها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: من غرس هذا النخل أمسلم أم كافر؟ فقالت: بل مسلم فقال: لا يغرس مسلم غرسا، ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة، ولاشيء إلا كانت له صدقة (1) » ، وعنه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، وما أكل السبع فهو له صدقة، وما أكلت الطير فهو له صدقة، ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة (2) » .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغرس مسلم غرسا، ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1552) ، سنن الدارمي البيوع (2610) .
(2) أخرجهما مسلم (المساقاة 3 \ 188) .(33/196)
ولا طائر، ولا شيء إلا كان له أجر (1) » .
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من غرس غرسا لم يأكل منه آدمي، ولا خلق من خلق الله إلا كان له صدقة (2) » .
وعن خلاد بن السائب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من زرع زرعا فأكل منه طير أو عافية كان له صدقة (3) » .
وعن عبد الله بن الزبير قال: «أمر النبي صلى الله عليه وسلم عمه العباس يأمر بنيه أن يحرثوا القضب فإنه ينفي الفقر (4) » .
وعن السائب بن سويد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث أبي الدرداء المتقدم.
وجاء في بعض الروايات ما يفيد أن غرس الأشجار من الصدقات الجارية التي يصل أجرها للمسلم بعد موته.
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم قال: «سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره وبعد موته: من علم علما أو كرى نهرا، أو حفر بئرا، أو غرس نخلا، أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا، أو ترك ولدا يستغفر له (5) » .
وعن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من بنى بنيانا في غير
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط، وحسن المنذري في الترغيب (3 \ 245) إسناده
(2) أخرجه أحمد (6 \ 444) والطبراني قال الهيثمي: رجاله موثقون وفيهم كلام لا يضر.
(3) أخرجه أحمد (4 \ 55) والطبراني وحسن المنذري إسناده (3 \ 376) وتبعه الهيثمي (3 \ 67) وعزاه في (فضل الغراس لابن خزيمة، وابن جرير، والضياء، وأبي نعيم (رفع الإلباس في فضل الزرع والغراس ق 3) وعزاه الحافظ في الإصابة (2 \ 139) للحسن بن سفيان في مسنده وقال: إسناده حسن.
(4) أخرجه الطبراني قال الهيثمي (3 \ 68) : فيه جماعة لم أعرفهم ا. هـ والقضب: الرطبة (المختار 539) .
(5) أخرجه البزار وأبو نعيم والبيهقي في شعب الإيمان.(33/197)
ظلم ولا اعتداء، أو غرس غرسا في غير ظلم ولا اعتداء كان له أجرا جاريا ما انتفع به من خلق الرحمن تبارك وتعالى (1) » .
__________
(1) أخرجه أحمد (3 \ 438) ، والطبراني من طريق زبان بن فائد الهيثمي: ضعفه أحمد وغيره وثقه أبو حاتم (مجمع الزوائد 3 \ 70) .(33/198)
حكم الزراعة: زراعة الأرض وإعمارها من - فروض الكفاية التي يجب على المسلمين بمجموعهم القيام بها، فإن قام بها بعضهم أصبحت مندوبة أو مباحة في حق الآخرين.
قال القرطبي رحمه الله في شرح الصحيح: الزراعة من فروض الكفاية فيجب على الإمام أن يجبر الناس عليها، وما كان في معناها من غرس الأشجار (1) .
ومعنى كونها فرضا على الكفاية، أن الزراعة، وغرس الأشجار وإعمار الأرض، تبقى فريضة قائمة على الأمة الإسلامية ما لم تتحقق كفايتها، واستغناؤها عن غيرها إذا كان ذلك في مقدورها ووسعها، فإن لم تفعل تبقى مقصرة تاركة لهذه الفريضة ما دامت مستوردة " معتمدة على الغير في مواردها الزراعية والغذائية، وعلى الإمام في هذه الحالة أن يجبر على الزراعة والغرس والفلاحة من تتحقق بإجبارهم تلك الكفاية في المجالات الزراعية المختلفة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " من ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة ناس مثل حاجة الناس إلى الفلاحة والنساجة، والبناية. . قال: فلهذا قال غير واحد من الفقهاء أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم كأبي حامد الغزالي وأبي الفرج بن الجوزي وغيرهم إن هذه الصناعات فرض على الكفاية فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا بها، كما أن الجهاد فرض على الكفاية إلا أن يتعين فيكون فرضا على الأعيان " (2) .
__________
(1) انظر فتح الباري 5 \ 4، عمدة القاري 12 \ 156.
(2) ابن تيمية، السياسة الشرعية (ص 16) .(33/198)
وقال في موضع آخر: المقصود أن هذه الأعمال التي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها غير الإنسان صارت فرض عين عليه، لا سيما إن كان عاجزا عنها فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجبا يجبرهم ولي الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل، كما إذا احتاج الجنود المرصودون للجهاد إلى فلاحة أرضهم ألزم من صناعته الفلاحة بأن يصنعها لهم، فإن الجند ملزمون بأن لا يظلموا الفلاح كما ألزم الفلاح أن يفلح للجند (1) .
وقال ابن الحاج في المدخل: آكد ما على المكلف من الصنائع والحرف الزراعة التي بها قوام الحياة، وقوت النفوس (2) .
إن من الخطأ القبيح ما يتصوره بعض الناس من أن مهنة الزراعة من المهن الدنيئة المنحطة التي لا تليق بالرجل الكريم، وهو تصور لا يقوم على أساس سليم فالعمل المباح كله شرف لصاحبه لا يزري به بل يكرمه ويعلي مكانته عند الله تعالى ثم في أعين الناس، فكيف والزراعة من أشرف الأعمال وأجلها، وقد قال عدد من العلماء: إنها أفضل المكاسب، وإنها من فروض الكفاية على المسلمين، وفيها الأجر الجزيل للزارع والغارس ما انتفع بذلك منتفع من إنسان أو حيوان أو طير أو حشرة، وقد تكون من الصدقة الجارية التي لا ينقطع أجرها بعد الموت.
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعتبرون الرجل الذي يعمل في إصلاح أرضه عاملا من عمال الله تعالى (3) .
إن ذلك التصور الخاطئ يفسر لنا انصراف كثير من الناس إلى الوظائف الحكومية، والأعمال الكتابية، والإدارية، وإهمال مساحات كبيرة من الأرض
__________
(1) الفتاوى (28 \ 79، 80، 82) .
(2) ابن الحاج، المدخل (4 \ 4) .
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة 1 \ 13.(33/199)
صالحة للزراعة حتى أصبحت خرابا يبابا منبتا للأشواك.
ومن أجرى مقارنة عادلة بين الزراعة، وبين كثير من الوظائف الإدارية والكتابية، وجد الفرق بينهما واضحا، والفضل لها ظاهرا.
فالزراعة أقرب إلى التوكل، وأدعى إلى التخشن، وقوة الجسم لما فيها من الحركة والنشاط، والمزارع أنقى جوا، وأصح جسما، وأبعد عن الضوضاء والتلوث بسبب نقاء الهواء، وسلامة الغذاء من الصناعة والمواد الكيمياوية ولذلك تجد الموظفين والإداريين على اختلاف درجاتهم لا يستغنون عن ساعات من الاستجمام والراحة يقضونها في المزارع والحقول وبين البساتين يمتعون أنظارهم، ويريحون أفكارهم، وأجسادهم، ويبتعدون عن ضوضاء المدينة، وصخب المصانع، وهدير الآلات، ويعودون وقد ملئوا نشاطا وحيوية وسعادة. إن تلك النظرة الخاطئة عن الزراعة قد أنكرها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لما سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في الزراعة ويحث عليها، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلا مر به وهو يغرس غرسا بدمشق فقال: أتفعل هذا وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تعجل علي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من غرس غرسا لم يأكل منه آدمي، ولا خلق من خلق الله إلا كان له به صدقة (1) » .
__________
(1) أخرجه أحمد (6 \ 444) والطبراني قال الهيثمي: رجاله موثقون وفيهم كلام لا يضر (مجمع الزوائد 3 \ 68) . قلت: في إسناده القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الدمشقي صاحب أبي أمامة وهو صدوق إلا أنه يغرب كثيرا (انظر التقريب 1 \ 450) وفي سماعه من أبي الدرداء نظر، والله أعلم.(33/200)
التشجيع على الزراعة لا يعني إهمال الواجبات:
إن فضل الزراعة والغرس وإعمار الأرض لا يجوز أن يشغل المسلم عما هو أهم أو يطغى على غيره من الواجبات الأخرى كطلب العلم، والجهاد وغير ذلك.(33/200)
وعلى هذا تحمل الأحاديث والآثار الواردة في التنفير من اتخاذ الضيعة أو الاشتغال بالحرث والزرع.
فالزراعة كغيرها من المهن - لا يجوز أن يشغل بها المرء عن واجباته الشرعية أو أن يفرط في حقوق الله تعالى، أو حقوق الآدميين من أبناء وبنات وأسرة وغيرهم ممن لهم عليه حق التربية والتعليم، أو أن يستكثر منها بحيث يترك الجمعات والجماعات، وينقطع عن مجالس العلم، ومواطن التذكير، أو يقوده الربح فيها إلى الطمع والشح، وإمساك حق الفقراء بمنع الزكاة، فيكون بذلك قد ارتكب ما حرم الله تعالى، وتعدى وظلم.
قال الحافظ ابن حجر في الكلام على حديث أنس: «ما من مسلم يغرس غرسا (1) » في الحديث فضل الغرس والزرع، والحض على عمارة الأرض، ويستنبط منه اتخاذ الضيعة والقيام عليها، وفيه فساد قول من أنكر ذلك من المتزهدة وحمل ما ورد من التنفير عن ذلك على ما إذا شغل عن أمر الدين فمنه حديث ابن مسعود مرفوعا «لا تتخذوا الضيعة فتركبوا في الدنيا (2) » قال القرطبي: يجمع بينه وبين حديث الباب - أي حديث أنس - بحمله على الاستكثار والاشتغال به عن أمر الدين، وحمل حديث الباب على اتخاذها للكفاف أو لنفع المسلمين بها وتحصيل ثوابها ا. هـ (3) .
وقد بوب البخاري رحمه الله على هذا فقال: (باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو مجاوزة الحد الذي أمر به) ثم أورد حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: وقد رأى سكة وشيئا من آلة الحرث -: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل (4) » ، وفي رواية في المستخرج: «إلا أدخلوا على أنفسهم ذلا لا يخرج عنهم إلى يوم القيامة (5) » .
__________
(1) صحيح البخاري المزارعة (2320) ، صحيح مسلم المساقاة (1553) ، سنن الترمذي الأحكام (1382) ، مسند أحمد بن حنبل (3/229) .
(2) سنن الترمذي الزهد (2328) ، مسند أحمد بن حنبل (1/377) .
(3) ابن حجر، فتح الباري (5 \ 401) .
(4) صحيح البخاري المزارعة (2321) .
(5) وأما قول الأستاذ أنور الرفاعي: إننا نشك في صحة هذا الحديث لأنه يتنافى مع المبدأ الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم في تشجيع الزراعة وإحياء الموات: فأقول: لا معنى لهذا الشك والحديث في صحيح البخاري، ثم هو لا يتعارض مع المبدأ الذي سار عليه صلى الله عليه وسلم إذ مبدؤه أن لا يطغى جانب على الآخر، فتشجيعه للزراعة لا يعني الإخلاد إلى الأرض وترك الواجبات الأخرى.(33/201)
قال ابن حجر: أو أراد بذلك ما يلزمهم من حقوق الأرض التي تطالبهم الولاة بها وكان العمل في الأرض أول ما فتحت على أهل الذمة فكان الصحابة يكرهون تعاطي ذلك.
قال: وقد أشار البخاري بالترجمة إلى الجمع بين حديث أبي أمامة، والحديث الماضي في فضل الزرع والغرس، وذلك بأحد أمرين:
إما أن يحمل ما ورد من الذم على عاقبة ذلك ومحله ما إذا اشتغل به فضيع بسببه ما أمر بحفظه.
وإما أن يحمل على ما إذا لم يضيع إلا أنه جاوز الحد فيه.
ونقل ابن حجر أيضا عن الداودي أن هذا يحمل على من يقرب من العدو فإنه إذا اشتغل بالحرث لا يشتغل بالفروسية فيتأسد عليه العدو فحقهم أن يشتغلوا بالفروسية، وعلى غيرهم إمدادهم بما يحتاجون إليه (1) .
وقال العيني: المقصود الترغيب والحث على الجهاد (2) .
ولا ريب أن الاشتغال بالزراعة، وترك الجهاد، وأعمال الفروسية، من أسباب ذلة الأمة.
ولقد كان في درس الأندلس أعظم العبر والعظات للمسلمين حيث انصرفوا آخر أمرهم إلى الترف، والتأنق في العمارة، والاشتغال بالزراعة وبناء الجسور، والقنوات، وصناعة الآلات الرافعة كالنواعير والدواليب والمبالغة في الاهتمام بالأزهار، والورود والعطور، وانصرفوا عن أخلاق الفروسية، وصناعة الآلات الحربية، وتركوا أشعار الحماسة والجهاد إلى أشعار الوصف والغزل إلى أن دهمهم العدو المتربص، وأحاط بهم من كل جانب فرزأهم في
__________
(1) ابن حجر، فتح الباري (5 \ 402) .
(2) بدر الدين العيني، عمدة القاري (12 \ 155) .(33/202)
الأموال والأعراض، وفتنهم في دينهم. وهكذا أسدل الستار على مجد حافل، وعز طائل دام نحو ثمانية قرون. وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من الإخلاد إلى الأرض وترك الجهاد والواجبات الأخرى في أحاديث كثيرة، كقوله: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (1) » .
__________
(1) أخرجه أبو داود وغيره، وهو حديث جيد بطرقه.(33/203)
عناية المسلمين بالزراعة:
عني المسلمون عناية كبيرة بالزراعة، واهتموا بإصلاح شبكات الري، وبناء القناطر، وتحسين الغلة الزراعية، وإحياء الموات، ولم تهمل الأرض في عصر من العصور الإسلامية، برغم اشتغال المسلمين بالفتوحات، وتوطيد الأمن في البلاد، فضلا عن اهتمامهم بالصناعة، والعمارة وتحديث الأسلحة، وبناء الأساطيل البحرية إلى غير ذلك.
ففي عصر النبوة نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ندب إلى الزراعة، وإحياء الموات والغرس والمساقاة، ورغب المسلم أن يمنح أرضه لأخيه يزرعها دون مقابل، وشرع إقطاع الأراضي في بعض الأحيان.
وكان لعدد من الصحابة رضي الله عنهم مزارع عظيمة المحصول تضاهي في ذلك أعظم المزارع في عصرنا هذا، فكان لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما بستان عظيم في الطائف يقال له: (الوهط) كان العنب فيه محمولا على ألف ألف خشبة (مليون خشبة) وكان الزبيب إذا وضع في مكان منه يظنه الرائي من بعيد تلا.(33/203)
وكان لطلحة بن عبيد الله رضي الله عنه - وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة - ضيعة عظيمة كثيرة المدخل اسمها (النشاستج) (1) وكذلك كان للزبير بن العوام رضي الله عنه، وغيره من الصحابة مزارع كبيرة حتى قيل: يهتم المسلمون عند فتح أي بلد بشيئين في وقت معا هما: بناء المسجد، وتنظيم الحقل (2) .
يقول وليم ويلكوكس أحد المهندسين الغربيين المعاصرين: إن عمل الخلفاء في ري الفرات يشبه أعمال الري في مصر، والولايات المتحدة، وأستراليا في هذا العصر (3) .
أما الأمويون فقد اهتموا بإصلاح وترميم شبكات الري، وتجفيف المستنقعات في أسفل العراق، ورصد الحجاج لتكلفة تجفيف المستنقعات مبلغ ثلاثة ملايين درهم، وعمل على الإكثار من الأيدي العاملة فأتى بخلق من نبط السند، وأضاف ممن بها من الناس ومعهم أهلوهم وأولادهم وجواميسهم فأسكنهم بأسافل (كسكر) ، وحاول أن يمنع الموالي العاملين في القرى من الهجرة إلى المدن.
أما الدولة العباسية فقد وجد فيها ديوان خاص عرف بديوان الماء، وهو أشبه ما يكون بوزارة الزراعة والري في أيامنا هذه، وبلغ عدد المشتغلين فيه عدة الآف من الموظفين والعاملين والمهندسين والإداريين (4) .
وبذل المسلمون في هذا العصر أقصى عنايتهم بكل ما يتعلق بشئون الزراعة، وراقبوا أمورها مراقبة دقيقة، وأشرفوا على الجداول وترميمها وكتب
__________
(1) انظر الإسلام في حضارته ونظمه (ص 283) .
(2) أنور الرفاعي، الإسلام في حضارته ونظمه (ص 283) .
(3) أنور الرفاعي، الإسلام في حضارته ونظمه.
(4) انظر أنور الرفاعي، الإسلام في حضارته ونظمه (ص 285، 290) .(33/204)
أبو يوسف رئيس القضاة في عصر الرشيد، كتابا يبين فيه للخليفة أن من واجب الدولة تشييد الجداول الجديدة على نفقتها الخاصة لتحسين الزراعة، وتنظيف الجداول الحالية، وترميمها، كما يوصي بإنشاء شرطة نهرية ذات كفاءة ممتازة. وكان العراق وجنوب فارس يبدوان في ذلك العهد روضة غناء.
وقد بلغت ثروة الدولة من الزراعة نحو مائة وأربعة عشر مليون درهم، وفي عهد المأمون نحو ثلائمائة وتسعين مليونا، وثمانمائة وخمسة وخمسين ألفا من الدراهم والدنانير دون العروض، وفي عهد المعتصم بلغ خراج السواد ثمانية ملايين وثمانمائة وواحدا وعشرين ألفا وثمانمائة درهم (1) .
أما في الأندلس فقد أدخل المسلمون إليها نظام زراعة المدرجات في الجبال ودرسوا التربة والبيئة، وحفروا الترع، وأقاموا القناطر والجسور بالإضافة إلى النباتات الكثيرة التي أدخلوها إلى البلاد.
واهتم المرابطون والموحدون بالزراعة، وشجعوا المزراعين وحرصوا على توفير المياه اللازمة للزراعة.
وقد بلغت غلة الزيتون في ثلاث مدن مغربية في ذلك الوقت مائة ألف وخمسة آلاف دينار.
يقول غوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب: لا يوجد في أسبانيا الحاضرة من أعمال الري إلا ما أتمه العرب، وأصبحت أسبانيا التي هي صحراء حقيقية عدا بعض الأقسام في جنوبها جنة واسعة بفضل أساليب العرب الزراعية الفنية. وفي صقلية يقول: لم تكد أقدام العرب ترسخ في صقلية حتى أقبلوا على الزراعة والصناعة فانتشلوهما من الانحطاط الذي كانتا فيه وأدخلوا إلى صقلية زراعة القطن، وقصب السكر، والدردار (نوع من
__________
(1) انظر أنور الرفاعي، المصدر نفسه (ص 290) ، د. أحمد فريد الرفاعي، عصر المأمون (ص 138) .(33/205)
الشجر العظيم له زهر أصفر والزيتون، وحفروا فيها الترع والقنوات التي لا تزال باقية وأنشئوا فيها المجاري المعقوفة التي كانت مجهولة قبلهم (1) .
__________
(1) غوستاف لوبون، حضارة العرب (ص274، 310) .(33/206)
متى يتحقق الأجر في الزراعة:
لا يختص ثبوت الأجر على الزراعة لمن باشر ذلك بيده وحسب، بل يشمل من استعمل ماله لذلك بشراء الأرض، واستئجار العمال، واستشارة المهندسين والمرشدين الزراعيين، وشراء الآلات الزراعية للحرث والحصاد، واحتفار الآبار وغير ذلك.
قال المناوي: ولا يختص - أي ثبوت الأجر - بمباشرة الغرس أو الزرع بل يشمل من استأجر لعمله (1) .
لكن لا بد من مراعاة بعض الأمور حتى يتحقق للإنسان أجره كاملا في هذا الصدد منها:
أولا: النصح في العمل، وذلك بأن يخلص في عمله ويتقنه ما استطاع، وأن لا يكون قصده النفع الدنيوي فحسب بل التوسعة على المسلمين في أقواتهم وأسعارهم قال ابن المنذر: إنما يفضل عمل اليد سائر المكاسب إذا نصح العامل (2) . ومن النصح في العمل مراعاة حاجة البلد من الثمار والحبوب، والسعي لتحسين المحصول، وتحسين الأنواع لا أن يكون قصده مضاهاة غيره ومنافستهم في الأسواق.
ثانيا: أداء حق الله تعالى في هذه المزروعات وذلك بأن يخرج زكاة ما تجب فيه الزكاة منها، وأن يكون للفقراء والمحتاجين والأقربين نصيب مما ليس فيه زكاة منها. قال تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (3) وزكاة المزروعات البعلية التي تسقى بماء المطر العشر، وذلك إذا بلغت خمسة أوسق -
__________
(1) المناوي، فيض القدير (5 \ 496) .
(2) انظر فتح الباري (4 \ 306) .
(3) سورة الأنعام الآية 141(33/206)
وأما ما يسقى بالنضح أي بجهد العامل ففيه نصف العشر، سواء أكان النضح من الآبار الأرتوازية المحفورة في الأرض أم من العيون التي تحتاج إلى نقل، واستعمال الآلات، أم مما ينقل بواسطة سيارات الصهاريج المائية أم غير ذلك مما يبذل المزارع فيه جهدا لإيصال الماء إلى مزروعاته، ولو كان عن طريق الآلات الزراعية التي توفر على الإنسان مزيدا من الجهد والمشقة، كالمحاور الزراعية، ورشاشات الماء، واستعمال المواسير والتمديدات، والتنقيط وغير ذلك.
ثالثا: أن لا يعتقد أن الرزق من الكسب أو من الأرض بل من الله تعالى يسره وسخره، وهيأه له بهذه الواسطة ولولا فضل الله تعالى لم يكن ذلك قال الحافظ ابن حجر: " ومن شرطه - أي الكسب - أن لا يعتقد أن الرزق من الكسب بل من الله تعالى بهذه الواسطة " (1) .
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} (2) {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (3) {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} (4) {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} (5) {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} (6) .
أي أرأيتم ما تبذرونه في الأرض وتعملونه أأنتم تخرجونه وتنبتونه، وتردونه نباتا يرف وينمى إلى أن يبلغ الغاية، وأضاف تعالى الحرث إليهم والزرع إليه لأن الحرث فعلهم ويجري على اختيارهم، والزرع من فضل الله تعالى وينبت على اختياره لا على اختيارهم (7) . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يقولن أحدكم زرعت وليقل حرثت؛ فإن الزارع هو الله (8) » .
__________
(1) ابن حجر، فتح الباري (4 \ 306) .
(2) سورة الواقعة الآية 63
(3) سورة الواقعة الآية 64
(4) سورة الواقعة الآية 65
(5) سورة الواقعة الآية 66
(6) سورة الواقعة الآية 67
(7) انظر القرطبي، الجامع لأحكام القرآن.
(8) أخرجه البزار (كشف الأستار 2 \ 96) ، والطبري، والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم من طريق مسلم الجرمي، وضعفه البيهقي، قال الحافظ ابن حجر: الحديث قوي، ورجاله ثقات إلا أن مسلما الجرمي قال فيه ابن حبان: ربما أخطأ (فتح الباري 5 \ 4) .(33/207)
فالله تعالى يبين في الآيات المتقدمة وغيرها فضله على عباده، وجميل لطفه بهم وأنه برحمته ولطفه أنبت لهم الزرع، وأنزل لهم الماء الذي يحيي به الأرض بعد موتها، ويسقيه مما خلق أنعاما وأناسي كثيرا، وأنه برحمته أنزله عذبا طهورا صالحا للشرب والسقي، ولو شاء لجعله زعافا أجاجا لا يصلح للشرب ولا للزرع، ولا لسقي الدواب.
وقد يخيل لبعض الناس أن هذا الأمر لا علاقة له بالإنتاج الزراعي أو جودة المحاصيل، وزيادة الغلة، ولكن الحقيقة أن أحوال البشر على هذه الأرض شدة ورخاء، أو نعمة وبلاء، أو خصبا وجدبا مرتبطة بأعمالهم وفق سنن إلهية لا تتغير، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (1) .
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} (2) {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (3) .
وقال تعالى ذكره حكاية عن نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (4) {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (5) {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (6) .
رابعا: أن لا يكون المغروس أو المزروع في أرض مغصوبة أو مأخوذة من أصحابها بطريق الظلم والاحتيال.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 96
(2) سورة المائدة الآية 65
(3) سورة المائدة الآية 66
(4) سورة نوح الآية 10
(5) سورة نوح الآية 11
(6) سورة نوح الآية 12(33/208)
وقد عم بلاء الاعتداء على الأرض في أيامنا هذه، خاصة بعد ارتفاع أسعارها فلجأ بعض الناس إلى الاستيلاء على أراضي الآخرين غصبا وظلما، أو احتيالا بأرخص الأسعار أو بتزوير الوثائق والحجج، أو الاعتداء على الحدود ومنارات الأرض وتغيير معالمها، وكل هذا من الظلم الذي حرمه الله تعالى، وجعل لصاحب الحق الاقتصاص من الظالم يوم القيامة بقدر حقه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء (1) » .
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين (2) » .
إنه طوق خزي وقلادة عار يقلدها الظالم المعتدي يوم القيامة فيكلفه الله تعالى نقل ما ظلم من الأرض إلى سبع أرضين ويجعله كالطوق في عنقه، وذلك في يوم يود الإنسان فيه لو تخفف من جلده وبعض أعضائه لما يجد من العرق والحر والهول، في يوم مقداره خمسين ألف سنة.
خامسا: أن لا يكون المزروع أو المغروس مما حرم الله تعالى من النباتات الخبيثة التي ثبت ضررها وفتكها بالصحة، أو تأثيرها على العقل والحواس، كالحشيش وما كان من جنسه، وكذلك الدخان لما ثبت من إضراره بالصحة، ويلتحق بهذا مما يزرع لغرض محرم كزراعة العنب بقصد اتخاذه خمرا أو لصناعة النبيذ أو زراعة الشعير لهذا الغرض، أو زراعة الخشخاش للحصول على المخدرات منه، وغير ذلك.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حبس العنب أيام القطاف حتى
__________
(1) أخرجه مسلم (البر والصلة 4 \ 1997) .
(2) أخرجه البخاري (المظالم 5 \ 103) ومسلم (المساقاة 3 \ 1232) .(33/209)
يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار على بصيرة (1) » قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ويمنعهم الوالي - أي المزارعين - من زراعة الأشجار المحرمة كالحشيش (2) .
سادسا: تعلم العلم المحتاج إليه في الزراعة حتى لا يركب فيها الصعب والذلول، والحلال والحرام دون تمييز.
قال ابن الحاج في المدخل: فالزراعة من أعظم الأسباب وأكثرها أجرا إذ إن خيرها متعد إلى الزارع ولإخوانه المسلمين وغيرهم. والطير والبهائم والحشرات كل ذلك ينتفع بزراعته، فما في الصنائع كلها أبرك منها، ولا أنجح إذا كانت على وجهها الشرعي، وهي من أكبر الكنوز المخبأة في الأرض لكنها تحتاج إلى معرفة بالفقه وحسن محاولة في الصناعة مع النصح التام والإخلاص فيها، فحينئذ تحصل البركات وتأتي الخيرات. قال: وإذا كان ذلك كذلك فمن فيه أهلية لتعلم العلم المحتاج إليه في حرفته فيتعين عليه التعلم، ومن لم يكن فيه أهلية لذلك فليسأل العلماء عن فقه ما يحتاج إليه في زراعته أو غيرها من الحرف (3) .
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث بريدة رفعه قال الهيثمي: أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه عبد الكريم بن عبد الكريم قال أبو حاتم: حديثه يدل على الكذب (جمع الزوائد 3 \ 90) أما الحافظ ابن حجر فقد حسن إسناده في بلوغ المرام (ص 167) .
(2) ابن تيمية، الحسبة (ص 26، 27) .
(3) ابن الحاج، المدخل (4 \ 4) .(33/210)
الزراعة وعدد السكان:
لا يخفى أن الأرض هي أهم المصادر التي يعتمد عليها إنتاج الغذاء للأحياء جميعا. كما لا يخفى أن عدد سكان العالم في ازدياد كبير، وأن إهمال الأرض وعدم استغلال مواردها وخيراتها سيؤدي حتما إلى نقص الإنتاج الزراعي، وهو بدوره يؤدي إلى تقليص الإنتاج الحيواني بنسبة كبيرة.(33/210)
فإذا كان سكان العالم يزدادون بنسبة كبيرة، ومع ذلك ينقص الإنتاج الغذائي بنسبة كبيرة أيضا، فإن هذا يعني وقوع المجاعات، والكوارث البشرية المخيفة، ومن هنا فقد لجأت الدول إلى الوسائل والأساليب غير المشروعة لمعالجة هذه المشاكل، كتحديد النسل أو السطو على الأراضي، واستعمار البلاد والعلاج المشروع الحاسم إنما يكمن في الانتفاع بالوسائل التقنية الحديثة التي توصل الإنسان إلى صنعها في استخراج خزائن الأرض والإفادة من خيراتها، وتوزيع ذخائرها وكنوزها توزيعا عادلا، لا أن يلجأ إلى هذا الأساليب التقنية في منع النسل، والإجهاض والقضاء على العنصر البشري. ومن الغريب جدا أن يلجأ إلى مثل هذه الوسائل في العالم الإسلامي الذي ينتمي إلى أكمل الشرائع وأفضلها. إذ مع كون ذلك مخالفا لمقاصد الشريعة فإنه ليس له ما يراه في الواقع، وذلك لأنه من غير المقبول البتة أن تهمل آلاف الهكتارات بل ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية ولا يلتفت إلى إصلاحها، وتوفير الغذاء منها مع وجود الإمكانات والقدرات لاستغلال ذلك ثم يلجأ إلى تحديد النسل بحجة أن نسبة السكان في تزايد مستمر.
وحتى يتضح لنا ما تزخر به البلاد الإسلامية من ثروات متنوعة، وخاصة الثروة الزراعية والحيوانية نستعرض فيما يلي ملخصا لبعض تجارب استصلاح الأراضي الزراعية في الوطن العربي لعام 1404هـ \ 1984 م وقد قام بنشر هذه التجارب معهد البحوث والدراسات العربية ببغداد، التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم بإشراف عدد من المتخصصين.(33/211)
ونكتفي هنا بذكر أكبر الدول العربية من حيث المساحة.
وبنحو هذه النسب يمكن أن نحكم على باقي البلاد الإسلامية المترامية الأطراف، إن المسلمين لو أدركوا أهمية الزراعة، وفقهوا حكم تعمير الأراضي، وإصلاحها وعرفوا فضل الزرع والغرس، وأجر الزراعة لتحولت صحاريهم الشاسعة الميتة إلى سهول خضراء، ولدبت الحياة في رمالها، ولأصبحت أفنية بيوتهم وساحاتهم، وجزر شوارعهم، وجوانب طرقاتهم حدائق غناء تسر الناظرين، وتمتع القاطنين والعابرين.
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} (1) .
والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) سورة السجدة الآية 27(33/212)
المراجع:(33/213)
جرير بن عبد الله البجلي
السفير القائد
اللهم ثبته واجعله هاديا مهديا
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
اللواء الركن: محمود شيت خطاب (1) .
نسبه. . أيامه الأولى:
هو جرير بن عبد الله بن جابر وهو الشليل، بن مالك بن نصر بن ثعلبة بن جشم بن عويف بن خزيمة بن حرب بن علي بن مالك بن سعد بن نذير بن قسر بن عبقر بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ. وبنو عمرو بن الغوث بن نبت هم أخو الأزد بن الغوث بن نبت بن زيد بن كهلان بن سبأ (2) .
والأزد وبجيلة من قبائل قحطان، وكذلك خثعم وبنو همدان وبنو الهان وبنو الأشعر وبنو طيئ وهو مذحج، وبنو خولان وبنو المغافر وبنو عاملة وبنو جذام وبنو لخم وبنو كندة وبنو حمير: لأن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، من قبائل اليمن (3) .
نسب بنو بجيلة إلى أمهم بجيلة بنت صعب بن علي بن سعد العشيرة (4) .
__________
(1) ورد لكاتب البحث ترجمة في العدد العاشر صفحة 233.
(2) جمهرة أنساب العرب (386 - 387) .
(3) جمهرة أنساب العرب (484 - 485) .
(4) أسد الغابة (1 \ 279) .(33/215)
وقد اختلف النسابون في بجيلة فمنهم من جعلهم من اليمن: أغار بن إراش بن عمرو الذي هو أخو الأزد، وهو قول الكلبي وأكثر أهل النسب، ومنهم من قال: أغار بن نزار بن معد، كما ذكر ابن إسحاق (1) ولكن ابن هشام استدرك على ابن إسحاق، فذكر نسب بجيلة: أغار بن إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد كهلان بن سبأ (2) كالنسب الذي ذكرناه، فهو الصواب لإجماع المصادر المعتمدة كافة عليه.
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جريرا إلى اليمن مقاتلا (3) وداعيا (4) وسفيرا، مما يدل على معرفته التفصيلية باليمن، فبجيلة يمانية (5) دون شك.
كان سيدا في الجاهلية (6) وسيد قومه (7) ، واختلفوا في موعد إسلامه، فهناك من يذكر أنه أسلم قبل أربعين يوما من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (8) ، وهذا خطأ لما ثبت في الصحيحين: البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجرير: «استنصت الناس (9) » في حجة الوداع، وذلك قبل التحاق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى بأكثر من ثمانين يوما (10) .
وجزم الواقدي، بأن جريرا وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان سنة عشر الهجرية؛ وهذا خطأ أيضا، لأن جريرا يروي أنه «سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ينعى النجاشي» ، وهذا يدل على أن إسلام جرير كان قبل سنة عشر الهجرية (11) لأن النجاشي مات قبل ذلك.
__________
(1) سيرة ابن هشام (1 \ 79) ، وانظر أسد الغابة (1 \ 279) ، والاستيعاب (1 \ 237) .
(2) سيرة ابن هشام (1 \ 80) .
(3) فتح الباري بشرح البخاري (8 \ 60) .
(4) طبقات ابن سعد (1 \ 265 - 266) .
(5) سيرة ابن هشام (1 / 80) .
(6) الاستيعاب (1 \ 238) .
(7) أسد الغابة (1 \ 279) .
(8) أسد الغابة (1 \ 279) ، والاستيعاب (1 \ 237) .
(9) صحيح البخاري العلم (121) ، صحيح مسلم الإيمان (65) ، سنن النسائي تحريم الدم (4131) ، سنن ابن ماجه الفتن (3942) ، مسند أحمد بن حنبل (4/358) ، سنن الدارمي المناسك (1921) .
(10) الإصابة (1 \ 242) .
(11) الإصابة (1 \ 242) .(33/216)
والنجاشي لقب لكل من ملك الحبشة (1) . والصحيح أن جريرا أسلم سنة تسع الهجرية، وهي سنة الوفود.
لقد كان جرير موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم قال جرير: «ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا ضحك (2) » ، ونال شرف الصحبة، ولكنه لم ينل شرف الجهاد تحت لواء النبي صلى الله عليه وسلم فلا ذكر له في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه.
__________
(1) شرح النووي على مسلم (2 \ 337 - 338) .
(2) فتح الباري بشرح البخاري (7 \ 99) وشرح النووي على مسلم (5 \ 194) .(33/217)
هدم ذي الخلصة
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم جريرا لهدم ذي الخلصة وهي من الأصنام: بيضاء منقوشة، عليها كهيئة التاج، وكانت بـ (تبالة) بين مكة واليمن، على مسيرة سبع ليال من مكة، وكان سدنتها بنو أمامة من باهلة بن أعقر، وكانت تعظمها وتهدي لها خثعم وبجيلة وأزد السراة ومن قاربهن من بطون العرب - من هوازن (1) .
وذو الخلصة الذي فيه هذا الصنم، بيت كان يطلق عليه في الجاهلية
__________
(1) كتاب الأصنام (34 - 35) .(33/217)
اسم: الكعبة اليمانية (1) وقال رجل من العرب في ذي الخلصة:
لو كنت يا ذا الخلص الموتورا
مثلي وكان شيخك المقبورا
لم تنه عن قتل العداة زورا
وكان أبوه قتل، فأراد الطلب بثأره، فأتى ذا الخلصة، فاستقسم عنده بالأزلام، فخرج السهم بنهيه عن ذلك فقال هذه الأبيات، ومن الناس من ينحلها امرأ القيس بن حجر الكندي (2) .
وسار جرير إلى ذي الخلصة، على رأس مائة وخمسين فارسا، فهدم الصنم والبيت وحرقهما وعاد سالما، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم (3) ودعا للذين كانوا معه (4) ، وسجد شكرا لله تعالى (5) .
وعن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تكفيني ذا الخلصة؟ فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني رجل لا أثبت على الخيل، فصك في صدري، فقال: اللهم ثبته، واجعله هاديا مهديا، فخرجت في مائة وخمسين من قومي، أتيناها، فأحرقناها (6) » .
وإرسال النبي صلى الله عليه وسلم جريرا لهدم صنم قومه وحرقه، دليل على ثقته بإيمانه العميق، لأن قوم جرير كانوا من القبائل العربية التي كانت تعظم هذا الصنم في الجاهلية، كما أن تنفيذ جرير هذا الواجب دليل على تخليه نهائيا عن عقيدته التي كان عليها قبل إسلامه، وتمسكه بالإسلام تمسكا قويا صادقا.
وهكذا اقتلع جرير بذور الشرك من أصوله في تلك المنطقة، فدخل الناس في دين الله أفواجا.
__________
(1) شرح النووي على مسلم (5 \ 194) .
(2) سيرة ابن هشام (1 \ 91) .
(3) فتح الباري بشرح البخاري (7 \ 99) ، وشرح النووي على مسلم (5 \ 195) .
(4) أسد الغابة (1 \ 280) .
(5) ابن الأثير (2 \ 304) .
(6) الاستيعاب (1 \ 238) ، وانظر أسد الغابة (1 \ 280) .(33/218)
السفير
بعث رسول الله جريرا إلى ذي الكلاع بن ناكور بن حبيب بن مالك بن حسان بن تبع (1) وذي عمرو (2) باليمن يدعوهما إلى الإسلام، فأسلما، وأسلمت ضريبة بنت أبرهة بن الصباح امرأة ذي الكلاع (3) ويبدو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جريرا إلى اليمن سنة إحدى عشرة الهجرية.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى ذي الكلاع مع جرير (4) ، ولم يرو نص الكتاب، وكان ذو عمرو يهوديا، ووفد ذو الكلاع على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأغزاه الشام، فلم يزل بها حتى قتل بصفين مع معاوية بن أبي سفيان (5) ، ومعركة صفين كانت سنة سبع وثلاثين الهجرية (6) (657 م) .
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرير في اليمن، فأخبره ذو عمرو بوفاته صلى الله عليه وسلم، فخرج جرير إلى المدينة المنورة (7) .
وهكذا نهض جرير بواجبه سفيرا بنجاح، كما نهض بواجبه داعيا بنجاح أيضا.
__________
(1) انظر سيرته المفصلة في أسد الغابة (2 \ 143 - 144) .
(2) انظر سيرته المفصلة في أسد الغابة (2 \ 142) .
(3) طبقات ابن سعد (1 \ 265 - 266) ، والمحبر (75) .
(4) الاشتقاق لابن دريد (308) .
(5) المحبر (75) .
(6) العبر (1 \ 38) .
(7) طبقات ابن سعد (1 \ 266) .(33/219)
المجاهد
1 - في ردة اليمن:
عاد جرير إلى المدينة المنورة بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، فأخبر أبا بكر الصديق بارتداد من ارتد وثبات من ثبت على الإسلام.
ورد أبو بكر جريرا إلى بجيلة قومه، وأمره أن يستنفر من قومه من ثبت على الإسلام، ويقاتل بهم من ارتد عن الإسلام، وأن يأتي خثعم فيقاتل من خرج غضبة لذي الخلصة، فخرج جرير وفعل ما أمره، فلم يقم له أحد إلا نفر يسير، فقتلهم وتتبعهم (1) .
ولم يقتصر نشاط جرير خلال هذه السنة - سنة اثنتي عشرة الهجرية - على الجهاد، بل شمل الإدارة أيضا، فبعث خالد بن الوليد عماله لقبض الجزية، وكان جرير عامله على بانقيا وبسما، فنزل على المنعة وقبض الجزية (2) ، واكتتب عمال الخراج، وكتبوا البراءات لأهل الخراج من نسخة واحدة وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
براءة لمن كان في كذا وكذا من الجزية، التي صالحهم عليها الأمير خالد بن الوليد، وقد قبضت الذي صالحهم عليه خالد، وخالد والمسلمون لكم يد على من بدل صلح خالد، ما أقررتم بالجزية، وكففتم. أمانكم أمان، وصلحكم صلح، نحن لكم على الوفاء.
__________
(1) الطبري (3 \ 322) ، وابن الأثير (2 \ 375) .
(2) الطبري (3 \ 369) .(33/220)
وأشهدوا لهم النفر من الصحابة الذي كان خالد أشهدهم: وكان جرير أحد الشهود على هذه الوثيقة (1) .
__________
(1) الطبري (3 \ 370 - 371) .(33/221)
2 - في العراق:
ونزل خالد الحيرة، واستقام له أمر ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد، وفرق سواد الحيرة يومئذ على جماعة من رجاله، كان بينهم جرير (1) .
وشهد جرير معارك الفتح بعد الحيرة، وفي معركة (المصيخ) التي كانت بقيادة خالد بن الوليد، قتل جرير عبد العزى بن أبي رهم بن قراوش أخا أوس مناة، من النمر، وكان معه كتاب من أبي بكر الصديق بإسلامه، فوداه أبو بكر وأوصى بأولاده (2) ، ومن الواضح أن جريرا قتله خطأ، إذ لم يكن يعلم بإسلامه ولا بكتاب أبي بكر الصديق الذي معه.
__________
(1) الطبري (3 \ 381) .
(2) الطبري (3 \ 381) .(33/221)
3 - في أرض الشام:
لما غادر خالد بن الوليد العراق إلى أرض الشام، كان أحد الذين استصحبهم معه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين كانوا بإمرته في العراق، جريرا، فشهد معه معارك خالد كافة في طريقه إلى الشام.
وفي معركة اليرموك الحاسمة التي كانت سنة ثلاث عشرة الهجرية (1) ، برز
__________
(1) الطبري (3 \ 394) ، وابن الأثير (2 \ 410) .(33/221)
اسم جرير أحد الفدائيين الفرسان من المهاجرين والأنصار، وهم مائة فارس، انتخبهم خالد من بين أفراد جيش المسلمين في اليرموك، كل فارس منهم يرد جيشا وحده (1) ، للتأثير بهم في معنويات الروم قبيل معركة اليرموك الحاسمة. ولم يذكر المؤرخون شيئا عن دور جرير في معركة اليرموك، ويبدو أنه كان دورا مشرفا.
__________
(1) فتوح الشام للواقدي (1 \ 120) .(33/222)
4 - في العراق ثانية:
عاد جرير من أرض الشام إلى المدينة مبشرا بانتصار المسلمين على الروم في معركة اليرموك (1) .
وكان أبو بكر الصديق قد مضى إلى ربه، وكان عمر بن الخطاب قد خلفه، فطلب منه جرير أن يجمع له بجيلة قومه تحقيقا لوعد النبي صلى الله عليه وسلم بجمع بجيلة لجرير. وكتب عمر إلى عماله: " إنه من كان ينسب إلى بجيلة في الجاهلية، وثبت عليه في الإسلام، فأخرجوه إلى جرير، ففعلوا ذلك. ولما اجتمعوا أمرهم عمر بالعراق، فأبوا إلا الشام، فعزم عمر على العراق وينفلهم ربع الخمس، فأجابوا، فسيرهم عمر إلى المثنى بن حارثة الشيباني (2) بالعراق، لأن عمر ندب الناس إلى المثنى لما بلغه خبر وقعة أبي عبيد الثقفي في الجسر (3) وكان فيمن ندب بجيلة (4) .
وتوجه جرير على رأس بجيلة إلى المثنى في العراق، فكتب المثنى إلى جرير: " إنا جاءنا أمر لم نستطع معه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا، وموعدكم البويب (5) وكان جرير ممدا له (6) .
__________
(1) الطبري (3 \ 455) .
(2) المثنى: بن حارثة الشيباني، انظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح العراق والجزيرة (27 - 50) .
(3) انظر التفاصيل في الطبري (3 \ 450 - 459) ، وابن الأثر (2 \ 438 - 440) .
(4) الطبري (3 \ 460) ، وابن الأثير (2 \ 441) .
(5) البويب: نهر كان بالعراق موضع الكوفة، ويأخذ من الفرات انظر معجم البلدان (2 \ 710) .
(6) الطبري (3 \ 461) .(33/222)
وانتهى جرير إلى المثنى، فشهد تحت لواء المثنى معركة البويب التي انتصر فيها المسلمون على الفرس انتصارا عظيما (1) .
وبعد معركة البويب استأذن جرير المثنى في مطاردة الفرس المنهزمين، فكتب جرير إلى المثنى: " إن الله عز وجل قد سلم وكفى، ووجه لنا ما رأيت، وليس دون القوم شيء، فأذن لنا بالإقدام "، فأذن المثنى لجرير ولآخرين في مطاردة المنهزمين، فأغار حتى بلغ (ساباط) (2) ، فتحصن أهل ساباط منهم واستباحوا (القريات) (3) دونها، ورماهم أهل الحصن بساباط عن حصنهم، وكان أول من دخل حصنهم ثلاثة قواد، أحدهم جرير، وقد تبعهم أوزاع من الناس، ثم عادوا إلى المثنى (4) .
ويبدو أن بعض الخلافات نشبت بين المثنى وجرير بعد معركة البويب. فقد أقبل جرير حتى إذا مر قريبا من المثنى، كتب إليه جرير: " إني لست فاعلا إلا أن يأمرني بذلك أمير المؤمنين، أنت أمير وأنا أمير ". ثم سار جرير فلقيه مهران بن باذان - وكان من عظماء فارس - عند النخيلة (5) ، قد قطع إليه الجسر، فاقتتلا قتالا شديدا. فشد أحد المسلمين (6) على مهران فطعنه، فوقع عن دابته، فاقتحم عليه جرير واجتز رأسه، واختصما في سلبه، ثم اصطلحا، فأخذ جرير سلاح مهران، وأخد الثاني منطقته (7) .
وحين اصطدم مهران بجرير في ساحة القتال، وأصبحا في تماس شديد،
__________
(1) انظر تفاصيل معركة البويب في الطبري (1 \ 460 - 472) ، وابن الأثير (2 \ 441 - 445) .
(2) ساباط: بلدة قريبة من المدائن، انظر معجم البلدان (5 \ 2) .
(3) القريات: جمع تصغير القرية.
(4) الطبري (3 \ 470) .
(5) النخلية: موضع قرب الكوفة على سمت الشام، وانظر تفاصيل في معجم البلدان (8 \ 276 - 277) .
(6) هو المنذر بن حسان بن ضرار الضبي، انظر الطبري (3 \ 472) .
(7) الطبري (3 \ 471 - 472) .(33/223)
قال مهران:
إن تسألوا عني فإني مهران ... أنا لمن أنكرني ابن باذان
وكان باذان عاملا لكسرى على اليمن، وكان ابنه مهران معه في اليمن، فأتقن العربية هناك (1) .
وجاب المثنى السواد، وأرسل جريرا إلى ميسان، وخاض المثنى معركة (الخنافس) (2) التي انتصر المسلمون فيها على الفرس في هذه المعركة (3) .
واجتمع الفرس على يزدجرد فملكوه عليهم، وتبارى رؤساؤهم في طاعته ومعونته، فسمى الجنود لكل مسلخة كانت لكسرى أو موضع ثغر. وبلغ ذلك المثنى والمسلمين، فكتبوا إلى عمر بن الخطاب، فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد: من كان له منهم عهد ومن لم يكن له منهم عهد، فخرج المثنى برجاله حتى نزل بذي قار، وتنزل الناس بالطف، حتى جاءهم كتاب عمر: " أما بعد. . فاخرجوا من بين ظهري الأعاجم، وتفرقوا في المياه التي تلي الأعاجم على حدود أرضكم، ولا تدعوا في ربيعة أحدا ولا مضر ولا حلفائهم أحدا من أهل النجدات ولا فارسا إلا اجتلبتموه، فإن جاء طائعا وإلا حشرتموه. احملوا العرب على الجد إذ جد العجم، فتلقوا جدهم بجدكم ".
__________
(1) الطبري (3 \ 472) .
(2) الخنافس: أرض للعرب في طرف العراق قرب الأنبار، انظر التفاصيل في معجم البلدان (3 \ 468) .
(3) انظر تفاصيل معركة الخنافس في الطبري (3 \ 472 - 476) وابن الأثير (2 \ 445 - 447) .(33/224)
ونزل المثنى بذي قار، ونزل الناس بالجل (1) وشراف إلى غضى (2) ، وغضى حيال البصرة، فكان جرير بغضى. فكانوا في أمواه الطف من أولها إلى آخرها مسالح بعضهم ينظر إلى بعض، ويغيث بعضهم بعضا إن كان قتال، وذلك في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة الهجرية (3) .
وكان المثنى قد كتب إلى عمر يمحل (4) بجرير، فكتب عمر إلى المثنى: " إني لم أكن لأستعملك على رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يعني جريرا "، وقد وجه عمر سعد بن أبي وقاص (5) إلى العراق في ستة آلاف أمره عليهم، وكتب إلى المثنى وجرير أن يجتمعا إلى سعد بن أبي وقاص، وأمر سعدا عليهما فسار سعد حتى نزل شراف (6) ، وسار المثنى وجرير حتى نزلا عليه، فشتا بها سعد، واجتمع إليه الناس، ومات المثنى بن حارثة رحمه الله (7) .
ولم يكن الخلاف بين الرجلين لنوازع شخصية، فانتهى الخلاف بينهما بموت المثنى وتأمير سعد بن أبي وقاص عليهما، وكثيرا ما تحدث مثل هذه الخلافات في أيام القتال بين القادة، لظروف الحرب الصعبة أولا ولاختلاف الاجتهادات في معالجة مشاكل القتال ثانيا.
لقد كان جرير أحد قادة المثنى المقربين إليه، وقد أعانه وعاونه في تحمل أعباء قيادته، وكان التعاون بين القائدين اللامعين وثيقا والاختلاف في الرأي من أجل المصلحة العامة، ليس كالاختلاف في الرأي من أجل المصلحة الخاصة، وما اختلاف القائدين إلا اختلاف في الاجتهاد.
__________
(1) الجل: موضع قريب من السلمان بالبادية، انظر معجم البلدان (3 \ 128) .
(2) غضى: جبال البصرة، انظر معجم البلدان (6 \ 297) .
(3) الطبري (3 \ 478) .
(4) يمحل به: أي يعرض.
(5) انظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح العراق والجزيرة (248) .
(6) شراف: ماء بنجد له ذكر كثير في آثار الصحابة، انظر التفاصيل في معجم البلدان (5 \ 246 - 247) .
(7) الطبري (3 \ 472) .(33/225)
5 - في القادسية:
وقاتلت بجيلة بقيادة جرير تحت لواء سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية الحاسمة التي فتحت أبواب العراق للمسلمين بعد انتصارهم على الفرس، وكان تعداد بجيلة يومئذ يقدر بألفي مقاتل (1) وكان بسعد عرق النسا ودماميل، فاستخلف خالد بن عرفطة (2) على الناس، فاختلف عليه الناس، فقال: " احملوني وأشرفوا بي على الناس " فارتقوا به، فأكب مطلعا عليهم: يأمر خالدا، فيأمر خالد الناس، وكان ممن شغب على سعد وجوه من وجوه الناس، فهم بهم سعد وأراد معاقبتهم عقابا صارما، ولكنه اكتفى بحبسهم في القصر. فقال جرير: " أما إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن أسمع وأطيع لمن ولاه الله الأمر وإن كان عبدا حبشيا " (3) فما وافق على الفتنة، وعمل جاهدا على إطفاء نارها.
وجعل سعد على ميمنة الناس جريرا (4) في ترتيباته التعبوية للمعركة، كما جعل على الميسرة قائدا من قادته الآخرين، مما يدل على أن جريرا كان قائدا بارزا من قادة سعد في القادسية.
وكان لجرير وبجيلة قومه أثر عظيم في انتصار المسلمين على الفرس في هذه المعركة الحاسمة، ففي الأول من أيام القادسية (يوم أرماث) . وجه الفرس ثلاثة عشر فيلا، وفي رواية أخرى ستة عشر فيلا إلى مواقع بجيلة، ففرقت بين الكتائب وأذعرت الخيل، وكادت بجيلة أن تفنى عن بكرة أبيها
__________
(1) الطبري (3 \ 486) .
(2) خالد بن عرفطة العذري: انظر سيرته المفضلة في كتابنا: قادة فتح العراق والجزيرة (301 - 305) .
(3) الطبري (3 \ 531) .
(4) الطبري (3 \ 575) .(33/226)
بعد فرار خيلها ذعرا من الفيلة، ولكن مشاة (الرجالة) بجيلة ثبتوا في مواضعهم ثبات الأبطال، وأعانهم على الثبات تدارك سعد لهم ببني أسد الذين هاجموا الفيلة وحماتها هجوما عنيفا بقيادة طليحة الأسدي، فاستطاعوا بمعاونة ربيعة بقيادة الأشعث بن قيس الكندي بعد جهد جهيد وعناء شديد أن يجعلوا الفيلة والقوات الفارسية التي تساندها تولي الأدبار (1) .
وتركت بجيلة كثيرا من الشهداء في ساحة المعركة، ولكن ثباتها المدهش العنيد، أتاح للمسلمين تدارك الموقف الخطير الذي كان نتيجة من نتائج هجوم فيلة الفرس على قواتهم.
وفي ليلة اليوم الرابع من أيام القادسية (ليلة الهرير) حملت بجيلة على القوات الفارسية مع من حمل عليها من القبائل العربية، غير منتظرة أمر سعد بالحملة، فعذرها سعد قائلا: " اللهم اغفرها لهم وانصرهم " فقضوا في تلك الليلة على عدد ضخم من الفرس، وفي بلاء بجيلة بقيادة جرير، قال سعد:
وما أرجو بجيلة غير أني ... أؤمل أجرهم يوم الحساب
فقد لقيت خيولهم خيولا ... وقد وقع الفوارس في ضراب
وقد دلفت بعرصتهم فيول ... كأن زهاءها إبل جراب (2)
وكان سعد في شعره هذا يرد على قول جرير:
أنا جرير كنيتي أبو عمرو ... قد نصر الله وسعد في القصر
ولما فر الفرس من ساحة المعركة، وجه سعد عياض بن غنم (3) ، وجعل على مقدمته هاشم بن عتبة بن أبي وقاص (4) وعلى ميمنته جرير وعلى ميسرته
__________
(1) الطبري (3 \ 583 - 540) وابن الأثير (2 \ 471 - 472) .
(2) في البيت إقواء، والزهاء: العدد الكثير والفخر أيضا.
(3) عياض بن غنم: انظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح العراق والجزيرة (419 - 479) .
(4) هاشم بن عتبة بن أبي وقاص: انظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح العراق والجزيرة (321 - 330) .(33/227)
زهرة بن حوية التميمي (1) ، وتخلف سعد لما به من الوجع، فطارد المسلمون الفرس إلى (ساباط) قريبا من المدائن، فأشفق الناس من أن يكون للعدو كمين، ولكن هاشم بن عتبة تغلغل في مطاردته للفرس حتى وصل إلى (جلولاء) وكان بها جماعة من الفرس استطاع المسلمون تشتيتهم (2) .
لقد كان لبجيلة وعلى رأسها جرير، آثار باقية في معركة القادسية الحاسمة التي دارت رحاها بين المسلمين من جهة والفرس من جهة أخرى سنة أربع عشرة الهجرية، فكانت بجيلة بين القبائل العربية التي أحسنت غاية الإحسان في ذلك اليوم، وأبلت فيه أحسن البلاء. كما كان جرير بين القادة الآخرين الذين أحسنوا غاية الإحسان في ذلك اليوم، وأبلوا فيه أحسن البلاء، مما زين صفحات التاريخ ولا يزال يزينها حتى اليوم، وستبقى تلك الصفحات المشرفة ما بقي التاريخ.
__________
(1) زهرة بن حوية التميمي: انظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح العراق والجزيرة (306 - 318) .
(2) الطبري (3 \ 578) ، وابن الأثير: (2 \ 480) .(33/228)
6 - الفاتح:
وشهد جرير مع قومه معركة فتح (المدائن) عاصمة كسرى تحت لواء سعد بن أبي وقاص، كما شهد معركة فتح جلولاء تحت راية هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري، فلما استطاع المسلمون إحراز النصر على القوات الفارسية في جلولاء ضم هاشم إلى بجيلة خيلا كثيفة وجعلهم بقيادة جرير، وأبقاهم قوة ساترة في جلولاء لتكون بين المسلمين والفرس حماية للمسلمين فهاجم جرير (خانقين) وكان فيها فلول من الفرس، فقتل بعضهم وفر الباقي (1) .
__________
(1) البلاذري (369) .(33/228)
وأمد سعد جريرا بنحو ثلاثة آلاف مقاتل من المسلمين، وأمره أن يسير لفتح (حلوان) ، فلما كان بالقرب منها، هرب (يزدجرد) ملك الفرس إلى (أصبهان) ، ففتح جرير حلوان صلحا، ثم سار إلى (قرميسين) ، ففتحها صلحا أيضا، وبقي جرير واليا على حلوان، حتى أمره عمار بن ياسر والي الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص أن يتحرك مددا لأبي موسى الأشعري (1) في (خوزستان) ، فغادرها جرير مخلفا عليها عزرة بن قيس البجلي، وقد نزل حلوان قوم من ولد جرير، فأعقابهم بها.
ولا تزال في منطقة خانقين وحلوان قبيلة باسم: (باجلان) وهي بمعنى: (بجلي) نسبة إلى بجيلة القبيلة العربية المعروفة.
__________
(1) أبو موسى الأشعري: انظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح بلاد فارس (178 - 191) .(33/229)
7 - في بلاد فارس:
شهد جرير سنة سبع عشرة الهجرية فتح رامهرمز (1) والسوس وتستر تحت لواء أبي سبرة بن أبي رهم فقد كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص: (أن ابعث إلى الأهواز بعثا كثيفا مع النعمان بن مقرن المزني، وعجل، وابعث (وذكر أسماء القادة) وجرير بن عبد الله البجلي، فلينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتبينوا أمره، كما كتب إلى أبي موسى الأشعري: " أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا ثم قال: وعلى أهل الكوفة وأهل البصرة جميعا أبو سبرة بن أبي رهم، وكل من أتاه فمدد له (2) ، وكان ذلك سنة سبع عشرة الهجرية (3) .
وبرز اسم جرير من جديد في معركة (نهاوند) الحاسمة، فكان من بين أشراف العرب وأبطالهم المعدودين الذين خاضوا تلك المعركة (4) تحت لواء النعمان بن مقرن المزني، فأبلى جرير في هذه المعركة أعظم البلاء.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قد كتب إلى النعمان بن مقرن المزني: " إن أصبت فالأمير حذيفة بن اليمان، فإن أصيب فجرير بن عبد الله
__________
(1) رامهرمز: مدينة مشهورة في خوزستان، انظر التفاصيل في معجم البلدان (4 \ 212) .
(2) الطبري (4 / 83 - 84) .
(3) انظر تفاصيل فتح هذه البلاد في الطبري (4 / 83 - 95) .
(4) الطبري (4 \ 115) .(33/230)
البجلي، فإن أصيب فالمغيرة بن شعبة، ثم الأشعث بن قيس (1) ، مما يدل على منزلة جرير الرفيعة عند عمر بن الخطاب.
وفي رواية، أن المغيرة بن شعبة حين كان واليا على الكوفة، أرسل جرير لفتح (همذان) (2) ، فقاتل أهلها فأصيبت عينه بسهم، فقال: " احتسبتها عند الله الذي زين بها وجهي، ونور لي ما شاء، ثم سلبنيها في سبيله "، ثم فتحها على مثل صلح نهاوند، وغلب على أرضها قسرا (3) .
وكان فتح نهاوند سنة إحدى وعشرين الهجرية (4) وكان فتح همذان سنة اثنتين وعشرين الهجرية (5) .
وفي رواية أن الذي فتح همذان هو: نعيم بن مقرن المزني والقعقاع بن عمرو التميمي (6) ، ولا أرى تضاربا بين الروايتين، لأن فتح نعيم لها كان بقواته الخفيفة، أما فتح جرير فكان بقواته الضاربة، حيث ثبت فتحها وضمها نهائيا إلى بلاد المسلمين، فأصبحت جزءا لا يتجزأ من تلك البلاد.
وفي أيام عثمان بن عفان، افتتح جرير إرمينية (7) ، ولا يصح ذلك في المصادر العربية الإسلامية المعتمدة.
لقد امتدت ساحة جهاد جرير من بلاد الشام غربا، إلى العراق بخاصة إلى إيران شرقا، قائدا مرءوسا تارة، وقائدا مستقلا تارة أخرى، فأحسن في قيادته في الحالتين، وأثبت عمليا أنه قائد متميز.
__________
(1) البلاذري (425) .
(2) همذان: مدينة من أكبر مدن إيران وأقدمها انظر معجم البلدان (8 \ 474) .
(3) ابن الأثير (3 \ 23) ، والبلاذري (433) .
(4) الطبري (4 \ 114) .
(5) ابن الأثير (3 \ 22) .
(6) انظر التفاصيل في الطبري (4 \ 146 - 150) .
(7) البدء والتاريخ (5 \ 198) وانظر عما جاء عن إرمينية في معجم البلدان (1 \ 203 - 206) .(33/231)
الإنسان
كان جرير من عمال أبي بكر الصديق على نجران (1) ، ويبدو أنه تولى نجران بعد حرب الردة، فلما بدأ المجاهدون يتدفقون على ساحة قتال أرض الشام والعراق، آثر جرير أن يكون غازيا على أن يبقى واليا.
وسكن جرير الكوفة وابتنى بها دارا في القسم المخصص لسكنى قبيلة بجيلة (2) قوم جرير.
وقد ولاه عثمان بن عفان رضي الله عنه (قرقيسياء) (3) ، وبقي عليها حتى توفي عثمان (4) . وفي رواية أخرى، أن عثمان ولاه همذان، فبقي واليا عليها حتى استدعاه علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد منصرفه من البصرة إلى الكوفة، وفراغه من معركة (الجمل) (5) ، لذلك لم يشهد جرير تلك المعركة.
وغادر جرير همذان بعد أخذ البيعة من أهلها لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما وصل إلى الكوفة، أوفده علي إلى معاوية بن أبي سفيان يدعوه إلى الدخول في طاعته، وكتب معه كتابا يعلم معاوية فيه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار.
وانتهى جرير إلى معاوية فكلمه ووعظه وألح عليه في الكلام والوعظ، ولكن معاوية جعل يسمع منه ولا يقول شيئا، وإنما يطاوله ويسرف في مطاولته، ويدعو مع ذلك وجوه أهل الشام وقادة الجيش مظهرا استشارتهم فيما
__________
(1) الطبري (3 \ 427) .
(2) طبقات ابن سعد (6 \ 22) ، والإصابة (1 \ 242) .
(3) قرقيسيا: بلدة على الخابور عند مصب الخابور في الفرات، انظر معجم البلدان (7 \ 60) .
(4) الطبري (4 \ 422) ، وابن الأثير (3 \ 186) .
(5) الطبري (3 \ 561) .(33/232)
يطلب إليه علي بن أبي طالب ويعظم لهم قتل عثمان ويحرضهم على المطالبة بدمه.
وأخيرا عاد جرير إلى الكوفة ليخبر عليا خبر معاوية واجتماع أهل الشام على قتاله، فلم يرض علي على نتائج سفارة جرير، كما أن جماعة من أصحاب علي، وعلى رأسهم الأشتر النخعي، أسمعوا جرير ما يكره من نقد سفارته، فغضب جرير وارتحل بأهله إلى قرقيسياء معتزلا (1) الفريقين (2) ، مع أنه كان من الموالين لعلي، ومن أبرز شيعته (3) .
وفي معركة (صفين) بين علي ومعاوية، انقسمت القبائل العربية المسلمة على نفسها، فكان من الطرفين قسم من كل قبيلة عربية عدا بجيلة، فقد كانت كلها مع علي بن أبي طالب، ولم يشهد منها أحد هذه المعركة مع قوات معاوية (4) . وهذا يثبت أن جريرا اعتزل الطرفين، ولم يلتحق بمعاوية كما يزعم بعض الرواة.
والدليل القاطع على أن جريرا لم يلتحق بمعاوية، أنه بقي مغمورا في خلافته، لا ذكر له في ولاية أو قيادة أو تكريم.
وباعتزال جرير انتهت حياته العامة، حتى وافاه الأجل سنة إحدى وخمسين الهجرية (671م) ، وقيل سنة أربع وخمسين الهجرية (5) (673 م) ، والأصح أنه توفي سنة إحدى وخمسين الهجرية (6) لإجماع كثير من المصادر المعتمدة على ذلك.
__________
(1) الطبري (3 \ 561 - 562) .
(2) الإصابة (1 \ 242) .
(3) البدء والتاريخ (5 \ 124) .
(4) ابن الأثير (3 \ 291) .
(5) ابن الأثير (3 \ 489) ، والبداية والنهاية (8 \ 56) .
(6) العبر (1 \ 57) .(33/233)
لقد كان جرير سيد قومه في الجاهلية والإسلام (1) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه جرير: «إذا أتاكم كريم قوم، فأكرموه (2) » .
وكان مؤمنا حقا، لم يبدل ولم يغير منذ آمن بالله ورسوله، وقد أخلص للدعوة مجاهدا وداعيا وسفيرا، وسهر على مصالح رعيته حين أصبح واليا، فلما نشب القتال بين المسلمين أيام الفتنة الكبرى وأصبحت سيوف المسلمين عليهم لا على أعدائهم، لم يلطخ يده بدماء المسلمين ولا ضميره بكرههم، بل سعى جاهدا لجمع كلمة الأمة، فلما أخفق في مهمته لا بتقصير منه، بل لأن التيار كان جارفا لا يقوى أي فرد على الوقوف أمامه، ترك الدنيا وما فيها، واعتزل الفتن منزويا في عقر داره في (قرقيسياء) .
وكان شاعرا خطيبا لسنا، فقد قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عند سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقال له عمر: " كيف تركت سعدا في ولايته؟ فقال: تركته أكرم الناس مقدرة، وأحسنهم معذرة، هو كالأم البرة، يجمع لها كما تجمع الذرة (3) ، مع أنه ميمون الأثر، مرزوق الظفر، أشد الناس عند البأس، وأحب قريش إلى الناس (4) .
قال عمر: (فأخبرني عن الناس فقال جرير: هم كسهام الجعبة (5) ، منها القائم الرائش (6) ومنها العضل (7) الطائش، وابن أبي وقاص ثقافها (8) ، يغمر عضلها، ويقيم ميلها، والله أعلم بالسرائر يا عمر. قال: " أخبرني
__________
(1) الاستيعاب (1 \ 238) .
(2) الإصابة (1 \ 242) ، وأسد الغابة (1 \ 279) ، والاستيعاب (1 \ 237) .
(3) الذر: صغار النمل، واحدته ذرة.
(4) الاستيعاب (1 \ 239) .
(5) الجعبة: وعاء السهام والنبال.
(6) الرائش: ذو الريش، إشارة إلى كماله واستقامته.
(7) العضل من السهام: المعرج
(8) الثقاف: أداة من خشب أو حديد تثقف بها الرماح لتستوي وتعتدل(33/234)
عن إسلامهم " قال: " يقيمون الصلاة لأوقاتها، ويؤتون الطاعة لولاتها، فقال عمر: الحمد لله. . إذا كانت الصلاة، أوتيت الزكاة، وإذا كانت الطاعة كانت الجماعة ". وجرير هو القائل: " الخرس خير من الخلابة (1) ، والبكم خير من البذاء (2) .
وكان ذكيا محدثا عالما بأمور دينه فقيها، روى مائة حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) ، اتفق البخاري ومسلم على ثمانية، وانفرد البخاري بحديث ومسلم بستة أحاديث (4) . وروى عن عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان، وروى عنه أولاده المنذر وعبيد الله وأيوب وإبراهيم، وابن ابنه أبو زرعة بن عمرو، وأنس وأبو وائل وزيد بن وهب وزياد بن علاقة والشعبي وقيس بن أبي حازم وهمام بن الحارث وأبو ظبيان حصين بن جندب وغيرهم (5) .
كما عده العلماء من أهل الفتيا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم البارزين، وتسلسله الرابع عشر في مراتبهم من كثرة الفتيا (6) .
وكان كيسا فطنا عاقلا حاضر البديهة وجد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مجلسه رائحة من بعض جلسائه، فقال عمر: " عزمت على صاحب هذه الرائحة إلا قام فتوضأ فقال جرير: علينا كلنا يا أمير المؤمنين فاعزم، فقال عمر: عليكم كلكم عزمت، ثم التفت إلى جرير وقال له: ما زلت سيدا في الجاهلية والإسلام " (7) .
وكان آلفا مألوفا: أحبه النبي صلى الله عليه وسلم قال جرير: «ما حجبني رسول الله
__________
(1) الخلابة: القول.
(2) الاستيعاب (1 \ 139) .
(3) أسماء الصحابة الرواة - ملحق بجوامع السيرة (278) وخلاصة تهذيب، تهذيب الكمال (61) .
(4) خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (61) .
(5) تهذيب التهذيب (2 \ 73) .
(6) أصحاب الفتيا - ملحق بجوامع السيرة لابن حزم (319) .
(7) الاستيعاب (1 \ 238) .(33/235)
صلى الله عليه وآله وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم» رواه الشيخان وغيرهما «ولما جالسه النبي صلى الله عليه وسلم بسط له رداءه وقال: إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه (1) » .
وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خرجت مع جرير في سفر، فكان يخدمني، فقلت له: لا تفعل فقال: إني رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء آليت ألا أصحب أحدا منهم إلا خدمته (2) » ، وكان جرير أكبر من أنس رضي الله عنهما (3) .
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: جرير منا أهل البيت (4) ومناقبه كثيرة ومن مستطرفاتها أنه اشترى له وكيله فرسا بثلاثمائة درهم، فرآها جرير فتخيل أنها تساوي أربعمائة، فقال لصاحبها: تبيعها بأربعمائة؟ قال: نعم ثم تخيل أنها تساوي خمسمائة، فقال: أتبيعها بخمسمائة، قال: نعم، ثم تخيل أنها تساوي ثمانمائة ثم سبعمائة ثم ثمانمائة، فاشتراها بثمانمائة (5) .
وبلغ مقدار حبه لقومه بجيلة، أن حصل على وعد من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمعهم له وكانوا أشتاتا بين القبائل العربية الأخرى، فاستنجز أبا بكر الصديق رضي الله عنه هذا الوعد، إلا أن ظروفه لم تساعده على إنجازه، فطالب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإنجازه، فجمعهم له وسيرهم إلى العراق بقيادته لحرب الفرس.
وكان يثق بنفسه ويعرف لها قدرها ولا يتخلى عن حق من حقوقها، فقد أراد عمر بن الخطاب أن يؤثر عرفجة بن هرثمة البارقي (6) على بجيلة ليسيرهم
__________
(1) البداية والنهاية (8 \ 56) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (2888) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2513) .
(3) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 147) .
(4) الإصابة (1 \ 243) .
(5) تهذيب الأسماء (1 \ 243) .
(6) عرفجة بن هرثمة البارقي: انظر سيرته المفصلة في كتابنا: قادة فتح العراق والجزيرة (387 - 394) .(33/236)
إلى العراق، باعتبار عرفجة قد خالطهم وعاش بين ظهرانيهم ردحا طويلا، ولكن جريرا غضب وقال لبجيلة: كلموا أمير المؤمنين، فقالوا لعمر: استعملت علينا رجلا ليس منا، فأرسل إلى عرفجة، وقال له: ما يقول هؤلاء؟ قال: صدقوا أمير المؤمنين لست منهم، ولكنني من الأزد، كنا أصبنا في الجاهلية دما من قومنا، فلحقنا ببجيلة، فبلغنا فيهم من السؤدد ما بلغك، فقال عمر: فاثبت على منزلتك فدافعهم كما يدافعونك، فقال: لست فاعلا ولا سائرا معهم فأمر عمر جريرا على بجيلة، فسار بهم إلى العراق (1) .
وكان شهما كريما وفيا جمع صفات العربي الأصيل ومزايا خلق المسلم الصادق، فلا عجب أن يكون نموذجا كاملا للمؤمن المجاهد الصابر المحتسب، الذي يبذل غاية جهده لخدمة عقيدته وأمته في السلم والحرب، ولا عجب أن يستحوذ على إعجاب الناس بمزاياه، فيقول فيه أحد الشعراء مرددا صدى إعجاب الناس بسجاياه الكريمة:
لولا جرير هلكت بجيله ... نعم الفتى وبئست القبيله
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما مدح من هجا قومه (2) .
ولست أشك في أن الشاعر لم يرد هجاء بجيلة نظرا لماضيها المشرف، ولكنه أراد أن يبرز أثر جرير الشخصي في رفع منزلة بجيلة ومكانتها بين القبائل العربية الأخرى، وإلا لكان هجاء بجيلة يغضب أول من يغضب جريرا قبل غيره من أفراد بجيلة.
لقد كان مخلصا لكل مسلم بدون استثناء، قال جرير: - كما في البخاري ومسلم -: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح
__________
(1) الطبري (3 \ 462 - 463) .
(2) الاستيعاب (1 \ 278) .(33/237)
لكل مسلم (1) » ، فصدق ما عاهد الله عليه في كل حياته، فقد نزل الكوفة ثم تحول إلى قرقيسياء فنزلها وقال: " لا أقيم ببلدة يشتم فيها عثمان " (2) ، واعتزل عليا ومعاوية (3) فلم يقاتل مسلما، فهو تقي نقي، يخاف الله ويحاسب نفسه، فلا يحيد عن تعاليم الدين الحنيف أبدا.
يكنى أبا عمرو، وقيل: يكنى أبا عبد الله (4) وكان أولاده: عبد الله، وعبيد الله، والمنذر، وإبراهيم، وبشير (5) ، وأيوب، وعمرو (6) .
وكان جميل الصورة، وحين قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مسلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه يقدم عليكم من هذا الفج من خير ذي يمن، وإن على وجهه مسحة ملك، فلما دخل نظر الناس إليه، فكان كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه بذلك فحمد الله تعالى (7) » ، وكان عمر يقول: " جرير يوسف هذه الأمة " لجماله وكماله وحسن فعاله (8) ، وكان طويل القامة يصل إلى سنام البعير، يخضب لحيته بزعفران بالليل ويغسلها إذا أصبح (9) .
رآه عبد الملك بن عمير فقال: رأيت جريرا كأن وجهه شقة قمر (10) ، فكان أحد المتعممين بمكة مخافة النساء على أنفسهم من جمالهم (11) .
وكان أعور ذهبت عينه بهمذان (12) ، فكان معدودا من العوران
__________
(1) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 147) .
(2) تهذيب التهذيب (2 \ 73) .
(3) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 147) .
(4) الإصابة (1 \ 242) .
(5) جمهرة أنساب العرب (385) .
(6) تهذيب التهذيب (2 \ 73) .
(7) البداية والنهاية (8 \ 55) .
(8) البدء والتاريخ (5 \ 103) ، وانظر تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 147) .
(9) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 147) .
(10) البداية والنهاية (7 \ 56) .
(11) المحبر (232) .
(12) المعارف (586) والمحبر (261) .(33/238)
الأشراف (1) ، وقد ذهبت عينه في ميدان الجهاد.
توفي بقرقيسياء سنة إحدى وخمسين الهجرية (2) ، وهذا ما نرجحه، لأنه اعتزل في هذه المدينة، فلم يبرحها حتى توفاه الله.
وفي رواية أنه توفي بالسراة (3) ، وهو جبل مشرف على جبل عرفة ينقاد إلى صنعاء (4) والأول أصح.
وهكذا مضى رجل من رجال العقيدة إلى ربه، بعد أن بيض صفحات من التاريخ بأعماله المجيدة.
__________
(1) المحبر (302) .
(2) تهذيب الأسماء واللغات (1 \ 147) .
(3) طبقات ابن سعد (6 \ 22) .
(4) معجم البلدان (5 \ 59) .(33/239)
القائد
لمسنا بوضوح في مزايا جرير الشخصية، بعض الصفات التي تؤهله لتولي قيادة الرجال في أخطر المواقف وأحرج الظروف، فهو قائد يتحلى بعقيدة راسخة، كريم النسب، شجاع مقدام، عالم ذكي، حاضر البديهة. لذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم في حياته المباركة حين وجهه لتحطيم صنم (ذي الخلصة) ، هذا الواجب الذي لم يكن سهلا في تلك الأيام، وبخاصة أن جذور الشرك لم تكن قد اجتثت تماما من أصولها، وأن المشركين كانوا يسترخصون أرواحهم وأموالهم في سبيل الذود عن أصنامهم، كما أن هذا الصنم كانت بجيلة قوم جرير تعبده وتقدسه، لهذا لم يوجه النبي صلى الله عليه وسلم لمثل هذا الواجب الخطير غير الصفوة المختارة من أصحابه، أمثال علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد وجرير.(33/239)
وكان من قادة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في حروب الردة وفي فتح بلاد الشام، ومن قادة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في معارك فتح العراق، وبلاد فارس، وكان أحد قادة الفتح الإسلامي العظيم.
لقد كانت له قابلية متميزة على إصدار قرار سريع صحيح، نظرا لتجربته العملية الطويلة في الحروب وحدة ذكائه وسعة بديهته، لذلك قادت قرارته الصائبة الحصيفة رجاله إلى النصر.
وكان متميزا بالشجاعة والإقدام، لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه، لذلك اختاره خالد ليكون ضمن المائة الفدائيين الذين حطموا معنويات الروم في معركة اليرموك الحاسمة ببطولاتهم الفذة وإقدامهم المجيد.
وكان يتحلى بالإرادة القوية الثابتة التي لا تعرف التردد والخور، فكان إذا قرر أمرا واقتنع به، أقدم على تنفيذه دون تردد.
وكان يتحمل المسئولية ويحبها، ولا يتهرب منها أو يلقيها على عواتق الآخرين، لذلك أصر على جمع بجيلة وقيادتهم، ولم يرض بقيادة رجل ليس من قومه.
وكانت نفسيته رصينة قوية لا تتبدل في حالتي النصر والاندحار، فلا يغتر بالنصر ويركبه الطيش، ولا يضعف بالاندحار ويرديه الانهيار، فهو صابر في الحالتين.
وكان يتحلى بمزية سبق النظر، فيعالج المشاكل قبل وقوعها بتلافي الأسباب التي تثيرها، ويعد لكل أمر عدته قبل وقت مناسب.
وكان عارفا بنفسيات رجاله وقابلياتهم، لمعايشتهم بتماس شديد في السلم والحرب، فيوكل لكل رجل منهم الواجب الذي يناسب حالته النفسية وقابلياته العقلية والبدنية.
وكان يثق برجاله ويثقون به، وكان موضع ثقة الخلفاء وقادتهم، نظرا لكفايته واستقامته وحسن تدبيره.(33/240)
وكان يحب رجاله ويبادلونه حبا بحب، وكان محبوبا من الخلفاء وقادتهم ومن الناس كافة، وكان محبوبا من النبي صلى الله عليه وسلم لاستقامته ورجاحة عقله وشجاعته.
وكان يتحلى بشخصية قوية تفرض احترامها على الآخرين، دون ظلم أحد أو استعباد أحد من الناس، ولعل خلقه الكريم فرض احترامه على قومه وغيرهم احتراما نابعا من القلوب.
وكان يتحلى بالقابلية البدنية المتميزة، لذلك استطاع تحمل أعباء القتال صيفا وشتاء وفي جميع الظروف والأحوال.
وكان ذا ماض ناصح مجيد، سيدا في الجاهلية، وسيدا في الإسلام، ثبت على الإسلام وقاتل الذين ارتدوا من قومه بخاصة ومن غيرهم بعامة. كما كان من أصحاب الأيام، أثبت شجاعة وإقداما في المعارك التي خاضها.
وعند تطبيق مزايا قيادة جرير على مبادئ الحرب، نجد أنه كان يطبق مبدأ اختيار المقصد وإدامته، فيضع مقصده من عملياته العسكرية نصب عينيه دوما، ويسعى بكل طاقاته المادية والمعنوية على تحقيقه.
وكان يطبق مبدأ التعرض، فكان قائدا تعرضيا في معاركه داخل شبه الجزيرة العربية وخارجها، ولم يتخذ خطة الدفاع في تلك المعارك.
وكان يطبق المباغتة، وقد ظهر تطبيقه هذا المبدأ في معاركه التي خاضها في العراق وفارس على الفرس وحلفائهم.
وكان يطبق مبدأ تحشيد القوة، فقد ألح على جمع بجيلة قومه، حتى نجح في مسعاه، فقادهم إلى ميدان الجهاد، وما جمع هذه القبيلة بعد شتات إلا تحشيد القوة في المكان والزمان المناسبين.
وكان يطبق مبدأ الاقتصاد في المجهود، فلم يعرف عنه أنه أسرف في استخدام قوة من قواته دون مسوغ، بل لم يعرف عنه أنه أسرف في استخدام رجل من رجاله دون مسوغ. والحق أن القادة المسلمين تميزوا بتطبيق هذا(33/241)
المبدأ الحيوي، لأنهم يخافون الله، فلا يبذرون بقطرة واحدة من دم رجل من رجالهم إلا لضرورة قصوى.
وكان يطبق مبدأ الأمن بحماية رجاله من العدو وحرمانه من الحصول على المعلومات الضرورية عنهم، لذلك لم يستطع العدو مباغتة رجال جرير أبدا، لأنه كان حريصا على أمنهم.
وكان يطبق مبدأ المرونة في خططه، وفي تطبيقها، وفي التعاون مع القادة المرءوسين والعامين الآخرين.
وكان يطبق مبدأ التعاون، فقد كان متعاونا تعاونا وثيقا مع القادة الذين عمل بإمرتهم أو الذين عملوا بإمرته فهو يعرف مسئوليته فيؤديها، ويعرف حقوقه على غيره فيطالبه بها.
وكان يطبق مبدأ إدارة المعنويات، فقد كان بشخصيته الفذة وشجاعته النادرة وعقليته الراجحة وإيمانه العميق كتلة من المعنويات العالية ينقلها إلى رجاله بالعدوى وبالأعمال المجيدة والمواقف المشرفة والأقوال الحكيمة.
وكان يطبق مبدأ الأمور الإدارية، فما شكا رجل من رجاله الجوع أو العطش أو العري أو التنقل، وكانت الأمور الإدارية لها الأسبقية الأولى في التطبيق العملي.
وبالإضافة إلى كل ذلك، كان يساوي نفسه برجاله، بل كان يستأثر بالخطر، ويؤثرهم بالأمن.
كما كان يتحلى بمزية الاستشارة، فكان يستشير رجاله، ويعمل بمشورتهم، ويعمل معهم فريقا واحدا متماسكا.
لقد كان جرير قائدا متميزا.(33/242)
السفير
حين يدرس باحث سيرة جرير (الإنسان) يتمنى أن يكون لدى العرب والمسلمين أمثاله من السفراء. إذا لتبدل الحال في الحال.
فما هي مزاياه التي أهلته ليكون أحد سفراء النبي صلى الله عليه وسلم.
فقد كان ينتمي بكل جوارحه لأمته الإسلامية ويسترخص في سبيلها روحه وما يملك من مال وعقار، وكان حافزه الأول والأخير لهذا الانتماء العضوي المصيري هو إيمانه العميق بتعاليم الدين الحنيف.
وبالرغم من أن إسلام جرير جاء متأخرا نسبيا قبيل انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، إلا أن إسلامه حسن بسرعة، فكان أكثر الناس أسلموا في أول الأمر، ثم آمنوا بالتدريج، ولكن جريرا آمن بعد إسلامه فورا، لذلك ثبت على الإسلام ثبات الراسيات، بالرغم من ردة أكثر قومه، وهدم ذا الخلصة صنم قومه قبل إسلامهم، وقاتل المرتدين كافة وبدأ بالمرتدين من قومه، وهذا دليل على إيمانه العميق الراسخ الذي جعله يحب لله ويكره لله، ولا دخل لنزوات الجاهليوعلي?بن أبي?طالبة في حبه من يحب وكره من يكره.
تلك هي مزيته الأولى: الانتماء المطلق العضوي لأمته، وإيمانه الراسخ العميق بالإسلام.
أما المزية الثانية التي قادته إلى النجاح في سفارته فهي الفصاحة والعلم وحسن الخلق.
لقد كان جرير شاعرا بليغا، وقد ذكرنا نماذج من أقواله في الحديث عنه إنسانا.
وكان عالما، استطاع أن يروي مائة حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صاحبه مدة قليلة جدا، بينما غيره من الصحابة الكرام لم يرووا عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا(33/243)
العدد الكبير من الأحاديث النبوية الشريفة، وقد صاحبوا النبي صلى الله عليه وسلم مدة أطول بكثير مما صاحبه بها جرير. وهذا دليل على ذكائه الخارق وشدة لهفته على تلقي العلم من منابعه الأصيلة.
كما أن العلماء اعتبروا جريرا من أبرز أصحاب الفتيا من الصحابة، وهم علماء المسلمين من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.
أما حسن خلق جرير فحدث عن البحر ولا حرج، وقد رأيت كيف كان يخدم أنسا خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم إكراما لرسول الله عليه الصلاة والسلام بخاصة والأنصار بعامة.
والأمثلة على حسن أخلاق جرير أكثر من أن تحكى، فقد جمع فضائل العرب ومزايا الإسلام في شخصه بشرا سويا يمشي على الأرض ويعايش الناس.
والمزية الثالثة هي الصبر والحكمة، فقد صبر وصابر في قتال المرتدين، حتى انتصر عليهم، وصبر وصابر في قتال الروم على أرض الشام حتى انتصر عليهم، وصبر وصابر في قتال الفرس على العراق وفارس حتى انتصر عليهم.
وصبر صبرا جميلا في محاولة جمع بجيلة، حتى نجح في محاولته على عهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
لقد كان جرير بحق يتحلى بالصبر الجميل، أما حكمته فتظهر واضحة في حديثه مع النبي صلى الله عليه وسلم والشيخين من بعده: أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وفي حواره مع عثمان ذي النورين وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، مما جعله يستحوذ على ثقتهم واحترامهم.
ولا أدل على حكمته من اعتزاله الفتنة الكبرى، فلم يشهر سيفه على مسلم، ولم يكن سببا مباشرا أو غير مباشر في نزف قطرة دم مسلم بسيف أخيه المسلم لا بسيف عدو من أعداء الإسلام والمسلمين، فليس من الحكمة أن يربح المرء هذه الدنيا ويخسر نفسه، وصدق الله العظيم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} (1) ،
__________
(1) سورة البقرة الآية 86(33/244)
فخسر جرير باعتزاله مستقبله السياسي والإداري والعسكري، ولكنه ربح الآخرة، وما عند الناس لا يبقى، وما عند الله خير وأبقى.
إن اعتزال جرير الفتنة الكبرى كان مسلكا سليما بالنسبة لتعاليم الدين الحنيف الذي ارتضاه جرير لنفسه، وهو عين الحكمة بالنسبة لوجهة نظري وعين الصواب.
والمزية الرابعة التي قادت جريرا إلى النجاح في سفارته النبوية، هي مزية: سعة الحيلة، فقد كان ذكاؤه النادر وعقليته المتزنة الحاضرة وشخصيته القوية وعلمه وفصاحته وحسن تصرفه، هي الأدلة القاطعة على سعة حيلته ونفاذ بصيرته وسيطرته على المفاوضات سيطرة كاملة.
وليس هناك في المصادر المعتمدة نصوص محادثاته في سفارته، ولكن الأثر يدل على الأثير ومزايا جرير إنسانا تدل على سعة حيلته وأفقه أيضا.
والمزية الخامسة التي تحلى بها جرير، فاستحق - أن يتولى سفارة من السفارات النبوية، هي رواء المظهر.
فكما كان يتمتع برواء المخبر، كان يتمتع برواء المظهر، كان جميلا رائع الجمال، يلفت بجماله أنظار الرجال والنساء، كما يلفت طوله الفارع الأنظار إليه، فقد آتاه الله بسطة في الجسم. وكان رئيسا من رؤساء القبائل العربية في الجاهلية والإسلام، فلا بد من أن يهتم بمظهره الخارجي بما تضفي عليه شيئا من الروعة والبهاء.
تلك هي المزايا الخمس الرئيسة التي كان السلف الصالح يحرصون على أن يتمتع بها السفراء المسلمون، لذلك كانت السفارات الإسلامية غالبا نابهة جدا وتأتي بنتائج باهرة لصالح الإسلام والمسلمين.(33/245)
ولا يتمنى كل عربي ومسلم أكثر من أن يحرص الحكام العرب والمسلمون اليوم على اختيار سفراء الدول العربية والإسلامية بالشروط التي كان السلف الصالح يختارون على هديها سفراءهم، لينجح السفراء العرب والمسلمون الجدد نجاح أسلافهم قبل قرون.
وبالإضافة إلى المزايا التي كان يتمتع بها جرير، فإنه كان رئيسا من رؤساء القبائل اليمانية ومن أهل اليمن ومعروفا في أرجائها، وكانت سفارته إلى ملكين أو حاكمين من حكام اليمن ومن رؤساء القبائل اليمانية أيضا، مما سهل على جرير مهمته في سفارته لمعرفته الوثيقة بالرجلين اللذين أوفد إليهما ولمعرفته الوثيقة باليمن وأهلها أيضا.
ولكن سفارة جرير لم تقتصر على اليمن وحدها، فقد كان القائد قديما يعمل قائدا لرجاله، وسياسيا في مفاوضة سكان البلاد المفتوحة وعقد المعاهدات معهم، وإداريا في إدارة البلاد المفتوحة، فكان جرير مفاوضا وشاهدا في معاهدة خالد بن الوليد أهل بانقيا وبسما في سواد العراق، كما كان مفاوضا وشاهدا في معاهدة النعمان بن مقرن المزني مع أهل (ماه) (1) في أرض فارس، كما كان مفاوضا رئيسا في البلاد التي فتحها قائدا مستقلا. لقد كان جرير من ألمع سفراء النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ماه: هي مدينة نهاود انظر التفاصيل في معجم البلدان (7 \ 375) .(33/246)
جرير في التاريخ
يذكر التاريخ لجرير أنه أسلم متأخرا، فنال شرف الصحبة ولم ينل شرف الجهاد تحت لواء الرسول القائد عليه الصلاة والسلام. ويذكر له أنه كان أحد سفراء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والرؤساء العرب وغير العرب، فكان سفيره إلى ملكين من ملوك اليمن الخضراء.
ويذكر له أنه هدم صنم ذي الخلصة وحرقه، وكان صنم قومه والقبائل العربية القريبة من قومه نسبا، فاجتث جذور الشرك في تلك المناطق.
ويذكر له أنه ثبت على الإسلام وحارب المرتدين من قومه ومن غيرهم في اليمن، فأعاد الوحدة إلى الصفوف تحت لواء الإسلام.
ويذكر له أنه شهد فتح العراق التمهيدي تحت لواء خالد بن الوليد، وأنه شهد معه اليرموك في أرض الشام، وكان أحد الفدائيين المائة المنتخبين من جيش المسلمين، الذين حطموا معنويات الروم في عملياتهم الفدائية.
ويذكر له أنه سعى لجمع بجيلة قومه، وكانوا أشتاتا في القبائل العربية الأخرى، فنجح في مسعاه، وتولى قيادة قومه في ميدان فتح العراق بعد جمعهم، فقاتل تحت لواء المثنى بن حارثة الشيباني في العراق، وأبلى في فتوح المثنى أعظم البلاء.
ويذكر له أنه قاد بجيلة قومه تحت لواء سعد بن أبي وقاص في القادسية، فكان له ولقومه في النصر أثر عظيم. ويذكر له أنه شهد تحت لواء سعد بن أبي وقاص فتح مدينة (المدائن) عاصمة كسرى، وشهد فتح محور نهر ديالي تحت لواء هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، فكان له في تلك الفتوح شأن كبير.(33/247)
ويذكر له، أنه فتح مدينة خانقين ومدينة حلوان ومدينة قرميسين ومدينة همذان.
ويذكر له، أنه شهد استكمال فتح الأهواز، كما شهد معركة فتح الفتوح في نهاوند بقيادة النعمان بن مقرن المزني.
ويذكر له، أنه اعتزل الفتنة الكبرى، وأنه اشترى دينه بدنياه، ولم يشتر دنياه بدينه، فاعتزل الناس في داره، غير مكترث بولاية أو قيادة أو جاه أو مال أو سمعة.
رضي الله عن الصحابي الجليل، المحدث الفقيه، المجاهد الصادق، القائد، الفاتح، جرير بن عبد الله البجلي(33/248)
ولاية تزويج الصغيرة
د. عبد الله بن عبد العزيز الجبرين.
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1(33/249)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (1) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (2) .
أما بعد:
فإن من محاسن التشريع الإسلامي الاهتمام بالقاصرين وحفظ حقوقهم، فقد خصهم بتشريعات وأحكام تبعد كل أنواع الشقاء والتعاسة عن طريقهم، وتضمن تحقيق مصالحهم وحفظ حقوقهم وتمنع الآخرين من الاعتداء عليها، ومن أهم هذه التشريعات ما يتعلق بـ (ولاية تزويج الصغيرة) فقد جاءت النصوص الشرعية بإعطاء بعض الأولياء ممن تتوافر فيهم الشفقة على الصغيرة حق تزويجها بشروط وضوابط معينة، حيث إن في تزويجها حال صغرها مصالح كثيرة أهمها: تقييد الأكفاء خوفا من الفوات واغتناما للصلاح المنتظر في المال وصلاح المعيشة، ورعاية حقوق الصغيرة ومصالحها، وغير ذلك (3) كما جاءت النصوص مصرحة بمنع بعض الأولياء من تزويجها، لأن المصلحة لا تدعو إلى ذلك، إما لعدم وفور الشفقة الكاملة لدى الولي تجاه من ولي عليه، أو لغيره من الأسباب. ومن هنا تظهر أهمية هذا الموضوع، ومما يزيده أهمية ما نسمعه من الحوادث الكثيرة التي تستغل فيها هذه الولاية في غير ما شرعت له أو بدون ضوابطها الشرعية، مما يسبب فشل كثير من المتزوجين، أو يسبب النفرة والشقاق بين الزوجين والذي يؤدي إما إلى الفراق، أو إلى حياة مليئة بالمشكلات، لا تتحقق فيها السعادة الزوجية، مما يعود بالآثار السيئة على الأسرة فلا تتمكن من القيام بمسئولياتها الشرعية من إقامة حدود الله، وتربية النشء تربية قويمة وغير ذلك، مما يعود بالضرر على المجتمع بأسره، وقد يكون
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 70
(2) سورة الأحزاب الآية 71
(3) ينظر المبسوط 4 \ 212 \ 213، المستصفى 1 \ 289، 290، روضة الناظر 1 \ 413، نزهة الخاطر 1 \ 417.(33/250)
هذا النكاح محرما فيكون استمتاع الرجل بالمرأة محرما، فضلا عما في ذلك من ظلم للصغيرة وسلب لحقوقها.
لذلك كله أحببت أن أجمع مسائل هذا الموضوع في رسالة مستقلة، ليتضح الحق لطالبه، وتقوم الحجة على من خالفه.
وقد اشتمل هذا البحث على أربعة مباحث وخاتمه:
المبحث الأول: تزويج الأب البكر الصغيرة.
المبحث الثاني: تزويج غير الأب من الأولياء للبكر الصغيرة.
المبحث الثالث: تزويج الوصي للبكر الصغيرة.
المبحث الرابع: تزويج الثيب الصغيرة.
أما الخاتمة فقد تضمنت أهم النتائج التي توصلت إليها في هذا البحث. أسأل الله أن ينفع بهذا العمل كاتبه وقارئه وجميع المسلمين. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه سلم.(33/251)
-
تزويج الأب البكر الصغيرة
أجمع أهل العلم على أن إنكاح الأب ابنته البكر الصغيرة جائز إذا زوجها من كفء.(33/251)
ولم يخالف في ذلك إلا ابن شبرمة، وعثمان البتي والأصم، فقد نقل عن ابن شبرمة أنه قال بعدم صحة تزويج الأب ابنته التي لا يوطأ مثلها، ونقل عنه وعن عثمان البتي وأبي بكر الأصم المعتزلي أنهم قالوا: لا يجوز للأب إنكاح ابنته الصغيرة حتى تبلغ وتأذن.(33/252)
وخلاف هؤلاء في هذه المسألة خلاف شاذ، لا يعتد به، لأنه لا دليل عليه، ولمخالفته الكتاب والسنة (1) وما روي عن أكابر الصحابة، ولمخالفته النظر الصحيح.
فهو مخالف لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (2) فجعل للتي لم تحض - وهي الصغيرة التي لم تبلغ بعد - عدة ثلاثة أشهر، ولا يكون عدة إلا من طلاق أو فسخ في نكاح، فدل ذلك على أنها تزوج وتطلق، ولا إذن لها فيعتبر. ومخالف لحديث عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست سنين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين (3) » .
__________
(1) عمدة القاري 20 \ 126، أحكام القرآن للجصاص 2 \ 346.
(2) سورة الطلاق الآية 4
(3) رواه البخاري في مناقب الأنصار باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وقدومه المدينة وبنائه بها (فتح الباري 7 \ 223 رقم 3894) ، وفي النكاح باب إنكاح الرجل ولده الصغار، وباب تزويج الأب ابنته من الإمام (فتح الباري 9 \ 190، رقم 5133، 5136) ، ومسلم في النكاح باب جواز تزويج الأب البكر الصغيرة (شرح مسلم 9 \ 206 - 208) . ورواه مسلم في الموضع السابق بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع سنين وزفت إليه وهي بنت تسع سنين، ولعبها معه، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة. قال النووي في شرح صحيح مسلم 9 \ 207: '' وأما قولها في رواية: '' تزوجني وأنا بنت سبع ''، وفي أكثر الروايات: '' بنت ست ''، فالجمع بينهما أنه كان لها ست وكسر، ففي رواية اقتصرت على السنين، وفي رواية عدت السنة التي دخلت فيها ''.(33/253)
ومعلوم أن عائشة رضي الله عنها في هذه السن ليست ممن يعتبر إذنها (1) .
وقد اعترض ابن شبرمة على الاستدلال بحديث عائشة السابق بأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم (2) .
ويمكن أن يجاب عن اعتراضه بأن الأصل في أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم أنها تشريع لأمته، إلا إذا جاء دليل يدل على أن هذا الأمر خاص به صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (3) ، ولا دليل على أن هذا الحكم خاص به صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فيكون عاما في حقه صلى الله عليه وسلم وفي حق غيره (4) ، ولو كان خاصا به صلى الله عليه وسلم ما فعله بعض الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي قريبا.
أما مخالفته لما روي عن أكابر الصحابة رضي الله عنهم فإن الزبير بن العوام رضي الله عنه زوج ابنته قدامة بن مظعون رضي الله عنه حين نفست بها أمها.
وهذه القصة في مظنة الشهرة بين الصحابة، ولم ينكرها أحد منهم فتكون حجة (5) .
__________
(1) المغني 6 \ 487، شرح الزركشي 5 \ 79.
(2) المحلى 9 \ 459، فتح الباري 9 \ 190.
(3) سورة الأحزاب الآية 21
(4) المحلى 9 \ 460.
(5) فتح القدير لابن الهمام 3 \ 274.(33/254)
وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه زوج ابنته أم كلثوم وهي صغيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة.(33/255)
وروي أيضا تزويج الصغيرة أو القول بصحة تزويج الأب للصغيرة عن بعض الصحابة رضي الله عنهم.
وأما مخالفته للنظر الصحيح فإنه من المعلوم أن الكفء عزيز وجوده، وقد يكون هناك حاجة ماسة للصغيرة تقتضي تزويجها في وقت من الأوقات، كأن تكون في زمان أو مكان كثرت فيه الفتن، أو يكون والدها فقيرا معدما أو عاجزا عن الكسب أو عن رعاية أسرته لأي سبب من الأسباب، فتحتاج الصغيرة إلى من يحفظها ويصونها وينفق عليها.
ولذلك فإنه من المصلحة للصغيرة أن يعطى من لديه الحرص على مصلحتها والشفقة عليها كأبيها الحق في تزويجها من يرى أن مصلحتها في الزواج منه، وعدم تضييع وتفويت الكفء الذي لا يوجد في كل وقت، والذي يحصل لها غالبا بزواجها منه مصالح كثيرة في حاضرها ومستقبلها في دينها ومعيشتها وغير ذلك (1) .
ولذلك فإنه يجب على الأب أن يتقي الله جل وعلا، وأن يقوم بهذه الأمانة التي حمله الله إياها خير قيام، وأن يكون هدفه عند تزويج ابنته الصغيرة
__________
(1) المبسوط 4 \ 212، 213، المستصفى 1 \ 289، 290.(33/256)
مراعاة مصالحها، لتتحقق هذه المصالح الكثيرة.
هذا، ومن أجل ضمان تزويج الأب ابنته الصغيرة ممن في زواجها منه مصلحة لها فقد ذكر بعض العلماء لصحة تزويجه إياها شروطا أهمها:
ا - ألا يكون بينها وبين والدها عداوة ظاهرة.
2 - ألا يكون بينها وبين الزوج عداوة.
3 - ألا يزوجها بمن في زواجها منه ضرر بين عليها كهرم ومجبوب ونحو ذلك.
4 - أن يزوجها بكفء غير معسر بصداقها (1) .
وإذا زوج الأب ابنته البكر الصغيرة من كفء فقد ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لا خيار لها إذا بلغت، وممن قال بذلك مالك والشافعي وأحمد وعامة أهل الحجاز (2) وأبو حنيفة (3) ، وهو مذهب الحنفية؛ وذلك لأن الأب كامل الشفقة، فيلزم العقد بمباشرته له (4) .
وذهب طاوس بن كيسان اليماني رحمه الله إلى أن للصغيرة الخيار عند بلوغها فيما إذا زوجها الأب، واستدل ابن سماعة رحمه الله لهذا القول بأن
__________
(1) المبدع 7 \ 23، مغني المحتاج 3 \ 149، نهاية المحتاج 3 \ 228، 229، الإقناع للشربيني 2 \ 128.
(2) مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله ص 325، التمهيد 19 \ 98، شرح صحيح مسلم 9 \ 206.
(3) الحجة على أهل المدينة 4 \ 140، 141.
(4) الهداية للمرغيناني 1 \ 198.(33/257)
عقد الأب على الصغيرة يلزمها بموجبه تسليم نفسها للزوج بعد زوال ولاية الأب، فيجب إثبات الخيار لها عند البلوغ، قياسا على تزويج الأخ، فكما أن للصغيرة الخيار عند بلوغها فيما إذا زوجها الأخ فكذلك لها الخيار إذا بلغت عند تزويج الأب (1) .
ويمكن أن يجاب عن ذلك بأنه لو كان الخيار واجبا للصغيرة بعد بلوغها عند تزويج الأب لخير رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها لما بلغت كما خير نساءه لما نزلت آية التخيير (2) ، ولأن الأصل في عقد النكاح عدم الخيار (3) ، فإثباته فيه يحتاج إلى دليل مستقل، أما قياس تزويج الأب على تزويج الأخ فهو قياس مع الفارق، لأن الأب وافر الشفقة، فهو ينظر لابنته الصغيرة فوق ما ينظر لنفسه، والأب أيضا تام الولاية، فولايته تشمل النفس والمال، بخلاف الأخ (4) .
__________
(1) المبسوط 2 \ 213.
(2) مسائل أحمد رواية عبد الله ص 325، المبسوط 4 \ 213، أحكام القرآن للجصاص 2 \ 346.
(3) الأم 5 \ 170.
(4) المبسوط 2 \ 213.(33/258)
تزويج غير الأب من الأولياء للبكر الصغيرة
للعلماء في هذه المسألة أقوال:
القول الأول:
أن ذلك حق للأب وحده، ولا يجوز لغيره من الأولياء تزويجها حتى تبلغ، وهذا قول جمهور أهل العلم (1) .
__________
(1) تفسير القرطبي 5 \ 13.(33/258)
وممن قال بهذا القول الإمام مالك في الرواية المشهورة عنه والثوري وأبو عبيد وأبو ثور وابن أبي ليلى (1) ، والإمام أحمد في رواية عنه رجحها أكثر أصحابه (2) .
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة أهمها:
الدليل الأول:
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها (3) » .
__________
(1) سنن الترمذي 3 \ 409، الأوسط لوحة 201، التمهيد 19 \ 102، المغني 6 \ 489.
(2) المقنع ص 208، العدة شرح العمدة ص 365، المبدع 7 \ 25، الإنصاف 8 \ 62.
(3) رواه أبو داود في النكاح باب في الاستئمار 2 \ 231 رقم (2093) ، والترمذي في النكاح باب (19) 3 \ 408، رقم (1109) ، وقال: حديث حسن، والنسائي في النكاح باب استئذان البكر في نفسها 6 \ 87، وأحمد 2 \ 259، 475، وأبو يعلى 13 \ 312، رقم (7328) ، وابن حبان في صحيحه الإحسان 6 \ 153، رقم 4067، 4074، وعبد الرزاق في النكاح باب استئمار اليتيمة 6 \ 145، وابن وهب كما في المدونة 2 \ 142، والطحاوي في شرح معاني الآثار باب تزويج الأب ابنته البكر 4 \ 464، وابن عبد البر في التمهيد 19 \ 99، والبيهقي في النكاح باب ما جاء في إنكاح اليتيمة 7 \ 120، وباب إذن البكر الصمت 7 \ 122، من طرق عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به، ورجاله ثقات عدا محمد بن عمرو، وهو ابن علقمة، وهو '' صدوق له أوهام '' كما في التقريب 2 \ 196، فإسناده حسن كما قال الترمذي، وحسنه الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء 6 \ 233، رقم (1834) ، وحسنه أيضا الشيخ شعيب الأرناؤوط والشيخ عبد القادر الأرناؤوط في تعليقهما على زاد المعاد 5 \ 101، وحسنه كذلك الشيخ حسين سليم محقق مسند أبي يعلى.(33/259)
الدليل الثاني:
ما رواه أبو موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت لم تكره (1) » .
الدليل الثالث:
ما رواه نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «توفي عثمان بن مظعون، وترك ابنة له من خويلة بنت حكيم، قال: وأوصى إلى أخي قدامة بن مظعون، قال عبد الله: وهما خالاي، قال: فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن مظعون، فزوجنيها، ودخل المغيرة بن شعبة - يعني إلى أمها - فأرغبها في المال، فحطت إليه، وحطت الجارية إلى هوى أمها، فأبيا، حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قدامة بن مظعون: يا رسول الله ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتها ابن عمتها عبد الله بن عمر، فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة، ولكنها امرأة، وإنما حطت إلى هوى أمها، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها. قال: فانتزعت
__________
(1) رواه الإمام أحمد 4 \ 408، والبزار (كشف الأستار كتاب النكاح باب الاستئمار 2 \ 160، رقم 1422) ، والدارقطني في النكاح 3 \ 242 من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة بن موسى عن أبي موسى به. وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الصحيحين. ورواه أحمد 4 \ 394، 411، والدارمي في النكاح باب في اليتيمة تزوج نفسها 2 \ 185، رقم (2185) ، والبزار (كشف الأستار، الموضع السابق، رقم 1423) ، وأبو يعلى 13 \ 5311، رقم (7327) ، وابن حبان في صحيحه الإحسان 6 \ 155، رقم (4073) ، والحاكم في النكاح 2 \ 166، 167، وصححه، ووافقه الذهبي وابن أبي شيبة في النكاح باب في اليتيمة من قال: تستأمر في نفسها 4 \ 139، والبيهقي في الموضعين السابقين، والطحاوي في الموضع السابق، والدارقطني في النكاح 3 \ 241، 242، وابن عبد البر في التمهيد 19 \ 99، 100 من طرق عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة به، وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات عدا يونس بن أبي إسحاق، وهو '' صدوق يهم قليلا '' كما في التقريب 2 \ 384. وقال الهيثمي: '' رجال أحمد رجال الصحيح '' مجمع الزوائد 4 \ 280، وصححه الشيخ محمد ناصر الدين، انظر السلسلة الصحيحة 2 \ 263، وصححه أيضا الشيخ حسين سليم محقق مسند أبي يعلى.(33/260)
والله مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة بن شعبة (1) » .
الدليل الرابع:
ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اليتيمة تستأمر في نفسها، وإذنها صماتها (2) » .
قالوا: معنى هذه الأحاديث: لا تزوج اليتيمة حتى تبلغ فتستأمر (3) ، لأن الصغيرة لا إذن لها، فلا تزوج حتى تبلغ، فيكون لها إذن معتبر (4) .
الدليل الخامس:
أنه قد ثبت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تزويج البكر حتى تستأذن، وهذا عام في كل بكر، يستثنى منه البكر الصغيرة ذات الأب، لتزويج أبي بكر رضي الله عنه
__________
(1) رواه الإمام أحمد 2 \ 130، والدارقطني في النكاح 3 \ 230، ومن طريقة الخطيب في المبهمات ص 521، والبيهقي في النكاح باب ما جاء في إنكاح اليتيمة 7 \ 120 عن يعقوب - وهو ابن إبراهيم بن سعد الزهري عن أبيه عن ابن إسحاق حدثني عمر بن حسين بن عبد الله مولى آل حاطب عن نافع به، وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات، عدا ابن إسحاق صاحب المغازي وهو '' صدوق مدلس '' كما في التقريب 2 \ 144، وقد صرح بالتحديث. ورواه الدارقطني 3 \ 229 من طريق محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن عمر بن حسين عن نافع عن ابن عمر أنه تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون، قال: فذهبت أمها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي تكره ذلك، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها، ففارقها، وقال: '' لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن، فإذا سكتت فهو إذنها '' فتزوجها بعد عبد الله المغيرة بن شعبة. وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا ابن أبي فديك، وهو '' صدوق '' كما في التقريب 2 \ 145. والحديث قال عنه الهيثمي في المجمع 4 \ 280: '' رواه أحمد، ورجاله ثقات '' وحسنه الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء 6 \ 2331، رقم (1835) .
(2) رواه النسائي في النكاح باب استئذان البكر في نفسها 6 \ 84، ومن طريقة الدارقطني في النكاح 3 \ 240 من طريق مالك عن عبد الله بن الفضل عن نافع بن جبير عن ابن عباس به. وإسناده صحيح، رجاله رجال الصحيحين. ورواه الإمام أحمد 1 \ 261، والنسائي في الوضع السابق، والدارقطني 3 \ 238، 239 من طريق ابن إسحاق حدثني صالح بن كيسان عن عبد الله بن المفضل به، وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا ابن إسحاق، وهو '' صدوق مدلس '' كما في التقريب 2 \ 144، وقد صرح بالتحديث.
(3) شرح السنة 9 \ 37، الفتح 9 \ 197.
(4) المنتقى للباجي 3 \ 267، التمهيد 19 \ 103، الكافي لابن قدامة 3 \ 27، سبل السلام 3 \ 196.(33/261)
ابنته عائشة رضي الله عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي صغيرة ولتزويج بعض الصحابة رضي الله عنهم بعض بناتهم وهن صغيرات ويبقى النهي فيمن عداها على عمومه (1) .
الدليل السادس:
أن غير الأب قاصر الشفقة فلا يلي تزويج الصغيرة، كالأجنبي (2) .
الدليل السابع:
أن الأخ والعم لا يتصرفان في مال الصغيرة، فكذلك بضعها (3) .
القول الثاني:
أنه يلحق بالأب الجد في جواز تزويج الصغيرة دون سائر الأولياء، لأن الجد أب أعلى (4) ، ولديه من الشفقة على الصغيرة ما لدى الأب غالبا، ولأن ولايته ولاية إيلاد فملك إجبارها كالأب، ولأن الجد يلي مال الصغيرة فكذلك تزويجها كالأب (5) ، وهذا قول الإمام الشافعي رحمه الله (6) .
القول الثالث:
أنه يجوز لغير الأب من الأولياء تزويج الصغيرة، ولها الخيار إذا بلغت،
__________
(1) بداية المجتهد 6 \ 368.
(2) المغني 6 \ 488.
(3) التمهيد 19 \ 102، المغني 6 \ 488.
(4) بداية المجتهد 6 \ 368.
(5) المغني 6 \ 489، 490.
(6) الأم 5 \ 18، الأوسط لوحة 201، شرح السنة 9 \ 37.(33/262)
وبهذا قال الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وعطاء وطاوس وقتادة وعبد الرزاق والأوزاعي، وقال به الإمام مالك (1) ، والإمام أحمد (2) في رواية عن كل منهما، ووافقهم في ذلك الإمام أبو حنيفة وأكثر أصحابه إلا أنهم قالوا: ليس لها الخيار إذا زوجها الجد أبو الأب (3) . واستدل أصحاب هذا القول بأدلة أهمها:
الدليل الأول:
قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} (4) .
قالوا: دلت الآية بمفهومها على أن لغير الأب من الأولياء ممن يحل له الزواج باليتيمة أن يتزوج بها إذا أقسط لها (5) ، واليتيمة هي من لم تبلغ، لحديث: «لا يتم بعد احتلام (6) » . قالوا: ويؤيد هذا التفسير للآية
__________
(1) سبق ذكر ما نقل عن الإمام مالك في هذه المسألة.
(2) المغني 6 \ 489، المبدع 7 \ 25، 26، العدة ص 365، الهادي ص 158.
(3) الحجة 3 \ 140 - 142، المبسوط 4 \ 210، الهداية مع فتح القدير 3 \ 277، 278، رد المحتار 2 \ 66.
(4) سورة النساء الآية 3
(5) الكافي لابن قدامة 3 \ 27.
(6) رواه أبو داود في الوصايا باب متى ينقطع اليتم 3 \ 115، رقم (2873) ، وعبد الرزاق (كما في تفسير ابن كثير 1 \ 298) ، والطحاوي في مشكل الآثار 1 \ 280، والطبراني في الصغير ص 96، والخطيب في تاريخ بغداد 5 \ 299 من طرق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال الهيثمي 4 \ 334: '' رواه الطبراني في الصغير، ورجاله ثقات ''، وقال النووي في رياض الصالحين ص 569 '' رواه أبو داود بإسناد حسن '' وقال الحافظ في التلخيص 3 \ 101: أعله العقيلي وعبد الحق وابن القطان والمنذر وغيرهم، وحسنه النووي متمسكا بسكوت أبي داود عليه ''. ورواه عبد الرزاق في الطلاق باب لا رضاع بعد الفطام 7 \ 464، وأبو داود الطيالسي ص 243 رقم (1767) ، والبيهقي في الخلع والطلاق باب الطلاق قبل النكاح 7 \ 320، وابن عدي في الكامل 2 \ 853 من طريقين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وأعل الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء 5 \ 80 - 83 جميع طرق حديث علي، حيث ذكر أن في إحدى طرقه متروكا وفي الأخرى رجلان لا يعرفان، وفي الثالثة مجهول، وأعل طريقي حديث جابر بأن في إحداهما متروكين وفي الأخرى رجل ضعيف، وقوى هذه الطرق برواية الحديث عن ابن عباس موقوفا عليه. وروى هذا الحديث الطبراني في الكبير 4 \ 14، رقم (3502) عن محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ثنا سلم بن قتيبة حدثنا ذيال بن عبيد سمعت جدي حنظلة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: '' لا يتم بعد احتلام، ولا يتم على جارية إذا هي حاضت ''، وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا سلم بن قتيبة، وهو صدوق، كما في التقريب 1 \ 314، وعدا ذيال بن عبيد، وهو أيضا صدوق كما في التقريب 1 \ 239، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4 \ 226: '' رجاله ثقات ''، وقال الحافظ في التلخيص: '' إسناده لا بأس به ''.(33/263)
ما رواه البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال: «سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى: قالت: يا بن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها، تشركه في ماله، ويعجبه مالها وجمالها، فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا لهن أعلى سنتهن في الصداق (2) » .
الدليل الثاني:
ما روي من أنه صلى الله عليه وسلم زوج ابنة عمه حمزة من عمر بن أبي سلمة، وهي صغيرة، وقال: «لها الخيار إذا بلغت (3) » .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح كتاب التفسير 8 \ 239، وكتاب النكاح باب تزويج اليتيمة 9 \ 197، وصحيح مسلم مع شرحه للنووي كتاب التفسير 19 \ 154 - 156.
(2) سورة النساء الآية 3 (1) {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}
(3) هكذا قال ابن الهمام في فتح القدير 3 \ 276، 277، ولم أقف على من روى بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه زوج عمر بن سلمة لابنة حمزة ولا غيرها. وقد روى البيهقي في النكاح باب ما جاء في إنكاح اليتيمة 6 \ 121 من طريق الواقدي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عمارة بنت حمزة بن عبد المطلب كانت بمكة فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في عمرة القضية - خرج بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم تزوجها، فقال: '' ابنة أخي من الرضاعة فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: '' هل جزيت سلمة ''. ثم قال البيهقي: '' هذا إسناد ضعيف، وليس فيه أنها كانت صغيرة، وللنبي صلى الله عليه وسلم في باب النكاح ما ليس لغيره، وكان أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وبذلك تولى تزويجها دون عمها العباس بن عبد المطلب إن كان فعل ذلك ''. فالحديث كما قال البيهقي إسناده ضعيف، بل ضعيف جدا، أعله الواقدي، فهو متروك كما في التقريب 2 \ 194. وقال ابن إسحاق في السيرة ص 261: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم وعبد الرحمن بن الحارث ومن لا أتهم عن عبد الله بن شداد قال: كان الذي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة ابنها سلمة، فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنة حمزة، وهما صبيان صغيران، فلم يجتمعا حتى ماتا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: '' هل جزيت سلمة بتزويجه إياي أمه ''، وإسناده جيد، لكنه مرسل، عبد الله بن شداد تابعي لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما في تهذيب التهذيب 5 \ 252. وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة 2 \ 64 بعد ذكره رواية ابن إسحاق السابقة: '' ويقال: '' إن الذي زوجه إياها ابنها عمر، والأول أثبت '' وانظر نيل الأوطار 6 \ 256.(33/264)
الدليل الثالث:
أن غير الأب من الأولياء له حق ولاية النكاح للكبيرة، فكذلك له حق ولاية تزويج الصغيرة كالأب (1) .
الدليل الرابع:
قالوا: إن النكاح يتضمن المصالح، وهي لا تتحقق إلا بين المتكافئين عادة، والكفء لا يوجد في كل وقت وإنما يظفر به في وقت دون وقت، والولاية لعلة الحاجة، فيجب إثباتها لغير الأب على الصغيرة، إحرازا لهذه المصلحة، مع أن أصل القرابة داعية إلى الشفقة، غير أن في هذه القرابة قصورا أظهرناه في إثبات الخيار لها إذا بلغت (2) .
القول الرابع:
أنه يجوز لغير الأب أن يزوج الصغيرة، ولها الخيار إذا بلغت، وليس للزوج أن يدخل بها قبل أن تبلغ فتختار، وهذا قول إسحاق بن راهويه رحمه الله (3) .
__________
(1) المبسوط 4 \ 213، المغني 6 \ 490.
(2) فتح القدير 3 \ 276، المبسوط 4 \ 215.
(3) اختلاف العلماء للمروزي ص 126.(33/265)
القول الخامس:
أنه يجوز لغير الأب أن يزوج الصغيرة، ولا خيار لها إذا بلغت، لأنه عقد بولاية مستحقة بالقرابة، فلا يثبت فيه خيار البلوغ كعقد الأب، وهذا لأن القرابة سبب كامل لاستحقاق الولاية، والقريب هنا قائم مقام الأب في التصرف في النفس، كالوصي في التصرف في المال، فكما أن عقد الوصي يلزم ويكون كعقد الأب فيما قام فعله مقامه، فكذلك عقد الولي، وهذا قول عروة بن الزبير وحماد بن أبي سليمان وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة (1) .
القول السادس:
أن اليتيمة إذا بلغت تسع سنين صح تزويجها بإذنها، ولا خيار لها إذا بلغت، ولا يصح تزويجها قبل ذلك، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وهو المنصوص في أكثر أجوبته، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه إبراهيم بن مفلح وغيرهما، وروي نحو هذا القول عن الإمام مالك في حق اليتيمة المحتاجة إلى النكاح.
واستدل أصحاب هذا القول بالآية التي استدل بها أصحاب القول الثالث وبتفسير عائشة رضي الله عنها لها.
واستدلوا أيضا بالأحاديث التي فيها النهي عن تزويج اليتيمة حتى تستأذن، والتي استدل بها أصحاب القول الأول.
قالوا: الآية صريحة في صحة تزويج اليتيمة، وهي من دون سن البلوغ، لحديث «لا يتم بعد احتلام (2) » ، والأحاديث أوجبت استئمار أو
__________
(1) مصنف ابن شيبة 4 \ 140، المبسوط 4 \ 215، رد المحتار 2 \ 69.
(2) رواه أبو داود في الوصايا باب متى ينقطع اليتم 3 \ 115، رقم (2873) ، وعبد الرزاق (كما في تفسير ابن كثير 298 \ 1) ، والطحاوي في مشكل الآثار 1 \ 280، والطبراني في الصغير ص 96، والخطيب في تاريخ بغداد 5 \ 299 من طرق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال الهيثمي 4 \ 334: '' رواه الطبراني في الصغير، ورجاله ثقات ''، وقال النووي في رياض الصالحين ص 569 (رواه أبو داود بإسناد حسن وقال الحافظ في التلخيص 3 \ 101: أعله العقيلي وعبد الحق وابن القطان والمنذر وغيرهم، وحسنه النووي متمسكا بسكوت أبي داود عليه ''. ورواه عبد الرزاق في الطلاق باب لا رضاع بعد الفطام 7 \ 464، وأبو داود الطيالسي ص 243 رقم (1767) ، والبيهقي في الخلع والطلاق باب الطلاق قبل النكاح 7 \ 320، وابن عدي في الكامل 2 \ 853 من طريقين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وأعل الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء 5 \ 80 - 83 جميع طرق حديث علي، حيث ذكر أن في إحدى طرقه متروكا وفي الأخرى رجلان لا يعرفان، وفي الثالثة مجهول، وأعل طريقي حديث جابر بأن في إحداهما متروكين وفي الأخرى رجل ضعيف، وقوى هذه الطرق برواية الحديث عن ابن عباس موقوفا عليه. وروى هذا الحديث الطبراني في الكبير 4 \ 14، رقم (3502) عن محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ثنا سلم بن قتيبة حدثنا ذيال بن عبيد سمعت جدي حنظلة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: '' لا يتم بعد احتلام، ولا يتم على جارية إذا هي حاضت ''، وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا سلم بن قتيبة، وهو صدوق، كما في التقريب 1 \ 314، وعدا ذيال بن عبيد، وهو أيضا صدوق كما في التقريب 1 \ 239، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4 \ 226: '' رجاله ثقات ''، وقال الحافظ في التلخيص: '' إسناده لا بأس به ''.(33/266)
استئذان اليتيمة، فهذا يدل على أن المراد بذلك اليتيمة التي لها إذن صحيح، وقد انتفى ذلك فيمن لم تبلغ تسعا بالاتفاق، فيحمل على بنت تسع سنين إلى البلوغ، لأنها صغيرة مميزة، يصح لفظها مع إذن وليها، كما يصح تصرفها في البيع وغيره بإذن وليها، لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (1) ، ولأنه يصح إسلامها وصومها وحجها وصلاتها وغير ذلك لما في جميع ذلك من المصلحة لها، فإذا زوجها الولي بإذنها من كفء جاز، وكان هذا تصرفا بإذنها، وهو مصلحة لها (2) .
واستدلوا أيضا بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا «إذا أتى على الجارية تسع سنين فهي امرأة (3) » . وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة (4) » .
واستدلوا كذلك بما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب أم كلثوم بنت أبي بكر بعد موته إلى عائشة رضي الله عنها، فأجابته، فكرهته الجارية، فتزوجها طلحة بن عبيد الله (5) . وذكروا أن سنها حين خطبها عمر أقل من عشر سنوات، لأنها إنما ولدت بعد موت أبيها، وإنما كانت ولاية عمر عشرا (6) .
__________
(1) سورة النساء الآية 6
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 32 \ 48، شرح منتهى الإرادات 3 \ 15.
(3) رواه أبو نعيم في أخبار الصبهان 2 \ 273 من طريق عبد الملك بن مهران سهل بن أسلم العدوي عن معاوية بن قرة قال: سمعت ابن عمر يقول - فذكره - وعبد الملك قال عنه العقيلي في الضعفاء 3 \ 34 (صاحب مناكير، غلب على حديثه الوهم، لا يقيم شيئا من الأحاديث) ثم أورد له ثلاثة أحاديث، ثم قال: (كلها ليس لها أصل ولا يعرف منها شيء من وجه يصح) . وقال ابن السكن: (منكر الحديث) . انظر لسان الميزان 4 \ 70. وانظر الإرواء 1 \ 199.
(4) ذكر في المغني 6 \ 491 أن هذا الأثر رواه أحمد، فلعله رواه في غير المسند، فلم أعثر عليه فيه، وقد ذكره الترمذي في سننه 3 \ 409، والبيهقي في سننه 1 \ 320 بدون إسناد، وقال ابن العربي في شرح الترمذي 5 \ 28: بدون إسناد، وقال ابن العربي في شرح الترمذي 5 \ 28: '' وحديث عائشة لم يصح ''.
(5) ذكر هذا الأثر ابن قدامة في المغني 6 \ 491، ولم أقف على من رواه بإسناد متصل.
(6) المغني 6 \ 491.(33/267)
قال الموفق بعد ذكره لهذا الأثر: " ولم ينكره منكر، فدل ذلك على اتفاقهم على صحة تزويجها قبل بلوغها بولاية غير أبيها (1) .
والراجح في هذه المسألة هو القول الأخير، لأن فيه جمعا بين الأدلة، واستعمالا لجميع النصوص الواردة في المسألة (2) ، والجمع بين الأدلة، وإعمالها جميعا، أولى من إهمال بعضها، ولأن في تزويج الصغيرة مصالح منها عدم فوات الأكفاء، وصلاح المعيشة، ولأن اليتيمة قد تحتاج إلى الزواج أكثر من ذات الأب، فقد تحتاج إلى من ينفق عليها أو يحفظ حقوقها ويرعاها ونحو ذلك، ولأن هذا القول هو أوسط الأقوال وأعدلها، فلا تمنع اليتيمة المميزة التي تطيق النكاح عادة من الزواج حتى تبلغ، مع أنها قد تكون في أمس الحاجة إلى ذلك، ولا تزوج ويدخل بها الزوج ثم تخير بعد ذلك، لما في ذلك من الضرر البين عليها، وأيضا فإن الأصل في عقد النكاح عدم الخيار (3) ، فالقول به فيه يحتاج إلى ليل صحيح، وهو غير موجود. والله أعلم.
__________
(1) المغني 6 \ 491.
(2) المبدع 7 \ 26، الكافي لابن قدامة 3 \ 27.
(3) الأم 5 \ 170.(33/268)
3 -
تزويج الوصي للبكر الصغيرة
قبل أن نتكلم عن حكم تزويج الوصي للبكر الصغيرة يحسن أن نتكلم عن أصل هذه المسألة وهو هل تصح الوصية بالتزويج أم لا؟ وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول:
أن التزويج خاص بالأولياء، فإذا توفي الأقرب منهم انتقلت ولاية النكاح(33/268)
إلى من يليه، فلا يصح لأحد من الأولياء أن يوصي بها، وهذا قول جمهور أهل العلم (1) ، وممن قال به الشعبي والنخعي والثوري (2) ، والإمام أبو حنيفة في الرواية المشهورة عنه، ومحمد بن الحسن (3) ، والإمام الشافعي (4) ، والإمام أحمد في رواية عنه (5) ، وهو مذهب الحنفية (6) ، والظاهرية (7) ، لأنها ولاية تنتقل إلى غيره شرعا، وهي حق لم تنتقل إليه، فلم يجز أن يوصي بحق غيره كالحضانة (8) ، ولأن الولاية يشبه أن تكون جعلت للعصبة للعار عليهم، والوصي لا عار ولا ضرر عليه في تضييع المرأة ووضعها عند من لا يكافؤها، فلم تثبت له الولاية كالأجنبي (9) .
القول الثاني:
أنه يصح للولي أن يوصي بالتزويج، وهذا قول شريح والحسن وحماد بن أبي سليمان (10) ، والإمام أبي حنيفة في رواية عنه (11) ، والإمام أحمد في رواية عنه أيضا (12) ، وهو مذهب المالكية (13) لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم قدامة بن مظعون لما زوج ابنة أخيه عثمان لما أوصى إليه بتزويجها، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم التزويج بموجب الوصية، وإنما أنكر تزويجها بغير إذنها، ولأن ولاية التزويج ثابتة للولي
__________
(1) شرح السنة 9 \ 37، شرح صحيح مسلم للنووي 9 \ 206، الكافي لابن عبد البر 1 \ 431.
(2) المغني 6 \ 463، شرح السنة 9 \ 37.
(3) الحجة 3 \ 123، 124.
(4) الأم 5 \ 20.
(5) الهداية لابن الخطاب 1 \ 248، المغني 6 \ 463، الإنصاف 8 \ 86، شرح الزركشي 5 \ 99.
(6) الدر المختار (مطبوع مع حاشيته رد المحتار 3 \ 79) .
(7) المحلى 9 \ 463، 464.
(8) المغني 6 \ 464، المنح الشافيات 2 \ 500، شرح الزركشي 5 \ 99.
(9) الأم 5 \ 20، المغني 6 \ 464، شرح الزركشي 5 \ 99.
(10) المغني 6 \ 463، شرح السنة 9 \ 38.
(11) جامع أحكام الصغار 1 \ 217، رد المحتار 3 \ 80.
(12) الهداية لأبي الخطاب 1 \ 248، المغني 6 \ 463.
(13) الكافي لابن عبد البر 1 \ 431، حاشية العدوي على الشرح الصغير 6 \ 177، 178.(33/269)
فجازت وصيته بها، كولاية المال، ولأنه يجوز أن يستنيب فيها في حياته، فجاز أن يستنيب فيها بعد موته، كولاية المال (1) .
قال ابن قدامة بعد أن رجح هذا القول: فعلى هذا تجوز الوصية بالنكاح من كل ذي ولاية، سواء كان مجبرا كالأب أو غير مجبر كغيره " (2) .
القول الثالث:
أنه إن كان للموصى بتزويجها عصبة لم تصح الوصية، لأن الوصي يسقط حقهم بوصيته، وإن لم يكن لها عصبة جاز لعدم ذلك، وبهذا قال الإمام أحمد في رواية عنه، اختارها ابن حامد من أصحابه.
القول الرابع:
أنه يجوز للولي أن يوصي بالتزويج، لكن لا يجوز للوصي أن يزوج المرأة إلا بموافقة وليها، فإن اختلفا رفعا أمرهما إلى السلطان، وهذا قول الإمام الزهري رحمه الله (3) .
وروى ابن الجعد عن الحارث العكلي أنه قال: النكاح إلى الولي ولكن يشاور الوصي (4) .
والأقرب في هذه المسألة أنه يجوز للأب دون سائر الأولياء الوصية بتزويج بناته، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما نص في صحة وصية الأب بذلك، حيث أقر صلى الله عليه وسلم وصية عثمان بن مظعون لأخيه قدامة بتزويج ابنته، ولو كانت
__________
(1) شرح الزركشي 5 \ 99، المنح الشافيات 2 \ 500.
(2) المغني 6 \ 464، وانظر المنح الشافيات 2 \ 500.
(3) الأوسط لابن المنذر لوحة 201.
(4) مسند ابن الجعد 1 \ 429.(33/270)
الوصية بالتزويج لا تجوز لأنكر ذلك صلى الله عليه وسلم، ولما أقرهم عليه، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يسكت عن إنكار المنكر، ولا يقر على باطل.
وأيضا فإن الأب لا يعدل عن الأقارب إلى غيرهم أو عن الأقرب من العصبة إلى الأبعد منهم إلا لمصلحة راجحة، إما لأن هذا الذي أوصى إليه لديه من الشفقة على بناته ما ليس عند غيره أو لأنه أتقى من غيره ونحو ذلك، أو لما يعرف عن الولي الأقرب الذي ستنتقل إليه الولاية إن لم يوص من الفسق مما قد يحمله على ظلم موليته. والله أعلم.
أما حكم تزويج الوصي للصغيرة فقد اختلف فيه القائلون بصحة الوصية بالتزويج على قولين:
القول الأول:
أن الوصي يقوم مقام الموصي، فإن كان الموصي يجوز له تزويج الصغيرة الموصى بتزويجها، جاز للوصي تزويجها، وإن كان يحتاج إلى إذنها فالوصي كذلك، وبهذا قال الإمام أبو حنيفة في رواية عنه (1) ، وهو قول أكثر الحنابلة، قال المرداوي: " هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب ". واستدل أصحاب هذا القول بأن الوصي قائم مقام الولي، فيأخذ حكمه، كالوكيل (2) .
القول الثاني:
أن الوصي لا يملك الإجبار إلا إذا عين له الأب الزوج أو أذن له في الإجبار، وهذا مذهب المالكية.
__________
(1) جامع أحكام الصغار 1 \ 271.
(2) المغني 6 \ 464، المنح الشافيات 2 \ 500، نيل المآرب بشرح دليل الطالب 2 \ 145.(33/271)
والراجح في هذه المسألة أن الوصي لا يملك تزويج الصغيرة بغير إذنها. إذ ليس عنده من الشفقة ما عند الأب، ولأن الصحيح أن غير الأب من الأولياء لا يجوز له تزويج اليتيمة بغير إذنها، مع أنه قريب لها، فمن باب أولى أن لا يجوز ذلك للوصي الذي هو بعيد عن المرأة غالبا. لكن قد يقال: بأنه يجوز للوصي أن يزوج الصغيرة إذا بلغت تسع سنين بإذنها، وقد سبق أن هذا القول هو الصحيح في مسألة تزويج غير الأب والجد من الأولياء لليتيمة، وهذه يتيمة، فيلحق الوصي بهم في الحكم، ومما يؤيد ذلك حديث ابن عمر حينما زوجه قدامة بن مظعون ابنة أخيه عثمان بن مظعون بدون إذنها، وكان وصي أبيها، فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحه، وقال: «هي يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها (1) » ، وقدامة رضي الله عنه إنما زوجها بالوصية لا بالقرابة، فقد كان هناك من هو أولى بتزويجها من قدامة لولا الوصية، كأخيها السائب بن عثمان بن مظعون، وهو صحابي بدري عاش إلى زمن أبي بكر رضي الله عنه (2) ، وأيضا فإن قدامة وابن عمر نصا في هذا الحديث على الوصية، فدل على أن قدامة إنما زوج ابنة أخيه بموجبها، وإلا كان ذكرهما للوصية ضائعا (3) ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على قدامة تزويج اليتيمة مطلقا، وإنما أنكر عليه تزويجها بغير إذنها، وأمره ألا يزوجها إلا بإذنها (4) ، واليتيمة من لم تبلغ، لحديث: «لا يتم بعد احتلام (5) » ، فحديث ابن عمر صريح في صحة تزويج الوصي لليتيمة المميزة قبل بلوغها إذا أذنت، وعدم جواز تزويج اليتيمة غير المميزة، لأنه ليس لها إذن معتبر، وقد جاء النهي في هذا الحديث وغيره عن تزويج اليتيمة بغير إذنها. والله أعلم.
__________
(1) رواه الإمام أحمد 2 \ 130، والدارقطني في النكاح 3 \ 230، ومن طريقة الخطيب في المبهمات ص 521، والبيهقي في النكاح باب ما جاء في إنكاح اليتيمة 7 \ 120 عن يعقوب - وهو ابن إبراهيم بن سعد الزهري عن أبيه عن ابن إسحاق حدثني عمر بن حسين بن عبد الله مولى آل حاطب عن نافع به، وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات، عدا ابن إسحاق صاحب المغازي وهو '' صدوق مدلس '' كما في التقريب 2 \ 144، وقد صرح بالتحديث. ورواه الدارقطني 3 \ 229 من طريق محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن عمر بن حسين عن نافع عن ابن عمر أنه تزوج بنت خاله عثمان بن مظعون، قال: فذهبت أمها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي تكره ذلك، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها، ففارقها، وقال: '' لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن، فإذا سكتت فهو إذنها '' فتزوجها بعد عبد الله المغيرة بن شعبة. وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا ابن أبي فديك، وهو '' صدوق '' كما في التقريب 2 \ 145. والحديث قال عنه الهيثمي في المجمع 4 \ 280: '' رواه أحمد، ورجاله ثقات '' وحسنه الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء 6 \ 2331، رقم (1835) .
(2) انظر ترجمة السائب في الطبقات الكبرى 4 \ 401، 402، وسير أعلام النبلاء 1 \ 163، 164.
(3) انظر شرح الزركشي 5 \ 100.
(4) والظاهر من حال ابنه عثمان بن مظعون رضي الله عنه أنها كانت مميزة. انظر شرح الزركشي 5 \ 100.
(5) رواه أبو داود في الوصايا باب متى ينقطع اليتم 3 \ 115، رقم (2873) ، وعبد الرزاق (كما في تفسير ابن كثير 1 \ 298) ، والطحاوي في مشكل الآثار 1 \ 280، والطبراني في الصغير ص 96، والخطيب في تاريخ بغداد 5 \ 299 من طرق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال الهيثمي 4 \ 334: '' رواه الطبراني في الصغير، ورجاله ثقات ''، وقال النووي في رياض الصالحين ص 569 '' رواه أبو داود بإسناد حسن '' وقال الحافظ في التلخيص 3 \ 101: أعله العقيلي وعبد الحق وابن القطان والمنذر وغيرهم، وحسنه النووي متمسكا بسكوت أبي داود عليه ''. ورواه عبد الرزاق في الطلاق باب لا رضاع بعد الفطام 7 \ 464، وأبو داود الطيالسي ص 243 رقم (1767) ، والبيهقي في الخلع والطلاق باب الطلاق قبل النكاح 7 \ 320، وابن عدي في الكامل 2 \ 853 من طريقين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وأعل الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء 5 \ 80 - 83 جميع طرق حديث علي، حيث ذكر أن في إحدى طرقه متروكا وفي الأخرى رجلان لا يعرفان، وفي الثالثة مجهول، وأعل طريقي حديث جابر بأن في إحداهما متروكين وفي الأخرى رجل ضعيف، وقوى هذه الطرق برواية الحديث عن ابن عباس موقوفا عليه. وروى هذا الحديث الطبراني في الكبير 4 \ 14، رقم (3502) عن محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ثنا سلم بن قتيبة حدثنا ذيال بن عبيد سمعت جدي حنظلة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: '' لا يتم بعد احتلام، ولا يتم على جارية إذا هي حاضت ''، وإسناده حسن، رجاله ثقات، عدا سلم بن قتيبة، وهو صدوق، كما في التقريب 1 \ 314، وعدا ذيال بن عبيد، وهو أيضا صدوق كما في التقريب 1 \ 239، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 4 \ 226: '' رجاله ثقات ''، وقال الحافظ في التلخيص: '' إسناده لا بأس به ''.(33/272)
تزويج الثيب الصغيرة
للعلماء في هذه المسألة أقوال:
القول الأول:
أنه لا يجوز تزويجها بغير رضاها، وأنها لا تزوج حتى تبلغ فتأذن، وبهذا قال الإمام الشافعي (1) ، وهو وجه في مذهب الحنابلة.
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة أهمها:
الدليل الأول:
ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها، وإذنها صماتها (2) » ، وفي رواية «الأيم أحق بنفسها (3) » .
الدليل الثاني:
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تنكح البكر حتى تستأذن، ولا الثيب حتى تستأمر، فقيل: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال: إذا سكتت (4) » ، وفي رواية: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن (5) » .
__________
(1) الأم 5 \ 18، الفتح 9 \ 193، رحمة الأمة ص 213، 214، مغني المحتاج 3 \ 149.
(2) صحيح مسلم النكاح (1421) ، سنن الترمذي النكاح (1108) ، سنن النسائي النكاح (3260) ، سنن أبو داود النكاح (2098) ، سنن ابن ماجه النكاح (1870) ، مسند أحمد بن حنبل (1/274) ، موطأ مالك النكاح (1114) ، سنن الدارمي النكاح (2190) .
(3) رواه مسلم في كتاب النكاح باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت 9 \ 204، 205.
(4) رواه البخاري في كتاب الحيل باب في النكاح 12 \ 339، رقم (6968) .
(5) أخرج هذه الرواية الإمام البخاري في كتاب النكاح باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما 9 \ 191، رقم (5136) ، ومسلم في النكاح باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت 9 \ 202.(33/273)
قالوا: المراد بالأيم في الحديثين " الثيب " بدليل التصريح بذلك في الروايات الأخرى، ولورودها في الحديثين في مقابل البكر (1) .
الدليل الثالث:
ما رواه عدي بن عدي الكندي عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شاوروا النساء في أنفسهن، فقيل له: يا رسول الله إن البكر تستحي، قال: الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها (2) » .
قالوا: عموم هذه الأحاديث يدل على أن الثيب صغيرة أو كبيرة لا تزوج إلا بإذنها (3) .
الدليل الرابع:
أن الثيوبة دليل العلم بمصالح النكاح، لأن الثيب قد اختبرت المقصود،
__________
(1) معالم السنن 3 \ 43.
(2) رواه الإمام أحمد 4 \ 192، والبيهقي في كتاب النكاح باب إذن البكر الصمت وإذن الثيب الكلام 7 \ 123 من طريق الليث قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن عدي الكندي به. وروى جزأه الأخير الإمام أحمد 4 \ 192، وابن ماجه في النكاح باب استئمار البكر والثيب 2 \ 602، رقم (1872) ، والطحاوي في مشكل الآثار في باب تزويج الأب ابنته البكر هل يحتاج في ذلك إلى استئمارها؟ 4 \ 368، والطبراني في معجمه الكبير17 \ 108، رقم (264) ، وابن أبي شيبة في مسنده (كما في الإرواء 6 \ 234) من طريق الليث به كسابقه. ورجال هذا الإسناد ثقات، لكنه منقطع، عدي بن عدي لم يسمع من أبيه كما قال أبو حاتم، انظر الجرح والتعديل 7 \ 3، ولكن يشهد لهذا الحديث الأحاديث السابقة. وروى هذا الحديث بتمامه الطبراني في معجمه الكبير 17 \ 138، رقم (342) من طريق سفيان بن عامر عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن عدي بن عدي عن أبيه عن العرس بن عميرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكره - قال الهيثمي في مجمع الزوائد 4 \ 279: '' رواته ثقات ''. وروى جزأه الأخير الطحاوي في شرح معاني الآثار في الموضع السابق، والحربي في غريب الحديث، وابن عساكر في تاريخ دمشق (كما في الإرواء 6 \ 235) من طريق يحيى بن أيوب بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين به كالرواية السابقة. ورواه بتمامه أيضا البيهقي في الموضع السابق من طريق يحيى بن أيوب به كما في الرواية السابقة.
(3) المحلى 9 \ 460، شرح الزركشي 5 \ 88.(33/274)
فزالت الجهالة بأمر النكاح، والثيوبة عادة إنما تحصل بعد العقل والتمييز، وهذا كاف لدفع ولاية الإجبار عن الثيب الصغيرة، كما أن من اختبر أمر المال لا يثبت عليه إجبار فيه (1) .
الدليل الخامس:
أن في تأخر تزويجها فائدة، وهي أنها مجربة للنكاح، فإذا أخرت حتى تبلغ ويعتبر إذنها، اختارت لنفسها حينئذ ما فيه مصلحتها، فيجب التأخير لذلك، بخلاف البكر، لأنها جاهلة بأمر النكاح (2) .
القول الثاني:
أنه يجوز لأبيها أن يزوجها بغير رضاها، وبهذا قال الإمام مالك وهو مذهب الحنفية (3) ، ووجه في مذهب الحنابلة.
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة أهمها:
الدليل الأول:
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها (4) » .
__________
(1) بدائع الصنائع 2 \ 244، الروايتين والوجهين 2 \ 82.
(2) المغني 6 \ 492.
(3) فتح القدير 3 \ 261، 269، بدائع الصنائع 2 \ 241، 244.
(4) رواه أبو داود في النكاح باب في الاستئمار 2 \ 231 رقم (2093) ، والترمذي في النكاح باب (19) 3 \ 408، رقم (1109) ، وقال: حديث حسن، والنسائي في النكاح باب استئذان البكر في نفسها 6 \ 87، وأحمد 2 \ 259، 475، وأبو يعلى 13 \ 312، رقم (7328) ، وابن حبان في صحيحه الإحسان 6 \ 153، رقم 4067، 4074، وعبد الرزاق في النكاح باب استئمار اليتيمة 6 \ 145، وابن وهب كما في المدونة 2 \ 142، والطحاوي في شرح معاني الآثار باب تزويج الأب ابنته البكر 4 \ 464، وابن عبد البر في التمهيد 19 \ 99، والبيهقي في النكاح باب ما جاء في إنكاح اليتيمة 7 \ 120، وباب إذن البكر الصمت 7 \ 122، من طرق عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به، ورجاله ثقات عدا محمد بن عمرو، وهو ابن علقمة، وهو '' صدوق له أوهام '' كما في التقريب 2 \ 196، فإسناده حسن كما قال الترمذي، وحسنه الشيخ محمد ناصر الدين في الإرواء 6 \ 233، رقم (1834) ، وحسنه أيضا الشيخ شعيب الأرناؤوط والشيخ عبد القادر الأرناؤوط في تعليقهما على زاد المعاد 5 \ 101، وحسنه كذلك الشيخ حسين سليم محقق مسند أبي يعلى.(33/275)
الدليل الثاني:
ما رواه أبو موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت لم تكره (1) » .
قالوا: الحديثان يدلان بمنطوقهما على أن اليتيمة تستأذن، ويدلان بمفهوم المخالفة على أن غير اليتيمة، وهي ذات الأب، بكرا كانت أو ثيبا لا تستأذن إلا ما أجمع عليه عامة أهل العلم من استئمار الثيب البالغ (2) .
الدليل الثالث:
أن العلة في الإجبار هي الصغر، لقصور عقل الصغير، بدليل أنه غير مخاطب بالتكاليف الشرعية، ولا يصح تصرفه في ماله، وهذه العلة موجودة في الثيب الصغيرة، فيصح إجبارها على النكاح قياسا على البكر الصغيرة وعلى الغلام الصغير (3) ، وعلى القول بأن كلا من الصغر والبكارة علة للإجبار، فإن الحكم إذا ثبت بعلتين مستقلتين فزالت إحداهما ثبت الحكم بالأخرى (4) .
قالوا: والأخبار التي تدل على وجوب استئمار الثيب، وكونها أحق بنفسها من وليها محمولة على الثيب الكبيرة، فإنه جعلها أحق بنفسها من وليها، والصغيرة لا حق لها، لقصور عقلها (5) .
القول الثالث:
أنه يجوز تزويج بنت تسع سنين بإذنها، ولا يجوز تزويجها قبل ذلك، لأن من تم لها تسع سنين لها إذن صحيح، فلا يصح تزويجها بغير إذنها، وهذا القول وجه في مذهب الحنابلة.
__________
(1) رواه الإمام أحمد 4 \ 408، والبزار (كشف الأستار كتاب النكاح باب الاستئمار 2 \ 160، رقم 1422) ، والدارقطني في النكاح 3 \ 242 من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة بن موسى عن أبي موسى به. وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الصحيحين. ورواه أحمد 4 \ 394، 411، والدارمي في النكاح باب في اليتيمة نزوج نفسها 2 \ 185، رقم (2185) ، والبزار (كشف الأستار، الموضع السابق، رقم 1423) ، وأبو يعلى 13 \ 5311، رقم (7327) ، وابن حبان في صحيحه الإحسان 6 \ 155، رقم (4073) ، والحاكم في النكاح 2 \ 166، 167، وصححه، ووافقه الذهبي وابن أبي شيبة في النكاح باب في اليتيمة من قال: تستأمر في نفسها 4 \ 139، والبيهقي في الموضعين السابقين، والطحاوي في الموضع السابق، والدارقطني في النكاح 3 \ 241، 242، وابن عبد البر في التمهيد 19 \ 99، 100 من طرق عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي بردة به، وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات عدا يونس بن أبي إسحاق، وهو '' صدوق يهم قليلا '' كما في التقريب 2 \ 384. وقال الهيثمي: '' رجال أحمد رجال الصحيح '' مجمع الزوائد 4 \ 280، وصححه الشيخ محمد ناصر الدين، انظر السلسلة الصحيحة 2 \ 263، وصححه أيضا الشيخ حسين سليم محقق مسند أبي يعلى.
(2) بداية المجتهد 1 \ 366.
(3) الروايتين والوجهين 2 \ 81، المغني 6 \ 492.
(4) عارضة الأحوذي 5 \ 27.
(5) المغني 6 \ 493، بدائع الصنائع 2 \ 45.(33/276)
القول الرابع:
أن من دون تسع سنين يجوز لأبيها أن يزوجها، ولا إذن لها فيعتبر، لأنها صغيرة، «أما بنت تسع فأكثر فلا تزوج إلا بإذنها» ، وهذا القول وجه في مذهب الحنابلة.
وأقرب هذه الأقوال إلى الصواب والله أعلم هو القول الأول، لأن عمومات الأحاديث السابقة التي ذكرت ضمن أدلة هذا القول تدل على اعتبار الثيوبة وصفا يمتنع معه الإجبار، وهي صريحة في ذلك، وليس هنالك دليل صحيح صريح يدل على أن الثيب المذكورة في هذه الأحاديث يراد بها الثيب الكبيرة بل هي عامة في الكبيرة والصغيرة، ولا يصح التخصيص بدون دليل. ويمكن أن تناقش أدلة القول الثاني بما يلي:
(أ) أنهم استدلوا بمفهوم حديثي أبي هريرة وأبي موسى رضي الله عنهما، وهذا المفهوم مخالف لمنطوق الأحاديث التي استدل بها أصحاب القول الأول ودلالة المفهوم ضعيفة، فتقدم دلالة المنطوق على دلالة المفهوم، ولضعف دلالة المفهوم فقد ذهب بعض العلماء إلى أن المفهوم ليس بحجة أصلا (1) .
(ب) أما قولهم بأن علة الإجبار هي الصغر فقط، أو الصغر والبكارة، فإذا انتفت إحداهما تعلق الحكم بالأخرى فغير صحيح، بل الصحيح أن علة الإجبار هي الصغر والبكارة معا، وأنه لا بد لصحة الإجبار من وجودهما معا، فإذا انتفت إحداهما لم يصح الإجبار؛ لأن النصوص الشرعية أوجبت استئذان الثيب مطلقا، وأوجبت أيضا استئذان البكر،
__________
(1) نهاية السول 2 / 206(33/277)
فحملت البكر على البكر الكبيرة، لتزويج أبي بكر رضي الله عنه ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي صغيرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتزويج بعض الصحابة رضي الله عنهم بناتهم وهن صغيرات، والله أعلم.(33/278)
الخاتمة:
الحمد لله وحده وبعد:
فمن خلال هذا البحث المتواضع تبين لي أمور أهمها:
1 - أنه يجوز للأب أن يزوج ابنته الصغيرة التي لم تبلغ تسع سنين، ولا خيار لها إذا بلغت إذا زوجها من كفء، وقد أجمع أهل العلم على هذه المسألة في حق من لم تبلغ تسع سنين، ولم يخالف فيها سوى أفراد من العلماء، وقد يكون الإجماع سابقا لخلافهم.
2 - أن الراجح في مسألة " تزويج غير الأب من الأولياء للبكر الصغيرة " أنه يجوز للولي تزويجها إذا بلغت تسع سنين بإذنها ولا خيار لها إذا بلغت، وليس له تزويجها قبل ذلك.
3 - أن الصحيح جواز وصية الأب دون غيره بتزويج ابنته، وأنه يجوز لوصي الأب تزويج الصغيرة إذا بلغت تسع سنين بإذنها، ولا خيار لها إذا بلغت، وليس له تزويجها قبل ذلك.
4 - أن القول الصحيح في مسألة: " تزويج الثيب الصغيرة " أنه لا يجوز للأب ولا لغيره تزويجها بغير رضاها، وأنها لا تزوج حتى تبلغ فتأذن.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(33/278)
المراجع
1 - الإجماع لأبي بكر بن المنذر - نشر دار طيبة بالرياض عام 1402 هـ.
2 - الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان - نشر دار الكتب العلمية - بيروت عام 1407 هـ.
3 - إحكام الأحكام لابن دقيق العيد - نشر دار الكتب العلمية - بيروت.
4 - أحكام القرآن للجصاص - نشر دار إحياء التراث العربي - بيروت.
5 - أحكام القرآن لابن العربي - نشر دار المعرفة - بيروت.
6 - أخبار أصبهان لأبي نعيم - نشر الدار العلمية - دلهي.
7 - أخبار أبي حنيفة وأصحابه للصيمري - نشر دار عالم الكتب - بيروت.
8 - أخبار القضاة لوكيع - نشر دار عالم الكتب - بيروت.
9 - اختلاف العلماء للمروزي - نشر دار عالم الكتب - بيروت - عام 1405 هـ.
10 - إرواء الغليل للشيخ محمد ناصر الدين الألباني - نشر المكتب الإسلامي - بيروت.
11 - الاستيعاب لابن عبد البر - مطبوع بحاشية الإصابة - نشر دار الكتاب العربي - بيروت.
12 - الإفصاح لابن هبيرة - نشر المؤسسة السعيدية بالرياض.
13 - الإقناع للحجاوي - نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
14 - الإقناع للشربيني - نشر دار الخير - بيروت.
15 - الأم للإمام الشافعي - نشر دار المعرفة - بيروت - عام 1393 هـ.
16 - الإنصاف للمرداوي - نشر دار إحياء التراث العربي - بيروت - الطبعة الأولى.
17 - الأوسط لابن المنذر - نسخة مصورة من مخطوطة المكتبة السليمانية بتركيا.
18 - بدائع الصنائع للكاساني - نشر دار الكتاب العربي - بيروت 1402 هـ.
19 - بداية المجتهد لابن رشد - مطبوع مع الهداية في تخريج أحاديث البداية - نشر دار عالم الكتب - بيروت.
20 - البداية والنهاية لابن كثير - نشر دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1405 هـ.
21 - التاريخ لابن معين - نشر جامعة الملك عبد العزيز - الطبعة الأولى - 1399 هـ.
22 - تاريخ الإسلام للذهبي - نشر دار الكتاب العربي - بيروت - الطبعة الأولى - 1408هـ.(33/279)
23 - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي - نشر دار الكتب العلمية - بيروت.
24 - تاريخ الثقات للعجلي - نشر دار الكتب العلمية - بيروت.
25 - التاريخ الصغير للبخاري - نشر دار المعرفة - بيروت - الطبعة الأولى - 1406 هـ.
26 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير - نشر دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1406 هـ.
27 - تقريب التهذيب لابن حجر - نشر المكتبة العلمية بالمدينة المنورة - عام 1395 هـ.
28 - التلخيص الحبير لابن حجر - نشر عبد الله هاشم المدني - المدينة المنورة 1384 هـ.
29 - التمهيد لابن عبد البر - نشر وزارة الأوقاف المغربية.
30 - تهذيب التهذيب لابن حجر نشر دائرة المعارف النظامية - الهند - عام 1325 هـ.
31 - تهذيب الكمال للمزي - نسخه مصورة من مخطوطة دار الكتب المصرية.
32 - الثقات لابن حبان - نشر دائرة المعارف العثمانية - الهند.
33 - جامع أحكام الصغار لأسروشني - تحقيق عبد الحميد البيزلي - طبع بمطبعة النجوم الخضراء - العراق.
34 - جامع البيان عن تأويل القرآن للطبري - نشر دار الفكر - بيروت - عام 1398 هـ.
35 - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - نشر دار الفكر - بيروت - الطبعة الأولى 1407 هـ.
36 - الجرح والتعديل نشر دائرة المعارف العثمانية - الهند. الطبعة الأولى.
37 - حاشية العدوي على الشرح الصغير للخرشي (مطبوع بحاشية الشرح الصغير) - نشر دار صادر - بيروت.
38 - الحجة على أهل المدينة لمحمد بن الحسن - نشر لجنة إحياء المعارف النعمانية - الهند.
39 - الخلاصة للخزرجي - نشر مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب. الطبعة الثالثة 1399 هـ.
40 - الذرية الطاهرة - نشر الدار السلفية - الطبعة الأولى 1407 هـ - بتحقيق سعد المبارك الحسن.
41 - رحمة الأمة للعثماني - نشر دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1407 هـ.
42 - رد المحتار لابن عابدين - نشر مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر - الطبعة الثانية - 1386 هـ.
43 - الروايتين والوجهين.
44 - الروض المربع (مطبوع مع حاشيته للشيخ عبد الرحمن بن قاسم) - الطبعة الأولى - 1398 هـ.
45 - روضة الناظر (مطبوع مع شرحه نزهة الخاطر) - نشر مكتبة المعارف - الرياض - الطبعة الثانية 1404 هـ.
46 - رياض الصالحين للنووي - تحقيق الألباني - نشر المكتب الإسلامي - بيروت.
47 - زاد المعاد لابن القيم - تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط - نشر مؤسسة(33/280)
الرسالة بيروت.
48 - سبل السلام للصنعاني - نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض - 1397 هـ.
49 - السلسلة - الصحيحة للألباني - نشر المكتب الإسلامي - بيروت - الطبعة الرابعة 1405 هـ.
50 - سنن أبي داود - نشر دار إحياء السنة النبوية.
51 - سنن الترمذي - تحقيق أحمد شاكر - نشر مطبعة البابي الحلبي بمصر - الطبعة الثانية 1398 هـ.
52 - سنن الدارقطني - نشر عبد الله هاشم المدني - المدينة المنورة.
53 - سنن الدارمي - نشر دار الريان - القاهرة - تحقيق فواز أحمد وخالد السبع.
54 - سنن سعيد بن منصور - نشر دار الكتب العلمية - بيروت - تحقيق الأعظمي.
55 - السنن الكبرى للبيهقي - نشر دار الفكر.
56 - سنن ابن ماجه - تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
57 - سنن النسائي (المجتبى) - نشر دار الكتاب العربي - بيروت.
58 - سير أعلام النبلاء للذهبي - تحقيق شعيب الأرنؤوط - نشر مؤسسة الرسالة - بيروت.
59 - السيرة لابن إسحاق - نشر دار الفكر - بيروت - الطبعة الأولى 1398 هـ.
60 - شرح السنة للبغوي - تحقيق شعيب الأرنؤوط - نشر المكتب الإسلامي - الطبعة الأولى 1395 هـ.
61 - شرح صحيح مسلم للنووي نشر دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
62 - الشرح الصغير للخرشي - نشر دار صادر - بيروت.
63 - الشرح الكبير لابن أبي عمر - نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
64 - شرح الزركشي على مختصر الخرقي - تحقيق الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين.
65 - شرح معاني الآثار للطحاوي - نشر مطبعة الأنوار المحمدية - القاهرة.
66 - شرح منتهى الإرادات للبهوتي - نشر دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
67 - صحيح البخاري (مطبوع مع شرحه فتح الباري) - نشر دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
68 - صحيح مسلم (مطبوع مع شرحه للنووي) نشر دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
69 - الضعفاء للعقيلي - نشر دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1404 هـ.
70 - طبقات خليفة - نشر دار طيبة - الرياض - الطبعة الثانية - 1402 هـ - تحقيق الدكتور أكرم العمري.
71 - الطبقات الكبرى لابن سعد - نشر دار صادر - بيروت.
72 - عارضة الأحوذي لابن العربي - نشر دار الكتاب العربي - بيروت.(33/281)
73 - العدة للمقدسي - نشر مكتبة الرياض - الرياض.
74 - عمدة القاري للعيني - نشر دار الفكر - بيروت.
75 - غاية المقصود في أحكام العقود للديربي الشافعي - الطبعة الثانية.
76 - غاية المنتهى لمرعي بن يوسف - نشر المؤسسة السعيدية بالرياض - الطبعة الثانية.
77 - فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم - مطبعة الحكومة - مكة المكرمة - الطبعة الأولى عام 1399 هـ.
78 - فتح الباري لابن حجر - نشر دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
79 - فتح القدير لابن الهمام - نشر دار الفكر - الطبعة الثانية.
80 - فضائل الصحابة للإمام أحمد - نشر جامعة أم القرى - تحقيق وصي الله بن محمد عباس.
81 - قوانين الأحكام الشرعية لابن جزي الغرناطي - نشر دار العلم للملايين - بيروت.
82 - الكافي لابن عبد البر - نشر دار الكتب العلمية بيروت - الطبعة الأولى 1407 هـ.
83 - الكافي لابن قدامة - نشر المكتب الإسلامي - بيروت - الطبعة الثانية 1399 هـ.
84 - كافي المبتدي للبعلي (مطبوع مع شرحه الروض الندي) - نشر المؤسسة السعيدية.
85 - الكامل لابن عدي - نشر دار الفكر - بيروت - الطبعة الثانية 1405 هـ.
86 - كشف الأستار عن زوائد البزار للهيثمي - تحقيق الأعظمي - نشر مؤسسة الرسالة - بيروت.
87 - كشف المخدرات للبعلي - نشر المؤسسة السعيدية بالرياض.
88 - كفاية الطالب الرباني لأبي الحسن المالكي (مطبوع مع حاشيته للعدوي) - نشر دار المعرفة - بيروت.
89 - لسان الميزان لابن حجر - نشر مؤسسة الأعلمي - بيروت - الطبعة الثالثة 1406 هـ.
90 - المبدع لابن مفلح - نشر المكتب الإسلامي - بيروت.
91 - المبسوط للسرخسي - نشر دار الفكر - بيروت - 1409 هـ.
92 - الأسماء المبهمة للخطيب - نشر مكتبة الخانجي - القاهرة - الطبعة الأولى 1405 هـ.
93 - مجمع الزوائد للهيثمي - نشر دار الكتاب العربي - بيروت - الطبعة الثالثة 1402 هـ.
94 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية - جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم - مطابع دار العربية - بيروت - تصوير الطبعة الأولى.
95 - المحلى لابن حزم - تحقيق أحمد شاكر - نشر دار التراث - القاهرة.
96 - المدونة الإمام مالك - رواية سحنون عن ابن القاسم - نشر دار الفكر - بيروت 1406هـ.
97 - المراسيل لابن أبي حاتم - نشر دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1403 هـ.
98 - مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود - نشر دار المعرفة - بيروت.(33/282)
99 - مسائل الإمام أحمد رواية ابنه صالح تحقيق الدكتور فضل الرحمن دين محمد - نشر الدار العلمية - دلهي.
100 - مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله - نشر المكتب الإسلامي - بيروت - الطبعة الأولى 1401 هـ.
101 - مسائل الإمام أحمد رواية ابن هانئ - نشر المكتب الإسلامي - بيروت - الطبعة الأولى.
102 - المستدرك للحاكم - نشر دار الكتاب العربي - بيروت.
103 - المستصفى للغزالي - نشر دار صادر - بيروت.
104 - مسند أحمد - نشر المكتب الإسلامي - بيروت.
105 - مسند ابن الجعد - تحقيق الدكتور عبد المهدي بن عبد القادر - نشر مكتبة الفلاح - الكويت.
106 - مسند أبي داود الطيالسي - نشر دار الكتاب اللبناني.
107 - مسند أبي يعلى - تحقيق حسين سليم - نشر دار المأمون - دمشق - الطبعة الأولى 1404هـ.
108 - مشكل الآثار للطحاوي - نشر مجلس دائرة المعارف النظامية - الهند - 1333 هـ.
109 - مصنف ابن أبي شيبة - نشر الدار السلفية - الهند.
110 - مصنف عبد الرزاق - تحقيق الأعظمي - نشر المجلس العلمي - الطبعة الثانية 1403 هـ.
111 - معالم السنن للخطابي - تحقيق أحمد شاكر ومحمد الفقي - نشر دار المعرفة - بيروت.
112 - المعجم الصغير للطبراني - نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
113 - المعجم الكبير للطبراني - تحقيق حمدي السلفي - الطبعة الثانية.
114 - المعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان - تحقيق الدكتور أكرم العمري - نشر مكتبة الدار بالمدينة المنورة.
115 - المغني لابن قدامة - نشر مكتبة الرياض الحديثة بالرياض.
116 - مغني المحتاج للشربيني - نشر دار الفكر - بيروت.
117 - مغني ذوي الأفهام عن الكتب الكثيرة في الأحكام لابن عبد الهادي - توزيع دار الإفتاء بالرياض.
118 - المقدمات لابن رشد - نشر إدارة إحياء التراث الإسلامي - قطر - الطبعة الأولى 1399 هـ.
119 - المقنع للموفق ابن قدامة - نشر دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1399 هـ.
120 - منار السبيل لابن ضويان - نشر المكتب الإسلامي - بيروت - الطبعة الرابعة 1399 هـ.(33/283)
121 - المنتقى للباجي - نشر دار الكتاب العربي - بيروت - مصورة عن الطبعة الأولى المطبوعة بمطبعة السعادة بمصر عام 1332 هـ.
122 - المنح الشافيات للبهوتي - تحقيق الدكتور عبد الله المطلق - إدارة إحياء التراث الإسلامي - قطر.
123 - مواهب الجليل من أدلة خليل لأحمد بن أحمد الشنقيطي - نشر إدارة إحياء التراث الإسلامي - قطر - 1407 هـ.
124 - نزهة الخاطر لابن بدران - مطبوع مع روضة الناظر لابن قدامة - نشر مكتبة المعارف بالرياض - الطبعة الثانية 1404 هـ.
125 - نهاية السول للبيضاوي - نشر جمعية نشر الكتب العربية بالقاهرة - وعالم الكتب - بيروت.
126 - نهاية المحتاج للرملي - نشر دار الفكر - بيروت - 1404 هـ.
127 - نيل الأوطار للشوكاني - نشر دار الفكر - بيروت - الطبعة الأولى 1402 هـ - توزيع دار الإفتاء بالرياض.
128 - نيل المآرب شرح دليل الطالب لابن أبي تغلب - نشر مكتبة الفلاح - الكويت - الطبعة الأولى - 1403 هـ.
129 - الهادي للموفق ابن قدامة - نشر مطابع القصيم - الطبعة الأولى 1391 هـ.
130 - الهداية لأبي الخطاب - نشر مطابع القصيم - الطبعة الأولى 1390 هـ.
131 - الهداية للمرغيناني - نشر المكتبة الإسلامية.(33/284)
حكمة الزواج ومنافعه
الدكتور: رجب سعيد شهوان.
الأصل في التشريعات الإسلامية أنها خطاب تعبدي من الله لعباده، ومع هذا فلا بأس أن يستكشف الباحث - فيما وراء ذلك - الحكمة الربانية والخيرية الإنسانية من تشريعات الله لعباده، وسوف نقف في هذا البحث على حكمة الزواج ومنافعه من خلال النقاط الآتية(33/285)
ا - المحافظة على النسل واستمراره:
يعتبر الزواج ضرورة إنسانية لحفظ النوع، وخلود الأثر، وبقاء الحياة على الأرض واستعمارها قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (1) ، وتحقيق الخلافة عليها، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ} (2) ، والعمارة والاستخلاف لا تتحققان بفرد واحد مهما طال عمره، ومهما أوتي من مكانة وقوة، وإنما تتحققان بالكثرة، فكان لا بد من الزواج والتوالد ليكثر النوع، فتعمر الحياة ويتحقق الاستخلاف، وهذا ما أجراه الله تعالى سنة تشريعية في آدم عليه الصلاة والسلام وذريته قال تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (3) .
__________
(1) سورة هود الآية 61
(2) سورة الأنعام الآية 165
(3) سورة النساء الآية 1(33/285)
ولهذا أودع الله تعالى في الإنسان فطرة حب البقاء، والحفاظ على النوع وبقاء الأثر بالزواج والنسل " وهو دافع بلغ من القوة، أن كل مخلوق يبذل أقصى تضحية في سبيل هذا الغرض " (1) ، وما الميل والتجاذب بين نوعي الجنس الإنساني وغيرهما إلا سر من أسرار الله تعالى في خلقه لتحقيق هذا الهدف، قال تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} (2) ، قال ابن عباس: هو الولد، وقاله مجاهد والحكم وعكرمة والحسن البصري والسدي والضحاك (3) .
وقد اقتضت إرادة الله تعالى، ألا يتساوى الإنسان مع الحيوان في كيفية تكاثر النوع، مع تساويهما في أصوله، وأن يضع له طريقا في التكاثر تتلاءم مع الشرف والتكريم اللذين منحهما الله على سائر مخلوقاته، فشرع الله له الزواج القائم على اختصاص الفروج والأرحام، وامتياز النفوس والأجسام، والحياطة بالشرف والأخلاق، باعتباره أفضل وسيلة لإنجاب الأبناء، واتصال الذرية، وتكاثر النوع، وامتداد الحياة الإنسانية على هذه الأرض، حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. قال ابن الجوزي: " تأملت في فوائد النكاح ومعانيه وموضوعه، فرأيت أن الأصل الأكبر في وضعه وجود النسل " (4) . وقال ابن قدامة: " وفي النكاح فوائد منها: الولد، لأن المقصود بقاء النسل. . ليبقى جنس الإنسان " (5) . وقال الشاطبي: " النكاح مشروع للتناسل بالقصد الأول " (6) . وقال ابن القيم في الزواج: " وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية، أحدها: حفظ النسل ودوام النوع إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم " (7) .
__________
(1) العلم يدعو للإيمان 148.
(2) سورة البقرة الآية 187
(3) تحفة المودود بأحكام المولود ص 8.
(4) صيد الخاطر 69.
(5) مختصر منهاج القاصدين 76.
(6) الموافقات 2: 396.
(7) زاد المعاد لابن القيم ص 4 \ 249.(33/286)
ولا يقف - الإسلام بهذه الحكمة عند حرفية النص، بل يسعى إلى وفرة النسل وكثرته، ويولي الإنجاب وتكثير النسل أهمية كبرى، لأن فيه عزة الإسلام ومباهاة الأمم قال عليه الصلاة والسلام: «تناكحوا تناسلوا، فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة (1) » . ومن حكم العرب: " إنما العزة للكاثر " (2) ، ولأن فيه " تحصين الدين وإحرازه، وحفظ البلاد بالجهاد، وغير ذلك من المصالح والمقاصد العامة والخاصة " (3) .
ويعتبر الزواج الشرعي، الوسيلة المأمونة لحفظ النوع الإنساني وبقائه وتكاثره على الوجه الصحيح، لأن الإعراض عن الزواج، قد يؤدي إلى انقطاع النسل، وانقراض الحياة البشرية على هذا الكوكب مع تداول الأيام، كما أن فتح الباب على غاربه، وشيوع التكاثر الإنساني خارج نظام الزواج الشرعي، قد يفضي إلى التناحر والفوضى، أو ميلاد أجيال هزيلة، أو سلالات من المعوقين، غير مؤهلة لاستمرار الحياة المنوطة بحكمة خلق الإنسان.
وقد تبدو عملية تكثير النسل مشكلة عند بعض الاقتصاديين (4) ، ولكنها في حقيقة الأمر، دافع إنساني إلى مزيد التنمية وتعزيز الإنتاج والاختراع، واستكشاف خيرات الأرض وعمارتها، فليس صحيحا أن كثرة النسل تؤدي إلى ضائقة سكانية، أو ندرة اقتصادية تستوجب تحديد النسل، فهذا من الضرر المتوهم عند الفقهاء، وهو لا يقوى على معارضة المصلحة المحققة في الزواج، وهو فلسفة غربية للمكيدة بكثرة المسلمين وبركتهم في الأرض.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق، المصنف 6: 173 رقم 10391، تلخيص الحبير 3: 116 رقم 1434، نيل الأوطار 6: 113.
(2) فقه السنة 2: 193.
(3) المغني 6: 447.
(4) انظر المذاهب الاقتصادية الكبرى 75، العلمانية 181، 277، 278.(33/287)
2 - تلبية الغريزة الجنسية واعتدالها:
تعتبر الغريزة الجنسية حقيقة في التكوين البشري، بحيث لا يمكن تجاهلها، بل تعتبر من أقوى الغرائز الملحة على الإنسان من داخله ومن خارجه، وبخاصة في المرحلة الباكرة من شباب الإنسان، بحيث يؤدي احتباسها إلى تصدع العقل وشرود الذهن وخلخلة العاطفة، قال ابن الجوزي: " ثم رأيت هذا المقصود الأصلي يتبعه شيء آخر، وهو استفراغ الماء الذي يؤدي دوام احتقانه، وكثرة اجتماعه، وطول احتباسه، إلى أمراض صعبة، لأنه يترقى بخاره إلى الدماغ " (1) ، وقال ابن القيم في بيان حكمة النكاح: " والثاني: إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن " (2) .
وقد ثبت بالفعل أنه " عندما تتحرك الغرائز وتشتد على الإنسان، تفرز تلك الغرائز مادة تتسرب بالدم إلى دماغه، تخدره، فلا يعود قادرا على التفكير الصافي " (3) .
والزواج أحسن وضع جبلي لاعتدال الشهوة، لأنه " يكسر من حدة الشهوة المجنونة، لأن الإنسان يزهد بفطرته في كل شيء يملكه، فهو المنظم الطبيعي لانطلاق الشهوة وممارستها بالصورة المتوازنة التي تحول بين نحول الجسد، أو تدميره " (4) .
وهو أنسب مجال حيوي لإرواء الغريزة الجنسية على الوجه الصحيح، قال ابن القيم: " والثالث: قضاء الوطر، ونيل اللذة والتمتع بالنعمة " (5) ؛ لأن به
__________
(1) صيد الخاطر 69.
(2) زاد المعاد 4: 249.
(3) تربية الأولاد في الإسلام 1: 197، نقلا عن ألكسيس كارليل.
(4) الثقافة الإسلامية، الكتاب الجامعي 2: 20.
(5) زاد المعاد 4: 249.(33/288)
يزول أعظم اضطراب نفسي في تقلب العقل والقلب " فيهدأ البدن من فوران الاضطراب، وتسكن النفس من خيال الصراع، ويكف النظر عن التطلع إلى الحرام، وتطمئن العاطفة إلى ما أحل الله " (1) ، عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المرأة تقبل في صورة شيطان، فمن وجد من ذلك شيئا، فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه (2) » .
ويؤكد العلم على أهمية انضباط الغريزة، وعدم التفريط أو الإفراط فيها، قال ابن الجوزي: (وليكن قصده الاستمتاع، لا إجهاد النفس في الإنزال، فإن ذلك يهدم قوته) (3) ، ويقول ألكسيس كارليل: " ومن المعروف أن الإفراط الجنسي، يعرقل النشاط العقلي، ويبدو أن العقل يحتاج إلى وجود غدد جنسية حسنة النمو، وضبط مؤقت للشهوة الجنسية، حتى يستطيع أن يبلغ منتهى قوته " (4) .
وبالزواج يختص كل زوج بزوجته، لا يزاحمه فيها أحد غيره، ويرتفع التنازع والبغضاء بين الناس، ويجد كل سبيله إلى إرواء غريزته في إطار المودة والمحبة والأشواق الصادقة، ويسود الأمن الخلقي أرجاء المجتمعات البشرية.
ولو ترك الحبل على الغارب في إشباع الغريزة الجنسية، لأدى هذا إلى إفراط الناس في الممارسات الجنسية، وهذا بدوره يؤدي إلى دمار الجسد ويجر على الأمة وبال الأمراض الفاتكة، كما أنه يؤدي إلى تنازع الناس وتقاتلهم، وربما أدى إلى سفك دم بعضهم بعضا، كما حدث بين قابيل وهابيل (5) ، كما أنه يؤدي إلى هبوط الإنسان من عالم السيادة والكرامة إلى حظائر الحيوان في الغاب، وتصير النساء أشبه بدورات المراحيض العامة، و " يفقد الجنس طابعه
__________
(1) فقه السنة 2: 13.
(2) أخرجه مسلم وأبو داود ومسلم بشرح النووي 9: 177. سنن أبي داود 2: 611 رقم 2151.
(3) صيد الخاطر 166.
(4) الإسلام وبناء المجتمع 129 عن الإنسان ذلك المجهول 174.
(5) انظر تفصيل ذلك: قصص الأنبياء22، 23، قصص القرآن 10 - 14، النبوة والأنبياء 123.(33/289)
الإنساني، مع أنه وسيلة مقدسة للاندماج المشروع، من خلال حياة كريمة يرضاها الله ويحبها الجميع " (1) . وهذا كله يؤدي إلى انهيار المجتمع، وتقويض أركانه، وتصدع بنيانه.
وهكذا يسعى الإسلام بالزواج إلى تحقيق التوازن الجنسي، من غير إفراط أو تفريط، لتلبية الغريزة الجنسية واعتدالها، وهو موقف مغاير لموقف الكنيسة الكاثوليكية، التي وقفت منها موقف النكران، ومغاير للحضارة الغربية الحديثة، التي وقفت منها موقف الإباحية والطوفان (2) .
__________
(1) لمحات عن منهجية الحوار والتحدي الإعجازي للإسلام 95.
(2) راجع هذا الموضوع في كتاب '' الإسلام وبناء المجتمع '' 133 - 140.(33/290)
3 - تحقيق السكن النفسي:
اقتضت حكمة الله تعالى أن يشب الأفراد على الانتماء الأسري والشعور العائلي، والاختصاص الزوجي، لتحقيق السكن النفسي، فالفرد يقبل على الحياة الاجتماعية بالتكوين، ثم يتوافق مع مهنته المناسبة، ويملك الباءة، ثم لا يلبث أن يجد في أعماقه تطلعا فطريا، وشوقا نفسيا نحو الزواج، وإحساسا غريزيا بالحاجة إلى شريك حياة، يملأ عليه قلبه وروحه، ويشاركه مشاعره من خلال أسرة مستقلة.
وقد خلق الله تعالى غريزة الميل العاطفي بين الذكر والأنثى، بصورة تلقائية تنبع من أعماق النفس، يقبل من خلالها كل منهما نحو الآخر، ويتقارب منه، ويشتد إليه، تحقيقا لهذا الميل والإحساس والتطلع، ثم بالزواج يجد كل من الزوجين صديق عمره، وشريك حياته، فيتحقق لهما السكن النفسي مصداقا لقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (1) إن الوحدة تلحق بالإنسان الضجر والوحشة، ولهذا كان من حكمة الله
__________
(1) سورة الروم الآية 21(33/290)
في الزواج، تحقيق السكن النفسي، قال ابن عباس: " لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصوى، من شقه الأيسر، ليسكن إليها، ويستأنس بها " (1) ، وذلك لأن كل واحد من الزوجين يجد أنيسه وجليسه الذي يغذيه ويسليه، وينسيه وحشته وهمومه.
وقد تظهر بعض الفوارق، أو المتناقضات في بداية الحياة الزوجية بين الزوجين، مما يوهم بأن الزواج لم يحقق لهما الطموح الروحي والسكن النفسي، وهذا أمر طبيعي، نظرا لاختلاف كل منهما في الطباع والعادات والميول في بادئ الأمر، إلا أنه بالتقوى والصبر منهما على بعضهما، والنية الصالحة في استمرارهما وائتلافهما، سرعان ما تتبدد وتزول كل الفوارق والعقبات، لتحل محلها السكينة والمودة والمحبة، وتقارب الطباع والنفوس والأنفاس.
ذلك أنه بالعشرة الزوجية المستمرة، تتلاقى خواص الزوجين وأمزجتهما وطباعهما، حتى تكاد تصير واحدة، ويمسي كل منهما لبوسا للآخر، وظلا ظليلا له قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (2) ، وبذلك يتحول الزواج مع الزمن واستمرار العشرة - من مجرد إرواء جنسي إلى دوحة نفسية، يجد فيها الزوجان حياتهما النفسية والروحية مفعمة بالحب والأشواق والوفاق، وتختفي مظاهر البعد والشقاق بينهما.
وهذا السكن النفسي له قيمة كبرى في التمتع بالحلال، وهو الفارق الحاسم بين النكاح وبين السفاح، فحياة الزوجين، ولقاؤهما وإقبالهما على بعض، وسفورهما أمام بعضهما سكينة واطمئنان، من غير توجس أو حياء، ونفورهما من هذه الطباع بغير زواج سر من أسرار الله تعالى في تأليف العواطف وتقارب النفوس، وهو رحمة وتوفيق منه بين الزوجين. قال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (3) ، وقال تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (4) ،
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن 1: 301.
(2) سورة البقرة الآية 187
(3) سورة الروم الآية 21
(4) سورة الأعراف الآية 189(33/291)
وقال تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (1) ، وهذا يعني أن السكن النفسي لا يقتصر على الحضور البيولوجي فحسب، وإنما يتطلب مصداقية العواطف والأحاسيس، لأن الزواج في حقيقته امتلاك للنفوس والأحلام، قبل الأجسام، وضرورة نفسية إلى جانب كونه حتمية اجتماعية وإنسانية.
ويتجلى السكن النفسي والروحي بين الزوجين بالذرية والإنجاب، ويزداد في أسمى معانيه كلما امتدت الصحبة بين الزوجين وتقدم بهما العمر، حتى يصلا في سن الشيخوخة إلى أرقى معاني الوحدة العاطفية، والسكن النفسي، فيعرفان أن للحياة الزوجية معنى ومغزى، وهدفا ساميا في الدنيا والآخرة.
__________
(1) سورة النساء الآية 35(33/292)
4 - العناية بتربية النشء:
ومن حكمة الزواج وأهدافه، العناية بتربية النشء، فالأسرة ضرورة بشرية لرعاية الأولاد وتربيتهم، وحفظهم من الضياع، وحمايتهم والعناية بهم، منذ لحظة الميلاد الأولى، وبخاصة إذا علمنا أن حكمة الله تعالى اقتضت احتياج الوليد الإنساني إلى حضانة طويلة.
وتبدأ عملية العناية بالأبناء منذ لحظة الميلاد، حيث يحتاج الطفل إلى الرضاعة، ولهذا كفل الإسلام للأطفال حق الرضاعة الطبيعية، فقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (1) ، وقال الغزالي: " ينبغي للأب أن يراقبه من أول مرة، فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة، تأكل الحلال، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه " (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 233
(2) إحياء علوم الدين 3: 70، 71 مختصر منهاج القاصدين 159، دراسات في الثقافة الإسلامية 526.(33/292)
وتؤكد الدراسات الدينية، والطبية، والنفسية، أن الرضاعة الطبيعية لها قيمة لدى الطفل، حيث يحس الطفل من خلالها بالدفء والحب والحنان، لأن لبن الأم أقوى غذاء جسمي، وأشهى غذاء نفسي، فالطفل حين يرضع من أمه، لا يملأ معدته فحسب، ولكنه يملأ نفسه سرورا واطمئنانا وأمنا، " علاوة على أن الرضاعة الطبيعية تعطيه مناعة ضد كثير من أمراض الطفولة، وتقي الأم نفسها من أمراض الثدي السرطانية " (1) .
كما تقوم الأسرة بدور الحضانة للأبناء فيما بعد، وتوفير الأكل والشرب واللبس والمسكن لهم، وقد كفل الإسلام لهم هذا الحق في قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (2) ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع ومسئول عن رعيته (3) » ، وعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل دينار ينفقه الرجل، دينار ينفقه على عياله (4) » ، وعن يزيد بن مسعود البدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة (5) » ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال:
__________
(1) علم نفس النمو، لأستاذنا د. حامد زهران 119.
(2) سورة الإسراء الآية 31
(3) أخرجه الشيخان، فتح الباري 2: 380 رقم 893، مسلم بشرح النووي 12: 213، شرح السنة 10: 61 رقم 2469.
(4) أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه الفتح الرباني 17: 62، 63، مسلم بشرح النووي 7: 88، سنن ابن ماجه 2: 922 رقم 276.
(5) أخرجه أحمد والشيخان والنسائي والدارمي، الفتح الرباني 17: 59، فضل الله الصمد 2: 216 رقم 749، فتح الباري 9: 497 رقم 5351، مسلم بشرح النووي 7: 88، سنن الدارمي 2: 196 رقم 2667.(33/293)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت (1) » ، وفي حديث أبي الدرداء: «أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسع ". . " وأنفق من طولك على أهلك (2) » ، وقال الثوري: " عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال " (3) .
ولا تقتصر التربية الأسرية للنشء والعناية بهم، على توفير الأكل والشرب، واللباس والمسكن، بحيث يمكن الاستغناء عنها، بدور المؤسسات والحضانة والملاجئ، وإنما تمتد أهمية الأسرة إلى تربية الأبناء تربية شاملة، للوصول بهم إلى النمو المتكامل، فالطفل يتطلب حاجات فسيولوجية تتعلق بالجسد والأعضاء وحاجات نفسية تتعلق بالشعور والقلب كالحب والتقدير وتأكيد الذات، وحاجات اجتماعية تتعلق بالواقع كالأمن والانتماء والنجاح والاستقلال، وتعلم المعايير السلوكية، واكتساب المعرفة الدينية والتفاعل الاجتماعي والإنساني، قال ابن عمر: " أدب ابنك فإنك مسئول عنه ماذا أدبته وماذا علمته " (4) .
وتؤكد الدراسات النفسية (أن الأطفال الذين ينشئون في ظل الأسرة ينمون نموا يفوق الذين ينشئون في ملاجئ الإيداع. والحضانة والمؤسسات، أو على يد الشغالات والمربيات، كما تؤكد تلك الدراسات أن الذين ينشئون بلا أسر، يعانون من الحرمان الانفعالي، والجوع العاطفي، والندوب العقلي، والعجز في الشخصية، وعدم الإحساس بالذات، ولذلك يقوم بعضهم بسلوك عدواني أو سلبي في بعض التصرفات، يفسر بأنه اعتراض منهم على هذا النوع من التربية، بل يمكن القول: إن هذا الوضع المناهض للفطرة
__________
(1) أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود، المسند 2: 160، 193، 194، 195، مسلم بشرح النووي 7: 82، سنن أبي داود 2: 321 رقم 1692.
(2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، فضل الله الصمد 1: 77 رقم 18.
(3) الجامع لأخلاق الراوي 1: 98 رقم 47.
(4) تحفة المودود بأحكام المولود 225.(33/294)
الأسرية هو المسئول عن بعض الاضطرابات النفسية، وضياع هذا الجيل الجديد - في الشرق والغرب - وإقباله على تعاطي المخدرات والتورط في الجريمة، والتمرد على القيم والقانون.
كما ثبت في الدراسات الاجتماعية أن الشغالات والخادمات إذا مكن من الأطفال، فإنهن يفسدن على الأطفال تربيتهم السوية في الدين واللغة والأخلاق والقيم والسلوك، وقد يجررن في نهاية المطاف إلى كوارث خلقية، وباختصار الكلمات، لا تستطيع محاضن الأرض بالطول والعرض، أن تقوم مقام الأمومة الحقيقية في الحب والحنو، ومصداقية التربية، وسلامة التنشئة، حتى اعتبرت " أفقر المنازل، أفضل من أية حضانة أو مؤسسة إيداع " (1) .
__________
(1) علم نفس النمو د. زهران 151، 152.(33/295)
5 - صيانة المجتمع من الانحلال الخلقي:
ومن حكمة الزواج أنه السبيل الوحيد، والأمين لاستمرار الفضيلة وصيانة المجتمعات الإنسانية عن الانحلال الخلقي، لأنه يعمل على الإشباع الجنسي والنفسي، وتحصين الفروج من الوقوع في الحرام، والقناعة والحلال، وغض البصر عن المحرمات.
وبالزواج تنسد أبواب الرذيلة تلقائيا، ويتخلص المجتمع من المتسكعين، وينشغل كل بأهله، ويصبح كل واحد أمينا على شرفه وعرضه، وينصرف أفراده للعمل الجاد، وهذا بدوره يؤدي إلى نظافة المجتمع وحفظه من الانحلال، قال الشاطبي في حكمة الزواج: " ومنها: التحفظ من الوقوع في المحظور من شهوته الفروج ونظر العين " (1) . وقال ابن قدامة: " ومن فوائد النكاح، التحصن من الشيطان بدفع غوائل الشهوة " (2) ، وعن أبي ذر
__________
(1) الموافقات 2: 396.
(2) مختصر منهاج القاصدين 76.(33/295)
الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما للشيطان من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء - إلا المتزوجين (1) » . وهو المشاهد جليا في المجتمعات الشرقية بعامة، والمجتمعات الإسلامية بخاصة، وإذا كان الأمر قد تخلخل في هذا الزمان، فإنه لا يزال واضحا في البيئات الإسلامية المحافظة، والبيوتات الطاهرة.
وبالمقابل، فإن المجتمعات التي تعرض عن الزواج، ويروج فيها الاتصال الجنسي الخبيث، تشيع فيها الأمراض، وتتحلل فيها روابط الأسر، وتنحط فيها القيم والأخلاق.
وبرهان ذلك في المجتمعات الغربية المعاصرة، فقد رفعت شعار الحرية الجنسية، ونافحت عنه، حتى صار يزاحم قيود الزواج والعفاف، فانبجست الشهوات، واستحوذت الغرائز الجنسية على الأفراد، وشاعت فيهم أوكار المخادنات السرية، والملاهي الليلية، والأندية العارية، والأفلام المكشوفة، ونوادي تبادل الزوجات، وظاهرة الشذوذ الجنسي، ونكاح المحارم، والسحاق واللواط، ومواخير الدعارة، مما ينذر بانهيار اجتماعي، وسقوط حضاري، ودمار في القيم والأخلاق، وتفكك في الروابط الأسرية يهدد الأسرة الإنسانية بالزوال.
كما جر الإعراض عن الزواج والاستعاضة عنه بالاتصال الجنسي غير المشروع - العالم الغربي - إلى الأمراض الجنسية مثل: السلفس، والزهري، والسيلان، والاحتقان، والإيدز، حتى أمسى الغرب مهددا بعدوى هذه الأمراض أكثر من خطر القنابل الذرية والكيماوية، وبخاصة بعد أن وصلت هذه الأمراض إلى أرقام مذهلة " فهنالك ثمانون مليونا مصابون بالإيدز، والسيلان، والزهري، والهربز، والكلاميديا الجنسية، وخمسة عشر مليون فتاة أمريكية على علاقة جنسية مع آبائهن وإخوانهن، وعشرة بالمائة من العائلات
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق، المصنف 6: 171 رقم 10387.(33/296)
الأمريكية تمارس نكاح المحارم، وعشرون مليون أمريكي يمارسون اللواط ويتباهون به ".
وهذا الذي وصلت إليه الحضارة الغربية، قدر الله تعالى وسنة من سننه في الحياة والأمم والحضارات، فقد ثبت أن الانحلال الخلقي كان وراء سقوط الإغريق والرومان، حين أقبلوا على الاختلاط، وأغفلوا العناية بالمنزل، واعتبروا الحياة فرصة للمتاع (1) ، وكان وراء هلاك قوم لوط، قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} (2) {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} (3) {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} (4) {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} (5) {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} (6) .
وهو وراء هلاك كل حضارة حادت أو تحيد عن منهج الله تعالى في سنة الزواج الشرعي، فإن من خرج عن سنن الله تعالى كانت له بالمرصاد، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (7) ، قالت أم سلمة: «يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال: نعم إذا كثرت الخبائث (8) » ، وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قال: " إن الله تبارك وتعالى لا يعذب العامة بذنب الخاصة، ولكن إذا عمل المنكر، استحقوا العقوبة كلهم " (9) .
__________
(1) الأسرة المسلمة والأسرة المعاصرة 32، 33.
(2) سورة الأعراف الآية 80
(3) سورة الأعراف الآية 81
(4) سورة الأعراف الآية 82
(5) سورة الأعراف الآية 83
(6) سورة الأعراف الآية 84
(7) سورة الإسراء الآية 16
(8) أخرجه مالك ومسلم، الموطأ 2: 991، مسلم بشرح النووي 18: 302.
(9) أخرجه مالك 2: 991.(33/297)
ولهذا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من عواقب الزنى والفساد الخلقي، فعن ميمونة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال أمتي بخير ما لم يتفش فيهم ولد الزنى، فإذا فشا بينهم ولد الزنى، فيوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقاب (1) » ، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ما فشا الزنى في قوم إلا كثر فيهم الموت (2) ، وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: «أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا (3) » ، وقال ابن مسعود: إذا ظهر الزنى في قرية، أذن بهلاكها (4) .
__________
(1) أخرجه أحمد، المسند 6: 333.
(2) أخرجه مالك، الموطأ: 1: 460.
(3) أخرجه ابن ماجه، سنن ابن ماجه 2: 1332، 1333 رقم 4019.
(4) الطرق الحكمية 260.(33/298)
6 - الحفاظ على الأنساب:
ومن حكمة الزواج أنه الطريق المأمون لصون الأنساب، وعدم اختلاط الماء في الأرحام، وهو الذي يعطي للأنساب صفتها الشرعية، فبالزواج يكتسب المرء نسبه الصحيح، وينضم إلى المجتمع ويعترف له بحق الوجود، ولهذا حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على توكيد نسبه الطاهر الصحيح بقوله: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار (1) » .
ولا يخفى على ذوي الألباب، ما لحفظ الأنساب من أهمية شرعية في ضبط عملية المصاهرة، وتحديد النفقة، وصلة الأرحام، وتوزيع التركات، وإنسانية
__________
(1) البداية والنهاية: 2: 256، 257، مسلم بشرح النووي 15: 36 زاد المعاد 1: 71 هامش.(33/298)
الإنسان، وغير ذلك من الأحكام الشرعية والخلقية، قال صلى الله عليه وسلم: «تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، والله إنه ليكون بين الرجل وبين أخيه الشيء ولو يعلم الذي بينه وبينه من داخلة الرحم، لأوزعه ذلك عن انتهاكه (1) » .
ولمعرفة الأنساب وصونها، قيمة كبرى في عملية المصاهرة أيضا فقد يتوصل بضياع الأنساب إلى أن ينكح المرء أخته أو عمته أو خالته، أو ابنة أخيه أو ابنة أخته، وهو لا يدري.
كما أن ضياع الأنساب يؤدي إلى ضياع النسل، حيث يولد الأبناء ولا يجدون من يعولونهم ويربونهم تربية صادقة، ولو لم تكن الأنساب لعجت المجتمعات بأولاد لا كرامة لهم ولا أسماء، ولهبطت الإنسانية إلى حظائر الحياة الحيوانية، وعالم الخنافس والقردة.
كما تبرز أهمية صيانة الأنساب وحفظها في تحقيق الذات واعتبارها، فالنسب الثابت المعروف، يشعر صاحبه بكرامته وعزته ووجوده الشرعي، وحق انتمائه الأسري والاجتماعي، ولهذا يشعر مجهولو الأنساب، واللقطاء، وأولاد الزنى برفض أسري، وذل اجتماعي، واكتئاب نفسي، وندوب عاطفي، وهذا يدل على أن صون النسب وحفظه من أهم خصائص النفس الإنسانية.
ونظرا لأهمية النسب وحفظه، ألغى الإسلام قانون التبني، لأنه تزييف لحقيقة الأنساب، واستلاب لكرامة الإنسان، ورق مقنع بدوافع العاطفة الكاذبة، قال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} (2) ، وأقبح من هذا، إلحاق نسب المرأة بزوجها، وذلك لأن كل واحد منا لديه
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد من طريق عمر بن الخطاب. وأحمد في المسند 2: 374، شرح السنة 13: 19 رقم 3430.
(2) سورة الأحزاب الآية 5(33/299)
اعتزاز بنسبه، وكل منا يحرص على صون نسله وحفظه من الضياع، أو الاختلاط، وكم يكون أليما حينما يشعر بضياع نسبه، أو يحس ولو من بعيد، بأنه هنالك شائبة اختلاط محرم في نسبته إلى آبائه وأجداده، أو شائبة شك في نسبة أولاده إليه.(33/300)
7 - إشباع غريزتي الأبوة والأمومة:
لقد فطر الله تعالى الإنسانية على حب الولد والذرية، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (1) ، وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} (2) ، وقال تعالى على لسان زكريا عليه الصلاة والسلام: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} (3) ، وقال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} (4) ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (5) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من لا يرحم لا يرحم (6) » ، وعنه أيضا قال: «دخل عيينة بن حصن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه يقبل الحسن والحسين (7) » وذكر الحديث (8) ، وعن ابن عمر رضي الله عنه قال - في الحسن والحسين -: «هما
__________
(1) سورة الكهف الآية 46
(2) سورة النحل الآية 72
(3) سورة مريم الآية 5
(4) سورة آل عمران الآية 38
(5) سورة الفرقان الآية 74
(6) أخرجه البخاري، فتح الباري 10: 426، 5997، شرح السنة 3: 34 رقم 3446.
(7) صحيح البخاري الأدب (5997) ، صحيح مسلم الفضائل (2318) ، سنن الترمذي البر والصلة (1911) ، سنن أبو داود الأدب (5218) ، مسند أحمد بن حنبل (2/228) .
(8) قال ابن حجر: أخرجه أبو يعلى في مسنده، فتح الباري 10: 430.(33/300)
ريحانتاي من الدنيا (1) » ، قال ابن حجر: " وذلك لأن ولد الولد ولد " (2) ، وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني، فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر ويضمهما ثم يقول: اللهم ارحمهما (3) » . وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدلع لسانه للحسين بن علي (4) » ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل فاطمة، وكذا كان أبو بكر يقبل ابنته عائشة (5) ، وقال الأحنف بن قيس في وصف الأولاد: " هم ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، وقرة عيوننا " (6) ، بل أقول: " هم أفلاذ الأكباد، وعصارة الفؤاد، وسند الكبر، وخلود الأثر، ودار العزاء، وظل البقاء ".
والزواج هو وسيلة الإشباع الصادقة لتلك الغريزة الحانية، وهو طريق الإنجاب الصادق في استكمال فراغ الأبوة والأمومة ولا يخفى ما لإنجاب الأولاد من أثر في هذا الإشباع الفطري، والوجدان الأسري، فالبسمة التي يعطيها الأطفال لآبائهم وأمهاتهم، أداة ربانية بارعة، تستطيع أن تمحو كل آثار التعب والإجهاد عن الوالدين، وتثير في قلبيهما ينابيع المشاعر النبيلة والحنو الأصيل والأمل الكبير.
كما لا يخفى ما للأولاد من أهمية كبرى في استقرار الحياة الزوجية واستمرارها، حيث يتنازل الزوجان عن كل المشكلات، ويبذلان أقصى التضحيات، من أجل الأبناء، وذلك لأن كلمات " أبي، أمي، ولدي، بنتي " من أسمى القيم التي تحرص عليها الأديان والدساتير الخلقية.
__________
(1) أخرجه البخاري، فتح الباري 10: 426 رقم 5994.
(2) فتح الباري 10: 429.
(3) أخرجه البخاري، فتح الباري 7: 95 رقم 3753.
(4) شرح السنة 13: 36.
(5) فتح الباري 10: 427.
(6) تربية الأولاد 1: 128، فقه السنة 2: 14.(33/301)
أجل، إن الإنسان مطبوع على حب البقاء، وسبيل ذلك الأبناء، فالآباء والأمهات يرون في أبنائهم امتداد بقائهم، واستمرار ذاكرتهم وحياتهم، ولوحة تحمل خلقهم وصورهم في الحياة وبعد الممات، ولهذا نجد أكثر من يبتلون بالعقم، يجتهدون في معالجة أنفسهم لتحقيق الإنجاب، وما ذلك إلا تعبير عن جوع الأبوة والأمومة، ومدى حاجة الجبلة البشرية إليهما.(33/302)
8 - تنمية الروابط الأسرية والاجتماعية:
ومن حكمة الزواج تنمية الروابط الأسرية، وتعزيزها، وتوسيع دائرتها، لأن المصاهرة تنشئ علاقات جديدة بين الزوجين، وأهليهما، وهذه سنة من سنن الله تعالى في العائلات والمجتمعات، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (1) ، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} (2) .
ولهذا، لا بأس بالتغريب في النكاح، لتوسيع الآصرة الاجتماعية، وبخاصة إذا كانت الأسرة ضاوية على ما يروى من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغتربوا لا تضووا (3) » ، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لآل
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2) سورة الفرقان الآية 54
(3) ذكر هذا الحديث ابن قتيبة في كتابه '' غريب الحديث '' وقال بأنه لا يعرف له إسنادا، وإنما هو مشهور في كلام العرب وأشعارهم 3: 733، كما ذكر ابن الأثير في كتابه '' النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 106 ''، وذكره الغزالي في '' إحياء علوم الدين '' قال الحافظ العراقي في تخريجه: قال ابن الصلاح: لم يجد له أصلا معتمدا، ثم قال: وإنما يعرف من قول عمر لآل السائب '' قد أضويتم فانكحوا من النوابغ '' 2: 40، وذكره ابن حجر في '' تلخيص الحبير '' بلفظ '' لا تنكحوا القرابة القريبة، فإن الولد يخلق ضاويا ''. ثم ذكر ما ذكره العراقي من قول ابن الصلاح المتقدم 3: 146، قلت: وأنا أميل إلى ترجيح ضعف هذا الحديث، وحمل قول عمر على الحالات الخاصة بالأسر الهزيلة، وأن التغريب حكمة اجتماعية لا شرعية، لأن السنة النبوية جاءت خلاف ذلك، فقد تزوج عليه الصلاة والسلام من زينب بنت جحش ابنة عمته، وزوج ابنته فاطمة من ابن عمه علي رضي الله عنه، وهذا رأي العلم: كما ذكره الدكتور الكباريتي، أستاذ الوراثة بجامعة الكويت، ونشرته جريدة '' القبس '' الكويتية بتاريخ 25 ديسمبر 1977 م، والدكتور علي السالوس في مجلة الأمة '' عدد 66 ص 26.(33/302)
السائب: قد أضويتم فانكحوا في النوابغ،. وعن الشافعي. قال: " أيما أهل بيت لن تخرج نساؤهم إلى رجال غيرهم، كان في أولادهم حمق " (1) .
فالزواج يعمل على ربط أسرة بأسرة، أو عشيرة بعشيرة، أو بلد ببلد آخر، وهذا يؤدي إلى اتساع دائرة العلاقات الاجتماعية، وقيام الاحترام المتبادل بين المسلمين، ولهذا صاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لامتداد الروابط الاجتماعية، وتزوج عليه الصلاة والسلام جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق " فأعتق المسلمون بسبب هذا الزواج مائة أهل بيت من بني المصطلق قد أسلموا " (2) ، قالت عائشة رضي الله عنها: " فما أعلم امرأة كانت أعظم على قومها بركة منها " (3) .
والناظر في التاريخ الإسلامي، يلحظ أن المصاهرة أسهمت في اتساع دائرة الروابط الاجتماعية والأنساب الإسلامية، فقد تصاهر العرب والفرس والترك والبربر، فكان ذلك سببا في امتزاج العلاقات، وتداخل شعوب الأمة الإسلامية، بل كانت المصاهرة من أسباب انتشار الإسلام في كثير من بلدان آسيا وأفريقيا والبلاد الغربية.
كما يعمل الزواج على ترقية العلاقات الاجتماعية وامتداد المشاركات في الأفراح والأتراح والمناسبات الأخرى عن طريق الهدايا والمجاملات. ففي الحديث الشريف: «تهادوا تحابوا (4) » ، وقال عليه السلام أيضا: «تهادوا فإن الهدية تذيب وحر الصدر (5) » ، أي حقده وغيظه وغشه وعداوته (6) ،
__________
(1) تلخيص الحبير 3: 146.
(2) زاد المعاد 3: 146.
(3) سيرة ابن هشام 3: 340.
(4) أخرجه البخاري في الأدب المفرد فضل الله الصمد 2: 50 رقم 594 شرح السنة 6: 141.
(5) أخرجه أحمد، المسند 3: 405، شرح السنة 6: 141.
(6) المعجم الوسيط 3: 1017.(33/303)
وقال: «إن أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الفرائض إدخال السرور على المسلم (1) » .
وقد ينقلب الزواج إلى خلاف ذلك، فيصير سببا من أسباب تبديد الروابط الأسرية والعلائق الاجتماعية، وهذا لا يرجع إلى طبيعة الزواج نفسه، وإنما يرجع إلى خلل في أحد الزوجين أو أهله، فمن المعلوم أن الإسلام رتب خطوة الزواج على صلاح الدين، واستكمال الباءة والكفاءة، وعندما يفقد أحد الزوجين تلك الشروط والمواصفات، تتحول المصاهرة من زواج شرعي إلى نكد عائلي واجتماعي، وهذا يعني أن الخلل وقع في طريق الزواج، لا في الزواج نفسه.
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط، تربية الأولاد 1: 457.(33/304)
9 - التدرب على تحمل المسئوليات:
ومن حكمة الزواج، أنه يؤسس الأسرة على ضوابط المسئولية لا مجرد اللذة الجنسية، أو خيال المحبة النفسية.
فالزواج مؤسسة إسلامية اجتماعية يتعلم فيها الآباء والأمهات والأبناء، تنسيق الأدوار والأفكار، وتنظيم الالتزامات والمسئوليات، وتوزيع الوظائف بروح من التعاون والانسجام، لا العناد والانقسام، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) .
والزواج يشعر الزوجين بمدى مسئوليات الزواج وتبعاته، فيبعث الزوج على بذل النشاط للقيام بأعباء الزوجة والأبناء، ويدرب الزوجة على القيام بمسئولياتها تجاه الزوج والبيت والأولاد، في إطار من المودة والشورى، قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (2) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة الشورى الآية 38(33/304)
فالمرأة تعمل ضمن اختصاصها، وبما يتفق مع طبيعتها، وأنوثتها، فتقوم بالإشراف على البيت وتنظيمة وترسيمه، وتربية الأبناء ورعايتهم النفسية والعاطفية، والرجل يعمل ضمن اختصاصه، وبما يتفق مع طبيعته ورجولته، فيقوم بالسعي وراء العيال، والقيام بأشق الأعمال، لتوفير متطلبات الأسرة ومصروفاتها، " وهذا ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبين زوجته فاطمة رضي الله عنها " (1) ، لأن الواحد منهما لو شغل بمجموع البيت وخارجه لتعطلت مصالح الحياة، قال ابن قدامة: " ومنها التكفل بشغل الطبخ والكنس والفرش وتهذيب أسباب العيش، فإن الإنسان يتعذر عليه أكثر ذلك مع الوحدة، ولو تكفل به لضاع أكثر وقته " (2) .
والزواج يعلم الزوجين مسئولية الشرف ومفهومه وتقديره، وحمايته والحرص عليه، والتفاني في سبيله، وربما تساهل أقوام في ذلك قبل الزواج، ولكنهم إذا ولجوا الحياة الأسرية، وصار لهم أزواج وذرية، أدركوا أهمية الشرف، والغيرة عليه، وكم من الشباب كانوا متحمسين قبل زواجهم للاختلاط والسفور والفجور، فغيرهم الزواج، وعدل من نظراتهم القاصرة، وأضحوا متحمسين للشرف والعرض وضوابط المسئوليات.
كما يستشعر الآباء والأمهات - بالزواج - فضل آبائهم وأمهاتهم عليهم، وما بذلوه من مسئوليات تجاههم، ولهذا قيل: لا يعرف الأبناء فضل والديهم عليهم إلا بعد الإنجاب، وهذا يؤكد بأن الزواج مدرسة كاملة يتعلم من خلالها الزوجان معنى المسئولية، وفقه الحياة.
" وأما هؤلاء الذين يعرضون عن الزواج، ويتعللون بمتاعبه ومطالبه، وبأنه تقييد للحرية، فهم قوم جهلوا أو تجاهلوا معنى الإنسانية، وجدير بعقلاء الناس أن يضيقوا عليهم المسالك، حتى يرحلوا عن بيئات الإنسان إلى غاب
__________
(1) فتح الباري 9: 506، 507، شرح السنة 5: 108، 109، فقه السنة 2: 203.
(2) مختصر منهاج القاصدين 76 بتصرف.(33/305)
الوحش والحيوان " (1) . لأن حياتهم منحصرة في ذواتهم، واعتباراتهم منصبة على أشخاصهم، ومعلوم أن الإنسان خلق لينتفع وينفع، ولا يصح أن يكون خاليا من المسئوليات، فهو معد للقيام بوظائف الحياة العامة، ولا يصير صالحا للقيام بعناصر الحياة العامة، وهو جاهل بعناصر الحياة الأسرية الخاصة.
__________
(1) الإسلام عقيدة وشريعة 146.(33/306)
10 - تحقيق العبودية والثواب والغنى:
والزواج باب من أبواب العبودية لله تعالى، والتأسي بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو امتثال لشرع الله تعالى وطلبه من عباده، قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (1) ، وهو استجابة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النكاح من سنتي (2) » ، وعن سعيد بن أبي هلال، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة (3) » ، وعن أنس رضي الله عنه قال: «حبب إلي من دنياكم الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة (4) » .
والزواج عبادة يستكمل بها الإنسان نصف دينه، ويلقى ربه به على أحسن حال، فعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من رزقه الله امرأة صالحة، فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الآخر» ، وفي رواية أخرى: «إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله فيما بقي (5) » .
__________
(1) سورة النساء الآية 3
(2) أخرجه عبد الرزاق وابن ماجه، المصنف 6: 173 رقم 10390، سنن ابن ماجه 1: 592 رقم 1846، التلخيص الحبير 3: 116 رقم 1435، نيل الأوطار 6: 114.
(3) أخرجه عبد الرزاق، المصنف 6: 173 رقم 10391، تلخيص الحبير 3: 116 رقم 1434، نيل الأوطار 6: 113.
(4) أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي والحاكم، المسند 3: 128، سنن النسائي بشرح السيوطي 7: 61.
(5) أخرجه الحاكم والطبراني في الأوسط، المستدرك 2: 161. وانظر الجامع لأحكام القرآن 9: 327.(33/306)
والزواج باب من أبواب الأجر والثواب بالوطء، لأن فيه قضاء الوطر ونيل اللذة، والتمتع بالنعمة (1) ، وكبح جماح النفوس عن الهوى وعصمة الفروج من الوقوع في المحارم، عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر، قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر (2) » .
وهو طريق تحصيل الأجر والثواب بإنجاب الذرية الصالحة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: من صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له (3) » .
وهو طريق إلى تحصيل الأجر بالتربية والإنفاق على الزوجة والأولاد، فعن عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في في امرأتك (4) » . وفي رواية: «وإن نفقتك على عيالك صدقة، وإن ما تأكل امرأة من مالك صدقة (5) » ، وعن معديكرب الزبيدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وما أنفق الرجل على نفسه وأهله وولده وخادمه فهو صدقة (6) » ، وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان له ثلاث بنات، فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن،
__________
(1) زاد المعاد 4: 249.
(2) أخرجه أحمد ومسلم، المسند 5: 167، 168، مسلم بشرح النووي 7: 92.
(3) أخرجه مسلم وأبو داود، مسلم شرح النووي 11: 86، سنن أبي داود 3: 300 رقم 2880، شرح السنة 1: 300 رقم 139.
(4) أخرجه البخاري، فتح الباري 10: 123 رقم 5668 فضل الله الصمد 2: 218 رقم 752.
(5) أخرجه مسلم، مسلم بشرح النووي 11: 82.
(6) أخرجه ابن ماجه، سنن ابن ماجه 2: 723 رقم 2138.(33/307)
وكساهن من جدته - ماله - كن له حجابا من النار (1) » ، وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له أنثى فلم يئدها ولم يهنها، ولم يؤثر ولده عليها، أدخله الله الجنة (2) » . وهذا يؤكد بأن الزواج عبادة، وهو ما ذهب إليه الجمهور خلافا للشافعي، وهو الذي يوافق الأدلة ومقاصد الشرع، قال ابن الجوزي: " ورب جماع حدث منه ولد مثل الشافعي وأحمد بن حنبل فكان خيرا من عبادة ألف سنة ".
وهو طريق تحصيل الأجر والثواب بموت الولد والصبر عليه. فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة، بفضل رحمته إياهم (3) » . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «جاء رسول الله عليه الصلاة والسلام للنساء فوعظهن فقال: ما منكن امرأة تقدم ثلاثا إلا كانوا لها حجابا من النار، فقالت امرأة: واثنين، قال عليه الصلاة والسلام: واثنان (4) » . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «يقول الله: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، نحوه عنه عبد الرزاق، سنن أبي داود 5: 355 رقم 5147، سنن ابن ماجه 2: 1210 رقم 3669، المصنف 10: 458 رقم 15697.
(2) أخرجه أبو داود، سنن أبي داود: 354 رقم 5146.
(3) أخرجه البخاري وابن ماجه، فتح الباري ظ: 244 رقم 1381، سنن ابن ماجه 1: 512 رقم 1605، شرح السنة 5: 453 رقم 1545.
(4) أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجه، فتح الباري 3: 118 رقم 1249، مسلم بشرح النووي 16: 181، سنن ابن ماجه 1: 512 رقم 1606، شرح السنة 5: 454 رقم 1546.(33/308)
الجنة (1) » .
كما أن الزواج باب من أبواب الغنى والرزق للإنسان المتزوج، قال تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف (3) » ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا النساء فإنهن يأتينكم بالمال (4) » ، وعنه صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوا الرزق في النكاح (5) » .
وهو باب من أبواب الرزق والغنى العام في المجتمع؛ فهو يساعد على النشاط الاقتصادي، لأنه يزيد في الطلب على المعمار، وعلى المفروشات، وعلى الأواني، وعلى الخدمات، وكل هذا الأمور تعزز فاعلية الإنتاج، وتدعم القوة الشرائية، وتزيل شبح الركود الاقتصادي، وتعمل على ترتيب الحياة الاقتصادية، وهذا المعنى داخل في عموم أدلة القرآن والسنة السابقة.
__________
(1) أخرجه البخاري 11: 241 رقم 6424، شرح السنة 5: 455 رقم 1547.
(2) سورة النور الآية 32
(3) أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه، المسند 2: 251، 437، سنن النسائي بشرح السيوطي 6: 61، سنن ابن ماجه 2: 841 رقم 2518، تلخيص الحبير 3: 117.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة، والحاكم، وأبو داود في المراسيل والمصنف 4: 127، تلخيص الحبير 3: 117، نيل الأوطار 6: 114.
(5) مختصر المقاصد الحسنة 63 رقم 148.(33/309)
11 - حفظ الصحة وبركة العمر:
سبق أن أشرنا إلى أن في الزواج سعيا لتحصيل الرزق، وكفاحا لتربية الأولاد، قال ابن قدامة: " ومن فوائده أيضا، مجاهدة النفس ورياضتها بالرعاية والولاية، والقيام بحقوق الأهل، والاجتهاد في كسب الحلال والقيام(33/309)
بتربية الأولاد، وكل هذه الأعمال عظيمة الفضل، (1) .
كما أن فيه إشباعا للغريزة الجنسية، ولا يخفى ما في ذلك من دروب النشاط الجسمي وتقوية البدن، وبخاصة في نظام الحياة الإسلامي الذي يتطلب النظافة بعد العمل، وتجمل الزوجين لبعضهما بعضا، والغسل بعد الجماع، والوضوء عند معاودته، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (2) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود فليتوضأ، فإنه أنشط للعود (3) » ، وهذا كله يزيد الزوجين نضارة وشبابا وسرورا، ولهذا قيل: " ليس المهم أن تزيد العمر سنين، ولكن المهم أن تزيد السنين حياة.
كما سبق أن أشرنا إلى أن الزواج يجنب الزوجين الأمراض الجنسية التي يبتلى بها الإباحيون من جراء الزنى واللواط، كالزهري، والسيلان، والإيدز، كما جنب الزوجين الأمراض النفسية التي يبتلى بها العزاب " فإنه إذا دام احتقان الماء، أحدث أمراضا رديئة منها: الوسواس والجنون والصرع " (4) ، قال بعض السلف: " وينبغي أن لا يدع الجماع، فإن البئر إذا لم تنزح ذهب ماؤها، وقال محمد بن زكريا: " من ترك الجماع مدة طويلة، ضعفت قوى أعصابه " (5) ، ولهذا يبقى الإنسان بالزواج على حالة الاعتدال، وفي أحسن حال، قال الشيخ الطنطاوي: " من حفظ شبابه حفظ شيخوخته، ومن أضاعه أضاعها ".
وقد لحظ ابن القيم أن الزواج يحفظ الصحة ويقوي البدن، وأن كثيرا
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين 76 بتصرف.
(2) سورة المائدة الآية 6
(3) أخرجه مسلم وابن ماجه. مسلم بشرح النووي 3: 217، سنن ابن ماجه 1: 193 رقم 587، شرح السنة 2: 38 رقم 271.
(4) زاد المعاد 4: 249.
(5) زاد المعاد 4: 249، 250.(33/310)
من الناس تتعدل صحتهم بالزواج، وذكر أن " فضلاء الأطباء يرون بأن الزواج أحد أسباب حفظ الصحة " (1) . ونقل غير قول عنهم.
وهنالك آراء ودراسات تقول بأن الزواج يؤدي إلى زيادة في العمر، فقد قال أحد العلماء: " وصدقني يا بني، إن الزواج من أفضل الأمور التي تساعد على إطالة العمر " (2) ، وذكر الدكتور هافلبرج مدير مستشفى الأمراض العقلية بنيويورك: " أن عدد الذين يدخلون المستشفيات العقلية نسبتهم عادة أربعة من غير المتزوجين، إلى واحد من المتزوجين (3) ، كما جاء في أحد تقارير هيئة الأمم المتحدة حول هذا الموضوع " أن معدل الوفاة بين المتزوجين، أقل من معدل الوفاة بين غير المتزوجين " (4) ، ويشهد لهذا ظاهر حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار (5) » .
ولا يتعارض هذا مع مفهوم القضاء والقدر في الإسلام، لأنه لا مانع أن يكون الزواج سببا في طول العمر، كما كان السم سببا في الموت، والدواء سببا في الشفاء، وهذا من قبيل اكتشاف الظواهر والسنن والأسباب التي تعيننا علي فهم القضاء والقدر، لا من قبيل معارضته، فعن أبي خزامة رضي الله عنه قال: قلت: «يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال: هي من قدر الله (6) » ، وعندما
__________
(1) زاد المعاد 4: 249 وما بعدها.
(2) تحفة العروس 19. نقلا عن كتاب '' نحن المعمرون ''.
(3) تحفة العروس 19.
(4) فقه السنة 2: 515 بتصرف عن جريدة الشعب القاهرية الصادرة يوم السبت 6 \ 6 \ 1959 م.
(5) أخرجه أحمد، الفتح الرباني 19: 190، وفي مشكاة المصابيح عن سلمان الفارسي مرفوعا '' ولا يزيد العمر إلا البر '' مشكاة المصابيح 2: 693 رقم 2233 وعن ثوبان عند أحمد مثله، المسند 5: 280.
(6) أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم، المسند 3: 421، سنن ابن ماجه 2: 1137 رقم 3437، زاد المعاد 4: 14، نيل الأوطار 7: 225.(33/311)
خرج عمر رضي الله عنه إلى الشام، أخبر أن الطاعون وقع بالشام، فقالت مشيخة قريش من مهاجرة الفتح: نرى أن ترجع، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين أفرارا من قدر الله؟ قال عمر: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله (1) .
__________
(1) انظر تكملة القصة بصورة أوسع في الموطأ 2: 894، 895، زاد المعاد 4: 45.(33/312)
مراجع البحث ومصادره
(1) إحياء علوم الدين:
لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي المتوفى سنة 505 هـ - دار المعرفة - بيروت - لبنان.
(2) البداية والنهاية:
لأبي الفداء الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ مكتبة المعارف - بيروت - الطبعة الأولى 1966 م.
(3) برد الأكباد عند فقد الأولاد:
للحافظ المحدث أبي عبد الله محمد بن عبد الله المعروف بابن ناصر الدين الدمشقي المتوفى سنة 842 هـ، قدم له عبد القادر شيبة الحمد طبع عام 1400 هـ.
(4) تحفة العروس:
محمود مهدي الإستانبولي - مكتبة الحضارة - دمشق - الطبعة الثانية.
(5) تحفة المودود بأحكام المولود:
لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية 691 - 751 تحقيق عبد القادر الأرناؤوط. مكتبة دار البيان - دمشق - الطبعة الأولى 1391 هـ \ 1971 م.
(6) تربية الأولاد في الإسلام:
عبد الله ناصح علوان - دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع - حلب - الطبعة الثالثة 1401 هـ \ 1981 م.
(7) تسلية أهل المصائب:
المنجي الحلبي - دار البيان - دمشق.
(8) التفسير الكبير:
للإمام الفخر الرازي - الطبعة الثالثة - دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان.
(9) تلخيص الحبير:
للحافظ شيخ الإسلام أحمد بن علي المشهور بابن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ دار الكتب الإسلامية - لاهور - باكستان - توزيع رئاسة إدارات البحوث والإفتاء بالرياض.(33/313)
(10) الثقافة الإسلامية:
تأليف الأستاذ محمد المبارك وآخرين - الكتاب الجامعي 301 جامعة الملك عبد العزيز - جدة.
(11) جامع الأصول في أحاديث الرسول:
للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد المشهور بابن الأثير الجزري 544 - 606 هـ.
(12) الجامع لأخلاق الراوي:
للحافظ الخطيب البغدادي 392 \ 463 هـ - تحقيق د. محمود الطحان - الطبعة الأولى - 1403 هـ \ 1983 م، مكتبة المعارف - الرياض.
(13) الأسرة المسلمة والأسرة المعاصرة:
د. عبد الغني عبود - دار الفكر العربي - مصر - الطبعة الأولى 1979 م.
(14) الإسلام عقيدة وشريعة:
للإمام محمود شلتوت - دار الشروق - بيروت.
(15) الإسلام وبناء المجتمع:
د. أحمد محمد العسال - دار القلم - الكويت. الطبعة الأولى 1395 هـ \ 1975 م.
(16) الجامع لأحكام القرآن:
لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي المتوفى سنة 671 هـ، مطبعة دار الكتاب المصرية - الطبعة الأولى 1365 هـ \ 1946 م.
(17) دراسات في الثقافة الإسلامية:
مكتبة الفلاح - الكويت - الطبعة الرابعة 1405 هـ \ 1985م.
(18) زاد المعاد في هدي خير العباد:
لابن قيم الجوزية 691 - 751.
مؤسسة الرسالة - الطبعة الثالثة 1402 هـ \ 1982 م.
(19) سنن أبي داود:
للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني 202 - 275 هـ. نشر وتوزيع محمد علي السيد - حمص - سوريا. الطبعة الأولى 1388 هـ \ 1969 م.(33/314)
(20) سنن ابن ماجه:
للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني 207 - 275 تحقيق وتعليق فؤاد عبد الباقي، دار الفكر العربي - مصر.
(21) سنن الدارمي:
للحافظ أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي 181 - 255 - تحقيق السيد عبد الله هاشم - حديث أكاديمي للنشر والتوزيع - فيصل أباد - باكستان 1404 هـ \ 1984 م.
(22) سنن النسائي:
للحافظ جلال الدين السيوطي، وحاشية الإمام السندي. . دار إحياء التراث العربي - بيروت.
(23) سيرة النبي:
لأبي محمد عبد الملك بن هشام - دار الفكر 1401 هـ \ 1981 م.
(24) شرح السنة:
للإمام المحدث الفقيه أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي 436 - 516 هـ.
الطبعة الأولى 1390 هـ \ 1971 م المكتب الإسلامي - دمشق - بيروت.
(25) صيد الخاطر:
للإمام ابن الجوزي - تحقيق ومراجعة علي الطنطاوي وناجي الطنطاوي - دمشق - دار الفكر. . الطبعة الثانية 1398 هـ 1978 م.
(26) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية:
لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى 751 هـ. طبع سنة 1391 هـ \ 1971 م، المكتبة العلمية - المدينة المنورة.
(27) العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها:
سفر بن عبد الرحمن الحوالي، دار مكة للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى - 1402 هـ \ 1982 م.
(28) علم نفس النمو:
د. حامد عبد السلام زهران - عالم الكتب - القاهرة - الطبعة الرابعة 1977 م.
(29) العلم يدعو للإيمان:
تأليف أ. كريسي موريسون - ترجمة محمود صالح الفلكي - مكتبة النهضة المصرية - القاهرة، الطبعة الخامسة 1965 م.(33/315)
(30) فتح الباري بشرح صحيح البخاري:
للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني 773 - 852. توزيع رئاسة إدارات البحوث والإفتاء - الرياض - السعودية.
(31) - الفتح الرباني:
لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، وبهامشه شرحه المسمى بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا المشهور بالساعاتي.
دار الشهاب - القاهرة.
(32) فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد:
للعلامة فضل الله الجيلاني على الأدب المفرد لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. المطبعة السلفية ومكتبتها - القاهرة 1388 هـ.
(33) فقه السنة:
السيد سابق - دار الكتاب العربي - الطبعة الثانية 1392 هـ \ 1973 م، بيروت - لبنان.
(34) فهرس أحاديث المستدرك:
د. يوسف عبد الرحمن المرعشلي - دار المعرفة - بيروت - لبنان.
(35) قصص الأنبياء:
تأليف عبد الوهاب النجار - دار الفكر - بيروت.
(36) قصص القرآن:
المرحوم محمد أحمد جاد المولى - دار الإيمان - دمشق.
بيروت - الطبعة الأولى 1402 هـ \ 1981 م.
(37) كتاب المصنف في الأحاديث والآثار:
للإمام الحافظ أبي بكر بن أبي شيبة الكوفي العبسي المتوفى سنة 235 هـ، الدار السلفية - بومباي - الهند.
(38) لمحات عن منهجية الحوار والتحدي الإعجازي للإسلام:
د. رشدي فكار، مكتبة وهبة - القاهرة - الطبعة الأولى 1402 هـ \ 1982 م.
(39) المبسوط:
لشمس الأئمة أبي بكر محمد بن أحمد بن أبي سهل السرخسي المتوفى سنة 490 هـ، دار المعرفة - الطبعة الثانية - بيروت - لبنان.(33/316)
(40) مجمع الأنهر في ملتقى الأبحر:
للفقيه المحقق عبد الله بن محمد بن سليمان المعروف بداماد أفندي.
دار إحياء التراث العربي - لبنان - وبهامشه الدر المنتقى في شرح الملتقى.
(41) مختصر المقاصد الحسنة:
للإمام محمد بن عبد الباقي الزرقاني المتوفى سنة 1122 هـ، الناشر مكتب التربية العربية لدول الخليج 1401 هـ \ 1981 م.
(42) مختصر منهاج القاصدين:
للإمام الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي.
دار الإمام - مكتبة ابن تيمية.
(43) المذاهب الاقتصادية الكبرى:
جورج سول ترجمة راشد البراوي - مصر 1965 م.
(44) مسلم بشرح النووي:
للإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي 631 - 676.
توزيع رئاسة إدارات البحوث والإفتاء - الرياض - السعودية.
(45) " المسلمون ":
صحيفة أسبوعية سعودية.
(46) المسند:
للإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني المتوفى سنة 241 هـ.
(47) مشكاة المصابيح:
للشيخ محمد بن عبد الله الخطيب التبريزي المتوفى بعد 737 هـ - تحقيق ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي - الطبعة الثانية - 1399 هـ \ 1979 م.
(48) مجلة الأمة القطرية.
(49) مجلة المجتمع الكويتية.
(50) المصنف " الجامع ":
للجامع الكبير أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني 126 - 211 هـ.
الطبعة الثانية 1403 هـ \ 1983 م، المكتب الإسلامي - دمشق - بيروت.
(51) المعجم الوسيط:
مجمع اللغة العربية - القاهرة - الطبعة الثانية 1392 هـ \ 1972 م.(33/317)
(52) المغني:
لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي المتوفى سنة 620 هـ.
مكتبة الرياض الحديثة 1401 هـ \ 1981 م الرياض - السعودية.
(53) الموافقات وأصول الشريعة:
لأبي إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي الشاطبي المتوفى سنة 790 هـ - المكتبة التجارية.
(54) الموطأ:
مالك بن أنس المتوفى سنة 173 هـ دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه.
(55) النبوة والأنبياء:
للشيخ محمد علي الصابوني - مكتبة الغزالي - الطبعة الثانية 1400 هـ \ 1980 م.
(56) نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار:
للإمام محمد بن علي بن محمد الشوكاني 1172 - 1250 هـ.
الطبعة الأخيرة - مصطفى البابي الحلبي وأولاده - مصر.(33/318)
من قرارات هيئة كبار العلماء
قرار رقم 47 وتاريخ 20 \ 8 \ 1396 هـ
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
ففي الدورة التاسعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في شهر شعبان عام 1396 هـ. . جرى الاطلاع على خطاب معالي وزير العدل رقم 3231 \ 2 \ خ المبني على خطاب وكيل وزارة الخارجية رقم 34 \ 1 \ 2 \ 13446 \ 3 وتاريخ 6 \ 8 \ 1395 هـ. المشفوع به صورة مذكرة السفارة الماليزية بجدة المتضمنة استفسارها عن رأي وموقف المملكة العربية السعودية من إجراء عملية جراحية طبية على ميت مسلم وذلك لأغراض مصالح الخدمات الطبية.
كما جرى استعراض البحث المقدم في ذلك من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وظهر أن الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: التشريح لغرض التحقيق عن دعوى جنائية.
الثاني: التشريح لغرض التحقق عن أمراض وبائية لتتخذ على ضوئه الاحتياطات الكفيلة بالوقاية منها.
الثالث: التشريح للغرض العلمي تعلما وتعليما.
وبعد تداول الرأي والمناقشة ودراسة البحث المقدم من اللجنة المشار إليه أعلاه قرر المجلس ما يلي: -(33/319)
بالنسبة للقسمين الأول والثاني فإن المجلس يرى أن في إجازتهما تحقيقا لمصالح كثيرة في مجالات الأمن والعدل ووقاية المجتمع من الأمراض الوبائية، ومفسدة انتهاك كرامة الجثة المشرحة مغمورة في جنب المصالح الكثيرة والعامة المتحققة بذلك. وإن المجلس لهذا يقرر بالإجماع إجازة التشريح لهذين الغرضين سواء كانت الجثة المشرحة جثة معصوم أم لا.
وأما بالنسبة للقسم الثالث وهو التشريح للغرض التعليمي فنظرا إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتحصيل المصالح وتكثيرها. وبدرء المفاسد وتقليلها، وبارتكاب أدنى الضررين لتفويت أشدهما، وأنه إذا تعارضت المصالح أخذ بأرجحها وحيث إن تشريح غير الإنسان من الحيوانات لا يغني عن تشريح الإنسان، وحيث إن في التشريح مصالح كثيرة ظهرت في التقدم العلمي في مجالات الطب المختلفة. فإن المجلس يرى جواز تشريح جثة الآدمي في الجملة إلا أنه نظرا إلى عناية الشريعة الإسلامية بكرامة المسلم ميتا كعنايتها بكرامته حيا؛ وذلك لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كسر عظم الميت ككسره حيا (1) » . ونظرا إلى أن التشريح فيه امتهان لكرامته، وحيث إن الضرورة إلى ذلك منتفية بتيسر الحصول على جثت أموات غير معصومة فإن المجلس يرى الاكتفاء بتشريح مثل هذه الجثث وعدم التعرض لجثث أموات معصومين والحال ما ذكر. والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
محمد بن علي الحركان
عبد الله بن محمد بن حميد عبد الله خياط عبد الرزاق عفيفي
عبد المجيد حسن عبد العزيز بن صالح (غائب) عبد العزيز بن عبد الله بن باز
صالح بن غصون إبراهيم بن محمد آل الشيخ سليمان بن عبيد
محمد بن جبير عبد الله بن غديان راشد بن خنين
صالح بن لحيدان عبد الله بن منيع
__________
(1) سنن أبو داود الجنائز (3207) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1616) ، مسند أحمد بن حنبل (6/105) .(33/320)
من قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي
قرار رقم (5) بشأن أجهزة الإنعاش
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8 - 13 صفر 1407 هـ \ 11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد تداوله في سائر النواحي التي أثيرت حول موضوع " أجهزة الإنعاش " واستماعه إلى شرح مستفيض من الأطباء المختصين.
قرر ما يلي:
يعتبر شرعا أن الشخص قد مات وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعا للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين:
1 - إذا توقف قلبه وتنفسه توقفا تاما وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه.
2 - إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلا نهائيا، وحكم الأطباء الاختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه وأخذ دماغه في التحلل.
وفي هذه الحالة يسوغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص، وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلا لا يزال يعمل آليا بفعل الأجهزة المركبة، والله أعلم.(33/321)
من قرارات هيئة كبار العلماء
قرار رقم (84) وتاريخ 11 \ 11 \ 1401 هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فقد اطلع مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الثامنة عشرة المنعقدة في مدينة الطائف ابتداء من يوم السبت 29 \ 10 \ 1401 هـ إلى نهاية يوم الأربعاء الموافق 11 \ 11 \ 1401 هـ على البحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بيان حكم حد الزاني المحصن بناء على ما ورد إلى رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من بعض علماء الباكستان ورغبتهم صدور فتوى من علماء المملكة العربية السعودية تبين ثبوت أن حد الزاني المحصن الرجم لما جد لديهم عن بعض المعاصرين من تلبيس وتشكيك في هذا الحكم دون رجوع إلى البحث العلمي المعتمد على الاستدلال بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع علماء الأمة، وبعد الاطلاع على البحث المعد وما فيه من الأدلة ونقول إجماع أهل العلم المعتد بهم في هذا المجال فإن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رأى ذكر بعض النصوص من كتاب الله وسنة رسوله وبعض كلام أهل العلم في بيان هذا الحكم الذي استمر عليه العمل من حين رجم رسول الله ومعه الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا في كافة العصور التي يقضى فيها بأحكام الإسلام، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) ، وقال سبحانه:
__________
(1) سورة الحشر الآية 7(33/322)
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) ، وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) ، وقال جل من قائل: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} (3) .
وثبت في صحيح مسلم وغيره من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خذوا عني خذوا عني وقد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم (4) » ، رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم، وثبت عن عمر رضي الله عنه أنه قال: " الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف "، رواه مالك والبخاري ومسلم، وروى مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت عمر رضي الله عنه وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول: " إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، وكان مما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها - ووعيناها، «ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) » ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمن أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله في كتابه، فإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف. وايم الله لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها " وروى مالك في الموطأ من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه لما قدم المدينة من حجته خطب الناس فقال: " أيها الناس قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم
__________
(1) سورة النساء الآية 115
(2) سورة النحل الآية 44
(3) سورة النساء الآية 15
(4) صحيح مسلم الحدود (1690) ، سنن الترمذي الحدود (1434) ، سنن أبو داود الحدود (4415) ، سنن ابن ماجه الحدود (2550) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) ، سنن الدارمي الحدود (2327) .
(5) صحيح البخاري الحدود (6830) ، صحيح مسلم الحدود (1691) ، سنن الترمذي الحدود (1432) ، سنن أبو داود الحدود (4418) ، سنن ابن ماجه الحدود (2553) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، موطأ مالك الحدود (1560) ، سنن الدارمي الحدود (2322) .(33/323)
على الواضحة إلا أن تضلوا يمينا وشمالا وضرب بإحدى يديه على الأخرى، ثم قال: إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم يقول قائل: لا نجد حدين في كتاب الله فقد «رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده (1) » ، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله لكتبتها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة. فإنا قد قرأناها. قال مالك: قال يحيى بن سعيد: قال سعيد بن المسيب: فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر رضي الله عنه. قال مالك: الشيخ والشيخة: يعني الثيب والثيبة. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد ثبت في الصحاح والسنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا ورجم الغامدية، ورجم التي زنى بها العسيف حيث قال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها (2) » ، ورجم اليهودين اللذين زنيا، وتلقى الناس هذا الحكم وعملوا به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده مع خلفائه الراشدين، وعمل به المسلمون بعدهم إلى يومنا هذا في كل بلد تطبق فيه أحكام شريعة الإسلام وأجمع على هذا الحكم علماء الإسلام، فنقل الإجماع على ذلك الإمام بن المنذر وابن عبد البر وابن حزم وابن رشد وابن هبيرة في الإفصاح والموفق في المغني، ولم يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية خلافا في ذلك إلا في جمع الجلد مع الرجم كما نقل الإجماع عن ابن المنذر بهاء الدين المقدسي في شرح العمدة، وكذا نقل الإجماع ابن الهمام والرملي والشربيني وغيرهم، لم يعلم أن أحدا خالف في ذلك من أهل العلم إلا من لا يعتد بخلافهم من إحدى طوائف الضلال، وهؤلاء لا عبرة بخلافهم لإجماع علماء السلف على شفاعة بدعتهم وضلالهم. ولما تقدم يقرر المجلس أن الرجم حد ثابت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وأن من خالف في حد الرجم للزاني المحصن قد خالف بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة والتابعين وجميع علماء الأمة المتبعين لدين الله ومن خالف في هذا العصر فقد تأثر بدعايات أهل الكفر وتشكيكهم بأحكام الإسلام ليفسدوا على المسلمين أحوالهم بانتشار الفساد وشيوع الفواحش واختلاط الأنساب وكثرة البغاء حتى تذهب من نفوس المسلمين حميتهم لدينهم وغيرتهم على عقيدتهم ومكارم
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6829) ، صحيح مسلم الحدود (1691) ، سنن الترمذي الحدود (1432) ، سنن أبو داود الحدود (4418) ، سنن ابن ماجه الحدود (2553) ، مسند أحمد بن حنبل (1/56) ، سنن الدارمي الحدود (2322) .
(2) صحيح البخاري الوكالة (2315) ، صحيح مسلم الحدود (1698) ، سنن الترمذي الحدود (1433) ، سنن النسائي آداب القضاة (5411) ، سنن أبو داود الحدود (4445) ، سنن ابن ماجه الحدود (2549) ، مسند أحمد بن حنبل (4/115) ، موطأ مالك الحدود (1556) ، سنن الدارمي الحدود (2317) .(33/324)
أخلاقهم؛ ولهذا فإن من ينكر حد الرجم قد خالف الكتاب والسنة والإجماع واتبع غير سبيل المؤمنين إذ لا بقاء لدين السلام إذا ألغيت منه حدوده واستبعدت منه عقوباته التي هي العلاج الواقي من الهلاك، وقد قال عمر وهو المحدث الملهم: لا تهلكوا عن آية الرجم. فقد ترك التساهل في هذا الحد هلاكا للأمة الإسلامية إذ هو ضياع لأمرها وتسليط لأهل الفساد عليها ولا بقاء لدين استبعدت عنه أسباب حفظه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد العزيز بن صالح
عبد الله خياط عبد الله بن حميد عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد المجيد حسن محمد الحركان عبد الرزاق عفيفي
محمد بن جبير إبراهيم بن محمد آل الشيخ سليمان بن عبيد
عبد الله بن غديان صالح بن غصون راشد بن خنين
عبد الله بن قعود عبد الله بن منيع صالح بن لحيدان(33/325)
من قرارات هيئة كبار العلماء
قرار رقم (71) وتاريخ 21 \ 10 \ 1399 هـ (1) .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد. .
في الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف في المدة من العاشر من شهر شوال إلى الحادي والعشرين منه نظر المجلس فيما رفعه حسين حمزة صالح مدرس العلوم الدينية بمدرسة الإمام أبي حنيفة الابتدائية بمكة. . إلى جلالة الملك المعظم يطلب فيه المعونة في كتابة المصحف بطريقة الإملاء العادية والمحال إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم 3 \ ص \ 22035 في 22 \ 9 \ 1398 هـ. واطلع البحث الذي أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في حكم كتابة القرآن بطريقة الإملاء العادية وإن خالف ذلك الرسم العثماني.
وبعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرأي فيه. . تبين للمجلس أن هناك أسبابا تقتضي بقاء كتابة المصحف بالرسم العثماني وهي: -
1 - ثبت أن كتابة المصحف بالرسم العثماني كانت في عهد عثمان رضي الله عنه وأنه أمر كتبة المصحف أن يكتبوه على رسم معين، ووافقه الصحابة وتابعهم التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا هذا، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي (2) » ، فالمحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم هو المتعين اقتداء بعثمان وعلي وسائر الصحابة وعملا بإجماعهم.
2 - أن العدول عن الرسم العثماني إلى الرسم الإملائي الموجود حاليا بقصد تسهيل القراءة يفضي إلى تغيير آخر إذا تغير الاصطلاح في الكتابة؛ لأن الرسم الإملائي نوع من الاصطلاح قابل للتغيير باصطلاح آخر. . وقد
__________
(1) سبق نشر البحث المتعلق بهذا القرار في العدد السادس من مجلة البحوث الإسلامية من ص 12 إلى ص 49.
(2) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(33/326)
يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف أو زيادتها أو نقصها فيقع الاختلاف بين المصاحف على مر السنين ويجد أعداء الإسلام مجالا للطعن في القرآن الكريم. وقد جاء الإسلام بسد ذرائع الشر ومنع أسباب الفتن.
3 - ما يخشى من أنه إذا لم يلزم الرسم العثماني في كتابة القرآن أن يصير كتاب الله ألعوبة بأيدي الناس كلما عنت لإنسان فكرة في كتابته اقترح تطبيقها فيقترح بعضهم كتابته باللاتينية أو غيرها، وفي هذا ما فيه من الخطر، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح.
وبناء على هذه الأسباب اتخذ المجلس القرار التالي:
يرى مجلس هيئة كبار العلماء أن يبقى رسم المصحف على ما كان بالرسم العثماني. ولا ينبغي تغييره ليوافق قواعد الإملاء الحديثة محافظة على كتاب الله من التحريف. . واتباعا لما كان عليه الصحابة وأئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين. . والله الموفق، وصلى الله على نبينا محمد. .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد الله بن حميد
محمد بن علي الحركان عبد الرزاق عفيفي عبد العزيز بن عبد الله بن باز
سليمان بن عبيد عبد الله خياط عبد العزيز بن صالح (غائب)
راشد بن خنين محمد بن جبير (له وجهة نظر) إبراهيم بن محمد آل الشيخ (غائب)
عبد الله بن غديان صالح بن غصون عبد المجيد حسن
عبد الله بن قعود عبد الله بن منيع صالح بن لحيدان(33/327)
وجهة نظر عضو هيئة كبار العلماء محمد بن إبراهيم بن جبير حول موضع كتابة المصحف حسب قواعد الإملاء الحديثة - الذي بحثه مجلس الهيئة في دورته الرابعة عشر المنعقد في مدينة الطائف شهر شوال عام 1399 هـ.
بعد اطلاعي على البحث القيم الذي استوفى جميع أطراف الموضوع والمعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء أثابها الله وبارك في جهودها.
وبعد المناقشة التي تمت في مجلس الهيئة برئاسة سماحة الشيخ \ عبد الله بن حميد حول موضوع:
كتابة المصحف بغير الرسم العثماني، وحيث إن الحديث عن هذا الموضوع قديم. . بحثه الأئمة رحمهم الله قبل أكثر من ألف سنة وحكموا بما ظهر لهم من التحريم أو الكراهية أو الجواز وصنفوا في ذلك المصنفات العديدة، ولا زال بحث هذا الموضوع يتكرر بين آونة وأخرى إلى يومنا هذا.
وحيث إن قراءة القرآن من المصحف المكتوب بالرسم العثماني على وجه الصواب ستكون خاصة بمن يتلقاه عن القراء، أما الصغار فسوف يكون تعليمهم من تلك المصاحف عسيرا.
لذلك فإنني أرى أن تطبع المصاحف بالرسم العثماني حفظا لهذا الأثر العظيم الذي هو أصل - ديننا على أن يعاد طبع الكلمات بالرسم الإملائي المعتاد على الهامش في حيز خاص وذلك تسهيلا لتعلم الصغار وقراءة الكبار الذين لم يتلقوا القرآن عن قارئ.
وبهذا نجمع بين حفظ أهم شيء في تاريخ ديننا وبين تسهيل التعليم وعدم اشتباه القارئين، والله الموفق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
عضو هيئة كبار العلماء
محمد بن إبراهيم بن جبير(33/328)
من قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي
القرار الثاني
حكم تغيير رسم المصحف العثماني
الحمد لله وحده والصلاة السلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. . أما بعد: -
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع على خطاب الشيخ هاشم وهبة عبد العال من جدة الذي ذكر فيه موضوع (تغيير رسم المصحف العثماني إلى الرسم الإملائي) وبعد مناقشة هذا الموضوع من قبل المجلس واستعراض قرار هيئة كبار العلماء بالرياض رقم (71) وتاريخ 21 \ 10 \ 1399 هـ.
الصادر في هذا الشأن وما جاء فيه من ذكر الأسباب المقتضية بقاء كتابة المصحف بالرسم العثماني وهي: -
1 - ثبت أن كتابة المصحف بالرسم العثماني كانت في عهد عثمان رضي الله عنه وأنه أمر كتبة المصحف أن يكتبوه على رسم معين ووافقه الصحابة وتابعهم التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا هذا، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي (1) » ، فالمحافظة على كتابة المصحف بهذا الرسم هو المتعين اقتداء بعثمان وعلي وسائر الصحابة وعملا بإجماعهم.
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(33/329)
2 - أن العدول عن الرسم العثماني إلى الرسم الإملائي الموجود حاليا بقصد تسهيل القراءة يفضي إلى تغيير آخر إذا تغير الاصطلاح في الكتابة؛ لأن الرسم الإملائي نوع من الاصطلاح قابل للتغيير باصطلاح آخر. . وقد يؤدي ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف أو زيادتها أو نقصها فيقع الاختلاف بين المصاحف على مر السنين ويجد أعداء الإسلام مجالا للطعن في القرآن الكريم. وقد جاء الإسلام بسد ذرائع الشر ومنع أسباب الفتن.
3 - ما يخشى من أنه إذا لم يلزم الرسم العثماني في كتابة القرآن أن يصير كتاب الله ألعوبة بأيدي الناس كلما عنت لإنسان فكرة في كتابته اقترح تطبيقها، فيقترح بعضهم كتابته باللاتينية أو غيرها، وفي هذا ما فيه من الخطر، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح.
وبعد اطلاع مجلس المجمع الفقهي الإسلامي على ذلك كله قرر بالإجماع تأييد ما جاء في قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية من عدم جواز تغيير رسم المصحف العثماني، ووجوب بقاء رسم المصحف العثماني على ما هو عليه ليكون حجة خالدة على عدم تسرب أي تغيير أو تحريف في النص القرآني، واتباعا لما كان عليه الصحابة وأئمة السلف رضوان الله عليهم أجمعين. أما الحاجة إلى تعليم القرآن وتسهيل قراءته على الناشئة التي اعتادت الرسم الإملائي الدارج، فإنها تتحقق عن طريق تلقين المعلمين، إذ لا يستغني تعليم القرآن في جميع الأحوال عن معلم، فهو يتولى تعليم الناشئين قراءة الكلمات التي يختلف رسمها في المصحف العثماني عن رسمها في قواعد الإملاء الدارجة، ولا سيما إذا لوحظ أن تلك الكلمات عددها قليل وتكرار ورودها في القرآن كثير ككلمة (الصلوة) و (السموات) ونحوها، فمتى تعلم الناشئ الكلمة بالرسم العثماني سهل عليه قراءتها كلما تكررت في المصحف، كما يجري مثل ذلك تماما في رسم كلمة (هذا) و (ذلك) في قواعد الإملاء الدارجة أيضا.(33/330)
والله ولي التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
[توقيع] [توقيع]
نائب الرئيس رئيس مجلس المجمع الفقهي
د. عبد الله عمر نصيف عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الأعضاء
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
عبد الله العبد الرحمن البسام صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان محمد بن عبد الله بن سبيل
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
مصطفى أحمد الزرقاء محمد محمود الصواف صالح بن عثيمين
[لم يحضر] [توقيع] [توقيع]
محمد سالم عدود محمد رشيد قباني محمد الشاذلي النيفر
[توقيع] [توقيع] [توقيع]
أبو بكر جومي عبد القدوس الهاشمي محمد رشيدي
[لم يحضر] [لم يحضر] [لم يحضر]
محمود شيت خطاب أبو الحسن على الحسني الندوي حسنين محمد مخلوف
[لم يحضر] [توقيع]
مبروك العوادي محمد أحمد قمر مقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي(33/331)
صفحة فارغة(33/332)
نصح وتذكير بفريضة الزكاة
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد: -
فإن الباعث لكتابة هذه الكلمة هو النصح والتذكير بفريضة الزكاة التي تساهل بها الكثير من المسلمين فلم يخرجوها على الوجه المشروع من عظم شأنها، وكونها أحد أركان الإسلام الخمسة التي لا يستقيم بناؤها إلا عليها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت (1) » متفق على صحته.
وفرض الزكاة على المسلمين من أظهر محاسن الإسلام ورعايته لشئون معتنقيه لكثرة فوائدها، ومسيس حاجة فقراء المسلمين إليها فمن فوائدها تثبيت أواصر المودة بين الغني والفقير، لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
ومنها تطهير النفس وتزكيتها، والبعد بها عن خلق الشح والبخل كما أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) .
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .
(2) سورة التوبة الآية 103(33/333)
ومنها تعويد المسلم صفة الجود والكرم والعطف على ذي الحاجة.
ومنها استجلاب البركة والزيادة والخلف من الله كما قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (1) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: يقول الله عز وجل: «يا ابن آدم أنفق ننفق عليك (2) » . .، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة.
وقد جاء الوعيد الشديد في حق من بخل بها أو قصر في إخراجها، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (3) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (4) ، فكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة، كما دل على ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار (5) » ، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الإبل والبقر والغنم الذي لا يؤدي زكاتها وأخبر أنه يعذب بها يوم القيامة.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامه، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: (7) » .
__________
(1) سورة سبأ الآية 39
(2) صحيح البخاري النفقات (5352) ، صحيح مسلم الزكاة (993) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3045) ، سنن ابن ماجه المقدمة (197) ، مسند أحمد بن حنبل (2/313) .
(3) سورة التوبة الآية 34
(4) سورة التوبة الآية 35
(5) صحيح مسلم الزكاة (987) ، سنن أبو داود الزكاة (1658) ، مسند أحمد بن حنبل (2/262) .
(6) صحيح البخاري الزكاة (1403) ، صحيح مسلم الزكاة (987) ، سنن النسائي الزكاة (2482) ، سنن أبو داود الزكاة (1658) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1786) ، مسند أحمد بن حنبل (2/355) ، موطأ مالك الزكاة (596) .
(7) سورة آل عمران الآية 180 (6) {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}(33/334)
والزكاة تجب في أربعة أصناف: الخارج من الأرض من الحبوب والثمار، والسائمة من بهيمة الأنعام والذهب، والفضة، وعروض التجارة.
ولكل من هذه الأصناف الأربعة نصاب محدود لا تجب الزكاة فيما دونه، فنصاب الحبوب والثمار خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون مقدار النصاب بصاع النبي صلى الله عليه وسلم من التمر والزبيب والحنطة والأرز والشعير ونحوها ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم وهو أربع حفنات بيدي الرجل المعتدل الخلقة إذا كانت يداه مملوءتين، والواجب في ذلك العشر إذا كانت النخيل والزروع تسقى بلا كلفة كالأمطار والأنهار والعيون الجارية ونحو ذلك، أما إذا كانت تسقى بمئونة وكلفة كالسواني والمكائن الرافعة للماء ونحو ذلك فإن الواجب فيها نصف العشر كما صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما نصاب السائمة من الإبل والبقر والغنم، ففيه تفصيل مبين في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي استطاعة الراغب في معرفته سؤال أهل العلم عن ذلك، ولولا، قصد الإيجاز لذكرناه لتمام الفائدة.
وأما نصاب الفضة فمائة وأربعون مثقالا، ومقداره بالدراهم العربية السعودية ستة وخمسون ريالا. ونصاب الذهب عشرون مثقالا، ومقداره من الجنيهات السعودية أحد عشر جنيها وثلاثة أسباع الجنيه، وبالغرام اثنان وتسعون غراما، والواجب فيهما ربع العشر على من ملك نصابها منهما أو من أحدهما وحال عليه الحول، والربح تابع للأصل فلا يحتاج إلى حول جديد، كما أن نتاج السائمة تابع لأصله فلا يحتاج إلى حول جديد إذا كان أصله نصابا.
وفي حكم الذهب والفضة الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس اليوم سواء سميت درهما أو دينارا أو دولارا أو غير ذلك من الأسماء إذا بلغت قيمتها نصاب الفضة أو الذهب وحال عليها الحول وجبت فيها الزكاة. ويلتحق بالنقود حلي النساء من الذهب أو الفضة خاصة إذا بلغت النصاب وحال(33/335)
عليها الحول فإن فيها الزكاة، وإن كانت معدة للاستعمال أو العارية في أصح قولي العلماء، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب أو فضة لا يؤدي زكاتها إلا إذا كانت يوم القيامة صفحت له صفائح من نار (1) » ، إلى آخر الحديث المتقدم. ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه رأى بيد امرأة سوارين من ذهب فقال: أتعطين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فألقتهما، وقالت: هما لله ولرسوله (2) » . أخرجه أبو داود والنسائي بسند حسن. وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أنها «كانت تلبس أوضاحا من ذهب فقالت: يا رسول الله كنز هو؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ما بلغ أن يزكى فزكي فليس بكنز (3) » . مع أحاديث أخرى في هذا المعنى.
أما العروض وهي السلع المعدة للبيع فإنها تقوم في آخر العام ويخرج ربع عشر قيمتها سواء كانت قيمتها مثل ثمنها أو أكثر أو أقل، لحديث سمرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع (4) » ، رواه أبو داود ويدخل في ذلك الأراضي المعدة للبيع والعمارات - والسيارات والمكائن الرافعة للماء وغير ذلك من أصناف السلع المعدة للبيع أما العمارات المعدة للإيجار لا للبيع، فالزكاة في أجورها إذا حال عليها الحول، أما ذاتها فليس فيها زكاة لكونها لم تعد للبيع، وهكذا السيارات الخصوصية والأجرة ليس فيها زكاة إذا كانت لم تعد للبيع وإنما اشتراها صاحبها للاستعمال. وإذا اجتمع لصاحب سيارة الأجرة أو غيره نقود تبلغ النصاب فعليه زكاتها إذا حال عليها الحول، سواء كان أعدها للنفقة أو للتزوج أو لشراء عقار أو لقضاء دين أو غير ذلك من المقاصد، لعموم الأدلة الشرعية الدالة على وجوب الزكاة في مثل هذا. والصحيح من أقوال العلماء أن الدين لا يمنع الزكاة لما تقدم.
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (987) ، سنن أبو داود الزكاة (1658) ، مسند أحمد بن حنبل (2/384) ، موطأ مالك كتاب الجهاد (975) .
(2) سنن النسائي الزكاة (2479) ، سنن أبو داود الزكاة (1563) ، مسند أحمد بن حنبل (2/204) .
(3) سنن أبو داود الزكاة (1564) .
(4) سنن أبو داود الزكاة (1562) .(33/336)
وهكذا أموال اليتامى والمجانين تجب فيها الزكاة عند جمهور العلماء إذا بلغت النصاب وحال عليها الحول، ويجب على أوليائهم إخراجها بالنية عنهم عند تمام الحول، لعموم الأدلة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ لما بعثه إلى أهل اليمن: «إن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم (1) » .
والزكاة حق الله لا تجوز المحاباة بها لمن لا يستحقها، ولا أن يجلب الإنسان بها لنفسه نفعا أو يدفع ضرا، ولا أن يقي بها ماله أو يدفع بها عنه مذمة. بل يجب على المسلم صرف زكاته لمستحقيها لكونهم من أهلها لا لغرض آخر مع طيب النفس بها والإخلاص لله في ذلك حتى تبرأ ذمته ويستحق جزيل المثوبة والخلف.
وقد أوضح الله سبحانه في كتابه الكريم أصناف أهل الزكاة، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2) .
وفي ختم هذه الآية الكريمة بهذين الاسمين العظيمين تنبيه من الله سبحانه لعباده على أنه سبحانه هو العليم بأحوال عباده ومن يستحق منهم للصدقة ومن لا يستحق، وهو الحكيم في شرعه وقدره فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها وإن خفي على بعض الناس بعض أسرار حكمته، ليطمئن العباد لشرعه ويسلموا لحكمه.
والله المسئول أن يوفقنا والمسلمين للفقه في دينه والصدق في معاملته، والمسابقة إلى ما يرضيه، والعافية من موجبات غضبه إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1395) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(2) سورة التوبة الآية 60(33/337)
صفحة فارغة(33/338)
وجوب التعاون على البر والتقوى
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله محمد وآله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد. . .
فإن التعاون على البر والتقوى كلمة جامعة تجمع الخير كله، والمسلمون والحمد لله ممن يهتم ويعمل لتحقيق هذا الهدف، وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بالتعاون على البر والتقوى ونهاهم عن التعاون على الإثم والعدوان حيث قال سبحانه وتعالى في سورة المائدة: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) .
فجدير بكل مسلم وكل مسلمة في أنحاء الدنيا أن يحققوا هذا العمل وأن يعنوا به كثيرا لأن ذلك يترتب عليه بتوفيق الله صلاح المجتمع وتعاونه على الخير وابتعاده عن الشر وإحساسه بالمسئولية ووقوفه عند الحد الذي ينبغي أن يقف عنده.
وقد جاء في هذا المعنى نصوص كثيرة منها قوله عز وجل:
{وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) فهذه السورة العظيمة القصيرة
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(33/339)
اشتملت على معان عظيمة في جملتها التواصي بالحق وهو التعاون على البر والتقوى، والرابحون السعداء في كل زمان وفي كل مكان هم الذين حققوا هذه الصفات الأربع التي دلت عليها هذه السورة، وهم الناجون من جميع أنواع الخسران. فينبغي لكل مسلم أن يحققها وأن يلزمها وأن يدعو إليها وهي الإيمان بالله ورسوله إيمانا صادقا يتضمن الإخلاص لله في العبادة وتصديق أخباره سبحانه، ويتضمن الشهادة له بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وتصديق أخباره عليه الصلاة والسلام كما يتضمن العمل الصالح. فإن الإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية عند أهل السنة والجماعة - فالإيمان الصادق يتضمن قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، وعمل القلب بمحبة الله والإخلاص له وخوفه ورجائه والشوق إليه ومحبة الخير للمسلمين مثل دعائهم إليه كما يتضمن العمل الصالح بالجوارح وهو قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعاصي كما تقدم - ثم يتضمن أمرا ثالثا وهو التواصي بالحق وهو داخل في العمل الصالح، وداخل في الإيمان، ولكن نبه الله عليه فأفرده بالذكر بيانا لعظم شأنه فإن التواصي له شأن عظيم وهو التعاون على البر والتقوى والتناصح في الله وإرشاد العباد إلى ما ينفعهم ونهيهم عما يضرهم، وكذا يدخل في الإيمان أيضا. الأمر الرابع وهو التواصي بالصبر فاشتملت هذه السورة العظيمة على جميع أنواع الخير وأصوله وأسباب السعادة. . فالتعاون على البر والتقوى معناه التعاون على تحقيق الإيمان قولا وعملا وعقيدة فالبر والتقوى عند اقترانهما يدلان على أداء الفرائض وترك المحارم، فالبر هو أداء الفرائض واكتساب الخير والمسارعة إليه وتحقيقه والتقوى ترك المحارم ونبذ الشر وعند إفراد أحدهما عن الآخر يشمل الدين كله. فالبر عند الإطلاق هو الدين كله والتقوى عند الإطلاق هي الدين كله كما قال عز وجل: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (2) وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (3) - والتعاون على
__________
(1) سورة البقرة الآية 177
(2) سورة البقرة الآية 177
(3) سورة البقرة الآية 189(33/340)
البر والتقوى هو تعاون على تحقيق ما أمر الله به ورسوله قولا وعملا وعقيدة وعلى ترك ما حرم الله ورسوله قولا وعملا وعقيدة، وكل إنسان محتاج إلى هذا التعاون أينما كان ذكرا كان أو أنثى حيث تحصل له السعادة العاجلة والآجلة بهذا التعاون والنجاة في الدنيا والآخرة والسلامة من جميع أنواع الهلاك والفساد، وعلى حسب صدق العبد في ذلك وإخلاصه يكون حظه من هذا الربح وعلى حسب تساهله في ذلك يكون نصيبه من الخسران، فالكل بالكل والحصة بالحصة، فمن لم يقم بهذه الأمور الأربعة علما وعملا فاته الخير كله ونزل به الخسران كله، ومن فاته شيء من ذلك ناله من الخسران بقدر ما فاته من تحقيق هذه الأمور الأربعة.
ولا ريب أن أهل العلم أولى الناس بتحقيق هذه الأمور، وذلك بالتعاون على البر والتقوى عن إيمان وصدق وإخلاص وصبر ومصابرة لأن العامة قد لا يستطيعون ذلك لعدم فقههم وعلمهم ولا يستطيعون إلا الشيء اليسير من ذلك على حسب علمهم، ولكن أهل العلم لهم القدرة على ذلك أكثر من غيرهم، وكلما زاد العلم بالله وبرسوله وبدينه زاد الواجب وزادت المسئولية. وفي هذا المعنى يقول عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} (1) الآية، فكون بعضهم أولياء بعض يقتضي التناصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه والحذر من كل ما يخالف هذه الولاية ويضعفها - فالمؤمن ولي أخيه وولي أخته في الله والمؤمنة كذلك ولية أختها في الله وولية أخيها في الله وهذا واجب على الجميع، وعلى كل منهم أن يدل أخاه على الخير وينصح له ويحذره من كل شر، وبذلك تتحقق الولاية منك لأخيك بالتعاون معه على البر والتقوى والنصيحة له في كل شيء تعلم أنه من الخير وتكره له كل شيء تعلم
__________
(1) سورة التوبة الآية 71(33/341)
أنه من الشر، وتعينه على الخير وعلى ترك الشر وتفرح بحصوله على الخير، ويحزنك أن يقع في الشر لأنه أخوك - ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1) » متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه، ويقول عليه الصلاة والسلام أيضا: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه (2) » متفق عليه، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام أيضا «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى (3) » متفق عليه - فهذه الأحاديث الثلاثة وما جاء في معناها أصول عظيمة في وجوب محبتك لأخيك كل خير وكراهتك له كل شر ونصيحتك له أينما كان وأنه وليك وأنك وليه، كما قال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (4) ، وفي هذا المعنى أيضا ما رواه مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم (5) » ، وفي هذا الحديث العظيم إخبار النبي عليه الصلاة والسلام أن الدين كله النصحية، والنصح هو الإخلاص في الشيء وعدم الغش والخيانة فيه.
فالمسلم لعظم ولايته لأخيه ومحبته لأخيه ينصح له ويوجهه إلى كل ما ينفعه ويراه خالصا لا شائبة فيه ولا شيء فيه - ومن ذلك قول العرب: ذهب ناصح، يعني سليما من الغش، ويقال: عسل ناصح، أي سليم من الغش والشمع - وفي هذا المعنى أيضا ما رواه الشيخان من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (6) » .
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (13) ، صحيح مسلم الإيمان (45) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2515) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5016) ، سنن ابن ماجه المقدمة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (3/272) ، سنن الدارمي الرقاق (2740) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (481) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2585) ، سنن الترمذي البر والصلة (1928) ، سنن النسائي الزكاة (2560) ، مسند أحمد بن حنبل (4/405) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(4) سورة التوبة الآية 71
(5) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(6) صحيح البخاري الزكاة (1401) ، صحيح مسلم الإيمان (56) ، سنن الترمذي البر والصلة (1925) ، سنن النسائي البيعة (4175) ، مسند أحمد بن حنبل (4/357) ، سنن الدارمي البيوع (2540) .(33/342)
فالواجب على العلماء وطلبة العلم إدراك هذا المعنى والعمل به بصفة أخص من غيرهم لعلمهم وفضلهم وكونهم خلفاء الرسل في بيان الحق والدعوة إليه والنصح لله ولعباده؛ فإنه لا يستوي من يعلم ومن لا يعلم كما قال عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) .
وأنصح الناس للناس هم الرسل عليهم الصلاة والسلام والأنبياء ثم بعدهم العلماء فهم ورثة الأنبياء وهم خلفاؤهم في الخيروالنصح والدعوة إلى الله والصبر على الأذى والتحمل - ومن الولاية والنصح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا قال الله عز وجل في الآية السابقة: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) ، ومن ذلك الدعوة إلى الخير والإرشاد إليه وتعليم الجاهل وإرشاد الضال إلى طريق الصواب كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) فليس هناك أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله وقرن ذلك بالعمل الصالح ويقول عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (4) ، وقد بين سبحانه في موضع آخر أنه لا بد من العلم لأن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على علم حتى لا يضر نفسه ولا يضر الناس كما قال سبحانه وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (5) ، فالداعي إلى الله والدال على الخير يجب أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه وفيما ينهى عنه وقد بين الرسول أن الداعي إلى الله له مثل أجور من هداه الله على يديه - وهذا خير عظيم - يقول عليه الصلاة والسلام: «من دل على خير له مثل أجر فاعله (6) » أخرجه مسلم في صحيحه، ويقول عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم
__________
(1) سورة الزمر الآية 9
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) سورة النحل الآية 125
(5) سورة يوسف الآية 108
(6) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .(33/343)
شيئا، ومن دعا إلى ضلال كان عليه من الإثم مثل إثم من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (1) » رواه مسلم أيضا - وفي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه لما بعثه إلى خيبر: «ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه (2) » ثم قال له: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (3) » ، وهذا خير عظيم - والمعنى أن ذلك خير من الدنيا كلها، لكن لما كانت العرب تعظم الإبل الحمر وتراها أفضل أصوافا مثل بها عليه الصلاة والسلام.
فالمسلمون في حاجة شديدة إلى الإخلاص في هذا الأمر والنشاط فيه والصبرعليه لهذه النصوص التي وردت وغيرها مع الصدق والتحري في الخير والعناية بالأسلوب الحسن والتواضع واستحضار أن العبد على خطر عظيم فهو يدعو إلى الله وينشر الخير وينصح ويعين على البر والتقوى مع التواضع وعدم التكبر وعدم العجب، ولا يرى نفسه أبدا إلا على خطر ويحثها على كل خير ويراقبها ويحذر من شرها ولا يعجب بعمله ولا يمن به ولا يتكبر بذلك ولا يفخر على الناس، بل يرى أن المنة لله عليه في ذلك كما قال سبحانه وتعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (4) ، فالتعاون على البر والتقوى والتناصح يقتضي الدعوة إلى الخير والإعانة عليه فهو أيضا يقتضي التحذير من الشر وعدم التعاون مع أهل الشر، فلا تعن أخاك على ما يغضب الله عليه ولا تعنه على أي معصية بل تنصح له في تركها وتحذره من شرورها، وهذا من البر والتقوى، وإذا أعنته على المعصية وسهلت له سبيلها كنت ممن تعاون معه على الإثم والعدوان سواء كانت المعصية عملية أو قولية كالتهاون بالصلاة أو بالزكاة أو
__________
(1) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(3) صحيح البخاري المناقب (3701) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .
(4) سورة الحجرات الآية 17(33/344)
بالصيام أو حج البيت أو بعقوق الوالدين أو أحدهما أو بقطيعة الرحم أو بحلق اللحى أو بإسبال الثياب أو بالكذب والغيبة والنميمة أو السباب واللعنة أو بغير هذا من أنواع المعاصي القولية والفعلية عملا بقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ويدخل في الإثم جميع المعاصي.
أما العدوان فهو التعدي لحدود الله والتعدي على الناس أو التعدي على ما فرض الله بالزيادة أو النقص، والبدعة من العدوان لأنها زيادة على ما شرع الله، فيسمى المبتدع متعديا، والظالم للناس متعديا، والتارك لما أنزل الله آثما متعديا لأمر الله، فاقتراف المعاصي إثم، والتعدي على ما فرض الله والزيادة على ما فرض الله والظلم لعباد الله عدوان منهي عنه، داخل في الإثم كما قال تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) ، ثم ختم الله الآية بأمره سبحانه وتعالى بالتقوى والتحذير من شدة العقاب، فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) والمعنى احذروا مغبة التعاون على الإثم والعدوان وترك التعاون على البر والتقوى ومن العاقبة في ذلك شدة العقاب لمن خالف أمره وارتكب نهيه وتعدى حدوده.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا جميعا وسائر المسلمين للتعاون على البر والتقوى والصدق في ذلك وأن نبدأ بأنفسنا لأن الداعي إلى الله قدوة وطالب العلم قدوة فعليه أن يحاسب نفسه في كل شيء ويجاهدها في عمل كل خير ويترك كل شر حتى يكون أجدى لدعوته. وأنفع لنصحه وأكمل في تلقي الناس لنصيحته والانتفاع بدعوته وإرشاده وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
والله ولي التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان. .
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة المائدة الآية 2(33/345)
حديث شريف
عن عبد الرحمن بن يزيد قال: دخلت مع علقمة والأسود على عبد الله فقال عبد الله: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم شبابا لا نجد شيئا فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (1) »
رواه البخاري
__________
(1) صحيح البخاري النكاح (5066) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي النكاح (3207) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2166) .(33/346)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} (1)
سورة الأنعام، الآية 70
__________
(1) سورة الأنعام الآية 70(34/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(34/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(34/3)
المحتويات
الافتتاحية:
حول اجتياح حاكم العراق للكويت سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة:
حكم إقامة المسافر اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 33
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 79
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 133(34/4)
البحوث:
وجوب الرفق بالحيوان الشيخ عبد الله بن حمد العبودي 149
بيان الحكمة في التشريع الإسلامي محمد محمد شتا أبو سعد 169
وسطية أهل السنة في القدر د. عواد عبد الله المعتق 213
بعض ما يلاحظ على كتاب (مفتاح كنوز السنة) محمد عبد الله حياني 253
من قرارات هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية 297
نصيحة للدعاة وطلبة العلم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 309
نصيحة في فضل صلاة الاستسقاء سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 313
فضل صيام رمضان وقيامه مع بيان أحكام مهمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 317(34/5)
صفحة فارغة(34/6)
الافتتاحية
عن اجتياح حاكم العراق للكويت
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. . أما بعد:
فإن الله جل وعلا وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، يبتلي عباده بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، حتى يميز الخبيث من الطيب، وحتى يتضح أهل الإيمان والتقوى، من أهل النفاق والزيغ، والكفر والضلال، وحتى يتبين الصابرون المجاهدون من غيرهم، وحتى يظهر للناس من يريد الحق، ويطلب إقامته، ممن يريد خلاف ذلك، قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (1) . ومعنى الفتنة هنا الاختبار والامتحان، ليتبين بعد الامتحان الصادقون من الكاذبين، والأبرار من الفجار، والأخيار من الأشرار، وطالب الحق من طالب غيره. ويرجع من أراد الله له السعادة إلى ما عرفه صح الحق، ويستمر من سبقت له الشقاوة في باطله وضلاله، قال جل وعلا: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) . ومعنى بلوناهم: اختبرناهم بالحسنات بالنعم من العز والظهور في الأرض، والمال والثروة، وغير هذا مما يعتبر من النعم. والسيئات يعني المصائب التي تصيب الناس من فقر وحاجة وخوف وحروب وغير ذلك " لعلهم يرجعون " المعنى ليرجعوا إلى الحق
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 35
(2) سورة الأعراف الآية 168(34/7)
والصواب، ويستقيموا على الهدى، وقال جل وعلا: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) يعني اتقوها بالعمل الصالح والاستقامة على طاعة الله والجهاد في سبيله، ولزوم الحق.
والفتنة يدخل فيها الحروب، ويدخل فيها الشبهات، التي يزيغ بها كثير عن الحق، ويدخل فيها الشهوات المحرمة، إلى أنواع أخرى من الفتن.
فأهل الإيمان يتقونها بطاعة الله ورسوله، والفقه في الدين، والإعداد لها قبل وقوعها، حتى إذا وقعت فإذا هم على بينة وبصيرة، وعلى عدة، ويقول جل وعلا: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) المعنى: أنه شديد العقاب لمن خالف أمره، وارتكب نهيه، ولم ينقد لشرعه سبحانه، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (3) . فالإنسان يفتن بالمال والولد، ويمتحن فإن اتقى الله في المال والولد فله السعادة، وإن مال مع المال إلى الشهوات المحرمة، وإيثار العاجلة هلك. وهكذا إن مال مع الولد إلى ما حرم الله، وإلى متابعة الهوى هلك مع من هلك.
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (4) ، ومعنى ولنبلونكم: لنختبرنكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم حتى نعلم علما ظاهرا، والله سبحانه يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، وقد سبق علمه بكل شيء، كما قال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (5) .
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (6) . فهو سبحانه وتعالى عليم بكل شيء، ولكنه يبلوهما حتى يعلم المجاهدين منهم، والصابرين علما
__________
(1) سورة الأنفال الآية 25
(2) سورة الأنفال الآية 25
(3) سورة التغابن الآية 15
(4) سورة محمد الآية 31
(5) سورة الطلاق الآية 12
(6) سورة العنكبوت الآية 62(34/8)
ظاهرا يشاهده الناس، ويعلمه الناس، ويعلمه هو سبحانه علما ظاهرا موجودا، بعدما كان في الغياب، يعلمه ظاهرا موجودا في الوجود، وهذا هو معنى قوله سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} (1) نعلمه علما ظاهرا موجودا في العالم.
وفي الحادي عشر من المحرم من السنة الهجرية 1411 هـ، الثاني من أغسطس من الشهور الميلادية 1990 م، جرى ما جرى من عدوان حاكم العراق على دولة الكويت المجاورة له، واجتاحها بجيوشه المدمرة الظالمة، واستحل الدماء والأموال وانتهك الأعراض، وشرد أهل البلاد، وجرت فتنة عظيمة بسبب هذا الظلم والعدوان، واستنكر العالم هذا البلاء، وهذا الحدث الظالم، وحشد الجيوش على الحدود السعودية. وبذل الناس الجهود الكبيرة من رؤساء الدول، ومن مجلس الأمن، ومن غيرهم لحاكم العراق ليخرج من هذا الظلم، ويسحب جيشه من هذه البلاد التي احتلها ظلما، فلم يستجب، وأصر على ظلمه وعدوانه لحكمة بالغة {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (2) له سبحانه الحكمة البالغة في كل شيء، قد سبق في علمه جل وعلا، أنه لا بد من حرب، وأن هذا البلاء الذي وقع، لا يتخلص منه بمجرد الحلول السلمية، وهو القائل سبحانه في كتابه العظيم: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (3) ، ويقول سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (4) ونرجو أن يكون فيما وقع الخير، وأن يكون في ذلك الخير لنا وللمسلمين جميعا، والشر على أعداء الإسلام، لأنه سبحانه أعلم وأحكم، ونرجو أن يكون فيما حدث عظة لنا ولغيرنا في الرجوع إلى الله والاستقامة على دينه، وحساب النفوس وجهادها لله، والإعداد الكامل لأعدائنا أعداء الإسلام.
__________
(1) سورة محمد الآية 31
(2) سورة الأنعام الآية 128
(3) سورة النساء الآية 19
(4) سورة البقرة الآية 216(34/9)
فالامتحان يفيد المؤمنين والعقلاء، ويوجب حساب النفس وجهادها، ويوجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه، ويجاهدها لله، وأن يستقيم على أمره، وأن يتباعد عن نهيه، ويوجب على الدول الإسلامية أن تحاسب أنفسها أيضا، وأن تستقيم على دين الله. ومتى استقام العباد على الحق، وأصلحوا أنفسهم، وجاهدوها لله، وبذلوا المستطاع في نصر الحق، يسر الله أمورهم، ونصرهم على عدوهم، كما قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) . ويقول سبحانه وتعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2) .
ويقول سبحانه وبحمده: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) .
ويقول سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (5) .
يعني بسبب إيمانهم الصادق، وعملهم الصالح يستخلفون في الأرض ويمكن الله لهم دينهم ويبدلهم من بعد خوفهم أمنا.
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الروم الآية 47
(3) سورة الحج الآية 40
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة النور الآية 55(34/10)
فالواجب هو الاستقامة على أمر الله، وعلاج الفتن بما أمر الله به من التقوى والاستقامة والجهاد الصادق والإخلاص لله والصبر والمصابرة. . هكذا يجب.(34/10)
وقد بين الله لعباده أسباب النجاة، ووسائل النصر، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (3) .
فأمرهم سبحانه عند لقاء الأعداء وعند وجود العدوان، وعند مباشرة الجهاد بصفات عظيمة:
أولها: الثبات على الحق والاستقامة عليه، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (4) فالثبات على الحق لا بد منه، والصبر عليه كما في الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5) .
وأهل الإيمان لا تشغلهم الشدائد عن الحق، بل يلزمون الحق في الشدة والرخاء.
والثاني: ذكر الله جل وعلا: ذكر الله بالقلب واللسان والعمل: بالقلب تعظيما له سبحانه، ومحبة له وخوفا منه، وثقة به، وإخلاصا له، واعتمادا عليه سبحانه وتعالى، وإيمانا بأنه الناصر، والنصر من عنده، كما قال سبحانه: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (6) ، وإنما الأسباب تعين على ذلك، فما شرع الله من إعداد وسلاح وغير ذلك من الأسباب، كلها تعين على ذلك، وهي بشرى من عند الله، كما قال الله عندما أمد رسوله صلى الله عليه وسلم بالملائكة: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (7) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 45
(2) سورة الأنفال الآية 46
(3) سورة الأنفال الآية 47
(4) سورة الأنفال الآية 45
(5) سورة آل عمران الآية 200
(6) سورة الأنفال الآية 10
(7) سورة الأنفال الآية 10(34/11)
وفي آية آل عمران: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (1) .
فالمؤمن عند الشدائد يذكر الله ويعظمه، ويعلم أنه الناصر، وأنه الضار النافع، وأن بيده كل شيء، فبيده سبحانه الضر والنفع، وبيده سبحانه العز والنصر، وبيده جل وعلا تصريف الأمور لا يغيب عن علمه شيء ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى.
وعلق على ذلك الفلاح فقال عز من قائل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) فبذكر الله بالقلب واللسان والعمل الفلاح والظفر والخير كله.
فالمؤمنون في الشدة والرخاء يلزمون ذكر الله وتعظيمه والإخلاص له وإقامة حقه وترك معصيته، فيذكرون الله بإقامة الصلوات والمحافظة عليها وحفظ الجوارح عن ما حرم الله، وحفظ اللسان عن ما حرم الله، وذلك بأداء الحقوق، والكف عما حرم الله، إلى غير ذلك مما يرضيه سبحانه، ويباعد عن غضبه.
وذكر الله سبحانه يكون بالقلب واللسان والعمل كما تقدم، وفي ذلك الفلاح والفوز والسعادة والظفر.
- ثم قال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (3) هذه هي الصفة الثالثة، وطاعة الله ورسوله هي من ذكر الله جل وعلا، ولكن نص عليها لعظمها وذلك بفعل الأوامر، وترك النواهي في الجهاد وغيره.
- ثم ذكر جل وعلا الصفة الرابعة وهي: الالتفاف والاجتماع والتعاون وعدم الفشل، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (4)
__________
(1) سورة آل عمران الآية 126
(2) سورة الأنفال الآية 45
(3) سورة الأنفال الآية 46
(4) سورة الأنفال الآية 46(34/12)
فالواجب على المسلمين التعاون والاتفاق والصدق في جهاد الأعداء، وإخراج الظلمة مما وقعوا فيه، لا بد من الاتفاق والصبر وذكر الله، والتعاون ضد العدو. والعدو قد يكون مسلما، وقد يكون كافرا، وقد يكون مسلما باغيا، وقد أمر الله بقتال الباغي حتى يفيء إلى أمر الله، كما قال جل وعلا: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (1) . هذا إن كان مؤمنا، فكيف إذا كان كافرا بعثيا ظالما. ومعنى حتى تفيء إلى أمر الله: حتى ترجع إلى الحق وترد ما ظلمت وتستقيم مع العدالة.
- ثم قال سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) وهذه صفة خامسة فلا بد من الصبر في جهاد الأعداء وقتالهم، وبذل المستطاع في ذلك، وقال سبحانه في آية البقرة في صفة المؤمنين: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} (3) يعني حين القتال، ثم قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (4) وقال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (5) ، والصبر أنواع ثلاثة:
- صبر على طاعة الله بالجهاد وأداء الحقوق.
- وصبر عن معاصي الله بالكف عن ما حرم الله قولا وعملا.
- ونوع ثالث هو: الصبر على قضاء الله وقدره، مما يصيب الناس من جراح أو قتل أو مرض أو غير ذلك، لا بد من الصبر وتعاطي أسباب النصر، وأسباب العافية.
- ثم ذكر سبحانه وتعالى صفة سادسة وسابعة فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} (6) أي لا تكونوا في جهادكم متكبرين ولا مرائين، بل يجب على المؤمنين في جهادهم لعدوهم الإخلاص لله،
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) سورة الأنفال الآية 46
(3) سورة البقرة الآية 177
(4) سورة البقرة الآية 177
(5) سورة النحل الآية 127
(6) سورة الأنفال الآية 47(34/13)
والصدق والتواضع وسؤاله النصر جل وعلا.
- وقد ذكر الله أمرا ثامنا وحذر منه، وهو الصد عن سبيل الله، وهو من صفة أعداء الله، فهم يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا. أما المؤمنون فيجاهدون في تواضع لله مخلصين له سبحانه، لا متكبرين ولا مرائين، يدعون إلى سبيل الله من صد عنه، يدعون الناس إلى الحق والهدى، وإلى طاعة الله ورسوله. . هكذا المؤمنون الصادقون أينما كانوا.
وهذه الفتنة أعني عدوان حاكم العراق، على الكويت، قد اشتبه فيها الأمر على بعض الناس، إذ ظن بعض الناس أن الأولى فيها الاعتزال، وعدم القتال مع هؤلاء أو هؤلاء، وهذا قد جرى في أول فتنة وقعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الفتنة التي وقعت بين أهل الشام وأهل العراق بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه الذي قتل ظلما من فئة بغت عليه، وتعدت والتبست عليها الأمور، ودخل فيها من هو حاقد على الإسلام، والتبست الأمور على بعض الناس حتى اشتبهت الأمور، وبقتل عثمان رضي الله عنه ظلما وعدوانا حصل بسبب ذلك فتنة عظيمة، فبايع الناس عليا رضي الله عنه بالخلافة، وقام معاوية رضي الله عنه وجماعة يطالبون بدم عثمان، وبايعه كثير من الناس على ذلك، وعظمت الفتنة واشتدت البلية، وانقسم المسلمون قسمين بسبب هذه الفتنة: طائفة انحازوا إلى معاوية رضي الله عنه، وهم أهل الشام يطالبون عليا رضي الله عنه بتسليم القتلة.
وطائفة أخرى هم علي رضي الله عنه وأصحابه طلبوا من معاوية وأصحابه الهدوء والصبر، وبعد تمام الأمر واستقرار الخلافة ينظر في أمر القتلة.
واشتد الأمر، وجرى ما جرى من حرب الجمل وصفين، وظن بعض الناس في ذلك الوقت أن الأولى عدم الدخول في هذه الفتنة، واعتزل بعض الصحابة ذلك، فلم يكونوا مع علي ولا مع معاوية.
والفتنة اليوم كذلك حصل فيها اشتباه، لأن وقوع الفتن يسبب اشتباها كثيرا على الناس، وليس كل إنسان عنده العلم(34/14)
الكافي بما ينبغي أن يفعل. فقد يقع له شبه تحول بينه وبين فهم الصواب. وهذه الفتنة التي وقعت الآن ليست مما يعتزل فيها، لأن الحق فيها واضح، والقاعدة أن الفتنة التي ينبغي عدم الدخول فيها هي المشتبهة التي لا يتضح فيها الحق من الباطل، والتي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به (1) » رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا، ويصبح كافرا. فالقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم واضربوا بسيوفكم الحجارة فإن دخل على أحدكم فليكن كخير ابني آدم (2) » رواه ابن ماجه وأبو داود (3) . فهذه الفتن التي تشتبه، ولا يتضح للمؤمن فيها الحق من الباطل، هي التي يشرع البعد عنها وعدم الدخول فيها.
أما ما ظهر فيه الحق، وعرف فيه المحق من المبطل، والظالم من المظلوم. فالواجب أن ينصر المظلوم، ويردع الظالم، ويردع الباغي عن بغيه، وينصر المبغي عليه، ويجاهد الكافر المعتدي، وينصر المظلوم المعتدى عليه، وفي هذا المعنى يقول الله سبحانه وتعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4) .
ويقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (5) ، ثم شرحها للناس، فقال سبحانه: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (7)
__________
(1) صحيح البخاري الفتن (7081) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2886) ، مسند أحمد بن حنبل (2/282) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (118) ، سنن الترمذي الفتن (2195) ، مسند أحمد بن حنبل (2/390) .
(3) والنص لابن ماجه جـ 2 ص 1310، وعند أبي داود جـ 4 ص 754.
(4) سورة التوبة الآية 41
(5) سورة الصف الآية 10
(6) سورة الصف الآية 11
(7) سورة الصف الآية 12(34/15)
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (1) .
فهذا وعده سبحانه لمن جاهد في سبيله ونصر الحق في هذه الآيات الكريمات، وفي قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) وصفها بهذا الوصف العظيم إنها تجارة، وأنها تنجي من عذاب أليم، ثم فسرها بقوله سبحانه: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (3) ومعلوم أن الجهاد من الإيمان ولكنه خصه بالذكر لعظم شأنه ومسيس الحاجة إلى بيان فضله. فقال سبحانه وتعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (4) ، بدأ بالأموال لعظم شأنها، وعموم نفعها في شراء السلاح، وتجهيز المجاهدين، وإطعامهم. ولذلك بدأ بالمال قبل النفس في أكثر الآيات. لأن نفعه أوسع، ثم قال سبحانه وبحمده: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) . ثم فسر بعد ذلك الخير المذكور بقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (6) . كل هذا من ثواب الجهاد، ثم قال جل وعلا: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (7) وقال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (8) .
__________
(1) سورة الصف الآية 13
(2) سورة الصف الآية 10
(3) سورة الصف الآية 11
(4) سورة الصف الآية 11
(5) سورة الصف الآية 11
(6) سورة الصف الآية 12
(7) سورة الصف الآية 13
(8) سورة التوبة الآية 111(34/16)
وقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (1) يعني حتى ترجع للحق، " فإن فاءت " أي رجعت للحق، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2) .
هذا بالنسبة للمؤمنين كما جرى يوم الجمل وصفين في القتال بين المؤمنين، فقد أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى الحق، وبعد الرجوع إلى الحق ينظر في المسائل المشكلة، وتحل بالصلح والعدل، الذي شرعه الله في قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} (3) أي بالطرق الحكيمة الشرعية التي جعلها الله وسيلة لحل النزاع. و"أقسطوا" يعني اعدلوا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (4) هذا في المؤمنين، تقاتل الفئة الباغية، وهي مؤمنة حتى ترجع فكيف إذا كانت الطائفة الباغية ظالمة كافرة، كما هو الحال في حاكم العراق، فهو بعثي ملحد، ليس من المؤمنين، وليس ممن يدعو للإيمان والحق، بل يدعو إلى مبادئ الكفر والضلال، وبدأ يتمسح بالإسلام لما جرى ما جرى، فأراد أن يلبس على الناس، ويدعو إلى الجهاد كذبا وزورا ونفاقا.
ولو كان صادقا لترك الظلم، وترك البلاد لأهلها، وأعلن توبته إلى الله من مبادئه الإلحادية، وطريقته التي يمقتها الإسلام ولعمل بمصدر التشريع في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وحينئذ تحل المشكلات بالطرق السلمية بعد ذلك.
أما أن يدعو إلى الجهاد، وهو مقيم على الظلم والعدوان، والتهديد لجيرانه، فكيف يكون هذا الجهاد الظالم؟ وهذا الجهاد الكاذب والنفاق الذي يريد به التلبيس؟!
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) سورة الحجرات الآية 9
(3) سورة الحجرات الآية 9
(4) سورة الحجرات الآية 9(34/17)
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: أن تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه (1) » .
وذكر البراء رضي الله عنه نصر المظلوم في الحديث الصحيح المتفق عليه، وهو قوله رضي الله عنه: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع وذكر منها نصر المظلوم (2) » فنصر المظلوم واجب ومتعين على كل من استطاع ذلك، فإذا كان الظلم عظيما كان الواجب أشد. وإذا كان الظلم لفئات كثيرة، وأمة عظيمة ويخشى من ورائه ظلم آخر، وشر آخر. صار الواجب أشد وأعظم في نصر المظلوم، وفي جهاد الظالم حتى لا تنتشر الفتنة التي قام بها، وحتى لا يعظم الضرر به، باجتياحه بلادا أخرى، ولو فعل ذلك لكان الأمر أشد وأخطر، ولكانت الفتنة به أعظم وأسوأ عاقبة، ولربما جرت أمور أخرى لا يعلم خطرها إلا الله.
ولعظم الأمر وخطورته اضطرت المملكة العربية السعودية إلى الاستنصار بالجنسيات المتعددة من الدول الإسلامية وغيرها، لعظم الخطر، ووجوب الدفاع عن البلاد وأهلها، واتقاء شر هذا الظالم المجرم الملحد، وقد وفقها الله في ذلك والحمد لله على ما حصل، ونسأل الله أن يجعل العاقبة حميدة، وأن يخذل الظالم، ويسلط عليه من يكف ضرره، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يهزم جمعه، ويشتت شمله، ويقينا شره وشر أمثاله، وأن ينفع بهذه الجهود، وأن يدير دائرة السوء على المعاندين والظالمين، وأن يكتب النصر لأوليائه المؤمنين، وأن يرد هذه الجنود التي تجمعت لردع هذا الظالم إلى بلادها، ويقينا شرها، فهي جاءت لأمر واحد، وهو الدفاع عن هذه البلاد وإخراج هذا الجيش الظالم من الكويت، لما في التساهل في هذا الأمر وعدم المبادرة من الخطر العظيم، لأن الظالم لديه جيش كثير مدرب، حارب به ثمان سنين لجارته إيران، وتجمع لديه جيش كثيف، ولديه نية سيئة وخبث عظيم وقد يسر الله برحمته اجتماع جيوش عظيمة لحربه ورده عن ظلمه، ولتنصر المظلوم وتعيد الحق إلى أصحابه.
__________
(1) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .
(2) صحيح البخاري الأشربة (5635) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2066) ، سنن الترمذي الأدب (2809) ، سنن النسائي الجنائز (1939) ، مسند أحمد بن حنبل (4/284) .(34/18)
وأسأل الله جل وعلا أن ينفع بالأسباب ويحسن العاقبة للمظلومين. ويجعلها للجميع عظة وذكرى، والله جل وعلا يقول: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) . فالحكومة السعودية مضطرة، ودول الخليج كذلك، إلى الاستعانة بالقوات الإسلامية والأجنبية لردع الظالم، والقضاء عليه، وإخراجه بالقوة من هذه البلاد التي احتلها، لما أبى وعاند، ولم ينقد لدعاة الحق وخروجه سلما من البلاد التي احتلها، وانسحابه عن الحدود السعودية، ثم تكون المفاوضة بعد ذلك، في مطالبه من جيرانه، فلما أبى واستكبر وعاند وركب رأسه، ولم يراع حق الجوار، ولاحق الإسلام، ولاحق الإحسان، وجب أن يقاتل وأن يجاهد، ووجب على الدولة أن تفعل ما تستطيع من الأسباب التي تعينها على قتاله وجهاده، ونسأل الله أن ينفع بهذه الأسباب، وأن ينصر الحق وحزبه، ويخذل الباطل وأهله، وأن يرد المظلومين إلى بلادهم موفقين ومهديين وأن يخذل الظالم، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يهزم جمعه، ويشتت شمله، وأن يقينا شر هذه الفتنة، وأن يجعلها موعظة للمؤمنين جميعا.
ونسأل الله أن يجعلها سببا للرجوع إلى الله والاستقامة على دينه، وإعداد العدة الكافية لجهاد أعدائه.
فالمسلمون يستفيدون من الفتن والمحن الفوائد المطلوبة، ومن ذلك أن يحاسب كل واحد منا نفسه، وأن يجاهدها لله، حتى تستقيم على الحق، وحتى يدع ما حرم الله عليه، فإن الطاعات من الجيش المجاهد من أسباب النصر، والمعاصي من أسباب الخذلان.
فعلى المجاهدين، وعلى المظلومين أن يصبروا ويصابروا، وأن يتقوا الله، وأن يستقيموا على دينه، وأن يحافظوا على حقه، وأن يتواصوا بالحق والصبر عليه، وبذلك يوفقون، ويحصل لهم النصر المؤزر، قال تعالى في كتابه العظيم: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (2) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119
(2) سورة آل عمران الآية 120(34/19)
فمتى صبر المسلمون واتقوا ربهم، فإنه لا يضرهم كيد الأعداء، وإن جرت عليهم المحن، وإن قتل بعضهم، وإن جرح بعضهم، وإن أصابتهم شدة، فلا بد أن تكون لهم العاقبة الحميدة، بوعد الله الصادق وفضله العظيم. كما قال سبحانه وتعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (1) . وقال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (2) . وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) . وقال سبحانه وبحمده: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (5) .
فيجب علينا جميعا رجالا ونساء، في هذه البلاد وغيرها، وعلى جميع المسلمين في كل مكان أن يستقيموا على دينه، وأن يحافظوا على أوامره، وينتهوا عن نواهيه، وأن يصدقوا في جهاد الأعداء، ومنها جهاد هذا العدو الظالم، حاكم العراق وجنده الظالم، وأن يكونوا يدا واحدة ضد هذا العدو الغاشم، الكافر وحزبه الملحد.
__________
(1) سورة هود الآية 49
(2) سورة طه الآية 132
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة الطلاق الآية 4(34/20)
ومن أسباب النصر تطبيق شريعة الله وتحكيمها في كل شيء، فالواجب على الدول الإسلامية والمنتسبة للإسلام أن تحاسب أنفسها، وأن تجاهد في الله جهاد الصادقين، وأن تحكم شريعة الله في جميع شئونها، فهي سفينة النجاة، كما أن سفينة نوح جعلها الله سفينة النجاة لأهل الأرض كلهم من الغرق، كذلك شريعة الله التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الشريعة الإسلامية، هي سفينة النجاة لأهل الأرض كلهم أيضا، من استقام عليها، وحافظ عليها، كتبت له النجاة في الدنيا والآخرة، وإن أصابه بعض ما قدره الله عليه، مما يكره من شدة أو حرب أو غير ذلك، فإن له النجاة والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة.(34/20)
فالمؤمنون من قوم نوح عليه الصلاة والسلام عندما أصابتهم الشدة، أمرهم الله سبحانه بركوب السفينة، ونجاهم الله بسبب إيمانهم، وإتباعهم لنوح عليه الصلاة والسلام.
فهكذا المؤمنون في كل زمان، لا بد لهم من صبر على الشدائد، واستقامة على الحق حتى يأتيهم الفرج من الله سبحانه، كما قال تعالى في سورة فصلت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (1) {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (2) {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (3) ، وقال سبحانه في سورة الأحقاف: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (4) {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5) .
فالواجب على جميع المسلمين في الجزيرة العربية وفي غيرها، تقوى الله سبحانه وتعالى رجالا ونساء، حكاما ومحكومين، وأن يستقيموا على دينه، وأن يحاسبوا أنفسهم من أين أصيبوا، فما أصابنا شيء مما نكره إلا بسبب معصية اقترفناها، كما قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (6) .
وهذا الذي وقع بسبب تقصيرنا وسيئاتنا، فيجب علينا أن نرجع إلى الله، وأن نحاسب أنفسنا، وأن نجاهدها لله، وأن نستقيم على حقه، وأن نحذر معصيته، وأن نتواصى بالصبر، حتى ينصرنا الله، ويكفينا شر أنفسنا، وشر أعدائنا، كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (7) . وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (8) .
__________
(1) سورة فصلت الآية 30
(2) سورة فصلت الآية 31
(3) سورة فصلت الآية 32
(4) سورة الأحقاف الآية 13
(5) سورة الأحقاف الآية 14
(6) سورة الشورى الآية 30
(7) سورة آل عمران الآية 120
(8) سورة المائدة الآية 2(34/21)
وقال سبحانه وبحمده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال عز من قائل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2) {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (3) ، وقال سبحانه وتعالى في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ} (4) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (5) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6) .
فهؤلاء هم الرابحون في كل مكان، وفي كل عصر، بإيمانهم العظيم، وعملهم الصالح، وتواصيهم بالحق والصبر عليه.
وهذه الفتنة هذا هو علاجها كما هو علاج كل فتنة بالصبر على الحق والجهاد والثبات عليه بشتى الوسائل الممكنة بالسلاح الممكن، والنصيحة الممكنة، وبكل طريقة أباحها الله، وشرعها لحل المشكلات، وردع الظالم، وإحقاق الحق.
وإذا خاف المظلوم من أن يغلب، واستعان بمن يأمنهم في هذا الأمر، وعرف منهم النصرة، فلا مانع من الاستنصار ببعض الأعداء الذين هم في صفنا ضد عدونا، ولقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل الخلق بالمطعم بن عدي لما مات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان كافرا وحماه من قومه، لما كان له من شهرة وقوة وشعبية. فلما توفي أبو طالب وخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى الله، لم يستطع الرجوع إلى مكة، خوفا من أهل مكة، إلا بجوار المطعم بن عدي وهو من رءوس الكفار، واستنصر به في تبليغ دعوة الله، واستجار به فأجاره ودخل في جواره.
وهكذا عندما احتاج إلى دليل يدله على طريق المدينة استأجر شخصا من
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة الحج الآية 40
(3) سورة الحج الآية 41
(4) سورة العصر الآية 1
(5) سورة العصر الآية 2
(6) سورة العصر الآية 3(34/22)
الوثنيين ليدله إلى المدينة، لما أمنه على هذا الأمر.
ولما احتاج إلى اليهود بعد فتح خيبر، ولاهم نخيلها وزروعها بالنصف يزرعونها للمسلمين والمسلمون مشغولون بالجهاد لمصلحة المسلمين، ومعلوم عداوة اليهود للمسلمين، وكذلك لما احتاج إليهم عليه الصلاة والسلام وأمنهم ولاهم على نخيل خيبر وزروعها.
فالعدو إذا كان في مصلحتنا، وضد عدونا فلا حرج علينا أن نستعين به ضد عدونا، وفي مصلحتنا حتى يخلصنا الله من عدونا، ثم يرجع عدونا إلى بلاده.
ومن عرف هذه الحقيقة، وعرف حال الظالم وغشمه، وما يخشى منه من خطر عظيم، وعرف الأدلة الشرعية، اتضح له الأمر.
ولهذا درست هيئة كبار العلماء هذا الحادث، وتأملوه من جميع الوجوه، وقرروا أنه لا حرج فيما فعلت الدولة من هذا الاستنصار، للضرورة إليه، وشدة الحاجة إلى إعانتهم للمسلمين، وللخطر العظيم الذي يهدد البلاد لو استمر هذا الظالم في غشمه، واجتياحه للبلاد، وربما ساعده قوم آخرون وتمالأوا معه على الباطل.
فالأمر في هذا جلل وعظيم، ولا يفطن إليه إلا من نور الله بصيرته، وعرف الحقائق على ما هي عليه، وعرف غشم الظالم، وما عنده من القوة التي نسأل الله أن يجعلها ضده، وأن يهلكه ويكبته، وأن يكفينا شره وشر كل الأعداء، وأن يولي على العراق رجلا صالحا يحكم فيه بشرع الله، وينفذ في شعبه أمر الله، كما نسأله سبحانه أن يقيهم شر هذا الحاكم الظالم العنيد، الذي عذبهم وآذاهم وعذب المسلمين وأحدث هذه الفتنة، وجر المسلمين إلى خطر عظيم.
نسأل الله أن يعامله بعدله، وأن يقضي عليه، وأن يريح المسلمين من فتنته، وأن يجعل العاقبة الحميدة لعباده المسلمين، وأن يرد المظلومين إلى بلادهم، وأن(34/23)
يصلح حالهم، وأن يقيم فيهم أمر الله، وأن يقينا وإياهم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وقد رأيت أن أبسط القول في هذه المسألة، لإيضاح الحق، وبيان ما يجب أن يعتقد في هذا المقام، وبيان صحة موقف الدولة فيما فعلت، لأن أناسا كثيرين التبس عليهم الأمر في هذه الحالة، وشكوا في حكم الواقع وجوازه بسبب الضرورة والحاجة الشديدة، لأنهم لم يعرفوا الواقع كما ينبغي، ولعظم خطر هذا الظالم الملحد. . أعني حاكم العراق صدام حسين.
ولهذا اشتبه عليهم هذا الأمر، وظنوا واعتقدوا صحة ما فعله لجهلهم، ولالتباس الأمر عليهم، وظنهم أنه مسلم يدعو إلى الإسلام بسبب نفاقه وكذبه.
وربما كان بعضهم مأجورا من حاكم العراق، فتكلم بالباطل والحقد، لأنه شريك له في الظلم، وبعضهم جهل الأمر، وجهل الحقيقة، وتكلم بما تكلم به أولئك الظالمون، جهلا منه بالحقيقة، والتبست عليه الأمور.
هذا هو الواقع، وهو أن هذا الظالم اعتدى وظلم، وأصر على عدوانه، ولم يفئ إلى ترك الظلم. . والله سبحانه وتعالى قد أمرنا أن نقاتل الفئة الظالمة، ولو كانت مؤمنة حتى تفيء إلى أمر الله. فكيف إذا كانت الفئة الباغية كافرة ملحدة، فهي أولى بالقتال، وكفها عن الظلم، ونصر الفئة المظلومة المبغي عليها بما يستطيعه المسلمون من أسباب النصر والردع للظالم. . وقد حاول معه الناس ستة أشهر، وطلبوا منه أن يراجع نفسه ويخرج عن الكويت، ويرجع عن ظلمه وبغيه فأبى، فلم يبق إلا الحرب، ودعت الضرورة إلى الاستعانة بمن هو أقوى من المبغي عليه، على حرب هذا العدو الغاشم، حتى تجتمع القوى في حربه وإخراجه.
نسأل الله أن يقضي عليه، ويرد كيده في نحره، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يكفي المسلمين شره وشر غيره وأن ينصرهم على أعدائهم، ويصلح حالهم، وأن يمنحهم الاستقامة على دينه، إنه سميع قريب.(34/24)
ومن الواجب على الجميع الاتعاظ بهذه الفتنة والاستفادة منها في إصلاح أحوالنا، والاستقامة على طاعة الله ورسوله، وأن نحاسب أنفسنا حتى نستقيم على الحق وندع ما سواه.
فالله سبحانه يجعل البلايا عظة وعبرة لمن يشاء، كما قال جل وعلا:
{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (1) ، وقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) .
كما نسأل الله سبحانه أن يجعل في هذه الحرب خيرا لنا، وأن يجعل عاقبتها حميدة.
__________
(1) سورة النساء الآية 19
(2) سورة البقرة الآية 216(34/25)
ويجب ألا ننسى ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم الأحزاب، وهم خير الناس، فقد تجمعت عليهم الأحزاب الكافرة، وجاءتهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، بقوة قوامها عشرة آلاف مقاتل، وحاصروا المدينة وقال أهل النفاق: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (1) هكذا ذكر الله عنهم سبحانه في سورة الأحزاب في قوله عز وجل: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (2) . حتى نصر الله نبيه، وأرسل الرياح التي أكفأت قدورهم، وقلعت خيامهم، وشردتهم كل مشرد، فرجعوا خائبين والحمد لله أبعد الشدة العظيمة التي وقعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
وهكذا يوم أحد حين تجمع الكفار، وأغاروا على المدينة وحاصروها، وجرى ما جرى من جروح، وقتل لمن قتل من الصحابة، حتى أنزل نصره وتأييده وسلم الله المسلمين، وأدار على أعدائه دائرة السوء، ورجعوا إلى مكة صاغرين، وأنجى
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 12
(2) سورة الأحزاب الآية 12(34/25)
الله نبيه بعدما قتل سبعون من الصحابة، وجرح النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة كثيرة من أصحابه. واجتهد المشركون في قتله فوقاه الله شرهم.
ولما أستنكر المسلمون هذا الحدث قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} (1) يعني "يوم بدر {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (2) الآية.
ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو والمسلمون أصابهم ما أصابهم يوم أحد بسبب أمر فعله الرماة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسكوا ثغرا، وهو جبل الرماة، ولا يتركوه حتى لا يدخل منه جيش العدو، فلما رأى الرماة أن العدو قد أنكشف وانهزم، ظنوا أنها الفيصلة، فتركوا الثغر وصاروا يجمعون الغنيمة، وتركوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل العدو من ذلك الثغر، وحصل ما حصل من الهزيمة والمصيبة العظيمة على المسلمين، فأنزل الله قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} (3) يعني تقتلونهم" {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} (4) أي من الهزيمة للعدو، يعني بذلك الرماة، فشلوا وتنازعوا وتركوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يصبروا، وعندما وقع منهم هذا سلط الله عليهم العدو وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (5) .
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصيبهم مثل هذه الهزيمة والقتل والجراح، بسبب ما وقع من بعضهم من الذنوب، فكيف بحالنا؟
فالواجب على أهل الإسلام أينما كانوا، أن يحاسبوا أنفسهم، وأن يجاهدوها في الله، ويتفقدوا عيوبهم، ويتوبوا إلى الله منها، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (6) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 165
(2) سورة آل عمران الآية 165
(3) سورة آل عمران الآية 152
(4) سورة آل عمران الآية 152
(5) سورة آل عمران الآية 165
(6) سورة الحشر الآية 18(34/26)
والمعنى انظروا ما قدمتم للآخرة، فإن كنتم قدمتم أعمالا خيرة فاحمدوا الله عليها واسألوه الثبات وإن كنتم قدمتم أعمالا سيئة فتوبوا إلى الله منها وارجعوا إلى الحق والصواب.
فالواجب على أهل الإيمان أينما كانوا أن يتقوا الله دائمآ، ويحاسبوا أنفسهم دائما، ولا سيما وقت الشدائد وعند المحن كحالنا اليوم، يجب الرجوع إلى الله والتوبة إليه، وحساب النفس وجهادها لله، وما سلط علينا هذا العدو، إلا بذنوبنا، فلا بد من جهاد النفس، ولا بد من الضراعة إلى الله، وسؤال الله سبحانه وتعالى أن ينصرنا على عدونا، وأن يذل عدونا وأن يكفينا شره وشر أنفسنا وشر الشيطان.
ولا بد من الضراعة إلى الله وسؤاله التأييد كما قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} (1) فلا بد من الضراعة إلى الله وسؤاله جل وعلا النصر.
والنبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ليلة الواقعة قام يناجي ربه، ويدعوه ويبكي، ويسأل ربه النصر حتى جاءه الصديق رضي الله عنه بعدما سقط رداؤه، وقال حسبك يا رسول الله، إن الله ناصرك، إن الله مؤيدك، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الناس، وسيد ولد آدم يتضرع إلى الله، فكيف بحالنا ونحن في أشد الضرورة إلى التوبة إلى الله، وإلى البكاء من خشيته، وإلى طلب النصر منه سبحانه وتعالى في ليلنا ونهارنا.
فالغفلة شرها عظيم، والمعاصي خطرها كبير. . فالواجب الإقلاع منها والتوبة إلى الله سبحانه، فالذي عنده تساهل في الصلاة يجب أن يحافظ عليها، ويبادر إليها، ويصلي في الجماعة، والذي يتعامل بالربا، يجب أن يترك ذلك وأن يتوب إلى الله منه، والذي عنده عقوق لوالديه يتقي الله ويبر والديه، والقاطع لأرحامه يتقي الله ويصل أرحامه، والذي يشرب المسكر يتقي الله ويقلع عن ذلك، ويتوب إلى الله، والذي يغتاب الناس يحذر ذلك، ويحفظ لسانه ويتقي الله.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 43(34/27)
وهكذا يحاسب كل إنسان نفسه في كل عيوبه، ويتقي الله، وهكذا الموظف المقصر في وظيفته وفي أمانته يتقي الله ويؤدي حق الله، وحق عباده وهكذا الرؤساء كل واحد منهم سواء كان ملكا أو رئيس جمهورية أو وزيرا، كل واحد منهم عليه أن يحاسب نفسه لله، ويجاهدها لله، ويتوب إلى الله سبحانه من سيئ عمله. وهكذا كل موظف، كل جندي عليه أن يجاهد نفسه ويطيع الله ورسوله، ويطيع رئيسه في المعروف، ويتوب إلى الله من سيئات عمله، وتقصيره.
وهذا كله من أسباب النصر، والعاقبة الحميدة، فلا بد من الصدق مع الله وجهاد النفس، والتوبة الصادقة، من سائر الذنوب، من الرؤساء والمرؤوسين.
ولا بد من الدعاء والضراعة إلى الله ونطلب منه النصر والتأييد والعون على العدو، وسؤال الله أن يخذل العدو، ويرد كيده في نحره، ولا بد مع ذلك من الأسباب الحسية من قوة وجيش وسلاح، كما قال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) ، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (2) . فيجب على أهل الإيمان أن يعدوا العدة المناسبة لجهاد الأعداء بكل ما يستطيعون، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (3) فعلى المسلمين أن يعدوا ما استطاعوا من القوة: من السلاح والرجال والتدريب، فإذا فعلوا ذلك كفاهم الله شر عدوهم، وجاءهم النصر من الله، يقول الله سبحانه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4) ، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (5) ، ويقول سبحانه وبحمده: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (6) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2) سورة النساء الآية 71
(3) سورة الأنفال الآية 60
(4) سورة البقرة الآية 249
(5) سورة محمد الآية 7
(6) سورة آل عمران الآية 120(34/28)
كما يجب على المسلم أن يلح في الدعاء، ويسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1) . وقال جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (2) ، وقال سبحانه وتعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (3) .
فعلينا أن نلح في الدعاء، ولا نستبطئ الإجابة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح، يقول صلى الله عليه وسلم: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم أره يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء (4) » .
فلا ينبغي للمؤمن أن يدع الدعاء وإن تأخرت الإجابة، فالله حكيم عليم، في تأخير الإجابة يؤخرها سبحانه لحكم بالغة، حتى يتفطن الإنسان لأسباب التأخير، ويحاسب نفسه، ويجتهد في أسباب القبول من التوبة النصوح، والعناية بالمكسب الحلال، وإقبال القلب على الله وجمعه عليه سبحانه حين الدعاء، إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة، والنتائج المفيدة.
فلو أن كل إنسان يعطى الإجابة في الحال، لفاتت هذه المصالح العظيمة. ومما يوضح ما ذكرنا أن نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام طلب من ربه أن يجمع بينه وبين ولده يوسف، فتأخرت الإجابة مدة طويلة، ومكث يوسف في السجن بضع سنين، والداعي نبي كريم، هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام.
فعلم بذلك أن الله سبحانه له حكم عظيمة، في تأخير الإجابة وتعجيلها، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة البقرة الآية 186
(3) سورة النساء الآية 32
(4) صحيح البخاري الدعوات (6340) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2735) ، سنن الترمذي الدعوات (3387) ، سنن أبو داود الصلاة (1484) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3853) ، مسند أحمد بن حنبل (2/396) ، موطأ مالك النداء للصلاة (495) .(34/29)
تعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن تدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها، فقال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، إذا نكثر؟! قال: "الله أكثر (1) » . . رواه الإمام أحمد في مسنده.
والمقصود أن المشروع للمسلم عندما تتأخر الإجابة أن يتأمل، ما هي الأسباب. لماذا تأخرت الإجابة؟ لماذا سلط علينا العدو؟ لماذا هذا البلاء؟
يتأمل ويحاسب نفسه ويجاهدها حتى تحصل له البصيرة بعيوب نفسه، وحتى يعالجها بالعلاج الشرعي، والدولة تعالج نقصها، والشخص يعالج نقصه ويداويه، كل داء له دواء، كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. ودواء الذنوب التوبة إلى الله سبحانه، والاستقامة على طاعته، هذا هو دواء الذنوب.
فالواجب على كل إنسان أن يعالج ذنبه ومعصيته بالتوبة النصوح، ويحاسب نفسه، ويعلم أن ربه سبحانه ليس بظلام للعبيد.
فالله سبحانه لم يظلمك، بل أنت الظالم لنفسك، تأمل وحاسب نفسك، وجاهدها، وهذا الحاكم الظالم، أعني حاكم العراق صدام حسين، يرمي السعودية بالصواريخ، ماذا فعلت معه السعودية؟ لقد ساعدته مساعدة عظيمة على عدوه، ساعدته بالمساعدات التي ذكرها صدام في كتابه لخادم الحرمين الشريفين وذكر أشياء كثيرة من المساعدات، وأخفى الكثير.
والمطلوب منه الآن الخروج من الكويت، وسحب جيشه منها، وبعد ذلك يحصل التفاوض في بقية المشاكل. . فهل هذا هو جزاء الإحسان للكويت بأن يخرجهم من ديارهم، وقد أحسنوا إليه كثيرا؟!
وهل جزاء ما عملت السعودية أن يضربها بالصواريخ، ويحشد جيوشه على حدودها؟
هذا هو جزاء المحسن عند صدام حسين، والله يقول سبحانه: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (2) .
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3573) ، مسند أحمد بن حنبل (5/329) .
(2) سورة الرحمن الآية 60(34/30)
لقد أحسنت إليه السعودية عند الملمات، وواسته عند الشدائد، والكويت كذلك، ودول الخليج كذلك، كلهم ساعدوه ومدوه بما يستطيعون، ثم كانت هذه هي العاقبة من اللئيم الغشوم، لقد طلبوا منه أن يخرج من الكويت، وأن يسحب جيوشه منها، ثم يكون بعد ذلك التفاوض والنظر في المشاكل التي بينه وبين الكويت، وحلها بالوسائل السلمية.
لكنه من خبثه وظلمه يحث أنصاره وأذنابه على أن يؤذوا الناس في البلدان الأخرى، ثم من تدليسه ونفاقه وخبثه يضرب اليهود الآن حتى يفرق الجمع الموجود، وحتى يرفع عنه الحصار الذي وقع عليه.
لماذا ترك اليهود قبل الكويت، ويضربهم الآن، كان ينبغي له أن يضرب اليهود لأنهم هم العدو، بدل أن يضرب جيرانه، ومن أحسن إليه.
لكن خبثه وظلمه وغشمه ونفاقه ومكره، حمله على أن يضرب اليهود الآن، حتى يفرق هؤلاء المجتمعين لحربه، وحتى يخرج من هذا الحصار المحيط به، ولكنها لم ترد عليه، حتى يظل هذا الحصار، وحتى يقضي الله فيه أمره سبحانه وتعالى، وحتى يخيب الله آماله، ويرد كيده في نحره بحوله وقوته سبحانه.
نسأل الله أن يرد كيده في نحره، وأن يستجيب دعوات المسلمين ضده، فهو ظالم ملبس مخادع منافق، يجمع كل شر وكل حيلة، وكل بلاء للخداع والظلم والعدوان.
ولكن نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يقضي عليه، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يخذل الله أنصاره وأعوانه، وأن يرد من هو حائر في أمره إلى البصيرة، والهدى وأن يقضي على أنصاره الظالمين المعتدين، وأن يهلكهم معه، ويسلط عليهم جندا من عنده، إنه جواد كريم.
كما نسأله سبحانه أن ينصر المسلمين عليه وحزبه، وأن ينصر من نصر المسلمين عليه، وعلى أعوانه حتى يقضي الله على هذا الظالم، وحتى يخرجه من الكويت صاغرا ذليلا.(34/31)
كما نسأل الله سبحانه أن يولى على العراق رجلا صالحا، يخاف الله ويراقبه ويحكم في العراقيين شريعة الله، ويبسط فيهم العدل والإحسان.
وعلينا أيها الأخوة، وعلى كل مسلم في كل مكان، أن نتقي الله سبحانه، وأن نستقيم على دينه، وأن نجاهد أنفسنا في ذلك. . مع سؤاله سبحانه النصر المعجل لأوليائه، وأهل طاعته المظلومين، وأن يكبت هذا الظالم المعتدي، وأن يسلط عليه جندا من عنده، وأن يقضي عليه، وأن يولي على العراق من يخاف الله فيهم، ويحسن إليهم، ويحكم فيهم بشرع الله، إنه جل وعلا جواد كريم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. . وصلى الله على نبينا محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(34/32)
حكم إقامة المسافر
التي تقطع حكم السفر
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه. . وبعد:
فبناء على محضر مجلس هيئة كبار العلماء رقم (10) المتخذ في الدورة الخامسة الاستثنائية المنعقدة بمدينة الرياض في شهر ربيع أول عام 1401 هـ المتضمن طلب جمع ما تيسر من أقوال العلماء في حكم إقامة المسافر التي تقطع حكم السفر.
أعدت اللجنة الدائمة بحثا مختصرا في الموضوع شمل نقولا عن بعض العلماء. وفيما يلي تلك النقول. . والله المستعان:
1 - قال البخاري رحمه الله في صحيحه:
"باب ما جاء في التقصير، وكم يقيم حتى يقصر "
1080 - حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبو عوانة عن عاصم وحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا (1) » .
(الحديث 1080- طرفاه في: 4298، 4299) .
1081 - حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال سمعت أنسا يقول «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة. قلت: أقمتم بمكة شيئا؟ قال أقمنا بها عشرا (2) » .
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1080) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1231) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن الترمذي الجمعة (548) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/282) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) .(34/33)
(الحديث 1081- طرفه في: 4297) .
وقال ابن حجر رحمه الله في شرح ذلك (1) :
(باب ما جاء في التقصير) تقول: قصرت الصلاة بفتحتين مخففا قصرا، وقصرتها بالتشديد تقصيرا، وأقصرتها إقصارا، والأول أشهر في الاستعمال. والمراد به تخفيف الرباعية إلى ركعتين ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن لا تقصير في صلاة الصبح ولا في صلاة المغرب، وقال النووي: ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح. وذهب بعض السلف إلى أنه يشترط في القصر الخوف في السفر، وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد، وبعضهم كونه سفر طاعة، وعن أبي حنيفة والثوري في كل سفر سواء كان طاعة أو معصية، قوله: (وكم يقيم حتى يقصر) في هذه الترجمة إشكال لأن الإقامة ليست سببا للقصر، ولا القصر غاية للإقامة، قاله الكرماني وأجاب بأن عدد الأيام المذكورة سبب لمعرفة جواز القصر فيها ومنع الزيادة عليها، وأجاب غيره بأن المعنى وكم إقامته المغياة بالقصر؟ وحاصله كم يقيم مقصرا؟ وقيل المراد كم يقصر حتى يقيم؟ أي حتى يسمى مقيما فانقلب اللفظ، أو حتى هنا بمعنى حين أي كم يقيم حين يقصر؟ وقيل فاعل يقيم هو المسافر، والمراد إقامته في بلد ما غايتها التي إذا حصلت يقصر. قوله (عن عاصم) هو ابن سليمان، وحصين بالضم هو ابن عبد الرحمن. قوله (تسعة عشر) أي يوما بليلته، زاد في المغازي من وجه آخر عن عاصم وحده " بمكة "، وكذا رواه ابن المنذر عن طريق عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عكرمة، وأخرجه أبو داود من هذا الوجه بلفظ "سبعة عشر" بتقديم السين، وكذا أخرجه من طريق حفص بن غياث عن عاصم قال: وقال عباد بن منصور عن عكرمة "تسع عشرة" كذا ذكرها معلقة وقد وصلها البيهقي. ولأبي داود أيضا من حديث " عمران بن حصين «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين (2) » وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن
__________
(1) فتح الباري جـ 2، ص 561 - 563.
(2) سنن أبو داود الصلاة (1229) .(34/34)
عباس أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمسة عشر يقصر الصلاة، وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج، ومن قال سبع عشرة حذفهما، ومن قال ثماني عشرة عد أحدهما.
وأما رواية "خمسة عشر" فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبعة عشر فحذف منها يومي الدخول والخروج فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر أرجح الروايات، وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة، وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمسة عشر لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقا. وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين لكن محله عنده فيمن لم يزمع الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع الإقامة في أول الحال على أربعة أيام أتم، على خلاف بين أصحابه في دخول يومي الدخول والخروج فيها أولا، وحجته حديث أنس الذي يليه. قوله: (فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا) ظاهره أن السفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام، وليس ذلك المراد، وقد صرح أبو يعلى عن شيبان عن أبي عوانة في هذا الحديث بالمراد ولفظه "إذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر" ويؤيده صدر الحديث وهو قوله "أقام " وللترمذي من وجه آخر عن عاصم " فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا". قوله في حديث أنس "خرجنا من المدينة في رواية شعبة عن يحيى بن أبي إسحاق عند مسلم إلى الحج " قوله: (فكان يصلي ركعتين ركعتين) في رواية البيهقي من طريق علي بن عاصم عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس "إلا في المغرب " قوله: (أقمنا بها عشرا) لا يعارض ذلك حديث ابن عباس المذكور، لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة وحديث أنس في حجة الوداع وسيأتي بعد باب من حديث ابن عباس قدم النبي صلى(34/35)
الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة" الحديث. ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها كما قال أنس وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى، ومن ثم قال الشافعي:
إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام، وقال أحمد: إحدى وعشرين صلاة. وأما قول ابن رشيد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس لأن إقامة عشر داخل في إقامة تسع عشرة- فأشار بذلك إلى أن الأخذ بالزائد متعين- ففيه نظر لأن ذلك إنما يجيء على اتحاد القصتين، والحق أنهما مختلفان، فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة، بل كان مترددا متى يتهيأ له فراغ حاجته يرحل، والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة، لأنه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج كان جازما بالإقامة تلك المدة، ووجه الدلالة من حديث ابن عباس لما كان الأصل في المقيم الإتمام. فلما لم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام في حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر، وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال كثيرة كما سيأتي، وفيه أن الإقامة في أثناء السفر تسمى إقامة، وإطلاق اسم البلد على ما جاورها وقرب منها لأن منى وعرفة ليستا من مكة، أما عرفة فلأنها خارج الحرم فليست من مكة قطعا، وأما منى ففيها احتمال، والظاهر أنها ليست من مكة إلا إن قلنا إن اسم مكة يشمل جميع الحرم، قال أحمد بن حنبل ليس لحديث أنس وجه إلا أنه حسب أيام إقامته صلى الله عليه وسلم في حجته منذ دخل مكة إلى أن خرج منها لا وجه له إلا هذا. وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة، لأن هذه المواضع مواضع النسك وهي في حكم التابع لمكة لأنها المقصود بالأصالة لا يتجه سوى ذلك كما قال الإمام أحمد والله أعلم. وزعم الطحاوي أن الشافعي لم يسبق إلى أن المسافر يصير بنية إقامته أربعة أيام مقيما وقد قال أحمد نحو ما قال الشافعي، وهي رواية عن مالك.(34/36)
2 - قال النووي رحمه الله في شرحه للأحاديث الواردة في صحيح مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها قولها: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر) اختلف العلماء في القصر في السفر فقال الشافعي ومالك بن أنس وأكثر العلماء يجوز القصر والإتمام والقصر أفضل ولنا قول أن الإتمام أفضل ووجه أنهما سواء والصحيح المشهور أن القصر أفضل وقال أبو حنيفة وكثيرون القصر واجب ولا يجوز الإتمام ويحتجون بهذا الحديث وبأن أكثر فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كان القصر واحتج الشافعي وموافقوه بالأحاديث المشهورة في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم القاصر ومنهم المتمم ومنهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض وبأن عثمان كان يتم وكذلك عائشة وغيرها وهو ظاهر قول الله عز وجل:. . . {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (1) . . . وهذا يقتضي رفع الجناح والإباحة. وأما حديث فرضت الصلاة ركعتين فمعناه فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار وتثبت دلائل جواز الإتمام فوجب المصير إليها والجمع بين دلائل الشرع قوله: (فقلت لعروة ما بال عائشة تتم في السفر فقال: إنها تأولت كما تأول عثمان) اختلف العلماء في تأويلهما، فالصحيح الذي عليه المحققون أنهما رأيا القصر جائزا والإتمام جائزا فأخذا بأحد الجائزين وهو الإتمام وقيل لأن عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمهم فكأنهما في منازلهما وأبطله المحققون بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بذلك منهما وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقيل لأن عثمان تأهل بمكة وأبطلوه بأن النبي صلى الله عليه وسلم سافر بأزواجه وقصر وقيل فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه لئلا يظنوا أن فرض الصلاة ركعتان أبدا حضرا وسفرا وأبطلوه بأن هذا المعنى كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بل
__________
(1) سورة النساء الآية 101(34/37)
اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر مما كان وقيل لأن عثمان نوى الإقامة بمكة بعد الحج وأبطلوه بأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاث وقيل كان لعثمان أرض بمنى أبطلوه بأن ذلك لا يقتضي الإتمام والإقامة والصواب الأول ثم مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والجمهور أنه يجوز القصر في كل سفر مباح وشرط بعض السلف كونه سفر خوف وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو غزو وبعضهم كونه سفر طاعة قال الشافعي ومالك وأحمد والأكثرون ولا يجوز في سفر المعصية وجوزه أبو حنيفة والثوري، ثم قال الشافعي ومالك وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم لا يجوز القصر إلا في مسيرة مرحلتين قاصدتين وهي ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربع وعشرون إصبعا معترضة معتدلة والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات وقال أبو حنيفة والكوفيون لا يقصر في أقل من ثلاث مراحل وروي عن عثمان وابن مسعود وحذيفة وقال داود وأهل الظاهر يجوز في السفر الطويل والقصير حتى لو كان ثلاثة أميال قصر. قوله "عن عبد الله بن بابيه " هو بباء موحدة ثم ألف موحدة أخرى مفتوحة ثم مثناة تحت ويقال فيه ابن باباه وابن بابي بكسر الباء الثانية. قوله: «عجبت ما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته (1) » هكذا هو في بعض الأصول ما عجبت وفي بعضها عجبت مما عجبت وهو المشهور المعروف وفيه جواز قول تصدق الله علينا واللهم تصدق علينا وقد كرهه بعض السلف وهو غلط ظاهر وقد أوضحته في أواخر كتاب الأذكار وفيه جواز القصر في غير الخوف وفيه أن المفضول إذا رأى الفاضل يعمل شيئا يشكل عليه يسأله عنه والله أعلم) .
قوله في الحضر ركعة وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد جميعا عن القاسم بن مالك قال: عمرو حدثنا قاسم بن مالك المزني حدثنا أيوب بن عائذ الطائي عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن الله فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين وعلى
__________
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (686) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3034) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1433) ، سنن أبو داود الصلاة (1199) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1065) ، مسند أحمد بن حنبل (1/36) ، سنن الدارمي الصلاة (1505) .(34/38)
المقيم أربعا وفي الخوف ركعة.
حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن موسى بن سلمة الهذلي قال سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلما (1) .
__________
(1) النووي على مسلم جـ 5، ص 194 - 197.(34/39)
3 - قال الترمذي رحمه الله:
- باب ما جاء في كم تقصر الصلاة؟
- حدثنا أحمد بن منيع أخبرنا هشيم أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي أخبرنا أنس بن مالك قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين، قال قلت لأنس: كم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة؟ قال: عشرا (1) » .
وفي الباب عن ابن عباس وجابر.
قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حصن صحيح.
وقد روي عن ابن عباس «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين (2) » ، قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة صلينا ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة.
وروي عن علي أنه قال: من أقام عشرة أيام أتم الصلاة.
وروى عن ابن عمر أنه قال: من أقام خمسة عشر يوما أتم الصلاة.
وروي عنه ثنتي عشرة.
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقام أربعا صلى أربعا.
وروى ذلك عنه قتادة وعطاء الخراساني وروى عنه داود بن أبي هند خلاف هذا. واختلف أهل العلم بعد في ذلك.
فأما سفيان الثوري وأهل الكوفة فذهبوا إلى توقيت خمس عشرة، وقالوا: إذا أجمع على إقامة خمس عشرة أتم الصلاة.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن الترمذي الجمعة (548) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، سنن الدارمي الصلاة (1510) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن الترمذي الجمعة (548) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، سنن الدارمي الصلاة (1510) .(34/39)
وقال الأوزاعي: إذا أجمع على إقامة ثنتي عشرة أتم الصلاة.
وقال مالك والشافعي وأحمد: إذا أجمع على إقامة أربع أتم الصلاة. وأما إسحاق فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس، قال: لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تأوله بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذا أجمع على إقامة تسع عشرة أتم الصلاة.
ثم أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون.
حدثنا هناد أخبرنا أبو معاوية عن عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال: «سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا فصلى تسعة عشر يوما ركعتين ركعتين (1) » ، قال ابن عباس: فنحن نصلي فيما بيننا وبين تسع عشرة ركعتين ركعتين، فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وقال صاحب تحفة الأحوذي في شرح ذلك:
باب ما جاء في كم تقصر الصلاة؟ !
يريد بيان المدة التي إذا أراد المسافر الإقامة في موضع إلى تلك المدة يتم الصلاة، وإذا أراد الإقامة إلى أقل منها يقصر وقد عقد البخاري في صحيحه بابا بلفظ: باب في كم تقصر الصلاة. لكنه أراد بيان المسافة التي إذا أراد المسافر الوصول إليها جاز له القصر ولا يجوز له في أقل منها.
قوله: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة) أي متوجهين إلى مكة لحجة الوداع (فصلى ركعتين) أي في الرباعية، وفي رواية الصحيحين علي ما في المشكاة. فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة (قال عشرا) أي أقام بمكة عشرا، قال القاري في المرقاة: الحديث بظاهره ينافي مذهب الشافعي من أنه إذا أقام أربعة أيام يجب الإتمام. . انتهى.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1080) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1231) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) .(34/40)
قال صاحب تحفة الأحوذي رحمه الله في شرحه لذلك:
قلت: قد نقل القاري عن ابن حجر الهيثمي ما لفظه: لم يقم العشر التي أقامها لحجة الوداع بموضع واحد، لأنه دخلها يوم الأحد وخرج منها صبيحة الخميس، فأقام بمنى، والجمعة بنمرة وعرفات، ثم عاد السبت بمنى لقضاء نسكه، ثم بمكة لطواف الإفاضة، ثم بمنى يومه فأقام بها بقيته، والأحد والاثنين والثلاثاء إلى الزوال، ثم نفر فنزل بالمحصب وطاف في ليلته للوداع، ثم رحل قبل صلاة الصبح. فلتفرق إقامته قصر في الكل. وبهذا أخذنا أن للمسافر إذا دخل محلا أن يقصر فيه ما لم يصر مقيما أو ينو إقامة أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج أو يقيمهما واستدلوا لذلك بخبر الصحيحين، يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا، وكان يحرم على المهاجرين الإقامة بمكة ومساكنة الكفار كما روياه أيضا. فالإذن في الثلاثة يدل على بقاء حكم السفر فيها بخلاف الأربعة انتهى.
وقال الحافظ في فتح الباري: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة كما في حديث ابن عباس، ولاشك أنه خرج صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس رضي الله عنه، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء، لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى، ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام، وقال أحمد: إحدى وعشرين صلاة. . انتهى كلام الحافظ.
قوله: (وفي الباب عن ابن عباس وجابر) أما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه وأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث جابر فأخرجه أبو داود.
قوله: (حديث أنس حديث حسن صحيح) ، وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: (وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في(34/41)
بعض أسفاره) أي في فتح مكة، وأما حديث أنس المتقدم فكان في حجة الوداع قاله الحافظ ابن حجر، وحديث ابن عباس هذا أخرجه البخاري في صحيحه (تسع عشرة يصلي ركعتين) ، وفي لفظ للبخاري تسعة عشر يوما، وفي رواية لأبي داود عن ابن عباس سبع عشرة، وفي أخرى له عنه خمس عشرة، وفي حديث عمران بن حصين. شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول: يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا قوم سفر. رواه أبو داود. (قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة صلينا ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة) ، هذا هو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما، ومنه أخذ إسحاق بن راهويه ورآه أقوى المذاهب. (وروي عن علي أنه قال: من أقام عشرة أيام أتم الصلاة) أخرجه عبد الرزاق بلفظ: إذا أقمت بأرض عشرا فأتمم. فإن قلت أخرج اليوم أو غدا فصل ركعتين. وإن أقمت شهرا (وروي عن ابن عمر أنه قال: من أقام خمسة عشر يوما أتم الصلاة) ، أخرجه محمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا أبو حنيفة حدثنا موسى بن مسلم عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: إذا كنت مسافرا فوطنت نفسك على إقامة خمسة عشر يوما فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري فاقصر الصلاة، "وأخرج الطحاوي عن ابن عباس وابن عمر قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوما أتم الصلاة، وروي عنه ثنتي عشرة) ، أخرجه عبد الرزاق. كذا في شرح الترمذي لسراج أحمد السرهندي.
(وروي عنه داود بن أبي هند خلاف هذا) روى محمد بن الحسن في الحجج عن سعيد بن المسيب قال: إذا قدمت بلدة فأقمت خمسة عشر يوما فأتم الصلاة، (واختلف أهل العلم بعد) بالبناء على الضم أي بعد ذلك (في ذلك) أي فيما ذكر من مدة الإقامة (فأما سفيان الثوري وأهل الكوفة فذهبوا إلى توقيت خمس عشرة وقالوا إذا أجمع) أي نوى (على إقامة خمس عشرة أتم الصلاة) وهو قول أبي حنيفة، واستدلوا بما رواه أبو داود من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: «أقام رسول الله(34/42)
صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة (1) » ، قال المنذري: وأخرجه ابن ماجه وأخرجه النسائي بنحوه وفي إسناده محمد بن إسحاق واختلف على ابن إسحاق فيه فروى عنه مسندا ومرسلا وروى عنه عن الزهري من قوله انتهى، وقد ضعف النووي هذه الرواية، لكن تعقبه الحافظ في فتح الباري حيث قال: وأما رواية خمسة عشر فضعفها النووي في الخلاصة وليس بجيد، لأن رواتها ثقات ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك فهي صحيحة. . انتهى كلام الحافظ.
واستدلوا أيضا بأثر ابن عمر المذكور، وقد روي عنه توقيت ثنتي عشرة كما حكاه الترمذي (وقال الأوزاعي: إذا أجمع على إقامة ثنتي عشرة أتم الصلاة) .
قال الشوكاني في النيل: لا يعرف له مستند فرعي، وإنما ذلك اجتهاد من نفسه. . . انتهى.
قلت: لعله استند بما روي عن ابن عمر توقيت ثنتي عشرة. (وقال مالك والشافعي وأحمد: إذا أجمع على إقامة أربع أتم الصلاة) . قال في السبل صفحة 156: وهو مروي عن عثمان والمراد غير يوم الدخول والخروج، واستدلوا بمنعه صلى الله عليه وسلم المهاجرين بعد مضي النسك أن يزيدوا على ثلاثة أيام في مكة، فدل على أنه بالأربعة الأيام يصير مقيما. . انتهى.
قلت: ورد هذا الاستدلال بأن الثلاث قدر قضاء الحوائج لا لكونها غير إقامة، واستدلوا أيضا بما روى مالك عن نافع عن أسلم عن عمر أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثة أيام، قال الحافظ في التلخيص صححه أبو زرعة. (أما إسحاق) يعني ابن راهويه (فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين (قال) أي إسحاق (لأنه) أي ابن عباس (روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تأوله بعد النبي صلى الله عليه وسلم) أي أخذ به
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4300) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن أبو داود الصلاة (1230) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1076) .(34/43)
وعمل عليه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم (ثم أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامته وإن أتى عليه سنون) ، جمع سنة أخرج البيهقي عن أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة، قال النووي: إسناده صحيح وفيه عكرمة بن عمار. واختلفوا في الاحتجاج به واحتج به مسلم في صحيحه انتهى، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة. . انتهى.
وأخرج البيهقي في المعرفة عن عبيد الله بن عمر عن نافع أن ابن عمر قال: ارتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة وكنا نصلي ركعتين. . انتهى. قال النووي: وهذا سند على شرط الصحيحين، كذا في نصب الراية، وذكر الزيلعي فيه آثارا أخرى.
قوله: (سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا) أي في فتح مكة كما تقدم (فصلى) ، أي فأقام فصلى (تسعة عشر يوما ركعتين ركعتين) ، وفي رواية للبخاري أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، قال الحافظ في الفتح أي يوما بليلة زاد في المغازي بمكة وأخرجه أبو داود بلفظ سبعة عشر بتقديم السين، وله أيضا من حديث عمران بن حصين: «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين (1) » . وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة (2) » .
وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج، ومن قال سبع عشرة حذفهما، ومن قال ثماني عشرة عد أحدهما، وأما رواية خمس عشرة فضعفها النووي في الخلاصة وليس بجيد، لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة، فليحمل على أن الراوي ظن أن
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1229) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4300) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن أبو داود الصلاة (1230) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1076) .(34/44)
الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة، واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات. وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه. ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة. انتهى كلام الحافظ، وقال في التلخيص بعد ذكر الروايات المذكورة. ورواية عبد بن حميد عن ابن عباس بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة أقام عشرين يوما يقصر الصلاة ما لفظه: قال البيهقي أصح الروايات في ذلك رواية البخاري وهي رواية تسع عشرة، وجمع إمام الحرمين والبيهقي بين الروايات السابقة باحتمال أن يكون في بعضها لم يعد يومي الدخول والخروج وهي رواية سبعة عشر وعدها في بعضها، وهي رواية تسع عشرة وعد يوم الدخول ولم يعد الخروج وهي رواية ثمانية عشر. قال الحافظ: وهو جمع متين وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها ورواية عشرين وهي صحيحة الإسناد، إلا أنها شاذة أيضا، اللهم إلا أن يحمل على جبر الكسر، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد. . انتهى.
قوله: (هذا حديث حسن غريب صحيح) ، وأخرجه البخاري وابن ماجه وأحمد (1)
__________
(1) تحفة الأحوذي جـ3، ص 110 - 116.(34/45)
قال الكاساني رحمه الله:
4 - (وأما بيان ما يصير المسافر به مقيما، فالمسافر يصير مقيما بوجود الإقامة، والإقامة تثبت بأربعة أشياء أحدها صريح نية الإقامة وهو أن ينوي الإقامة خمسة عشر يوما في مكان واحد صالح للإقامة فلا بد من أربعة أشياء نية الإقامة ونية مدة الإقامة واتحاد المكان وصلاحيته للإقامة (أما) نية الإقامة فأمر لا بد منه عندنا حتى لو دخل مصر أو مكث فيه شهرا أو أكثر لانتظار القافلة أو لحاجة أخرى يقول أخرج اليوم أو غدا ولم ينو الإقامة لا يصير مقيما وللشافعي فيه قولان في قول إذا أقام أكثر مما أقام رسول صلى الله عليه وسلم بتبوك كان(34/45)
مقيما وإن لم ينو الإقامة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك تسعة عشر يوما أو عشرين يوما وفي قول إذا أقام أربعة أيام كان مقيما ولا يباح له القصر (احتج) لقوله الأول: إن الإقامة متى وجدت حقيقة ينبغي أن تكمل الصلاة قلت الإقامة أو كثرت لأنها ضد السفر والشيء يبطل بما يضاده إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك تسعة عشر يوما وقصر الصلاة فتركنا هذا القدر بالنص فنأخذ بالقياس فيما وراءه ووجه قوله الآخر على النحو الذي ذكرنا أن القياس أن يبطل السفر بقليل الإقامة، لأن الإقامة قرار والسفر انتقال والشيء ينعدم بما يضاده فينعدم حكمه ضرورة إلا أن قليل الإقامة لا يمكن اعتباره لأن المسافر لا يخلو عن ذلك عادة فسقط اعتبار القليل لمكان الضرورة ولا ضرورة في الكثير والأربعة في حد الكثرة لأن أدنى درجات الكثير أن يكون جمعا والثلاثة وإن كانت جمعا لكنها أقل الجمع فكانت في حد القلة من وجه فلم تثبت الكثرة المطلقة فإذا صارت أربعة صارت في حد الكثرة على الإطلاق لزوال معنى القلة من جميع الوجوه (ولنا) إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه أقام بقرية من قرى نيسابور شهرين وكان يقصر الصلاة وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام بأذربيجان شهرا وكان يصلي ركعتين وعن علقمة أنه أقام بخوارزم سنتين وكان يقصر وروي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال: «شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة، فأقام بمكة ثمان عشرة ليلة لا يصلي إلا الركعتين، ثم قال لأهل مكة: صلوا أربعا فإنا قوم سفر (1) » والقياس بمقابلة النص والإجماع باطل، وأما مدة الإقامة فأقلها خمسة عشر يوما عندنا وقال مالك والشافعي أقلها أربعة أيام وحجتهما ما ذكرنا وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجرين المقام بمكة بعد قضاء النسك ثلاثة أيام فهذه إشارة إلى أن الزيادة على الثلاث توجب حكم الإقامة (ولنا) ما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أنهما قالا: إذا دخلت بلدة وأنت مسافر وفي عزمك أن تقيم بها خمسة عشر يوما فأكمل الصلاة وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصر وهذا باب لا يوصل إليه
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (545) ، سنن أبو داود الصلاة (1229) ، مسند أحمد بن حنبل (4/432) .(34/46)
بالاجتهاد، لأنه من جملة المقادير ولا يظن بهما التكلم جزافا، فالظاهر أنهما قالاه سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى عبد الله بن عباس وجابر وأنس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه دخلوا مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة ومكثوا ذلك اليوم واليوم الخامس واليوم السادس واليوم السابع، فلما كان صبيحة اليوم الثامن وهو يوم التروية خرجوا إلى منى وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه ركعتين وقد وطنوا أنفسهم على إقامة أربعة أيام دل أن التقدير بالأربعة غير صحيح وما روي من الحديث فليس فيه ما يشير إلى تقدير أدنى مدة الإقامة بالأربعة، لأنه يحتمل أنه علم أن حاجتهم ترتفع في تلك المدة فرخص بالمقام ثلاثا لهذا التقدير الإقامة (وأما) اتحاد المكان، فالشرط نية مدة الإقامة في مكان واحد لأن الإقامة قرار والانتقال يضاده ولا بد من الانتقال في مكانين وإذا عرف هذا فنقول إذا نوى المسافر الإقامة خمسة عشر يوما في موضعين فإن كانا مصرا واحدا أو قرية واحدة صار مقيما لأنهما متحدان حكما ألا يرى أنه لو خرج إليه مسافرا لم يقصر فقد وجد الشرط وهو نية كمال مدة الإقامة في مكان واحد فصار مقيما وإن كانا مصرين نحو مكة ومنى أو الكوفة والحيرة أو قريتين أو أحدهما مصر والآخر قرية لا يصير مقيما لأنهما مكانان متباينان حقيقة وحكما ألا ترى أنه لو خرج إليه المسافر يقصر فلم يوجد الشرط وهو نية الإقامة في موضع واحد خمسة عشر يوما فلغت نيته، فإن نوى المسافر أن يقيم بالليالي في أحد الموضعين ويخرج بالنهار إلى الموضع الآخر فإن دخل أولا الموضع الذي نوى المقام فيه بالنهار لا يصير مقيما وإن دخل الموضع الذي نوى الإقامة فيه بالليالي يصير مقيما ثم بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافرا لأن موضع إقامة الرجل حيث يبيت فيه ألا ترى أنه إذا قيل للسوقي أين تسكن يقول: في محلة كذا، وهو بالنهار يكون بالسوق.
وذكر في كتاب المناسك أن الحاج إذا دخل مكة في أيام العشر ونوى الإقامة خمسة عشر يوما أو دخل قبل أيام العشر لكن بقي إلى يوم التروية أقل(34/47)
من خمسة عشر يوما ونوى الإقامة، لا يصح لأنه لا بد له من الخروج إلى عرفات فلا تتحقق نية إقامته خمسة عشر يوما فلا يصح وقيل كان سبب تفقه عيسى بن أبان هذه المسألة وذلك أنه كان مشغولا يطلب الحديث قال: فدخلت مكة في أول العشر من ذي الحجة مع صاحب لي وعزمت على الإقامة شهرا فجعلت أتم الصلاة فلقيني بعض أصحاب أبي حنيفة فقال أخطأت فإنك تخرج إلى منى وعرفات، فلما رجعت من منى بدا لصاحبي أن يخرج وعزمت على أن أصاحبه وجعلت أقصر الصلاة فقال لي صاحب أبي حنيفة: أخطأت فإنك مقيم بمكة فما لم تخرج منها لا تصير مسافرا فقلت أخطأت في مسألة في موضعين فدخلت مجلس محمد واشتغلت بالفقه وإنما أوردنا هذه الحكاية ليعلم مبلغ علم الفقه فيصير مبعثه للطلبة على طلبه (وأما) المكان الصالح للإقامة فهو موضع اللبث والقرار في العادة نحو الأمصار والقرى، وأما المفازة والجزيرة أو السفينة فليست موضع الإقامة حتى لو نوى الإقامة في هذه المواضع خمسة عشر يوما لا يصير مقيما. كذا روي عن أبي حنيفة وروي عن أبي يوسف في الأعراب والأكراد والتركمان إذا نزلوا بخيامهم في موضع ونووا الإقامة خمسة عشر يوما صاروا مقيمين.
فعلى هذا إذا نوى المسافر الإقامة فيه خمسة عشر يوما يصير مقيما كما في القرية، وروي عنه أيضا أنهم لم يصيروا مقيمين. فعلى هذا إذا نوى المسافر الإقامة فيه لا يصح، ذكر الروايتين عن أبي يوسف في العيون فصار الحاصل أن عند أبي حنيفة لا يصير مقيما في المفازة وإن كان ثمة قوم وطنوا ذلك المكان بالخيام والفساطيط وعن أبي يوسف روايتان وعلى هذا الإمام إذا دخل دار الحرب مع الجند ومعهم أخبية وفساطيط فنووا الإقامة خمسة عشر يوما في المفازة والصحيح قول أبي حنيفة لأن موضع الإقامة موضع القرار، والمفازة ليست موضع القرار في الأصل فكانت النية لغوا ولو حاصر المسلمون مدينة من مدائن أهل الحرب ووطنوا أنفسهم على إقامة خمسة عشر يوما لم تصح نية الإقامة ويقصرون وكذا إذا نزلوا المدينة وحاصروا(34/48)
أهلها في الحصن وقال أبو يوسف: إن كانوا في الأخبية والفساطيط خارج البلدة فكذلك وإن كانوا في الأبنية صحت نيتهم. وقال زفر في الفصلين جميعا: إن كانت الشوكة والغلبة للمسلمين صحت نيتهم وإن كانت للعدو لم تصح وجه قول زفر أن الشوكة إذا كانت للمسلمين يقع الأمن لهم من إزعاج العدو إياهم، فيمكنهم القرار ظاهرا فنية الإقامة صادفت محلها فصحت وأبو يوسف يقول: الأبنية موضع الإقامة فتصح نية الإقامة فيها بخلاف الصحراء (ولنا) ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا سأله وقال: إنا نطيل الثواء في أرض الحرب فقال: صل ركعتين حتى ترجع إلى أهلك، ولأن نية الإقامة نية القرار، وإنما تصح في محل صالح للقرار ودار الحرب ليست موضع قرار المسلمين المحاربين لجواز أن يزعجهم العدو ساعة فساعة لقوة تظهر لهم، لأن القتال سجال أو تنفذ لهم في المسلمين حيلة لأن الحرب خدعة فلم تصادف النية محلها فلغت ولأن غرضهم من المكث هنالك فتح الحصن دون التوطن وتوهم انفتاح الحصن في كل ساعة قائم فلا تتحقق نيتهم إقامة خمسة عشر يوما، فقد خرج الجواب عما قالا وعلى هذا الخلاف إذا حارب أهل العدل البغاة في دار الإسلام في غير مصر أو حاصروهم ونووا الإقامة خمسة عشر يوما واختلف المتأخرون في الأعراب والأكراد والتركمان الذين يسكنون في بيوت الشعر والصوف قال بعضهم لا يكونون مقيمين أبدا وإن نووا الإقامة مدة الإقامة لأن المفازة ليست موضع الإقامة والأصح أنهم مقيمون لأن عادتهم الإقامة في المفاوز دون الأمصار والقرى فكانت المفاوز لهم كالأمصار والقرى لأهلها، ولأن الإقامة للرجل أصل والسفر عارض وهم لا ينوون السفر بل ينتقلون من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى مرعى حتى لو ارتحلوا عن أماكنهم وقصدوا موضعا آخر بينهما مدة سفر صاروا مسافرين في الطريق (1) .
5 - قال ابن القاسم رحمه الله: قلت لمالك الرجل المسافر يمر بقرية
__________
(1) البدائع ص 97 - 99.(34/49)
من قراه في سفره وهو لا يريد أن يقيم بقريته تلك إلا يومه وليلته وفيها عبيده وبقره وجواريه وليس له بها أهل ولا ولد (قال) يقصر الصلاة إلا أن يكون نوى أن يقيم فيها أربعة أيام أو يكون فيها أهله وولده، فإن كان فيها أهله وولده أتم الصلاة وإن أقام أربعة أيام أتم الصلاة (قلت) أرأيت إن كانت هذه القرية التي فيها أهله وولده مر بها في سفره وقد هلك أهله وبقى فيها ولده أيتم الصلاة أم يقصر (قال) يقصر، قال: إنما محمل هذا عند مالك إذا كانت له مسكنا أتم الصلاة وإن لم تكن له مسكنا لم يتم الصلاة.
(قال) وقال مالك صلاة الأسير في دار الحرب أربع ركعات إلا أن يسافر به فيصلي ركعتين (قال) وقال مالك لو أن عسكرا دخل دار الحرب فأقام في موضع واحد شهرا أو شهرين أو أكثر من ذلك فإنهم يقصرون الصلاة قال ليس دار الحرب كغيرها (قال) وإذا كانوا في غير دار الحرب فنووا إقامة أربعة أيام أتموا الصلاة (قلت) له وإن كانوا في غير قرية ولا مصر كان مالك يأمرهم أن يتموا قال نعم (قلت) أرأيت أن أقاموا على حصن حاصروه في أرض العدو شهرين أو ثلاثة أيقصرون الصلاة (قال) قال مالك نعم يقصرون الصلاة (قال) وكيع بن الجراح عن أبي جمرة قال قلت لابن عباس إنا نطيل المقام بخراسان في الغزو قال: صل ركعتين وإن أقمت عشر سنين من حديث وكيع عن المثنى بن سعيد الضبعي عن أبي جمرة (قال) مالك إن عائشة قالت فرضت الصلاة ركعتين فأتمت صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى.
(قال) ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن حميد الطويل عن رجل عن عبد الله بن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام سبع عشرة ليلة يصلي ركعتين وهو محاصر للطائف» قال: (وكان عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب يقولان إذا أجمع المسافر على مقام أربعة أيام أتم الصلاة) .
(وقال) ابن شهاب ويحيى بن سعيد في الأسير في أرض العدو إنه يتم(34/50)
الصلاة ما كان محبوسا (1) انتهى.
وقال ابن رشد: وأما اختلافهم في الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أن يقصر فاختلاف كثير حكى فيه أبو عمر نحوا من أحد عشر قولا، إلا أن الأشهر منها هو ما عليه فقهاء الأمصار ولهم في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها مذهب مالك والشافعي أنه إذا أزمع المسافر على إقامة أربعة أيام أتم.
والثاني مذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري أنه إذا أزمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم. والثالث مذهب أحمد وداود أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم. وسبب الخلاف أنه أمر مسكوت عنه في الشرع والقياس على التحديد ضعيف عند الجميع، ولذلك رام هؤلاء كلهم أن يستدلوا لمذهبهم من الأحوال التي نقلت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيها مقصرا أو أنه جعل لها حكم المسافر.
فالفريق الأول احتجوا لمذهبهم بما روي "أنه عليه الصلاة والسلام أقام بمكة ثلاثا يقصر في عمرته " وهذا ليس فيه حجة على أنه النهاية للتقصير، وإنما فيه حجة على أن يقصر في الثلاثة فما دونها. والفريق الثاني احتجوا لمذهبهم بما روي أنه أقام بمكة عام الفتح مقصرا وذلك نحو من خمسة عشر يوما في بعض الروايات، وقد روي سبعة عشر يوما وثمانية عشر يوما وتسعة عشر يوما، رواه البخاري عن ابن عباس، وبكل قال فريق. والفريق الثالث احتجوا بمقامه في حجه بمكة مقصرا أربعة أيام، وقد احتجت المالكية لمذهبها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للمهاجر ثلاثة أيام بمكة مقاما بعد قضاء نسكه (2) » فدل هذا عندهم على أن إقامته ثلاثة أيام ليست تسلب عن المقيم فيها اسم السفر، وهي النكتة التي ذهب الجميع إليها، وراموا استنباطها من فعله عليه الصلاة والسلام: أعني متى يرتفع عنه بقصد الإقامة اسم السفر، ولذلك اتفقوا على أنه إن كانت الإقامة مدة لا يرتفع فيها عنه اسم السفر بحسب رأى واحد منهم في تلك المدة وعاقه عائق عن السفر أنه يقصر أبدا وإن أقام ما شاء الله.
__________
(1) المدونة ص 114 - 117.
(2) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1511) .(34/51)
ومن راعى الزمان الأقل من مقامه تأول مقامه في الزمان الأكثر مما ادعاه خصمه على هذه الجهة، فقالت المالكية مثلا: إن الخمسة عشر يوما التي أقامها عليه الصلاة والسلام عام الفتح إنما أقامها وهو أبدا ينوي ألا يقيم أربعة أيام، وهذا بعينه يلزمهم في الزمان الذي حدوه. والأشبه في المجتهد في هذا أن يسلك أحد أمرين: إما أن يجعل الحكم لأكثر الزمان الذي روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيه مقصرا، ويجعل ذلك حدا من جهة أن الأصل هو الإتمام فوجب ألا يزاد على هذا الزمان إلا بدليل، أو يقول: إن الأصل في هذا هو أقل الزمان الذي وقع عليه الإجماع، وما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام أقام مقصرا أكثر من ذلك الزمان، فيحتمل أن يكون إقامة لأنه جائز للمسافر، ويحتمل أن يكون إقامة بنية الزمان الذي تجوز إقامته فيه مقصرا باتفاق، فعرض له أن أقام أكثر من ذلك، وإذا كان الاحتمال وجب التمسك بالأصل وأقل ما قيل في ذلك يوم وليلة، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن وروي عن الحسن البصري أن المسافر يقصر أبدا إلا أن يقدم مصرا من الأمصار، وهذا بناء على أن اسم المسافر وأقع عليه حتى يقدم مصرا من الأمصار، فهذه أمهات المسائل التي تتعلق بالقصر (1) .
__________
(1) بداية المجتهد ص 122 - 123.(34/52)
6 - قال النووي رحمه الله قال المصنف رحمه الله:
إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج، صار مقيما وانقطعت رخص السفر، لأنه بالثلاث لا يصير مقيما، لأن المهاجرين رضي الله عنهم حرم عليهم الإقامة بمكة، ثم رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيموا ثلاثة أيام، فقال صلى الله عليه وسلم: «يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا (1) » وأجلى عمر رضي الله عنه اليهود، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا وأما اليوم الذي يدخل فيه ويخرج فلا يحتسب لأنه مسافر فيه وإقامته في بعضه لا تمنع من كونه مسافرا لأنه ما من مسافر إلا ويقيم
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1512) .(34/52)
بعض اليوم، ولأن مشقة السفر لا تزول إلا بإقامة يوم.
وإن نوى إقامة أربعة أيام على حرب ففيه قولان:
(أحدهما) يقصر لما روى أنس أن أصحاب رسول الله عليه وسلم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة.
(والثاني) لا يقصر لأنه نوى إقامة أربعة أيام لا سفر فيها فلم يقصر كما لو نوى الإقامة في غير حرب، وأما إذا أقام في بلد على حاجة إذا انتجزت رحل، ولم ينو مدة ففيه قولان:
(أحدهما) يقصر سبعة عشر يوما، لأن الأصل التمام إلا فيما وردت فيه الرخصة. وقد روى ابن عباس قال: «سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام سبعة عشر يوما يقصر الصلاة (1) » ، وبقي فيما زاد على حكم الأصل، و (الثاني) يقصر أبدا لأنه إقامة على حاجة يرحل بعدها فلم يمنع القصر كالإقامة في سبعة عشر وخرج أبو إسحاق قولا ثالثا: إنه يقصر إلى أربعة أيام الإقامة أبلغ في نية الإقامة، لأن الإقامة لا يلحقها الفسخ، والنية يلحقها الفسخ، ثم ثبت أنه لو نوى الإقامة أربعة أيام لم يقصر، فلأن يقصر إذا أقام أولى، (الشرح) حديث "تحريم الإقامة بمكة على المهاجرين " رواه البخاري ومسلم وحديث: «يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا (2) » رواه البخاري ومسلم أيضا من رواية العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه.
وحديث عمر رضي الله عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا، صحيح رواه مالك في الموطأ بإسناده الصحيح فرواه عن نافع عن أسلم مولي عمر، وحديث "إقامة الصحابة برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة " رواه البيهقي بإسناد صحيح إلا أن فيه عكرمة بن عمار، وهو مختلف في الاحتجاج به، وقد روى له مسلم في صحيحه.
وأما حديث ابن عباس فرواه البخاري في صحيحه لكن في رواية البخاري تسعة عشر بنقصان واحد من عشرين، ووقع في بعض روايات أبي داود والبيهقي سبعة عشر بنقصان ثلاثة من عشرين، وكذا وقع في المهذب.
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4300) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1230) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1512) .(34/53)
أما ألفاظ الفضل فقوله: أجلى عمر اليهود معناه أخرجهم من ديارهم، قال أهل اللغة: يقال جلا القوم خرجوا من منازلهم، وأجليتهم وجلوتهم أخرجتهم ورامهرمز - بفتح الميم الأولى وضم الهاء وإسكان الراء وآخره زاي- وهي بلاد معروفة، وقوله: تسعة أشهر هو بالتاء. في أول تسعة، وقوله: الإقامة لا يلحقها الفسخ هو بالفاء أي لا ترفع بعد وجودها، والنية يمكن قطعها وإبطالها أما الأحاديث الواردة بالإقامة المقيدة ففي حديث ابن عباس تسعة عشر يوما كما ذكرنا عن رواية البخاري.
وفي رواية لأبي داود والبيهقي بإسناد صحيح على شرط البخاري سبعة عشر وفي رواية أخرى لأبي داود والبيهقي عن ابن عباس خمسة عشر، ولكنها ضعيفة مرسلة، وكان حديث ابن عباس هذا في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لحرب هوازن في عام الفتح، وروى أبو داود والبيهقي عن عمران بن حصين «أدى النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثمان عشرة ليلة يقصر الصلاة (1) » ، إلا أن في إسناده من لا يحتج به.
قال البيهقي: أصح الروايات في حديث ابن عباس تسعة عشر، وهي التي ذكرها البخاري، قال: ويمكن الجمع بين رواية ثمان عشرة وتسع عشرة وسبع عشرة، فإن من روى تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج ومن روى سبع عشرة لم يعدهما، ومن روى ثمان عشرة عد أحدهما.
وروى أبو داود والبيهقي عن جابر «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصد الصلاة (2) » ، لكن روي مسندا ومرسلا، قال بعضهم: ورواية المرسل أصح (قلت) ورواية المسند تفرد بها معمر بن راشد وهو إمام يجمع على جلالته وباقي الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، فالحديث صحيح لأن الصحيح أنه إذا تعارض في الحديث إرسال وإسناد حكم بالمسند.
أما حكم الفصل فقال الشافعي والأصحاب: إذا نوى في أثناء طريقة
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (545) ، سنن أبو داود الصلاة (1229) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (1235) ، مسند أحمد بن حنبل (3/295) .(34/54)
الإقامة مطلقا أنقطع سفره فلا يجوز الترخص بشيء بالاتفاق، فلو جدد السير بعد ذلك فهو سفر جديد، فلا يجوز القصر إلا أن يقصد مرحلتين هذا إذا نوى الإقامة في موضع يصلح لها من بلد أو قرية أو واد يمكن البدوي الإقامة به ونحو ذلك، فأما المفازة ونحوها ففي انقطاع السفر والرخص بنية الإقامة فيها قولان مشهوران (أصحهما) عند الجمهور انقطاعه لأنه ليس بمسافر، فلا يترخص حتى يفارقها.
والثاني: لا ينقطع وله الترخص، لأنه لا يصلح للإقامة، فنيته لغو، هذا كله إذا نوى الإقامة وهو ماكث، أما إذا نواها وهو سائر فلا يصير مقيما بلا خلاف، صرح به البندنيجي وغيره لأن سبب القصر السفر، وهو موجود حقيقة، أما إذا نوى الإقامة في بلد ثلاثة أيام فأقل فلا ينقطع الترخص بلا خلاف وإن نوى إقامة أكثر من ثلاثة أيام.
قال الشافعي والأصحاب: إن نوى إقامة أربعة أيام صار مقيما وانقطعت الرخص، وهذا يقتضي أن نية دون أربعة لا تقطع السفر وإن زاد على ثلاثة، وقد صرح به كثيرون من أصحابنا.
وفي كيفية احتساب الأربعة وجهان حكاهما البغوي وآخرون (أحدهما) يحاسب منها يوما الدخول والخروج، كما يحسب يوم الحدث، ويوم نزع الخف من مدة المسح (وأصحهما) وبه قطع المصنف والجمهور: لا يحسبان لما ذكره المصنف، فعلى الأول لو دخل يوم السبت وقت الزوال بنية الخروج يوم الأربعاء وقت الزوال صار مقيما، وعلى الثاني: لا يصير، وإن دخل ضحوة السبت بنية الخروج عشية الأربعاء.
وأما قول إمام الحرمين والغزالي: متى نوى إقامة زيادة على ثلاثة أيام صار مقيما فموافق لما قاله الأصحاب لأنه لا يمكن زيادة على الثلاث غير يومي الدخول والخروج بحيث لا يبلغ الأربعة.
ثم الأيام المحتملة معدودة بلياليها ومتى نوى أربعه صار مقيما في الحال(34/55)
ولو دخل في الليل لم يحسب بقية الليل، ويحسب الغد، هذا كله في غير المحارب.
أما المحارب وهو المقيم على القتال بحق ففيه قولان مشهوران (أحدهما) يقصر أبدا لما ذكره المصنفة وهو اختيار المزني، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، وعلى هذا يقصر أبدا، وإن نوى إقامة أكثر من أربعة أيام (وأصحهما) عند الأصحاب أنه كغيره فلا يقصر إذا نوى إقامة أربعة أيام، وممن صححه القاضي أبو الطيب والماوردي والرافعي وآخرون.
قال الشيخ أبو حامد والمحاملي: وهو اختيار الشافعي، وأجابوا عن حديث أنس بأنهم لم يقيموا تسعة أشهر في مكان واحد، بل كانوا يتنقلون في تلك الناحية، إما إذا أقام في بلد أو قرية لشغل فله حالان:
(أحدهما) أن يتوقع انقضاء شغله قبل أربعة أيام، ونوى الارتحال عند فراغه فله القصر إلى أربعة أيام بلا خلاف، وفيما زاد عليها طريقان (الصحيح) منهما وقول الجمهور أنه على ثلاثة أقوال:
(أحدها) يجوز القصر أبدا سواء فيه المقيم لقتال أو لخوف من القتال أو لتجارة وغيرها.
(والثاني) لا يجوز القصر أصلا.
(والثالث) وهو الأصح عند الأصحاب يجوز القصر ثمانية عشر يوما فقط، وقيل: على هذا يجوز سبعة عشر، وقيل تسعة عشر، وقيل عشرين، وسمى إمام الحرمين هذه أقوالا، والطريق الثاني أن هذه الأقوال في المحارب، وأما غيره فلا يجوز له القصر بعد أربعة أيام قولا واحدا، وبه قال أبو إسحاق: كما حكاه المصنف عنه، وإذا جمعت هذه الأقوال والأوجه وسميت أقوالا كانت سبعة.
(أحدها) لا يجوز القصر بعد أربعة أيام.
(والثاني) يجوز إلى سبعة عشر يوما (وأصحها) إلى ثمانية عشر، و (الرابع)(34/56)
إلى تسعة عشر، و (الخامس) إلى عشرين، و (السادس) أبدا، و (السابع) للمحارب مجاوزة أربعة وليس لغيره، ودليل الجميع يعرف مما ذكره المصنف، وذكرناه (الحال الثاني) أن يعلم أن شغله لا يفرغ قبل أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج كالمتفقه والمقيم لتجارة كبيرة ولصلاة الجمعة ونحوها، وبينه وبينها أربعة أيام فأكثر فإن كان محاربا وقلنا في الحال الأول:
لا يقصر فهاهنا أولى وإلا فقولان.
(أحدهما) يترخص أبدا (وأصحهما) لا يتجاوز ثمانية عشر، وإن كان غير محارب، فالمذهب أنه لا يترخص أصلا، وبه قطع الجمهور.
(والثاني) أنه كالمحارب حكاه الرافعي وآخرون وقالوا هو غلط (فإن قيل) ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن أنس قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصر حتى أتى مكة فأقمنا بها عشرا فلم يزل يقصر حتى رجع (1) » ، فهذا كان في حجة الوداع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نوى إقامة هذه المدة، (فالجواب) ما أجاب به البيهقي وأصحابنا في كتب المذهب.
قالوا: ليس مراد أنس أنهم أقاموا في نفس مكة عشرة أيام، بل طرق الأحاديث الصحيحة من روايات جماعة من الصحابة متفقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة في حجته لأربع خلون من ذي الحجة فأقام بها ثلاثة ولم يحسب يوم الدخول ولا الثامن لأنه خرج فيه إلى منى فصلى بها الظهر والعصر وبات بها، وسار منها يوم التاسع إلى عرفات، ورجع فبات بمزدلفة، ثم أصبح فسار إلى منى فقضى نسكه، ثم أفاض إلى مكة فطاف للإفاضة ثم رجع إلى منى، فأقام بها ثلاثا يقصر ثم نفر فيها بعد الزوال في ثالث أيام التشريق فنزل بالمحصب وطاف في ليلته للوداع ثم رحل من مكة قبل صلاة الصبح فلم يقم صلى الله عليه وسلم أربعا في موضع واحد، والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن الترمذي الجمعة (548) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1438) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/145) ، سنن الدارمي الصلاة (1510) .(34/57)
(فرع) لو سافر عبد مع سيده وامرأة مع زوجها، فنوى العبد والمرأة إقامة أربعة أيام ولم ينو السيد والزوج فوجهان حكاهما صاحب البيان وغيره (أحدهما) ينقطع رخصهما كغيرهما، و (الثاني) لا ينقطع لأنه لا اختيار لهما في الإقامة فلغت نيتهما. قال صاحب البيان: ولو نوى الجيش الإقامة مع الأمير ولم ينو هو فيحتمل أنه على الوجهين (قلت) الأصح في الجميع أنهم يترخصون لأنه يتصور منهم الجزم بالإقامة.(34/58)
7 - قال ابن قدامة رحمه الله
مسألة (وإذا نوى الإقامة ببلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم وإلا قصر) .
المشهور عن أحمد رحمه الله أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام إذا نوى الإقامة فيها ما كان أكثر من إحدى وعشرين صلاة. . رواه الأثرم وغيره وهو الذي ذكره الخرقي، وعنه إن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام أتم حكى هذه الرواية أبو الخطاب وابن عقيل. وعنه إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإلا قصر وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور وروى عن عثمان رضي الله عنه وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقمت أربعا فصل أربعا لأن الثلاث حد القلة لقوله عليه الصلاة والسلام: «يقيم المسافر بعد قضاء نسكه ثلاثا (1) » فدل أن الثلاث في حكم السفر وما زاد في حكم الإقامة. وقال الثوري وأصحاب الرأي إن أقام خمسة عشر يوما مع اليوم الذي يخرج فيه أتم، فإن نوى دونه قصر، ويروي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد لما روى عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: إذا قدمت وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشر ليلة فأكمل الصلاة ولا يعرف لهما مخالف، روي عن علي رضي الله عنه قال: يتم الصلاة الذي يقيم عشرا ويقصر الذي يقول أخرج اليوم أخرج غدا شهرا، وعن ابن عباس أنه قال: يقصر إذا أقام تسعة عشر يوما ويتم إذا أقمنا تسعة عشر يوما ويتم إذا زاد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في بعض أسفاره
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1511) .(34/58)
تسعة عشر يصلي ركعتين، قال ابن عباس فنحن إذا أقمنا تسعة عشر نصلي ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا. . رواه البخاري، وقال الحسن: صل ركعتين ركعتين إلا أن تقدم مصرا فأتم الصلاة وصم، وقالت عائشة: إذا وضعت الزاد والمزاد فأتم الصلاة وكان طاوس إذا قدم مكة صلى أربعا.
ولنا ما روى أنس قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فصلى ركعتين حتى رجع وأقام بمكة عشرا يقصر الصلاة (1) » . . متفق عليه. وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها (2) » قال: فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم، قال الأثرم: وسمعت أبا عبد الله يذكر حديث أنس في الإجماع على الإقامة للمسافر، فقال هو كلام ليس يفقهه كل أحد، فقوله أقام النبي صلى الله عليه وسلم عشرا يقصر الصلاة وقال قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة وخامسة وسابعة، ثم قال ثامنة يوم التروية وتاسعة وعاشرة، فإنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى وإلا فلا وجه له عندي غير هذا، فهذه أربعة أيام وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة يقصر وهي تزيد على أربعة أيام وهو صريح في خلاف قول من حده بأربعة أيام، وقول أصحاب الرأي: لا يعرف لهما مخالف في الصحابة لا يصح، لأنا قد ذكرنا الخلاف فيه عنهم، وحديث ابن عباس في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الإقامة. قال أحمد أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح ثماني عشرة لأنه أراد حنينا ولم يكن تم إجماع المقام، وهذه إقامته التي رواها ابن عباس وهو دليل على خلاف قول عائشة والحسن. . والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن الترمذي الجمعة (548) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/190) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) .
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (79) ، مسند أحمد بن حنبل (2/370) .(34/59)
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله لما سئل عن رجل مسافر إلى بلد، ومقصوده أن يقيم مدة شهر أو أكثر فهبط يتم الصلاة أم لا؟
فأجاب: إذا نوى أن يقيم بالبلد أربعة أيام فما دونها قصر الصلاة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة. فإنه أقام بها أربعة أيام يقصر الصلاة. وإن كان أكثر ففيه نزاع. والأحوط أن يتم الصلاة.
وأما إن قال غدا أسافر، أو بعد غد أسافر. ولم ينو المقام فإنه يقصر أبدا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضعة عشر يوما يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة. . والله أعلم.
وسئل عن رجل جرد إلى الخربة لأجل الحمى وهو يعلم أنه يقيم مدة شهرين، فهل يجوز له القصر؟ وإذا جاز القصر، فالإتمام أفضل أم القصر؟
فأجاب: الحمد لله. . هذه المسألة فيها نزاع بين العلماء، منهم من يوجب الإتمام، ومنهم من يوجب القصر، والصحيح أن كلاهما سائغ فمن قصر لا ينكر عليه، ومن أتم لا ينكر عليه.
وكذلك تنازعوا في الأفضل: فمن كان عنده شك في جواز القصر فأراد الاحتياط، فالإتمام أفضل، وأما من تبينت له السنة، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ولم يحد السفر بزمان أو بمكان، ولا حد الإقامة أيضا بزمن محدود، لا ثلاثة ولا أربعة، ولا اثنا عشر، ولا خمسة عشر، فإنه يقصر كما كان غير واحد من السلف يفعل، حتى كان مسروق قد ولوه ولاية لم يكن يختارها، فأقام سنين يقصر الصلاة.
وقد أقام المسلمون بنهاوند ستة أشهر يقصرون الصلاة، وكانوا يقصرون الصلاة مع علمهم أن حاجتهم لا تنقضي في أربعة أيام، ولا أكثر. كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد فتح مكة قريبا من عشرين يوما يقصرون الصلاة، وأقاموا بمكة عشرة أيام يفطرون في رمضان. وكان النبي(34/60)
صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة يعلم أنه يحتاج أن يقيم بها أكثر من أربعة أيام. وإذا كان التحديد لا أصل له، فمادام المسافر مسافرا يقصر الصلاة، ولو أقام في مكان شهورا. . والله أعلم. كتبه أحمد بن تيمية (1) .
وقال (2) : وتقصر الصلاة في كل ما يسمى سفرا، سواء قل أوكثر. ولا يتقدر بمدة، وهو مذهب الظاهرية ونصره صاحب المغني فيه. وسواء كان مباحا أو محرما. ونصره ابن عقيل في موضع. وقال بعض المتأخرين من أصحاب أحمد والشافعي: وسواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أو لا. وروي هذا عن جماعة من الصحابة.
وقرر أبو العباس قاعدة نافعة: وهي أن ما أطلقه الشارع بعمل يطلق مسماه ووجوده. ولم يجز تقديره وتحديده بمدة. فلهذا كان الماء قسمين: طاهرا طهورا أو نجسا. ولا حد لأقل الحيض وأكثره ما لم تصر مستحاضة، ولا لأقل سنه وأكثره ولا لأقل السفر.
أما خروجه إلى بعض عمل أرضه وخروجه صلى الله عليه وسلم إلي قباء فلا يسمى سفرا. ولو كان بريدا. ولهذا لا يتزود ولا يتأهب له أهبة السفر.
هذا مع قصر المدة. فالمسافة القريبة في المدة الطويلة سفر، لا البعيدة في المدة القليلة.
ولا حد للدرهم والدينار فلو كان أربعة دوانق أو ثمانية خالصا أو مغشوشا قل غشه أو كثر، لا درهما أسود عمل به في الزكاة والسرقة وغيرهما.
ولا تأجيل في الدية وأنه نص أحمد فيها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤجلها. وإن رأى الإمام تأجيلها فعل. لأن عمر أجلها، فأيهما رأى الإمام فعل. وإلا فإيجاب أحد الأمرين لا يسوغ والخلع فسخ مطلقا. . والكفارة في كل أيمان المسلمين.
__________
(1) مجموع الفتاوى جـ، ص 17، 18.
(2) الاختيارات الفقهية ص 72 - 73.(34/61)
وقال ابن القيم رحمه الله بعد كلامه على هديه صلى الله عليه وسلم لسفره وكان يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم فلا يصح وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وقد روى كان يقصر ويتم الأول بالياء آخر الحروف والثاني بالتاء المثناة من فوق وكذلك يفطر وتصوم أي تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين قال شيخنا ابن تيمية وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم كيف والصحيح عنها أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه قلت وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس وغيره أنها تأولت كما تأول عثمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر دائما فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا وقال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر وتتم هي فغلط بعض الرواة، فقال كان يقصر ويتم أي هو والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه فقيل ظنت أن القصر مشروط بالخوف والصفر، فإذا زال الخوف زال سبب القصر.
وهذا التأويل غير صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سافر آمنا وكان يقصر الصلاة والآية قد أشكلت على عمر رضي الله عنه وغيره فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه بالشفاء وإن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له وقد يقال أن الآية اقتضت قصرا يتناول قصر الأركان بالتخفيف وقصر العدد بنقصان ركعتين وقيد ذلك بأمرين: الضرب بالأرض والخوف، فإذا وجد(34/62)
الأمران أبيح القصر فيصلون صلاة الخوف مقصورة عددها وأركانها وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية فإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفى الأركان وسميت صلاة أمن وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد وقد تسمى تامة باعتبار إتمام أركانها وأنها لم تدخل في قصر الآية والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين والثاني يدل عليه كلام الصحابة كعائشة وابن عباس وغيرهما قالت عائشة: «فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر (1) » فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع وإنما هي مفروضة كذلك وأن فرض المسافر ركعتان وقال ابن عباس «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة (2) » متفق على حديث عائشة وانفرد مسلم بحديث ابن عباس وقال عمر بن الخطاب «صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم (3) » وقد خاب من افترى وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما بالنا نقصر وقد أمنا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته ولا تناقض بين حديثيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ودينه اليسر السمح علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس فقال صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1090) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685) ، سنن النسائي الصلاة (455) ، سنن أبو داود الصلاة (1198) ، مسند أحمد بن حنبل (6/265) ، موطأ مالك النداء للصلاة (337) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) .
(2) صحيح البخاري الصلاة (350) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685) ، سنن النسائي الصلاة (454) ، سنن أبو داود الصلاة (1198) ، مسند أحمد بن حنبل (6/272) ، موطأ مالك النداء للصلاة (337) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) .
(3) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1063) ، مسند أحمد بن حنبل (1/37) .(34/63)
وقال أنس «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة (1) » متفق عليه، ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات قال: إنا لله وإنا إليه راجعون صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان متفق عليه.
ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما، بل الأولى على قول، وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه على صلاة ركعتين في السفر وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان في السفر لا يزيد على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان (2) » يعني في صدر خلافة عثمان وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه وقد خرج لفعله تأويلات أحدها أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا حديثي عهد بالإسلام والعهد بالصلاة قريب ومع هذا فلم يربع لهم النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنه كان إماما للناس والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته فكأنه وطنه ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو أولى بذلك وكان هو الإمام المطلق ولم يربع.
التأويل الثالث: أن منى كانت قد بنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانت فضاء، ولهذا قيل له يا رسول الله ألا تبني لك بمنى بيتا يظللك من الحر فقال: لا منى مناخ من سبق فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر ورد هذا التأويل بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشرا يقصر في الصلاة.
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن الترمذي الجمعة (548) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/187) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1102) ، سنن الترمذي الجمعة (544) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458) ، سنن أبو داود الصلاة (1223) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071) ، مسند أحمد بن حنبل (2/140) ، سنن الدارمي المناسك (1875) .(34/64)
التأويل الرابع: أنه أقام بها ثلاثا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا (1) » فسماه مقيما والمقيم غير مسافر ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر. وقد أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشرا يقصر الصلاة، وأقام بمنى بعد نسكه أيام الجمار الثلاث يقصر الصلاة.
التأويل الخامس: أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى واتخاذها دار الخلافة. فلهذا أتم، ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة.
وهذا التأويل أيضا مما لا يقوى، فإن عثمان رضي الله عنه من المهاجرين الأولين وقد منع صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإقامة بمكة بعد نسكه ورخص لهم فيها ثلاثة أيام فقط فلم يكن عثمان ليقيم بها وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وإنما رخص فيها ثلاثا وذلك لأنهم تركوها لله وما ترك لله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع. ولهذا «منع النبي صلى الله عليه وسلم من شراء المتصدق لصدقته، وقال لعمر: لا تشترها ولا تعد في صدقتك (2) » فجعله عائدا في صدقته مع أخذها بالثمن.
التأويل السادس: أنه كان قد تأهل بمنى والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة أتم ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي عن أبي ذئاب عن أبيه قال: صلى عثمان بأهل منى أربعا وقال: يا أيها الناس لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده وعبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده أيضا.
وقد أعله البيهقي بانقطاعه وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم قال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه وعادته ذكر الجرح والمجروحين وقد نص أحمد وابن عباس قبله
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1511) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1489) ، صحيح مسلم الهبات (1621) ، سنن النسائي الزكاة (2617) ، سنن أبو داود الزكاة (1593) ، مسند أحمد بن حنبل (2/55) ، موطأ مالك الزكاة (625) .(34/65)
أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله ومالك وأصحابهما وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان. وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين فحيث نزلت فكان وطنها وهو أيضا اعتذار ضعيف فإن النبي صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين أيضا وأمومة أزواجه فرع عن أبوته ولم يكن يتم لهذا السبب وقد روى هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا فقلت لها لو صليت ركعتين فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق علي قال الشافعي رحمه الله لو كان فرض المسافر ركعتين لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم وقد قالت عائشة كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم وقصر، ثم روي عن إبراهيم بن محمد عن طلحة بن عمر عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت كل ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة في السفر وأتم قال البيهقي وكذلك رواه المغيرة بن زياد عن عطاء وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحارثي عن الدارقطني عن المحاملي حدثنا سعيد بن محمد بن أيوب حدثنا أبو عاصم حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة في السفر ويتم ويفطر ويصوم، قال الدارقطني وهذا إسناد صحيح، ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري عن عباس الدوري أنبأنا أبو نعيم حدثنا العلاء بن زهير حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة أنها اعتمرت مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت قال أحسنت يا عائشة، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة ولم تكن عائشة تصلي بخلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب كيف وهي القائلة فرضت الصلاة ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال الزهري لعروة لما حدثه عن(34/66)
أبيه عنها بذلك فما شأنها كانت تتم الصلاة فقال تأولت كما تأول عثمان فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها عليه فما للتأويل حينئذ وجه ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون. وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فإنها أتمت كما أتم عثمان وكلاهما تأول تأويلا والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له والله أعلم. وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر في القرآن فقال له ابن عمر: يا أخي إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأينا محمدا صلى الله عليه وسلم يفعل وقد قال أنس «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة (1) » وقال ابن عمر «صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم (2) » ، وهذه كلها أحاديث صحيحة (3) .
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن الترمذي الجمعة (548) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/187) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1102) ، سنن الترمذي الجمعة (544) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458) ، سنن أبو داود الصلاة (1223) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071) ، مسند أحمد بن حنبل (2/140) ، سنن الدارمي المناسك (1875) .
(3) زاد المعاد جـ 1، ص 128 - 130.(34/67)
مسألة: وقال الأثرم عنه إذا أجمع أن يقيم إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر فإذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك أتم واحتج بحديث جابر وابن عباس قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة وكذا نقل ابن الحكم ونقل المروزي إذا عزم على مقام إحدى وعشرين صلاة، فليتم لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الغداة يوم التروية بمكة وكذلك نقل حرب إذا دخل إلى قرية نوى أن يقيم أربعة أيام وزيادة صلاة أتم، وكذا نقل ابن أصرم وصالح والكوسج، إذا أزمع على إقامة أربعة أيام وزيادة يتم في أول يوم.
واحتج بحديث جابر، قال أبو حفص هذه الرواية ليست مستقصاة والأدلة(34/67)
مستقصاة أنه لا يلزمه الإتمام بالعزيمة على إقامة أربعة أيام وزيادة صلاة حتى ينوي أكثر من ذلك فكيف يقول: إذا أزمع على إقامة أربع وزيادة صلاة أتم.
ويحتج بحديث جابر في هذا المقدار وقد كشف هذا في رواية الفضل ابن عبد الصمد قيل له يا أبا عبد الله يحكون أنك تقول إذا أجمع على إقامة أكثر من أربعة وصلاة أتم فقال: لا يفهمون، النبي صلى الله عليه وسلم أجمع على إقامة أربع وصلاة فقصر. ونقل عنه أيوب بن إسحاق بن سافري أنه قال: إن أزمع على إقامة خمسة أيام يتم وما دون ذلك يقصر، قال أبو حفص ليس في هذا خلاف لذلك لأنه إذا أوجب الإتمام بإقامة أكثر من أربعة أيام وزيادة صلاة فبخمسة أيام أولى أن يوجب الإتمام. وقوله ما دون ذلك يقصر يحتمل أن يكون أراد به الأربعة أيام وزيادة صلاة لأرها دون الخمسة أيام ويحتمل أن يكون ذكره لليوم الخامس لأن الصلاتين بعد الأربعة أيام من اليوم الخامس لا أنه أراد إكمال اليوم الخامس. وقد بين ذلك في رواية طاهر بن محمد التميمي فقال إذا نوى إقامة أربعة أيام وأكثر من صلاة من اليوم الخامس أتم فقد بين مراده من ذكر اليوم الخامس أنه بعضه لأنه أكثر من مقام النبي صلى الله عليه وسلم الذي قصر فيه الصلاة. قال القاضي وظاهر كلام أبي حفص هذا أن المسألة على رواية واحدة وأن مدة الإقامة ما زاد على إحدى وعشرين صلاة وتأول بقية الروايات واحتج في ذلك بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة صبح رابعة فصلى بها الغداة وخامسة وسادسة وسابعة أربعة أيام كوامل وزاد صلاة لأنه صلى الغداة يوم التروية بمكة بالأبطح وخرج يوم الخامس إلى منى فصلى الظهر بمنى وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها. ويجوز أن يحمل كلام أحمد على ظاهره، فيكون في قدر الإقامة ثلاث روايات (إحداها) ما زاد على إحدى وعشرين اختارها الخرقي وأبو حفص (الثانية) ما زاد على أربعة أيام ولو بصلاة لأنها مدة تزيد على الأربعة فكان بها مقيما. دليله إذا نوى زيادة على إحدى وعشرين (الثالثة) ما نقص عن خمسة أيام ولو بوقت صلاة لأنها مدة تنقص عن خمسة(34/68)
أيام، فكان في حكم السفر دليله مدة إحدى وعشرين أو عشرين (1) .
__________
(1) مسائل فقهية عن الإمام أحمد بن حنبل ص 116 - 118 بدائع الفوائد.(34/69)
8 - وقال ابن حزم رحمه الله:
قال علي: واختلف الناس في هذا فروينا عن ابن عمر: أنه كان إذا أجمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم الصلاة ورويناه أيضا عن سعيد بن المسيب، وبه يقول: أبو حنيفة وأصحابه.
وروينا عن طريق أبي داود ثنا محمد بن العلاء ثنا حفص بن غياث ثنا عاصم عن عكرمة عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة سبع عشرة يقصر الصلاة (1) » قال ابن عباس: من أقام سبع عشرة يقمر الصلاة قال ابن عباس: من أقام سبع عشرة بمكة قصر ومن أقام فزاد أتم وروي عن الأوزاعي إذا أجمع إقامة ثلاث عشرة ليلة أتم فإن نوى أقل قصر وعن ابن عمر قول آخر: أنه كان يقول: إذا أجمعت إقامة ثنتي عشرة ليلة، فأتم الصلاة. وعن علي بن أبي طالب: إذا أقمت عشرا فأتم الصلاة، وبه يأخذ سفيان الثوري والحسن بن حيي وحميد الرواسي صاحبه.
وعن سعيد بن المسيب قول آخر وهو: إذا أقمت أربعا فصل أربعا، وبه يأخذ مالك والشافعي والليث، إلا أنهم يشترطون أن ينوي إقامة أربع، فإن لم ينوها قصر وإن بقي حولا.
وعن سعيد بن المسيب قول آخر وهو: إذا أقمت ثلاثا فأتم.
ومن طريق وكيع عن شعبة عن أبي بشر- هو جعفر بن أبي وحشية- عن سعيد بن جبير: إذا أراد أن يقيم أكثر من خمس عشرة أتم الصلاة. وعن سعيد بن جبير قول آخر: إذا وضعت رجلك بأرض فأتم الصلاة. وعن معمر عن الأعمش عن أبي وائل قال: كنا مع مسروق بالسلسلة مشتين وهو عامل عليها فصلى بنا ركعتين ركعتين حتى انصرف.
وعن وكيع عن شعبة عن أبي التياح الضبعي عن أبي المنهال العنزي قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولا لا أشد على المسير؟ قال: صل ركعتين.
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4300) ، سنن الترمذي الجمعة (549) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453) ، سنن أبو داود الصلاة (1230) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075) .(34/69)
وعن وكيع عن العمري عن نافع عن ابن عمر: أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر ارتج عليهم الثلج فكان يصلي ركعتين قال علي: الوالي لا ينوي رحيلا قبل خمس عشرة ليلة بلا شك وكذلك من ارتج عليه الثلج فقد أيقن أنه لا ينحل إلى أول الصيف.
وقد أمر ابن عباس من أخبره أنه مقيم سنة لا ينوي سيرا بالقصر.
وعن الحسن وقتادة: يقصر المسافر ما لم يرجع إلى منزله إلا أن يدخل مصرا من أمصار المسلمين.
قال علي: احتج أصحاب أبي حنيفة بأن قولهم أكثر ما قيل: وأنه مجمع عليه أنه إذا نوى المسافر إقامة ذلك المقدار أتم ولا يخرج عن حكم القصر إلا بإجماع.
قال علي: وهذا باطل. وقد أوردنا عن سعيد بن جبير أنه يقصر حين ينوي أكثر من خمسة عشر يوما، وقد اختلف عن ابن عمر نفسه، وخالفه ابن عباس كما أوردنا وغيره فبطل قولهم عن أن يكون له حجة، واحتج لمالك والشافعي. مقلدوهما بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق العلاء ابن الحضرمي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «يمكث المهاجر بعد انقضاء نسكه ثلاثا (1) » قالوا: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين الإقامة بمكة التي كانت أوطانهم فأخرجوا عنها في الله تعالى حتى يلقوا ربهم عز وجل غرباء عن أوطانهم لوجهه عز وجل، ثم أباح لهم المقام بها ثلاثا بعد تمام النسك، قالوا: فكانت الثلاث خارجة عن الإقامة المكروهة لهم، وكان ما زاد عنها داخلا في الإقامة المكروهة، ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلا.
وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه ليس في هذا الخبر نص ولا إشارة إلى المدة التي إذا أقامها المسافر أتم، وإنما هو في حكم المهاجر، فما الذي أوجب أن يقاس المسافر يقيم على المهاجر يقيم، هذا لو كان القياس حقا، وكيف وكله باطل؟
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3933) ، صحيح مسلم الحج (1352) ، سنن الترمذي الحج (949) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455) ، سنن أبو داود المناسك (2022) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073) ، مسند أحمد بن حنبل (5/52) ، سنن الدارمي الصلاة (1511) .(34/70)
وأيضا فإن المسافر مباح له أن يقيم ثلاثا وأكثر من ثلاث لا كراهية في شيء من ذلك، وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث فأي نسبة بين إقامة مكروهة وإقامة مباحة لو أنصفوا أنفسهم؟
وأيضا فإن ما زاد على الثلاثة الأيام للمهاجر داخل عندهم في حكم أن يكون مسافرا لا مقيما، وما زاد على الثلاثة للمسافر، فإقامة صحيحة، وهذا مانع من أن يقاس أحدهما على الآخر، ولو قيس أحدهما على الآخر لوجب أن يقصر المسافر فيما زاد على الثلاث لا أن يتم، بخلاف قولهم.
وأيضا فإن إقامة قدر صلاة واحدة زائدة على الثلاثة مكروهة، فينبغي عندهم إذا قاسوا عليه المسافر أن يتم ولو نوى زيادة صلاة على الثلاثة الأيام وهكذا قال أبو ثور فبطل قولهم على كل حال وعريت الأقوال كلها عن حجة، فوجب أن نبين البرهان على صحة قولنا بعون الله تعالى وقوته.
قال علي: أما الإقامة في الجهاد والحج والعمرة فإن الله تعالى لم يجعل القصر إلا مع الضرب في الأرض. ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم القصر إلا مع السفر لا مع الإقامة، وبالضرورة ندري أن حال السفر غير حال الإقامة، وأن السفر إنما هو التنقل في غير دار الإقامة، وأن الإقامة هي السكون وترك النقلة والتنقل في دار الإقامة. هذا حكم الشريعة والطبيعة معا.
فإن ذلك كذلك، فالمقيم في مكان واحد مقيما غير مسافر بلا شك، فلا يجوز أن يخرج عن حال الإقامة وحكمها في الصيام والإتمام إلا بنص، وقد صح بإجماع أهل النقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل في حال سفره فأقام باقي نهاره وليلته ثم رحل في اليوم الثاني، وأنه عليه الصلاة والسلام قصر في باقي يومه ذلك وفي ليلته التي بين يومي نقلته، فخرجت هذه الإقامة عن حكم الإقامة في الإتمام والصيام، ولولا ذلك لكان مقيم ساعة له حكم الإقامة.
وكذلك من ورد على ضيعة له أو ماشية أو عقار فنزل هنالك فهو مقيم،(34/71)
فله حكم الإقامة كما قال ابن عباس، إذ لم نجد نصا في مثل هذه الحال ينقلها عن حكم الإقامة وهو أيضا قول الزهري وأحمد بن حنبل.
ولم نجد عنه عليه السلام أنه أقام يوما وليلة لم يرحل فيهما فقصر وأفطر إلا في الحج والعمرة والجهاد فقط، فوجب بذلك ما ذكرنا من أن من أقام في خلال سفره يوما وليلة لم يظعن في أحدهما فإنه يتم ويصوم، وكذلك من مشى ليلا وينزل نهارا فإنه يقصر باقي ليلته ويومه الذي بين ليلتي حركته، وهذا قول روي عن ربيعة.
ونسأل من أبى هذا عمن مشى في سفر تقصر فيه الصلاة عندهم نوى إقامة وهو سائر لا ينزل ولا يثبت اضطر لشدة الخوف إلى أن يصلي فرضه راكبا ناهضا أو ينزل لصلاة فرضه ثم يرجع إلى المشي: أيقصر أو يتم؟ فمن قولهم يقصر، فصح أن السفر هو المشي.
ثم نسألهم عمن نوى إقامة وهو نازل غير ماش: أيتم أم يقصر؟ فمن قولهم يتم. فقد صح أن الإقامة هي السكون لا المشي متنقلا، وهذا نفس قولنا ولله تعالى الحمد.
وأما الجهاد والحج فإن عبد الله بن ربيع قال: ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا أحمد بن حنبل ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله، قال: «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة (1) » .
قال علي: محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ثقة، وباقي رواة الخبر أشهر من أن يسأل عنهم. وهذا أكثر ما روي عنه عليه السلام في إقامته بتبوك.
فخرج هذا المقدار من الإقامة عن سائر الأوقات بهذا الخبر.
وقال أبو حنيفة ومالك: يقصر ما دام مقيما في دار الحرب.
قال علي: وهذا خطأ لما ذكرنا من أن الله تعالى لم يجعل ولا رسوله- عليه السلام- الصلاة ركعتين إلا في السفر، وأن الإقامة خلاف السفر لما ذكرنا.
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (1235) ، مسند أحمد بن حنبل (3/295) .(34/72)
وقال الشافعي وأبو سليمان كقولنا في الجهاد. وروينا عن ابن عباس مثل قولنا نصا إلا أنه خالف في المدة.
وأما الحج والعمرة فلما حدثناه عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد حدثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى أنا هشيم عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس بن مالك قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين ركعتين حتى رجع، قال: كم أقام بمكة؟ قال: عشرا (1) » .
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا موسى ثنا وهب عن أيوب السختياني عن أبي العالية البراء عن ابن عباس قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج (2) » وذكر الحديث.
قال علي: فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صبح رابعة من ذي الحجة، فبالضرورة نعلم أنه أقام بمكة ذلك اليوم الرابع من ذي الحجة، والثاني وهو الخامس من ذي الحجة، والثالث وهو السادس من ذي الحجة، والرابع وهو السابع من ذي الحجة، وأنه خرج عليه السلام إلى منى قبل صلاة الظهر من اليوم الثامن من ذي الحجة، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من الأمة، فتمت له بمكة أربعة أيام وأربع ليالي كملا، أقامها عليه السلام ناويا للإقامة هذه المدة بها بلا شك، ثم خرج إلى منى في اليوم الثامن من ذي الحجة كما ذكرنا.
وهذا يبطل قول من قال: إن نوى إقامة أربعة أيام أتم لأنه عليه السلام نوى بلا شك إقامة هذه المدة ولم يتم، ثم كان عليه السلام بمنى اليوم الثامن من ذي الحجة وبات بها ليلة يوم عرفة، ثم أتى إلى عرفة بلا شك في اليوم التاسع من ذي الحجة، فبقي هنالك إلى أول الليلة العاشرة (3) إلى منى فكان بها.
ونهض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة. إما في اليوم العاشر وإما في الليلة
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (1081) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693) ، سنن الترمذي الجمعة (548) ، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452) ، سنن أبو داود الصلاة (1233) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/187) ، سنن الدارمي الصلاة (1509) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (1085) ، صحيح مسلم الحج (1240) ، سنن النسائي مناسك الحج (2870) ، مسند أحمد بن حنبل (1/261) .
(3) ثم نهض إلى مزدلفة فبات بها الليلة العاشرة ثم نهض في صباح اليوم العاشر.(34/73)
الحادية عشرة بلا شك في أحد الأمرين ثم رجع إلى منى، فأقام بها ثلاثة أيام ودفع منها في آخر اليوم الرابع بعد رمي الجمار بعد زوال الشمس، وكانت إقامته عليه السلام بمنى أربعة أيام غير نصف يوم، ثم أتى إلى مكة فبات الليلة الرابعة عشرة بالأبطح، وطاف بها طواف الوداع، ثم نهض في آخر ليلته تلك إلى المدينة، فكمل له عليه السلام بمكة ومنى وعرفة ومزدلفة عشر ليال كملا كما قال أنس فصح قولنا، وكان معه عليه السلام متمتعون، وكان هو عليه السلام قارنا، فصح ما قلناه في الحج والعمرة ولله الحمد، فخرجت هذه الإقامة بهذا الأثر في الحج والعمرة حيث أقام عن حكم سائر الإقامات، ولله تعالى الحمد.
فإن قيل: أليس قد رويتم من طريق ابن عباس وعمران بن الحصين روايات مختلفة في بعضها، أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسع عشرة، وفي بعضها ثمان عشرة وفي بعضها سبع عشرة وفي بعضها خمس عشرة يقصر الصلاة.
قلنا نعم، وقد بين ابن عباس إن هذا كان في عام الفتح، وكان عليه السلام في جهاد وفي دار حرب، لأن جماعة من أهل مكة كصفوان وغيره لهم مدة موادعة لم تنقض بعد، ومالك بن عوف في هوازن قد جمعت له العساكر بحنين على بضعة عشر ميلا، وخالد بن سفيان الهذلي على أقل من ذلك يجمع هذيلا لحربه، والكفار محيطون به محاربون له، فالقصر واجب بعد في أكثر من هذه الإقامة، وهو عليه السلام يتردد من مكة إلى حنين ثم إلى مكة معتمرا ثم إلى الطائف، وهو عليه السلام يوجه السرايا إلى من حول مكة من قبائل العرب، كبني كنانة وغيرهم، فهذا قولنا، وما دخل عليه السلام مكة قط من حين خرج عنها مهاجرا إلا في عمرة القضاء أقام بها ثلاثة أيام فقط، ثم حين فتحها كما ذكرنا محاربا، ثم في حجة الوداع أقام بها كما وصفنا ولا مزيد.
قال علي: وأما قولنا: إن هذه الإقامة لا تكون إلا بعد الدخول في أول دار(34/74)
الحرب وبعد الإحرام فلأن القاصد إلى الجهاد ما دام في دار الإسلام فليس في حال جهاد، ولكنه مريد للجهاد وقاصد إليه، وإنما هو مسافر كسائر المسافرين، إلا أجر نيته فقط، وهو ما لم يحرم فليس يعد في عمل حج ولا عمل عمرة، لكنه مريد لأن يحج أو لأن يعتمر، فهو كسائر من يسافر ولا فرق.
قال علي: وكل هذا لا حجة لهم فيه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل إذ أقام بمكة أياما: إني إنما قصرت أربعا لأني في حج ولا لأني في مكة، ولا قال: إذ أقام بتبوك عشرين يوما يقصر: إني إنما قصرت لأني في جهاد، فمن قال شيئا من هذا فقد قوله عليه الصلاة والسلام ما لم يقل. وهذا لا يحل. فصح يقينا أنه لولا مقام النبي عليه الصلاة والسلام في تبوك عشرين يوما يقصر وبمكة دون ذلك يقصر لكان لا يجوز القصر إلا في يوم يكون فيه المرء مسافرا ولكان مقيم يومه يلزمه الإتمام. لكن لما أقام عليه الصلاة والسلام عشرين يوما بتبوك يقصر صح بذلك أن عشرين يوما إذا أقامها المسافر، فله فيها حكم السفر. فإن أقام أكثر أو نوى إقامة أكثر فلا برهان يخرج ذلك عن حكم الإقامة أصلا.
ولا فرق بين من خص الإقامة في الجهاد بعشرين يوما يقصر فيها وبين من خص ذلك بتبوك دون سائر الأماكن وهذا كله باطل لا يجوز القول به إذ لم يأت به نص قرآن ولا سنة، وبالله التوفيق.
ووجب أن يكون الصوم بخلاف ذلك، لأنه لم يأت فيه نص أصلا.
فمن نوى إقامة يوم في رمضان فإنه يصوم، وبالله التوفيق.
قال علي: وقال أبو حنيفة والشافعي: إن أقام في مكان ينوي خروجا غدا أو اليوم، فإنه يقصر ويفطر ولو أقام كذلك أعواما. قال أبو حنيفة: وكذلك لو نوى خروجا ما بينه وبين خمسة عشر يوما، ونوى إقامة أربعة عشر يوما فإنه يفطر ويقصر.
وقال مالك: يقصر ويفطر وإن نوى إقامة ثلاثة أيام فإنه يفطر ويقصر، وإن(34/75)
نوى أخرج اليوم أخرج غدا قصر ولو بقي كذلك أعواما.
قال علي: ومن العجب العجيب إسقاط أبي حنيفة النية حيث افترضها الله تعالى من الوضوء للصلاة وغسل الجنابة والحيض وبقائه في رمضان ينوي الفطر إلى قبل زوال الشمس، ويجيز كل ذلك بلا نية، ثم يوجب النية فرضا في الإقامة، حيث لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أوجبها برهان نظري.
قال علي: وبرهان صحة قولنا أن الحكم لإقامة المدد التي ذكرنا- كانت هنالك نية لإقامة أو لم تكن- فهو أن النيات إنما تجب فرضا في الأعمال التي أمر الله تعالى بها فلا يجوز أن تؤدى بلا نية، وأما عمل لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فلا معنى للنية فيه، إذ لم يوجبها هنالك قرآن ولا سنة ولا نظر ولا إجماع والإقامة ليست عملا مأمورا به، وكذلك السفر، وإنما هما حالان أوجب الله تعالى فيهما العمل الذي أمر الله تعالى به فيهما، فذلك العمل هو المحتاج إلى النية لا الحال، وهم موافقون لنا أن السفر لا يحتاج إلى نية، ولو أن امرءا خرج لا يريد سفرا فدفعته ضرورات لم يقصد لها حتى صار من منزله على ثلاث ليال، أو سير به مأسورا أو مكرها محمولا مجبرا فإنه يقصر ويفطر، وكذلك يقولون فيمن أقيم به كرها فطالت به مدته فإنه يتم ويصوم.
وكذلك يقولون فيمن اضطر للخوف إلى الصلاة راكبا أو ماشيا، فذلك الخوف وتلك الضرورة لا يحتاج فيها إلى نية. وكذلك النوم لا يحتاج إلى نية، وله حكم في إسقاط الوضوء وإيجاب تجديده وغير ذلك. وكذلك الإجناب لا يحتاج إلى نية وهو يوجب الغسل. وكذلك الحدث لا يحتاج إلى نية وهو يوجب حكم الوضوء والاستنجاء، فكل عمل لم يؤمر به، لكن أمر فيه بأعمال موصوفة فهو لا يحتاج إلى نية، وهو يوجب حكم الوضوء والاستنجاء، فكل عمل لم يؤمر به لكن أمر فيه بأعمال موصوفة فهو لا يحتاج إلى نية، ومن جملة هذه الأعمال هي الإقامة والسفر، فلا يحتاج(34/76)
فيهما إلى نية أصلا، لكن متى وجدا وجب لكل واحد منهما الحكم الذي أمر الله تعالى به فيه ولا مزيد. وبالله تعالى التوفيق وهذا قول الشافعي وأصحابنا.
هذا ما تيسر جمعه وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/77)
صفحة فارغة(34/78)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية.(34/79)
فتوى رقم 830
س: قد اطلعت على حديث شريف أورده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه "مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم " وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (1) » والسائل هنا يريد بيان هذه المسألة التي قال فيها الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتابه آنف الذكر: " فهذه المسألة من أجل المسائل فمن فهمها فهو الفقيه ومن عمل بها فهو المسلم فنسأل الله الكريم المنان أن يتفضل علينا بفهمها والعمل بها " كما يود إجابته على الأسئلة التالية التي تدور حول الحديث المذكور وهي:
(1) من هي الفرقة الناجية المشار إليها في الحديث؟
(2) وهل تدخل الفرق الأخرى غير أهل الحديث كالشيعة والشافعية والحنفية والتيجانية وغيرها في الاثنتين والسبعين فرقة التي نص الرسول الكريم على أنها في النار؟
(3) وإذا كانت هذه الفرق في النار إلا واحدة فكيف تسمحون لهم بزيارة بيت الله الحرام؟ هل كان الإمام الكبير على خطأ أم قد حدتم عن الجادة المستقيمة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: ما ذكره الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله- في مختصر السيرة طرف من حديث صحيح مشهور رواه أصحاب السنن والمسانيد كأبي داود والنسائي والترمذي وغيرهم بألفاظ عدة منها: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2641) .(34/80)
وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (1) » وفي رواية: «على ثلاث وسبعين ملة (2) » وفي رواية: «قالوا: يا رسول الله من الفرقة الناجية؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (3) » وفي رواية: «هي الجماعة، يد الله على الجماعة (4) » .
ثانيا: الفرقة الناجية قد بينها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في بعض روايات الحديث المتقدم بصفتها ومميزاتها في جوابه على سؤال أصحابه: "من الفرقة الناجية؟ " حيث قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (5) » وفي رواية أخرى قال: «هي الجماعة يد الله على الجماعة (6) » فوصفها بأنها هي التي تسير في عقيدتها وقولها وعملها وأخلاقها على ما كان عليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، فتنهج نهج الكتاب والسنة في كل ما تأتي وما تذر، وتلزم طريق جماعة المسلمين وهم الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يكن لهم متبوع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فكل من اتبع الكتاب والسنة قولية أو عملية وما أجمعت عليه الأمة ولم تستهوه الظنون الكاذبة ولا الأهواء المضلة والتأويلات الباطلة التي تأباها اللغة العربية التي هي لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها نزل القرآن الكريم وتردها أصول الشريعة الإسلامية كل من كان كذلك فهو من الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة.
ثالثا: أما من اتخذ إلهه هواه وعارض الكتاب والسنة الصحيحة برأيه أو رأي إمامه وقول متبوعه حمية له وعصبية أو تأول نصوص الكتاب والسنة بما تأباه اللغة العربية وترده أصول الشريعة الإسلامية فشذ بذلك عن الجماعة فهو من الفرق الثنتين والسبعين التي ذكر الرسول المعصوم محمد صلى الله عليه
__________
(1) الإمام أحمد 2 \ 332 و 2 \ 120 وأبو داود برقم 4596 والترمذي برقم 2642 وابن ماجه برقم 4029 والحاكم في المستدرك 1 \ 128 والآجري في الشريعة ص 25.
(2) الترمذي برقم 2643.
(3) الطبراني برقم 724 في الصغير والترمذي برقم 2643.
(4) الإمام أحمد 3 \ 145 و4 \ 102 وأبو داود برقم 4597 والدارمي في السنن 2 \ 241 وابن ماجه برقم 4040 و 4041 والحاكم في المستدرك 1 \ 128 والآجري في الشريعة ص 18.
(5) سنن الترمذي الإيمان (2641) .
(6) صحيح مسلم الإمارة (1852) ، سنن النسائي تحريم الدم (4020) ، سنن أبو داود السنة (4762) ، مسند أحمد بن حنبل (4/341) .(34/81)
وسلم بأنها جميعها في النار، وإذا فأمارة هذه الفرق التي بها تعرف مفارقة الكتاب والسنة والإجماع بلا تأويل يتفق مع لغة القرآن وأصول الشريعة ويعذر به صاحبه فيما أخطأ فيه.
رابعا: المسألة التي ذكرها إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذكر أنها من أجل المسائل وأن من فهمها فقد فهم الدين ومن عمل بها فهو المسلم. هي ما تقدم بيانه في الفقرة الثانية من الإجابة، من تميز الفرقة الناجية بما ميزها به النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأن الفرق الأخرى على خلافها، فمن ميز بين الفرقة الناجية والفرقة الهالكة بما ميز به النبي صلى الله عليه وسلم وفهم الفرق بين الفرقة الناجية والهالكة على وفق بيانه فقد فهم الدين وميز بين من يجب أن يلزم جماعتهم ومن يجتنبهم ويفر منهم فراره من الأسد، ومن أخذ نفسه بالعمل بهذا الفهم الصحيح فلزم جماعة الهدى والحق وإمامهم فهو المسلم، لأنه ينطبق عليه وصف الفرقة الناجية علما وعقيدة وقولا وعملا.
ولاشك أن هذا من أجل المسائل وأعظمها نفعا وأعمها فائدة، فرحم الله الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رجل البصيرة النافذة والفهم الدقيق لنصوص الدين ومقاصده، حيث نبه على ما يهم المسلمين في أمر دينهم بالإشارة أحيانا كما هنا وبالعبارة والبيان أحيانا أخرى كما في كثير من مؤلفاته.
خامسا: لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الألقاب التي اشتهرت بها الطوائف المنتسبة للإسلام سمات تعرف بها الفرق الثنتان والسبعون ولا عنوانا يتمايز به بعضها عن بعض، وإنما جعل أمارتها مفارقة الكتاب والسنة وإجماع الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، اتباعا للظن وما تهوى الأنفس، وقولا على الله بغير علم وعصبية لمتبوعهم سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعادون في ذلك ويوالون، كما جعل شعارا للفرقة الناجية اتباع الكتاب والسنة ولزوم جماعة المسلمين، وإيثار ذلك على مداركهم وظنونهم وأهوائهم، فهواهم تبعا لما جاءت به الشريعة الإسلامية، يوالون في ذلك ويعادون، فمن يتخذ ميزانا يزن به الطوائف سوى بيان رسول الله صلى الله عليه(34/82)
وسلم ويعرف به فرقها ليميز الفرقة الناجية من الفرق الهالكة فقد تكلم بغير علم وحكم في الفرق بغير بصيرة فظلم بذلك نفسه، وظلم الطوائف المنتسبة للإسلام، ومن رجع في تمييز الفرقة الناجية من الفرق الهالكة إلى بيانه صلى الله عليه وسلم عدل في حكمه وعرف أن جماعات الأمة درجات متفاوتة، فمنهم من هو أحرص على اتباع الشريعة والاستسلام لها وأبعد الناس عن الابتداع في الدين والتحريف في نصوصه، والزيادة فيه أو النقص منه فهؤلاء أسعد الناس بأن يكونوا من الفرقة الناجية، فعلماء الحديث وأئمة الفقه في الكتاب والسنة منهم من هو أهل للاجتهاد يحرص على الشريعة ويسلم لها إلا أنه قد يتأول بعض نصوصها تأويلا يخطئ فيه فيعذر في خطئه لكونه في موارد الاجتهاد.
ومنهم من ينكر بعض نصوص الشريعة، إما لكونه حديث عهد بالإسلام، وإما لأنه نشأ في أطراف البلاد الإسلامية فلم يبلغه ما أنكره، ومنهم من يرتكب معصية أو يبتدع بدعة لا يخرج بها عن حظيرة الإسلام، فهو مؤمن مطيع لله بما فيه من طاعة مسيء بما ارتكب من معصية وابتدع من البدع فكان في مشيئة الله إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) وقال: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} (2) فهؤلاء وهؤلاء ليسوا بكفار بتأويلهم الخاطئ أو جحدهم ما جحدوا بل يعذرون ويدخلون في عداد الفرقة الناجية وإن كانوا دون الأولى.
ومنهم من جحد معلوما من الدين بالضرورة بعد ما تبين له واتبع هواه بغير هدى من الله أو تأول بعض نصوص الشريعة تأويلا بعيدا مخالفا في ذلك من سبقه من جماعة المسلمين، ولما بين لهم الحق وأقيمت عليهم الحجة بالمناظرات وغيرها لم يرجعوا فهؤلاء كفار مرتدون عن الإسلام وإن زعموا أنهم مسلمون وإن اجتهدوا في الدعوة إليه على عقيدتهم وطريقتهم، كجماعة
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة التوبة الآية 102(34/83)
القاديانية الأحمدية الذين أنكروا ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وزعموا أن غلام أحمد القادياني نبي الله ورسوله أو أنه المسيح عيسى ابن مريم أو تقمصت روح محمد أو عيسى بدنه فكان بمنزلته في النبوة والرسالة.
سادسا: لأهل السنة والجماعة أصول ثابتة بالأدلة يبنون عليها الفروع، ويرجعون إليها في الاستدلال على المسائل الجزئية وفي تطبيق الأحكام على أنفسهم وعلى غيرهم، ومنها:
أن الإيمان قول وعمل وعقيدة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فكلما زاد المسلم في الطاعة زاد إيمانه وكلما فرط فيها أو ارتكب معصية بحيث لا ينتهي به ذلك إلى الكفر الصريح نقص إيمانه، فالإيمان عندهم درجات والفرقة الناجية طبقات متفاوتة بعضها فوق بعض حسب الأدلة وما كسبوا من الأقوال والأفعال.
ومنها: أنهم لا يكفرون أحدا معينا أو طائفة معينة من أهل القبلة ويتحرجون من ذلك، لإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد بن حارثة قتله رجلا من الكفار بعد أن قال: لا إله إلا الله، ولم يقبل من أسامة اعتذاره عن قتله بأنه قالها متعوذا ليحرز بها نفسه، بل قال له: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا (1) » يعني أقالها خالصا من قلبه أم لا.
إلا إذا أتى بما هو كفر واضح، كإنكاره لمعلوم من الدين بالضرورة أو مخالفة لإجماع قاطع وتأويله لنصوص صريحة لا تقبل التأويل ثم لم يرجع عن ذلك بعد البيان.
وقد لزم إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله طريقة أهل السنة والجماعة وسار على أصولهم، فلم يكفر أحدا معينا ولا طائفة معينة من أهل القبلة بمعصية أو تأويل أو بدعة إلا إذا قام الدليل على الكفر بذلك،
__________
(1) الإمام أحمد 4 \ 439 و5 \ 207 والبخاري برقم 4269 و 6872 (الفتح) ومسلم برقم 96 وأبو داود برقم 2643 وابن ماجه برقم 3977.(34/84)
وثبت البلاغ والبيان، ولم تختلف الحكومة السعودية رعاها الله وأيدها بتوفيقه عن ذلك في معاملتها لرعيتها وحكمها فيهم، ولا في موقفها من المسلمين في الدول، وخاصة من يفد إلى بيت الله الحرام لأداء نسك الحج أو العمرة فهي تحسن الظن بالمسلمين وتعتبرهم إخوانا لها في الدين وتتعاون معهم على ما يشد أزرهم ويحفظ حقهم ويرد إليهم ما سلب منهم، وترحب بمن يفد إليها وتقوم بما يسهل عليهم أداء نسكهم أو مهمتهم خير قيام بعطف وحدب، يعرف ذلك من خبر أحوالها ووقف على شؤونها وما تبذله من جهود وأموال في سبيل الإصلاح العام للمسلمين وتوفير الراحة لحجاج بيت الله الحرام.
ولهذا تسمح لطوائف المسلمين المختلفة بزيارة بيت الله الحرام دون التنقيب عما خفي من عقائدهم عملا بالظاهر دون التنقيب عما في البواطن، والله يتولى السرائر، فإذا وضح لها كفر شخص أو طائفة معينة كالقاديانية مثلا وثبت ذلك لدى العلماء المحققين من الدول الإسلامية فلا يسعها إلا أن تمنع من ثبت كفره وردته من أداء الحج والعمرة حماية لبيت الله الحرام أن يقربه من في قلبه رجس، وعملا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (1) . وقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (2) .
ومما تقدم يتبين وجه أهمية المسألة العظيمة التي أشار إليها إمام الدعوة في عصره الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجاء طلب بيانه في السؤال، كما يتضح أنه رحمه الله سار على النهج السليم حيث لزم أصول أهل السنة والجماعة، وإن الحكومة السعودية في معاملتها للمسلمين في العالم لم تحد عن الجادة، بل التزمت أصول أهل السنة والجماعة أيضا كما لزمها إمام الدعوة، فأخذت المسلمين بظواهرهم ولم تنقب عن قلوبهم، فتسامحت مع من خفي أمره
__________
(1) سورة التوبة الآية 28
(2) سورة الحج الآية 26(34/85)
وقست على من كشف عن جريمته، وأصر على ردته بعد المناظرات المتتالية والبيان المتتابع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(34/86)
من الفتوى رقم 4143
س: ما هو التعريف الاصطلاحي لأهل السنة والجماعة؟ هل العلماء من مدرسة بريلوي بالهند يعتبرون من أهل السنة والجماعة. . ولماذا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: هم من كانوا على مثل ما كان عليه محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، فهؤلاء هم أهل السنة والجماعة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(34/86)
من الفتوى رقم 6229
س: ما قولكم في صفات الفرقة الناجية ما هم وما طريقتهم وما بلدهم إن كان ذكر ذلك في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أو ذكر في كلام العلماء؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الفرقة الناجية هي التي على مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فسرها بذلك الرسول عليه الصلاة والسلام وطريقتهم اتباع الكتاب والسنة وما ضم إليهما مما يستند إليهما ولا يحصرون في بلد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/87)
من الفتوى رقم 6800
س: كيف نفسر بزوغ وظهور هذه الطوائف الدينية إذا علمنا أن لكل طائفة طريقة في الدعوة وتريد أن تحتل الصدارة وهل تدخل كلها أو بعضها في قوله صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (1) » . . " إلخ، كيف نوفق بين هذه الطوائف (الإخوان المسلمين، السلفية، الخلفية، التكفير والهجرة، التبليغ، الصوفية) إلى آخره.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2640) ، سنن أبو داود السنة (4596) ، سنن ابن ماجه الفتن (3991) ، مسند أحمد بن حنبل (2/332) .(34/87)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: دين الله واحد والطريق إليه واحد، فمن كان على دين الإسلام وعلى مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المصيب.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(34/88)
من الفتوى رقم 7278
س: عرفت هذا الحديث منذ زمن طويل، أعمل به غاية بلا نهاية، والحديث: " «ستفترق أمتي- هذه الأمة- على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة، وهي من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي (1) » ، وهكذا عرفت هذا الحديث، ولكن كنت أستذكر بعض الكتاب ورأيت هذا الحديث مع زيادة وهي وفي رواية: "كلهم في الجنة إلا واحدة" والله العظيم إن هذه الرواية قد أشكلت علي جدا، هل كلهم في النار إلا واحدة هي الحقيقة، أم كلهم في الجنة إلا واحدة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الثابت في الحديث في جميع الروايات "كلها في النار إلا واحدة"، أما رواية "كلهم في الجنة إلا واحدة" فلا أصل لها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2641) .(34/88)
من الفتوى رقم 4161
س: هل يجب على كل مسلم أن يكون له فرقة إسلامية ويكون لها أمير جماعة مع أن هذا يؤدي إلى تفرق أمر المسلمين وتفتيت وحدتهم وتنازعهم "ولا تنازعوا فتفشلوا"؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الواجب على المسلم أن يتبع ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قولا وعملا واعتقادا وأن يحب في الله ويبغض في الله ويوالى في الله ويعادي في الله وأن يحرص على أن يكون أقرب الناس إلى الحق بقدر استطاعته.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ(34/89)
من الفتوى رقم 4093
س: أنا طالب جامعي أعيش في دوامة من الآراء والأفكار وبين جماعات كل واحدة منها تنسب لنفسها الأفضلية وتعمل كل ما في وسعها لكسب الأنصار مثل جماعة الإخوان المسلمين وجماعة التبليغ صاحبة الخروج 40 يوما 4 أشهر وجماعة أنصار السنة والجماعة الإصلاحية لعبد الحميد بن باديس، وعليه أرجو وأطلب منكم أن توجهونا إلى الطريق الصحيح الذي فيه سعادتنا وسلامة الإسلام من كل ما يجعله يتأثر بالتيارات الخارجية التي تنهش عظامنا ونحن لا ندري؟(34/89)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الواجب عليك التزام الحق وما يشهد له الدليل دون التحيز لجماعة بعينها وأولى الجماعات بالتعاون معها من حافظ على العقيدة الصحيحة التي كان عليها أئمة السلف الصالح رضوان الله عليهم والالتزام بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله وصلى الله عليه وسلم ونبذ ما حدث من البدع والخرافات.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/90)
من الفتوى رقم 6250
س: في العالم الإسلامي اليوم عدة فرق وطرق الصوفية مثلا هناك جماعة التبليغ، الإخوان المسلمين، السنيين، الشيعة، فما هي الجماعة التي تطبق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أقرب الجماعات الإسلامية إلى الحق وأحرصها على تطبيقه أهل السنة وهم أهل الحديث وجماعة أنصار السنة ثم الإخوان المسلمون، وبالجملة فكل فرقة من هؤلاء فيها خطأ وصواب، فعليك بالتعاون معها فيما عندها من الصواب واجتناب ما وقعت فيه من أخطاء مع التناصح والتعاون على البر والتقوى.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(34/90)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/91)
من الفتوى رقم 6280
س: الجماعات والفرق الموجودة الآن، أقصد بها جماعة الإخوان المسلمين وجماعة التبليغ وجماعة أنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية والسلفيين ومن يسمونهم التكفير والهجرة وهذه كلها وغيرها قائمة بمصر أسأل ما موقف المسلم منها وهل ينطبق عليها حديث حذيفة -رضي الله عنه-: «فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدكك الموت وأنت على ذلك (1) » رواه الإمام مسلم في الصحيح؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: كل من هذه الفرق فيها حق وباطل وخطأ وصواب وبعضها أقرب إلى الحق والصواب وأكثر خيرا وأعم نفعا من بعض، فعليك أن تتعاون مع كل منها على ما معها من الحق وتنصح لها فيما تراه خطأ ودع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3606) ، صحيح مسلم الإمارة (1847) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4244) ، سنن ابن ماجه الفتن (3979) ، مسند أحمد بن حنبل (5/387) .(34/91)
من الفتوى رقم 7122
س: في هذا الزمان عديد من الجماعات والتفريعات كل منها يدعي الانضواء تحت الفرقة الناجية، ولا ندري أيها على حق فنتبعه، ونرجو من سيادتكم أن تدلونا على أفضل هذه الجماعات وأخيرها فنتبع الحق فيها مع إبراز الأدلة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: كل من هذه الجماعات تدخل في الفرقة الناجية إلا من أتى منهم بمكفر يخرج عن أصل الإيمان، لكنهم تتفاوت درجاتهم قوة وضعفا بقدر إصابتهم للحق وعملهم به وخطئهم في فهم الأدلة والعمل، فأهداهم أسعدهم بالدليل فهما وعملا، فاعرف وجهات نظرهم، كن مع أتبعهم للحق وألزمهم له، ولا تبخس الآخرين أخوتهم في الإسلام فترد عليهم ما أصابوا فيه من الحق، بل اتبع الحق حيثما كان ولو ظهر على لسان من يخالفك في بعض المسائل، فالحق رائد المؤمن، وقوة الدليل من الكتاب والسنة هي الفيصل بين الحق والباطل.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/92)
من الفتوى رقم 1361
س: ما هي السلفية وما رأيكم فيها؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
سبى: السلفية نسبة إلى السلف، والسلف هم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأئمة الهدى من أهل القرون الثلاثة الأولى (رضي الله عنهم) الذين شهد لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالخير في قوله: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته (1) » رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم، والسلفيون جمع سلفي نسبة إلى السلف، وقد تقدم معناه وهم الذين ساروا على منهاج السلف من اتباع الكتاب والسنة والدعوة إليهما والعمل بهما فكانوا بذلك أهل السنة والجماعة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الإمام أحمد 4 \ 426 و 427 و 479 البخاري برقم 2651 و 3650 و 6428 و 6695 ومسلم برقم 2535 وأبو داود برقم 4657 والترمذي برقم 2222 و 2223.(34/93)
من الفتوى رقم 4250
س: ما هو دور المسلم الأمين الذي يعيش في مجتمع جاهلي ليس فيه علماء ولا حركات إسلامية ولا يستطيع أن يقارن بين هذه الجماعات حتى يتبع(34/93)
من يوافق الكتاب والسنة، فما دوره وهو عاجز هذا العجز وهو يعيش بين الذئاب؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: ينبغي للمسلم أن يتعلم من أمور دينه ما يجعله على بصيرة من الدين ويدعو الناس إلى الخير بقدر استطاعته ولا يجب عليه ما لا يستطيعه لعموم أدلة يسر الشريعة ومنها قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (1) وقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (2) ويجب عليه أن يتعاون مع أقرب أهل العلم إلى الخير، فإن لم يجد وجب عليه أن يهاجر إلى بلد فيها من يتعاون معه على معرفة دينه وإقامة شعائره ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 6
(2) سورة التغابن الآية 16(34/94)
من الفتوى رقم 6356
س: كيف نحقق وحدة إسلامية لأمة إسلامية في عصرنا هذا ونحن نرى ونسمع كل يوم بمسلم يقتل أخاه المسلم (مثال: منظمة التحرير الفلسطينية وما يجري فيها- العراق مع إيران وما بينهما) وغيرهم من بقية أمتنا العربية المشتتة التي اتفقت على ألا تتفق؟(34/94)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: تحقيق الوحدة الإسلامية يكون بما تحققت به في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- من العقيدة الصحيحة والإيمان الصادق والعمل بكتاب الله تعالى وبسنة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، والدعوة إليه والصبر على الأذى فيه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/95)
فتوى رقم 8687
س: سمعت حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يصلح لهذه الأمة أمر دينها» ، ولي بعض الاستفسارات:
(أ) ما هو سند هذا الحديث ومتنه الصحيح، ومن هو راويه؟
(ب) ذكر هؤلاء الصالحين إن أمكن ذلك؟
(ب) ما معنى (يصلح أمر الدين) وقد تركنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المحجة البيضاء؟
(د) كيف يستدل عليهم؟
(هـ) ما مدى صحة القول إنهم يأتون على رأس الثانية عشرة من كل قرن هجري؟(34/95)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: روى هذا الحديث أبو داود في سننه عن سليمان بن داود المهري قال: أخبرنا عبد الله بن وهب أخبرني سعيد بن أبي أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة، فيما أعلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها (1) » . ثانيا: هذا الحديث صحيح، ورواته كلهم ثقات.
ثالثا ورابعا: معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- "يجدد لها دينها" أنه كلما انحرف الكثير من الناس عن جادة الدين الذي أكمله الله لعباده وأتم عليهم نعمته ورضيه لهم دينا بعث إليهم علماء أو عالما بصيرا بالإسلام وداعية رشيدا يبصر الناس بكتاب الله وسنة رسوله الثابتة، ويجنبهم البدع ويحذرهم محدثات الأمور ويردهم عن انحرافهم إلى الصراط المستقيم كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فسمى ذلك تجديدا بالنسبة للأمة، لا بالنسبة للدين الذي شرعه الله وأكمله، فإن التغير والضعف والانحراف إنما يطرأ مرة بعد مرة على الأمة، أما الإسلام نفسه فمحفوظ بحفظ كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- المبينة قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) .
خامسا: ليس في الحديث أن هؤلاء المصلحين يأتون على رأس السنة الثانية عشرة، بل فيه أنهم يأتون بأمر الله وحكمته على رأس كل مائة سنة، وهي القرن الهجري؛ لأنه المتعارف عند المسلمين في ذلك الزمن، وهذا فضل من الله ورحمة منه بعباده، وإقامة للحجة عليهم حتى لا يكون لأحد عذر بعد البلاغ والبيان.
__________
(1) أبو داود برقم 4291 والحاكم 4 \ 522 والبيهقي في المعرفة 52 والخطيب في التاريخ 2 \ 61.
(2) سورة الحجر الآية 9(34/96)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/97)
فتوى رقم 7377
س: أرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا معنى قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ (1) » فهل معنى هذا أنه سيعود له المجد والهيمنة والسلطان كما كان على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم غير ذلك مع الوضع في الاعتبار حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (2) » فظاهر الحديث يدل على أن خير قرن الذي كان فيه الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- وأنه لن يأتي قرن يساويه في الخير، والحديث الأول "بدأ الإسلام " كلمة "كما بدأ" التي في آخره تدل على أنه كما كان على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله، ويسود الود والوئام بين المسلمين في هذه الصورة التي نراها في هذا الزمان من اقتتال بين المسلمين وافتراق وبطش ذوي السلطان على رجال الدين وهزأ المجتمع منهم ومحاربتهم وغزو بلاد الغرب لبلاد المسلمين بثقافات هادمة وأفكار لا تصلح المسلمين وموديلات من اللبس يتكشف فيه عورات الكثير من المسلمات المتبرجات، أفيدوني إفادة شافية أفادكم الله وأعانكم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: معنى الحديث أن الإسلام بدأ غريبا حينما دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس إليه فلم يستجب له إلا الواحد بعد الواحد، فكان حينذاك
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (146) .
(2) صحيح البخاري الشهادات (2652) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2533) ، سنن الترمذي المناقب (3859) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2362) ، مسند أحمد بن حنبل (1/434) .(34/97)
غريبا بغربة أهله، لقلتهم وضعفهم مع كثرة خصومهم وقوتهم وطغيانهم وتسلطهم على المسلمين، حتى هاجر من هاجر إلى الحبشة فرارا بدينه من الفتن وبنفسه من الأذى والاضطهاد والظلم والاستبداد، وحتى هاجر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأمر الله تعالى إلى المدينة بعد ما ناله من شدة الأذى ما ناله رجاء أن يهيئ الله له من يؤازره في دعوته، ويقوم معه بنصر الإسلام وقد حقق الله رجاءه فأعز جنده ونصر عبده وقامت دولة الإسلام وانتشر بحول الله في أرجاء الأرض وجعل سبحانه كلمة الكفر هي السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، واستمر الأمر على ذلك ردحا من الزمن، ثم بدأ التفرق والوهن ودب بين المسلمين دبيب الضعف والفشل شيئا فشيئا حتى عاد الإسلام غريبا كما بدأ، لكن ليس ذلك لقلتهم فإنهم يومئذ كثير، وإنما ذلك لعدم تمسكهم بدينهم واعتصامهم بكتاب ربهم وتنكبهم هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا من شاء الله فشغلهم بأنفسهم وبالإقبال على الدنيا فتنافسوا فيها كما تنافس من كان قبلهم وتناحروا فيما بينهم على إماراتها وتراثها، فوجد أعداء الإسلام المداخل عليهم وتمكنوا من ديارهم ورقابهم فاستعمروها وأذلوا أهلها وساموهم سوء العذاب، هذه هي غربة الإسلام التي عاد إليها كما بدأ بها.
وقد رأى جماعة- منهم الشيخ محمد رشيد رضا - أن في الحديث بشارة بنصرة الإسلام بعد غربته الثانية آخذين ذلك من التشبيه في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وسيعود غريبا كما بدأ (1) » فكما كان بعد الغربة الأولى عز للمسلمين وانتشار للإسلام فكذا سيكون له بعد الغربة الثانية نصر وانتشار.
وزيادة في الفائدة نرفق لك تفسير الشاطبي للحديث في كتابه "الاعتصام " ومعه تعليق للشيخ محمد رشيد رضا يتبين منه الرأي الثاني وهذا هو الأظهر، ويؤيده ما ثبت في أحاديث المهدي ونزول عيسى عليه السلام آخر الزمان من
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (146) .(34/98)
انتشار الإسلام وعزة المسلمين وقولهم ودحض الكفر والكفرة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/99)
من الفتوى رقم 9414
س: ما معنى حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: «سألت ربي عز وجل ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي ألا يهلكنا بما أهلك به الأمم فأعطانيها فسألت ربي عز وجل ألا يظهر علينا عدوا من غيرنا فأعطانيها، فسألت ربي ألا يلبسنا شيعا فمنعنيها (1) » ؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح والنسائي واللفظ له ورواه مسلم من حديث ثوبان -رضي الله عنه- (2) ، ومعنى الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل ربه عز وجل ثلاث مسائل لأمته، الأولى: ألا يهلكهم بما أهلك به الأمم من الغرق والريح والرجفة وإلقاء الحجارة من السماء وغير ذلك من أنواع العذاب العظيم العام، والثانية: عدم ظهور عدو عليهم من غيرهم فيستبيح بيضتهم، والثالثة: عدم لبسهم شيعا، واللبس الاختلاط والاختلاف بالأهواء، والشيع جمع شيعة وهي الفرقة، وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ربه عز
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2175) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1638) .
(2) الإمام مسلم برقم 2890 و 2889 وأبو داود برقم 4252 والترمذي برقم 2177 و 2176 وابن ماجه برقم 3952.(34/99)
وجل تفضل عليه واستجاب له في الأوليين ومنعه الثالثة لحكمة يعلمها تبارك وتعالى.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/100)
من الفتوى رقم 9818
س: هل من فضائل هذه الأمة شهادتهم على الأمم يوم القيامة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: نعم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/100)
من الفتوى رقم 9027
س: يقول الناس: إن ابن تيمية ليس من أهل السنة والجماعة، وإنه ضال مضل، وعليه ابن حجر وغيره، هل قولهم صدق أم لا؟(34/100)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إن الشيخ أحمد بن عبد الحليم بن تيمية إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، يدعو إلى الحق وإلى الطريق المستقيم قد نصر الله به السنة وقمع به أهل البدعة والزيغ، ومن حكم عليه بغير ذلك فهو المبتدع الضال المضل، قد عميت عليهم الأنباء، فظنوا الحق باطلا، والباطل حقا، يعرف ذلك من أنار الله بصيرته وقرأ كتبه وكتب خصومه وقارن بين سيرته وسيرتهم، وهذا خير شاهد وفاصل بين الفريقين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/101)
من الفتوى رقم 6477
س: قال لي بعض الناس: إن هناك (الوهابية) فقلت لهم: إنه ليس هناك (وهابية) وإنما هي دعوة أطلقها الأشراف ليبعدوا الناس عن الدعوة الإصلاحية، ولكن أحدهم قال لي: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كان فعلا مصلحا دينيا، ولكنه انحرف في آخر حياته حيث رفض بعض الأحاديث النبوية الصحيحة؛ لأنها لا توافق رأيه، فما هو قولكم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من أكبر الدعاة إلى السلفية والعقيدة السليمة والمنهج القويم كتبه رحمه الله حافلة بذلك.(34/101)
وما ذكرت من أن أحد خصوم دعوته قال لك: إن الشيخ انحرف في آخر حياته حيث رفض بعض الأحاديث الصحيحة؛ لأنها لا توافق رأيه- فهو كذب وافتراء على الشيخ، فقد توفي وهو من أشد الناس احتراما للسنة وتقبلا لها، بل ودعوة إليها، رحمه الله.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/102)
من الفتوى رقم 9450
س: ما هي الوهابية؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الوهابية لفظة يطلقها خصوم الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على دعوته إلى تجريد التوحيد من الشركيات ونبذ جميع الطرق إلا طريق محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، ومرادهم من ذلك تنفير الناس من دعوته وصدهم عما دعا إليه، ولكن لم يضرها ذلك، بل زادها انتشارا في الآفاق وشوق إليها من وفقهم الله إلى زيادة البحث عن ماهية الدعوة وما ترمي إليه وما تستند عليه من أدلة الكتاب والسنة الصحيحة، فاشتد تمسكهم بها وعضوا عليها وأخذوا يدعون الناس إليها ولله الحمد.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(34/102)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/103)
من الفتوى رقم 3207
س: ما رأيكم في كتابي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (منهاج السنة) و (شرح حديث النزول) ؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: هذان الكتابان من خير الكتب علما واستدلالا وحسن بيان وقوة في رد الباطل ونصرة الحق وسلامة في العقيدة، ولا يوجد كتاب في الرد على الرافضة - فيما نعلم- مثل كتاب (منهاج السنة) ولا كتاب في شرح حديث النزول أكمل من كتابه في شرح حديث النزول فيما نعلم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/103)
من الفتوى رقم 6902
س: أريد اتباع منهج في العقيدة بعد أن عرفت أمور في ديني من صلاة وصيام، والحمد لله درست (التوحيد) للشيخ محمد بن عبد الوهاب(34/103)
و (الواسطية) لشيخ الإسلام ابن تيمية، فهل تدلوني على المنهج القويم في الدراسة الجادة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: نرجو من الله أن يزيدك بصيرة وعلما إلى ما لديك، وننصحك بقراءة كتب العقيدة السلفية منها ما ذكرته في سؤالك ومنها "شروح العقيدة الواسطية" و"شرح العقيدة الطحاوية" وشرح كتاب التوحيد المسمى "فتح المجيد" للشيخ عبد الرحمن بن حسن وشرحه أيضا المسمى "تيسير العزيز الحميد" للشيخ سليمان بن عبد الله وكتاب "الحموية" وكتاب "التدمرية" لشيخ الإسلام ابن تيمية وكتاب "التوحيد" لابن خزيمة.
كما نوصيك بأن تكون عنايتك بكتاب الله العظيم تلاوة وتدبرا أكثر من عنايتك بغيره؛ لأنه أصدق كتاب وأشرف كتاب وأنفع كتاب.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/104)
من الفتوى رقم 7443
س: ما هي الكتب المفيدة التي تجب علينا مطالعتها حتى نفهم ديننا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد:
جـ: القرآن الكريم وكتب السنة مثل "صحيح البخاري " و "صحيح مسلم " و "السنن الأربع " وكتب العقيدة الصحيحة مثل كتاب "التوحيد"(34/104)
و"فتح المجيد" و "زاد المعاد" لابن القيم و"العقيدة الواسطية وشرح الطحاوية" وأمثالها من كتب علماء السنة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/105)
من الفتوى رقم 8150
س: دلونا- أرشدكم الله- على ما يفيدنا من الكتب الإسلامية التي يمكن الرجوع إليها في العقيدة والفقه، وأي الكتب الصحيحة في السيرة النبوية؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: عليك بكتاب الله الكريم وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- كالصحيحين والسنن، ومن كتب التوحيد "شرح الطحاوية" وكتاب "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد"، وفي السيرة والفقه كتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" كما نوصيك بقراءة كتب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/105)
من الفتوى رقم 8943
س: ما هو أفضل كتاب يبحث في التوحيد والعقائد الإسلامية كيف الحصول على ذلك؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أعظم كتاب وأفضل كتاب يوضح العقيدة الصحيحة هو كتاب الله عز وجل ثم أحاديث رسوله -صلى الله عليه وسلم- ومن أحسن الكتب في ذلك كتاب "فتح المجيد"، وكتاب "العقيدة الواسطية"، وكتاب "العلو للعلي الغفار"، وكتاب "التوسل والوسيلة"، وكتاب "مختصر الصواعق المرسلة، وكتاب "تطهير الاعتقاد"، و "شرح الطحاوية".
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/106)
من الفتوى رقم 8973
س: في الفترة الأخيرة التحيت وأصلي الفرائض وتمسكت بالسنة النبوية الشريفة، وعندنا في قريتنا يعتبرون المتمسك بالسنة متشددا في الدين، وترد عليهم فيقولون (هلك المتنطعون) ، فمن هم المتنطعون؟
وهل يعتبر التمسك بالسنة تشددا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:(34/106)
جـ: أحمد الله تعالى أن هداك إلى الحق واشكره أن وفقك إلى العمل به وبين لمن عارضك. أن الإسلام سمح، وأن الدين يسر، وأن التنطع في الدين هو التكلف والغلو في العمل بالزيادة على ما شرع الله وأنك لم تزد، وإنما تمسكت بما شرع الله فقط.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/107)
من الفتوى رقم 6258
س: ما هي حقيقة التصوف؟
وهل في التصوف جوانب حسنة وجوانب سيئة؟ هل التصوف مفصول عن الفقه؟
أرجو من فضيلتكم التحدث إلي عن الحضرة النبوية التي توجد في المفهوم الصوفي وهل هي حقيقة؟
عندي في السودان بعض رجال المتصوفة يستدلون على بناء القباب على الميت بالقبة المشيدة على قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما حكم الدين في ذلك؟
ما هي حقيقة هذه الأسماء: الفوتي والقطبي، ورجال الكون في المفهوم الصوفي؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: اقرأ في ذلك كتاب (مدارج السالكين) لابن قيم الجوزية،(34/107)
وكتاب (هذه هي الصوفية) لعبد الرحمن الوكيل فيما يتعلق بمسائل التصوف.
ثانيا: ليس في إقامة القبة على قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة لمن يتعلل بذلك في بناء قباب على قبور الأولياء والصالحين، لأن إقامة القبة على قبره لم تكن بوصية منه ولا من عمل أصحابه -رضي الله عنهم- ولا من التابعين ولا أحد من أئمة الهدى في القرون الأولى التي شهد لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بالخير إنما كان ذلك من أهل البدع، وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » وثبت عن علي -رضي الله عنه- أنه قال لأبي الهياج: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته (2) » رواه مسلم. فإذا لم يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- بناء قبة على قبره ولم يثبت ذلك عن أئمة الخير، بل ثبت عنه ما يبطل ذلك، لم يكن لمسلم أن يتعلق بما أحدثه المبتدعة من بناء قبة على قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الجنائز (969) ، سنن الترمذي الجنائز (1049) ، سنن النسائي الجنائز (2031) ، سنن أبو داود الجنائز (3218) ، مسند أحمد بن حنبل (1/150) .(34/108)
من الفتوى رقم 6899
س: مشكلة التصوف ما معناه وما موقفه في الإسلام، أعني الطريقة التيجانية والقادرية والشيعة، تلك الطرق قد تركزت في نيجيريا، فمثلا الطريقة التيجانية هناك صلاة تسمى صلاة البكرية مبدؤها: اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح لما أغلق. . إلى قوله: حق قدره ومقداره العظيم، فهذه الصلاة قد(34/108)
أوتيت ميزة أفضل وأكبر من الصلاة الإبراهيمية، ولقد رأينا ذلك في كتابهم المسمى (جواهر المعاني) الجزء " 1" ص 136، وهل هذا صحيح؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: قيل: إن الصوفية نسبوا إلى الصفة لشبههم بجماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- فقراء كانوا يأوون إلى صفة في المسجد النبوي، وهذا ليس بصحيح، فإن النسبة إلى الصفة صفي بتشديد الفاء وياء النسب دون واو، وقيل: نسبوا إلى صفوة، لصفاء قلوبهم وأعمالهم، وهذا خطأ أيضا، لأن النسبة إلى (صفوة) صفوي، ولأنهم تغلب فيهم البدعة وفساد العقيدة، وقيل: نسبوا إلى الصوف؛ لأنه كان شعارا لهم في اللباس وهذا أقرب إلى اللغة وإلى واقعهم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/109)
فتوى رقم 7140
س: حكم الطرق الصوفية والأوراد التي نظموها ورتبوها قبل صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب، وحكم من زعم أنه رأى النبي يقظة وسلم عليه بقوله: السلام عليك يا عين العيون وروح الأرواح؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الطرق والأوراد التي ذكرتها طرق وأوراد محدثة مبتدعة، ومن جملتها طريقة التيجانية والكتانية، ولا يشرع من أورادهم إلا ما وافق الكتاب والسنة الصحيحة (1)
__________
(1) انظر الطريقة التيجانية.(34/109)
وأما ما ذكر في السؤال أن بعض الناس دخل على الكتاني فرأى النبي -صلى الله عليه وسلم- بجواره يقظة وقال: السلام عليك يا عين العيون. . إلخ، فهذا باطل لا أصل له، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يرى بعد موته يقظة، ولا يخرج من قبره إلا يوم القيامة كما قال الله سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (1) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (2) . وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة (3) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 15
(2) سورة المؤمنون الآية 16
(3) الإمام أحمد 1 \ 281 و 282 و295 و 296 و 2 \ 264 و540 و 3 \ 2 و 33 و 10 و11 و 144 و145 والإمام مسلم برقم 2278 وأبو داود في السنن برقم 4673 والترمذي برقم 3693.(34/110)
من الفتوى رقم 6433
س: ما حكم الإسلام في الطرق الصوفية اليوم؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: يغلب على الطرق الصوفية البدع، وننصحك باتباع هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه في العبادات وغيرها، واقرأ كتاب (هذه هي الصوفية) لعبد الرحمن الوكيل رحمه الله.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(34/110)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/111)
من الفتوى رقم 9406
س: ما رأي الدين في التصوف الموجود الآن؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: لا يقال ما رأي "لدين، ولكن ما حكم الإسلام في كذا.
ثانيا: الغالب على ما يسمى بالتصوف الآن العمل بالبدع الشركية مع بدع أخرى كقول بعضهم: مدد يا سيد، وندائهم الأقطاب، وذكرهم الجماعي فيما لم يسم الله به نفسه مثل: هو هو وآه آه آه، ومن قرأ كتبهم عرف كثيرا من بدعهم الشركية وغيرها من المنكرات.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/111)
من الفتوي رقم 9848
س. هل الطرق الصوفية مثل الشاذلية والرفاعية على حق أم أهل فرقة وضلال؟ وهل يجوز الانتماء إلى فرقة منهم أم لا؟(34/111)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الطرق الصوفية جميعها يغلب عليها البدع ومخالفة الشرع فيجب الابتعاد عن تلك الطرق (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) انظر الفرق بين الفرق، للبغدادي.(34/112)
من الفتوى رقم 2612
س: ما معنى قول المنتسبين للتصوف: إن فلانا صاحب الوقت، وإنه من أهل التعريف؟ وما حكم من يعتقد ذلك؟ وهل تجوز الصلاة خلفه إن عرف عنه ذلك؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: معنى أن فلانا صاحب الوقت. . إلخ: أن هناك من إليه شئون الخلق من البشر، ولديه قدرة على التصرف في أمورهم يفرج شدتهم ويفكهم ويخلصهم مما أحاط بهم من البلاء ويسوق إليهم ما شاء من الخيرات في نظرهم، ومن اعتقد ذلك فهو مشرك مع الله. غيره في الربوبية وتدبير شئون الخلق ولا تصح الصلاة وراءه، ولا يجوز توليته أمر المسلمين ولا أن يجعل إماما لهم في الصلاة لكفره الصريح وشركه البين وهو أشر من شرك الجاهلية الأولى، قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} (1)
__________
(1) سورة يونس الآية 31(34/112)
{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (1) إلى غير ذلك من الآيات.
س: هل في إمكان إنسان أن يصل إلى درجة تمكنه من التلقي عن الله مباشرة وهو غير نبي ولا رسول؟
جـ: ليس هناك من البشر من يتلقى عن الله مباشرة شيئا من الوحي إخبارا أو تشريعا سوى الأنبياء أو الرسل عليهم الصلاة والسلام، إلا الرؤيا الصادقة يراها الرجل الصالح أو ترى له مناما لا يقظة فإنها جزء من ستة وأربعين جزءا من الوحي، وإلا الفراسة الصادقة فإنها من الإلهام كما كان لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، لكن الرؤيا المنامية والفراسة من غير الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لا تعتبر أصلا في التشريع ولا يجب التصديق بها، فإن المنامات والفراسات يكثر فيها التخليط والتباس الصادق منها بالكاذب، فلا يعتمد عليها إلا إذا كانت من الرسل أو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولذا لم يعول عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى ما كان منها من عمر -رضي الله عنه- إنما عول على ما أنزل عليه من الوحي.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة يونس الآية 32(34/113)
من الفتوى رقم 3544
س: هل ما يفعله الصوفية من رقص وغناء وتمايل ذات اليمين والشمال ذكر كما يسمونه حلال أم حرام؟(34/113)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها. وقد أكمل الله الدين لعباده قولا وعملا واعتقادا قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) والرسول -صلى الله عليه وسلم - بين هذا الدين بقوله وفعله وتقريره، وصحابته -رضي الله عنهم- نقلوا عنه -صلى الله عليه وسلم- ما صدر منه من الأقوال والأفعال والإقرار، فالدين كامل من جهة قواعده، ومن جهة بيانه ونقله، والذكر نوع من العبادات، والعبادات مبنية على التوقيف، ومن خصص شيئا من العبادات وحدد له وقتا معينا أو كيفية خاصة لأدائه فهو مطالب بالدليل، وما ذكر في السؤال لا نعلم له أصلا شرعيا يعتمد عليه، وقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » فما ذكر في السؤال من النوع المردود.
س: هل النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم القرآن قبل نزول الوحي كما يزعم الصوفية؟
جـ: القرآن هو كلام الله بحروفه ومعانيه وأول ما نزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- من القرآن سورة "اقرأ" واستمر القرآن ينزل منجما في ثلاث وعشرين سنة، وقد بين الله جل وعلا أنه -صلى الله عليه وسلم- ما كان يدري عن هذا الكتاب قبل نزوله عليه ومن ذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} (3) الآية. وبهذا يعلم أن ما يزعمه الصوفية من أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يعلم القرآن قبل نزول الوحي ليس بصحيح وأنه من القول على الله بلا علم وهكذا قول من قال منهم ومن غيرهم أنه -صلى الله عليه وسلم- يعلم الغيب قول باطل كفر وضلال، لأن الغيب
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) سورة الشورى الآية 52(34/114)
لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى؛ لقول الله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (1) س: هل صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يمكن أن يرى في اليقظة كما يزعم الصوفية في أنهم يرونه يقظة؟
جـ: الرسول -صلى الله عليه وسلم- توفي، وهو حي في قبره حياة برزخية لا يعلم كيفيتها إلا الله جل وعلا، وأما دعوى أنه يرى يقظة فهذا ليس بصحيح لعدم الدليل الدال عليه ولأنه ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، فدل ذلك على أنه لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ويدل على ذلك في حقه وحق غيره: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (2) وقوله عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} (3) {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} (4) فدل على أنه ليس هناك خروج من القبور قبل يوم القيامة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النمل الآية 65
(2) سورة الزمر الآية 30
(3) سورة المؤمنون الآية 15
(4) سورة المؤمنون الآية 16(34/115)
فتوى رقم 3560
س: إن مشايخ الطرق الصوفية منتشرون في الدول ويعطون المريدين عهودا، وعلى من أخذ العهد ألا يخون أبدا ويخصصون ليالي للذكر جماعة بأسماء(34/115)
خاصة كالله أو حي أو قيوم أو آه على هيئة حلقات أو صفوف قياما أو قاعدين يتمايلون يمنة أو يسرة ومعهم جماعة يترنمون بأناشيد ومدائح لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسائر الأنبياء والصالحين غالبا مع طبل ودفوف ومزامير وقد يدفع بعض الحاضرين نقودا تسمى نقطة وأحيانا لا يكون فيه دفوف ولا مزامير ولا نقطة.
ثم إن المنشدين يقولون: مدد يا سيدنا الحسين، مدد يا سيدة زينب، مدد يا سيد يا بدوي، مدد يا جدي يا رسول الله، مدد يا أولياء الله.
وبعض الناس ينذر شاة أو مالا أو نحو ذلك للسيد البدوي أو الحسين أو السيدة زينب أو غير ذلك وقد يذبح كبشا عند ضريح الشيخ المنذور له ويدفع المال المنذور في الصندوق الذي عند ضريح الشيخ، فهل هذه الأمور جائزة أو ممنوعة. . أفيدونا جزاكم الله خيرا؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: كان المسلمون رجالا ونساء يعاهدون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويبايعونه على الإسلام عقيدة وقولا وعملا، وقد أمرهم الله تعالى بطاعته في كل ما أتاهم به من القرآن والأحاديث الثابتة عنه وقرن طاعتهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بطاعته سبحانه، بل جعل طاعتهم إياه من طاعته جل شأنه في كثير من آيات القرآن، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (1) ، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (2) ، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (3) وجعل سبحانه اتباعهم إياه فيما جاءهم به من الكتاب والسنة
__________
(1) سورة النساء الآية 69
(2) سورة النساء الآية 80
(3) سورة المائدة الآية 92(34/116)
علامة على محبتهم لله وسببا لمحبته إياهم ولمغفرته ذنوبهم فقال جل شأنه:
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ولم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه بايع أحدا من أصحابه لا الخلفاء الراشدين ولا غيرهم أو عاهده على نحو ما يفعله مشايخ الطرق الصوفية من أخذ العهد على مريديهم بأن يذكروا الله بأسماء مفردة معينة من أسماء الله كالله وحي وقيوم ويتخذوا ذلك وردا لهم يلتزمونه ويرددونه كل يوم وليلة لا يتجاوزون تلك الأسماء إلى غيرها من أسماء الله إلا بإذن الشيخ وإلا كان عاصيا للشيخ مسيئا للأدب معه وخيف عليه من خدم الأسماء أن يصيبوه بسوء لمجاوزته الحدود، أضف إلى ذلك أن كل شيخ من مشايخ الطرق الصوفية يحرص جهده على أن يبذر بذور الفتنة والفرقة بين مريديه ومريدي المشايخ الآخرين حتى فرقوا دينهم وصاروا شيعا وأحزابا كل يدعو إلى بدعته ويحذر مريديه أن يوالوا مشايخ الطرق الصوفية الأخرى أو أن يأخذوا عليهم عهدا أو ينتقلوا إلى طريقة شيخ آخر إلى غير ذلك من الإلزامات التي لم ينزل الله بها من سلطان ولم يشرعها رسوله -صلى الله عليه وسلم- فصدق فيهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) . فإنه لم يعرف عنه أنه ذكر الله بالاسم المفرد مثل حي أو قيوم أو حق أو الله ولا أمر بالذكر به أو باتخاذه وردا يردد كل يوم وليلة، ولم يعرف عنه أيضا أنه حذر من موالاة المؤمنين بعضهم بعضا، بل أمر بموالاتهم وحب بعضهم بعضا كما مدحهم الله تعالى بذلك فقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31
(2) سورة الأنعام الآية 159
(3) سورة التوبة الآية 71(34/117)
وثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1) » .
رواه البخاري ومسلم.
وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا (2) » .
رواه البخاري ومسلم.
ثانيا: بين النبي -صلى الله عليه وسلم- فضيلة الاجتماع لتلاوة كتاب الله ودراسته وتدبره وتفهم معانيه فقال -صلى الله عليه وسلم-: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده (3) » .
رواه مسلم، وبين بعمله مراده بذلك، فكان أحيانا يقرأ ويسمعه من حضر من أصحابه -رضي الله عنهم- ليعلمهم كيفية التلاوة والترتيل وكان أحيانا يأمر بعض أصحابه أن يقرأ حبا منه لسماعه من غيره كما «ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لعبد الله بن مسعود -رضي الله عنه -: "اقرأ علي " قال: أأقرأ عليك وعليك أنزل؟
قال: "فإني أحب أن أسمعه من غيري " فقرأ عليه عبد الله سورة النساء حتى بلغ: فقال: "أمسك " فإذا عيناه تذرفان (5) » . . رواه البخاري.
وكان يتخولهم بالموعظة خشية السآمة عليهم ويجلس لهم في المسجد أو غيره لإرشادهم وتعليمهم أمور دينهم ويلقي عليهم الأسئلة أحيانا تنبيها لهم ولفتا لنظرهم حتى إذا أحضر فكرهم وتشوقوا للجواب ألقاه إليهم فوقع منهم خير
__________
(1) البخاري رقم 17 (فتح) ومسلم برقم 72 والترمذي برقم 2517 وابن منده في كتاب الإيمان برقم 295.
(2) أحمد 2 \ 245 و 287 و 312 و 342 و465 و470 و 482 و 492 و 504 و 517 و 539 والبخاري برقم 5143.
(3) مسلم برقم 2699.
(4) البخاري برقم 5049 و5050 ومسلم برقم 800 وأبو داود برقم 3668 والترمذي برقم 3027.
(5) سورة النساء الآية 41 (4) {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}(34/118)
موقع ووعوه وفقهوه على أحسن حال، كما ثبت ذلك فيما روى البخاري وغيره عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليذهب واحد، قال: فوقفا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأما أحدهما فوجد في الحلقة فرجة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهبا، فلما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه (1) » .
وثبت فيما رواه البخاري وغيره أيضا عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المؤمن حدثوني ما هي؟
" فوقع الناس في شجر البوادي، وقال عبد الله فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: "هي النخلة (2) » إلى غير ذلك بما هو تفسير عملي لاجتماع النبي -صلى الله عليه وسلم- بهم على الذكر بأنه تعليم وإرشاد وموعظة واختبار وتلاوة لكتاب الله تلاوة تفهم واعتبار ولم يعرف عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه خصص أياما وليالي من الأسبوع يجتمع فيها هو وأصحابه على ذكر الله تعالى جماعة باسم مفرد من أسمائه الحسنى قياما أو قعودا في حلقات أو صفوفا يترنحون فيها ترنح السكارى ويتمايلون فيها تمايل الراقصين طربا لتوقيع الأناشيد ونغمات المغنين ودقات الطبول والدفوف وأصوات المزامير، وبهذا يعلم أن ما يفعله الصوفية اليوم بدعة محدثة وضلالة ممقوتة، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » متفق عليه.
ثالثا: قول جماعة المنشدين، مدد يا سيدنا الحسين، مدد يا سيدة زينب،
__________
(1) البخاري برقم 66 و 474 ومسلم برقم 2176.
(2) أحمد 2 \ 12 و31 و61 و115 و 123 و 157 والبخاري برقم 61 و 62 و 72 و 131 و 2209 و 4698 و 5444 و 5448 و 6122 و 6144 ومسلم برقم 2165 والترمذي برقم 2871.
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(34/119)
مدد يا بدوي يا شيخ العرب مدد يا رسول الله، مدد يا أولياء الله. . إلى أمثال ذلك أشد نكرا وأفحش وزرا فإنه شرك أكبر يخرج قائله من ملة الإسلام والعياذ بالله؛ لأنه نداء للأموات ليعطوهم خيرا، وليغيثوهم ويدفعوا أو يكشفوا عنهم، وذلك أن المراد بالمدد هنا العطاء والغوث والنصرة، فكان معنى قول القائل (مددك يا سيد يا بدوي، مدد يا سيدة زينب. . إلخ) أمددنا بعطائك وخيرك واكشف عنا الشدة وادفع عنا البلاء وهذا شرك أكبر، قال الله تعالى بعد أن بين لعباده تدبيره للكون وتسخيره إياه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (1) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (2) فسمى دعاءهم شركا وقال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (3) {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (4) ، فأخبر سبحانه بأن المدعوين سواه من الأنبياء والصالحين غافلون عن دعاء من دعاهم ولا يستجيبون دعاءهم أبدا وأنهم سيكونون أعداء لهم ويكفرون بعبادتهم إياهم وقال: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (5) {وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} (6) {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} (7) {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (8) الآيات، وقال: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (9) فأخبر سبحانه بأن من دعا غير الله من الأموات ونحوهم لا فلاح له لكفره بسبب دعائه غير الله.
__________
(1) سورة فاطر الآية 13
(2) سورة فاطر الآية 14
(3) سورة الأحقاف الآية 5
(4) سورة الأحقاف الآية 6
(5) سورة الأعراف الآية 191
(6) سورة الأعراف الآية 192
(7) سورة الأعراف الآية 193
(8) سورة الأعراف الآية 194
(9) سورة المؤمنون الآية 117(34/120)
رابعا: نذر الطاعة من ذبح الأنعام وبذل المال في وجوه البر عبادة لثناء الله تعالى على من أوفى بذلك ووعده عليه الأجر والثواب، قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (1) ، وقال: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} (2) . وعلى هذا فمن نذر طاعة الله فقد وجب عليه الوفاء ومن نذر أن يذبح لغير الله فقد أشرك ويحرم عليه الوفاء وتجب عليه التوبة من الشرك وفروعه، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (4) ، وقال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (5) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (6) .
فعلى المسلم أن يتبع كتاب الله تعالى ويسير على هدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن يعبد الله سبحانه بما شرع، ويخلص في الدعاء وسائر أنواع العبادة من النذر له والتوكل عليه واللجوء إليه في الشدة والرخاء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الإنسان الآية 7
(2) سورة البقرة الآية 270
(3) سورة الأنعام الآية 162
(4) سورة الأنعام الآية 163
(5) سورة الكوثر الآية 1
(6) سورة الكوثر الآية 2(34/121)
من الفتوى رقم 7781
س: أصحيح ما يقوله الناس: إن الولي إذا مات ودفن في قبره يأتون الملائكة ويخرجونه من قبره ويصعد به إلى السماء؟(34/121)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: ليس ذلك بصحيح وإنما يصعد بالروح وتفتح لها أبواب السماء إن كانت مؤمنة أو تغلق عنها إن كانت كافرة ثم تطرح إلى الأرض.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/122)
من الفتوى رقم 948
س: يقول بعض الصوفية ذكر الله أفضل من الصلاة المكتوبة بدليل قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (1) فهل ذكر الله أفضل من الصلاة كما يقولون؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أمر الله بالإكثار من ذكره، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (2) {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (3) وبين سبحانه أن القلوب تطمئن بذكره فقال: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (4) وعد النبي -صلى الله عليه وسلم- من ذكر الله خاليا ففاضت عيناه في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (5) وضرب لنا مثلا لمن يذكر ربه والذي لا يذكره بالحي والميت، ففي الذكر حياة القلوب واطمئنانها وصفاء النفوس وطهارتها وفضله عند الله عظيم (6)
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 45
(2) سورة الأحزاب الآية 41
(3) سورة الأحزاب الآية 42
(4) سورة الرعد الآية 28
(5) أحمد 2 \ 439 والبخاري برقم 660 و 1423 و 6479 و 6806.
(6) البخاري برقم 6407.(34/122)
ولا شك أن الصلاة مشتملة على أفضل الأذكار من تلاوة القرآن والتكبير والتهليل والتسبيح والتحميد والشهادتين وفضل كلام الله على كلام عباده كفضله على البشر وأفضل ما قاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والأنبياء من قبله كلمة لا إله إلا الله. . إلخ (1) وهي موجودة في الصلاة كما أن الصلاة مشتملة على الركوع والسجود وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فتفضيل الذكر في غير الصلاة على الصلاة تفضيل للشيء على نفسه إن لم يكن تفضيلا على ما هو أعلى منه وهذا غير صحيح.
ومعنى قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (2) أي الصلوات المفروضة في أوقاتها كما شرع الله وبينه رسوله -صلى الله عليه وسلم- بقوله وعمله فإنها إن أداها المسلم على الوجه المشروع حالت بينه وبين ما يتفحش من الذنوب وعصمه الله بها من ارتكاب المنكرات ولذكر الله إياكم إذا أنتم ذكرتموه أعظم قدرا وأفضل مثوبة وأجرا، كما قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (3) وقد اختاره ابن جرير في تفسيره ووافقه على ذلك جماعة من المفسرين اعتمادا منهم على ما نقل عن كثير من الصحابة والتابعين.
س: يقول بعض الصوفية: إن إجازة الشيخ لمريده بقوله له: أجزتك أيها المريد أن تذكر بلا إله إلا الله 140 مرة مثلا مسلسلة معنعنة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم إلى جبريل ثم إلى الله تعالى، فهل هذا القول صحيح أو باطل، وهل هذه الإجازة صحت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أم هي بدعة؟
جـ: لا يتوقف ذكر العباد لربهم على إذن من المشايخ لهم في أن يذكروه سبحانه بتلاوة كتابه وبالأذكار المأثورة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تسبيحا وتحميدا وتهليلا وتكبيرا بعد أن أمرنا الله بذلك وحثنا عليه رسول الله -صلى الله
__________
(1) الإمام مالك في الموطأ 4 \ 214 والترمذي برقم 3579.
(2) سورة العنكبوت الآية 45
(3) سورة البقرة الآية 152(34/123)
عليه وسلم-، فمن زعم من المشايخ المتصوفة أو مريديهم أن لكل اسم من أسماء الله خادما أو أن على ذكر الله بما شرع الله حجرا حتى يأذن الشيخ للمريد بالذكر فقد ابتدع في الدين وافترى على الله ورسوله، فإنه لم يثبت في كتاب الله ولا في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على شيء من ذلك فما يزعمه بعض المتصوفة إنما هو من البدع المحدثة، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد (1) » والله المستعان.
س: الطريقة المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر وأبي الحسن الشاذلي. . هل يكون على الإنسان حرج إذا دخل فيها وانتسب إليها، وهل هي سنة أو بدعة؟
جـ: روى أبو داود وغيره من أصحاب السنن من طريق العرباض بن سارية أنه قال: «صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله: كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (2) » .
فأخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه سيقع في أمته اختلاف كثير وتتشعب بهم الطرق والمناهج وتكثر فيهم البدع والمحدثات وأمر المسلمين أن يعتصموا بكتاب الله وأن يتمسكوا بسنته ويعضوا عليها بالنواجذ وحذرهم من التفرق والاختلاف واتباع البدع والمحدثات لأنها مضلة ومتاهات تتفرق بمن سلكها عن سبيل الله فوصاهم بما وصى به عباده في قوله سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (3) وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4)
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) سنن أبو داود السنة (4607) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(3) سورة آل عمران الآية 103
(4) سورة الأنعام الآية 153(34/124)
فنوصيكم بوصية الله ووصية رسوله وننصحكم بلزوم منهج أهل السنة والجماعة ونحذركم ما أحدث أهل الطرق من تصوف مدخول وأوراد مبتدعة وأذكار غير مشروعة وأدعية فيها شرك بالله أو ما هو ذريعة إليه كالاستغاثة بغير الله وذكره بالأسماء المفردة وذكره بكلمة آه وليست من أسمائه سبحانه وتوسلهم بالمشايخ في الدعاء واعتقاد أنهم جواسيس القلوب يعلمون ما تكنه وذكرهم الله ذكرا جماعيا بصوت واحد في حلقات مع ترنحات وأناشيد إلى غير ذلك مما لا يعرف في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
س: نحن في تنزانيا نضع الولائم (الطعام) ونجتمع في موضع معلوم من البلد، ونقول: هذه الزيارة صدرت من صاحب الطريقة القادرية (عبد القادر) فهل هذا الأمر من البدع أو من سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهل فيه حرج أي إثم، لأننا لا نعمر المساجد حتى تعمل هذه الزيارة وقراءة مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- أي احتفال عظيم بسبب ذلك هل هذه الأمور فيها حرج أو لا؟
جـ: لم يكن في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا في أصحابه ولا السلف الصالح عمل ولائم ولا صنع أطعمة لمن مات من الصالحين ولا احتفل أحد من الصحابة ولا السلف الصالح بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته ولا بعد مماته ولا صنعوا له طعاما بعد مماته، فإقامة مولد للنبي عليه الصلاة والسلام أو لأحد من الصالحين أو الوجهاء والاحتفال بذلك وقراءة ما ألف في مولده وقيام الحاضرين عند ذكر ولادته زعما من الحاضرين أنه قد حضر ذلك الوقت وصنع الطعام للاحتفال بالمولد للنبي أو الشيخ عبد القادر أو غي ره من البدع المنكرة، واحترام النبي -صلى الله عليه وسلم- وحبه في اتباعه والسير علي شريعته، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) واحترام الصالحين وحبهم يكون بمتابعتهم فيما وافق هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسنته.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 31(34/125)
فالواجب على المسلمين أن يلزموا سنة نبيهم وسنة الخلفاء المهديين الراشدين من بعده ويقتفوا آثارهم وأن يحذروا الغلو في الصالحين وإطراءهم، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد ال له ورسوله (1) » أخرجه البخاري في صحيحه، وقال: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو (2) » .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) أحمد 1 \ 23 و34 و 47 و 55 والبخاري رقم 3445 و 683 والدارمي برقم 2787.
(2) سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) .(34/126)
من الفتوى رقم 3867
س: هل يجوز أن تدعو الله بـ (يا هو) يعني الله ضميرا مستترا تقديره: هو الله؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: ضمائر المتكلم والخطاب والغيبة كناية عن المتكلم أو المخاطب أو الغائب مطلقا فليست أسماء لله لغة ولا شرعا؛ لأنه لم يسم بها نفسه، فدعاؤه بها تسمية ونداء وذكر له بغير أسمائه فلا يجوز ولأنه إلحاد في أسمائه بتسميته بما لم يسم به نفسه، ونداء له ودعاء بما لم يشرعه وقد نهى سبحانه عن ذلك فقال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180(34/126)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/127)
فتوى رقم 6571
س: إني من شمال إفريقيا أعمل هنا في المملكة وأطلب من سماحتكم أن ترشدني، إني متصوف ولي شيخ قد أمرني بالتسبيح بعد كل صلاة صبح وبعد المغرب، لكن يوجد لدى جماعته حلقات ذكر هذه الأذكار تبتدئ بعد صلاة العشاء وهي على النحو التالي: يبدءون بذكر الاسم الأعظم وهو (الله) بالمد والتعظيم وبعض الأذكار ثم بعد ذلك ترنم في السطحة قياما قائلين (الله) حتى يذوب اللفظ بالله ونبقى نقول: (آه- آه) هذا الشيء القائم في طريقي لكن أصبحت مفتونا مثل بعض أصحابي ويكنوننا بحزب الكته. رجائي أن ترشدوني عن هذا الذكر هل هو صحيح أسير فيه بدون شك أم أتخلى عنه؟ إن هذه الكته كما يقولون لنا ليست موجودة لا في الكتاب ولا في السنة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا يجوز لك أن تأخذ عن الشيخ الذي ذكرت حاله ولا أن تذكر الله بهذا؛ لأنه من البدع المحدثة في الدين وعليك أن تذكر الله بالأذكار الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الصلوات الخمس وفي غيرها من الأوقات حسب ما في كتب الحديث الشريف لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) ومن ذلك ما ذكر في (عمدة الحديث) للشيخ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي و (منتقى الأخبار) للمجد
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21(34/127)
ابن تيمية و (بلوغ المرام) للحافظ ابن حجر رحم الله الجميع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/128)
فتوى رقم 7170
س: أنا من الحدود المصرية السودانية، وفى هذا المكان توجد طرق صوفية كثيرة من الذين ضلوا الطريق وأضلوا الناس، وهناك بعض الناس يؤخرون أضحيتهم إلى ما بعد العيد بثلاثة أيام ليأكلها هؤلاء الصوفية الذين يأتون ليقيموا شعائرهم الكاذبة ويظنون بهذا أنهم يفعلون شيئا من الدين، فهل أضحيتهم صحيحة أم هي شاة لحم كما في الحديث؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: ما ذكرت من أن جماعة الطرق الصوفية مبتدعة وأنهم ضالون مضلون هو الحق، وما أعد للضحية من الأنعام وأخر ذبحه إلى ما بعد العيد بثلاثة أيام، فلا يعتبر ضحية، لأن أقصى مدة الذبح للضحية أربعة أيام منها يوم العيد، بل هي لحم قدمه لضيوفه تكريما لهم وتعاونا معهم على نشر البدع وترويجها وذلك من التعاون على الإثم والعدوان.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/128)
من الفتوى رقم 6898
س: هل طريقة الذكر الموجودة بين أهل الطرق الصوفية الآن صحيحة أم خاطئة وهل وردت في السنة وإن كانت وردت، فما الأحاديث الدالة على ذلك لأنها تثير مشاكل كثيرة بين الناس؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أذكار أهل الطرق الصوفية جماعة بصوت واحد بالترنح والتمايل من البدع المحدثة، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » رواه البخاري ومسلم، وقال عليه السلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، ويكفي المسلم التأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في أقواله وأفعاله.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه ومسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(34/129)
فتوى رقم 7583
س: يفيد المرسل أنه توجد في بلاده ثلاث فرق دينية هي:
(1) جماعة إزالة البدع وإقامة السنة.
(2) جماعة الطرق الصوفية.
(3) جماعة الطريقة القادرية، ويرجو إلقاء الضوء على هذه الفرق الثلاث وبيان مواضعها طبقا للقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.(34/129)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: من كان يدعو إلى كتاب الله تعالى وإلى ما ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأحاديث ويعمل بذلك في نفسه، وينكر ما خالف ذلك ويجتهد في إزالة ما أحدث من البدع، ويتعاون مع أهل السنة ويواليهم ويعادي أهل البدع وينكر عليهم ما ابتدعوه في الإسلام على بينة وبصيرة، فهو من أهل السنة والجماعة.
ثانيا: الطرق الصوفية طوائف شتى منها: التجانية، القادرية، والخلوتية. . إلخ
ولا تخلو طائفة منها من البدع، وإن تفاوتت في ذلك، فمنها المقل ومنها المكثر.
ثالثا: الشيعة فرق كثيرة تزيد على العشرين فرقة، فاقرأ عنها في كتاب (الملل والنحل) للشهرستاني، وكتاب (الفصل في الملل والنحل) لابن حزم، وكتاب (الفرق بين الفرق) للبغدادي، و (مختصر كتاب الأئمة الاثنى عشرية) ، وكتاب (منهاج السنة) لابن تيمية، ففيها الكفاية في وصف تلك الفرق وبيان منزلتها من الإسلام.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/130)
من الفتوى رقم 9811
س: ما رأيكم في هذه الأشياء في الوريقة المرفقة:
(1) حزب الأمان.
(2) رقم "2".
(3) صلاة النقطة.
(4) الصلاة المسماة باللاهوتية.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: ما ذكر في الورقة المرفقة بسؤالك مما يسمى (حزب الأمان) ، و (صلاة النقطة) ، والصلاة المسماة (باللاهوتية) . . إلخ، من بدع المتصوفة، والتعبد به غير مشروع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/131)
من الفتوى رقم 6250
س: في الحي الذي أسكن فيه يوجد مسجد وتوجد زاوية تابعة لطريقة صوفية، هل تجوز الصلاة في هذه الزاوية؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا تصل مع هؤلاء الصوفية في زاويتهم واحذر صحبتهم والاختلاط(34/131)
بهم لئلا يصيبك ما أصابهم وتحر الصلاة في مسجد جماعة يتحرون السنة ويحرصون عليها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/132)
من الفتوى رقم 9450
س: كيف رؤية أرباب الأحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- في اليقظة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يراه أحد في الدنيا بعد وفاته وإنما يرى في النوم، فمن رآه على صورته في النوم فقد رآه، لأن الشيطان لا يتمثل في صورته، كما صح بذلك الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما ما يدعيه بعض الصوفية من أنهم يرون النبي -صلى الله عليه وسلم- يقظة فهو باطل لا أصل له.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(34/132)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
س 1: يقول بعض الناس الذين يشككون في فتوى هيئة كبار العلماء، بشأن الاستعانة بغير المسلمين في الدفاع عن بلاد المسلمين، وقتال حاكم العراق، بعدم وجود الأدلة القوية التي تدعمها. . . فما تعليق سماحتكم على ذلك؟
جـ1: قد بينا ذلك فيما سبق وفي مقالات عديدة، وبينا أن الرب جل وعلا أوضح في كتابه العظيم: أنه سبحانه أباح لعباده المؤمنين إذا اضطروا إلى ما حرم عليهم أن يفعلوه كما قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1) ولما حرم الميتة والدم والخنزير والمنخنقة والموقوذة، وغيرها قال في آخر الآية: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2) .
والمقصود أن الدولة في هذه الحادثة قد اضطرت إلى أن تستعين ببعض الدول الكافرة، على هذا الظالم الغاشم، لأن خطره كبير، ولأن له أعوانا آخرين، لو انتصر لظهروا وعظم شرهم.
فلهذا رأت الحكومة السعودية، وبقية دول الخليج أنه لا بد من دول قوية، تقابل هذا العدو الملحد الظالم، وتعين على صده، وكف شره، وإزالة ظلمه.
وهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية لما تأملوا هذا، ونظروا فيه، وعرفوا الحال بينوا أن هذا أمر سائغ، وأن الواجب استعمال ما يدفع الضرر، ولا يجوز التأخر في ذلك. بل يجب فورا استعمال ما يدفع الضرر عن المسلمين، ولو بالاستعانة بطائفة من المشركين، فيما يتعلق بصد العدوان وإزالة الظلم، وهم جاءوا لذلك، وما جاءوا ليستحلوا البلاد، ولا ليأخذوها، بل جاءوا لصد العدوان، وإزالة الظلم، ثم يرجعون إلى بلادهم، وهذا الآن يتحرون المواضع
__________
(1) سورة الأنعام الآية 119
(2) سورة المائدة الآية 3(34/133)
التي يستعين بها العدو وما يتعمدون قتل الأبرياء، ولا قتل المدنيين، وإنما يريدون قتل الظالمين المعتدين وإفساد مخططهم، والقضاء على أسباب إمدادهم وقوتهم في الحرب. ولكن بعض المرجفين والمغرضين يكذب على الناس، ويقول إنهم حاصروا الحرمين، وأنهم فعلوا، وأنهم تركوا كل هذا من تروج الباطل، والتشويش على الناس، لحقد في قلوب بعض الناس، أو لجهل من بعضهم، وعدم بصيرة، أو لأنه مستأجر من حاكم العراق ليشوش على الناس.
والناس أقسام: منهم من جهل الحقائق، والتبست عليه الأمور، ومنهم من هو جاهل لا يعرف الأحكام الشرعية، ومنهم من هو مستأجر من الطغاة الظلمة ليشوش على الناس، ويلبس عليهم الحق، والله المستعان.(34/134)
س 2: تقوم بعض الجهات المختصة بتوجيه الناس لفعل بعض الأمور لتلافي أخطار الغازات السامة، والغازات الجوية الضارة، فهل على المسلم من حرج في اتباع تلك التعليمات؟
جـ 2: المسلم مأمور بأخذ الحذر، واتباع التعليمات التي تقي الشر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (1) . فالمؤمن إذا أخذ بالأسباب النافعة والواقية بإذن الله من الشر، لا بأس عليه كأن يستعمل الكمامات التي تمنع من وصول الغازات السامة إليه. وغيرها من أسباب الوقاية عند الحاجة إلى ذلك، وكحمل السلاح إذا صال عليه صائل ليصد هذا الصائل. وكما يقتل الحية والعقرب في الصلاة وغيرها لدفع شرهما. فالإنسان مأمور بالأسباب النافعة كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) . وكما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (3) وكما في آية صلاة الخوف من الأمر بالتهيؤ بالسلاح وهي قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} (4) الآية آية 102 من سورة النساء.
__________
(1) سورة النساء الآية 71
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) سورة النساء الآية 71
(4) سورة النساء الآية 102(34/134)
س 3: معلوم أن هناك جيوشا غير إسلامية تقاتل حاكم العراق معنا، فهل قتالنا معهم تحت راية واحدة يعتبر جهادا، ومن قتل منا هل يعتبر شهيدا؟
جـ 3: المجاهد في هذا السبيل إن أصلح الله نيته، وهو يجاهد لدفع الظلم ونفع المسلمين فهو مجاهد في سبيل الله وهو شهيد إن قتل.
وهذه الجيوش ليست تحت راية الكفرة. . كل جيش تحت قيادة قائده، فالجيوش السعودية تحت قائدها خالد بن سلطان وتحت القائد الأعلى خادم الحرمين الشريفين، والجيوش المصرية تحت قائدها المصري. والجيوش السورية تحت قائدها السوري، والجيوش الإنجليزية تحت قائدها الإنجليزي، وهكذا.
ولكن بينهم اتفاق على التنظيم. . لا بد منه والله تعالى يقول: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (1) فلا بد من التنظيم والتعاون بين الجميع حتى لا يحدث الفشل، وحتى لا يطمع العدو.
«والنبي -صلى الله عليه وسلم- جاءه رجل وسأله قائلا: "إذا جاءني رجل يريد مالي؟
قال:
لا تعطه مالك. قال: فإن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال: فإن قتلته؟ قال: هو في النار (2) » أخرجه مسلم في صحيحه.
فإذا كان هذا في إنسان يدافع عن ماله، فكيف بمن يدافع عن دينه، وعن إخوانه المسلمين وعن حرماته. والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد (3) » .
وأنت أيها المسلم المجاهد في هذه الحرب، إن أصلح الله نيتك، تقاتل عن دين الإسلام، وعن نفوس المسلمين وأموالهم وبلادهم وعن عامة المسلمين وحرماتهم، وتصد عنهم عدوا ملحدا أكفر من اليهود والنصارى، وتجاهد لإزالة ظلمه ودفع شره.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 46
(2) صحيح مسلم الإيمان (140) .
(3) سنن الترمذي الديات (1421) .(34/135)
فالأمر عظيم، والجهاد أهم الواجبات في هذا السبيل، والمقاتل مع صدام متوعد بالنار لأنه أعانه على الظلم والعدوان. ويخشى أن يكون كافرا، إذا وافقه على بعثيته وإلحاده، أو استحل قتل المسلمين.
فالمقصود أنه شريك له في الظلم والعدوان. وفي كفره تفصيل. وهو متوعد بالنار حتى لو كان من المسلمين لقتاله مع الظالمين لإخوانه المسلمين، وإخوانه المظلومين.
أما المقاتل المسلم، الذي هو ضد الظالم فهو على خير عظيم، إن قتل فهو شهيد، وإن أسر أو جرح فهو مأجور.
وبكل حال، فله أجر المجاهدين سلم أو قتل إذا أصلح الله نيته.(34/136)
س 4: يشكك كثير من الناس في أن القتال ضد صدام من الجهاد في سبيل الله، بل هو من أجل المصالح المادية من نفط وأرض، ولو أن المسلمين قاموا بقتال اليهود، لما وقفت معهم دول التحالف. . فاليهود وقد ظلموا واعتدوا على أرض المسلمين كما فعل حاكم العراق أهلكه الله ومع هذا لم يسترد الحق إلى أهله منذ أربعين سنة، وحتى الآن. . . نرجو من سماحتكم توضيح هذا الأمر؟
جـ 4: اليهود لهم حالة أخرى: اعتدوا على أرض فلسطين والواجب على المسلمين جهادهم حتى يخرجوهم من بلاد المسلمين، وحتى ينتصر إخواننا الفلسطينيون عليهم، ويقيموا دولتهم الإسلامية على أرضهم. وهذا لا شك في وجوبه على الدول الإسلامية حسب الطاقة.
ولكن لا يجوز إقحام هذا في هذا فعدم قيام الدول الإسلامية بجهاد اليهود في الوقت الحاضر جهادا مباشرا لا يبيح لصدام قتال المسلمين في الجزيرة العربية، ولا في الكويت ولا غيرها. ولا يبيح لأحد من المسلمين أن يعينه على ذلك. ولا يجوز للدول الإسلامية أن تمكنه من عدوانه وظلمه، بل يجب صده(34/136)
وكف عدوانه وإزالة ظلمه على المسلمين بكل ما يستطاع من القوة عملا بقول الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (1) وقوله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (2) الآية فإذا كانت الفئة الباغية المؤمنة يجب قتلها حتى تفيء إلى أمر الله وترجع عن ظلمها. فقتال الفئة الكافرة الباغية مثل صدام وأتباعه من البعثيين وغيرهم أولى بالقتال، حتى يفيئوا إلى الحق ويرجعوا عن الظلم.
وبما ذكرنا يعلم أن اليهود لهم شأن آخر، واجب مستقل. وعدوان هذا الظالم على الكويت عدوان مستقل يجب أن يصد ويقاتل أولا، ويتخلص منه.
ولا يجوز أن يكون تقصير المسلمين في الجهاد مع الفلسطينيين، ضد اليهود مسوغا لخذلانهم في جهاد عدو الله صدام الذي هو أكفر من اليهود والنصارى، وأضل منهم. . . وقد اعتدى على شعب آمن، ثم عزم على الاعتداء على بقية دول الخليج، ونواياه الخبيثة معلومة، وشره معلوم، وقتاله متعين. فإذا صدقت العزائم، وهدى الله الجميع، وأعانهم سبحانه على قتال صدام وجنده، وصدهم عن عدوانهم، واستنقاذ الكويت من أيديهم، ففي إمكانهم إن شاء الله أن يجاهدوا اليهود، ويستنقذوا القدس من أيديهم، وذلك جهاد آخر، وواجب آخر.
كما أنه يجب على المسلمين أن يجاهدوا غير اليهود من الكفرة، إذا استطاعوا ذلك حتى يدخلوا في دين الله أفواجا، أو يؤدوا الجزية إن كانوا من أهلها كما قال عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (3) وقال سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (4) فالمسلمون عليهم أن يقاتلوا
__________
(1) سورة الأنفال الآية 39
(2) سورة الحجرات الآية 9
(3) سورة الأنفال الآية 39
(4) سورة التوبة الآية 29(34/137)
الكفرة جميعا، حتى يكون الدين كله لله إلا من أدى الجزية من أهل الجزية، فإذا عجزوا عن ذلك، فإنهم لا يلامون إذا قاتلوا من تعدى عليهم، دون غيرهم لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (1) .
فاليهود قد تعدوا على فلسطين. فعلى المسلمين أن يقاتلوا مع الفلسطينيين ضدهم. وتعدى صدام على الكويت وحشد الجيوش على السعودية بعدوان جديد من ظالم عنيد ملحد، أكفر من اليهود والنصارى، والعياذ بالله، فيجب صده وقتاله، لأن الشيوعيين والبعثيين أكفر من أهل الكتاب. كفى الله المسلمين شرهم جميعا.
__________
(1) سورة التغابن الآية 16(34/138)
س 5: هل يتعين على جميع المسلمين الوقوف مع المملكة ومقاتلة هذا الظالم الباغي؟
جـ5: هذا اعتقادنا فكما يجب عليهم أن يقاتلوا اليهود حسب الطاقة، فكذلك يجب عليهم أن يقاتلوا صداما حسب الطاقة من باب أولى. وأن يكونوا مع الحق ضد الظالم في كل زمان ومكان. هذا واجبهم جميعا حسب الطاقة والقدرة. . . لأن في ذلك نصرا للمظلوم، وردعا للظالم، والله جل وعلا أمر بذلك وأذن فيه في قوله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (1) الآية، وفي قوله جل وعلا: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (2) {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) والرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بذلك في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل يا رسول الله: نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟
قال: تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه (4) » . فإذا كان المسلم الظالم يجب أن يردع عن ظلمه،
__________
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2) سورة الشورى الآية 41
(3) سورة الشورى الآية 42
(4) صحيح البخاري الإكراه (6952) ، سنن الترمذي الفتن (2255) ، مسند أحمد بن حنبل (3/99) .(34/138)
فالكافر الظالم أولى بذلك لكفره وظلمه مثل حاكم العراق وأشباهه من الملاحدة الظلمة.(34/139)
س 6: هل يجوز لعن حاكم العراق لأن بعض الناس يقولون: إنه مادام ينطق بالشهادتين نتوقف في لعنه. . وهل يجزم بأنه كافر. . وما رأي سماحتكم في رأي من يقول بأنه كافر؟
ج 6: هو كافر وإن قال لا إله إلا الله، حتى ولو صلى وصام، مادام لم يتبرأ من مبادئ البعثية الإلحادية، ويعلن أنه تاب إلى الله منها وما تدعو إليه، ذلك أن البعثية كفر وضلال. . فما لم يعلن هذا فهو كافر. . كما أن عبد الله بن أبي كافر وهو يصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول لا إله إلا الله، ويشهد أن محمدا رسول الله، وهو من أكفر الناس. وما نفعه ذلك لكفره ونفاقه.
فالذين يقولون لا إله إلا الله من أصحاب المعتقدات الكفرية كالبعثيين والشيوعيين وغيرهم ويصلون لمقاصد دنيوية، فهذا لا يخلصهم من كفرهم لأنه نفاق منهم ومعلوم عقاب المنافقين الشديد كما جاء في كتاب الله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} (1) .
وصدام بدعواه الإسلام، أو دعواه الجهاد، أو قوله أنا مؤمن، كل هذا لا يغني عنه شيئا، ولا يخرجه من النفاق، ولكي يعتبر من يدعي الإسلام مؤمنا حقيقيا فلا بد من التصريح بالتوبة، مما كان يعتقده سابقا، ويؤكد هذا بالعمل، لقول الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (2) . فالتوبة الكلامية، والإصلاح الفعلي، لا بد معه من بيان، وإلا فلا يكون المدعي صادقا، فإذا كان صادقا في التوبة فليتبرأ من البعثية، وليخرج من الكويت ويرد المظالم على أهلها، ويعلن توبته من البعثية وأن مبادئها كفر وضلال. وأن على البعثيين أن يرجعوا إلى الله ويتوبوا إليه، ويعتنقوا الإسلام ويتمسكوا بمبادئه قولا وعملا ظاهرا
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة البقرة الآية 160(34/139)
وباطنا.
ويستقيموا على دين الله ويؤمنوا بالله ورسوله، ويؤمنوا بالآخرة إن كانوا صادقين. . أما البهرج والنفاق فلا يصلح عند الله، ولا عند المؤمنين. . يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) . ويقول جل وعلا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (2) {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (3) {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (4) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (5) {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} (6) {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} (7) .
هذه حال صدام وأشباهه ممن يعلن الإسلام نفاقا وخداعا، وهو يذيق المسلمين أنواع الأذى، والظلم ويقيم على عقيدته الإلحادية البعثية.
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة البقرة الآية 8
(3) سورة البقرة الآية 9
(4) سورة البقرة الآية 10
(5) سورة البقرة الآية 11
(6) سورة البقرة الآية 12
(7) سورة البقرة الآية 13(34/140)
س 7: هل يعتبر عمل المتطوعين في التعاون مع رجال الأمن من الرباط. . . أم لا؟
جـ 7: عمل المتطوعين في كل بلد ضد الفساد، مع رجال الأمن يعتبر من الجهاد في سبيل الله لمن أصلح الله نيته، وهو من الرباط في سبيل الله، لأن الرباط هو لزوم الثغور ضد الأعداء.
وإذا كان العدو قد يكون في الباطن، واحتاج المسلمون أن يتكاتفوا مع رجال الأمن ضد العدو الذي يخشى أن يكون في الباطن، يرجى لهم أن يكونوا مرابطين، ولهم أجر المرابط لحماية البلاد من مكائد الأعداء الداخليين.
وهكذا التعاون مع رجال الهيئة الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر يعتبر من الجهاد في سبيل الله في حق من صلحت نيته لقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (1) . وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 69(34/140)
بعث الله من نبي في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (1) » رواه الإمام مسلم في صحيحه، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (50) ، مسند أحمد بن حنبل (1/458) .(34/141)
س 8: يسأل بعض الأطباء والعاملين في النفط، هل إذا أخلصوا النية، وأنهم يقومون بعملهم من أجل الله تعالى، وحدث أن قتلوا بالصواريخ التي يطلقها حاكم العراق، هل يعتبرون من الشهداء؟
جـ 8: إذا كانوا مسلمين فهم شهداء إذا ضربوا بالصواريخ أو غيرها مما يقتلهم حكمهم حكم الشهداء. وهكذا كل مسلم يقتل مظلوما في أي مكان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون دينه فهو شهيد. ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد (1) » . ولما ثبت في صحيح مسلم «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل فقال: "يا رسول الله: يأتيني الرجل يريد مالي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا تعطه مالك فقال الرجل: يا رسول فإن قاتلني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قاتله. فقال الرجل: يا رسول الله فإن قتلني؟ قال: فأنت شهيد. قال الرجل: فإن قتلته؟ قال صلى الله عليه وسلم: هو في النار (2) » .
وهذا حديث عظيم يدل على أن من قتل من المسلمين مظلوما فهو شهيد. . فلله الحمد والمنة على ذلك.
__________
(1) سنن الترمذي الديات (1421) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (140) .(34/141)
س 9: هل رفع اليدين في الدعاء مشروع، وخاصة في السفر بالطائرة أو السيارة أو القطار وغيرها؟
جـ 9: رفع الأيدي في الدعاء من أسباب الإجابة في أي مكان. يقول صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم حيي ستير، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا (1) » .
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3556) ، سنن أبو داود الصلاة (1488) ، سنن ابن ماجه الدعاء (3865) ، مسند أحمد بن حنبل (5/438) .(34/141)
وويقول صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: وقال سبحانه: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له "؟! (3) » رواه مسلم في صحيحه.
فجعل من أسباب الإجابة رفع اليدين. . ومن أسباب المنع وعدم الإجابة أكل الحرام والتغذي بالحرام. فدل ذلك على أن رفع اليدين من أسباب الإجابة سواء في الطائرة أو في القطار أو في السيارة أو في المراكب الفضائية، أو في غير ذلك، إذا دعا ورفع يديه. فهذا من أسباب الإجابة إلا في المواضع التي لم يرفع فيها النبي صلى الله عليه وسلم فلا نرفع فيها مثل خطبة الجمعة، فلم يرفع فيها صلى الله عليه وسلم إلا إذا استسقى فهو يرفع يديه فيها.
كذلك بين السجدتين وقبل السلام في آخر التشهد لم يكن يرفع يديه صلى الله عليه وسلم فلا نرفع أيدينا في هذه المواطن التي لم يرفع فيها صلى الله عليه وسلم لأن فعله حجة وتركه حجة. . وهكذا بعد السلام من الصلوات الخمس كان صلى الله عليه وسلم يأتي بالأذكار الشرعية ولا يرفع يديه فلا نرفع في ذلك أيدينا اقتداء به صلى الله عليه وسلم. أما المواضع التي رفع صلى الله عليه وسلم فيها يديه فالسنة فيها رفع اليدين تأسيا به صلى الله عليه وسلم ولأن ذلك من أسباب الإجابة. وهكذا المواضع التي يدعو فيها المسلم ربه ولم يرد فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم رفع ولا ترك فإنا نرفع فيها للأحاديث الدالة على أن الرفع من أسباب الإجابة كما تقدم.
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1015) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (2/328) ، سنن الدارمي الرقاق (2717) .
(2) سورة البقرة الآية 172 (1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ}
(3) سورة المؤمنون الآية 51 (2) {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}(34/142)
س10: آخر ساعة من عصر الجمعة هل هي ساعة الإجابة، وهل يلزم المسلم أن يكون في المسجد في هذه الساعة، وكذلك النساء في المنازل؟(34/142)
جـ10: أرجح الأقوال في ساعة الإجابة يوم الجمعة قولان:
أحدهما: أنها بعد العصر إلى غروب الشمس في حق من جلس ينتظر صلاة المغرب، سواء كان في المسجد أو في بيته يدعو ربه، وسواء كان رجلا أو امرأة. فهو حري بالإجابة، لكن ليس للرجل أن يصلي في البيت صلاة المغرب، ولا غيرها إلا بعذر شرعي كما هو معلوم من الأدلة الشرعية.
والثاني: أنها من حين يجلس الإمام على المنبر للخطبة يوم الجمعة إلى أن تقضى الصلاة. فالدعاء في هذين الوقتين حري بالإجابة.
وهذان الوقتان هما أحرى ساعات الإجابة يوم الجمعة، لما ورد فيهما من الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك. وترجى هذه الساعة في بقية ساعات اليوم، وفضل الله واسع سبحانه وتعالى.
ومن أوقات الإجابة في جميع الصلوات فرضها ونفلها: حال السجود لقوله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء (1) » خرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وروى مسلم رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: «"أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم (2) » . ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم فقمن أن يستجاب لكم: أي حري.
__________
(1) صحيح مسلم الصلاة (482) ، سنن النسائي التطبيق (1137) ، سنن أبو داود الصلاة (875) ، مسند أحمد بن حنبل (2/421) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (479) ، سنن النسائي التطبيق (1045) ، سنن أبو داود الصلاة (876) ، مسند أحمد بن حنبل (1/219) ، سنن الدارمي الصلاة (1326) .(34/143)
س 11: ورد في حديث: «إن لله ملائكة سيارة تسير في الأرض، تحف الجماعة الذين يذكرون الله (1) » ويقال: إن بعض الصوفية يستدلون بهذا الحديث على بعض أعمالهم، فكيف نرد عليهم؟
جـ11: هذا الحديث صحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «إن لله ملائكة سياحين يلتمسون مجالس الذكر، فإذا وجدوها تنادوا هلموا إلى حاجتكم، فيحيطون بهم إلى عنان السماء، ويسمعون منهم أذكارهم وأعمالهم الطيبة ثم إذا عرجوا يسألهم الله عما وجدوا، وهو أعلم سبحانه وتعالى، فيخبرونه بما شاهدوا (2) » . ولا حجة في هذا للصوفية؛ فالصوفية مبتدعة، عليهم أن يلتزموا بالشريعة،
__________
(1) صحيح البخاري الدعوات (6408) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689) ، سنن الترمذي الدعوات (3600) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .
(2) صحيح البخاري الدعوات (6408) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689) ، سنن الترمذي الدعوات (3600) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) .(34/143)
ويستقيموا عليها، ويذكروا الله بما شرع، وإذا ذكروا الله بما شرع فهذا طيب، ولهم أجر ذلك عند الله سبحانه، إذا استقاموا على التوحيد، ومن ذكر الله تعليم القرآن الكريم، والسنة المطهرة وأنواع العلم النافع الذي ينفع العباد في دينهم ودنياهم، مع الإخلاص لله في ذلك، وطلب الثواب منه سبحانه، وبذلك يعلم أن وجود الملائكة في مجالس الذكر لا حجة للصوفية فيه، ولا في اختراعهم البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان. وعبادات ما شرعها الله لعباده: كعبادة بعضهم لأهل القبور بالاستغاثة بهم والنذر لهم والطواف بقبورهم، وغير ذلك من أنواع العبادات. وكإحداثهم أذكارا وعبادات ما أنزل الله بها من سلطان. وغير ذلك مما اخترعوه من الطرق الباطلة. نسأل الله لنا ولهم الهداية.(34/144)
س 12: إذا أمرني والداي بأن أترك أصحابا طيبين، وزملاء أخيارا، وألا أسافر معهم لأقضي عمرة مع العلم بأني في طريقي إلى الالتزام، فهل تجب علي طاعتهم في هذه الحالة؟
جـ 12: ليس عليك طاعتهم في معصية الله، ولا فيما يضرك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (2) » . فالذي ينهاك عن صحبة الأخيار لا تطعه، لا الوالدان ولا غيرهما. ولا تطع أحدا في مصاحبة الأشرار أيضا، لكن تخاطب والديك بالكلام الطيب، وبالتي هي أحسن، كأن تقول يا والدي كذا، ويا أمي كذا. . هؤلاء طيبون، وهؤلاء أستفيد منهم، وأنتفع بهم، ويلين قلبي معهم، وأتعلم العلم وأستفيد، فترد عليهم بالكلام الطيب، والأسلوب الحسن، لا بالعنف والشدة. وإذا منعوك فلا تخبرهم بأنك تتبع الأخيار، وتتصل بهم، ولا تخبرهم أنك ذهبت مع أولئك إذا كانوا لا يرضون بذلك، ولكن عليك ألا تطيعهم إلا في الطاعة والمعروف. . وإذا أمروك بمصاحبة الأشرار، أو أمروك بالتدخين أو شرب الخمر أو بالزنا أو بغير ذلك من المعاصي فلا تطعهم، ولا غيرهم في ذلك، للحديثين المذكورين آنفا. وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (1/131) .(34/144)
س 13: إن في المسجد عندنا جهازا للإنذار والعاملون عليه من الدفاع المدني يرابطون أربعا وعشرين ساعة، ويدخنون في غرفة تابعة للمسجد، ويريد السائل توجيه النصيحة إليهم أثابكم الله؟
جـ 13: لا يجوز التدخين في المسجد ولا في الغرف التابعة له، لأن التدخين محرم، وهو في المسجد أشد تحريما، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم: «من أكل ثوما أو بصلا عن دخول المسجد (1) » . فكيف بالتدخين فيه. ومعلوم أن البصل والثوم طعامان مباحان، لكن لهما رائحة كريهة. فلذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم آكلهما عن دخول المسجد حتى تذهب الرائحة.
فإذا كان الذي يأكل البصل والثوم لا يدخل المسجد، فكيف بالدخان الذي هو محرم وخبيث وضار بأهله وغيرهم ممن يشم رائحته.
فيجب عليهم أن يحذروا ذلك وألا يدخنوا في الحجرة التابعة للمسجد، وأن يحذروا الدخان ويبتعدوا عنه، في كل مكان وزمان لتحريمه وخبثه. ولأنه ضرر عليهم في دينهم ودنياهم، وصحتهم واقتصادهم، وشر محض. نسأل الله للجميع الهداية.
__________
(1) صحيح البخاري الأطعمة (5452) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (564) ، سنن الترمذي الأطعمة (1806) ، سنن النسائي المساجد (707) ، سنن أبو داود الأطعمة (3822) ، مسند أحمد بن حنبل (3/400) .(34/145)
س 14: أفادكم الله نرجو إخبارنا عن غزوة الخندق، وهل هي مشابهة لما نحن فيه الآن؟
جـ 14: غزوة الخندق محنة عظيمة امتحن الله بها المسلمين، وأقام بها الحجة على الكافرين، ونصر بها رسوله صلى الله عليه وسلم وعباده المؤمنين، فقد اجتمع فيها أحزاب الكفار وغزوا المدينة، ولذلك تسمى غزوة الأحزاب. والرسول صلى الله عليه وسلم حفر خندقا حول المدينة. وأشار عليه بهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه، وصار هذا الخندق بينه وبين الأعداء، ونفع الله به كثيرا، وبقي الكفار محاصرين المدينة نحو شهر. وفي هذه الغزوة أنزل الله تعالى قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} (1) {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (2) {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} (3) {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (4) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 9
(2) سورة الأحزاب الآية 10
(3) سورة الأحزاب الآية 11
(4) سورة الأحزاب الآية 12(34/145)
هكذا ظهر النفاق والعياذ بالله فالمشركون تجمعوا لمحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال لها غزوة الأحزاب لأن قريشا جمعت أحزابا كثيرة من غطفان وغير غطفان، ومن الأحابيش وغيرهم حتى قال أصحاب السير إنهم عشرة آلاف قصدوا المدينة للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولكن الله خيب ظنهم وردهم خائبين خاسئين. . والحمد لله وأنزل الله عليهم جنودا لم يروهم من الملائكة، وأرسل عليهم ريحا زلزلهم الله جل وعلا بها، وشتت شملهم، وردهم خائبين سبحانه وتعالى.
وقد بلغت الشدة مع المسلمين أمرا عظيما، وظهر النفاق، وقال المنافقون ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا، يعني ما وعدنا الله من النصر إلا غرورا. .
هذا ظن الكافرين والمنافقين أعاذنا الله من شرهم.
وليست غزوة الخندق مشابهة لحوادث الساعة من كل الوجوه، بل هي أعظم وأشد بالنسبة إلى غير أهل الكويت، أما مصيبة الكويت فهي أشد لكونهم أخرجوا من بلادهم ونهبت أموالهم وسفكت دماء الكثير منهم عامل الله من ظلمهم بما يستحق وأدار عليه دائرة السوء إنه سميع قريب.(34/146)
س 15: إنني أحب الجهاد وقد امتزج حبه في قلبي، ولا أستطيع أن أصبر عنه، وقد استأذنت والدتي فلم توافق ولذا تأثرت كثيرا ولا أستطيع أن أبتعد عن الجهاد. . سماحة الشيخ إن أمنيتي في الحياة هي الجهاد في سبيل الله وأن أقتل في سبيله، وأمي لا توافق. دلني جزاك الله خيرا على الطريق المناسب؟
جـ15: جهادك في أمك جهاد عظيم، إلزم أمك وأحسن إليها، إلا إذا أمرك ولي الأمر بالجهاد فبادر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وإذا استنفرتم فانفروا (1) » .
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1834) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن الترمذي السير (1590) ، سنن النسائي البيعة (4170) ، سنن أبو داود الجهاد (2480) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/316) ، سنن الدارمي السير (2512) .(34/146)
وما دام ولي الأمر لم يأمرك فاحسن إلى أمك وارحمها، وأعلم أن برها من الجهاد العظيم، قدمه النبي صلى الله عليه وسلم على الجهاد في وسبيل الله، كما جاء بذلك الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قيل له: «يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قيل: ثم أي؟ قال الجهاد في سبيل الله (1) » متفق على صحته. فقدم برهما على الجهاد. وجاءه رجل يستأذنه، قال: «يا رسول الله: أحب أن أجاهد معك؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: "أحي والداك "؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد (2) » متفق على صحته. وفي رواية أخرى قال صلى الله عليه وسلم «"ارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك وإلا فبرهما (3) » .
فهذه الوالدة، ارحمها وأحسن إليها حتى تسمح لك، وهذا كله في جهاد الطلب، وفيم إذا لم يأمرك ولي الأمر بالنفير.
أما إذا نزل البلاء بك فدافع عن نفسك وعن إخوانك في الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهكذا إذا أمرك ولي الأمر بالنفير فانفر ولو بغير رضاها لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} (4) {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (5) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «"وإذا استنفرتم فانفروا (6) » . متفق على صحته. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (26) ، صحيح مسلم الإيمان (83) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1658) ، سنن النسائي مناسك الحج (2624) ، مسند أحمد بن حنبل (2/308) ، سنن الدارمي الجهاد (2393) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3004) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2549) ، سنن الترمذي الجهاد (1671) ، سنن النسائي الجهاد (3103) ، سنن أبو داود الجهاد (2529) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2782) ، مسند أحمد بن حنبل (2/193) .
(3) سنن أبو داود الجهاد (2530) ، مسند أحمد بن حنبل (3/76) .
(4) سورة التوبة الآية 38
(5) سورة التوبة الآية 39
(6) صحيح البخاري الحج (1834) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن الترمذي السير (1590) ، سنن النسائي البيعة (4170) ، سنن أبو داود الجهاد (2480) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/316) ، سنن الدارمي السير (2512) .(34/147)
صفحة فارغة(34/148)
وجوب الرفق بالحيوان وتحريم ظلمه وتعذيبه
بقلم
الشيخ عبد الله بن حمد العبودي (1)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد. . .
فهذا بحث مختصر في بيان وجوب الرفق بالحيوان وتحريم ظلمه وتعذيبه.
جمعت فيه ما يسر الله لي الاطلاع عليه في هذا الموضوع إسهاما مني في النصح والتذكير بهذا الجانب المهم- أعني الإحسان إلى الحيوانات وحسن معاملتها والرفق بها حسب توجيهات الله تعالى وتوجيهات رسوله صلى الله عليه وسلم التي جاء بها الشرع المطهر راجيا من الله للجميع التوفيق لما يحبه ويرضاه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
عبد الله بن حمد العبودي
جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى آيات كثيرة، وفي سنة نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام أحاديث صحيحة كلها تحث على الرفق عامة وبالحيوان والدابة خاصة.
__________
(1) وردت للباحث ترجمة في العدد 11 من مجلة البحوث الإسلامية ص 261.(34/149)
قال الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (1) وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه (2) » ، وفي رواية: قال: «ركبت عائشة بعيرا وكانت فيه صعوبة فجعلت تردده فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عليك بالرفق " ثم ذكر مثله، (3) » وفي أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه (4) » . أخرجه مسلم.
وفي رواية أبي داود عن المقدام بن شريح عن أبيه قال: «سألت عائشة عن البداوة فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التلاع وأنه أراد البداوة مرة فأرسل إلي ناقة محرمة من إبل الصدقة، فقال لي " يا عائشة ارفقي فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلا زانه ولا نزع من شيء إلا شانه (5) » .
وعن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - قال: «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف (6) » أخرجه أبو داود وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يحرم الرفق يحرم الخير كله (7) » أخرجه مسلم وأبو داود. ولم يذكر مسلم كله، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/125) .
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2594) ، سنن أبو داود الأدب (4808) ، مسند أحمد بن حنبل (6/171) .
(4) صحيح البخاري استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم (6927) ، مسند أحمد بن حنبل (6/135) ، سنن الدارمي الرقاق (2794) .
(5) رواه مسلم في البر والصلة باب فضل الرفق- وأبو داود في الجهاد باب ما جاء في الهجرة وفي الأدب باب في الرفق.
(6) أبو داود رقم 4807 في الأدب باب في الرفق وهو حديث حسن، وهو بمعنى حديث مسلم الذي قبله.
(7) رواه مسلم رقم 3592 في البر باب فضل الرفق، وأبو داود في الأدب رقم 4809 باب في الرفق.(34/150)
الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير (1) » أخرجه الترمذي (2) .
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال: بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا (3) » . أخرجه أبو داود.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة (4) » رواه مسلم (5) .
إلى غير ذلك من الأحاديث التي لا يتسع المقام لذكرها والتي تحث على الرفق وتبين فضله وعواقبه الحسنة.
ومما جاء في الحث على الرفق بالحيوان والوصية بالعناية به، وعقوبة من ظلمه أو عذبه ما جاء في البخاري ومسلم «بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فاستقت له به، فسقته إياه فغفر لها به (6) » . هذه رواية البخاري ومسلم وللبخاري «أن رجلا رأى كلبا يأكل الثرى من العطش فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف له به حتى أرواه فشكر الله له فأدخله الجنة (7) » ، وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «دخلت النار امرأة في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض (8) » وفي رواية «عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (9) » أخرجه البخاري ومسلم وللحديث روايات متعددة كلها بمعنى واحد.
__________
(1) سنن الترمذي البر والصلة (2013) ، مسند أحمد بن حنبل (6/451) .
(2) رقم 2014 في البر باب ما جاء في الرفق.
(3) صحيح البخاري المغازي (4345) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1732) ، سنن النسائي الأشربة (5603) ، سنن أبو داود الأدب (4835) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3391) ، مسند أحمد بن حنبل (4/412) ، سنن الدارمي الأشربة (2098) .
(4) صحيح البخاري كتاب الإيمان (53) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (17) ، سنن الترمذي الإيمان (2611) ، سنن النسائي كتاب الأشربة (5692) ، سنن أبو داود الأشربة (3692) ، مسند أحمد بن حنبل (1/361) .
(5) في باب الرفق.
(6) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3467) ، صحيح مسلم السلام (2245) ، مسند أحمد بن حنبل (2/510) .
(7) رواه البخاري 5 \ 31 في المزارعة باب فضل سقي الماء وفي مواضع كثيرة منها الأدب رحمة الناس والبهائم، ومسلم رقم 2244 في السلام باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها.
(8) صحيح مسلم السلام (2242) ، سنن الدارمي الرقاق (2814) .
(9) رواه البخاري في عدة مواضع منها في بدء الخلق 6 \ 254 ومسلم رقم 2242 في البر، باب تحريم تعذيب الهرة.(34/151)
وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال: «أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم فأسر إلي لا أحدث به أحدا من الناس وكان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفا أو حائش نخل، فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن، وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح ذفراه، فسكت: فقال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال له: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه (1) » أخرجه أبو داود وعن سهل بن الحنظلية رضي الله عنه قال: «مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه، فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة: فاركبوها صالحة وكلوها صالحة (2) » أخرجه أبو داود (3) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم أن تتخذوا دوابكم منابر، فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وجعل لكم الأرض فعليها فاقضوا حاجتكم (4) » . أخرجه أبو داود (5) .
وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن أبيه قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تعرش، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها ورأى قرية نمل قد أحرقناها، فقال: من أحرق هذه؟ قلنا: نحن، قال إنه لا ينبغي أن يعذب بعذاب النار إلا رب النار (6) » أخرجه أبو داود (7) .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أنه مر بفتيان من قريش قد نصبوا طيرا
__________
(1) أخرجه أبو داود رقم 2549 في الجهاد باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم ورواه مسلم وابن ماجه وليس عندهما قصة الجمل.
(2) سنن أبو داود الجهاد (2548) ، مسند أحمد بن حنبل (4/181) .
(3) رقم 2548 في الجهاد باب في الوقوف على الدابة.
(4) سنن أبو داود الجهاد (2567) .
(5) رقم 2675 في الجهاد وباب كراهية حرق العدو بالنار ورقم 2568 في الأدب باب في قتل الذر.
(6) سنن أبو داود الجهاد (2675) ، مسند أحمد بن حنبل (1/404) .
(7) رقم 2675 في الجهاد وباب كراهية حرق العدو بالنار ورقم 2568 في الأدب باب في قتل الذر.(34/152)
وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال ابن عمر: " من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا (1) » متفق عليه، وعن أنس رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم" أن تصبر البهائم (2) » متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا موسوم الوجه فأنكر ذلك فقال: والله لا أسمه إلا أقصى شيء من الوجه، وأمر بحماره فكوي في جاعرتيه فهو أول من كوى الجاعرتين (4) » رواه مسلم. .
وعنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه حمار قد وسم في وجهه فقال: لعن الله الذي وسمه (5) » رواه مسلم.
وفي رواية لمسلم أيضا: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه والوسم في الوجه (6) » .
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة (7) » قال عمران فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد رواه مسلم وغيره (8) .
وعن أنس رضي الله عنه قال: «سار رجل مع النبي صلى الله عليه وسلم فلعن بعيره فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله لا تسر معنا على بعير ملعون (9) » رواه أبو يعلى وابن أبي الدنيا بإسناد جيد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر يسير فلعن رجل ناقة، فقال: أين صاحب الناقة؟ فقال الرجل: أنا، فقال: أخرها، فقد أجيب فيها (10) » اهـ أقول ويستفاد من هذه
__________
(1) البخاري جـ 9 \ 554 ومسلم رقم 1958.
(2) البخاري جـ 9 \ 553، 554 ومسلم رقم 1956.
(3) مسلم رقم 2118.
(4) الجاعرتان: هما حرفا الورك المشرفان مما يلي الدبر. (3)
(5) مسلم 2117.
(6) صحيح مسلم اللباس والزينة (2116) ، سنن الترمذي الجهاد (1710) ، سنن أبو داود الجهاد (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (3/323) .
(7) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2595) ، سنن أبو داود الجهاد (2561) ، مسند أحمد بن حنبل (4/431) ، سنن الدارمي الاستئذان (2677) .
(8) انظر في هذه الأحاديث الترغيب والترهيب جـ 3 ص: 287-288.
(9) انظر في هذه الأحاديث الترغيب والترهيب جـ 3 ص: 287- 288.
(10) انظر في هذه الأحاديث الترغيب والترهيب جـ 3 ص: 287- 288.(34/153)
الأحاديث التي مرت وما يماثلها:
وجوب الرفق بالحيوان، والإحسان إليه وعدم ظلمه أو تعذيبه أو حبسه أو منعه الطعام أو الشراب. سواء كان الظلم بالضرب الشديد أو التجويع، أو بثقل الحمل أو تكليفه ما لا يستطيع من السير بسرعة فوق طاقته وغير ذلك لأنه من تعذيب خلق الله سبحانه وتعالى وقد نهى عنه الشارع الحكيم.
يقول الحافظ ابن حجر: رحمه الله تعالى في كلامه على حديث «من لا يرحم لا يرحم (1) » قال ابن بطال: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق فيدخل المؤمن والكافر والبهائم المملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والسقي والتخفيف في الحمل وترك التعدي بالضرب (2) .
ومن كلام النووي: رحمه الله تعالى على حديث المرأة التي عذبت في هرة، فيه دليل لتحريم قتل الهرة وتحريم حبسها بغير طعام أو شراب. . وفيه وجوب نفقة الحيوان على مالكه (3) .
وقال: أيضا على "حديث الرجل الذي سقى الكلب ":
ففي هذا الحديث الحث على الإحسان إلى الحيوان المحترم، وهو ما لا يؤمر بقتله فأما المأمور بقتله فيتمثل أمر الشرع في قتله والمأمور بقتله كالكافر الحربي والمرتد والكلب العقور والفواسق الخمس المذكورات في الحديث وما في معناهن، وأما المحترم فيحصل الثواب بسقيه والإحسان إليه أيضا بإطعامه وغيره سواء كان مملوكا أو مباحا، وسواء كان مملوكا له أو لغيره، والله أعلم (4) .
وفي باب الأمر بإحسان الذبح والقتل وتحديد الشفرة في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء (5) » . الحديث: قال النووي: وهذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (5997) ، صحيح مسلم الفضائل (2318) ، سنن الترمذي البر والصلة (1911) ، سنن أبو داود الأدب (5218) ، مسند أحمد بن حنبل (2/269) .
(2) فتح الباري 10 \ 440.
(3) النووي على مسلم 14 \ 240.
(4) النووي على مسلم 14 \ 241، النووي على مسلم 13 \ 107.
(5) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4414) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .(34/154)
وقال: على أحاديث النهي عن صبر البهائم واتخاذ ما فيه الروح غرضا، صبر البهائم: حبسها لتقتل برمي ونحوه، وهو معنى «لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا (1) » أي لا تتخذوا الحيوان الحي غرضا ترمون إليه كالغرض من الجلود ونحوها: وهذا النهي للتحريم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في رواية ابن عمر التي بعد هذه «لعن الله من فعل هذا، (2) » ولأنه تعذيب للحيوان وإتلاف لنفسه، وتضييع لماليته، وتفويت لذكاته إن كان مذكى، ولمنفعته إن لم يكن مذكى " (3) .
أقول: وهذا من أعظم ما ينافي الإحسان والرحمة والشفقة بالحيوان ومن أكبر الظلم والتعذيب الذي حرمه الدين الإسلامي.
وجاء في تحفة الأحوذي: على حديث نهيه عليه الصلاة والسلام عن التحريش بين البهائم والضرب في الوجه.
قوله: " التحريش بين البهائم " هو الإغراء وتهييج بعضها على بعض كما يفعل بين الجمال والكباش والديوك وغيرها، ووجه النهي عن ذلك أنه إيلام للحيوانات وإتعاب لها بدون فائدة بل مجرد عبث.
وعن الوسم في الوجه: أي يحرم الوسم في الوجه وكذا " الضرب في الوجه " من كل حيوان محترم فيحرم ولو غير آدمي لأنه مجمع المحاسن مع أنه لطيف يظهر فيه أثر الضرب، وربما شانه وربما آذى بعض الحواس.
قال النووي: وأما الضرب في الوجه فمنهي عنه في كل الحيوان المحترم من الآدمي والحمير والخيل والإبل والبغال والغنم وغيرها. لكنه في الآدمي أشد لأنه مجمع المحاسن مع أنه لطيف لأنه يظهر فيه أثر الضرب وربما شانه وربما آذى بعض الحواس. اهـ
وفي تحفة الأحوذي قال: أيضا في موضع آخر عند قوله " باب ما جاء في كراهية التحريش " إذا أطلقت الكراهة فالمراد بها التحريم. أهـ (4) .
__________
(1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1957) ، سنن الترمذي الأطعمة (1475) ، سنن النسائي الضحايا (4443) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3187) ، مسند أحمد بن حنبل (1/297) .
(2) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1958) ، مسند أحمد بن حنبل (2/141) .
(3) النووي على مسلم 13 \ 107- 108.
(4) انظر جامع الترمذي مع شرحه تحفة الأحوذي جـ 3 ص: 35 ببعض التصرف.(34/155)
فالضرب في الوجه محرم لما فيه من الآثار السابق ذكرها ولما فيه من التعذيب والإيلام الشديد والظلم العظيم وعدم الشفقة والرحمة والإحسان للبهائم وغيرها.
وقال في عون المعبود على سنن أبي داود: "عن التحريش بين البهائم " هو الإغراء وتهييج بعضها على بعض كما يفعل بين الكباش والديوك وغيرها، ووجه النهي أنه إيلام للحيوانات وإعنات لها بدون فائدة بل مجرد عبث (1) .
وعن الوسم والضرب في الوجه قال:
فيه دليل على تحريم الوسم في الوجه، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يلعن إلا من فعل محرما. وكذلك ضرب الوجه قال النووي: ثم ذكر كلام النووي المتقدم ذكره.
وقد عد الذهبي: رحمه الله تعالى الاستطالة على الدابة من الكبائر فقال: الكبيرة الحادية والخمسون: الاستطالة على الضعيف والمملوك والجارية والزوجة والدابة؛ لأن الله تعالى قد أمر بالإحسان إليهم في قوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (2) .
وأخذ رحمه الله تعالى يتكلم عن الحديث ويشرح جزئياته إلى أن قال:
ومن ذلك أي من عظم الإساءة أن يجوع المملوك أو الجارية أو الدابة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته (3) » .
ومن ذلك أن يضرب الدابة ضربا وجيعا، أو يحبسها ولا يقوم
__________
(1) انظر سنن أبي داود مع حاشية عون المعبود جـ 2 ص: 331.
(2) سورة النساء الآية 36
(3) صحيح مسلم الزكاة (996) .(34/156)
بكفايتها أو يحملها فوق طاقتها فقد روي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} (1) الآية قيل: يؤتى بهم. الناس وقوف يوم القيامة فيقضى بينهم حتى أنه ليؤخذ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء حتى يقاد للذرة من الذرة ثم يقال لهم كونوا ترابا فهنالك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا وهذا من الدليل على القضاء بين البهائم، بينها وبين بني آدم حتى أن الإنسان لو ضرب دابة بغير حق أو جوعها أو عطشها أو كلفها فوق طاقتها فإنها تقتص منه يوم القيامة بقدر ما ظلمها أو جوعها والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عذبت امرأة في هرة ربطتها حتى ماتت جوعا لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (2) » أي من حشراتها.
وفي الصحيح «أنه صلى الله عليه وسلم رأى امرأة معلقة في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها وهي تعذبها كما عذبتها في الدنيا بالحبس والجوع» . وهذا عام في سائر الحيوان وكذلك إذا حملها فوق طاقتها تقتص منه يوم القيامة لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث (3) » فهذه بقرة أنطقها الله في الدنيا تدافع عن نفسها بأنها لا تؤذى ولا تستعمل في غير ما خلقت له، فمن كلفها غير طاقتها أو ضربها بغير حق فيوم القيامة تقتص منه بقدر ضربه وتعذيبه.
قال أبو سليمان الداراني: ركبت مرة حمارا فضربته مرتين أو ثلاثا فرفع رأسه ونظر إلي وقال: يا أبا سليمان هو القصاص يوم القيامة فإن شئت فأقلل وإن شئت فأكثر قال: فقلت: لا أضرب شيئا بعده أبدا، «ومر ابن عمر بصبيان من قريش قد نصبوا طيرا وهم يرمونه وقد جعلوا لصاحبه كل خاطئة من نبلهم فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا (4) » ، والغرض كالهدف وما يرمى إليه ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تصبر البهائم يعني
__________
(1) سورة الأنعام الآية 38
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3482) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2242) ، سنن الدارمي الرقاق (2814) .
(3) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3471) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2388) ، سنن الترمذي المناقب (3695) ، مسند أحمد بن حنبل (2/246) .
(4) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5514) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1958) ، سنن النسائي الضحايا (4442) ، مسند أحمد بن حنبل (2/141) ، سنن الدارمي الأضاحي (1973) .(34/157)
(أن تحبس للقتل) وإن كان مما أذن الشرع بقتله كالحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور قتله بأول دفع ولا يعذبه لقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته (1) » ثم ذكر عدم جواز تحريق الحيوان بالنار وذكر حديث ابن مسعود في قصة الحمرة وفرخيها. . إلخ (2) .
ويقول ابن حجر الهيتمي: رحمه الله تعالى- الكبيرة الثامنة، والتاسعة، والعاشرة، والحادية عشرة، والثانية عشرة بعد الثلاثمائة، امتناع القن مما يلزمه من خدمة سيده وامتناع السيد مما يلزمه من مؤونة قنه، وتكليفه إياه عملا لا يطيقه، وضربه على الدوام، وتعذيب القن بالخصاء ولو صغيرا أو بغيره أو الدابة وغيرها بغير سبب شرعي، والتحريش بين البهائم.
ثم أخذ رحمه الله تعالى يتكلم عن القن وما يجب له أو عليه وما يجب نحوه. . إلى أن قال: (3) .
والشيخان: «من لا يرحم لا يرحم (4) » ". والبخاري وغيره «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض (5) » وفي رواية «عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (6) » زاد أحمد " فوجبت لها النار بذلك، وابن حبان في صحيحه «دخلت الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء وأطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء، ورأيت فيها ثلاثة يعذبون امرأة من حمير طوالة ربطت هرة لم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض فهي تنهش قبلها ودبرها (7) » . . وذكر هذا الحديث بطرق وروايات أخرى. . إلى أن قال: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم (8) » .
__________
(1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4413) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .
(2) كتاب الكبائر للذهبي من ص: 218 إلى ص: 226 مقتصر على المطلوب وموضع الشاهد فقط.
(3) اقتصرت على المطلوب فقط وبدايته من- '' والشيخان '' وهو الكلام عن الرحمة وما يتعلق بها.
(4) صحيح البخاري الأدب (5997) ، صحيح مسلم الفضائل (2318) ، سنن الترمذي البر والصلة (1911) ، سنن أبو داود الأدب (5218) ، مسند أحمد بن حنبل (2/269) .
(5) صحيح البخاري بدء الخلق (3318) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2242) ، سنن الدارمي الرقاق (2814) .
(6) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3482) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2242) ، سنن الدارمي الرقاق (2814) .
(7) صحيح البخاري بدء الخلق (3241) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2738) ، سنن الترمذي صفة جهنم (2603) ، مسند أحمد بن حنبل (4/437) .
(8) سنن الترمذي الجهاد (1708) ، سنن أبو داود الجهاد (2562) .(34/158)
وقد قال الأذرعي: ويشبه أن يكون قتل الهر الذي ليس بمؤذ عمدا من الكبائر لأن امرأة دخلت النار في هرة الحديث ويلحق بها ما في معناها. . انتهى.
والقتل ليس بشرط بل الإيذاء الشديد كالضرب المؤلم كذلك، ثم رأيت بعضهم صرح بأن تعذيب الحيوان من غير موجب، وخصاء العبد وتعذيبه ظلما أو بغيا من الكبائر، ويقاس بالعبد غيره.(34/159)
ولما فرغت من هذا البحث رأيت بعضهم أطال فيه فأحببت تلخيص ما زاد به على ما قدمته وإن كان في خلاله شيء مما قدمته قال: الكبيرة الحادية والخمسون الاستطالة على الضعيف والمملوك والجارية والزوجة والدابة، لأن الله تعالى قد أمر بالإحسان إليهم بقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} (1)
فالإحسان للوالدين والأقارب بالبر. . . إلى أن قال: ومن أعظم الإساءة على الجارية أو العبد أو الدابة أن تجوعه لقوله (صلى الله عليه وسلم) «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته (2) » ومن ذلك أن يضرب الدابة ضربا وجيعا أو يحبسها أو لا يقوم بكفايتها أو يحملها فوق طاقتها فقد روي في تفسير قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} (3) قيل ورد في السنة: «يؤتى بهم والناس وقوف يوم القيام فيقضى بينهم حتى أنه يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء حتى يقاد للذرة من الذرة، ثم يقال كونوا ترابا فهناك يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا (4) » فهذا من الدليل على القصاص بين البهائم وبينها وبين بني آدم، (5) حتى الإنسان لو ضرب دابة بغير حق أو جوعها أو عطشها أو كلفها فوق طاقتها فإنها تقتص منه يوم القيامة بنظير ما
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) صحيح مسلم الزكاة (996) .
(3) سورة الأنعام الآية 38
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2582) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2420) ، مسند أحمد بن حنبل (2/235) .
(5) الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيثمي جـ 2 ص: 84 و 85. نقلته على عهدة مؤلفه.(34/159)
ظلمها أو جوعها، ويدل على ذلك حديث الهرة السابق بطرقه، وفي الصحيح «أنه رأى المرأة معلقة في النار والهرة تخدشها في وجهها وصدرها وتعذبها كما عذبتها في الدنيا بالحبس والجوع» وهذا عام في سائر الحيوانات، وكذلك إذا حملها فوق طاقتها تقتص منه يوم القيامة" لحديث الصحيحين «بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث (1) » فهذه بقرة أنطقها الله في الدنيا تدافع عن نفسها بأنها لا تؤذى ولا تستعمل في غير ما خلقت له فمن كلفها فوق طاقتها أو ضربها بغير حق، فيوم القيامة يقتص منه بقدر ضربه وتعذيبه قال أبو سليمان الداراني: ركبت مرة حمارا فضربته مرتين أو ثلاثا فرفع رأسه ونظر إلي وقال: يا أبا سليمان هو القصاص يوم القيامة، فإن شئت فأقلل وإن شئت فأكثر، قال: فقلت: لا أضرب شيئا بعده أبدا، «ومر ابن عمر رضي الله عنهما بصبيان من قريش قد نصبوا طائرا وهم يرمونه وقد جعلوا لصاحبه كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا (2) » أي هدفا يرمي إليه «ونهى صلى الله عليه وسلم "أن تصبر البهائم (3) » أي تحبس للقتل، ثم ساق حديث ابن مسعود في قصة الحمرة وفرخيها «وأنه رأى قرية نمل قد حرقت فقال: "إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار (4) » وأنه فيه النهي عن التعذيب بالنار.
وذكر ابن رجب: رحمه الله تعالى حديث أبي يعلى " شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته (5) » . . رواه مسلم. ثم أخذ في الكلام عنه وشرحه إلى أن قال: وظاهره يقتضي أنه كتب على كل مخلوق الإحسان، فيكون كل شيء أو كل مخلوق هو المكتوب عليه، والمكتوب هو الإحسان، وقيل: إن المعنى أن الله كتب الإحسان إلى كل شيء أو في كل شيء
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3471) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2388) ، سنن الترمذي المناقب (3695) ، مسند أحمد بن حنبل (2/246) .
(2) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5514) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1958) ، سنن النسائي الضحايا (4442) ، مسند أحمد بن حنبل (2/86) ، سنن الدارمي الأضاحي (1973) .
(3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5513) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1956) ، سنن النسائي الضحايا (4439) ، سنن أبو داود الضحايا (2816) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3186) ، مسند أحمد بن حنبل (3/171) .
(4) سنن أبو داود الجهاد (2675) ، مسند أحمد بن حنبل (1/404) .
(5) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4413) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .(34/160)
أو كتب الإحسان في الولاية على كل شيء فيكون المكتوب عليه غير مذكور وإنما المذكور المحسن إليه، ولفظ الكتابة يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء والأصوليين خلافا لبعضهم، وإنما استعمال لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجب حتم. . وأخذ رحمه الله في التفصيلات الأصولية إلى أن قال: وحينئذ فهذا الحديث نص في وجوب الإحسان، وقد أمر الله تعالى به فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (1) وقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (2) ثم قال: وهذا الحديث يدل على وجوب الإحسان في كل شيء من الأعمال لكن إحسان كل شيء بحسبه. . إلى أن قال:
والإحسان الواجب في معاملة الخلق ومعاشرتهم، القيام بما أوجب الله من حقوق ذلك الواجب في ولاية الخلق وسياستهم القيام بواجبات الولاية كلها. . والإحسان في قتل ما يجوز قتله من الناس والدواب - إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها وأرجاها من غير زيادة في التعذيب فإنه إيلام لا حاجة إليه.
أقول: - القائل كاتب هذا البحث- والرفق بالحيوان والدواب وعدم ظلمه أو تعذيبه أو تحميله فوق طاقته أو تجويعه هو عين الإحسان الذي أوجبه الخالق سبحانه وتعالى، ولذلك فقد أمر عليه الصلاة والسلام بإحسان هيئة الذبح وهيئة القتل، وهذا يدل على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يباح إزهاقها على أسهل الوجوه: يقول ابن رجب أيضا: وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة- أقول: وفي هذا دلالة أيضا على وجوب الرفق بالحيوان حتى في حالة إزهاق روحه، وقال ابن رجب أيضا: وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى عن صبر البهائم (3) » وهو أن تحبس البهيمة ثم تضرب بالنبل ونحوه حتى تموت، ففي الصحيحين عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تصبر البهائم (4) » وفيهما أيضا «عن ابن عمر أنه مر بقوم نصبوا دجاجة يرمونها فقال ابن عمر من فعل هذا؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن من فعل هذا (5) » " وخرج مسلم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى أن يتخذ شيء فيه الروح غرضا، (6) » والغرض هو الذي يرمى بالسهام، فيه،
__________
(1) سورة النحل الآية 90
(2) سورة البقرة الآية 195
(3) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5513) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1956) ، سنن النسائي الضحايا (4439) ، سنن أبو داود الضحايا (2816) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3186) ، مسند أحمد بن حنبل (3/171) .
(4) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5513) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1956) ، سنن النسائي الضحايا (4439) ، سنن أبو داود الضحايا (2816) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3186) ، مسند أحمد بن حنبل (3/171) .
(5) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5515) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1958) ، سنن النسائي الضحايا (4442) ، مسند أحمد بن حنبل (2/103) ، سنن الدارمي الأضاحي (1973) .
(6) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1957) ، سنن الترمذي الأطعمة (1475) ، سنن النسائي الضحايا (4443) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3187) ، مسند أحمد بن حنبل (1/297) .(34/161)
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الرمية أن ترمى الدابة ثم تؤكل، ولكن تذبح ثم يرموا إن شاءوا (1) » وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحسان القتل والذبح وأمر أن تحد الشفرة، وأن تراح الذبيحة يشير إلى أن الذبح بآلة حادة تريح الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها، وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ابن عمر قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحد الشفار وأن توارى عن البهائم وقال: إذا ذبح أحدكم فليجهز يعني فليسرع الذبح (2) » وقد ورد الأمر بالرفق بالذبيحة عند ذبحها، وخرج ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري قال: «مر رسول الله برجل وهو يجر شاة بأذنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دع أذنها وخذ بسالفتها والسالفة مقدمة العنق (3) » . . . ثم أخذ رحمه الله يسوق أحاديث وآثارا كلها تحث على الرفق بالبهيمة والإحسان إليها عند الذبح (4) .
أقول: ومن باب أولى الرفق بالبهائم والدواب في غير هذه الحالة وتكلم محمد بن مفلح الحنبلي في الآداب الشرعية عن وسم الحيوان فقال: فصل في النهي عن الوسم ولا سيما الوجه. لا يسم في الوجه ولا بأس به في غيره وقال جابر رضي الله عنه: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه وعن وسم الوجه (5) »
وفي لفظ «مر عليه بحمار قد وسم في وجهه فقال: "لعن الله الذي وسمه، (6) » وعن ابن عباس قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا موسوما في الوجه فأنكر ذلك فقال: فوالله لا أسمه إلا في أقصى شيء من الوجه (7) » وأمر بحماره فكوي على جاعرتيه، فهو أول من كوى الجاعرتين، روى ذلك مسلم، ولأحمد وأبي داود من حديث جابر «أما بلغكم أني لعنت من وسم البهيمة في وجهها وضربها في وجهها. فنهى عن ذلك (8) » . ثم أخذ يتكلم ويسوق الأحاديث والآثار في ذلك إلى أن قال: وقال النووي: الضرب في الوجه منهي عنه في كل حيوان لكنه في الآدمي أشد قال: والوسم في الوجه منهي عنه إجماعا (9) اهـ.
هذا والله أعلم لما فيه من إيلام الحيوان وتشويهه.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (2/402) .
(2) سنن ابن ماجه الذبائح (3172) ، مسند أحمد بن حنبل (2/108) .
(3) سنن ابن ماجه الذبائح (3171) .
(4) من جامع العلوم والحكم لابن رجب من ص: 141- 147 ببعض التصرف وباختصار.
(5) صحيح مسلم اللباس والزينة (2116) ، سنن الترمذي الجهاد (1710) ، مسند أحمد بن حنبل (3/323) .
(6) صحيح مسلم اللباس والزينة (2117) ، سنن الترمذي الجهاد (1710) ، سنن أبو داود الجهاد (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (3/323) .
(7) صحيح مسلم اللباس والزينة (2118) .
(8) صحيح مسلم اللباس والزينة (2117) ، سنن الترمذي الجهاد (1710) ، سنن أبو داود الجهاد (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (3/323) .
(9) من الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي ص: 142 و 143 باختصار.(34/162)
وفي موضوع آخر؟ قال: ويكره التحريش بين الناس وكل حيوان بهيم ككباش وديكة وغيرهما ذكره في الرعاية الكبرى، وذكر في المستوعب أنه لا يجوز التحريش بين البهائم، انتهى كلامه فهذان وجهان في التحريش بين البهائم انتهى كلامه، وكلام الإمام أحمد يحتملهما قال ابن منصور لأبي عبد الله يكره التحريش بين البهائم؟ قال: سبحان الله إي لعمري. . وعن جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم (1) » رواه أبو داود والترمذي " (2) .
وذكر البيحاني: رحمه الله تعالى في كتابه إصلاح المجتمع هذين الحديثين وهما:
1 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها وشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثلما ما بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء فأمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا يا رسول الله: وإن لنا في هذه البهائم لأجرا؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر (3) » . رواه البخاري ومسلم.
2 - عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (4) » . . رواه البخاري ومسلم، ثم تكلم عن هذين الحديثين وبين فضل المعروف والصدقة والإحسان لمن فعل ذلك لوجه الله فقد يدفع الله بذلك البلاء ويجبر بها من سوء القضاء، ويجعلها حجابا وسترا من النار، وبين كيف شكر الله لهذا الرجل الذي رحم
__________
(1) سنن الترمذي الجهاد (1708) ، سنن أبو داود الجهاد (2562) .
(2) من الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي ص: 357.
(3) صحيح البخاري المظالم والغصب (2466) ، صحيح مسلم السلام (2244) ، سنن أبو داود الجهاد (2550) ، مسند أحمد بن حنبل (2/375) ، موطأ مالك الجامع (1729) .
(4) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3482) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2242) ، سنن الدارمي الرقاق (2814) .(34/163)
الكلب ورق له حينما رآه يلهث عطشا فنزل البئر وملأ خفه ثم سقى الكلب العاجز عن النزول إلى البئر والوصول إلى مائها حيث غفر الله ذنبه وأجاره من النار.
وقد عجب الصحابة رضي الله عنهم من هذا؟ وسألوه عن الإحسان إلى البهائم وهل يكون فيه أجر؟ فأخبرهم نبي الرحمة، وصاحب الشفقة بخلق الله. أن لهم في كل كبد رطبة أجرا، كما أنه عليهم إذا أساءوا إلى البهائم ومنعوها حقها الإثم والوزر العظيم. وذكر في الحديث الآخر أن الله قد عذب امرأة بالنار جزاء لها على إساءتها إلى هرة حبستها ولم تؤد لها ما يجب لها عليها، ولا هي خلت سبيلها فتأكل من حشرات الأرض وتطلب رزقها حيث كان. . إلى أن قال:
وفي الحديثين: وما جاء على مثالهما من التعاليم المحمدية ما لو عمل الناس بها لأغنى عن جمعية الرفق بالحيوان، ولسد أفواه الذين لا يعرفون عن الإسلام إلا أنه دين القسوة، واحتقار الضعيف، وما علموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان أرحم الناس بالضعفاء وأكثرهم رفقا بالبهائم وكل ذي روح، يفتح للهرة الباب وهو يصلي حين سمعها تحكه بأظفارها، «وينظر إلى حمار قد وسيم في وجهه فيقول: لعن الله من فعل به هذا (1) » . . وروي «أنه عالج كلبا أجرب، وديكا مريضا،» وأنه أمر قوما من الأنصار بالتخفيف عن بعيرهم الذي كبر في خدمتهم وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته (2) » وقال ابن مسعود «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجة، فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها. ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: من حرق هذه؟ قلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار (3) » . . إلى أن قال: «ومر ابن عمر بفتيان من قريش قد نصبوا طيرا وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبالهم، فلما رأوا ابن عمر
__________
(1) صحيح مسلم اللباس والزينة (2117) ، سنن الترمذي الجهاد (1710) ، سنن أبو داود الجهاد (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (3/297) .
(2) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4413) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .
(3) سنن أبو داود الجهاد (2675) ، مسند أحمد بن حنبل (1/404) .(34/164)
تفرقوا، فقال ابن عمر؟ من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا (1) » .
ويحرم تكليف الدواب فوق طاقتها من شدة السير، وثقل الحمول، وضربها بالسياط الموجعة، والأخشاب الغليظة، والتقصير في علفها وسقيها، واستخدامها إذا كبرت أو مرضت فيما لا تطيق، كما يفعل كثير من أصحابها الذين لا يخافون الله، ولا يرحمون ضعيفا، ومن لا تفيده الموعظة، ولا تنفعه النصيحة فواجب أن يخاطب باللغة التي يفهمها لغة الوعيد والتهديد، والعقوبة العاجلة الصارمة فيخسر أو يسجن، أو تخلص دابته من تعذيبه وسوء معاملته، وحرام على أحد أن يسيب البهائم التي ينتفع بها، ومن عجز عن حقها فليبعها أو يذبحها أو يهبها لإنسان آخر. . إلى أن قال:
وإذا رجعنا إلى الحديثين: وجدناهما يدلان على وجوب الرفق بالحيوان الذي لا ينتفع به إلا قليلا، ولا يرغب في اقتنائه واتخاذه إلا قوم دون آخرين وفي بلاد دون أخرى أما البهائم التي تحلب وتركب وتتخذ للسقي والحرث والنسل، وتربى لصوفها وشعرها ووبرها وريشها وجلدها، ولحمها وعظمها ولبنها فإن الوازع الطبيعي يغني عن الأمر بالإحسان إليها، والعناية بشأنها، وبما أنها تعد من النعم العظيمة لله على خلقه، فشكره عليها الاهتمام بها وتشغيلها فيما هو من شأنها. {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} (2) {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} (3) {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} (4) (5) .
وذكر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: رحمه الله تعالى في كتابه " بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار " حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته (6) » . رواه مسلم.
__________
(1) صحيح البخاري الذبائح والصيد (5514) ، صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1958) ، سنن النسائي الضحايا (4441) ، مسند أحمد بن حنبل (2/141) ، سنن الدارمي الأضاحي (1973) .
(2) سورة يس الآية 71
(3) سورة يس الآية 72
(4) سورة يس الآية 73
(5) من كتاب إصلاح المجتمع لمحمد بن سالم البيحاني من ص: 390 إلى 394 ببعض التصرف اليسير والاختصار.
(6) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4413) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .(34/165)
وقال: إن الإحسان نوعان: إحسان في عبادة الخالق، وإحسان في حقوق الخلق ثم تكلم عن هذا بكلام جيد. . إلى أن قال:
ويدخل في ذلك الإحسان إلى جميع نوع الإنسان، والإحسان إلى البهائم في جميع الحالات حتى في الحالة التي تزهق فيها نفوسها - ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة (1) » فمن استحق القتل لموجب قتل بضرب عنقه بالسيف من دون تعزير ولا تمثيل، وقوله صلى الله عليه وسلم «وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة (2) » أي هيئة الذبح وصفته. . ولهذا قال: «وليحد أحدكم شفرته -أي سكينه. - وليرح ذبيحته (3) » فإذا كان العبد مأمورا بالإحسان إلى من استحق القتل من الآدميين، وبإحسان ذبحة ما يراد ذبحه من الحيوان فكيف بغير هذه الحالة؟ . . . إلى أن قال: واعلم أن الإحسان المأمور به نوعان: أحدهما: واجب وهو الإنصاف والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجبه عليك من الحقوق. اهـ.
يقول كاتب هذا البحث: ومن الإحسان الواجب والإنصاف: الرفق بالحيوان وعدم تعذيبه أو ظلمه بأي شكل من الأشكال.
الثاني: إحسان مستحب: وهو ما زاد على ذلك من بذل نفع بدني أو مالي أو علمي، أو توجيه لخير ديني، أو مصلحة دنيوية، فكل معروف صدقة، وكل ما أدخل السرور على الخلق صدقة وإحسان، وكل ما أزال عنهم ما يكرهون ودفع عنهم ما لا يرتضون من قليل أو كثير فهو صدقة وإحسان (4) .
وقال الدكتور أحمد الشرباصي: ولا ريب أن الإنسان سيحاسبه ربه على معاملته للحيوان، لأن الإسلام يأمر بالرفق بهذه الحيوانات، وحسن معاملتها وينهى عن تعذيبها أو تضييعها أو إرهاقها، وحسبنا أن نتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «دخلت النار امرأة في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض (5) » (6)
__________
(1) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4413) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .
(2) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4414) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .
(3) صحيح مسلم الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955) ، سنن الترمذي الديات (1409) ، سنن النسائي الضحايا (4413) ، سنن أبو داود الضحايا (2815) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3170) ، مسند أحمد بن حنبل (4/125) ، سنن الدارمي الأضاحي (1970) .
(4) من كتاب بهجة قلوب الأبرار للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي من ص 168- 171 باختصار.
(5) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3482) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2242) ، سنن الدارمي الرقاق (2814) .
(6) انظر: كتاب يسألونك في الدين والحياة للدكتور أحمد الشرباصي جـ 3 ص: 454.(34/166)
أقول: ومن مجموع ما تقدم من آيات قرآنية وأحاديث نبوية ومن كلام العلماء رحمهم الله تعالى نستفيد ما خلاصته:
1 - وجوب الإحسان إلى البهائم والدواب والشفقة بها ورحمتها.
2 - وجوب الرفق بالحيوان وتحريم ظلمه أو تعذيبه، أو حبسه بدون طعام أو شراب، سواء كان الظلم بالضرب الشديد، أو التجويع، أو بثقل الحمل، أو تكليفه ما لا يستطيع من السير بسرعة فوق طاقته وغير ذلك مما يفعله بعض الجزارين من الصعق أو الضرب الشديد.
3 - أن ذلك من تعذيب خلق الله سبحانه وتعالى وقد نهى عنه الشارع الحكيم.
4 - الوعيد الشديد لمن ظلم الحيوان أو عذبه وأنه سيحاسب عن ذلك، ويقتص منه يوم القيامة.
هذا ما يسر الله لي الإطلاع عليه وجمعه في هذا البحث القصير راجيا أن يكون فيه الكفاية المطلوبة. . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(34/167)
مصادر البحث
1 - القرآن الكريم.
2 - صحيح البخاري.
3 - صحيح مسلم.
4 - سنن أبي داود.
5 - سنن ابن ماجه.
6 - الترغيب والترهيب- للمنذري.
7 - فتح الباري للحافظ ابن حجر.
8 - النووي على مسلم.
9 - تحفة الأحوذي على جامع الترمذي.
10 - عون المعبود على سنن أبي داود.
11 - الكبائر للذهبي.
12 - الزواجر عن اقتراف الكبائر.
13 - جامع العلوم والحكم لابن رجب.
14 - الآداب الشرعية لمحمد بن مفلح الحنبلي.
15 - إصلاح المجتمع لمحمد بن سالم البيحاني.
16 - بهجة قلوب الأبرار للشيخ عبد الرحمن السعدي.
17 - يسألونك في الدين والحياة للدكتور أحمد الشرباصي.(34/168)
بيان الحكمة في التشريع الإسلامي
د. محمد بن محمد شتا أبو سعد مستشار بالمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية بالرياض
المطلب الأول: مقدمات:
أولا: ضرورة بيان الحكمة في التشريع الإسلامي:
1 - بين العلة والحكمة:
لا يوجد حكم شرعي في كتاب الله تعالى، أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إلا وله علة دفعت إلى تشريعه، وحكمة مقصودة أو متغيأة من هذا التشريع، وقد(34/169)
ترتبط العلة بالحكمة ارتباطا وثيقا، ولكنهما في الأغلب الأعم من الأحوال مستقلان، ولكي يتضح الفارق بين العلة والحكمة على نحو جلي محسوس، بعيدا عن التجريد فإنه يمكن القول: إن الله سبحانه وتعالى، قد شرع قصر الصلاة في السفر دفعا للمشقة، ولذا يقال إن علة قصر الصلاة هي السفر، والحكمة من قصر الصلاة هي دفع المشقة، وسواء بانت العلة أو لم تبن، وظهرت الحكمة أو لم تظهر، فإن الدعاة إلى الله يجب أن يستفرغوا جهودهم في سبيل جلاء كل منهما، وطرحهما على بساط التفكر والتدبر أمام المسلمين عامة، ومن توجه إليهم سهام التغريب والاستشراق والعلمانية والماسونية ودعاة المدنية المادية الزائفة، والمشككين، ومن يعبدون الله على حرف، والمنافقين، وطلاب الدنيا، والباحثين عن زخارفها، بصفة خاصة، لأن المستهدف أولى بالرعاية.
ويقول ثقات الباحثين إن "جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم، ذهبوا إلى أن أحكام الشرع معللة بجلب المصالح للعبد، دنيوية أو أخروية، ودرء المفاسد بكل أنواعها، وسواء منها ما كان معقول المعنى، وما لم يكن كذلك، ولم يخالف هذا إلا بعض الظاهرية ".
ولسنا الآن بصدد تعريف العلة والحكمة ووضع الضوابط الدقيقة للتمييز بينهما، وذلك هدف نظري يتجاوز المنظور العملي لهذه الدراسة، وحسبنا القول: إن العلة قد تكون وسيلة للوقوف على الحكمة، حين تكون العلة علامة من "العلامات المعرفة للحكم الخاص " (1) وأداة للحيلولة دون استباحة المحارم، حين تؤدي في القياس الشرعي دور وجه الشبه بين الأصل، أي المقيس عليه وبين الفرع، أي المقيس، وحيث يتم إنزال حكم الأصل على الفرع،
__________
(1) الشاطبي (أبو اسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي) الموافقات تعليق عبد الله دراز، ط 1، ج 2، ص 6.(34/170)
للاشتراك في العلة، من خلال ما يعرف بقياس التعليل المحض (1) ، أملا في حكمة الله تعالى من التشريع، وهي حكمة عبادية في جوهرها، وإن تعددت صورها، قال تعالى في محكم التنزيل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) .
وقد ارتبط التعليل بالحكمة في كث
ير من آيات الأحكام الشرعية الغراء. قال تعالى في حض البشر على الطهر: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (3) وفي التماس الفتوى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) وفي الإقدام على العبادات التي تنأى بالإنسان عن المنكر {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (5) واستعمال الحق المأذون فيه لدفع الظلم {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (6) وفي ربط القصاص بالحكمة منه {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (7) والآيات في هذا الصدد كثيرة.
وقد ربط بعض فقهاء الشريعة بين العلة والحكمة وجعلوهما مترادفين في عموم إطلاقهما. وإن كانت النظرة الفاحصة تشف عن أنهم تدرجوا في تعبيراتهم تدرجا يبدأ بالعلة وينتهي بالحكمة، فالشيخ محمد رشيد رضا يطلق لفظ العلة قاصدا منه الحكمة وذلك بمناسبة بيانه لمفهوم قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ} (8) حيث يقول إن "هذا تعليل للحد، أي اقطعوا
__________
(1) شيخ الإسلام ابن تيمية، الرد على المنطقيين، لاهور، ط 6 (1404هـ) ، ص 365.
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة المائدة الآية 6
(4) سورة البقرة الآية 183
(5) سورة العنكبوت الآية 45
(6) سورة الحج الآية 39
(7) سورة البقرة الآية 179
(8) سورة المائدة الآية 38(34/171)
أيديهما جزاء لهما بعملهما وكسبهما السيء ونكالا وعبرة لغيرهما" (1) وفي إطلاق العلة مع ربطها بالباعث أو الدافع الشخصي للسارق دون ذكر الحكمة ذاتها اكتفاء بذكر أحد مستلزماتها وهو قمع الدافع السيء يقول عبد القادر عوده رحمه الله: "وعلة فرض عقوبة القطع للسرقة أن السارق. . . . . يفعل ذلك ليزيد من قدرته على الإنفاق. . . . ليرتاح من عناء الكد والعمل. . . وقد حاربت الشريعة هذا الدافع في نفس الإنسان بتقرير عقوبة القطع. . . . وهذا يؤدي إلى نقص الثراء. . . . ويدعو إلى شدة الكدح وكثرة العمل والتخوف الشديد من المستقبل " (2) .
أما الشيخ سيد سابق فقد علل مباشرة بالحكمة فقال إن في قطع يد السارق "حكمة بينة إذ اليد الخائنة بمثابة عضو مريض يجب بتره. . . كما أن في قطع يد السارق عبرة" (3) لغير السارق. وقد ربط صدر الشريعة (4) بين العلة والحكمة، وجعلهما مترادفين فقال: بعض الناس عرفوا العلة بالباعث، يعنى ما يكون باعثا للشارع على شرع الحكم. . . . فالقتل العمد باعث للشارع على شرع القصاص صيانة للنفوس. . . . والمراد من الحكمة المصلحة. . . . والمراد من كون الباعث مشتملا على الحكمة أن ترتب الحكم على هذه العلة محصل للحكمة، فإن العلة لوجوب القصاص القتل العمد العدوان " وبالتالي لا يتصور اشتمال الباعث على الحكمة إلا بجلب النفع للعباد أو دفع الضر عنهم "وهذا مبني على أن أفعال الله تعالى معللة بمصالح العباد. . . . "
والعلة ترد بمعنى الحكمة في إطلاقين من الإطلاقات الثلاثة للعلة عند الأصوليين. فهم يقولون أولا: إن العلة قد تعني ما يترتب على الفعل من نفع
__________
(1) تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا، جـ 6، ص 380.
(2) التشريع الجنائي، ط 2 م، دار العروبة، ج 2، ص 621.
(3) فقه السنة، ج 2، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 485.
(4) شرح التوضيح ط 1، ج 2، ص 374 وانظر كذلك التلويح على التوضيح مطبعة محمد علي صبيح، ج 2، ص 125، 126.(34/172)
أو ضرر، مثل ذلك ما يترتب على، القتل من ضياع النفوس، وما يترتب على الزنا من اختلاط الأنساب. ويعبر عن هذا النوع بالمصالح والمفاسد، وبعض الأصوليين يسميه حكمة. وهم يقولون ثانيا: إن العلة قد تعني ما يترتب على تشريع الحكم من تحقيق. مصلحة أو دفع مفسدة، مثل حفظ الأنساب الذي يترتب على تحريم الزنا ووجوب الحد فيه. ويعبر عن هذا النوع أيضا بالمصلحة أو مقصد التشريع أو الحكمة. وفي إطلاق ثالث: يقال: إن العلة هي الوصف الظاهر المنضبط الذي يترتب على ربط الحكم به جلب مصلحة أو دفع مفسدة، وفي هذا الصدد قيل إن المظنة هي، مكان ظن وجود الحكمة والمئنة هي نفس الحكمة. وقيل إن الحكمة الظاهرة المنضبطة يصدق عليها أنها وصف ظاهر منضبط. وفي ضوء استعراض الآراء انتهى البعض إلى التفرقة بين الوصف والحكمة " بأن الحكمة هي التعليل بالمصالح والمفاسد أي بنوعي الحكمة كالحرج والمشقة والزجر والردع. وبأن الوصف هو التعليل بغير المصالح والمفاسد، أي التعليل بالكيل أو الصغر، وغيرها من العلل التي سموا كل واحدة منها ضابطا أو مظنة أو إمارة أو سببا " والتعليل في مسائل القياس قد يكون بالوصف وقد يكون بالحكمة.
ففيما يتعلق بالتعليل بالوصف المناسب أو المؤثر فإن جمهور الأصوليين على جوازه، فهم يتفقون على التعليل بهذا الوصف، وأساس ذلك أن الوصف المؤثر يشتمل على جلب منفعة أو دفع مضرة فإن علم الإنسان هذا الوصف المناسب أو هذه الحكمة المخصوصة، كان ذلك الوصف علة، وأمكن بالتالي نقل حكم الأصل الذي وردت فيه هذه العلة إلى الفرع الذي تأكد للمجتهد أنه تتوافر فيه هذه العلة؛ أملا في تحقيق الحكمة التشريعية الإلهية.(34/173)
وفيما يتعلق بالتعليل بالحكمة، فهو عند بعض علماء الأصول جائز مطلقا، وراجح عند البعض الآخر، ونقل الآمدي أن الأكثرين يمنعونه مطلقا، ولكن الآمدي اختار أنه إذا كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها جاز التعليل بها وإلا فلا.
ومن يرون عدم التعليل بالحكمة يقولون إن الحكمة تابعة للحكم، وعلة الشيء يستحيل تأخرها عن الشيء، ولذا فإن الحكمة لا تكون علة، والحكمة هي المؤثر الحقيقي، وإنما جعل الوصف مؤثرا لاشتماله عليها، واستقراء الشريعة يدل على أن الأحكام معللة بالأوصاف لا بالحكم، ولو جاز التعليل بالحكمة لما اعتبر الشارع المظان عند تحقق خلوها عن الحكمة.
رأينا: وإذا كان هذا القول يتعلق بمباحث العلة في القياس، فإنه لا يجوز نقل أي خلاف فيه إلى مجال البحث عن الحكم التشريعية في نصوص الكتاب والسنة، لأن من الممكن في غالب الأحوال، ربط الحكم بالحكمة في كثير من الأحكام الشرعية، وحسب المؤمن الصادق أن يكتفي بذلك، كما أن الخلاف الأصولي قد انحسم لمصلحة إمكان تعليل الأحكام بالحكمة، في الحالات غير الشائكة، وهو ما يعنينا الآن، ولذا يمكن القول:
1 - إن التعليل بالحكمة موجود ويمكن الوقوف عليه في كثير من نصوص الكتاب والسنة.
2 - كما أن الشارع الحكيم أقام أحكام المعاملات على المصلحة حيث وجدت، حتى وإن أفضى ذلك إلى عدم اعتبار الأوصاف، وهذا يجعلنا نؤمن بأنه بعيدا عن دائرة الجدل المحسوم غالبا لصالح الحكمة، فإن التعليل(34/174)
بالحكمة جائز، فلقد وقع التعليل بالحكمة في الشرع، سواء من حيث ربط الحكم بالحكمة، أو من حيث تعليل الشارع أحكامه بالحكمة، أو من حيث قدرة المجتهدين على تعليل أحكام الشرع بالحكمة ابتغاء بناء الأحكام عليها، ومن قبيل الأول أن الله سبحانه وتعالى أمر بالعدل والإحسان، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم قال «لا ضرر ولا ضرار (1) » ، ومن الثاني أنه سبحانه قد علل النهي عن شرب الخمر ولعب الميسر بقوله جل شأنه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) (المائدة: 91) .
__________
(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .
(2) سورة المائدة الآية 91(34/175)
2 - الحكمة قد لا يدركها العقل:
والحكمة قد تكون جلية في الكتاب والسنة، وعندئذ يتعين رعايتها وإعمالها، وقد تكون خفية لا يعلمها إلا علام الغيوب ومطبب القلوب، وعندئذ يلزم الانصياع للشرع فيما أتى به، دون مكابرة أو مجادلة، أو الزعم بأن ما لا يدركه العقل لا يمكن الإيمان به والبقاء عليه فذلك كفر بواح، وهدفه الآن عند القرآنيين بوجه خاص هو صد الناس عن السنة المطهرة.(34/175)
وبيانا لما تقدم فلا شك أن الإيمان بالله سبحانه وتعالى هو البداية الصحيحة لوقوف الإنسان على حكم حقائق الكون، ودقائق الحياة (1) التي أتى التشريع لكمال سيرها؛ ذلك أن نواميس الكون قد تفزع الإنسان فيتخبط في ظلمات الضلال، ولذا كان لا بد له أن يؤمن، حتى يتبين حقائق الوجود، من غير اصطدام أو تخبط، ولقد تعوز إلى ذلك أيضا ضرورة فطرية، وضرورة حسية، وضرورة عقلية (2) ، فبالعقل يمكن إدراك حقائق هذه الحياة، وهذا العقل ذاته هو مناط التكليف.
وإذا صح أن العقل يمكن أن يفضي إلى إدراك حقائق الوجود، عند ما يكون عقلا محايدا ومتجردا، لا عقلا ميكانيكيا أو آليا متعصبا، لذا فإنه من المعقول قبول الوحي سبيلا أول قبله لإدراك الحقائق الإيمانية، وبالتالي الوقوف على مفهوم الإسلام، وشريعة الإسلام والحكم التشريعية أو الحكم التي وردت في البنيان التشريعي في الإسلام مع الإيمان بأن قصور العقل وارد، لأن الإنسان لا يمكن أن يدرك كل الحكم التي بنى عليها الحكيم العليم أحكامه وجعلها بواعث للاطمئنان، ودوافع للتيقن، إن حكم الشارع محايدة، وتشريعه سام سموا مطلقا، ولذلك يجب الإيمان بحكم التشريع ظهرت أو لم تظهر.
من الواضح، إذن، أن إعمال العقل في ظل الشرع لإدراك حقائق الكون، ومنه الحقيقة التشريعية وحكمها الجلية أو الخفية ما أمكن، يفضي إلى إحساس المسلم بالرضا، فإن غلب عليه هذا الإحساس اطمأن، وإذا اطمأن رضي، وإذا رضي أنتج ما يبقى بعد أن يفني كل ما لا يبقى، أي يبقي حضارة وعمرانا أساسهما العلم الإيماني الذي يقود الناس إلى مزيد من الإيمان، ومن هنا أمكن القول أنه إذا كان العقل في الإسلام أساس بناء الحضارة في ظل شرع الله، فإن هذه الحضارة تكون حضارة عقلية إيمانية، تسطر للتاريخ ما لا تستطيع أن
__________
(1) انظر يوسف كمال، وسائل المعرفة، المسلم المعاصر، ص 2، ع 6، ص 49 وما بعدها.
(2) يوسف كمال، مصدر المعرفة، المسلم المعاصر، ص 2، ع 5، ص 29 وما بعدها.(34/176)
تنقش حرفا واحدا منه أية حضارة لا أخلاقية، ولقد اتسمت حضارة الإسلام، بأنها، رغم صبغتها الدينية، تستجيب لنداء العقل، بدليل أنها كانت دائما حضارة متفتحة، تقبل كافة الثمرات الروحية والعقلية والمادية كعناصر جوهرية، تفضي إلى انتشارها بصورة تلقائية، طالما لم تخالف الحكم التشريعية الإلهية، ومن هنا كرم الله الإنسان بالعقل، وكان أسلافنا على مستوى تكريم الله لهم؛ ذلك أنهم حيث وجدوا أنه لا يفيد إلا العقل. . . بمفهومه الدال على القدرة الإيمانية على التجريد والجمع والتفريق والتصنيف والحكم، فقد استعملوا هذا العقل في حدود معطياته وفي إطار قدراته، بيد أنهم استنفروا طاقة أخرى من متعلقاته وهي البصيرة أو الحدس، فتزاوج العقل مع العاطفة، والتقى الوجدان مع المعرفة (1) التقاء حق انعكس أثره خيرا وبركة على فهم حكم التشريع الإسلامي.
__________
(1) محمد كمال جعفر، فكر بلا نزعات ولا نزغات، المسلم المعاصر، س 7، ع 26، ص 9.(34/177)
3- لماذا يجب بيان الحكمة في التشريعات الإسلامية:
وعلى ما تقدم فإنه يجب أن يعتبر بيان الحكمة في التشريعات الإسلامية، واحدا من أهم موضوعات الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، لأنه من الناحية الوصفية، يمكن أن يعدد الحكم التي تدور في فلكها تشريعات الإسلام، وهو دور يعين على بث اليقين في نفس المسلم فيثق أنه في جانب الله، الحكيم المتعال، ويضع بالحياد العلمي أقدام غير المسلمين على دروب الإسلام الحقة، من أول منطلقاتها المحايدة. ولأنه من الناحية التأصيلية يجمع شتات الأفكار حول فكرة محورية تدور في فلكها كافة الأصول الإسلامية، على نحو ييسر تجاوز فكرة الوقوف عند العلل الجزئية، من أجل الاهتمام " بالمقاصد العامة، والمصالح الكلية التي جاءت الشريعة لرعايتها والمحافظة عليها والتي تصرف الشارع على وفقها،(34/177)
وفرع الفروع بناء عليها. . " (1) . كما أنه من الناحية العملية والغائية يساعد على حسن سير العدالة عن طريق تبصير القاضي بالأسلوب الأمثل لتطبيق القاعدة الشرعية من خلال مسلمة عالمية علمية، قوامها إدراك الغاية التي ينبغي تحقيقها من وراء التشريع، وهي غاية مستقرة في التشريعات الإسلامية. وقلقة في القوانين الوضعية (2) ، وسبب استقرار هذه الغاية في التشريعات الإسلامية، على ما يبين من الاستقراء الشامل والكلي لها، أن غاية التشريع الإسلامي- في ضوء الحكمة التي تواكبه- هي غاية محايدة ومثالية، وذلك الحياد وهذه المثالية، يقودان فكر القاضي وهو ينظر في كل قواعد التشريع، فيلتقي سكون القاعدة التشريعية مع حركتها، على نحو لا يمكن أن يقوم في ظل القانون الوضعي، الذي يفصل فصلا جامدا بين النتيجة النهائية للنشاط العلمي القانوني وغير القانوني، ويسبغ عليها وصف الفكرة الساكنة للعلم La notion statique de la science وبين العلم وهو في حالة نشاط محدد، ويسبغ عليه وصف الفكرة المتحركة أو الديناميكية للعلم la notion dynamique de la science، وهذا خطأ جسيم، لأن العلم الحقيقي وهو العلم الإلهي، واحد في مصدره، واحد في غايته، واحد في سكونه، واحد في حركته، على نحو لا وجود له في ظل القانون الوضعي.
__________
(1) الدكتور حسين حامد حسان، الحكم الشرعي عند الأصوليين، ط 1 (1972م) دار النهضة العربية ص 21.
(2) Georges Repert، le declin du droit، Paris 1949 p 221(34/178)
ثانيا: بين الحكمة والمصلحة:
لكن دراسة الحكمة في التشريعات الإسلامية، ليست من قبيل الفروض العلمية الجدلية، التي تنأى عن الغايات الواقعية في الذات الإنسانية، بل إنها ترتبط بالمصلحة، كفكرة إسلامية منضبطة، لا كفكرة مادية منفلتة، ولعل مما يؤكد ذلك، ما انتهت إليه بعض البحوث العلمية من أن الشارع قد ينص " على حكم واقعة معينة، دون أن يدل النص على المصلحة التي قصد النص تحقيقها، ويجد الفقيه أن فهم النص، وتحديد مضمونه، ونطاق تطبيقه، يتوقف على معرفة هذه المصلحة، فعند ذلك يجتهد الفقيه، في التعرف على هذه المصلحة، أو الحكمة، أو العلة، أو الوصف المناسب، مسترشدا بما عرف من عادة الشرع، وتصرفه في الأحكام، مستعينا بروح الشريعة، وعللها المنصوصة، وقواعدها أو مصالحها المستنبطة، فإذا ما توصل إلى هذه الحكمة، وتعرف على تلك المصلحة، فسر النص في ضوئها، وحدد نطاق تطبيقه على أساسها. . . . " (1) .
فالربط واضح، إذن، في هذا الصدد، بين المصلحة والحكمة والعلة؛ وإذا كانت العلة وصفا ظاهرا منضبطا، يبنى الحكم عليه، ويربط وجودا وعدما به، فإن من شأن ذلك تحقيق " حكمة تشريع الحكم "، ذلك أن الله سبحانه وتعالى، ما شرع حكما إلا لمصلحة عباده، وأن هذه المصلحة قد تكون جلب
__________
(1) نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي للدكتور حسين حسان 1971، دار النهضة العربية، ص (م) .(34/179)
نفع، وقد تكون دفع ضرر، بحيث يمكن القول، إن الباعث على تشريع الحكم هو الغاية المقصودة من استنانه، وهي حكمة الحكم ذاته، فدفع المشقة عن المريض حكمة مبتغاة من إباحة افطاره، وحفظ أموال الناس حكمة مقصودة من ايجاب قطع يد السارق، ودفع الحرج عن الناس حكمة مقصودة من إباحة المعاوضات، ودفع الضرر عن الجار حكمة مرنو إليها من استحقاقه الشفعة، وبالجملة، فإن حكمة كل حكم شرعي، قد تكون تحقيق مصلحة أو دفع مضرة، فإذا أطلق ذلك على العلة، فإن الأمر يكون أمر اصطلاح ليس إلا، ولا مشاحة في الاصطلاحات.(34/180)
ثالثا: إدراك الحكمة يقضي على كل خلاف:
ولعدم ادراك بعض أرباب الأقلام في مصر، الآن، الحكمة في التشريع الإسلامي، فقد حدثت تجاوزات فكرية، فأحد أساتذة الفلسفة (1) ، متدثرا بدثار الإسلام، يريد باسم المعاصرة، إلباس ثوابت الإسلام عباءة الغرب المادية المدمرة، قولا منه " إن الأمر مرهون بالتجربة خلال الممارسة العملية " وهو قول يتجاهل كلية حكم التشريع الإسلامي، ويؤلب النفوس القلقة على أحكام شرعية، ليس فيها إلا كل خير وهداية للبشر، وكيف لا وشرع الله لا يريد للعباد إلا الرشاد!
إن الأمر يحتاج إلى إحياء هذه النفوس، عن طريق إرشادها إلى حكمة التشريع الإسلامي، وقد تكون وسيلة ذلك، قال بعض العلماء.، الوقوف
__________
(1) د. محمد شتا أبو سعد، 1986 مستقبل التشريع الإسلامي، ج 1: رد على د. زكي نجيب محمود، ص 3 إلى ص 48.(34/180)
على الحكم التشريعية، وعدم الوقوف بدراسة المشكلات الفقهية الإسلامية عند حد الدراسات التحليلية والتجميعية، بل يجب رد معظم هذه المفاهيم إلى أصول فكرية، ومبادئ أساسية، تسهل انتشار حركة فقهية معاصرة، تتجاوز الأساليب التقليدية التي نعيشها، دون أن تؤثر في السلامة المطلقة والمستمرة لجوهرها، ولجوهر التشريع الإسلامي الذي يشف عنها، وحكمته الجلية فيها.
إن الدراسات التي تقارن فيها حكمة التشريع الإسلامي وفلسفته بفلسفة القوانين أو الأنظمة الوضعية لإظهار محاسن الشريعة جد متواضعة، ومظنة أن الشريعة لا تنطوي على تقسيمات معاصرة كتلك التي توجد في القوانين الوضعية اللاتينية والجرمانية والانجلوسكسونية خطأ؛ فهذه الفكرة المسبقة تنطوي على مصادرة على المطلوب، إن اختلاف الصياغة وارد، واختلاف الحلول وارد أيضا، بل مفروض، لأن حكمة أو فلسفة التشريع الإسلامي الذي يقوم على مبدأ السمو المطلق للتشريع الإسلامي سموا ناشئا عن سمو مصدره، لا يمكن ولا يجب أن تكون صورة أخرى لفلسفة قوانين وضعية قاصرة في مصدرها، وتصورها، ووسائلها، وغاياتها.
ولم يدرك كاتب علماني آخر هذه الحقيقة (1) عندما هاجم التشريع الإسلامي بكلام منمق، لا حكمة فيه، ولا رغبة منه سوى الهدم، إذ يقول " إن الشريعة حق. . . . ولكن من يطبق الشريعة؟ . . . إنهم البشر وأهواء البشر. . . "
إن هذا القول يجمع كل سموم المستشرقين في كلمة واحدة، كلها وهم وباطل وضلال، وأبسط ما يقال له، ما دام البشر قد يخطئون في تطبيق شرع الله، وقد يخطئون في تطبيق القانون الوضعي، فلماذا نضيف إلى خطئهم المحتمل، خطأ تشريعهم المؤكد الذي هو من صنعهم، ولا نطبق شرع الله الذي لا
__________
(1) د. محمد شتا أبو سعد مستقبل التشريع الإسلامي، ج 2، رد على د. يوسف إدريس 1986 م من ص 3: 62.(34/181)
يمكن أن ينطوي على حكم واحد خاطئ، بدليل ثمرة استقراء الحكمة في التشريعات الإسلامية، وبدليل ما تنعم به البلاد الإسلامية التي طبقت الشريعة الإسلامية، في شتى مناحي الحياة، تطبيقا هادئا يتفق وحكمة النصوص وغاياتها والمصالح المبتغاة منها.
ولقد نلمح، بسبب عدم ادراك حكمة نصوص التشريع الإسلامي، حملة ظالمة على العالم الإسلامي، وتسخيرا لبعض الأقلام المتشحة بوشاح الإسلام لكي تنهش في جوهر التشريع الإسلامي. ولقد يمكن ضرب مثال لذلك بالمرتد محمود محمد طه في السودان، الذي ذهب به الغلو في الردة، إلى حد إهدار الصلاة والقول بما أسماه صلاة الأصالة، والقول إن الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين، أو قول القانوني السوداني، جلال علي لطفي: إن الربا حلال، ولذلك أمثلة كثيرة في بلدان عربية كثيرة، كمسلك القاضي المصري محمد سعيد العشماوي، الذي كتب عن أصول الإسلام كتابا في بيروت كله هدم لهذه الأصول، ونقل لفكر المستشرق اليهودي جولدتسيهر الذي شكك حتى في العقيدة ذاتها، باسم الدراسة العلمية المحايدة، والحياد منها براء، وإذن ففهم الحكمة من التشريعات الإسلامية سيساعد لا محالة على الرد المفحم والسريع على من باعوا أقلامهم لكل من يعادون القيم الدينية، ويبغون إهدارها، والتحلل منها. " والطيب في الأمر أن هؤلاء. . . . قلة. وهم يتقلصون مع ارتفاع(34/182)
نسبة الوعي الثقافي والفكري بين العرب والمسلمين ". . ولكن هذا لا ينفي أن أصحاب هذه الأقلام يريدون إطفاء نور الله وطمس حكمه التشريعية وقسر الأمور الإسلامية حتى توافق أهواء من يستهينون بشرع الله ومن يشككون في الشريعة الغراء ويحاولون ضرب الحكمة التشريعية من قوامة الرجل ومن التعدد الشرعي للزوجات ومحاولة نفث سموم الرذيلة في آذان النساء وحضهن على الاختلاط البغيض. كما أن هؤلاء المارقين يحاربون اللغة العربية ويرغبون الشباب في الملذات المردية ويوجدون هوة سحيقة بين الأبناء وآبائهم وبين المسلمين ودينهم من خلال تيارات فكرية هدامة، لا نجاة منها إلا بالوقوف على حكم التشريع الإسلامي.(34/183)
رابعا: إدراك الحكمة في التشريعات وسيلة لضبط المصالح:
ولعل الجديد المفيد من إدراك الحكمة في التشريعات الإسلامية، يتمثل في جعل الحكمة وسيلة لضبط فكرة المصلحة، يستوي في ذلك أن تكون الحكمة جلية في نصوص الكتاب والسنة، أو تكون غير ظاهرة، وتحتاج إلى يقين إيماني في الوقوف عليها والالتزام بها. ولا خلاف حول جلاء الحكمة في المصالح التي شهد الشرع لاعتبارها كتضمين السارق قيمة المسروق وإن أقيم عليه الحد زجرا له عن العدوان. كما أنه لا خلاف حول جلاء الحكمة في حالة المصالح التي شهد الشرع لبطلانها، فمثلا لا يجوز القول بمساواة البنت بالولد في الميراث قولا من القائل أن المصلحة تستلزم ذلك للتساوي في القرابة والمشاركة في أعباء الحياة فتلك مصلحة شهد الشرع لبطلانها (1) ؛ إعمالا لقوله سبحانه {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} (2) (النساء: من الآية 11) فللنص حكمة تكمن في أن الرجل قوام على المرأة، وهو المسئول عن الإنفاق
__________
(1) د. حسين حامد حسان، نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، الرسالة السابقة، ص 16.
(2) سورة النساء الآية 11(34/183)
عليها، دون أن تكون المرأة مسئولة عن ذلك مطلقا، فهي مستقلة في ذمتها المالية، ولا تلزم كما في الغرب بدفع الدوطة أو البائنة، وهذا دليل على تقدم التشريع الإسلامي الذي احتفظ للمرأة بذمتها المالية المستقلة بعد الزواج.
كذلك فإن إدراك الحكمة في التشريعات يفيد في الترجيح بين المصالح؛ ذلك أن المصلحة من حيث قوتها تنقسم إلى مصلحة ضرورية، وأخرى تحسينية، وثالثة حاجية. فأما المصلحة الضرورية فهي " ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الآخرة فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين " (1) .، وتكمن هذه المصالح أو المقاصد الضرورية في أمور خمسة هي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل. وأما المصالح الحاجية فهي " ما افتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع، دخل على المكلفين. . . الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة ". ومثالها الرخص في العبادات، والإباحات في المعاملات، والقسامة وضرب الدية على العاقلة في الجنايات. وأما المصالح التحسينية فهي " الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق " (2) ومثالها الطهارات في العبادات، ورعاية الآداب في العادات، ومنع بيع النجاسات في المعاملات، ومنع قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد بالنسبة للجنايات. فلا شك أن حكمة التشريعات الإسلامية
__________
(1) الموافقات، للشاطبي، المطبعة التجارية الكبرى، مصر، ط 1، ج 2، ص 8.
(2) الموافقات، المصدر السابق، ج 2، ص 11.(34/184)
هي التي تقتضي الترجيح بين المصالح عند تعارضها عندما تكون الواقعة مناطا لمصلحتين، حيث تقدم المصلحة الضرورية على المصلحة الحاجية، وتقدم المصلحة الحاجية على المصلحة التحسينية، كما ترتب المصالح الضرورية باعتبار الأولى في التقديم، فتقدم مصلحة الدين على النفس، وتقدم مصلحة النفس على العقل، وتقدم مصلحة العقل على النسل، وتقدم مصلحة النسل على المال. كما يراعى أن المصلحة الحاجية تكمل المصلحة الضرورية، والتحسينية تكمل الحاجية " فإذا أدى اعتبار المكمل إلى فوات المكمل سقط اعتباره " (1) . وهكذا فإن إدراك الحكمة في التشريعات يساعد على ضبط فكرة المصلحة، على نحو يحول دون الشطط في التخريج، أو الافتيات على الأصول الشرعية، بقالة مواكبة الحياة العصرية أو ما إلى ذلك من واهي التعلات، مما ينم عن جهل وحماقة أعداء الإسلام عندما يحاربونه من داخله ويستشهدون لمسالكهم بالنصوص التي تشهد عليهم لا لهم، عند الوقوف على الحكمة منها، والمصالح المبتغاة من ورائها.
__________
(1) نظرية المصلحة، الرسالة السابقة، ص 33.(34/185)
خامسا: معرفة الحكمة تقتضي الأخذ بأسباب العلم:
وتجدر الإشارة إلى أن العلم بالحكمة في التشريعات الإسلامية، لا يتأتى للكافة، بل هو وقف على مجتهدي علماء الشريعة الغراء (1) .، ومن درسوا العلوم من منطلقات الإسلام، ولذا فإن الحكمة هي روح نصوص الشريعة، لا يقف على سرها إلا من هداه الله إليها، ولا يهتدي بها إلا من هيأه الله لفهم هديها.
__________
(1) د. محمد بن أحمد الصالح، البحث السابق، ص 59 وص 66.(34/185)
يقول أبو حامد الغزالي ". . . . العلوم ما عددناها وما لم نعدها، ليست أوائلها خارجة عن القرآن، فإن جميعها مغترفة من بحر واحد من بحار معرفة الله تعالى وهو بحر الأفعال، وقد ذكرنا أنه بحر لا ساحل له، وأن البحر لو كان مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد، فمن أفعال الله تعالى وهو بحر الأفعال مثلا الشفاء والمرض كما قال الله تعالى حكاية عن إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (1) (الشعراء: 80) وهذا الفعل الواحد لا يعرفه إلا من عرف الطب بكماله. . . . ومن أفعاله تقدير معرفة الشمس والقمر ومنازلهما بحسبان، وقد قال الله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (2) (الرحمن: الآية 5) وقال: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (3) (يونس من الآية 5) وقال: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (4) (يس: الآية 38) ولا يعرف حقيقة سير الشمس والقمر بحسبان، وخسوفهما، وولوج الليل في النهار، وكيفية تكور أحدهما على الآخر، إلا من عرف هيئات تركيب السماوات والأرض، وهو علم برأسه، ولا يعرف كمال معنى قوله: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} (5) {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} (6) {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (7) (الانفطار 6 -8) إلا من عرف تشريح الأعضاء من الإنسان ظاهرا وباطنا وعددها وأنواعها وحكمتها ومنافعها. . . . وفي القرآن مجامع علم الأولين والآخرين، وكذلك لا يعرف كمال معنى قوله: {سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} (8) (ص: من الآية 72) ما لم يعلم التسوية والنفخ والروح، ووراءها علوم غامضة يغفل عن طلبها أكثر الخلق وربما لا يفهمونها إن سمعوها من العالم بها ".
معنى ذلك أن الإسلام يدعونا لا إلى العلم فحسب، بل إلى التبصر والوقوف على أسرار العلم، ودقائقها، وبالجملة فهم حكمتها، وأهم حكمة يتعين الوقوف أمامها هي حكمة التشريعات الإسلامية، بحسبانها مجامع العلوم
__________
(1) سورة الشعراء الآية 80
(2) سورة الرحمن الآية 5
(3) سورة يونس الآية 5
(4) سورة يس الآية 38
(5) سورة الانفطار الآية 6
(6) سورة الانفطار الآية 7
(7) سورة الانفطار الآية 8
(8) سورة ص الآية 72(34/186)
الدينية التي تحتاج في تدبرها " فطنة وقادة وقريحة منقادة وذكاء بليغا وفهما صافيا "، على نحو ييسر جعل العلم بها سمة شائعة في الأمة بأسرها، فلا تأخذ من علوم غيرها ما يتنافى معها (1) .، فهذا هو مقتضى العقل الذي يستلزم معرفة الصواب وسلوك سبيله، ومعرفة الخطأ واجتناب دروبه (2) .، كما أن العلم بحكمة التشريع هو رسالة إسلامية تيسر نجاح الدعوة إلى الله (3) .، وتيسر بالدليل العقلي صدق هذه الدعوة (4) .
__________
(1) د. عمر فروخ، تجديد في المسلمين لا في الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت 1401 هـ، ص 14، 15.
(2) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للإمام الحافظ أبي حاتم محمد بن حبان البستي 1397هـ بيروت، ص 16.
(3) انظر د. عبد الله شحاته، الدعوة الإسلامية والإعلام الديني، مصر 1978، ص 5- 7.
(4) أبو بكر جابر الجزائري، منهاج المسلم، مكتبة الدعوة الإسلامية، ط 2، ص 32.(34/187)
1 - حكمة التشريع الإسلامي وحاجة الناس إلى الدين:
حاجة الناس إلى التدين هي حاجة ضرورية، فلا قوام لحياة الناس بدون هذه الحاجة، لأنها نداء الفطرة السليمة، ومبعث السعادة والطمأنينة، ومناط الأمل في رضا الله وثوابه (1) ، ويمكن القول، استهداء بحكمة التشريع الإسلامي بصدد حاجة الناس إلى الدين، القول: إن الدين التفصيلات. ينقذ البشرية من هول الضياع والضلال الناجمين عن اتخاذ ما يعرف بالأديان الوضعية، ويسمو بالبشرية من مرحلة الشك الظني إلى مرتبة الإيمان اليقيني، ويرجع البشرية صوب المدنية العاقلة، ويجلي لنا الحكمة من خلقنا ويستجيب لخواص الإنسان السامي في إنسانيته، ويجسد الحقيقة الإيمانية للناس فيرونها كاملة فتطمئن
__________
(1) قرب د. حسين حامد حسان، الرسالة السابقة، ص 24.(34/187)
نفوسهم وتستقر أفئدتهم، كما أن الدين هو التجسيد الحي لقيمة العقل البشري، وهو الملاذ الأخير للإنسان عندما تعصف به مشكلات الحياة، وذلك على تفصيل ليس هذا مجاله الآن، فحسبنا من الفكرة أسسها العامة التي تبين مدى الحكمة الإلهية من إنزال الشرائع الدينية.(34/188)
2 - حكمة التشريع الإسلامي والدعوة الإسلامية:
والحق أن الدعوة الإسلامية في حاجة إلى دراسات محايدة من منظور المخاطبين بها أي من توجه إليهم هذه الدعوة، ويكون الحياد العلمي أكثر ضرورة، عندما تتحول لغة الدعوة من لغة عربية إلى لغة أخرى تترجم عنها، لأنها عندئذ لن تعتمد على الإطار والمؤثر المحلي المحسوس، بل تتشح بوشاح المنطق الذي يواكب الفكر العالمي المعاصر. ووضوح حكمة التشريع الإسلامي يقتضي قيام الدعاة بتقنين استعمال الإطار اللغوي، ليكون منطبق الدلالة على المفهوم الفكري، دون مجازات لفظية، أو محسنات بديعية لغوية، مع استعراض الأفكار على أساس ترابط السياق في المعنى، حتى تتأكد الفكرة المحورية التي يريد الداعية بثها لمن سواه.، من خلال جوهر الإسلام كدين للبحث عن الحياة الأرقى والأخلد، ووفق منهج يتسم بالبساطة، وفي ضوء كتاب موثق توثيقا يقينيا، ويتفق في كل ما ورد فيه مع حقائق الكون المادية دون أن يتعارض مع العقول، بل يتفق معها ويستوعب كل قضايا الحياة دائما (1) .؛ لأنه دين منهج الوسطية الذي يوازن بين واقع المادية وجوهر الطاقة الروحية.
وحكمة التشريع الإسلامي، إذا تجلت في دعوة الداعية، فإنها ستكون
__________
(1) الشيخ محمد متولي الشعراوي، هذا هو الإسلام، ط 1، ج 1، ص 25 وما بعدها.(34/188)
مصداقا لحقيقة أن الدعوة الإسلامية منزهة عن الغرض، ومبرأة من الهوى، تسمو على المصالح الخاصة، وتستغرق الغايات المؤقتة، لأن بدايتها تسليم لله، وإذعان للخالق، وخضوع لمدبر الكون وحده، وإفراده بالعبادة المشروعة نزولا على مقتضى الفطرة، وبذا يتحقق من خلال الدعوة أحد مفاهيمها بحسبانها، نداء الأفراد والجماعات، إلى عبادة الله الواحد الأحد، والتخلق بالفضائل، ونبذ الرذائل وتطبيق ما شرعه الله للناس من تعاليم وشرائع وأحكام (1) .، وبذا يتحقق التجديد الحقيقي للدين برفع ما علق به من بدع على نحو ما جاهد من أجله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.، كما يتحقق معنى النشر ومعنى الدين في الدعوة، فكل منهما يقتضي بيان حكمة التشريع، فالثابت أن الدعوة قد تكون بمعنى النشر وعندئذ ينصرف مفهومها إلى العلم الذي تعرف به كافة المحاولات المتعددة الرامية إلى تبليغ الناس الإسلام بما حوى ليس من أخلاق وعقيدة فقط، بل بما انطوى عليه من شريعة أيضا (2) .، كما أن الثابت أن الدعوة كدين، هي الخضوع لله والانقياد لتعاليمه، بلا قيد ولا شرط، ولما كان الانقياد لله دليلا على الخضوع له، لذا لزم الاختيار الحر في هذا الانقياد ليتحقق الخضوع التام (3) . .
والدعوة إلى الله، بهذه المثابة، هي جزء من التكاليف في منهاج الله، ولذا يجب أن يصدر الداعية عن منهاج الله في الدعوة والعمل. وبيان الحكمة في التشريعات يثبت العقيدة، وعلى ذلك فلا يجوز أن يقف الداعية عند حد تصوراته البشرية، ومناهجها في ميدان الحركة (4) ؛ ذلك أن الدعوة الإسلامية
__________
(1) آدم عبد الله الألوري، تاريخ الدعوة الإسلامية، من الأمس إلى اليوم، بيروت، دار مكتبة الحياة، ص 19.
(2) د. أحمد أحمد غلوش، الدعوة الإسلامية، أصولها ووسائلها، دار الكتاب المصري ودار الكتاب اللبناني، ص10.
(3) المرجع السابق، ص 12.
(4) عدنان النحوي، دور المنهاج الرباني في الدعوة الإسلامية، ط 1 (1399هـ) ، ص 55.(34/189)
هي سبيل المسلمين الذي لا سبيل سواه لعمارة هذه الأرض، بواسطة جهود الإنسان المؤمن الذي يسلم وجهه لله وهو محسن، ولقد أخذت حركة البناء والعمل هذه شوطا بعيدا في الدراسة والتوصيف والتخطيط والإعداد (1) .، ولا شك أن الدعوة الإسلامية ستبقى مدى الدهر أساسا للهداية، وجوهرا لمقتضى التدين، ولذا فإن بقاءها يستند إلى أمرين هما: أنها تنبع من عند الله رب العالمين- وكونها تبعا لذلك تواكب التطور في كل زمان ومكان (2) ، ولا شك أن إدراك الحكمة في التشريعات الإسلامية يؤكد ذلك. ويجعل المستقبل لنا لا علينا، وأن حكمنا الذي انهار في بعض الدول سيقوم مرة أخرى عزيزا شامخا، بإذن الله وأن المد الشيوعي والصليبي والصهيوني ستتبدد قواه، ويعقبه جزر عميق، نعم فللإسلام جولة أخرى، بدأت تتضح معالمها في ظل أعنف الهجمات ضد المسلمين. ولا جرم أن الاقتداء بصاحب الدعوة يمكن أن يبين أن انتصار الشريعة حتمي، وأن حكمة التشريع الإسلامي، ستساعد لا محالة على جعل الدعوة الإسلامية ذات جوهر مرتبط بجوهر الإنسان ذاته كمتطلع للحق الذي لا وجود له بمنأى عنه.
__________
(1) د. رءوف شلبي، الدعوة الإسلامية في عهدها المكي، مناهجها وغاياتها 1394هـ، ص 169.
(2) محمد الراوي، الدعوة الإسلامية دعوة عالمية، الدار القومية ... ص 11.(34/190)
المطلب الثاني:
حكمة التشريع الإسلامي في تشريع أصول العبادات وأركان الإسلام:
ولما كان الدين يحتل. تلك المكانة في نفوس البشر، فقد شرع الله سبحانه وتعالى أصول العبادات، كأركان الإسلام: النطق بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج والإيمان والإحسان من أجل تحقيق حكمة جلية، يستجيب لها فؤاد الإنسان، وتتمثل هذه الحكمة في حفظ " الدين من جانب الوجود، أي لإقامة أركانه، وتثبيت قواعده، حتى يكون هناك تدين في الواقع " (1) .، فالله سبحانه وتعالى فطر النفوس على التدين، ويستحيل أن يتركها بلا دين يهديها أو يستمر به هداها، وتلك حكمة بالغة، يجب أن يظهرها العلماء للناس كافة، بحسبانهم " أمناء الشرع ونور سراجه، ومصابيح علومه وحفاظ سياجه " (2) .
ومن أجل ذلك كانت حكمة إنزال الكتاب، التي تتمثل في إخراج الناس من الظلمات إلى النور وهدايتهم للتي هي أقوم، وتبيان كل شيء لهم حتى لا يقعوا فريسة الضلال. قال تعالى {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (3) . وقال سبحانه {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} (4) . وقال جل شأنه {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (5) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما، كتاب الله وسنة رسوله (6) » . ويرتبط بحكمة تشريع أصول
__________
(1) د. حسين حامد حسان، الرسالة السابقة، ص24.
(2) تهذيب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين للإمام الغزالي للشيخ محمد جمال الدين القاسمي، ج 1، ص 7.
(3) سورة إبراهيم الآية 1
(4) سورة الإسراء الآية 9
(5) سورة النحل الآية 89
(6) رواه الإمام مالك في الموطأ.(34/191)
العبادات ما يقوم عليه الإسلام من وسطية وتوازن بين كافة العلاقات؛ فالمادة لا تطغى على الروح كما في اليهودية، ولا الجانب الروحي يطغى على الجانب المادي كما في النصرانية، ولا انتصار للفرد على حساب المجتمع كما في الأنظمة الرأسمالية، ولا تسييد للمجتمع على حساب الفرد كما في الأنظمة الشيوعية (1) ، بل وسطية إلهية معجزة.
ولما كانت حكمة التشريع الإسلامي من شرع العبادات لا تخاطب الوجدان بل تخاطب العقل قبل ذلك، لذلك كان إيمان كبار المفكرين في العالم وإسلامهم، ثم دفاعهم عنه بالحق شهادة على سمو الإسلام، وأبديته، يقول رجاء جارودي "الإسلام كقوة حية ليس كامنا فقط في ماضيه، إنما فيما يمكن أن يقدمه لصنع المستقبل، فهو دين وأمة، إيمان ونظام حياة متكاملان، وهو النظرة إلى الله تعالى والعالم والإنسان "، وهذه النظرة إلى الله هي نظرية عبودية حقة قوامها التوحيد: توحيد الإلهية، وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، أما النظرة إلى العالم فهي نظرة التفكر والتدبر، وأما النظرة إلى الإنسان فهي نظرة الأخوة الكاملة في ظل شرع الله الحكيم ودينه المتين، ويستلزم ذلك الإشارة إلى بعض حكم التشريع الإسلامي، المتعلقة بأركان الإسلام.
أولا: الشهادتان:
وقبل الحديث عن بعض حكم الصلاة والزكاة والصيام والحج، فإنه قد يكون من الضروري الإشارة في البداية بكلمة عن حكمة التوحيد المنبثق من
__________
(1) د. عبد الفتاح محمد النجار، المقال السابق، ص 113.(34/192)
أول أركان الإسلام وهو شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهذه الحكمة تتجلى في عبارة واحدة هي أن تحرر الإنسان منوط بتوحيد الديان، وبيان ذلك أن العقيدة هي " لب الدين وأصل الشريعة" (1) وقد أتت الرسل بالتوحيد لإبعاد الناس عن عبادة الطاغوت (2) ، وتهيئة نفوسهم وعقولهم لتقبل الحقيقة الأبدية وهي الوحدانية (3) التي ما أتى رسول إلا ليدعو إليها (4) . من خلال شهادة أن لا إله إلا الله واقترنت في رسالة خاتم المرسلين بأن محمدا رسول الله، وبالنطق بالشهادتين لا يعبد الإنسان إلا خالقا واحدا ولا يكون عبدا إلا للخلاق العليم، ومن عبد الله لم يعبد أبدا من سواه من مخلوقات، فالله سبحانه وتعالى خالق كل شيء وما سواه مخلوق، وإذا كان كل مخلوق يعبد الخلاق فإنه يستحيل على مخلوق يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله أن يركع لغير الله أو يعبد غير الله أو يوحد غير الله، وعندئذ تتحقق الحرية الكاملة لكل البشر، فالكل عباد الله وفيما عدا ذلك تشيع بينهم قاعدة المساواة فلا تفاضل إلا بالتقوى.
__________
(1) الشيخ مناع بن خليل القطان في تقديم فضيلته للكتاب لنا بعنوان قل هو الله أحد، ص 1.
(2) سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه، ط 5 (1409هـ) ، ص 7.
(3) الإمام البيهقي، الاعتقاد، (نشر حديث أكاديمي) باكستان، ص 6.
(4) انظر مؤلفات شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، القسم الأول، العقيدة والآداب الإسلامية، ص 9.(34/193)
ثانيا: حكم الصلاة:
للصلاة حكم نفسية وأخرى خلقية واجتماعية (1) ، ففيما يتعلق بالجانب النفسي، فإن الصلاة مناجاة تشعر المرء بقرب الله، فتتيقظ قواه الروحية، وتقوى عزيمته، وتشتد إرادته، كما أن الصلاة بهذه المثابة تنتزع النفس من ماديات الحياة وآلامها، فيتوجه الإنسان إلى الله خاضعا لكبريائه، فتصفو النفس
__________
(1) الشيخ السيد سابق، إسلامنا، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 116 - 119.(34/193)
وتخلد إلى السكينة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبلال رضي الله عنه " «أقم الصلاة أرحنا بها (1) » . ويقول «وجعل قرة عيني في الصلاة (2) » ، وفيما يتعلق بالحكم الخلقية للصلاة، فإن الصلاة وسيلة التطهر. قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} (3) {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (4) . والصلاة مبعث الضمير الحي، قال تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (5) ، والصلاة تحول دون الهلع والجزع. قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} (6) {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} (7) {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (8) {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} (9) {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (10) . ومن الحكم الاجتماعية للصلاة، أنها تخلق من المسلم خلية حية تنتج للمجتمع، وهي تهيئ سبيل الاجتماع بين المصلين، فتقوي الروابط الاجتماعية، وتنمو المساواة الحقيقية، وتنتفي فوارق اللون والثراء والدم بين الناس، طالما كان المؤمن مقبلا على صلاته بوعي ويقظة وخشوع قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (11) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (12) . كذلك تتجلى الحكمة في ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، في أن الأسباب التي كانت تستلزم إرسال الأنبياء قد زالت بمجيء نبي الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم، فالقرآن الكريم محفوظ بحول الله وقدرته ولن يمسه تحريف أو نسيان أو تغيير مثلما حدث للكتب السابقة. والهداية الإسلامية باقية حية مصونة وستبقى إلى أبد الدهر، ولم تتوقف بسبب النسيان والتحريف الذي حدث للأديان السابقة، كذلك فإن الله تعالى قد أكمل دينه بواسطة محمد صلى الله عليه وسلم، وليس بعد الكمال المطلق من كمال آخر، وليس الكامل في حاجة إلى ما يؤيده أو يعضده، لذا
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه.
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه.
(3) سورة الأعلى الآية 14
(4) سورة الأعلى الآية 15
(5) سورة العنكبوت الآية 45
(6) سورة المعارج الآية 19
(7) سورة المعارج الآية 20
(8) سورة المعارج الآية 21
(9) سورة المعارج الآية 22
(10) سورة المعارج الآية 23
(11) سورة المؤمنون الآية 1
(12) سورة المؤمنون الآية 2(34/194)
" كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة للنبوات، لأنه بعث للناس كافة إلى أن تقوم الساعة. . . . وإذا كانت رسالته عامة لكل الناس، فلا بد أن تكون شريعته كاملة شاملة لمصالح البشر، لا يحتاج معها إلي شريعة أخرى وبعثة نبي آخر" كما قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) (المائدة: من الآية 3) .
وارتباط الخشوع بشكر المنعم كمظهر آخر من مظاهر حكم الصلاة يقتضيه ما يحققه إقام الصلاة من عبادة مثلى لله، والعبادة هي الحكمة من خلق الجن والإنس، فهم بالصلاة يستجيبون لشكر الله {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} (2) ، وللمسلمين في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة في الشكر، ففي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أنه قال: «قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه. فقيل له غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، قال: أفلا أكون عبدا شكورا (3) » وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا (4) » .
الصلاة إذن شكر للمنان واعتراف بفضل الديان وانقياد واستسلام لإرادة الواحد الأحد، انقياد قوامه التصديق واستسلام أساسه الإيمان العميق، نأيا عن الشرك واقترابا من لوازم التوحيد مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم «بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة (5) » . فعند ما تشرق أنوار هداية الله، تستجيب الفطرة،
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة النمل الآية 40
(3) صحيح البخاري تفسير القرآن (4836) ، صحيح مسلم صفة القيامة والجنة والنار (2819) ، سنن الترمذي الصلاة (412) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1644) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1419) ، مسند أحمد بن حنبل (4/251) .
(4) رواه البخاري ومسلم كذلك في صحيحيهما.
(5) رواه مسلم في صحيحه: بكتاب الإيمان. باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة.(34/195)
ويستقيم العقل ويتفكر المسلم في ملكوت السماوات والأرض، ويعي مقدار نعم الله على عباده.، بإيمان راسخ ويقبل الإنسان على "ربه وجلا خاضعا خاشعا مسكينا ذليلا ضارعا ". وعندئذ تتحقق أعظم حكم الصلاة، فيمن يقيمون الصلاة. فالخاشع. المقيم للصلاة يستجيب لفطرة الله، فلا يعبد إلا إياه، فإن كان أبوا الإنسان قد خرجا به عن فطرة التوحيد، فعليه أن يتدبر حكم الصلاة، التي لا يسجد فيها إلا لله وأنه لا يسجد لبشر أو مخلوق أيا كان، ولا ينحني مجرد الانحناء لأي إنسان، بل يسجد لله الذي خلقه من العدم، وأفاء عليه من صور الكمال ما يعجز الإنسان عن وصفه، سمعا وبصرا وحسا وفؤادا وعقلا وجسدا وتكفل بالرزق والأمن، عندئذ سيعرف أنه لا سبيل له سوى سبيل الله ويقيم له الصلاة في خشوع يتفق مع مقدار نعم الله. فلا تكون صلاته مجرد حركات خالية من المضمون العقدي.
وفي ربط هذه النعم بحكم الصلاة يقول، بعض الفقهاء "من منا يستطيع أن يسير جسده وحده بدون فضل الله. قلبك الذي لا تملك منه شيئا لا يزال يدق ويدق السنوات الطوال، فهل تملك من دقاته واحدة. وتنفسك في قدرتك شيء من التحكم فيه، لكنها قدرة لا تلبث أن تسهو وتكل وتسلمه إلى صاحب النعمة العظمى، فتنام وتستيقظ وصدرك يعلو تارة وينخفض أخرى برتابة محكمة ونظام دقيق. بصرك نعمة كبرى وصيانته والمحافظة عليه نعمة أكبر، غدد تدمع، وأجفان تمسح، ورموش تدفع. وسمعك كذلك نعمة تحتاج إلى حارس من عدو يقتحم فيتلف، فكان الخلق المحكم، وما تفرزه الأذن من مادة(34/196)
صمغية طاردة للعدو نعمة أخرى ما تزال تتجدد. ولسانك الذي في فيك قطعة من اللحم لينة لا يعتريها اهتراء، وقوية لا تؤذي، تلوك الطعام يمنة ويسرة، وتخرج الحروف حرفا حرفا، هو نعمة كبرى ومع ليونته ورقته لا يبلى فهو نعمة متجددة" لذا كانت "الصلاة شكرا لله واعترافا بفضله وانقيادا لحكمه واستسلاما لإرادته وتوحيدا لألوهيته (1) وربوبيته وتصديقا لوعده وإيمانا بقدرته. . . تلكم هي حكمة الصلاة العظمى"
وهكذا تتجلى للمؤمن بعض مظاهر حكمة الصلاة، في شتى المجالات، لا سيما ما تعلق منها بنفس الإنسان وأخلاق العبد، وضمير الجماعة، ولكن حكم الصلاة لا تقف عند حد الهدي النفسي والخلقي والاجتماعي، وإنما تتسع لتشمل كل حكم الدين، لأنها كما يقول الإمام أحمد رحمه الله "أول فريضة فرضت، وهي آخر ما أوصى به صلى الله عليه وسلم أمته، وآخر ما يذهب من الإسلام. وهي أول ما يسأل عنه العبد من عمله يوم القيامة وهي عمود الإسلام. وليس بعد ذهابها دين ولا إسلام ". لذا فإنها تحتاج إلى مطلق الخشوع (2) . وهو أعظم ما يكون في صلاة الجماعة التي من فوائدها "التعارف والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه. . . وإغاظة أهل النفاق. . . وإظهار شعار الله بين عباده، والدعوة إليه سبحانه بالقول والعمل " (3) وبذا تتجلى حكمة الصلاة في اطمئنان الإنسان إلى أنه أدى أمانة الله بصدق وإخلاص، اعترافا بحق الخلاق العليم، وتأكيدا لشكر المنعم الكريم، وإفصاحا "عما ينطوي عليه القلب من محبة لله وتقدير" (4) .
__________
(1) د. فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي، الصلاة، المرجع السابق، ص 52، 53.
(2) شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، آداب المشي إلى الصلاة، ضمن المرجع السابق، ص 81، 87.
(3) سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ثلاث رسائل في الصلاة - 2- ضمن المرجع السابق، ص 133.
(4) الشيخ عبد الرءوف الحناوي، لماذا أصلي، ضمن المرجع السابق، ص 181.(34/197)
وانطلاقا من تلك الحكم يكون الخشوع في الصلاة علامة الفلاح {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2) ، وتكون المحافظة عليها من عوامل الاستقامة والصلاح {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (3) ، وإقامتها من أسباب الرحمة {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (4) . وزيادة الفضل للمصلين {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} (5) باعتبار أنها يسيرة بالنسبة للخاشعين دون سواهم {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (6) ومكفرة للسيئات ومدخلة الجنات {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} (7) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 1
(2) سورة المؤمنون الآية 2
(3) سورة العنكبوت الآية 45
(4) سورة النور الآية 56
(5) سورة فاطر الآية 30
(6) سورة البقرة الآية 45
(7) سورة المائدة الآية 12(34/198)
ثالثا: حكمة تشريع الزكاة:
شرعت الزكاة فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركان الدين؛ لتحقيق حكم كثيرة نفسية وخلقية واجتماعية (1) ، ففيما يتعلق بالحكم النفسية للزكاة، فإنها تتجلى من كون الزكاة بذلا وجودا، ولذا فهي تريح المعطي، وتسر المتلقي وقد «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال فقال: إدخال السرور على المؤمن. قيل: وما إدخال السرور على المؤمن؟ قال: سد جوعته، وفك كربته، وقضاء دينه» . وفيما يتعلق بأثر الزكاة في الأخلاق، فإنها تخلص الإنسان من البخل، وتنقذه من الشح، وتجعله يغالب النفس فيتطهر ويتزكى. وقد قال سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) . وبالزكاة تنقاد
__________
(1) الشيخ: السيد سابق: إسلامنا، دار الكتاب العربي، بيروت، ص 120- 122.
(2) سورة التوبة الآية 103(34/198)
النفس لحكم العقل وتخضع لأوامر الله تعالى. ومن أسرار الزكاة الاجتماعية، أنها وسيلة المحافظة على العجزة والضعفاء، واجتثاث شأفة العداوة والبغضاء من نفوسهم، عن طريق البذل من الأمانة التي في يد الأغنياء، فتقوى الصلات الاجتماعية، وينمو التعاون، ويحدث التوازن بين المسلمين في المجتمع؛ امتثالا لأمره تعالى في قوله جل شأنه: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (1) .
ففيما يتعلق بزكاة الفطر، فقد روى الجماعة «عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان، صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى، من المسلمين (2) » ، وهي فريضة إسلامية، فتجب على كل مسلم. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنها فرض ".
وزكاة الفطر تجد حكمتها، فيما قاله ابن عباس: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين. . . (3) » ، فالصائم قد يشوب صيامه لغو قول غير مقصود، أو رفث كلام يسيء إلى أي كائن حي أو ميت في هذا الوجود. فلا يكتمل صيامه، لأن الصيام الكامل
__________
(1) سورة الحديد الآية 7
(2) انظر نيل الأوطار للشوكاني، ج 4 (ط 1 العثمانية) ، ص 179.
(3) رواه كل من أبي داود وابن ماجه في باب زكاة الفطر، ورواه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين، ج 1، ط 1، حيدر أباد، ص 409. وقال: صحيح على شرط البخاري.(34/199)
هو الذي يصوم فيه اللسان مثلما تصوم كافة الجوارح عن السيئات والفرج والبطن عن الشهوات، فتكون صدقة الفطر، التي هي امتثال في الأصل لأمر شرع الله، قد أدت غرضا إسلاميا وقصدا دينيا، هو تأكيد الامتثال بأداء ما يجبر هذا النقص ويطهر الصائم من لغوه ورفثه، ودفعه بعد ذلك إلى أن يكبح جماح لسانه فلا يتكلم إلا في خير ومعروف، ويسيطر على أذنيه فلا يدعهما تستمرئان سماع المنكر أيا كان مصدره وأيا كانت طبيعته، ويتحكم في عينيه فلا ينظر بهما إلى ما حرم الله، ويجعل فؤاده محكوما بإرادته. {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1) ولا يكون ممن {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (2) .
والصائم عند ما يزكي فإنه يشيع المحبة والمسرة في نفوس أهل الحاجة، الذين تكفل الله تعالى برزقهم، ومن رزقهم عطاء الموسرين في أحد عيدي المسلمين "فاقتضت حكمة الشارع أن يفرض له (أي لذي الحاجة أو المسكين) في هذا اليوم ما يغنيه عن الحاجة. ويشعره بأن المجتمع لم يهمل أمره، ولم ينسه في أيام سروره وبهجته " (3) ، ولذا فإنه إذا كان مخرجها يقول "عند دفعها اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما" فإن آخذها يدعو له دعوة تجلي حكمة أخرى من حكمها قائلا "آجرك الله فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهورا" (4) ؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} (5) .
__________
(1) سورة الإسراء الآية 36
(2) سورة البقرة الآية 7
(3) د. يوسف القرضاوي، فقه الزكاة، ج 2، التسهيل لعلوم التنزيل، ص 922، 933.
(4) منار السبيل، المرجع السابق، ص 205.
(5) سورة التوبة الآية 103(34/200)
وفيما يتعلق بزكاة المال، فإن تعميق حكمتها المشار إليها بما يتسع له المقام، إنما هو أمر يقتضيه تثبيت عقيدة المؤمن على نحو يحول دون تزلزلها أو اهتزازها أمام دعوات الهدم ومحاولات الافتراء على شرع الله، وبالجملة فإنه إذا "كان بيان الحكمة من التشريع أمرا محمودا على كل حال فهو في عصرنا أمر لازم؛ لغلبة الأفكار المفسدة، والتيارات المضللة والوافدة من الشرق والغرب " (1) .
وكل ذلك في ضوء الحقيقة الإيمانية القائلة إن المؤمن إذا كان في مسائل معاملاته يحتاج إلى الالتفات إلى الحكم والمعاني (2) ، فإن أمور العبادات ومنها الزكاة، تحتاج إلى تصديق كامل دون بحث عن معنى أو علة أو حكمة فهذا هو مقتضى عقيدة التوحيد.
ومع ذلك فإن أعداء الإسلام يقولون إن الزكاة تنقص مال المسلم وهذا خطأ لأسباب أهمها: أولا: أن تكاليف الله تعالى تزيد المؤمن ولا تنقصه وفي الزكاة ربط على قلوب المسلمين، ومنع لهم من أن تلهيهم أموال الله التي آتاهم، فإن الذي أعطى ابتداء قد أعطى عن غنى ولذا فإن عدله ورحمته لا تقبل الانتقاص مما أعطى، فالزكاة تثمر وتنمي (3) . وبها يطهر المال ويزداد (4) .
وثانيا: إن الله تعالى لم يفرض الزكاة بقوله تعالى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (5) وقد فرضها على مالك (ملكا إضافيا فالمال مال الله) ملكا تاما لمال نام أو قابل للنماء، وأن يبلغ المال نصابا محددا، فلا زكاة عن الأنعام أو الذهب والفضة أو مال التجارة أو الزروع والثمار أو العسل ومثله أو كسب العمل أو الأسهم والسندات أو غير ذلك إلا إذا بلغ المال نصابا معينا، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «ما
__________
(1) د. يوسف القرضاوي، فقه الزكاة، ط 4 (1400هـ) ، ج 1، ص 21.
(2) الموافقات للشاطبي، مرجع سابق، ص 30.
(3) ابن قدامة المغني، مكتبة الرياض الحديثة، ج 2 (صححه الشيخان محيسن وإسماعيل) ، ص 572.
(4) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج 25، ص 8.
(5) سورة البقرة الآية 110(34/201)
نقص مال من صدقة (1) » ، ولم يكتف الإسلام بذلك بل اشترط أن يفضل المال عن الحاجة الأصلية للمتصدق ومن يعول وأن يكون المال سالما من الدين المستغرق له أو المنقص للنصاب، وأن يحول عليه الحول وذلك على تفصيل ومع توافر شروط أخرى لبعض الأموال، فليست كل هذه القيود مما تنقص من المال الذي لن يبلغ مقدار الزكاة فيه إلا حدا محددا يذهب بكل أقاويل أعداء الإسلام، فإن المزكي "يعطي من فضل ماله قليلا من كثير"، أي أن الإنسان لا يزكي إلا بجزء منها فاض عن حاجته الأصلية، وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما كلمة العفو في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (2) بقوله "العفو ما يفضل عن أهلك " (3) قد روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إنما الصدقة عن فضل غنى (4) » وفي رواية «لا صدقة إلا عن ظهر غنى (5) » ومعنى ذلك أن الله تعالى "جلت حكمته جعل وعاء الإنفاق ما زاد عن الكفاف وما فضل عن الحاجة. . . . فلم يطالبه الشرع بالإنفاق مما يحتاج إليه، لتعلق قلبه به، لمسيس حاجته إليه، لتطيب نفسه بإنفاقه " (6) .
وهكذا فإن حكمة الزكاة في الإسلام تتمثل في كل ما تقدم، وفي أنها تطهير
__________
(1) رواه الترمذي من حديث أبي البشر الأنماري. وقال: حسن صحيح.
(2) سورة البقرة الآية 219
(3) تفسير القرآن العظيم لابن كثير، مرجع سابق، ط عبس، البابي الحلبي، ج 1، ص 256.
(4) صحيح البخاري الزكاة (1426) ، سنن النسائي الزكاة (2534) ، سنن أبو داود الزكاة (1676) ، مسند أحمد بن حنبل (2/527) ، سنن الدارمي الزكاة (1651) .
(5) صحيح البخاري النفقات (5356) ، سنن النسائي الزكاة (2534) ، سنن أبو داود الزكاة (1676) ، مسند أحمد بن حنبل (2/527) ، سنن الدارمي الزكاة (1651) .
(6) د. يوسف القرضاوي، فقه الزكاة، ص 154، 155.(34/202)
لنفس المسلم من أدران الشح، وتدريب له على حب الإنفاق في سبيل الله والبذل؛ طلبا لمرضاته، بما يعنيه ذلك من صفاء نفس المالك صفاء يجعله يتخلق بأخلاق الإسلام، ويشكر نعمة الملك العلام، فيعالج قلبه من حب الدنيا، فيجلب محبة الآخرين، ويطهر ماله بعد أن طهر نفسه بالزكاة وزكاها، نائيا عن الحرام: فالزكاة لا تطهر مالا حراما، وإنما تنمي المال الحلال وحده. كذلك فإن الزكاة تحرر نفس المحتاج من ذل الحاجة، وتنأى به عن مجرد حسد النعمة التي فضل الله بها غيره أو حتى مجرد الإحساس ببغضه، وكيف يبغض محتاج من أعطاه مفاتيح التضامن الاجتماعي والتكافل الإنساني انطلاقا من شرع رباني جعل الزكاة شرعا ملزما منظما لا يعتمد على مجرد التطوع، بل ترتكز على دعم الأسس الروحية للمجتمع وهي أسس تهدف إلى الارتفاع بالفقراء ليقتربوا من مكان الأغنياء، فتحارب تسولهم، وتربيهم على العمل المنتج حتى يكونوا معطين لا متلقين، وبذا تتحقق الأخوة الإسلامية الحقة من خلال شرع إلهي حكيم جعل شكر نعمة المال أحد المظاهر الأساسية لركن من أركان الإسلام ألا وهو الزكاة.(34/203)
رابعا: حكم الصيام:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) .
معنى ذلك أن الصيام كفرض يهيئ النفوس للخير والبر، ويورث خشية الله، ويوقظ الضمائر، ويقوي الإرادة، ويعود المسلم الصبر والاحتمال " وبقدر ما تقوى الإرادة، يضعف سلطان العادة " حيث يتم هجر كثير من العادات السيئة. هذا من الناحية النفسية. وأما من الناحية الخلقية فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «. . . الصيام جنة (2) » . . . رواه أبو هريرة وأخرجه البخاري ومسلم في الصوم أي أنه يقي المسلم من المنكرات والشرور، ويأخذ النفس بالفضائل، فتزكو وتطهر، فلا تقول زورا، ولا تعمل به. قال صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه (3) » .
ومن حكم الصيام الاجتماعية، أنه مظهر فريد من مظاهر المساواة المطلقة بين الأغنياء والفقراء في الحرمان، كما أنه يفجر ينابيع الرحمة والعطف في النفوس والقلوب، فيولد الفرد المهذب، والمجتمع الفاضل، الذي يسمو بالأمة ويرفعها في سلم المجد.
وتتجلى حكمة الصوم كذلك في أنه مجال لإظهار المسلم إرادته العازمة على الامتثال لأحكام الله، والجازمة على عدم مخالفة شرع ارتضاه، والمصرة على أن تتصل بالله اتصال طاعة وانقياد، وبعد عن كافة ضرورات الجسد طمعا في حسنات الله، وإيثارا لما عنده، ورغبة في تحصيل فوائد الصوم المعنوية
__________
(1) سورة البقرة الآية 183
(2) صحيح البخاري الصوم (1904) ، صحيح مسلم الصيام (1151) ، سنن الترمذي الصوم (764) ، سنن النسائي الصيام (2216) ، سنن أبو داود الصوم (2363) .
(3) رواه البخاري، وأحمد وأبو داود والترمذي كذا في الجامع الصغير، وزاد في الكبير رمز ابن ماجة وابن حبان.(34/204)
والحسية التي قد تظهر وقد لا تظهر، فإن ظهرت كان الاطمئنان لها أداة للاندفاع مع تيار الإيمان، وإن خفيت ظلت النفس واثقة من أن الديان قد أعد للإنسان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فتتهيأ النفس به للكمال الإيماني، وتستجيب معه للهدي الإلهي.
إن من الغايات الكبرى للصيام بلوغ درجة التقوى " فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي، هذه الفريضة طاعة لله وإيثارا لرضاه. والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله " (1) ووزنها في مجالا التكليف، إنها غاية المؤمنين، والصوم هو أهم مدارج الوصول إليها، لذا يتجه المسلمون لتحقيق هذه الغاية وهم معتمدون على ضمائرهم، فلا رقابة لأحد عليهم، وإنما توجد الرقابة في أعماقهم، فتمنعهم عن مخالفة أوامر الله، لأنه ملأ أعماقهم، وصارت مهابته هي الرقيب الوحيد عليهم، ولذا فإن المسلم لا يتكلم بفاحش الكلام، أي لا يرفث، وإذا سبه أحد قال إني صائم، وإذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح أعظم الفرح بصومه الذي كان صادقا في إتيانه، ففي رواية لمسلم «. . . . للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك (2) » ، على ما هو ثابت في الحديث القدسي عن رب العزة والجلال الذي قال: «كل عمل
__________
(1) سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، ج 3، ط 1990م، ص 168.
(2) صحيح البخاري الصوم (1904) ، صحيح مسلم الصيام (1151) ، سنن النسائي الصيام (2215) ، سنن ابن ماجه الصيام (1638) ، مسند أحمد بن حنبل (2/477) ، موطأ مالك كتاب الصيام (690) ، سنن الدارمي الصوم (1770) .(34/205)
ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به (1) » فلا غرو أن تتحقق التقوى من خلال الصوم مما له من هذه المكانة عند رب العرش الكريم.
ولكي يصل المسلم بالصوم من مرتبة التقوى، فإنه يجتهد في طلب غفران الله لذا يجتهد في أن يكون صيامه على نحو ما أراده الله تعالى. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (2) » متفق عليه.
وهكذا تتجلى أهم حكم الصيام في التقوى، وكما قرر علماء الشريعة الغراء ومنهم الشيخ عبد الرحمن السعدي، فإن التقوى "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من المحبوبات وترك المنهيات؛ فالصيام الطريق الأعظم للوصول إلى هذه الغاية التي هي غاية سعادة العبد في دينه ودنياه وآخرته، فالصائم يتقرب إلى الله بترك المشتهيات تقديما لمحبته على محبة النفس ولهذا اختصه الله من بين الأعمال، حيث أضافه إلى نفسه في الحديث الصحيح، وهو من أصول التقوى، إذ الإسلام لا يتم بدونه، وفيه من زيادة الإيمان وحصول الصبر والتمرن على المشقات المقربة إلى رب السماوات، وأنه سبب لكثرة الحسنات من صلاة وقراءة وذكر وصدقة وما يحقق التقوى،، فيه من ردع الأنفس عن الأمور المحرمة من الأفعال المحرمة والكلام المحرم ما هو عماد التقوى" (3) .
والصوم يحقق مصالح العباد، ويؤكد المنافع لهم والفوائد لعامهم وخاصهم، إنه تحصيل للخيرات، ومدرسة إيمانية عظيمة من أجل التنافس للحصول على الأجر المضاعف ولذا شرعه الله تعالى لنا كما كتبه على من قبلنا، غير أنه في
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5927) ، صحيح مسلم الصيام (1151) ، سنن الترمذي الصوم (764) ، سنن النسائي الصيام (2216) ، سنن ابن ماجه الصيام (1638) ، مسند أحمد بن حنبل (2/273) .
(2) وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: '' ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا ''.
(3) الشيخ عبد الرحمن السعدي، الإرشاد إلى معرفة الأحكام، 1400هـ مكتبة المعارف، ص 82- 83.(34/206)
الشريعة الإسلامية الناسخة لما قبلها من شرائع يؤكد المساواة بين الأغنياء والفقراء، حيث يتعاطف الغني مع الفقير بإحساس الألم الواحد، ولا يتنازع معه من خلال الرغبات المتعددة، وحيث يضعف سلطان العادة، ويصمد الناس أمامها بما أمدهم الله به من قوة الإرادة، التي تسعى إلى تعميم فضيلة الخير من خلال الصيام، وهو خير إيجابي مشترك، دون أن يكون مقصوده الأصلي أو حكمته الأساسية هي "الحرمان والألم " (1) بل الصبر والعطاء، واستلهام التقوى كخير وجاء.
__________
(1) د. محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق في القرآن، ط 6 مؤسسة الرسالة 1405هـ، ص 646.(34/207)
خامسا: حكم الحج:
والحج عبادة تنطوي على حكم وأسرار نفسيه وخلقية واجتماعية (1) : من الناحية النفسية، فإن الحج يحيى في الأنفس ذكريات أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم. ولعل أعظم هذه الذكريات رفع القواعد وانتصار الدعوة الإسلامية، ولقد جاشت نفس النبي محمد صلى الله عليه وسلم وانفعلت بذلك، فبكى وهو يقف أمام الكعبة وقال «يا عمر: هنا تسكب العبرات (2) » . ومن الناحية الخلقية: فإن الحج يدرب المسلم على مجاهدة النفس، والوصول إلى أسمى المراتب الروحية حيث تنطلق الحناجر هاتفة باسم الله مثنية عليه، بينما المرء في ملابس الإحرام التي تخلو من كل زينة وتتجرد من كل أسباب الخيلاء، فيعيش الإنسان جو العفاف حيث، لا رفث ولا فسوق ولا جدال. قال تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (3) . ومن حكم الحج
__________
(1) الشيخ، السيد سابق: إسلامنا، ص 125- 127.
(2) سنن ابن ماجه المناسك (2945) .
(3) سورة البقرة الآية 197(34/207)
الاجتماعية، أنه تجمع عظيم تعدد كبير من أبناء الأمة الإسلامية، يلتقون ليشهدوا منافع روحية واقتصادية وسياسية لهم، وفيه تتوحد الغايات، ويتم تبادل الثقافات، ووضع أسس الالتقاء الدائم من أجل تحقيق منافع الأمة الإسلامية.
قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (1) {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (2) .
والحج بحكمه تلك هو حق لله وحده، به يعلن المسلم عن امتثاله لشرع الله تعالى، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية " ولله تعالى حق لا يشركه فيه مخلوق: كالعبادات والإخلاص والتوكل والخوف والرجاء والحج والصلاة والزكاة والصيام والصدقة" (3) ولذا فإن من يخلص في أداء حق الله يكون متقيا إياه "والذين يتقون الله ويقومون بما أمرهم به من عبادته وطاعته يعزهم وينصرهم " (4) .
وحسب الحج، بهذه المثابة، أن الله سبحانه وتعالى قد جعله قياما للناس، فيه تقوم أمور دينهم ودنياهم، كما أن الحج مبني على توحيد الله الذي هو أصل الأصول كلها، ولذا يبدأ بالتلبية، التي هي دليل التزام العبودية لله تعالى، من خلال نفس اطمأنت إلى شرع ربها، فانشرح به صدرها، وأثبتت جميع المحامد وأنواع الثناء لبارئها، وهكذا ينفي المسلم عن ربه العظيم أن يكون له شريك في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وبذلك يحظى المسلم بالوصول
__________
(1) سورة الحج الآية 27
(2) سورة الحج الآية 28
(3) مجموع فتاوى شيح الإسلام ابن تيمية، المجلد السادس والعشرون، ص 158.
(4) مجموع فتاوى شيح الإسلام ابن تيمية، ص 312.(34/208)
إلى بيت الله الحرام، ويتمتع "بالتنوع في عبوديته والذل له والانكسار بين يديه " ويسأل المسلمون ربهم "جميع مطالبهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية في تلك المشاعر العظام والمواقف الكرام ليجزل لهم من قراه وكرمه. . . . وليحط عنهم خطاياهم ويرجعهم كما ولدتهم أمهاتهم، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، فإن الطواف بالبيت والصفا والمروة ورمي الجمار إنما هي لإقامة ذكر الله، من خلال اجتماع المسلمين في مكان واحد، على شكل واحد، في عبادة واحدة، تتحقق فيها أسمى معاني الوحدة الإسلامية، والأخوة الإيمانية، فيرتبط الجميع برباط الدين الشامل، ويشعر الجميع بأن دعاء الله من خلال أعظم مظاهر المساواة، غايته الفوز والرضوان، من الملك الديان.
ولا يتسع المجال للتعرض لكافة حكم متعلقات الحج وحسبنا الإشارة إلى بعض متعلقات حكمه الأساسية فيما يلي:
- إن الإحرام يستلزم حرمة اتخاذ المسلم أي وسيلة من وسائل الرفاهية والزينة "وحكمة الامتناع عن هذا. . . . أن الحج عبادة، الغرض منها التقرب إلى الله والوصول إلى ما أعده سبحانه للنفس المحسنة من خير الجزاء ولا يكون ذلك عادة إلا بإبعاد النفس عن شهواتها، وخروجها من مألوفها، وكفها عن لذائذها، ومظهر هذا الاقتصار على الضروريات من الحياة، والتجرد لله في جميع الحركات والسكنات " (1) ، وعندئذ يجد الإنسان راحة نفسه في التقشف والزهد، والارتفاع فوق أدران المادة، وأوزار الجسد، فيحتمل المشاق راضيا، وكيف لا وهو في لباسه الموحد مع غيره، يستشرف عفو الرحمن، ويطمع في رضا الديان، فقد أطاعه مخلصا، وكل من تجرد عن
__________
(1) عفيف عبد الفتاح طباره، المرجع السابق، ص 261.(34/209)
مطالب الحياة؛ ابتغاء مرضاة الله، لا بد أن يفيء الله عليه من سابغ عطاياه. كذلك فإن حكمة الطواف حول الكعبة تتمثل في تكريمها عن يقين، وتحيتها عن عقيدة صافية، تثق في أن تكريم أول بيت وضع لعبادة الله في أرضه، هو أهم أسباب استجلاب الرحمة، فالمزور كريم، وبيته عظيم، ولذا فإن الزائر وهو يطوف حول الكعبة يتشبه "بالملائكة الحافين بعرش الله، الطائفين حوله، المسبحين له، لا يفترون. وفي هذا من سمو الروح ما فيه " (1) .
- ومن حكم السعي بين الصفا والمروة، تأكيد اللجوء إلى الله، لكي يكشف الضر عمن قصد مسعاه، طالبا غفران الذنوب، مبتهلا إليه بأصفى القلوب، وكيف لا وقرب هذا المكان بالذات، كشف الله الضر عن هاجر وولدها إسماعيل، وفجر لهما نبع ماء (زمزم) ، بعد أن بلغ بهما العطش كل مبلغ، وكاد يودي بهما.
- كذلك فإن من حكم الوقوف بعرفة، تجديد المسلم ذاته والانعتاق من ماضيه "المشوب بالإثم والباطل " (2) ، وقطع العهد أمام الله، على بدء حياة نظيفة بالإيمان، مستقيمة بالإحسان.
- وعن الحكمة في الهدي والأضاحي، فإنه من المعلوم أن من الدماء دماء يقصد بها التقرب إلى الله تعالى كدماء الهدي والأضاحي، فالنحر لله من أشرف العبادات وأجلها. قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (3) ، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) ، فهذه الدماء عبادة شرعت لمحبة الله تعالى، والإخلاص له، والإحسان إلى الخلق، وقد اقترن الهدي والأضاحي بعيد النحر، حتى يتحقق الجمع بين
__________
(1) المرجع السابق، ص 263.
(2) المرجع السابق، ص 264.
(3) سورة الكوثر الآية 2
(4) سورة الأنعام الآية 162(34/210)
الصلاة والنحر، وشرع الهدي، أن يهدي لخير البقاع في أشرف الأزمان في أجل العبادات، فصار الذبح أحد أنساكها، على أن يساق الهدي من الحل أو قبل ذلك، تعظيما لحرمات الله وشعائره وشرائعه، وفيه من الحكمة ما لا يخفى، فهو اقتداء بالخليل صلى الله عليه وسلم حيث فدى ابنه إسماعيل بذبح عظيم، وأمر الله تعالى هذه الأمة بالاقتداء به، خصوصا في أحوال البيت الحرام، حيث تكفل الله بأرزاق سكانه، برهم وفاجرهم، ومن حكمة ذلك أيضا أنه شكر لنعمة الله تعالى بالتوفيق لحج بيته الحرام، ولهذا وجبت في حالتي التمتع والقران، وهذه العبادة شملت مشروعيتها جميع المسلمين في هذه الأيام فشرع الله لهم الأضاحي تحصيلا لفوائد هذه العبادة (1) .
- وأما عن الحكمة في إيجاب الهدي على المتمتع والقارن دون المفرد بالحج فإن دم النسك عبادة مستقلة من جملة عبادات النسك، فالمتمتع عليه دم المتعة، والقارن عليه دم القران، أما المفرد فلا دم عليه، وحكمة شرع الدم في حق المتمتع والقارن، أنه شكر لنعمة الله تعالى، حيث جمع العبد بين نسكين في سفر واحد وزمن واحد، ولذا يجب أن يكون كل من المتمتع والقارن قد أحرم بالعمرة في شهر الحج، ليكون كزمن واحد، كما يجب أن يكون من المسافرين وليس من حاضري المسجد الحرام، لأن حاضريه ليس عليهم هدي، ومن اللائق شرعا، أنه إذا قدم العبد بيت الله بنسكين كاملين أن يهدي لأهل البيت. أما المفرد فلا دم عليه لأنه لم يحصل له إلا نسك واحد، فلم يأت بالعمرة إلى الآن مثل المتمتع والقارن (2) .
__________
(1) الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، الإرشاد إلى معرفة الأحكام 1400 هـ، الرياض، ص 97- 99.
(2) الإرشاد إلى معرفة الأحكام، ص 92- 95.(34/211)
صفحة فارغة(34/212)
وسطية أهل السنة في القدر
الدكتور: عواد بن عبد الله المعتق (1) .
المقدمة:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد. .
فإنه من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك المسلمين على المحجة البيضاء لكن نتيجة بعض العوامل داخل الدولة الإسلامية وخارجها حدث الخلاف بين المسلمين في بعض المسائل: منها ما حسم في حينه، كاختلافهم في الخلافة وموضع دفنه عليه الصلاة والسلام، ومنها ما بقي حتى انقرض وانتهى، ومنها ما هو باق إلى الآن، وإن من أشهر المسائل التي اختلف فيها مسألة القدر. فقد انقسم الناس فيها إلى غلاة في الإثبات، وهم من يسمون بالجبرية، وإلى غلاة في النفي، وهم من يسمون بالقدرية. وإلى متوسطين، وهم أهل السنة والجماعة.
ونظرا لأهمية بيان وسطية أهل السنة في هذه المسألة، وانحراف الفرق المخالفة، فقد رأيت أن أكتب بحثا موجزا يتلخص فيما يلي:
الفصل الأول: في التعريف بالقدر ومراتبه.
الفصل الثاني: في انقسام الناس في القدر. وفيه مباحث:
المبحث الأول: الذين غلوا في إثبات القدر.
المبحث الثاني: الذين غلوا في نفي القدر.
__________
(1) ورد تعريف بالكاتب في العدد '' 29 '' ص 314 من مجلة البحوث الإسلامية.(34/213)
المبحث الثالث: الذين توسطوا في القدر.
الخاتمة: في بيان بعض آثار الإيمان بالقدر في حياة المسلم.
وأخيرا أسأله تعالى أن يتقبل صوابه ويتجاوز عن خطئه إنه سميع مجيب وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(34/214)
الفصل الأول: تعريف القدر ومراتبه:
القدر لغة: بتحريك الدال وتسكن مصدر قدرت الشيء بفتح الدال مخففة أقدر قدرا.
ويقال فيه: قدرت أقدر تقديرا بتشديد الدال.
ومعناه: القضاء والحكم، ومبلغ الشيء.
والقدر، كالقدر: جمعهما جميعا أقدار. وقيل القدر: الاسم.
والقدر: المصدر وهو يأتي مرادا به المصدر: وهو التقدير. ويأتي مرادا به المفعول وهو المقدر.
وفي الاصطلاح: ما يقدره الله عز وجل من القضاء ويحكم به من الأمور.
قال عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (1) أي الحكم. كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (2) فإذا قلنا إن الله تعالى قدر الأشياء فمعناه: أنه تعالى علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه.
__________
(1) سورة القدر الآية 1
(2) سورة الدخان الآية 4(34/214)
مراتب القدر: الإيمان بالقدر لا يتم حتى نؤمن بأربع مراتب وهي:
العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق.(34/214)
المرتبة الأولى: وهي الإيمان بعلم الرب سبحانه وتعالى المحيط بكل شيء، فإنه سبحانه علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون.
ومن ذلك الخلق فإنه سبحانه علم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم وعلم أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم وأعمالهم وشقاوتهم وسعادتهم ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار من قبل أن يخلقهم ومن قبل أن يخلق الجنة والنار علم كل ذلك بعلمه الذي هو صفته ومقتضى اسمه العليم الخبير.
وهذه المرتبة قد اتفق عليها الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى خاتمهم، واتفق عليها جميع السلف ومن تبعهم ولم يخالف فيها إلا مجوس (1) هذه الأمة.
وإليك بعض الأدلة من الكتاب والسنة التي تقرر هذه المرتبة:
أولا: الأدلة من الكتاب: قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) . وقال تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) . وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} (4) الآية.
ثانيا: الأدلة من السنة. ومن ذلك ما يلي:
1 - ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس
__________
(1) القدرية الأولى الغلاة منهم وسيأتي التعريف بهم قريبا - إن شاء الله.
(2) سورة البقرة الآية 30
(3) سورة آل عمران الآية 29
(4) سورة الأنعام الآية 59(34/215)
بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله (1) » .
2 - ما روى البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالسا وفي يده عود ينكت به، فرفع رأسه فقال: (ما من نفس منفوسة إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار) ، قالوا: يا رسول الله فلم نعمل، أفلا نتكل؟ قال: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ، ثم قرأ إلى قوله: (5) » .
3 - ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تنتجون البهيمة، هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها، قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت صغيرا؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين (6) » .
4 - روى البخاري ومسلم عن عمران بن حصين قال: «قال رجل يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم. قال: فلم يعمل العاملون؟ قال: كل يعمل لما خلق له (7) » .
وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي يضيق عنها المقام.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه جـ 8، ص 395، 396 في تفسير سورة لقمان، باب قوله تعالى: '' إن الله عنده علم الساعة ''. وأحمد في مسنده جـ2، ص 24، 58، 122. وانظر: جامع الأصول جـ 2، حديث 755.
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4948) ، صحيح مسلم القدر (2647) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3344) ، سنن أبو داود السنة (4694) ، سنن ابن ماجه المقدمة (78) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(3) سورة الليل الآية 5 (2) {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}
(4) سورة الليل الآية 6 (3) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}
(5) سورة الليل الآية 10 (4) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
(6) رواه البخاري في صحيحه جـ 3 ص 218 ومسلم في صحيحه جـ4 ص 2047 \ 2048.
(7) رواه البخاري في القدر، باب جف القلم على علم الله جـ11 ص 491 ومسلم في القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه جـ 4 ص 2041 حديث رقم 2649.(34/216)
المرتبة الثانية: الكتابة: وهي الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى لما علم الأشياء بعلمه الذي هو موصوف به أزلا وأبدا كتب ذلك في اللوح المحفوظ.
وإليك بعض الأدلة من الكتاب والسنة:(34/216)
أولا: الأدلة من الكتاب:
يقول عز وجل:. . . {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (1) الآية.
ويقول سبحانه وتعالى:. . . {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (2) .
ويقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (3) .
ويقول سبحانه {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} (4) .
قال عطاء ومقاتل: كل شيء فعلوه مكتوب عليهم في اللوح المحفوظ.
وقال جماعة: المعنى أنه يحصى عليهم في كتب أعمالهم.
وجمع أبو إسحاق بين القولين فقال: مكتوب عليهم قبل أن يفعلوه، ومكتوب عليهم إذا فعلوه للجزاء. وهذا هو الأصح (5) والله أعلم.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 38
(2) سورة يونس الآية 61
(3) سورة الحج الآية 70
(4) سورة القمر الآية 52
(5) شفاء العليل ص 42.(34/217)
ثانيا: الأدلة من السنة:
روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكت بمخصرته ثم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاء ثم قرأ (4) » .
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: «جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: " لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير "، قال: ففيم العمل؟ قال: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله (5) » .
وروى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال لي: يا غلام إني معلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف (6) » .
__________
(1) انظر: جامع الأصول حديث 7579، جـ10، ص 110.
(2) سورة الليل الآية 5 (1) {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى}
(3) سورة الليل الآية 6 (2) {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}
(4) سورة الليل الآية 7 (3) {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}
(5) رواه مسلم في القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه برقم 2648. وانظر: جامع الأصول حديت 7580، جـ 10، ص 112.
(6) هذا القدر أخرجه الترمذي برقم 258 في صفة القيامة، باب رقم 60 وقال: هذا حديث حسن صحيح. والحديث أو نحوه في مسند الإمام أحمد برقم 2669، و 2763، و 2804 وهو حديث صحيح. انظر: جامع الأصول حديث رقم 9315.(34/218)
فصل: ونتذكر أن الإيمان بكتابته عز وجل للمقادير يدخل فيه خمسة تقادير وإليك بيانها:
التقدير الأول: تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض عندما خلق عز وجل القلم.
قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} (1) .
وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (2) .
وقال صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه البخاري عن عمران بن حصين «. . . قال: كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض (3) » .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وعرشه على الماء (4) » .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: اكتب القدر. فجرى بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة. . . (5) » الحديث.
__________
(1) سورة التوبة الآية 51
(2) سورة الحديد الآية 22
(3) رواه البخاري في كتاب الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى: '' وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه'' جـ6، ص 286.
(4) رواه مسلم ي كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، جـ4 \ 2044 حديث 2653. والآجري في الشريعة ص 176.
(5) رواه الحاكم في المستدرك جـ 2، ص 498 وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ورواه الآجري في الشريعة ص 179 مع اختلاف في بعض الألفاظ، والبيهقي في السنن الكبرى جـ 9، ص 3.(34/219)
التقدير الثاني: من تقادير الكتابة: كتابة الميثاق يوم قال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (1) عقيب خلق آدم عليه الصلاة والسلام، عند ما نشر ذريته وميز أهل الجنة من أهل النار. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (2) {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} (3) .
وعن مسلم بن يسار الجهني - أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سئل عن هذه الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - سئل عنها، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه حتى استخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار (4) » .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله عز وجل خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى، ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف القلم على
__________
(1) سورة الأعراف الآية 172
(2) سورة الأعراف الآية 172
(3) سورة الأعراف الآية 173
(4) رواه مالك في الموطأ، كتاب القدر، باب النهي عن القول في القدر جـ (2 \ 898 - 899) وأبو داود في كتاب السنة، باب القدر، (جـ4 \ 226 - 227 حديث 4703) ، والترمذي جـ5، ص 266، حديث 3075، وأحمد جـ1، ص 44، والآجري في الشريعة ص 170، والحاكم في المستدرك جـ1، ص 27، والبيهقي في الأسماء والصفات جـ2، ص 57، وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه واللالكائي وعبد بن حميد كما في الدر المنثور جـ3 ص 601. والحديث صحيح لشواهده سوى مسح الظهر. انظر: شفاء العليل ص 10، ومعارج القبول ص932 - 933 (المتن والحاشية) .(34/220)
علم الله عز وجل (1) » .
وغير ذلك من الأحاديث كثير.
التقدير الثالث: العمري: والجنين في بطن أمه. وذلك عند تخليق النطفة والنفخ فيها، فتكتب ذكورتها أو أنوثتها ورزقها وأجلها وشقية أو سعيدة. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} (2) .
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها (3) » .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وكل الله بالرحم ملكا، فيقول: أي رب نطفة؟ أي رب علقة؟ أي رب مضغة؟ فإذا أراد أن يقضي خلقها قال: يا رب ذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟
__________
(1) رواه أحمد في المسند جـ2، ص 176، 197، والترمذي جـ5، ص 26، حديث 2643 وقال حديث حسن. وابن حبان في صحيحه جـ8 ص 16 والحاكم في المستدرك جـ1 ص 30 والآجري في الشريعة ص 175.
(2) سورة الحج الآية 5
(3) رواه البخاري في القدر، باب في القدر، جـ11، ص 477، ومسلم في القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه جـ14، ص 2036.(34/221)
فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيكتب ذلك في بطن أمه (1) » .
وغير ذلك من الأحاديث كثير.
التقدير الرابع: الحولي في ليلة القدر:
يقدر الله ما يكون في السنة إلى مثلها. قال تعالى: {حم} (2) {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} (3) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} (4) {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (5) {أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (6) . وهذه الليلة المباركة هي ليلة القدر لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (7) .
قال سفيان عن أبي نجيح عن مجاهد، ليلة القدر: ليلة الحكم.
قال سفيان عن محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير: يؤذن للحجاج في ليلة القدر فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم فلا يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم ولا ينقص منهم.
وقال ابن عباس: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من موت وحياة ورزق ومطر حتى الحجاج يقال: يحج فلان ويحج فلان.
التقدير الخامس: اليومي:
وهو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدرت لها فيما سبق. قال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (8) .
وروى ابن جرير عن منيب بن عبد الله بن منيب الأزدي عن أبيه قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقلنا يا رسول الله
__________
(1) رواه البخاري في القدر في فاتحته، جـ11، ص 430، ومسلم في القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه برقم 2646. وانظر جامع الأصول جـ10، ص 115، حديث 7583.
(2) سورة الدخان الآية 1
(3) سورة الدخان الآية 2
(4) سورة الدخان الآية 3
(5) سورة الدخان الآية 4
(6) سورة الدخان الآية 5
(7) سورة القدر الآية 1
(8) سورة الرحمن الآية 29
(9) تفسير ابن جرير جـ 27، ص 135، والنسفي جـ 3، ص 456، والسيوطي في الدر المنثور جـ 6، ص 143. وقال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه من لم أعرفهم (المجمع جـ 7، ص 120) .(34/222)
وما ذاك الشأن؟ قال: أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين (1) » .
وقال الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (2) قال: " من شأنه أن يجيب داعيا، أو يعطي سائلا، أو يفك عانيا، أو يشفي سقيما. وقال الحسين بن فضيل: هو سوق المقادير إلى المواقيت " (3) .
وجملة القول في ذلك أن التقدير اليومي: هو تأويل المقدور على العبد وإنفاذه فيه في الوقت الذي سبق أن يناله فيه لا يتقدمه ولا يتأخره. ثم إن هذا التقدير اليومي تفصيل من التقدير الحولي، والحولي تفصيل من التقدير العمري عند تخليق النطفة، والعمري تفصيل من التقدير العمري الأول يوم الميثاق، والعمري الأول تفصيل من التقدير الأزلي الذي خطه في الإمام المبين، والإمام المبين من علم الله عز وجل، وكذلك منتهى المقادير في آخريتها إلى علم الله عز وجل، فانتهت المقادير في أوليتها وآخريتها إلى علم الله عز وجل قال تعالى: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} (4) (5) .
__________
(1) سورة الرحمن الآية 29 (9) {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}
(2) سورة الرحمن الآية 29
(3) تفسير النسفي جـ 3، ص 456.
(4) سورة النجم الآية 42
(5) انظر: معارج القبول جـ3، ص93 - 94.(34/223)
المرتبة الثالثة: المشيئة: من مراتب الإيمان بالقدر:
الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهما يجتمعان فيما كان وما سيكون ويفترقان في ما لم يكن ولا هو كائن. فما شاء الله تعالى كونه فهو كائن بقدرته لا محالة. وما لم يشأ الله تعالى لم يكن لعدم مشيئة الله(34/223)
تعالى إياه ليس لعدم قدرته عليه (1) .
وأدلة هذه المرتبة كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع.
فمن الكتاب: قوله تعالى:. . . {كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (2) . وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (3) الآية. وقال تعالى عن نوح أنه قال لقومه. . . {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} (4) الآية. وقال أبو الأنبياء لقومه. . . {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} (5) الآية.
ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري: «اشفعوا لتؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء (6) » .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه في بعض الأمر، فقال الرجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. فقال صلى الله عليه وسلم: أجعلتني والله عدلا؟ بل ما شاء الله وحده (7) » .
وفي حديث النواس بن سمعان سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من قلب إلا
__________
(1) انظر: معارج القبول ص940، وشفاء العليل ص 44.
(2) سورة آل عمران الآية 40
(3) سورة هود الآية 118
(4) سورة هود الآية 33
(5) سورة الأنعام الآية 80
(6) رواه البخاري جـ10 \ 376 في الأدب باب قوله تعالى: (من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها) ، ومسلم برقم 2627 في البر باب استحباب الشفاعة، وأبو داود برقم 5131 في الأدب في الشفاعة، والترمذي برقم 2674 في العلم باب الدال على الخير كفاعله، والنسائي جـ5 \ 78 في الزكاة باب الشفاعة في الصدقة، وأحمد جـ4 \ 400، 403. وانظر: جامع الأصول حديث 4807، وشفاء العليل ص 44.
(7) رواه أحمد جـ1 \ 214، 224، 283، 347، والحاكم عن ابن عباس. انظر: كنز العمال جـ3، حديث 8377، وشفاء العليل ص45.(34/224)
وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه (1) » .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة يرفعه: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن الله ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان (2) » .
وفي صحيح البخاري مرفوعا: «مثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء (3) » .
وقد أجمع المسلمون على أن الحالف إذا استثنى في يمينه متصلا بها فقال: لأفعلن كذا أو لا أفعله - إن شاء الله - أنه لا يحنث إذا خالف ما حلف عليه لأن من أصل أهل الإسلام أنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله، فإذا علق الحالف الفعل أو الترك بالمشيئة لم يحنث عند عدم المشيئة ولا تجب عليه الكفارة " (4) .
فإذا لم يقع شيء فإنما هو لعدم مشيئة الله تعالى إيجاده أو إيقاعه لا أنه عجز عنه - تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك - قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} (5) .
__________
(1) رواه أحمد جـ2 \ 182، والدارقطني في الصفات. انظر: كنز العمال جـ1، حديث 1684، وشفاء العليل ص 45.
(2) رواه مسلم في القدر \ 34، وابن ماجه في الزهد \ 14.
(3) رواه البخاري في كتاب التوحيد \ 31، ومسلم في كتاب المنافقون \ 59 - 60، وأبو داود في كتاب الرقاق \ 36، وأحمد جـ2 \ 532.
(4) انظر: شفاء العليل ص 47.
(5) سورة فاطر الآية 44(34/225)
المرتبة الرابعة: مرتبة خلق الله سبحانه وتعالى الأعمال وتكوينه وإيجاده لها:(34/225)
وهو الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء، فهو خالق كل عامل وعمله وكل متحرك وحركته، وكل ساكن وسكونه، وما من ذرة في السماوات ولا في الأرض إلا والله سبحانه وتعالى خالقها وخالق حركتها وسكونها سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه.
والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب، والسنة، وأقوال السلف.
فمن الكتاب: قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (1) . وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (2) . وقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} (3) . وقوله تعالى:. . . {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) . وقوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} (5) الآية.
ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في كتاب (خلق أفعال العباد) قال: حدثنا علي بن عبد الله، ثنا مروان بن معاوية، ثنا أبو مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يصنع كل صانع وصنعته» قال البخاري: وتلا بعضهم عند ذلك {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (6) . فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة لله (7) .
__________
(1) سورة الزمر الآية 62
(2) سورة الصافات الآية 96
(3) سورة الفرقان الآية 2
(4) سورة الحشر الآية 6
(5) سورة النحل الآية 81
(6) سورة الصافات الآية 96
(7) انظر: خلق أفعال العباد للبخاري ص 40.(34/226)
وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم ومالك عن طاوس اليماني قال: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل شيء بقدر حتى العجز والكيس (1) » .
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: «. . . رب اجعلني لك شاكرا لك ذاكرا، لك راهبا، لك مطواعا، لك مخبتا، إليك أواها منيبا (2) » . . . فسأل ربه أن يجعله كذلك وهذه كلها أفعال اختيارية واقعة بإرادة العبد واختياره مما يدل على أنها مجعولة لله (3) .
وغير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار الشيء الكثير. وإنما اكتفيت بما ذكرته إيثارا للإيجاز.
__________
(1) رواه البخاري في خلق أفعال العباد برقم 121، ص 40 - 41، ومسلم برقم 2655 في القدر، باب كل شيء بقدر، ومالك في القدر، باب النهي عن القول في القدر، جـ 2، ص 899. وانظر جامع الأصول حديث 7587، والآجري في الشريعة ص 213.
(2) رواه الإمام أحمد في المسند جـ3، ص 310، والترمذي برقم 3546 في الدعوات باب من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو داود برقم 1510 في الصلاة، باب ما يقول الرجل إذا سلم، وابن ماجه برقم 3830 في الدعاء، باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وابن حبان في صحيحه برقم 2414، وهو حديث صحيح. انظر: جامع الأصول حديث 2355.
(3) شفاء العليل ص 56.(34/227)
الفصل الثاني: انقسام الناس في القدر
تمهيد: ذكرنا في المقدمة أن من المسائل التي اختلف فيها مسألة القدر وإن المختلفين انقسموا إلى غلاة في الإثبات وهم من يسمون بالجبرية، وإلى غلاة في النفي وهم من يسمون بالقدرية وإلى متوسطين، وهم أهل السنة والجماعة. والآن نذكر - إن شاء الله - لمحة موجزة عن كل فرقة من الغلاة ورأيهم وموقف أهل السنة، ثم نقر المذهب الوسط، وهو مذهب أهل السنة والجماعة فنقول وبالله التوفيق. . .
المبحث الأول: الذين غلوا في إثبات القدر وهم الجبرية
أولا: في التعريف بالجبر والجبرية وأول من قال بهذه البدعة ونشرها:(34/227)
الجبر: لغة، هو القهر والإكراه (1) .
والمراد به هنا: نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الرب تعالى (2) .
أما الجبرية: فهم الذين يزعمون بأن العبد مجبور على عمله بمعنى أن حركاته بمنزلة حركات الجماد ولا قدرة له عليها ولا اختيار (3) .
وأول من قال بهذا المذهب الباطل هو الجعد بن درهم مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، ولذا كان يلقب بمروان الجعدي لأنه تعلم من الجعد مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك (4) .
وعن الجعد بن درهم أخذ هذا المذهب تلميذه الجهم بن صفوان مؤسس فرقة الجهمية. فقد تلقى عنه هذه البدعة مع بدع أخرى أصبحت
__________
(1) انظر: لسان العرب مادة جبر، جـ1، ص 395.
(2) الملل والنحل للشهرستاني، جـ1، ص 108.
(3) انظر: لوامع الأنوار البهية ص 306، والتعريفات للجرجاني ص 77، الملل والنحل جـ1، ص 110، 111.
(4) انظر: الكامل لابن الأثير جـ4، 332.(34/228)
فيما بعد من أسس الجهمية، حتى أن هذه الفرقة هي التي قامت بهذا المذهب ونشرته وأيدته ببعض الشبهات الباطلة، وأصبح يطلق عليهم الجبرية لقولهم بهذا المذهب الباطل.(34/229)
ثانيا: رأي الجبرية في القدر مع المناقشة
أ - رأي الجبرية:
يتلخص رأي الجبرية في هذه المسالة: في أنه لا فعل لأحد غير الله تعالى، والإنسان مجبور على عمله. والأعمال تنسب إليه مجازا كما تنسب إلى الجماد، فالإنسان والجماد لا يختلفان، فكتب فلان وقتل مجازا كما يقال أثمر الشجر وتحرك الحجر.
والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال جبر: وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا كان جبرا " (1) .
يقول البغدادي: " وقال - أي الجهم - لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز كما يقال زالت الشمس ودارت الرحى من غير أن تكونا فاعلتين أو مستطيعتين لما وصفتا به " (2) .
ويقول الشهرستاني - وهو يعدد آراء الجهم بن صفوان -: ". . . ومنها قوله في القدرة الحادثة: إن الإنسان ليس يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله، لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار، وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وينسب
__________
(1) انظر: التبصير في الدين ص 107، الفصل جـ3 ص 22؛ الملل والنحل جـ1؛ ص 110 - 111.
(2) الفرق بين الفرق ص 96.(34/229)
إليه الأفعال مجازا كما ينسب إلى الجمادات كما يقال أثمرت الشجرة وجرى الماء. . . إلى غير ذلك. والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال جبر. وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا كان جبرا " (1) .
ب - شبهاتهم مع المناقشة
لقد تمسك الجبرية - عند قولهم بهذه البدعة - بشبهات منها ما يلي:
الشبهة الأولى: يقول الإمام شارح الطحاوية: " فمما استدلت به الجبرية قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (2) فنفى الله تعالى عن نبيه الرمي وأثبته لنفسه سبحانه فدل على أنه لا صنع للعبد " (3) .
المناقشة: يقال لهم هذا دليل عليكم لا لكم؛ لأنه تعالى أثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم رميا بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} (4) فعلم أن المثبت غير المنفي وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء، فابتداؤه الحذف، وانتهاؤه الإصابة، وكل منهما يسمى رميا، فالمعنى حينئذ - والله تعالى أعلم - وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب.
وإلا فطرد قولهم: وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى! ما صمت إذ صمت! وما زنيت إذ زنيت! وما سرقت إذ سرقت!! وفساد هذا ظاهر (5) .
الشبهة الثانية: يقول الإمام ابن حزم رحمه الله: " فأما من قال بالإجبار فإنهم احتجوا فقالوا: لما كان الله تعالى فعالا وكان لا يشبهه شيء من خلقه وجب ألا يكون أحد فعالا غيره " (6) .
__________
(1) الملل والنحل جـ1، ص 110 - 111.
(2) سورة الأنفال الآية 17
(3) شرح الطحاوية ص 494.
(4) سورة الأنفال الآية 17
(5) شرح الطحاوية ص 495.
(6) الفصل جـ3، ص22 - 23.(34/230)
المناقشة: يقال لهم احتجاجكم بهذه الشبهة خطأ من القول لوجوه منها:
الأول: أن النص قد ورد بأن للإنسان أفعالا كما قال تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (1) فأثبت الله لهم الفعل.
الثاني: أن النص ورد بأن للإنسان اختيارا كما قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} (2) لأن أهل الدنيا وأهل الجنة سواء في أنه تعالى خالق أعمال الجميع.
وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ} (3) الآية؛ لأن الاختيار الذي هو فعل لله تعالى - وهو منفي عما سواه - هو غير الاختيار الذي أضافه إلى خلقه ووصفهم به؛ إذ أن الاختيار الذي توحد الله به هو أنه يفعل ما شاء كيف شاء وإذا شاء وليست هذه صفة شيء من خلقه. وأما الاختيار الذي أضافه الله تعالى إلى خلقه فهو ما خلق فيهم من الميل إلى الشيء والإيثار له على غيره فقط.
ثالثا: أن الاشتراك في الأسماء لا يقع من أجله التشابه ألا ترى أنك تقول الله الحي، والإنسان حي، ولا يوجب هذا اشتباها بلا خلاف، وإنما يقع الاشتباه بالصفات الموجودة في الموصوفين، وهذا غير موجود هنا، إذ أن هناك فرقا بين الفعل الواقع من الله عز وجل، والفعل الواقع منا، وهو أن الله تعالى اخترعه وجعله جسما أو عرضا أو حركة أو سكونا أو معرفة أو إرادة أو كراهية، وفعل عز وجل كل ذلك فينا بغير معاناة منه.
وأما نحن فإنما كان فعلا لنا لأنه عز وجل خلقه فينا وخلق اختيارنا له وأظهره عز وجل فينا محمولا لاكتساب منفعة أو لدفع مضرة ولم نخترعه (4) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 79
(2) سورة الواقعة الآية 20
(3) سورة القصص الآية 68
(4) الفصل لابن حزم جـ3، ص 24 - 25 (بتصرف) .(34/231)
فإذا ثبت أن الإنسان فعال وأنه مختار فيما يفعله وأنه لا تشابه بين فعل الحق سبحانه وتعالى وفعل العبد، بطل ما يزعمونه من أنه لا فعل للعبد لما يلزم من المشابهة بين الله وخلقه.
الشبهة الثالثة: كذلك مما جر الجبرية إلى القول بهذه البدعة اعتقادهم بأنه يترتب على القول بإثبات القدرة للعبد قصور قدرة الله عن بعض المخلوقات ووجود شريك له في الخلق، والله يقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (1) الآية.
ويقول تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (2) (3) .
المناقشة: يقال لهم: اعتقادكم هذا باطل فإنه لا يترتب على القول بأن للعبد قدرة ومشيئة تحت قدرة الله ومشيئته ما ذكرتم من قصور قدرة الله عن بعض المخلوقات ووجود الشريك إلا إذا قيل بأن العبد مستقل بقدرته ومشيئته.
كما أن استدلالكم بهذه الآيات على هذا الاعتقاد باطل، فإنها لا تدل على ما زعمتموه، إذ أنها لا تنافي وجود قدرة للعبد تحت قدرة الله يفعل بها، فتكون أعماله خلقا له مخلوقة لله.
__________
(1) سورة الزمر الآية 62
(2) سورة الصافات الآية 96
(3) انظر الفصل لابن حزم جـ 3، ص 57.(34/232)
ثالثا: موقف أهل السنة والجماعة من القول بالجبر
لقد رفض أئمة أهل السنة هذه البدعة وعدوها من المذاهب الباطلة المنحرفة عن سواء السبيل (1) . ولذا ردوا على أصحابها ردودا كثيرة ولكثرتها سأكتفي برد إمامين من أئمة أهل السنة.
- أما الأول: فالإمام ابن حزم - رحمه الله - حيث يقول - بعد عرض مقالتهم -: " وخطأ هذه المقالة ظاهر بالنص وبالحس وباللغة التي خاطبنا الله تعالى بها. فأما النص: فإن الله عز وجل قال - في غير موضع من القرآن -
__________
(1) انظر: شفاء العليل ص54، ولوامع الأنوار البهية جـ1، ص 306 - 311.(34/232)
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) . وقال تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} (2) . فنص تعالى على أننا نعمل ونفعل.
وأما الحس: فإن بالحواس وبضرورة العقل وببديهته علمنا علما يقينا لا يخالطه شك أن بين صحيح الجوارح وبين ما لا صحة بجوارحه فرقا واضحا؛ لأن صحيح الجوارح يفعل القيام والقعود وسائر الحركات مختارا لها دون مانع، بخلاف ما لا صحة بجوارحه، فإنه لو أراد ذلك لم يستطع ولا بيان أبين من هذا الفرق.
وأما اللغة: فإن المجبر في اللغة هو الذي يقع الفعل منه بغير اختياره وقصده، فأما من وقع فعله باختياره وقصده فلا يسمى في اللغة مجبرا.
وإجماع الأمة على أنه لا حول ولا قوة إلا بالله مبطل قول المجبرة وموجب أن لنا حولا وقوة ولكن لم يكن ذلك إلا بالله تعالى. ولو كان ما ذهب إليه المجبرة صحيحا لكان قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا معنى له، وكذلك قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (3) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (4) . فنص تعالى على أن لنا مشيئة إلا أنها لا تكون منا إلا أن يشاء الله كونها " (5) .
- وأما الثاني فالإمام ابن القيم حيث يقول - وهو يبين ما اشتملت عليه الفاتحة من الرد على جميع المبطلين -: " فصل: في تضمنها الرد على الجبرية وذلك من وجوه:
الأول: من إثبات عموم حمده سبحانه، فإنه يقتضي ألا يعاقب عبيده على ما لا قدرة لهم عليه ولا هو من فعلهم، بل هو بمنزلة ألوانهم وطولهم وقصرهم،
__________
(1) سورة الواقعة الآية 24
(2) سورة الصف الآية 2
(3) سورة التكوير الآية 28
(4) سورة التكوير الآية 29
(5) الفصل لابن حزم جـ3، ص 23 (بتصرف) .(34/233)
بل هو يعاقبهم على نفس فعله بهم فهو الفاعل لقبائحهم في الحقيقة، وهو المعاقب لهم عليها، فحمده عليها يأبى ذلك أشد الإباء، وينفيه أعظم النفي فتعالى من له الحمد كله عن ذلك علوا كبيرا، بل إنما يعاقبهم على نفس أفعالهم التي فعلوها حقيقة، فهي أفعالهم لا أفعاله وإنما أفعاله العدل والإحسان والخيرات.
الثاني: إثبات رحمته ورحمانيته ينفي ذلك إذ لا يمكن مع اجتماع هذين الأمرين قط: أن يكون رحمانا رحيما، ويعاقب العبد على ما لا قدرة له عليه ولا هو من فعله بل يكلفه ما لا يطيقه ولا له عليه قدرة البتة ثم يعاقبه عليه، وهل هذا إلا ضد الرحمة ونقض لها وإبطال؟! وهل يصح في معقول أحد اجتماع ذلك والرحمة التامة الكاملة في ذات واحدة؟
الثالث: إثبات العبادة والاستعانة لهم ونسبتها إليهم بقولهم: " نعبد، ونستعين " وهي نسبة حقيقية لا مجازية والله لا يصح وصفه بالعبادة والاستعانة التي هي من أفعال عبيده، بل العبد حقيقة هو العابد المستعين، والله هو المعبود المستعان به (1) .
وأقول: أنه يترتب على القول بهذه البدعة لوازم باطلة منها: القول بإبطال التكليف والثواب والعقاب، وإرسال الرسل وذلك أنه إذا كان العبد مجبورا على عمله فكيف يثاب ويعاقب على ما لم يفعل؟ وكيف يكلف بعمل غيره؟ أليس هذا محض الظلم تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا، ولم أرسل الله الرسل ما دام العبد كالريشة في مهب الرياح؟
فليترك عالم الإنسان دون رسول كما ترك النبات والجماد دون رسول. فإذا كانت هذه اللوازم باطلة فما يؤدي إليها باطل. والله أعلم.
__________
(1) انظر: مدارج السالكين جـ1، ص 65.(34/234)
المبحث الثاني: الذين غلوا في نفي القدر وهم القدرية
أولا: التعريف بهم، وأول من قال بهذه البدعة ونشرها
أ - التعريف بهم
القدرية: هم القائلون بإنكار القدر الإلهي من قبيل الاشتقاق من الضد إذ أنهم يرون أن للعبد قدرة توجد الفعل بانفرادها واستقلالها دون الله تعالى (1) .
وهم فرقتان: القدرية الأولى، أتباع معبد الجهني وغيلان الدمشقي القائلون بإنكار القدر بمعنى العلم والتقدير. وهذه الفرقة انقرضت كما سيأتي.
القدرية الثانية: وهم المثبتون للعلم والكتابة لكنهم يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه، وهم المعتزلة كما سيأتي بيانه.
__________
(1) انظر الملل جـ1، ص 31، 54، والفرق بين الفرق ص 68.(34/235)
ب - أول من قال بهذه البدعة ونشرها
أول من تكلم بهذه البدعة في الإسلام معبد الجهني - كما يقول الذهبي (1) وابن الأثير (2) ، وابن قتيبة (3) ، وابن كثير (4) - أخذ ذلك عن نصراني من الأساورة يقال له أبو يونس ويعرف بالأسواري (5) .
__________
(1) انظر: ميزان الاعتدال جـ 3، ص 183.
(2) انظر: الكامل لابن الأثير جـ4، ص 75.
(3) انظر: المعارف لابن قتيبة ص 166.
(4) انظر: البداية والنهاية جـ9، ص34.
(5) انظر: الخطط للمقريزي جـ 4، ص 76، والملل جـ1، ص 31، وتهذيب التهذيب جـ10، ص 225.(34/235)
وقال الأوزاعي: أول من نطق بالقدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن كان نصرانيا فأسلم ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد.
وقيل: بل أول من تكلم فيه معبد (1) بن عبد الله بن عويمر قاله السمعاني وبعض علماء الأشاعرة (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد روي أن أول من ابتدعه بالعراق رجل من أهل البصرة يقال له سيسويه من أبناء المجوس وتلقاه عنه معبد الجهني (3) .
والأظهر: أن أول من تكلم في القدر معبد الجهني لكنه قاله متأثرا ببعض العناصر غير المسلمة كالنصارى والمجوس. وعن معبد الجهني أخد غيلان بن مسلم القبطي. وعلى يديه كان نشر هذه البدعة.
ونظرا لإفراط معبد وأصحابه - وهم القدرية الأولى - في نفي القدر، إذ أنهم لم يقفوا عند القول بأن العبد يخلق فعل نفسه فحسب، بل تطرفوا حتى نفوا القدر بمعنى العلم والتقدير. فيروى عن معبد أنه كان يقول: (لا قدر والأمر أنف) (4) أي مستأنف. ولرفض الصحابة والتابعين هذه البدعة، وتحذيرهم (5) من اتباعها، ولوقوف الدولة الإسلامية منهم الموقف الحازم، إذ نرى الخليفة عبد الملك بن مروان يأمر بقتل معبد الجهني (6) . ونرى الخليفة
__________
(1) لم أقف له على ترجمة.
(2) لوامع الأنوار البهية جـ1، ص 299.
(3) الفتاوى جـ 7، ص 384.
(4) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب القدر، جـ1، ص 150 - 156.
(5) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب القدر، جـ1، ص 156، ولوامع الأنوار البهية جـ1، ص 299 - 300.
(6) انظر: الأعلام جـ 7، 264.(34/236)
عمر بن عبد العزيز يستتيب غيلان الدمشقي حتى تاب ورجع عن هذه البدعة في حياة عمر، وبعد وفاة عمر بن عبد العزيز رجع غيلان إلى ضلالته فقبض عليه الخليفة هشام بن عبد الملك فقتله وصلبه (1) .
نظرا لما ذكرت فإن هذه البدعة بهذا الشكل لم يكتب لها البقاء ولذا لما قامت المعتزلة - وهم القدرية الثانية - وتلقت هذه البدعة وكانت أخف وأقل تفريطا من معبد وأصحابه، إذ نراهم لا ينكرون علم الله الأزلي وإن كانوا يوافقون معبدا في القول بأن العبد يخلق فعل نفسه.
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ". . . ولكن لما اشتهر الكلام في القدر ودخل فيه كثير من أهل النظر والعبادة، صار جمهور القدرية يقرون بتقدم العلم، وإنما ينكرون عموم المشيئة والخلق. . . " (2) .
ويقول ابن حجر: القدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم واقعة منهم على جهة الاستقلال وهو مع كونه مذهبا باطلا أخف من المذهب الأول " (3) .
__________
(1) انظر: الأعلام جـ5، ص 124.
(2) الفتاوى جـ 7، ص 385.
(3) لوامع الأنوار البهية جـ1، ص 301.(34/237)
ثانيا: رأي القدرية في القدر مع المناقشة
أ - رأي القدرية في القدر
تمهيد: ذكرت - آنفا - نشأة القدرية وأنها فرقتان، وأن القدرية الأولى انقرضت، ولم يبق إلا القدرية الثانية والذين يعرفون بالمعتزلة. والآن لنعرف رأيهم في القدر مستقى من أقوال أئمتهم، وغيرهم. فنقول وبالله التوفيق:(34/237)
يقول القاضي عبد الجبار: " اتفق كل أهل العدل (1) على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدث سواهم وأن من قال: إن الله - سبحانه - خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه وأحالوا حدوث فعل من فاعلين " (2) .
ويقول القاضي - في موضع آخر - ". . . والغرض به الكلام في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنهم المحدثون لها " (3) .
ويقول البغدادي - وهو يتحدث عن أصول المعتزلة - ". . . ومنها قولهم جميعا بأن الله تعالى غير خالق لأكساب الناس، ولا لشيء من أعمال الحيوانات، وقد زعموا أن الناس هم الذي يقدرون أكسابهم، وأنه ليس لله عز وجل في أكسابهم ولا في سائر الحيوانات صنع ولا تقدير ولأجل هذا القول سماهم المسلمون قدرية " (4) .
من هذه النصوص يتضح أن القدرية الثانية يرون ما يلي:
أ - أن الله غير خالق لأفعال العباد، ولا لشيء من أعمال الحيوانات وأنه ليس له فيها صنع ولا تقدير.
ب - أن العباد هم المحدثون لأفعالهم.
ب - شبهات القدرية والرد عليها
لقد تمسك القدرية في قولهم إن العباد يخلقون أفعالهم بشبهات نقلية وعقلية وإليك شيء منها مع المناقشة:
__________
(1) هم المعتزلة وأطلق عليهم أهل العدل: لقولهم بالقدر.
(2) المغني في أبواب العدل والتوحيد جـ 8، ص 3.
(3) شرح الأصول الخمسة ص 423.
(4) الفرق بين الفرق ص 94.(34/238)
الشبهة الأولى: قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (1) الآية.
وجه الاستدلال بالآية: يقول القاضي عبد الجبار - بعد أن أورد هذه الآية للاستدلال - ". . . إن الله سبحانه وتعالى بين أن أفعاله كلها متقنة، والإتقان يتضمن الأحكام والحسن جميعا - حتى لو كان محكما، ولو لم يكن حسنا لكان لا يوصف بالإتقان، ألا ترى أن أحدنا لو تكلم بكلام فصيح يشتمل على الفحش. . .، فإنه وإن وصف بالإحكام لا يوصف بالإتقان، ثم قال: إذا ثبت هذا ومعلوم أن في أفعال العباد ما يشتمل على التهود والتنصر والتمجس، وليس شيء من ذلك متقنا، فلا يجوز أن يكون الله تعالى خالقا لها " (2) .
الجواب: يقال لهم إن هذا الاستدلال باطل لما يلي:
أولا: إن الإتقان لا يحصل إلا في المركبات، فيمتنع وصف الأعراض به (3) . وإذا لم توصف الأعراض بالإتقان، بطل الاستدلال بالآية لأن الاستدلال بها ينبني على أن الإتقان يكون في الأعراض.
ثانيا: يقول الإمام ابن حزم: " إن هذه الآية حجة عليهم لا لهم لأن الله تعالى أخبر أنه بصنعه أتقن كل شيء، وهذا على عمومه وظاهره، فالله تعالى صانع كل شيء، وإتقانه له أن خلقه جوهرا أو عرضا جاريين على رتبة واحدة أبدا، وهذا عين الإتقان (4) . وبهذا يظهر بطلان الاستدلال بالآية والله أعلم.
الشبهة الثانية: يقول القاضي عبد الجبار. " ومن الأدلة على أن العباد خالقون أفعالهم قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} (5) الآية.
ثم قال: فقد نفى الله تعالى أن يكون في خلقه باطل، فلولا أن هذه القبائح
__________
(1) سورة النمل الآية 88
(2) شرح الأصول الخمسة ص 358.
(3) التفسير الكبير جـ 24، ص 220.
(4) الفصل جـ 3، ص 65.
(5) سورة ص الآية 27(34/239)
وغيرها من التصرفات من جهتنا ومتعلقة بنا، وإلا كان يجب أن تكون الأباطيل كلها من قبله، فيكون مبطلا كاذبا. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا " (1) .
الجواب: يقال لهم: إن معنى الآية أن الله تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما - عبثا ولعبا - على ما يتوهمه من زعم أنه لا حشر، ولا نشر، ولا ثواب، ولا عقاب، بل خلقهما بالحق للاعتبار بهما والاستدلال على خالقهما، ومن ثم إثابة المتقين الطائعين، ومجازاة المذنبين والكافرين، ولذلك قال تعالى - بعدها - {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (2) . يعني من إنكارهم الثواب والجزاء والعقاب. وعلى ذلك فقولهم: إن معنى الآية " نفي أن يكون في خلقه باطل " غير صحيح، وإذا كان غير صحيح بطل بالاستدلال بالآية.
الشبهة الثالثة: قالت القدرية: وجدنا أفعالنا واقعة على حسب قصدنا، فوجب أن تكون خلقا لنا، وفعلا لنا، قالوا: وبيان ذلك؛ أن الواحد منا إذا أراد أن يقوم قام، وإذا أراد أن يقعد قعد، وإذا أراد أن يتحرك تحرك، وإذا أراد أن يسكن سكن، وغير ذلك. فإذا حصلت أفعاله على حسب قصده ومقتضى إرادته، دل ذلك على أن أفعاله خلق له وفعل له (3) .
الجواب: يقال لهم: إن هذه الشبهة باطلة وبيان ذلك من وجوه منها:
أولا: قولكم: " إن أفعال العباد تحصل بحسب قصودهم. . . " غير صحيح على إطلاقه فإنا نرى من يريد شيئا ويقصده، ولا يحصل له ذلك فإنه ربما أراد أن ينطق بصواب فيخطئ، وربما أراد أكلا لقوة وصحة فيضعف ويمرض،
__________
(1) شرح الأصول الخمسة ص 362.
(2) سورة ص الآية 27
(3) شرح الأصول الخمسة ص 336 - 337 والإنصاف ص 135.(34/240)
وربما أراد القيام فيعرض له ما يمنعه منه إلى غير ذلك فبطل ما ذكرتموه، وصح أن فعله خلق لغيره يجري على حسب مشيئة الخالق تعالى، وإنما يظهر كسبه لذلك الفعل بعد تقدم المشيئة والخلق من الخالق (1) .
ثانيا: أن وقوع الكسب من الخلق على حساب القصد منهم، لا يدل على أنه خلق لهم. . . ودليل ذلك أن مشي الفرس مثلا، يحصل على قصد الراكب وإرادته من عدو وتقريب. . . ووقوف إلى غير ذلك ولا يقول عاقل: أن الراكب خلق جري الفرس ولا سرعتها ولا غير ذلك من أفعالها، فبطل أن يكون حصول الفعل على قصد الفاعل دليلا على أنه خلقه. ومثل ذلك السفن يحصل سيرها وتوجهها. . على حسب قصد الملاح ولا يدل ذلك على أن الملاح خلق سير السفن ولا توجهها. فان كابروا الحقائق وقالوا: نقول: إن ذلك خلقه الملاح والفارس، فقد خرجوا عن الدين، وسووا بين الخالق والعباد في أن قدرة كل واحد منهما تتعلق بمقدورات، وهذا كفر صراح. وإن قالوا: حركات السفن تقع على حسب قصد الملاح، وليست بخلق له، قلنا: فكذلك أفعال أحدنا تقع - ولا نقول: إنها تقع في كل حال - على حسب قصده، ولا يدل ذلك على أنه خلقها. . . بل الخالق لها هو الله تعالى (2) .
ثالثا: نحن لا نقول: إن العبد مجبور على أفعاله، بل نقول: إن العبد له قدرة ومشيئة لكنها تحت قدرة الله ومشيئته (3) . وإذا كان كذلك، فإن ما يحصل منه من تصرفات قد تقع على حسب قصده لا يمنع أن تكون بهذه القدرة التي أعطاه الله إياها، والتي لا تخرج عن قدرة الله الشاملة. وعلى ذلك فكون العبد يحصل له بعض التصرفات على حسب قصده لا يدل على أنه هو الخالق لأفعاله وعليه فتبطل هذه الشبهة والله أعلم.
__________
(1) الإنصاف ص 153 (بتصرف) .
(2) الإنصاف ص 153 - 154 (بتصرف) .
(3) انظر: الفتاوى جـ 8، ص 393 - 394.(34/241)
ثالثا: موقف أهل السنة والجماعة من هذه البدعة
لقد رفض أهل السنة والجماعة هذه البدعة وأنكروها بقوة الدليل والبرهان لكن اختلف حكمهم باختلاف هؤلاء القدرية.
فأما القدرية الأولى أصحاب معبد وغيلان القائلون بإنكار العلم المتقدم وأن الأمر أنف أي مستأنف فقد حكموا عليهم بالكفر.
روى مسلم وأبو داود والترمذي وأحمد، عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما داخلا المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والأخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قبلنا ناس يقرأون القرآن ويتقفرون العلم - وذكر من شأنهم - وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم ساق حديث جبريل، وفيه «. . . وتؤمن بالقدر خيره وشره (1) » .
قال وكيع الجراح: " القدرية يقولون الأمر مستقبل وأن الله لم يقدر الكتابة والأعمال. . . إلى أن قال: هو كله كفر " (2) .
وقال الشافعي: " ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كفروا " (3) .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان 1، وأبو داود في كتاب السنة 16، والترمذي في كتاب الإيمان 4، وأحمد 4 \ 107.
(2) الفتاوى جـ7، ص 385.
(3) شرح الواسطية لابن رشيد ص 269 - 270.(34/242)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ". . . وقد نص الأئمة كمالك والشافعي وأحمد على كفر هؤلاء الذين ينكرون علم الله القديم " (1) .
وأما القدرية الثانية المثبتون للعلم والكتابة لكنهم يقولون إن العبد يخلق فعل نفسه فقد حكموا عليهم بأنهم مبتدعة ضالون.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ". . . وأما جمهور القدرية فهم يقرون بالعلم والكتاب المتقدم لكن ينكرون أن الله خلق أفعال العباد. . إلى أن قال: وكل هؤلاء مبتدعة ضالون " (2) .
ويقول في موضع آخر: ". . . وأما هؤلاء - يعني الفرقة الثانية من القدرية - فإنهم مبتدعون ضالون لكن ليسوا بمنزلة أولئك (3) . . . " (4) .
ويقول الإمام ابن القيم: " وأما الفرقة الضالة: فإنهم اعتقدوا انفراد العبد بالخلق ثم صاروا إلى أنه إذا عصى فقد انفرد بخلق فعله والرب كاره له فكان العبد على هذا الرأي الفاسد مزاحما لربه في التدبير موقعا ما أراد إيقاعه شاء الرب أو كره " (5) .
ويقول الإمام شارح الطحاوية: " والقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة، بل أردأ من المجوس من حيث إن المجوس أثبتوا خالقين وهم أثبتوا خالقين!! " (6) .
__________
(1) الفتاوى جـ 8، ص 288. وانظر: الفتاوى جـ 7، ص 385.
(2) الفتاوى جـ 8، ص 288 - 289.
(3) يريد القدرية الأولى.
(4) الفتاوى جـ 7، ص 385.
(5) شفاء العليل ص 124.
(6) شرح الطحاوية ص 493 - 494.(34/243)
المبحث الثالث: المتوسطون في القدر
وهم أهل السنة والجماعة
أولا: في بيان معنى التوسط، والمراد بأهل السنة والجماعة، ولم سموا بذلك؟
أ - في بيان معنى التوسط:
التوسط لغة: الاعتدال، يقول ابن منظور في اللسان: وسط الشيء وأوسطه: أعدله.
وفي التنزيل قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (1) الآية.
قال الزجاج: فيه قولان؛ قال بعضهم: وسطا أي عدلا. وقال بعضهم: خيارا، واللفظتان: وإن اختلفتا، فالمعنى واحد لأن العدل: خير، والخير: عدل (2) .
والأظهر تفسير الوسط في الآية: بمعنى عدلا، لما روى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (3) الآية قال: عدلا ".
والمراد بالتوسط هنا: هو الاعتدال بين الإفراط والتفريط. فالمتوسطون: هم المعتدلون لا إفراط عندهم ولا تفريط. ولما كان التوسط مجانبا للغلو والتقصير كان محمودا (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 143
(2) انظر: لسان العرب مادة وسط جـ 3، ص 924.
(3) سورة البقرة الآية 143
(4) انظر: فتح القدير، جـ1، ص 150، وتفسير وبيان ص22.(34/244)
ب - المراد بأهل السنة والجماعة، ولم سموا بذلك؟
السنة لغة: الطريقة والسيرة (1) .
والمراد بها هنا: هي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم (2) .
والجماعة لغة: اسم للقوم المجتمعين من الاجتماع: وهو نقيض الفرقة (3) .
والمراد بها هنا: جماعة المسلمين، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين (4) .
والمراد بأهل السنة والجماعة: هم الذين تمسكوا بالإسلام المحض الخالص عن الشوب حيث التزموا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الإيمان والعمل واجتمعوا على الحق وهم المعنيون بقوله صلى الله عليه وسلم «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة (5) » . وفي رواية «قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي (7) » .
وسموا بأهل السنة والجماعة: لتمسكهم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقديمها على غيرها من السنن، ولاجتماعهم على الحق، وقيل للزومهم جماعة المسلمين (8) .
__________
(1) انظر: لسان العرب مادة سنن، جـ2، ص 222.
(2) شرح الطحاوية ص 430.
(3) انظر: الفتاوى جـ 3، ص 157، جامع الأصول جـ 2، ص 32، ولسان العرب مادة جمع.
(4) شرح الطحاوية ص 430.
(5) رواه أبو داود عن معاوية بن أبي سفيان في كتاب السنة باب شرح السنة، وأحمد في المسند برقم 1024 وإسناده صحيح. انظر: جامع الأصول حديث 7488.
(6) رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص في كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. انظر: جامع الأصول حديث 7491.
(7) انظر: لوامع الأنوار البهية جـ 1، 73 (الحاشية) ، والعقيدة الواسطية شرح محمد خليل هراس ص 183. (6)
(8) انظر: الفتاوى جـ 3، ص 157.(34/245)
ثانيا: مذهب أهل السنة والجماعة
هو مذهب سلف هذه الأمة وأئمة المسلمين كافة. وليتضح نضع أمامنا بعض النصوص من أقوال أئمة المسلمين، لنستنبط منها مذهب أهل السنة في هذه المسألة.
يقول ابن تيمية رحمه الله - وهو يتكلم عن وسطية أهل السنة بين الفرق - ". . . وهم في باب خلق الله وأمره وسط بين المكذبين بقدرة الله الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطلون الأمر والنهي والثواب والعقاب فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (1) الآية فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير يقدر أن يهدي العباد ويقلب قلوبهم وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده وأنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات، ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل وأنه مختار ولا يسمونه مجبورا إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختارا لما يفعله فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره وهذا ليس له نظير، فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله " (2) .
ويقول في موضع آخر: " ومما ينبغي أن يعلم أن مذهب سلف الأمة مع قولهم الله خالق كل شيء وربه ومليكه وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه على كل شي قدير وأنه هو الذي خلق العبد هلوعا. . . ونحو ذلك، أن العبد فاعل حقيقة وله مشيئة وقدرة. قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (3) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (4) (5) ".
__________
(1) سورة الأنعام الآية 148
(2) انظر: الفتاوى جـ3، ص 373 - 374.
(3) سورة التكوير الآية 28
(4) سورة التكوير الآية 29
(5) الفتاوى جـ 8، ص 117 - 118.(34/246)
ويقول في موضع آخر: ". . . الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر المخالفون للمعتزلة إثبات الأسباب وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسببات، والأسباب ليست مستقلة بالمسببات بل لا بد لها من أسباب أخر تعاونها ولها مع ذلك أضداد تمانعها والمسبب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه ويدفع عنه أضداده المعارضة له وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب وفعل العبد لا يكون بها وحدها بل لا بد من الإرادة الجازمة مع القدرة.
وإذا أريد بالقدرة القوة القائمة بالإنسان، فلا بد من إزالة الموانع كإزالة القيد والحبس ونحو ذلك. . . " (1) .
وقال الإمام ابن القيم - بعد أن حكى رأي الجبرية والقدرية -: ". . . فإن قيل فما تقولون أنتم في هذا المقام؟ قلنا: لا نقول بواحد من القولين: نقول هي أفعال العباد حقيقة ومفعولة للرب، فالفعل عندنا غير المفعول وهو إجماع من أهل السنة حكاه الحسين بن مسعود البغوي وغيره، فالعبد فعلها حقيقة والله خالقه وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة وخالق فاعليته. . . " (2) .
وقال في موضع آخر: " والصواب أن يقال: تقع الحركة بقدرة العبد وإرادته التي جعلها الله فيه، فالله سبحانه إذا أراد فعل العبد خلق له القدرة والداعي إلى فعله فيضاف الفعل إلى قدرة العبد إضافة المسبب إلى سببه، ويضاف إلى قدرة الرب إضافة المخلوق إلى الخالق. . . إلى أن قال: وإذا عرف هذا فنقول: الفعل وقع بقدرة الرب خلقا وتكوينا، كما وقعت سائر المخلوقات بقدرته وتكوينه وبقدرة العبد سببا ومباشرة، والله خلق الفعل والعبد فعله وباشره، والقدرة الحادثة وأثرها واقعان بقدرة الرب ومشيئته. . . . " (3) .
__________
(1) انظر: الفتاوى جـ8، ص 487 - 488.
(2) انظر: شفاء العليل ص 131.
(3) شفاء العليل ص 146 - 147.(34/247)
ويقول شارح الطحاوية: ". . . وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله تعالى، والحق سبحانه منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه، فالجبرية غلو في إثبات القدر. . . والقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى. . . وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فكل دليل صحيح يقيمه الجبري فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء. . . وكل دليل صحيح يقيمه القدري فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة وأنه مريد له مختار. . . فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم " (1) .
من هذه النصوص يتضح أن أهل السنة يرون أن الله عز وجل على كل شيء قدير فيقدر أن يهدي العباد ويقلب أفئدتهم، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وأنه خالق كل شيء. ويؤمنون بأن العبد له قدرة ومشيئة وعمل وأنه مختار فيما يفعله، والله خالقه وخالق قدرته ومشيئته وعمله واختياره، فعمل العبد فعل له حقيقة ومفعول لله تعالى، فهو يضاف إلى العبد إضافة المسبب إلى السبب ويضاف إلى الله إضافة المخلوق إلى الخالق والله أعلم.
__________
(1) شرح الطحاوية ص 493 - 494.(34/248)
الخاتمة
في آثار الإيمان بالقدر في حياة المسلم
الإيمان بالقدر أحد أصول العقيدة الإسلامية التي يجب على كل مسلم الإيمان بها، وله آثار محسوسة في حياة المسلم نشير إلى بعض منها:
1 - الإيمان بالقدر من أكبر الدواعي التي تدعو المؤمن إلى العمل كما أنه يبعث في القلوب الشجاعة والإقدام على عظائم الأمور بثبات وعزم.
ويدل على ذلك واقع السلف الذين كانوا خير هذه الأمة بعد نبيها وأفهم هذه الأمة لهذه العقيدة وأكملهم تطبيقا لها نرى واقعهم قبل الإسلام وبعد الإسلام، وما قاموا به من نشاط في تأسيس هذه الدولة المترامية الأطراف، كل ذلك بالله ثم بإيمانهم بهذه العقيدة التي تتضمن أنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله لهم، وأن لهم آجالا مكتوبة لن يتجاوزوها.
يقول عز وجل: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (1) .
وحكى الله عن المنافقين قولهم {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} (2) .
فرد عليهم سبحانه بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (3) .
2 - ومن آثار الإيمان بالقدر أن يعرف الإنسان قدر نفسه فلا يتعالى لأنه عاجز عن معرفة المقدور ومستقبل ما هو حادث، ومن ثم يقر الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه سبحانه وتعالى (4) .
__________
(1) سورة التوبة الآية 51
(2) سورة آل عمران الآية 154
(3) سورة آل عمران الآية 154
(4) انظر: لمحات في وسائل التربية الإسلامية وغاياتها، د. محمد أمين المصري ص 186.(34/249)
3 - الإنسان خلق محبا الخير لنفسه، كارها الشر لنفسه، يجزع منه كما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} (1) {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} (2) {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} (3) .
فإذا أصابه الخير بطر واغتر به، وإذا أصابه الشر جزع وحزن، ولا يعصم الإنسان من البطر إذا أصابه الخير والحزن إذا أصابه الشر إلا الإيمان بالقدر وأن ما وقع فقد جرت به المقادير وسبق به علم الله.
4 - الإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تفتك بالمجتمعات وتزرع الأحقاد بينها وذلك مثل رذيلة الحسد. فالمؤمن لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله لإيمانه بأن الله هو الذي رزقهم، وقدر لهم ذلك فأعطى من شاء ومنع من شاء ابتلاء وامتحانا منه سبحانه لخلقه، وأنه حين يحسد غيره إنما يعترض على المقدور.
5 - الإيمان بالقدر من أكبر العوامل التي تكون سببا في استقامة المسلم وخاصة في معاملته مع الآخرين فحين يتنقصه أحد أو يسيء إليه أو يرد إحسانه بالإساءة، أو ينال من عرضه بغير حق تجده يعفو؛ لأنه يعلم أن ذلك مقدور وهذا يحسن في حق نفسه، أما في حق الله فلا يجوز العفو والتعلل بالمقدور، لأن القدر يحتج به في المصائب لا في المعايب.
6 - الإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة، فهو دائم الاستعانة بالله يعتمد على الله ويتوكل عليه مع فعل الأسباب، وهو أيضا دائم الافتقار إلى ربه تعالى يستمد منه العون على الثبات ويطلب منه المزيد، وهو
__________
(1) سورة المعارج الآية 19
(2) سورة المعارج الآية 20
(3) سورة المعارج الآية 21(34/250)
أيضا كريم يحب الإحسان إلى الآخرين فتجده يعطف عليهم، والإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن الانكسار والاعتراف لله تعالى حين يقع منه الذنب ومن ثم يطلب من الله العفو والمغفرة، ولا يحتج بالقدر على ذنوبه - وإن كانت مقدرة عليه - لأنه يعلم أن الاحتجاج بالقدر على فعل الذنب باطل ومخالف للشرع.
7 - ومن آثار الإيمان بالقدر أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، لا يخاف في الله لومة لائم، ويفضح ما هم فيه من كفر وظلم وما يقومون به من إفساد وتضليل، يفعل المؤمن كل ذلك بعد اتخاذ الأسباب الواقية بإذن الله، وهو راسخ الإيمان واثق بالله متوكل عليه صابر على كل ما يحصل له في سبيله، لأنه مؤمن أن الآجال بيد الله وحده، والأرزاق عنده وحده، وما قدر الله سيكون وما لم يقدره لن يكون، وأن العباد لا يملكون من ذلك شيئا مهما وجد لهم من قوة وعون (1) .
هذه بعض آثار الإيمان بالقدر في حياة المسلم، ذكرتها باختصار ليسهل الاطلاع عليها. وهناك من الآثار ما لا يمكن حصره، وقد اكتفيت بما ذكرته إيثارا للإيجاز.
__________
(1) انظر: الإيمان وأثره في حياة الإنسان، د. حسن الترابي، ص 48، والإيمان، محمد نعيم ياسين ص 192.(34/251)
صفحة فارغة(34/252)
بعض ما يلاحظ على كتاب مفتاح كنوز السنة
بقلم: د. محمد عبد الله حياني.
أستاذ مساعد جامعة
الملك فيصل
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. . وبعد:
فإن صنع الفهارس الحديثية لا يتوقف على أطراف متن الحديث أو على مضمونه ومعناه أو على ألفاظه المشهورة فحسب، بل هناك فهارس لرجال الإسناد كفهارس الأسماء والكنى والألقاب والأبناء، وللرجال والنساء وللأسماء الصريحة والمبهمة والمشتبه منها.
ولم يكن صنع الفهارس بأنواعها وليد هذا العصر وإنما قام به المسلمون منذ القديم عبر قرون متلاحقة، والأدلة على ذلك كثيرة جدا، بل إن هذا الموضوع جدير بأن يفرد بالتأليف.(34/253)
فكتب الرجال بأنواعها المختلفة برع المسلمون في فهرستها منذ عهد الإمام البخاري رحمه الله تعالى ت 256 هـ حتى عصرنا الحاضر.
فقد ألف الإمام البخاري كتابه التاريخ الكبير والأوسط والصغير - وهي كتب في تاريخ الرجال وجرحهم وتعديلهم - مرتبا تراجمها حسب حروف الهجاء مما ييسر على الباحث الحصول على المراد منها.
ثم نسج على منواله كل من ألف في تاريخ الرجال سواء على مستوى رجال الأمصار دون تحديد مثل كتاب الجرح والتعديل للإمام أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي ت 327 هـ، أو بخصوص بلد معين أمثال تاريخ بغداد للإمام أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي ت 463 هـ، وكتاب تاريخ دمشق للإمام أبي القاسم علي بن الحسن المعروف بابن عساكر ت 571 هـ، وسواء كان مقتصرا على قرن معين ككتاب الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة للحافظ أحمد بن علي بن محمد المعروف بابن حجر العسقلاني ت 852 هـ، وكتاب الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للحافظ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن السخاوي ت 902 هـ، وغير هذه الكتب كثير جدا مما صنف في تاريخ الرجال بشتى أنواع التصنيف فيهم، سواء كانت فهرسة تلك الكتب حسب تسلسل حروف الهجاء أو سني الوفيات أو الطبقات.
أما متون الأحاديث ففي استخراجها من مظانها فهرس على طريقة الأطراف وفهرس على طريقة المضمون والمعاني وفهرس على طريقة ألفاظها المشهورة.
أما فهرسة الأطراف وهو أن يقتصر على ذكر طرف الحديث الدال على بقيته مرتبا حسب حروف الهجاء مع الجمع لأسانيده، إما على سبيل الاستيعاب أو على جهة التقيد بكتب مخصوصة (1) .
هذا النوع من الفهارس صنفه المحدثون في أواخر القرن الأول وذلك قبل سنة 96 للهجرة، فقد أخرج الإمام الدارمي بإسناده عن ابن عون قوله:
__________
(1) انظر الرسالة المستطرفة: 125.(34/254)
رأيت حمادا - يعني ابن أبي سليمان الكوفي ت 120 هـ - يكتب عن إبراهيم النخعي - ت 96 هـ - فقال له إبراهيم: ألم أنهك - يعني عن الكتابة -؟ قال: إنما هي أطراف (1) . أهـ.
وقد تلاحق صنع هذا النوع من الفهارس حتى صار في القرن الرابع وما بعده عملا مستقلا كأطراف الصحيحين لأبي مسعود الدمشقي: إبراهيم بن محمد بن عبيد ت 401 هـ، وأطراف الكتب الخمسة - البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي - لأبي العباس أحمد بن ثابت بن محمد الطرقي الأصبهاني ت بعد 520 هـ.
وكتاب تحفة الأشراف بمعرفة الطراف للحافظ أبي الحجاج المزي ت 742 هـ وهو بأطراف الكتب الستة، وكتاب ذخائر المواريث في الدلالة على مواضع الحديث للشيخ عبد الغني النابلسي الدمشقي ت 1141هـ، وهو بأطراف الكتب الستة وموطأ الإمام مالك (2) .
وهكذا تلاحقت هذه النوعية من الفهارس حتى زمننا الحاضر، فقل كتاب من كتب الستة ليس له فهرسة لأطراف أحاديثه.
أما فهرس المعنى والمضمون وهو: أن يستخلص معاني الأحاديث ومضمونها وتجعل كعنوان للباب ثم ترتب تلك المعاني ترتيبا هجائيا، ثم تذكر الأحاديث التي تنطوي تحت ذلك الباب مع العزو إلى أماكن وجودها في كتب السنة، وهو أصل منهج كتاب مفتاح كنوز السنة، وقد قام بهذا النوع من الفهرس الإمام مجد الدين أبو السعادات مبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير ت 606 هـ في كتابه جامع الأصول (3) .
أما فهرس الألفاظ المشهورة وهو: انتقاء الكلمة المشهورة من الحديث
__________
(1) 1 \ 99.
(2) انظر الرسالة المستطرفة: 125 - 127 ففيها مزيد من الأمثلة على ذلك.
(3) انظر تفصيل الإمام ابن الأثير لذلك قي مقدمة الكتاب 1 \ 5 / 6 - 61.(34/255)
بحيث يسهل على من حفظ الحديث أو قرأه معرفة تلك الكلمة، فتؤخذ تلك الكلمات المشهورة وترتب ترتيبا هجائيا، ثم يعزى الحديث الذي انتقيت منه تلك الكلمة إلى مواطنه من كتب السنة، وهو منهج المعجم المفهرس لألفاظ الحديث.
وقد قام بهذا النوع من الفهارس الإمام ابن الأثير الجزري أيضا في كتابه جامع الأصول، وقد جعل ذلك في الأحاديث المجهولة الموضع التي يمكن أن تنطوي تحت أبواب متعددة، فاستخلص منها الكلمات المشهورة ورسمها في آخر الكتاب الفقهي - ككتاب الطهارة مثلا - مرتبة حسب حروف الهجاء، ثم عزا بإزاء كل كلمة منها الحديث إلى أماكنه (1) .
وإذا علمنا قيام الإمام ابن الأثير بهذا النوع من الفهرسة فإن ذلك لا يمنع أن يكون هناك أحد من المحدثين قد تقدم عليه في صنع ذلك مما لم يصل إلينا خبره، لأنه قد عرف عن المحدثين صنع فهرس أطراف الحديث منذ القرن الأول الهجري فلا يبعد أن يكونوا قد طوروا عمل الفهارس إلى مستوى المعاني والألفاظ المشهورة قبل عهد الإمام ابن الأثير، وخاصة عندما كثرت دواوين السنة كمسند الإمام أحمد والكتب الستة في القرن الثالث وما بعده.
بعد هذا نخلص إلى أن الفهارس الحديثية صنعها المسلمون منذ القرن الأول الهجري وطوروها إلى أنواع مختلفة فيما بعد ذلك على صعيد الإسناد والمتن.
أما كتاب مفتاح كنوز السنة الذي طبع لأول مرة باللغة الإنجليزية سنة 1927م وترجمه الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي إلى اللغة العربية سنة 1934م،
__________
(1) انظر تفصيل الإمام ابن الأثير لذلك في مقدمة الكتاب 1 \ 67.(34/256)
وكتاب المعجم المفهرس الذي ظهر بمجلده السابع سنة 1969م، فيعتبران جهدا كبيرا نادرا قام به المستشرقون في هذا القرن.
هذا ولما ظهر كتاب مفتاح كنوز السنة باللغة العربية سنة 1934هـ لقي ترحيبا حارا من كل طالب علم في العالم الإسلامي منذ ذلك الحين وحتى اليوم لأنه يسر عليهم استخراج الحديث من أربعة عشر كتابا من كتب السنة بعد أن كان يعوزهم الجهد المتواصل والزمن الطويل لاستخراج الحديث الواحد أحيانا، بينما أصبح يسيرا لديهم بعد أن أصبح - كتاب - المفتاح بين أيديهم.
وهذا الأمر له أثره الكبير في تعميق جذور الثقة بالكتاب ولربما إلى حد كبير عند بعض طلاب العلم بحيث إنه إذا لم يجد الحديث في كتاب المفتاح آيس من وجوده في كتب السنة المعتمدة في التخريج لدى الكتاب، وهذا يعني أنه لم يفت كتاب المفتاح أي حديث من أحاديث كتب السنة المعتمدة لديه.
وهذا الموقف له خطره على السنة لو استمر الحال دون تنبيه وكشف النقاب عن النقص في الكتاب، فكشف النقاب عن ثغرات هذا الكتاب يضع الثقة به في الحدود المناسبة له دون زيادة.
ولما كنت أقوم بموازنة - في بحث الدكتوراه - بين رواية الإمام يحيى الليثي لموطأ الإمام مالك رحمه الله وبين رواية الإمام محمد بن الحسن الشيباني له، وكانت رواية الإمام يحيى الليثي بتحقيق الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي هي المعتمدة في التخريج لدى كتاب المفتاح أولا ثم لدى كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث بعد ذلك، تبين لي آنذاك خلل في ترقيم أحاديث الكتاب لم أعرف مسوغا له، وكان مفاد هذا الخلل:
الإهمال لبعض الآثار من الترقيم من جهة، ثم الترقيم لبعض فقه الإمام مالك من جهة أخرى، مما يدل على أن كتاب المفتاح قد أهمل بعض أحاديث الموطأ من التخريج، كما خرج مما ليس من موضوع التخريج وهو فقه الإمام مالك رحمه الله، فنبهت إلى هذا الخلل في مقدمة الرسالة، دون أن أعرف جذور الموضوع.(34/257)
وفي هذه الأيام أحببت أن أتعرف حقيقة الأمر، فهل ترقيم الموطأ وكتب السنة المعتمدة في التخريج لدى كتاب المفتاح هي من ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، أم من ترقيم صاحب المفتاح؟
وما هو مدى تأثر عملية العزو في كتاب المفتاح بذلك الخلل في الترقيم؟
وهل هناك خلل آخر في ترقيم أحاديث الموطأ؟
وهل هناك سلبيات في منهج العزو في كتاب المفتاح لا علاقة لها بالخلل في ترقيم كتب السنة؟
فقمت بالكشف عن ذلك والحمد لله في هذا البحث مما جعلني أعتقد بعد الكشف عن حقيقة الأمر بضرورة عدم منح الثقة الكاملة بالكتاب كما وقع في ذلك كثير من طلاب العلم.
بل قد تتبعت جذور ذلك أيضا في كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث فخلصت إلى نفس النتيجة، وسوف أنشر ما يتعلق بالمعجم المفهرس في بحث مستقل بعد هذا البحث إن شاء الله تعالى.
وإني عندما أقوم بمثل هذا العمل فلا أعني بذلك الطعن والتجريح في واضعي الكتابين، وإنما المراد هو تنبيه طالب الحديث إلى عدم الاقتصار في التخريج على الكتابين وعدم التسليم الكامل لما فيهما لأن العصمة عن الخطأ والزلل ليست إلا للأنبياء، عليهم الصلاة والسلام.
وهذا مع كامل التقدير والاعتراف بفضل هذا العمل الجليل والجهد المشكور لأهله.
والله من وراء القصد وهو ولي التوفيق، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(34/258)
ضرورة ترقيم كتب السنة ودور صاحب مفتاح كنوز السنة ومحمد فؤاد عبد الباقي في ذلك:
إن من أراد فهرسة كتب السنة سواء على طريقة المعاني والمضمون أو على طريقة الألفاظ المشهورة فإنه سيلجأ إلى ترقيم الكتب والأبواب والأحاديث وذلك توفيرا لحجم الفهرسة وتيسير الدلالة على موطن الحديث.
إذ لو لم يرقم ذلك لأضطر في العزو إلى ذكر عنوان الكتاب والباب مهما كان طول ترجمته.
يضاف إلى ذلك أنه إذا كانت أحاديث الباب كثيرة ففي هذه الحال سيضطر طالب الحديث - عن طريق مثل هذا الفهرس - إلى تتبع أحاديث الباب كله أو بعضه حتى يصل إلى المقصود.
بينما لو كانت الكتب والأبواب والأحاديث مرقمة فلا شك أن ذلك سيوفر حجما من الفهرسة نفسها كما يوفر جهدا وطاقة على طالب الحديث حيث إنه يستخرج الحديث بطريق الرقم المتسلسل وهذا أسرع.
أما دور صاحب مفتاح كنوز السنة آرنت بان فنسنك في هذا المجال فإنه لما عمد إلى فهرسة كتب السنة عن طريق كتابه مفتاح كنوز السنة ثم كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث قام بترقيم كتب السنة التي اعتمدها في التخريج عن طريق كتابه المفتاح وهي 14 كتابا:
الصحيحان، سنن أبي داود، سنن الترمذي، سنن النسائي، سنن ابن ماجه، مسند الإمام أحمد بن حنبل، موطأ الإمام مالك، سنن الدارمي، مسند أبي داود الطيالسي، سيرة ابن هشام، المغازي للواقدي، الطبقات الكبرى لابن سعد، المسند المنسوب للإمام زيد بن علي.
أما مسند الطيالسي فقد اعتمد فيه على طبعة حيدر أباد سنة 1321هـ وكتاب مسند زيد بن علي على طبعة ميلانو سنة 1919م وأحاديث الكتابين لها أرقام متسلسلة فأشار إلى أرقامها فيهما.(34/259)
واعتمد في مسند الإمام أحمد على طبعة القاهرة سنة 1313هـ وأحال فيها إلى الجزء والصفحة، وفي طبقات ابن سعد على طبعة ليدن سنة 1904م، وفي سيرة ابن هشام على طبعة غوتنغن سنة 1859م، وفي مغازي الواقدي على ترجمتها المطبوعة في برلين سنة 1882م. وقد أشار إلى أرقام الصفحات في كل منها، ولكثرة الطبعات في باقي الكتب وهي: الستة والموطأ والدارمي اعتمد على أرقام اخترعها لكل واحد منها باصطلاح له أبان عنه في مقدمة كتابه المفتاح وذلك أنه قسم كلا منها ما عدا صحيحي البخاري ومسلم وموطأ الإمام مالك إلى كتب أو مجموعات للأبواب وكل كتاب إلى الأبواب التي ذكرها مؤلفة فيها وجعل لكل كتاب منها رقما متتابعا، ثم لكل باب من كتاب رقما متتابعا أيضا، وأشار إلى مواضع الأحاديث بأرقام الكتب والأبواب إلا في كتاب التفسير من صحيح البخاري وهو المرقوم برقم 65، ومن صحيح مسلم وهو برقم 54، ومن سنن الترمذي وهو برقم 44، فاعتمد على عدد سور القرآن وأشار إلى كل سورة برقمها في موضعها من المصحف.
أما صحيح البخاري فإن طبعة ليدن فيها أرقام الكتب والأبواب من عمل مصححها، وأما صحيح مسلم فإنه ليس فيه تراجم للأبواب من عمل مؤلفه بل التراجم التي كتبت على حاشيته من وضع الشراح الذين جاءوا بعده وأهمهم الإمام النووي رحمه الله.
ويوجد في صحيح مسلم كثير من المتابعات وهي الأسانيد التي يروي بها حديثا تأكيدا للإسناد الأول الذي رواه به، فالراوي الثاني يتابع الراوي الذي ذكره قبله في روايته ويؤيده.
فرأى صاحب المفتاح أن يعتبر الأحاديث الأصول في الأبواب ويدع الإشارة إلى المتابعات، ورقم الأحاديث الأصول في كل كتاب من كتب صحيح مسلم بأرقام متتابعة يشير إليها في كتابه.
وأما موطأ الإمام مالك فإن صاحب المفتاح قسمه إلى كتب لأنه لم يكن مقسما تقسيما واضحا، ثم وضع أرقاما متتابعة للكتب وللأحاديث فقط وترك(34/260)
ما لا يحتوي إلا على آراء مالك وغيره من الأئمة لأنها ليست من مقاصد هذا الفهرس.
والطبعات التي اعتمد عليها في تقسيم الكتب والأبواب في الكتب الثمانية هي البخاري طبعة ليدن سنة 1862م، 1868م، 1907م، 1908م، ومسلم طبعة بولاق 1290هـ، والنسائي طبعة القاهرة سنة 1312هـ، وابن ماجه طبعة القاهرة سنة 1313هـ، والدارمي طبعة دلهي سنة 1337هـ، والموطأ طبعة القاهرة سنة 1279هـ (1) . اهـ. من كلام الشيخ أحمد شاكر بتصرف يسير.
أما دور الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي في الترقيم فإنه لما كان ترقيم صاحب المفتاح لكتب السنة باللغة الإنجليزية قام الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي بترجمة تلك الأرقام إلى اللغة العربية على نسخ من كتب السنة المطبوعة لتكون مطابقة تماما للأرقام التي اعتمدها صاحب المفتاح.
قال الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي: اعلموا أيها الإخوان أن كتابي مفتاح كنوز السنة والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي يتفقان في أن الغرض من وضعهما تيسير الاهتداء إلى الحديث النبوي الشريف في كتاب الصحاح والسنن والمسانيد والمغازي والطبقات، ويختلفان في أن الأول منهما مرتب حسب الأغراض والمعاني والموضوعات، ويتناول البحث في أربعة عشر كتابا، وقد وضع بالإنجليزية عام 1927م ونقل إلى اللغة العربية، وأن الثاني منهما مرتب حسب الألفاظ وهو يوضع باللغة العربية ويتناول البحث في تسعة كتب من الأربعة عشر وقد ابتدئ في نشره عام 1933م فصدر منه إلى الآن ثلاثة أجزاء ويشتغلون الآن في طبع الجزء الرابع وقد وصلوا إلى حرف الثاء، ويتفقان في أنهما يدلان على موضع كل حديث في الصحاح والسنن ببيان رقم الكتاب أو اسمه وبيان رقم الباب.
__________
(1) انظر مقدمة مفتاح كنور السنة تعريف الشيخ أحمد شاكر بالكتاب صفحة. ظ - ع - 1.(34/261)
ولما كانت هذه الأصول غير معدودة الكتب والأبواب ما عدا صحيح البخاري فقد دعت الحاجة إلى تقسيم كل أصل من الأصول السبعة الباقية إلى كتب ووضع رقم متتابع لكل كتاب منها، ثم تقسيم كل كتاب إلى أبواب، ووضع رقم متتابع لكل باب منها كذلك، اللهم إلا في صحيح مسلم وموطأ مالك، فقد قسم كل كتاب فيها إلى أحاديث ووضع لكل حديث رقم متتابع.
هذا ولما كانت طبعات كل أصل من هذه الأصول تختلف فيما بينها في عدد الكتب والأبواب، ولما كان تقسيمها وترقيمها جاء على غير مثال يحتذى فقد نشأت صعوبات جمة لا يمكن تلافيها إلا بنشر فهارس لكل أصل من الأصول الثمانية تكون أرقام كتبها وأبوابها وأحاديثها مطابقة لأرقام كتب وأبواب وأحاديث النسخ الأصلية التي قسمها وعدها واضعو المعجمين المذكورين (1) . اهـ.
وقال أيضا في مقدمته لكتاب الموطأ بتحقيقه وترقيمه:
لما اتجهت نية جماعة المستشرقين إلى وضع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي واختارت لذلك من كتب السنة الكتب الستة مع مسند الدارمي وموطأ مالك، رأت أن الدلالة على موضع الحديث بذكر اسم الكتاب أو الباب أو الحديث من هذه الأصول الثمانية فيه إطالة وإضاعة وقت وإسراف يمكن تحاشيه بالإشارة إلى اسم الكتاب أو الباب أو الحديث برقم يدل على كل منها، لهذا عمدت إلى وضع أرقام مسلسلة لكل كتاب ولكل باب من هذه الأصول وزادت على ذلك بترقيم أحاديث كل كتاب في صحيح مسلم وموطأ مالك.
وعلى هذا النظام اعتمد الدكتور أ. ي. ونسنك في كتابه مفتاح كنوز
__________
(1) انظر تيسير المنفعة المقدمة لسنن الترمذي. علما أن أرقام صفحات كل فهرس مستقلة.(34/262)
السنة الذي أخرجه بالإنجليزية عام 1927م ونقلته إلى العربية عام 1934م، لهذا رقمت كل كتاب من كتب الموطأ وكل باب وكل حديث من كل باب، بأرقام مسلسلة مطابقة لأرقام النسخة التي اعتمد عليها في العمل في مفتاح كنوز السنة والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث (1) . اهـ.
فصريح كلامه هذا والذي قبله يدل على أن ترقيمه لكتب وأبواب وأحاديث كتب السنة مطابق تماما للأرقام التي اعتمدها واضعو كتاب مفتاح كنوز السنة والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث، علما أن المطابقة هي الأصل ولولاها لضر ذلك في الانتفاع بالمعجمين.
هذا وقد قمت بالمقابلة بين أرقام الكتب والأبواب والأحاديث لكتب السنة الثمانية التي وضعها صاحب المفتاح وذكر فهرسها في مقدمة كتابه وبين الأرقام التي وضعها الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي المطابقة لأرقام صاحب المفتاح والتي فهرسها في كتابه تيسير المنفعة، كي يتبين للقارئ مدى التطابق بين الترقيمين الذي تعهده الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي.
وقد تبين لي التطابق بينهما إلا في النزر اليسير جدا حيث حصل اختلاف يسير بينهما في ترقيم بعض الكتب والأبواب والأحاديث، أما أرقام الكتب فلم يحصل بينهما اختلاف إلا في بعضها من صحيح مسلم فحسب، أما الاختلاف في الأبواب والأحاديث فقد حصل في الكتب الثمانية ما عدا صحيح الإمام البخاري، هذا وسوف أوضح ذلك الاختلاف عن طريق جداول.
وقبل أن أذكر الجداول أحب أن أنبه إلى أن الترقيم اختص بالكتب الستة وموطأ الإمام مالك وسنن الدارمي، وكان الترقيم لصحيح مسلم وموطأ مالك قد اختص بالكتب والأحاديث دون الأبواب أما باقي الكتب الثمانية فكان للكتب والأبواب، وقد تقدم تفصيل ذلك.
__________
(1) صفحة (زي) .(34/263)
(الجداول)
(1) صحيح الإمام مسلم:
اسم الكتاب ... أحاديث الكتاب عند محمد فؤاد عبد الباقي ثم رقم الصفحة من تيسير المنفعة ... عدد أحاديث الكتاب عند صاحب المفتاح ثم رمز الصفحة
الجنائز ... 107 \ 35 ... 108 - هـ 16
النكاح ... 143 \ 55 ... 110 - هـ 17
الرضاع (1) ... 63 \ 56 ... 134 - هـ 18
الطلاق ... 67 \ 58 ... 32 - هـ
اللعان ... 20 \ 58 ... 19 - هـ
الفرائض ... 18 \ 63 ... 21 - هـ
التوبة ... 59 \ 104 ... 60 - د
(2) موطأ الإمام مالك:
اسم الكتاب ... عدد أحاديث الكتاب عند محمد فؤاد عبد الباقي ثم رقم الصفحة من تيسير المنفعة ... عدد أحاديث الكتاب عند صاحب المفتاح ثم رمز الصفحة
الصلاة في رمضان ... 7 \ 7 ... 6 - ل
القبلة ... 15 \ 12 ... 14 - ل
القرآن ... 50 \ 14 ... 49 - ل
الزكاة ... 56 \ 17 ... 55 - ل
الاعتكاف ... 16 \ 19 ... 17 - ل
الرضاع ... 17 \ 35 ... 18 - ل
الحدود ... 35 \ 43 ... 23 - م
__________
(1) ترتيب هذا الكتاب عند صاحب المفتاح بعد كتاب الطلاق فرقم الرضاع 18 والطلاق 17.(34/264)
(3) سنن الإمام أبي داود
اسم الكتاب ... عدد أحاديث الكتاب عند محمد فؤاد عبد الباقي ثم رقم الصفحة من تيسير المنفعة ... عدد أحاديث الكتاب عند صاحب المفتاح ثم رمز الصفحة
الحروف والقراءات ... 40 \ 34 ... 39 - ز
(4) سنن الإمام النسائي:
اسم الكتاب ... عدد أحاديث الكتاب عند محمد فؤاد عبد الباقي ثم رقم الصفحة من تيسير المنفعة ... عدد أحاديث الكتاب عند صاحب المفتاح ثم رمز الصفحة
الرقى ... 2 \ 42 ... 1 - ط
الزينة ... 123 \ 54 ... 122 - ي
(5) سنن الإمام ابن ماجه:
اسم الكتاب ... عدد أحاديث الكتاب عند محمد فؤاد عبد الباقي ثم رقم الصفحة من تيسير المنفعة ... عدد أحاديث الكتاب عند صاحب المفتاح ثم رمز الصفحة
أبواب الأذان ... 7 \ 5 ... 6 - ي
الزكاة ... 28 \ 14 ... 27 - ي
اللباس ... 47 \ 30 ... 36 - ك(34/265)
(6) سنن الإمام الدارمي:
اسم الكتاب ... عدد أحاديث الكتاب عند محمد فؤاد عبد الباقي ثم رقم الصفحة من تيسير المنفعة ... عدد أحاديث الكتاب عند صاحب المفتاح ثم رمز الصفحة
الزكاة ... 38 \ 10 ... 37 - ك
الأطعمة ... 42 \ 15 ... 41 - ك
النذور والإيمان ... 12 \ 18 ... 11 - ك
الجهاد ... 40 \ 19 ... 39 - ك
السير ... 83 \ 1 ... 81 - ك
الفرائض ... 56 \ 28 ... 55 - ك
ولدى النظر في هذه الجداول يظهر أن الاختلاف بين ترقيم صاحب المفتاح وبين ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي كان في التقديم والتأخير بين كتاب الرضاع وكتاب الطلاق من صحيح مسلم مع التصرف زيادة ونقصا في عدد أحاديثهما.
كما أن هناك تفاوتا ملحوظا بين عدد الأحاديث في كتاب الحدود من الموطأ، أما باقي الاختلاف فيما بين الترقيمين فقد كان في حديث واحد أو اثنين أو ثلاثة، أو في باب واحد من الأبواب، ويمكن تعليل ذلك كالآتي:
أما الاختلاف في تقديم وتأخير كتاب الطلاق والرضاع فإنه ناتج عن اجتهاد أو اختلاف النسخ ولا يضر ذلك إذا لم يحذف من الأحاديث شيء.
والواقع هناك تفاوت كبير بين عدد أحاديث النكاح والطلاق والرضاع إذ أن عدد أحاديثها عند صاحب المفتاح: النكاح = 110، الطلاق =32، الرضاع = 134.(34/266)
وعند محمد فؤاد عبد الباقي: النكاح = 143، الطلاق= 67، الرضاع = 63، وهكذا تفاوت كبير في عدد الأحاديث غير أنه لا يضر وذلك لأنه تبين أن مجموع أحاديث النكاح والطلاق والرضاع عند الطرفين متفق إلا في ثلاثة أحاديث يحتمل أنه قد حصل التفاوت فيها بسبب الاختلاف في أسلوب العد، إذ المجموع عند صاحب المفتاح 276 حديثا وعند محمد فؤاد عبد الباقي 273 حديثا.
فلو اعتبرنا ترتيب وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي فيكون صاحب المفتاح قد اجتزأ (33) حديثا من النكاح، وعدده عند الآخر (143) حديثا وضمها إلى الرضاع، كما اجتزأ من الطلاق (38) حديثا وعدده عند الآخر (67) وضمها إلى الرضاع أيضا، كي يصبح عدد أحاديثه عنده (134) علما أن عدد أحاديثه عند الآخر (63) .
وإن اعتبرنا ترتيب وتقسيم صاحب المفتاح فيكون الآخر قد اجتزأ من الرضاع (33) حديثا، وعدد أحاديثه عند صاحب المفتاح (134) وضمها إلى النكاح، ثم اجتزأ من الرضاع أيضا (38) حديثا وضمها إلى الطلاق.
والمهم في المسالة أن عدد الأحاديث لم يتغير عند الطرفين فكان الاختلاف شكليا لا أكثر.
أما التفاوت الملحوظ في عدد أحاديث كتاب الحدود من الموطأ فعدد أحاديثه عند صاحب المفتاح (23) حديثا وعند الآخر (35) حديثا ولكن لدى النظر في كتاب المفتاح تبين أن صاحب المفتاح قد عزا إلى أحاديث من كتاب الحدود بعد رقم (23) وهي: 28 (1) ، 29 (2) ، 30 (3) ، 34 (4) ، مما
__________
(1) انظر صفحة 148 من المفتاح تحت معنى: (العفو عن الحدود ما لم تبلغ السلطان) .
(2) انظر صفحة 149 تحت معنى: (إقامة الحدود على الشريف) .
(3) انظر صفحة 149 تحت معنى: (عقوبة السارق) .
(4) انظر صفحة 149 معنى: (ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع) .(34/267)
يدل على أن نقل الرقم من الإنجليزية إلى العربية كان فيه سهو، أو كان خطئا مطبعيا والله أعلم.
أما الاختلاف بينهما في حديث أو ثلاثة أو في باب واحد، فإن ذلك يعود إلى الاختلاف في أسلوب العد والاجتهاد فيه في بعض الأحيان لا أكثر فإذا حصل اختلاف في أسلوب العد في كتاب النكاح والرضاع والطلاق - كما سبق بيانه - فلا يبعد أن يطرأ في باب واحد أو حديث واحد، إذ من غير المستبعد أن يضم بابان تقاربت معانيهما تحت باب واحد، أو يفرق باب واحد إلى بابين كذلك.
ولعل هذا الاختلاف النسبي والذي حدث عن اجتهاد من محمد فؤاد عبد الباقي هو مما عناه الأستاذ محمد رشيد رضا في تقريظه لكتاب المفتاح، فبعد أن نوه فيه بدور محمد فؤاد عبد الباقي في نقله الكتاب وترقيم أصوله من الإنجليزية إلى العربية حيث قال: تلافى به - محمد فؤاد عبد الباقي - تقصير المؤلف فصحح ما فطن له من الأصل من خطأ بمراجعة تلك الكتب كلها في مظانها بعد وضع الأرقام لما بين يديه من نسخها (1) . اهـ.
بعد هذا لو أردنا أن نقارن ما اختلف فيه من الأبواب وهي (12) بابا بالرقم المتفق عليه وهو حوالي (15000) باب في كتب السنة الثمانية لأيقنا أن نسبة الاختلاف ضئيلة جدا ولا تذكر نسبتها برقم صحيح. وكذا لو قارنا ما اختلف فيه في عدد الأحاديث وهي في صحيح مسلم (7) أحاديث بما رقمه صاحب المفتاح من صحيح مسلم وهو يزيد على أربعة آلاف حديث لأيقنا أن (7) أحاديث إزاء هذا الرقم ليس اختلافا، وهكذا الشان في الموطأ إذ الاختلاف، بينهما في (6) أحاديث، علما أن مجموع ما رقمه صاحب المفتاح من أحاديث الموطأ يزيد على (1700) حديث، هذا مع ملاحظة أن الاختلاف أمر اجتهادي شكلي لا يؤثر على المادة الأصل.
__________
(1) انظر صفحة ش.(34/268)
وإذا علمنا ذلك أيقنا أن المطابقة في الترقيم بين ترقيم صاحب المفتاح وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي هي مطابقة كاملة، وهذا يعني بدوره أننا عندما نعتمد ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي فإننا نعتمد في الحقيقة ترقيم صاحب المفتاح، وإذا كان الأمر كذلك فقول صاحب المفتاح في مقدمة كتابه: إذا لم يجد الباحث طلبته في الباب المدلول عليه بالعدد فليتقدمه بباب أو بابين أو ليتأخر عنه بباب أو بابين فإنه لا بد ظافر بالذي يريد، ومنشأ ذلك اختلاف عدد الأبواب باختلاف الطبعات اللهم إلا في صحيح البخاري إذا ما رقمت نسخته طبق النسخة المطبوعة في ليدن فإنها معدودة الكتب والأبواب (1) . اهـ.
فهذا القول إنما ينسحب على النسخ التي هي بغير ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي المطابق لترقيم صاحب المفتاح.
وينسحب عرضا - لا قصدا من صاحب المفتاح - على يسير الاختلاف الذي حصل بين ترقيم صاحب المفتاح ومحمد فؤاد عبد الباقي والله أعلم.
__________
(1) انظر صفحة: م.(34/269)
تعريف عام بكتاب الموطأ:
إن كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس هو كتاب حديث وفقه، جمع فيه بين الحديث المرفوع والموقوف والمقطوع وما استنبطه هو من فقه من تلك الأحاديث.
وكان الإمام مالك متحريا في الرواية منتقيا للرجال أحسن الانتقاء منتقدا للرجال أشد الانتقاد، لذلك جعله أهل الحديث آنذاك مصدرا حديثيا معتمدا عليه في الاحتجاج بأحاديثه من حيث الجملة - مع أن فيه المرسل والبلاغ - حتى ظهر صحيح الإمام البخاري الذي تقدم على الموطأ في الصحة وذلك لأن الإمام البخاري جرد صلب الكتاب من البلاغات والمراسيل وإنما ذكرها في تراجم الأبواب على سبيل الاستشهاد بها لا أكثر، والمعول في كتابه على أحاديث الصلب لا التراجم.(34/269)
ومع تقدم صحيح البخاري في الصحة لم يفقد الموطأ تلك المكانة كمصدر من مصادر السنة المشهورة ذات المكانة المرموقة.
هذا وقد ضم الموطأ نحوا من (1843) حديثا ما بين مرفوع وموقوف ومقطوع وزعها الإمام مالك في الكتب والأبواب التي اجتهد في تصنيفها.
وقد بلغ عدد الكتب (61) كتابا وعدد الأبواب (803) أبواب، وهذه الأبواب لا تخلو من أحاديث مرفوعة أو موقوفة أو مقطوعة.
ومن عادة الإمام مالك في الغالب أن يذكر عقب تلك الأحاديث ما استنبطه منها من فقه، ولكن هناك ما يقرب من 100 باب خلت أصلا من أي حديث وإنما خصها الإمام مالك لفقهه.
كما أن من عادة الإمام مالك حينما يذكر فقهه يستدل لذلك بعمل أهل المدينة قائلا: " وهذا أحسن ما سمعت من أهل العلم " أو " وهذا عليه العمل عندنا "، وما أشبه ذلك، وهذا الجانب يزيد على 300 موطن في الكتاب.
بعد هذا العرض يتبين لنا أن الذي يهم طالب الحديث من الموطأ هو ما أخرجه الإمام مالك من الحديث لا ما ذكره من فقهه ولا ما احتج به من عمل أهل المدينة.
هذا وسوف يظهر للقارئ هل نهج صاحب مفتاح كنوز السنة وصانعو المعجم المفهرس على تخريج أحاديث الكتاب فحسب، أم أنهم أدخلوا في التخريج ما ليس من موضوعه؟(34/270)
منهج كتاب مفتاح كنوز السنة:
صدر كتاب مفتاح كنوز السنة للأستاذ آرنت يان ونسنك سنة(34/270)
1927 م باللغة الإنجليزية، ونقله إلى العربية الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي سنة 1934 (1) ، ومنهج الكتاب يتضح بالتالي:
أولا: إن صاحب الكتاب عول في فهرسة الأحاديث على كتب السنة الآتية وهي: الكتب الستة، مسند الإمام أحمد، موطأ الإمام مالك، مسند أبي داود الطيالسي، سنن الدارمي، سيرة ابن هشام، مغازي الواقدي، طبقات ابن سعد، المسند المنسوب لزيد بن علي (2) .
ثانيا: لم يذكر كل حديث من أحاديث الكتب المذكورة للإحالة إلى مواطنها في الكتب المذكورة ولو فعل ذلك لجاء كتابه ضعف كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، ولكنه نظر في أصول تلك الأحاديث التي يجمعها باب واحد فصاغ لها معنى عاما يمكن أن ينطوي تحته أحاديث متعددة فأثبته في المفتاح ثم جعل يشير إلى أماكن وجود تلك الأحاديث التي انطوت تحته في كتب السنة السالفة الذكر، كما رتب تلك المعاني العامة على حروف المعجم.
قال الشيخ أحمد شاكر في تعريفه بكتاب مفتاح كنوز السنة: وقد رتب الأستاذ ونسنك كتابه على المعاني والمسائل العلمية والأعلام التاريخية وقسم كل معنى أو ترجمة إلى الموضوعات التفصيلية المتعلقة بذلك ثم رتب عناوين الكتاب على حروف المعجم، واجتهد في جمع ما يتعلق بكل مسالة من الأحاديث والآثار الواردة في هذه الكتب (3) 0 اهـ.
وقال الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي: اعلموا أيها الإخوان أن كتابي مفتاح كنوز السنة والمعجم المفهرس لألفاظ الحديث يتفقان في أن الغرض من
__________
(1) انظر مقدمة الموطأ صفحة (زي) و (حي) .
(2) انظر الصفحة الثانية من مقدمة مفتاح كنوز السنة.
(3) تعريف الشيخ أحمد شاكر بكتاب المفتاح والمطبوع في مقدمة الكتاب \ انظر صفحة (غ) .(34/271)
وضعهما تيسير الاهتداء إلى الحديث النبوي الشريف في كتاب الصحاح والسنن والمسانيد والمغازي والطبقات ويختلفان في أن الأول منهما مرتب حسب الأغراض والمعاني والموضوعات، وأن الثاني منهما مرتب حسب الألفاظ (1) . اهـ. بتصرف يسير.
ثالثا: وضع صاحب الكتاب أرقاما متسلسلة للكتب والأبواب، وأرقاما متسلسلة للأحاديث في كتاب صحيح مسلم والموطأ، أما باقي الكتب التي اعتمدها في الفهرسة فرقم كتبها وأبوابها فقط، وقد تقدم توضيح ذلك والدليل عليه مفصلا (2) .
لذلك يعزو كتاب مفتاح كنوز السنة إلى أرقام الكتب والأحاديث من الموطأ وصحيح مسلم أما باقي الكتب فإنه يعزو إلى أرقام الكتب والأبواب.
ولا يفوتني أن أنبه إلى أن واضعي المعجم المفهرس لألفاظ الحديث اعتمدوا ترقيم صاحب المفتاح في عملهم وقد نص على ذلك أحد المشاركين في عمل المعجم المفهرس وهو الأستاذ يان يوست ويتكام الذي صنع فهرس المعجم المفهرس وهو المجلد الثامن يقول: إن نفس الجذاذات التي استخدمت كأساس في تأليف المفتاح استخدمت في تأليف المعجم على السواء (3) . اهـ. بتصرف يسير.
وسوف يأتي مزيد إيضاح لذلك إن شاء الله في بحثي: بعض ما يلاحظ على كتاب المعجم المفهرس لألفاظ الحديث.
__________
(1) انظر المقدمة لصحيح البخاري وسنن الترمذي من كتاب تيسير المنفعة وسنن ابن ماجه 2 \ 1525.
(2) انظر كلام الشيخ أحمد شاكر ومحمد فؤاد عبد الباقي في هذه المسألة صفحة 10 - 11.
(3) المعجم المفهرس 8 \ ز.(34/272)
الدليل على أن كتاب مفتاح كنوز السنة لم يستوعب جميع أحاديث الكتب التي اعتمدها في التخريج:
لا شك أن المقصود من ترقيم أحاديث كتب السنة هو معرفة مجموع الأحاديث الواردة في تلك الكتب أولا.
وثانيا: تيسير استخراج تلك الأحاديث من أماكن وجودها في تلك الكتب عن طريق الفهارس الحديثية.
وأن كتاب الموطأ بما اشتمل عليه من أحاديث مرفوعة وموقوفة ومقطوعة وفقه الإمام مالك فالمقصود من ترقيمه هو الحصول على الفائدتين المذكورتين آنفا، ويتم ذلك عن طريق ترقيم أحاديثه فقط طالما كان عمل الفهارس من أجل تيسير استخراج الأحاديث من الموطأ لا استخراج فقه الإمام مالك.
وأنه لدى النظر في ترقيم صاحب المفتاح للموطأ تبين أن المقصود الأول من ترقيم الأحاديث -وهو معرفة مجموع أحاديث الكتاب- غير حاصل مطلقا وذلك لأنه أهمل من الترقيم 87 أثرا، أربعة منها مرفوعة والباقي بين الموقوف والمقطوع.
أما الفائدة الثانية من الترقيم فإنها محققة فيما عدا الـ 87 أثرا المهملة وأن صاحب المفتاح معذور في إهماله لهذا الكم من الآثار لأنه يتفق مع منهجه، لأنه لما كانت طريقته في الفهرسة على المعاني فإنه يكتفي عندئذ ولو بترقيم حديث واحد من أحاديث متعددة كلها تتفق في أصل المعنى وتحت باب واحد وخاصة إذا كانت القصة واحدة، فإذا عزا إلى ذلك الحديث المرقم فتدخل عندئذ باقي الأحاديث التي لم يرقمها في التخريج تبعا.
غير أنه لا يعذر في إهماله لبعض الآثار التي تنتظم معنى وبابا مستقلا كما لا يعذر في إدخاله في حلقات التخريج فقه الإمام مالك.
هذا ولمزيد من التثبت من أنه لم يذكر في المفتاح جميع الآثار المهملة من(34/273)
الترقيم فقد قمت بالتفتيش عنها في كتاب المفتاح فلم أجد لها ذكرا.
بعد هذا فعلى طالب الحديث أن يقلص من نسبة اليقين باستيعاب كتاب المفتاح لجميع أحاديث الموطأ.
وسأذكر مواطن تلك الآثار المهملة من الترقيم، ثم أذكر عقب ذلك الآثار التي أهملها ولا يعذر في إهمالها.(34/274)
الآثار التي أهملها صاحب المفتاح من الترقيم من كتاب الموطأ:
بما أن ذكر تلك الآثار يطول؛ لذلك سوف أقتصر على ذكر اسم الكتاب والباب ورقم الصفحة التي ورد فيها الأثر.
الآثار المرفوعة صفحة
1 - كتاب الصلاة، باب ما جاء في التامين خلف الإمام 87
2 - كتاب قصر الصلاة في السفر، باب الجمع بين الصلاتين في الحضر والسفر 145
3 - الجنائز، باب جامع الجنائز 242
4 - الرؤيا، باب ما جاء في الرؤيا 956
5 - كتاب الطهارة، باب وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة 22
6 - كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء مما مست النار 26
7 - كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة 77
8 - كتاب الصلاة، باب إتمام المصلي ما ذكر إذا شك في صلاته 96
9 - كتاب الجمعة، باب الهيئة وتخطى الرقاب واستقبال الإمام يوم الجمعة 110
الآثار الموقوفة:
10 - كتاب الصلاة في رمضان، باب ما جاء في قيام رمضان 116
11 - كتاب صلاة الجماعة، باب ما جاء في العتمة والصبح 132
12 - كتاب قصر الصلاة في السفر، باب ما يجب فيه قصر الصلاة 147(34/274)
13 - كتاب قصر الصلاة في السفر، باب صلاة المسافر إذا كان إماما أو كان وراء الإمام 149
14 - كتاب قصر الصلاة في السفر، باب صلاة النافلة في السفر بالنهار والليل والصلاة على الدابة 151
15 - كتاب قصر الصلاة في السفر، باب الرخصة في المرور بين يدي المصلي 156
16 - كتاب قصر الصلاة في السفر، باب جامع الصلاة 173
17 - كتاب صلاة العيدين، باب ترك الصلاة قبل العيدين وبعدهما 181
18 - كتاب الزكاة، باب النهي عن التضييق على الناس في الصدقة 267
19 - كتاب الصوم، باب من أجمع الصيام قبل الفجر 288
20 - كتاب الحج، باب قطع التلبية في العمرة 343
21 - كتاب الحج، باب ما جاء فيمن أحصر بغير عدو 262
22 - كتاب الحج، باب العمل في الهدي حين يساق 379
23 - كتاب الحج، باب العمل في الهدي حين يساق (أثر آخر) 379
24 - كتاب الحج، باب العمل في الهدي حين يساق (أثر آخر) 379
25 - كتاب الحج، باب العمل في الهدي إذا عطب أو ضل 381
26 - كتاب الحج، باب العمل في الهدي إذا عطب أو ضل (أثر آخر) 381
27 - كتاب الحج، باب صيام التمتع 426
28 - كتاب الأيمان والنذور، باب العمل في كفارة اليمين 479
29 - كتاب الطلاق، باب عدة التي تفقد زوجها 576
30 - كتاب الطلاق، باب يمين الرجل بطلاق ما لم ينكح 585
31 - كتاب الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل 592
32 - كتاب الحدود، باب الحد في القذف والنفي والتعريض 829
33 - كتاب العقول، باب ما جاء في عقل الشجاج 859
34 - كتاب العقول، باب جامع عقل الأسنان 861(34/275)
35 - كتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، باب جامع ما جاء في الطعام والشراب 933
36 - كتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، باب جامع ما جاء في الطعام والشراب 936
37 - كتاب الرؤيا، باب ما جاء في النذر 958
الآثار المقطوعة:
38 - كتاب الطهارة، باب وضوء النائم إذا قام إلى الصلاة 21
39 - كتاب الطهارة، باب العمل في المسح على الخفين 38
40 - كتاب الصلاة، باب ما جاء في النداء للصلاة 72
41 - كتاب الصلاة، باب العمل في القراءة 81
42 - كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة 92
43 - كتاب الجمعة، باب ما جاء في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب 104
44 - كتاب العيدين، باب ترك الصلاة قبل العيدين وبعدهما 181
45 - كتاب الأيمان والنذور، باب من نذر مشيا إلى بيت الله فعجز 473
46 - كتاب الذبائح، باب ما يجوز من الذكاة في حال الضرورة 490
47 - كتاب النكاح، باب إرخاء الستور 529
48 - كتاب النكاح، باب النهي عن أن يصيب الرجل أمة كانت لأبيه 539
49 - كتاب الطلاق، باب ما لا يبين من التمليك 555
50 - كتاب الطلاق، باب الإيلاء 557
51 - كتاب الطلاق، باب إيلاء العبد 558
52 - كتاب الطلاق، باب ظهار العبد 560
53 - كتاب الطلاق، باب ميراث ولد الملاعنة 570
54 - كتاب الطلاق، باب جامع عدة الطلاق 582
55 - كتاب الطلاق، باب عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها 593(34/276)
56 - كتاب الرضاع، باب رضاعة الصغير 604
57 - كتاب البيوع، باب ما يكره من بيع الطعام إلى أجل 643
58 - كتاب الأقضية، باب القضاء في شهادة المحدود 721
59 - كتاب الأقضية، باب القضاء في شهادة المحدود (أثر آخر) 721
60 - كتاب العتق والولاء، باب جر العبد الولاء إذا أعتق 782
61 - كتاب الحدود، باب ما جاء في قطع الآبق والسارق 834
62 - كتاب العقول، باب العمل في الدية 850
63 - كتاب العقول، باب دية الخطأ في القتل 852
64 - كتاب العقول، باب عقل المرأة 853
65 - كتاب العقول، باب عقل المرأة 854
66 - كتاب العقول، باب عقل المرأة (أثر آخر) 854
67 - كتاب العقول، باب عقل الجنين 856
68 - كتاب العقول، باب ما فيه الدية كاملة (أثر آخر) 856
69 - كتاب العقول، باب ما فيه الدية كاملة (أثر آخر) 857
70 - كتاب العقول، باب ما جاء في عقل العين إذا ذهب بصرها 857
71 - كتاب العقول، باب ما جاء في عقل الشجاج 858
72 - كتاب العقول، باب ما جاء في عقل الشجاج (أثر آخر) 859
73 - كتاب العقول، باب ما جاء في عقل الشجاج (أثر آخر) 859
74 - كتاب العقول، باب ما جاء في عقل الأصابع (أثر آخر) 860
75 - كتاب العقول، باب جامع عقل الأسنان 861
76 - كتاب العقول، باب جامع عقل الأسنان (أثر آخر) 861
77 - كتاب العقول، باب العمل في عقل الأسنان 862
78 - كتاب العقول، باب ما جاء في دية جراح العبد 862
79 - كتاب العقول، باب ما جاء في دية جراح العبد (أثر آخر) 863
80 - كتاب العقول، باب ما جاء في دية أهل الذمة 864
81 - كتاب العقول، باب ما جاء في دية أهل الذمة (أثر آخر) 864(34/277)
82 - كتاب العقول، باب ما يوجب العقل على الرجل في خاصة ماله 865
83 - كتاب العقول، باب ما يوجب العقل على الرجل في خاصة ماله (أثر آخر) 865
84 - كتاب العقول، باب ما يوجب العقل على الرجل في خاصة ماله (أثر آخر) 865
85 - كتاب العقول، باب ما جاء في ميراث العقل والتغليظ فيه 867
86 - كتاب العقول، باب القصاص في القتل 872
87 - كتاب العقول، باب القصاص في الجراح 875(34/278)
الأحاديث التي تنتظم أبوابا مستقلة من كتاب الموطأ وأهملت من الترقيم:
سأشير إلى تلك الآثار بذكر اسم الكتاب والباب الذي وردت فيه معذكر رقم الصفحة، وهي كالتالي:
صفحة 1- كتاب الطلاق، باب إيلاء العبد 558
2 - كتاب الأقضية، باب القضاء في شهادة المحدود 721
3 - كتاب العقول، باب عقل المرأة 853
4 - كتاب العقول، باب ما فيه الدية كاملة 856
5 - كتاب العقول، باب ما جاء في عقل العين إذا ذهب بصرها 857
6 - كتاب العقول، باب ما جاء في عقل الشجاج 858
7 - كتاب العقول، باب ما جاء في عقل الأصابع 860
8 - كتاب العقول، باب ما جاء في دية جراح العبد 862
9 - كتاب العقول، باب ما يوجب العقل على الرجل في خاصة ماله 865(34/278)
10 - كتاب العقول، باب القصاص في القتل 872
11 - كتاب العقول، باب القصاص في الجراح 875
وقد يقال: إنه ربما استغنى عن تلك الآثار بأصولها في غير الموطأ من كتب السنة.
فالجواب من وجهين:
1 - أنه خرج فقه مالك في مواطن متعددة مع تخريجه لأحاديث تشهد له من كتب السنة، فلو استغنى عن تلك الآثار ذات المعاني الجديدة المستقلة بما وافقها مما في غير الموطأ لاستغنى عن فقه مالك بالآثار التي تشهد له من كتب السنة.
2 - لماذا خرج في أكثر الأحوال أحاديث من الموطأ مما خرجه من الكتب الستة وغيرها ولم يخرجه هنا مع أنه قد خرج ما يوافق تلك الآثار التي أهملها من كتب السنة؟(34/279)
بعض الخلل في ترقيم أحاديث الموطأ غير ما تقدم:
وقع من صاحب كتاب مفتاح كنوز السنة أخطاء قد تفتح ثغرة للشك في دقة التعامل مع الخطة المنهجية لكتابه، وهذه الأخطاء تتعلق بترقيم الموطأ مما يتبع ذلك الخطأ في العزو.
فمثلا: أن صاحب المفتاح عمد إلى قسط كبير من فقه مالك وبعض ما حكاه عن عمل أهل المدينة فرقمه وهو لا يحتاج أصلا إلى ترقيم لأن ترقيمه يعني إدراجه في العد مع باقي أحاديث الكتاب أولا، وثانيا: العزو إليه من كتاب المفتاح كباقي الأحاديث، والحال أن فقه مالك يختلف عن الحديث من هذا الجانب ثم إن صاحب المفتاح عزا في كتابه القليل مما رقمه من فقه مالك وعمل أهل المدينة وترك الباقي مرقما دون عزو إليه، وهذا الموقف مدعاة للتساؤل بل والتعجب أيضا إذ أنه رقم البعض وأهمل البعض الآخر من الترقيم ثم عزا بعض ما رقمه وترك الباقي دون عزو أليس ترقيمه لذلك يعني العزو إليه في المفتاح!(34/279)
ثم إن الشيخ أحمد شاكر ذكر في مقدمة المفتاح (1) أن الأستاذ ونسنك قد أهمل من الفهرسة فقه مالك بل وغيره من الفقهاء وإليكم قول الشيخ أحمد شاكر، قال رحمه الله: وأما موطأ مالك فإن الأستاذ ونسنك قسمه إلى كتب لأنه لم يكن مقسما تقسيما واضحا، ثم وضع أرقاما متتابعة للكتب وللأحاديث فقط وترك ما لا يحتوي إلا على آراء مالك وغيره من الأئمة لأنها ليست من مقاصد الفهرس. اهـ. وقال الأستاذ يان يوست ويتكام في مقدمة المجلد الثامن من المعجم المفهرس (2) : لم يؤخذ من الموطأ ما ليس من أصل الأحاديث كآراء الإمام مالك وغيره من الفقهاء. اهـ.
إن هذا القول وإن كان قد سطر في المعجم غير أن واضعي المعجم اعتمدوا ترقيم ونسنك لكتب السنة التي اعتمدوها في الفهرسة ومنها الموطأ كما تقدم تفصيل ذلك.
هذا وسأذكر أمثلة لما عزا إليه من فقه مالك.
__________
(1) صفحة أ.
(2) صفحة ك.(34/280)
الأبواب التي تمخضت لفقه مالك ورقمه فيها:
يوجد في الموطأ (101) باب، خلت من أي أثر من الآثار وتمحضت لفقه مالك فرقم صاحب المفتاح فقه مالك من هذه الأبواب (53) بابا وأهمل الباقي، وسوف أذكر بعض تلك الأبواب مع ذكر كتبها مشيرا إلى أرقام الصفحات التي وجدت فيها مع ذكر الرقم الخاص بفقه الإمام مالك على النحو التالي:
صفحة رقم 1- كتاب الجمعة، باب ما جاء فيمن رعف يوم الجمعة 106 12
2 - كتاب الجمعة، باب ما جاء في الإمام ينزل بقرية يوم الجمعة في السفر 107 14
3 - كتاب العيدين، باب غدو الإمام يوم العيد وانتظار الخطبة 182 13
4 - كتاب الزكاة، باب زكاة الميراث 252 16
5 - كتاب الزكاة، باب صدقة الخلطاء 263 25
6 - كتاب الزكاة، باب العمل في صدقة عامين إذا اجتمعا 216 27
7 - كتاب الزكاة، باب ما لا زكاة فيه من الثمار 274 36
8 - كتاب الزكاة، باب من لا تجب عليه زكاة الفطر 285 56
9 - كتاب الحج، باب ما لا يجب فيه التمتع 345 64
10 - كتاب الحج، باب أمر الصيد في الحرم 355 86
11 - كتاب الحج، باب الحكم في الصيد 355 87
12 - كتاب الحج، باب وقوف الرجل وهو غير طاهر ووقوفه على دابة 389 168
13 - كتاب الحج، باب صلاة المقيم بمكة ومنى 403 204(34/281)
14 - كتاب الحج، باب جامع الفدية 419 241
15 - كتاب الحج، باب حج المرأة بغير ذي محرم 425 254
16 - كتاب الصيد، باب ما جاء فيمن يضطر إلى أكل الميتة 499 19
17 - كتاب الطلاق، باب ما جاء في عدة الأمة من طلاق زوجها 581 69
18 - كتاب البيوع، باب جامع بيع الثمر 627 26
19 - كتاب البيوع، باب بيع الفاكهة 631 27
20 - كتاب البيوع، باب بيع اللحم باللحم 656 67
21 - كتاب المساقاة، باب الشرط في المساقاة 709 3
22 - كتاب المكاتب، باب جراح المكاتب (1) .
23 - كتاب المدبر، باب الوصية في التدبير 812 3
24 - كتاب المدبر، باب بيع المدبر 814 6
25 - كتاب المدبر، باب ما جاء في جراح أم الولد 818 8
__________
(1) عزا إليه المفتاح تحت معنى دية المكاتب، انظر صفحة 335.(34/282)
الأبواب التي تمحضت لفقه مالك وأهمل ترقيم الفقه فيها على عكس مثيلاتها من الأبواب الفقهية السابقة: 1- كتاب الزكاة، باب ما لا زكاة فيه من الفواكه والقضب والبقول 276
2 - كتاب الاعتكاف، باب النكاح في الاعتكاف 318
3 - كتاب الجهاد، باب إحراز من أسلم من أهل الذمة أرضه 470
4 - كتاب الأيمان والنذور، باب العمل في المشي إلى الكعبة 475
5 - كتاب الفرائض، باب ميراث الصلب 503
6 - كتاب الفرائض، باب ميراث الرجل من امرأته والمرأة من زوجها 505(34/282)
7 - كتاب الفرائض، باب ميراث الأب والأم من ولدهما 506
8 - كتاب الفرائض، باب ميراث الأخوة للأم 507
9 - كتاب الفرائض، باب ميراث الأخوة للأم والأب 508
10 - كتاب الفرائض، باب ميراث الأخوة للأب 509
11 - كتاب الفرائض، باب ميراث العصبة 517
12 - كتاب الفرائض، باب ميراث من لا ميراث له 518
13 - كتاب النكاح، باب نكاح الرجل أم امرأة قد أصابها على وجه ما يكره 534
14 - كتاب النكاح، باب النهي عن نكاح إماء أهل الكتاب 540
15 - كتاب الطلاق، باب نفقة الأمة إذا طلقت وهي حامل 575
16 - كتاب الأقضية، باب القضاء فيمن ملك وله دين وعليه دين 725
17 - كتاب الأقضية، باب القضاء في رهن التمر والحيوان 729
18 - كتاب الأقضية، باب القضاء في الرهن في الحيوان 730
19 - كتاب الأقضية، باب القضاء في الرهن يكون بين الرجلين731
20 - كتاب الأقضية، باب القضاء في جامع الرهون 731
21 - كتاب الأقضية، باب القضاء في كراء الأرض 733
22 - كتاب الأقضية، باب القضاء في استهلاك الحيوان والطعام وغيره 735
23 - كتاب الأقضية، باب القضاء في ميراث المستلحق 741
24 - كتاب الأقضية، باب القضاء فيما يعطى العمال 749
25 - كتاب الأقضية، باب القضاء في الحمالة والحوالة 750
26 - كتاب الأقضية، باب القضاء فيمن ابتاع ثوبا وبه عيب 750
27 - كتاب الأقضية، باب ما لا يجوز من العطية 753(34/283)
صفحة 28- كتاب الأقضية، باب الاعتصار في الصدقة 755
29 - كتاب الأقضية، باب القضاء في استهلاك العبد اللقطة 758
30 - كتاب الوصية، باب أمر الحامل والمريض والذي يحضر القتال في أموالهم 764(34/284)
ذكر بعض ما رقمه مالك مما عقب به مالك على الآثار ضمن الأبواب محمد عبد الله حياني: صفحة رقم 1- كتاب الطهارة، باب العمل في الوضوء (1) 19 4
2 - كتاب الطهارة، باب العمل في الوضوء (2) . 20 7
3 - كتاب الطهارة، باب العمل في الوضوء 20 8
4 - كتاب الطهارة، باب طهر الحائض (3) . 59 99
5 - كتاب الحج، باب صلاة منى 402 200
6 - كتاب الأقضية، باب القضاء في قسم الأموال 747 36
7 - كتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، باب جامع ما جاء في الطعام والشراب 935 35
أحب أن أنبه إلى أن غالب الأبواب في الموطأ مما ضم الآثار قد تضمنت فقه مالك.
ذكر ما رقمه مما حكاه مالك عن أهل العلم:
8 - كتاب الصيام، باب صيام يوم الفطر والأضحى والدهر 300 37
__________
(1) عزا إليه في المفتاح، انظر صفحة 42.
(2) عزا إليه في المفتاح، انظر صفحة 529.
(3) عزا إليه في المفتاح، انظر صفحة 170.(34/284)
9 - كتاب الصيام، باب صيام الذي يقتل خطأ أو يتظاهر 301 40
10 - كتاب الصيام، باب ما يفعل المريض في صيامه 302 41
11 - كتاب الصيام، باب صيام الذي يشك فيه 309 55
12 - كتاب الصيام، باب جامع الصيام 311 60
13 - كتاب الجهاد، باب العمل في غسل الشهيد (1) . 463 37
14 - كتاب الصيد، باب ترك أكل ما قتل (2) . المعراض 492 4
15 - كتاب الصيد، باب ما جاء في صيد المعلمات (3) . 493 8
16 - كتاب باب ما يكره من أكل الدواب 497 15
__________
(1) عزا إليه في المفتاح، انظر صفحة 258.
(2) عزا إليه في المفتاح، انظر صفحة 295.
(3) عزا إليه في المفتاح، انظر صفحة 295. ليلاحظ من هذا كيف عزا إلى بعض ما رقمه وأهمل البعض الآخر.(34/285)
بعض ما أهمله صاحب المفتاح من الترقيم مما حكاه مالك عن أهل العلم: صفحة 1- كتاب الصيام، باب فدية من أفطر في رمضان من علة 308
2 - كتاب الصيام، باب جامع الصيام 311
3 - كتاب الاعتكاف، باب ذكر الاعتكاف 313
4 - كتاب الاعتكاف، باب خروج المعتكف للصيد 316
5 - كتاب الحج، باب غسل المحرم 324
6 - كتاب الحج، باب رفع الصوت بالإهلال 334
7 - كتاب الحج، باب ما لا يحل للمحرم أكله من الصيد 354
8 - كتاب الحج، باب العمل في الهدي إذا عطب أو ضل 381
9 - كتاب الحج، باب الوقوف بعرفة والمزدلفة 389
10 - كتاب الجهاد، باب اللغو في اليمين 477(34/285)
وفي الموطأ من هذا القبيل ما يقرب من 300 موطن فرقم البعض وأهمل البعض فما هو الداعي للترقيم والإهمال؟
وهناك نوع آخر من الاضطراب في الترقيم
فمن ذلك: في صفحة (330) من الموطأ كتاب الحج، باب مواقيت الإهلال جزأ حديثا واحدا -بإسناد واحد ومتن واحد- إلى جزئين وجعل له رقمين، والحديث رواه مالك من حديث عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن (1) » .
قال عبد الله بن عمر: أما هؤلاء الثلاث فسمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ويهل أهل اليمن من يلملم (2) » .
فرقم الجزء الأول -كما رسمته- برقم 23 والجزء الثاني برقم 24 مع أنه حديث واحد وكله في معنى واحد وهو تحديد المواقيت.
ومن ذلك: أن من عادته في الترقيم إذا جاء حديث بإسناد ثم جاء نفس المعنى بإسناد آخر بعده فإنه يرقم الأول ويهمل الثاني من الترقيم اختصارا لأنه داخل تحت معنى الحديث الأول، وقد فعل ذلك في صفحة 149 في الحديث الذي بعد رقم 19 وفي صفحة 288 في الحديث الذي بعد حديث رقم 5، وفي صفحة (308) في الحديث الذي بعد حديث رقم (53) وهذا أمر يتمشى مع منهجه في كتابه لكنه خالف هذا المسلك في صفحة (95) حيث رقم حديث ذي اليدين برقم (60) ثم رواه مالك من طريق آخر ولم يذكر المتن وقال في آخره كعادته: (بمثل ذلك) فرقم الإسناد الثاني مع أنه لا يرقم مثل هذا الإسناد أصلا في مثل هذه الحالة كما فعل ذلك أيضا في صفحة 539 حيث رقم حديثا برقم 34 وهو قول عثمان في الجمع بين الأختين بملك اليمين أحلتهما آية وحرمتهما آية أما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (133) ، صحيح مسلم الحج (1182) ، سنن الترمذي الحج (831) ، سنن النسائي مناسك الحج (2651) ، سنن أبو داود المناسك (1737) ، سنن ابن ماجه المناسك (2914) ، مسند أحمد بن حنبل (2/9) ، موطأ مالك الحج (734) ، سنن الدارمي المناسك (1790) .
(2) صحيح البخاري العلم (133) ، سنن النسائي مناسك الحج (2652) ، سنن أبو داود المناسك (1737) ، سنن ابن ماجه المناسك (2914) ، مسند أحمد بن حنبل (2/47) ، موطأ مالك الحج (734) ، سنن الدارمي المناسك (1790) .(34/286)
ثم روي هذا الحكم بإسناده عن الزبير بن العوام دون ذكر الحكم وإنما قال: مثل ذلك فرقمه بـ (35) ومن عادته أن لا يرقم مثله.
وكل ما تقدم اضطراب في الترقيم لا مسوغ له.(34/287)
بعض الأخطاء التي حدثت في منهجية العزو في كتاب المفتاح محمد عبد الله حياني:
1 - في صفحة (2) من كتاب المفتاح تحت معنى: (فضل التأمين) عزا إلى الموطأ حديث رقم (44-46) والعزو إلى حديث (44) خطأ واضح لأنه لا يدخل تحت معنى (فضل التأمين) وإنما ورد في القراءة جهرا خلف الإمام في باب ترك القراءة جهرا خلف الإمام فيما جهر فيه. كتاب الصلاة، صفحة (86) . أما أحاديث فضل التأمين فهي برقم (45-46) في باب ما جاء في التأمين خلف الإمام صفحة (87) .
2 - وفي صفحة (349) تحت معنى (عقل المرأة) لم يعز إلى أي حديث في الموطأ تحت هذا المعنى مع وجود باب مستقل في الموطأ في عقل المرأة لم يعز إلى أي حديث من أحاديث ذلك الباب وهو في صفحة 853. وإنما عزا تحت معنى عقل المرأة في كتابه إلى حديث رقم (4) في باب دية الخطأ في القتل صفحة (851) والحديث ورد في قصة رجل.
3 - وفي (349) أيضا تحت معنى (دية المكاتب) لم يعز إلى أي باب في الموطأ من أبواب المكاتب مع أن في الموطأ كتابا خاصا في المكاتب وتحته (13) بابا يبدأ من صفحة (787) وينتهي في صفحة (806) وقد ترك ذلك كله وعزا دية المكاتب إلى كتاب المدبر من الموطأ رقم (7) وهو في باب جراح المدبر وكم هناك فارق بين المكاتب والمدبر وبين جراح المكاتب وجراح المدبر، انظر صفحة (795) من الموطأ، باب جراح المكاتب، وصفحة (816) باب جراح المدبر.(34/287)
4 - وفي صفحة (507) تحت معنى: (لا يزوج الرجل ابنه من أمته التي تسرى بها) عزا هذا المعنى إلى حديث (35) من كتاب النكاح، باب ما جاء في كراهة إصابة الأختين بملك اليمين والمرأة وابنتها.
وحديث (35) هو إسناد دون متن وإنما ورد موافقا للحديث الذي قبله، والحديث الذي قبله ورد في حكم الجمع بين الأختين بملك اليمين، والمفروض في حقه أن يعزو هذا المعنى إلى حديث رقم (36) وهو في نفس المعنى تماما وهو تحت باب النهي عن أن يصيب الرجل أمة كانت لأبيه. صفحة (539) .
5 - وفي صفحة (529) تحت معنى: (إذا أخطأ في موالاة أعمال الوضوء) . عزا هذا المعنى إلى فقه مالك رقم 7-8 من كتاب الطهارة، باب العمل في الوضوء. وكلام مالك تحت هذين الرقمين يدور حول ترتيب أعمال الوضوء لا الموالاة وفرق كبير في المعنى بينهما. انظر صفحة 20 من الموطأ. هذا وهناك نوع آخر من سلبيات العزو وهو: أن في الموطأ أبوابا استقلت بفقه مالك وهي (101) باب، فرقم (53) بابا منها وأهمل الباقي ثم عزا في المفتاح إلى باب واحد مما رقمه منها فقط. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك.
كما أن هناك تعقيب مالك الفقهي على الأحاديث ضمن الأبواب واستدلاله لفقهه أحيانا بعمل أهل المدينة وهذا الجانب يغلب على أبواب الموطأ فرقم بعضه وأهمل البعض الآخر ثم عزا في المفتاح إلى بعض ما رقمه علما أن عزوه إلى ما هو من هذا القبيل لا ضرورة له إذ أنه مع عزوه إليه عزا معه إلى أحاديث في نفس المعنى من كتب السنة فلو أنه لم يجد تحت المعنى أو الباب الذي صنعه هو سوى فقه مالك فلربما يلتمس له العذر في ذلك ملتمس.(34/288)
وسأذكر أمثلة على ما تقدم وهي كالتالي:
1 - في صفحة (335) من المفتاح تحت معنى: (دية المكاتب) عزا هذا المعنى إلى كلام مالك في باب مستقل وهو باب جراح المكاتب صفحة (795) مع عزوه هذا المعنى إلى أحاديث عند أحمد وأبي داود والنسائي ولم يعز إلى فقه مالك مما كان في باب مستقل سوى هذا الباب فقط.
2 - وفي صفحة (42) تحت معنى: (الاستنشاق) عزا هذا المعنى إلى فقه مالك رقم-4- مما عقب به على بعض الآثار في باب العمل في الوضوء. مع أنه عزا معنى الاستنشاق إلى حديث رقم -2- في نفس الباب المذكور فما وجه الحاجة إلى فقه مالك، انظر الموطأ صفحة 19.
3 - وفي صفحة (170) تحت معنى: (الحائض تتيمم إذا تطهرت ولم تجد الماء) عزا إلى فقه مالك رقم -99- مما عقب به مالك على الآثار في باب طهر الحائض من كتاب الطهارة صفحة (59) مع عزوه هذا المعنى إلى حديثين موقوف ومقطوع عند الدارمي كتاب الصلاة والطهارة باب الحائض إذا تطهرت ولم تجد الماء 1 \ 211 فما وجه الحاجة إلى فقه مالك؟
4 - وفي صفحة (529) تحت معنى: (إذا أخطأ في موالاة أعمال الوضوء) عزا إلى فقه مالك رقم -7- مما عقب به على الآثار في باب العمل في الوضوء من كتاب الطهارة صفحة (20) ولم يعز إلى غيره مطلقا.
5 - وفي صفحة (258) تحت معنى: (من روى عدم الصلاة على الشهيد) عزا إلى ما حكاه مالك عن أهل العلم برقم -37- كتاب الجهاد باب العمل في غسل الشهيد صفحة (463) مع أنه عزا هذا المعنى إلى أحاديث في الكتب الستة.(34/289)
6 - وفي صفحة (295) تحت معنى: (آلات الصيد وقتله وطرائقه) عزا هذا المعنى إلى ما حكاه مالك عن أهل العلم برقم -4- كتاب الصيد باب ترك أكل ما قتل المعراض والحجر صفحة (491) مع أنه عزا هذا المعنى إلى أحاديث من الكتب الستة.
7 - وفي صفحة (295) أيضا تحت معنى: (لا بأس بأكل ما قتل البازي وما أشبهه إذا ذكر اسم الله على إرسالها) عزا هذا المعنى إلى ما حكاه مالك عن أهل العلم برقم -8- كتاب الصيد باب ما جاء في صيد المعلمات صفحة (493) مع عزوه هذا المعنى إلى غيره في الكتب الستة.(34/290)
الكشف عن الاضطراب في ترقيم بعض أحاديث صحيح مسلم:
بما أنه قد تبين لنا أنه قد وقعت أخطاء في كتاب المفتاح نتيجة الخلل في ترقيم الموطأ فلا يبعد أن يطرأ هذا الخلل في ترقيم أحاديث مسلم أيضا لأن الذي رقم أحاديث الكتابين رجل واحد وهو صاحب كتاب مفتاح كنوز السنة مما يحدو بنا إلى تتبع هذا الأمر وإعادة النظر في ترقيمه لأحاديث صحيح مسلم، وقد قمت بتتبع نماذج من ترقيمه لأحاديث الكتاب من خلال 40 صفحة من الكتاب فتبين الاضطراب في ترقيمه أيضا.
وقبل أن أذكر الأدلة على ذلك أحب أن أقدم تعريفا موجزا عن منهج الإمام مسلم في صحيحه من حيث سرده لأحاديث الكتاب فقط.
ومسلكه في ذلك أنه يحشر في كل باب أحاديثه من طرق متعددة، لذلك قد ينفرد بعض الطرق بزيادة لا توجد في الطريق الأولى، وقد يوجد نقص في طريق آخر عن الطريق الأول، وقد يسرد أحيانا إسنادا متابعا لطريق قبله ومتنه مثله سواء بسواء.
أما موقف صاحب المفتاح من ترقيم أحاديث الكتاب فإنه يرقم الحديث(34/290)
الأول في الباب غالبا فإذا جاء بعده طريق فيه زيادة فإنه يرقمه أحيانا ويهمله أخرى، والأصل أن يرقمه ولا يهمله.
وإذا ورد إسناد في متنه نقص رقمه أحيانا وأهمل الطريق ذات الزيادة، والأصل عكس ذلك. وإذا ورد إسناد متابع لما قبله دون زيادة أو نقص رقمه أحيانا وأهمله أخرى، والأصل عدم ترقيمه.
وأحيانا يرقم حديثا واحدا عن صحابي واحد اختلف الطريق إليه فرقم الطريقين والأصل الاكتفاء برقم واحد.
وهذا اضطراب واضح، والمعلوم أن كل حديث مرقم فمعنى ذلك أنه سوف يخرجه في المفتاح والمعجم.
أما الأدلة على هذا الاضطراب فهي كالتالي:
1 - صفحة (76) كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية، رقم ما لا يحتاج إلى ترقيم حيث رقم طريقا جاءت بنقص عن الطريق الأولى، انظر رقم 100 مقارنا مع 101 و 102، و 103، ثم جاء إلى زيادات جيدة من طرق أخرى بعد 103 فلم يرقمها، ثم جاء إلى رواية بعدها فيها زيادة يسيرة جدا فرقمها بـ 104 ثم جاء إلى رواية بعدها هي مجرد مغايرة في الطريق فرقمها بـ 105.
2 - صفحة (79) كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر. هذا الباب ضم أثرين فقط وكلاهما عن ابن عمر لكن الطريق إليه مختلف وكذا الألفاظ.
ولفظ الطريق الأول: إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما.
ولفظ الطريق الثاني: أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه.(34/291)
فرقم الطريق الأول وأهمل الثاني، ولو عكس لكان أولى.
3 - صفحة (84) كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال: مطرنا بالنوء. بعد حديث 126 أهمل زيادة أوردها مسلم من طريق آخر وهي زيادة لا بأس بها.
4 - صفحة (100) كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية.
رقم بـ 166 طرقا متغايرة دون زيادة أو نقص في متونها بل هي مذكورة دون ذكر متونها.
5 - صفحة (101) كتاب الإيمان، باب بيان غلظ تحريم النميمة رقم بـ 169-170 حديثا ورد من حديث حذيفة بن اليمان لكن اختلف الطريق إليه ولفظ الطريقين واحد سواء بسواء.
6 - صفحة (104) كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. . أهمل مغايرات في الطرق فقط وهذا هو الأصل ورقم زيادة جيدة بـ 176 وهو الأصل، ثم أهمل بعد 176 زيادة جيدة.
7 - صفحة (110) كتاب الإيمان، باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله رقم بـ 188 وهو مجرد مغايرات في الطرق.
8 - صفحة (111) كتاب الإيمان، باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية. رقم بـ 191 إسنادا متابعا لما قبله دون زيادة أو نقص وإنما مجرد طريق فقط.
9 - صفحة (114) كتاب الإيمان، باب حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده بعد رقم 195 أهمل زيادة في الحديث وردت من طريق آخر.
10 - صفحة (116) كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس. . رقم بـ 202 طريقا لم يأت بزيادة أو نقص وإنما تقديم وتأخير يسير(34/292)
ثم لم يرقم المغايرات في الطرق بعده على الأصل.
فهذه الأمثلة القليلة تعطينا صورة مصغرة عن الاضطراب في الترقيم في صحيح مسلم وما ندري ما الذي قصده صاحب المفتاح من ترقيمه هذا؟ هل هو الإحالة إلى متون الكتاب وأسانيده جميعا؟ أم إلى أصل الأحاديث فقط؟ وما هي القاعدة التي مشى عليها في أحد الأمرين؟ ثم إن كان قد قصد تخريج جميع متون وأسانيد الكتاب فلماذا رقم البعض وأهمل البعض الآخر من المتون والأسانيد؟
وإن كان قصد تخريج الأصول فقط فلا حاجة أصلا إلى ترقيم الأسانيد المتعددة والألفاظ المختلفة!
بعد هذا أحب أن أنبه إلى أن عد الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي لأحاديث صحيح مسلم غير المكرر منها فيه نظر، إذ أنه بلغ بها إلى 3033 حديثا، علما أن الإمام النووي الفقيه والمحدث ومن كبار علماء سلفنا الصالح وأئمتهم وهو الذي شرح صحيح مسلم وبوبه قد بلغ بأحاديث صحيح مسلم غير المكرر منها أيضا بلغ بها نحوا من 4000 حديث صرح بذلك في التقريب، نعم هناك تفاوت بين العلماء في أسلوب عد الأحاديث ولكن أيهما يقدم هنا في معرفة ذلك الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي أم الإمام النووي علما أن عدهما لأحاديث مسلم بغير المكرر منها؟(34/293)
الخاتمة
الحمد لله الذي بفضله تتم الصالحات وجعل رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتمة الرسالات، صلى الله عليه وعلى أتباعه الذين ختم لهم بكمال الحسنات ورفعة الدرجات، رضي الله عنهم وعن أتباعهم إلى يوم الدين. . . وبعد:
فسوف أذكر في هذه الخاتمة أهم الفوائد المستخلصة من هذا البحث وهي كالتالي:
1 - لا يمكن اعتبار ترقيم أحاديث الموطأ في العد لمعرفة مجموعة أحاديث الكتاب نظرا لأن الهدف من ترقيمه هو العزو إليها على ضوء المنهج الذي اصطلح عليه صاحب المفتاح، ولم يكن الهدف عند الترقيم إحصاء مجموع الأحاديث كما أن صاحب المفتاح لما رقم أحاديث الكتاب أهمل قسطا كبيرا منها ورقم ما لا يحتاج إلى ترقيم.
2 - إن ما تقدم من معرفة بعض سلبيات كتاب المفتاح قد قام على أساس دراسة ما أهمله صاحب المفتاح من الآثار في الموطأ وترقيمه ما لا حاجة إلى ترقيم مع الاضطراب في العزو إليها، فلو درس كتاب المفتاح جميعه على ضوء ما رقم من أحاديث الموطأ فماذا يظهر؟
3 - بما أنه قد حصل الاضطراب في ترقيم أحاديث كتاب الموطأ وصحيح مسلم فإن ذلك يحتم علينا أن نعلم أن لذلك أثره السلبي الذي ينعكس في كتاب المفتاح لا محالة.
4 - لا يمكن الاعتماد الكامل في التخريج على كتاب المفتاح لأنه أسقط تخريج فقه الإمام مالك، هذا بالإضافة إلى اضطرابه في ترقيم أحاديث صحيح مسلم.
5 - أن الأعاجم مهما مارسوا اللغة العربية كعلم وتخصصوا فيها غير أنه لا يستبعد عند الاستعمال والممارسة أن يقع منهم خطأ في التمييز بين(34/294)
بعض الألفاظ العربية ومعانيها ومدلولاتها في بعض الأحيان.
6 - إذا مارس المتخصص في فن معين ما تخصص فيه فإنه يبدع فيه، وأنه إذا مارس غير تخصصه فلن يكون عمله بالشكل المتكامل في الغالب، مع احترامنا كمسلمين لما قام به صاحب المفتاح من جهد جيد وعمل جليل.(34/295)
صفحة فارغة(34/296)
من قرارات هيئة كبار العلماء
قرار رقم 76 وتاريخ 22 \ 6 \ 1400هـ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد وعلى آله وصحبه. وبعد:
ففي الدورة الاستثنائية الرابعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض من 18 \ 6 \ 1400هـ حتى 22 \ 6 \ 1400هـ. نظر المجلس في موضوع الاستفادة من اللحوم التي تكون في منى أيام الحج بناء على الأمر السامي رقم 3 \ ح \ 9979 وتاريخ 23 \ 4 \ 1400هـ. الذي يتضمن رغبة صاحب السمو الملكي نائب رئيس مجلس الوزراء في بحث الموضوع المذكور بحضور كل من سعادة المهندس عبد القادر كوشك أمين العاصمة المقدسة، وسعادة المهندس عبد العزيز غندورة مدير مشروع منى. . واستعرض ما سبق أن قرره في شأن اللحوم برقم (43) وتاريخ 13 \ 4 \ 1396هـ ورقم (60) بتاريخ 12 \ 4 \ 1398هـ وما أصدره المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي في الموضوع في دورته السابعة عام 1385هـ. كما استعرض خطاب معالي وزير الأشغال العامة والإسكان بالنيابة رقم 1 \ 250 \ 255 \ 400 م في 1 \ 4 \ 1400هـ. وما ذكره معاليه من أن نتيجة الدراسات الفنية في الوزارة وإدارة مشروع منى تدل على أنه يلزم توافر ثمانية آلاف جزار وخمسمائة طبيب بيطري لكل مائتي ألف رأس من الغنم. . كما استمع إلى الشرح الذي قدمه المهندس عبد العزيز غندورة بناء على الدراسات المشار إليها، كما استمع أيضا إلى المعلومات التي قدمها سعادة المهندس عبد القادر كوشك عن الوضع الحالي للمجازر في منى واللحوم التي تكون فيها حيث ذكر أنه يوجد مجزرتان في منى وخمس مجازر أخرى خارجها وأن الصالح من الأغنام المذبوحة يؤخذ ويستفاد منه إلا النزر القليل ولا يترك إلا الهزيل الضعيف. . وبعد ذلك ناقش(34/297)
المجلس فكرة إقامة المشاريع على ضوء نتيجة الدراسة التي ذكرها معالي وزير الأشغال العامة والإسكان بالنيابة بخطابه المذكور وشرحها سعادة المهندس عبد العزيز غندورة فظهر للمجلس أنه يترتب على إنفاذ تلك المشاريع المقترحة صعوبات ومشكلات فنية وعملية وتحتاج إلى نفقات باهظة تكلف الدولة أضعاف قيمة تلك اللحوم ومن أجل ذلك رأى الاستغناء عنها بالبديل التالي:
1 - تطوير المسالخ الحالية لتستوعب أعدادا كبيرة من الذبائح وإنشاء مسالخ متعددة على مداخل ومخارج منى وفي أماكن متفرقة من الحرم بالقدر الذي يكفي مع استمرار تمكين الحجاج من مباشرة ذبح هداياهم إذا رغبوا في ذلك وأخذ ما يشاؤون من لحومها.
2 - العمل على إيجاد المجالب المناسبة بجوار كل مسلخ ومنع الناس من بيع مالا يجزئ شرعا من الهزيل والمريض ونحوهما.
3 - إيجاد البرادات الكافية لحفظ اللحوم الصالحة التي يستغني عنها الحجاج إلى أن توزع على فقراء الحرم حسب الأماكن.
4 - أن تقوم الجهات المعنية بتوعية الحجاج في داخل المملكة وخارجها في أحكام الهدي وما يجب أن يكون عليه وما يلزمهم نحوه.
5 - يجوز للحكومة تنظيم الاستفادة من سواقط الهدي التي تترك في المجازر مثل الجلد والعظام والصوف ونحو ذلك مما ترى فيه المصلحة لفقراء الحرم مما يتركه أهله رغبة عنه.
والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(34/298)
هيئة كبار العلماء
[رئيس الدورة] ... [عضو] ... [عضو]
عبد العزيز بن صالح ... عبد الله خياط ... محمد علي الحركان
[عضو] ... [عضو] ... [عضو]
راشد بن خنين ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود
عبد الله بن محمد بن حميد ... سليمان بن عبيد ... محمد بن جبير
صالح بن غصون ... عبد الله بن منيع ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد المجيد حسن
صالح بن لحيدان ... - ... -(34/299)
من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي
التابع لرابطة العالم الإسلامي
القرار الأول
بشأن زكاة أجور العقار
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم الأحد 13 رجب 1409هـ الموافق 19 فبراير 1989م إلى يوم الأحد 20 رجب 1409هـ الموافق 26 فبراير 1989 م قد نظر في موضوع زكاة أجور العقار وبعد المناقشة وتداول الرأي قرر بالأكثرية ما يلي:
أولا: العقار المعد للسكنى هو من أموال القنية فلا تجب فيه الزكاة إطلاقا لا في رقبته ولا في قدر أجرته.
ثانيا: العقار المعد للتجارة وهو من عروض التجارة فتجب الزكاة في رقبته وتقدر قيمته عند مضي الحول عليه.
ثالثا: العقار المعد للإيجار تجب الزكاة في أجرته فقط دون رقبته.
رابعا: نظرا إلى أن الأجرة تجب في ذمة المستأجر للمؤجر من حين عقد الإجارة فيجب إخراج زكاة الأجرة عند انتهاء الحول من حين عقد الإجارة بعد قبضها.(34/300)
خامسا: قدر زكاة رقبة العقار إن كان للتجارة وقدر زكاة غلته إن كان للإجارة هو ربع العشر إلحاقا بالنقدين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
أسماء الأعضاء
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
نائب الرئيس
د. عبد الله عمر نصيف ... محمد بن جبير
صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان ... د. يوسف القرضاوي
مع مخالفتي للبندين رابعا وخامسا ... محمد الشاذلي النيفر
د. محمد الحبيب بن الخوجة ... محمد محمود الصواف ... د. بكر عبد الله أبو زيد
محمد بن عبد الله السبيل ... أبو بكر جومي ... رئيس مجلس المجمع الفقهي الإسلامي
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله عبد الرحمن البسام ... مصطفى أحمد الزرقا ... د. محمد رشيد راغب القباني
د. أحمد فهمي أبو سنه
أرى عدم اشتراط مضي الحول قياسا لأجرة العقار على المعادن وهو رواية عن أحمد ... محمد سالم عدود
بدء الحول عندي من القبض
... د. طلال عمر بافقيه
(مقرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي)(34/301)
من قرارات هيئة كبار العلماء
قرار رقم 31 وتاريخ 21 \ 8 \ 1394هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فإن هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة قد اطلعت على صورة خطاب جلالة الملك -حفظه الله- الموجه لسمو وزير الداخلية برقم 351 وتاريخ 7 \ 1 \ 1394هـ المشفوع به ما لاحظ المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بخطاب سماحة رئيس المجلس التأسيسي للرابطة الموجه لجلالة الملك برقم 10111 وتاريخ 21 \ 12 \ 1393هـ وقوعه كل سنة عند رمي الجمار من الازدحام المميت، واقتراحه تشكيل لجنة من العلماء من أعضاء المجلس التأسيسي وغيرهم من علماء المملكة للنظر فيما توسع فيه علماء الإسلام الموثوق بهم والفقهاء والمجتهدون والمحدثون كجواز الرمي ليلا وقبل الزوال، والأخذ بهذه الفتاوى ونشرها وإذاعتها بين الحجاج بطرق شتى حتى يعملوا بها، ويخف الزحام وتقل الحوادث، ويؤدي هذا النسك العظيم في حالة من الهدوء والاستقرار، وأمر جلالة الملك -حفظه الله- بعرض هذا الموضوع على هيئة كبار العلماء، وباطلاع مجلس الهيئة على ذلك ظهر أن هذه المسالة جرى عرضها سابقا على الهيئة في دورتها الثانية المنعقدة في شهر شعبان عام 1392 هـ، وبعد الدراسة أصدرت قرارا بالإجماع يتضمن ما يلي:
1 - جواز رمي جمرة العقبة بعد منتصف ليلة النحر للضعفة من النساء وكبار السن والعاجزين ومن يلازمهم للقيام بشئونهم لما ورد من الأحاديث والآثار الدالة على جواز ذلك.
2 - عدم جواز رمي الجمار أيام التشريق قبل الزوال لفعله صلى الله عليه وسلم وقوله: «خذوا عني مناسككم (1) » . ولقول ابن عمر: «كنا نتحين الرمي في أيام التشريق فإذا زالت الشمس رمينا (2) » . ومعلوم أن النبي صلى الله تعالى عليه
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .
(2) صحيح البخاري الحج (1746) ، سنن أبو داود المناسك (1972) .(34/302)
وسلم أعلم الناس وأنصحهم وأرحمهم فلو كان ذلك جائزا قبل الزوال لبينه صلى الله عليه وسلم.
3 - أما ما عدا ذلك من المسائل الخلافية من أعمال المناسك المشار إليها أعلاه فإن الخلاف فيها معروف بين العلماء ومدون في كتب المناسك وغيرها، ومازال عمل الناس جاريا على ذلك، وينبغي للحاج أن يحرص على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله ما استطاع إلى ذلك سبيلا لقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عنى مناسككم (1) » ويرى المجلس في هذه المسائل الخلافية أن يستفتي العامي من يثق بدينه وأمانته وعلمه في تلك المسائل، ومذهب العامي مذهب من يفتيه. أهـ. ولم يظهر للهيئة سوى ما تضمنه قرارها المشار إليه، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
رئيس الدورة الخامسة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
عبد الله بن حمد ... محمد الحركان ... صالح بن غصون
محمد بن جبير ... عبد الله خياط ... عبد المجيد حسن
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد الله بن غديان ... صالح بن لحيدان
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن صالح ... سليمان بن عبيد
راشد بن خنين ... عبد الله بن منيع ... - ... -
__________
(1) صحيح مسلم الحج (1297) ، سنن النسائي مناسك الحج (3062) ، سنن أبو داود المناسك (1970) ، مسند أحمد بن حنبل (3/337) .(34/303)
من قرارات هيئة كبار العلماء
قرار رقم 77 وتاريخ 21 \ 10 \ 1400هـ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
ففي الدورة السادسة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بالطائف ابتداء من يوم السبت الموافق 12 \ 10 \ 1400 هـ حسب تقويم أم القرى حتى الحادي والعشرين منه بحث المجلس حكم نقل لحوم الهدايا والجزاءات خارج الحرم.
بناء على ما تقرر في الدورة الخامسة عشرة من دراسة هذا الموضوع بعد أن تعد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا فيه يوضح حكم نقل لحوم الهدايا والجزاءات ونحوها إلى أماكن تقع خارج الحرم وهل يجوز توزيعها خارج الحرم مطلقا أو عند استغناء فقراء الحرم، هل يفرق بين الهدايا الواجبة من أجل التمتع والقران وبين الواجبة بفعل محظور أو ترك واجب وقد درس المجلس البحث المذكور ورجع إلى قراره رقم (76) الذي أصدره في الدورة الاستثنائية الرابعة المتضمن عدة مقترحات للاستفادة من اللحوم التي تكون في منى أيام الحج وهي:
1 - تطوير المسالخ الحالية لتستوعب أعدادا كبيرة من الذبائح وإنشاء مسالخ متعددة على مداخل ومخارج منى وفي أماكن متفرقة من الحرم بالقدر الذي يكفي مع استمرار تمكين الحجاج من مباشرة ذبح هداياهم إذا رغبوا في ذلك وأخذ ما يشاءون من لحومها.
2 - العمل على إيجاد المجالب المناسبة بجوار كل مسلخ ومنع الناس من بيع ما لا يجزئ شرعا من الهزيل والمريض ونحوهما.
3 - إيجاد البرادات الكافية لحفظ اللحوم الصالحة التي يستغني عنها الحجاج إلى أن توزع على فقراء الحرم حسب الإمكان.
4 - أن تقوم الجهات المعنية بتوعية الحجاج في داخل المملكة وخارجها في(34/304)
أحكام الهدي وما يجب أن يكون عليه وما يلزمهم نحوه.
5 - يجوز للحكومة تنظيم الاستفادة من سواقط الهدي التي تترك في المجازر مثل الجلد والعظام والصوف ونحو ذلك مما ترى فيه المصلحة لفقراء الحرم مما يتركه أهله رغبة عنه.
وبعد مناقشة الموضوع وتداول الرأي فيه رأى المجلس بالأكثرية إصدار قرار يوضح الحكم في نقل اللحوم من الحرم إلى خارجه حيث كان القرار السابق مختصا باللحوم التي تبقى فيه.
وبناء على هذا فإن ما يذبحه الحاج ثلاثة أنواع:
1 - هدي التمتع والقران، فهذا يجوز النقل منه إلى خارج الحرم وقد نقل الصحابة رضوان الله عليهم من لحوم هداياهم إلى المدينة ففي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال «كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى فرخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلوا وتزودوا فأكلنا وتزودنا (1) » .
2 - ما يذبحه الحاج داخل الحرم جزاء لصيد أو فدية لإزالة أذى أو ارتكاب محظور أو ترك واجب فهذا النوع لا يجوز نقل شيء منه لأنه كله لفقراء الحرم.
3 - ما ذبح خارج الحرم من فدية الجزاء أو هدي الاحصار أو غيرهما مما يسوغ ذبحه خارج الحرم فهذا يوزع حيث ذبح ولا يمنع نقله من مكان ذبحه إلى مكان آخر.
وأن المجلس يوصي جميع الحجاج بأن يختاروا الجيد الطيب لهداياهم وذبائحهم وأن يعلموا أنه يجب عليهم توزيعها حسب ما شرع الله ورسوله ولا يجوز لهم ذبحها وتركها دون أن ينتفع بها أحد من المسلمين. . والله ولي التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1719) ، صحيح مسلم الأضاحي (1972) ، مسند أحمد بن حنبل (3/317) ، موطأ مالك الضحايا (1046) .(34/305)
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد الرزاق عفيفي
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
عبد الله خياط ... سليمان بن عبيد ... راشد بن خنين
عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود ... عبد الله بن محمد بن حميد
عبد العزيز بن صالح ... محمد بن جبير ... صالح بن غصون
عبد الله بن منيع ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد بن علي الحركان
إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... عبد المجيد حسن ... صالح بن لحيدان(34/306)
من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي
القرار الحادي عشر
بشأن موضوع: السؤال الوارد من المكرم أبي بكر محيي الدين
(حول صرف ريع الوقف)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 24 صفر 1408هـ الموافق 17 أكتوبر 1987م إلى الأربعاء 28 صفر 1408هـ الموافق 21 أكتوبر 1987م قد اطلع على السؤال الوارد من المكرم أبي بكر محيي الدين رئيس جمعية الدعوة الإسلامية في سنغافورة حول صرف ريع الوقف في المصالح العامة.
وبعد تداول الرأي فيه قرر المجلس ما يلي:
إن لم يكن الوقف مشروطا ريعه لجهة معينة فلا مانع حينئذ من صرف الريع على المصالح العامة. أما إن كان مشروطا لجهة معينة، فإن المجمع يقرر عدم جواز صرفه في المصالح العامة. والله ولي التوفيق.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
(رئيس مجلس المجمع)
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... (نائب الرئيس)
د. عبد الله عمر نصيف ... محمد بن جبير
د. بكر عبد الله أبو زيد ... عبد الله العبد الرحمن البسام ... صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان
محمد بن عبد الله بن سبيل ... مصطفى أحمد الزرقاء ... محمد محمود الصواف
أبو الحسن علي الحسنى الندوي ... محمد رشيد راغب قباني ... محمد الشاذلي النيفر
أبو بكر جومى ... د. أحمد فهمي أبو سنه ... محمد الحبيب بن الخوجة
محمد سالم عدود ... د. طلال عمر بافقيه ... -(34/307)
وقد تخلف عن الحضور في هذه الدورة كل من: فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي، وفضيلة الشيخ صالح بن عثيمين، وفضيلة الشيخ عبد القدوس الهاشمي، ومعالي اللواء الركن محمود شيت خطاب، وفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف، وفضيلة الشيخ مبروك مسعود العوادي.(34/308)
نصيحة للدعاة وطلبة العلم
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته إلى يوم الدين. . أما بعد:
فإن الله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الظلم والبغي والعدوان. وقد بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بما بعث به الرسل جميعا من الدعوة إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده، وأمره بإقامة القسط ونهاه عن ضد ذلك من عبادة غير الله، والتفرق والتشتت والاعتداء على حقوق العباد. وقد شاع في هذا العصر أن كثيرا من المنتسبين إلى العلم والدعوة إلى الخير يقعون في أعراض كثير من إخوانهم الدعاة المشهورين ويتكلمون في أعراض طلبة العلم والدعاة والمحاضرين، يفعلون ذلك سرا في مجالسهم. وربما سجلوه في أشرطة تنشر على الناس وقد يفعلونه علانية في محاضرات عامة في المساجد وهذا المسلك مخالف لما أمر الله به ورسوله من جهات عديدة منها:
أولا: أنه تعد على حقوق الناس من المسلمين، بل من خاصة الناس من طلبة العلم والدعاة الذين بذلوا وسعهم في توعية الناس وإرشادهم وتصحيح عقائدهم ومناهجهم واجتهدوا في تنظيم الدروس والمحاضرات وتأليف الكتب النافعة.
ثانيا: أنه تفريق لوحدة المسلمين وتمزيق لصفهم، وهم أحوج ما يكونون إلى الوحدة والبعد عن الشتات والفرقة وكثرة القيل والقال فيما بينهم. خاصة وأن(34/309)
الدعاة الذين نيل منهم هم من أهل السنة والجماعة المعروفين بمحاربة البدع والخرافات والوقوف في وجه الداعين إليها وكشف خططهم وألاعيبهم. ولا نرى مصلحة في مثل هذا العمل إلا للأعداء المتربصين من أهل الكفر والنفاق أو من أهل البدع والضلال.
ثالثا: أن هذا العمل فيه مظاهرة ومعاونة للمغرضين من العلمانيين والمستغربين وغيرهم من الملاحدة الذين اشتهر عنهم الوقيعة في الدعاة والكذب عليهم والتحريض ضدهم فيما كتبوه وسجلوه وليس من حق الأخوة الإسلامية أن يعين هؤلاء المتعجلون أعداءهم على إخوانهم من طلبة العلم والدعاة وغيرهم.
رابعا: إن في ذلك إفسادا لقلوب العامة والخاصة، ونشرا وترويجا للأكاذيب والإشاعات الباطلة وسببا في كثرة الغيبة والنميمة وفتح أبواب الشر على مصاريعها لضعاف النفوس الذين يدأبون على بث الشبه وإثارة الفتن ويحرصون على إيذاء المؤمنين بغير ما اكتسبوا. خامسا: أن كثيرا من الكلام الذي قيل لا حقيقة له. وإنما هو من التوهمات التي زينها الشيطان لأصحابها وأغراهم بها، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (1) . والمؤمن ينبغي أن يحمل كلام أخيه المسلم على أحسن المحامل وقد قال بعض السلف لا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا.
سادسا: وما وجد من اجتهاد لبعض العلماء وطلبة العلم فيما يسوغ فيه الاجتهاد فإن صاحبه لا يؤاخذ به ولا يثرب عليه إذا كان أهلا للاجتهاد، فإذا خالفه غيره في ذلك كان الأجدر أن يجادله بالتي هي أحسن حرصا على الوصول إلى الحق من أقرب طريق ودفعا لوساوس الشيطان وتحريشه بين
__________
(1) سورة الحجرات الآية 12(34/310)
المؤمنين فإن لم يتيسر ذلك. ورأى أحد أنه لا بد من بيان المخالفة فيكون ذلك بأحسن عبارة وألطف إشارة، ودون تهجم أو تجريح أو شطط في القول قد يدعو إلى رد الحق أو الإعراض عنه، ودون تعرض للأشخاص أو اتهام للنيات أو زيادة في الكلام لا مسوغ لها. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في مثل هذه الأمور: «ما بال أقوام قالوا كذا وكذا (1) » .
فالذي أنصح به هؤلاء الأخوة الذين وقعوا في أعراض الدعاة ونالوا منهم أن يتوبوا إلى الله تعالى مما كتبته أيديهم أو تلفظت به ألسنتهم مما كان سببا في إفساد قلوب بعض الشباب وشحنهم بالأحقاد والضغائن وشغلهم عن طلب العلم النافع وعن الدعوة إلى الله بالقيل والقال والكلام عن فلان وفلان والبحث عما يعتبرونه أخطاء للآخرين وتصيدها وتكلف ذلك.
كما أنصحهم أن يكفروا عما فعلوا بكتابة أو غيرها، مما يبرئون فيه أنفسهم من مثل هذا الفعل ويزيلون ما علق بأذهان من يستمع إليه من قولهم، وأن يقبلوا على الأعمال المثمرة التي تقرب إلى الله وتكون نافعة للعباد، وأن يحذروا من التعجل في إطلاق التكفير أو التفسيق أو التبديع لغيرهم بغير بينة ولا برهان وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما (2) » متفق على صحته.
ومن المشروع لدعاة الحق وطلبة العلم إذا أشكل عليهم أمر من كلام أهل العلم أو غيرهم أن يرجعوا فيه إلى العلماء المعتبرين ويسألوهم عنه ليبينوا لهم جلية الأمر ويوقفوهم على حقيقته ويزيلوا ما في أنفسهم من التردد والشبهة عملا بقول الله عز وجل في سورة النساء: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} (3) .
__________
(1) صحيح مسلم النكاح (1401) ، سنن النسائي النكاح (3217) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .
(2) صحيح البخاري الأدب (6104) ، صحيح مسلم الإيمان (60) ، سنن الترمذي الإيمان (2637) ، مسند أحمد بن حنبل (2/18) ، موطأ مالك الجامع (1844) .
(3) سورة النساء الآية 83(34/311)
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعا ويجمع قلوبهم وأعمالهم على التقوى وأن يوفق جميع علماء المسلمين وجميع دعاة الحق لكل ما يرضيه وينفع عباده ويجمع كلمتهم على الهدى ويعيذهم من أسباب الفرقة والاختلاف وينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل إنه ولي ذلك والقادر عليه. . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.(34/312)
نصيحة في فضل صلاة الاستسقاء
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين وفقني الله وإياهم لفعل الخيرات، ومن علي وعليهم بالتوبة النصوح من جميع السيئات آمين. . سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فتعلمون رحمني الله وإياكم أنه في حال تأخر الغيث عن وقته ولشدة حاجة المسلمين، بل ضرورتهم إلى رحمة ربهم سبحانه وفضله وإحسانه فقد أمرهم سبحانه أن يدعوه ويضرعوا إليه ويرفعوا إليه حاجاتهم وقد وعدهم سبحانه بالإجابة حيث قال عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (1) وقال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (2) وقال سبحانه وتعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (3) {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (4) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إذا اشتد بهم الجدب وتأخر عنهم الغيث لجئوا إلى الله سبحانه واستغاثوا فيغيثهم ويمدهم بإحسانه وجوده كما قال عز وجل في قصة غزوة بدر {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (5) . ولما اشتد الجدب في المدينة وما
__________
(1) سورة غافر الآية 60
(2) سورة البقرة الآية 186
(3) سورة الأعراف الآية 55
(4) سورة الأعراف الآية 56
(5) سورة الأنفال الآية 9(34/313)
حولها طلب المسلمون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغيث لهم فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه في خطبة الجمعة واستغاث ربه وكرر الدعاء وخرج بهم مرة أخرى إلى الصحراء فصلى بهم ركعتين كصلاة العيد واستغاث ربه ودعاه ورفع يديه وألح في الدعاء وحول رداءه ورفع المسلمون أيديهم تأسيا به صلى الله عليه وسلم فأغاثهم الله ورحمهم وأزال شدتهم وأنزل عليهم المطر الكثير، وقد قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (1) . ومن أعظم أسباب الرحمة ونزول الغيث تقوى الله عز وجل والتوبة إليه من جميع الذنوب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى والتناصح في الله والتواصي بالحق والصبر عليه ورحمة الفقراء والمساكين ومواساتهم والإحسان إليهم كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (2) . وقال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4) وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (5) وقال عز وجل: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِِينَ} (6) وقال سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (7) فأبان سبحانه في هذه الآيات الكريمات أن التقوى والإحسان إلى عباد الله والاستقامة على أمر الله من أسباب رحمته لعباده وإحسانه إليهم وإنزال الغيث عليهم وإزالة الشدة عنهم، فاتقوا الله عباد الله وأحسنوا إلى عباده وتواصوا بالحق والصبر عليه، وتعاونوا على
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 21
(2) سورة الأعراف الآية 96
(3) سورة الطلاق الآية 2
(4) سورة الطلاق الآية 3
(5) سورة الطلاق الآية 4
(6) سورة الأعراف الآية 56
(7) سورة التوبة الآية 71(34/314)
البر والتقوى وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر وتوبوا إليه من جميع الذنوب يرحمكم مولاكم سبحانه ويمن عليكم بالغيث المبارك ويعطكم ما تحبون ويصرف عنكم ما تكرهون، كما قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (2) وقال عن نبيه ورسوله نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} (3) {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} (4) {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (5) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم (6) » ، وقال عليه الصلاة والسلام: «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء (7) » . والآيات والأحاديث الشريفة في الحث على التقوى والاستقامة ورحمة العباد والإحسان إليهم كثيرة معلومة.
وأسال الله أن يصلح أحوال المسلمين جميعا وأن يمن عليهم بالتوبة النصوح من جميع الذنوب وأن يغيثهم من فضله وأن يجمع قلوبهم على التقوى والعمل الصالح وأن يعيذ الجميع من شرور النفس وسيئات العمل ومن مضلات الفتن وأن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يوفق ولاة أمرنا وسائر ولاة أمور المسلمين لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد وأن يصلح لهم البطانة ويعينهم على كل خير إنه ولي ذلك والقادر عليه. . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة التحريم الآية 8
(3) سورة نوح الآية 10
(4) سورة نوح الآية 11
(5) سورة نوح الآية 12
(6) صحيح البخاري الأدب (5997) ، صحيح مسلم الفضائل (2318) ، سنن الترمذي البر والصلة (1911) ، سنن أبو داود الأدب (5218) ، مسند أحمد بن حنبل (2/269) .
(7) سنن الترمذي البر والصلة (1924) ، سنن أبو داود الأدب (4941) .(34/315)
صفحة فارغة(34/316)
فضل صيام رمضان وقيامه
مع بيان أحكام مهمة
قد تخفى على بعض الناس
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين، سلك الله بي وبهم سبيل أهل الإيمان، ووفقني وإياهم للفقه في السنة والقرآن. . آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فهذه نصيحة موجزة تتعلق بفضل صيام رمضان وقيامه، وفضل المسابقة فيه بالأعمال الصالحة، مع بيان أحكام مهمة قد تخفى على بعض الناس.
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبشر أصحابه بمجيء شهر رمضان، ويخبرهم عليه الصلاة والسلام أنه شهر تفتح فيه أبواب الرحمة وأبواب الجنة وتغلق فيه أبواب جهنم، وتغل فيه الشياطين، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت أول ليلة من رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب جهنم فلم يفتح منها باب، وصفدت الشياطين، وينادي مناد يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة (1) » . ويقول عليه الصلاة والسلام: «جاءكم شهر رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرا فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله» . ويقول عليه الصلاة والسلام:
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1899) ، صحيح مسلم الصيام (1079) ، سنن الترمذي الصوم (682) ، سنن النسائي الصيام (2106) ، سنن ابن ماجه الصيام (1642) ، سنن الدارمي الصوم (1775) .(34/317)
«من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » ، «ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (2) » ، «ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (3) » . ويقول عليه الصلاة والسلام: يقول الله عز وجل: «كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي. للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك (4) » . والأحاديث في فضل صيام رمضان وقيامه وفضل جنس الصوم كثيرة.
فينبغي للمؤمن أن ينتهز هذه الفرصة وهي ما من الله به عليه من إدراك شهر رمضان فيسارع إلى الطاعات، ويحذر السيئات ويجتهد في أداء ما افترض الله عليه ولا سيما الصلوات الخمس فإنها عمود الإسلام وهي أعظم الفرائض بعد الشهادتين. فالواجب على كل مسلم ومسلمة المحافظة عليها وأداؤها في أوقاتها بخشوع وطمأنينة.
ومن أهم واجباتها في حق الرجال أداؤها في الجماعة في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، كما قال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (5) . وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (6) وقال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (7) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (8) . إلى أن قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (9) {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (10) {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (11) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (12) » .
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (38) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، سنن الترمذي الصوم (683) ، سنن النسائي الصيام (2203) ، سنن أبو داود الصلاة (1372) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (37) ، سنن النسائي الصيام (2202) ، سنن أبو داود الصلاة (1371) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1901) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، سنن الترمذي الصوم (683) ، سنن النسائي الصيام (2202) ، سنن أبو داود الصلاة (1372) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(4) صحيح البخاري الصوم (1904) ، صحيح مسلم الصيام (1151) ، سنن الترمذي الصوم (764) ، سنن النسائي الصيام (2216) ، سنن ابن ماجه الصيام (1638) ، مسند أحمد بن حنبل (2/443) ، سنن الدارمي الصوم (1770) .
(5) سورة البقرة الآية 43
(6) سورة البقرة الآية 238
(7) سورة المؤمنون الآية 1
(8) سورة المؤمنون الآية 2
(9) سورة المؤمنون الآية 9
(10) سورة المؤمنون الآية 10
(11) سورة المؤمنون الآية 11
(12) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .(34/318)
وأهم الفرائض بعد الصلاة أداء الزكاة كما قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (1) ، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (2) .
وقد دل كتاب الله العظيم وسنة رسوله الكريم على أن من لم يؤد زكاة ماله يعذب به يوم القيامة.
وأهم الأمور بعد الصلاة والزكاة صيام رمضان، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة المذكورة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت (3) » .
ويجب على المسلم أن يصون صيامه وقيامه عما حرم الله عليه من الأقوال والأعمال؛ لأن المقصود بالصيام هو طاعة الله سبحانه، وتعظيم حرماته وجهاد النفس على مخالفة هواها في طاعة مولاها، وتعويدها الصبر عما حرم الله، وليس المقصود مجرد ترك الطعام والشراب وسائر المفطرات، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم (4) » ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه (5) » .
فعلم بهذه النصوص وغيرها أن الواجب على الصائم الحذر من كل ما حرم الله عليه والمحافظة على كل ما أوجب الله عليه، وبذلك يرجى له المغفرة والعتق من النار وقبول الصيام والقيام.
وهناك أمور قد تخفى على بعض الناس، منها: أن الواجب على المسلم أن يصوم إيمانا واحتسابا لا رياء ولا سمعة ولا تقليدا للناس أو متابعة لأهله أو
__________
(1) سورة البينة الآية 5
(2) سورة النور الآية 56
(3) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .
(4) صحيح البخاري الصوم (1904) ، صحيح مسلم الصيام (1151) ، سنن الترمذي الصوم (764) ، سنن النسائي الصيام (2216) ، سنن أبو داود الصوم (2363) .
(5) صحيح البخاري الأدب (6057) ، سنن الترمذي الصوم (707) ، سنن أبو داود الصوم (2362) ، سنن ابن ماجه الصيام (1689) ، مسند أحمد بن حنبل (2/505) .(34/319)
أهل بلده، بل الواجب عليه أن يكون الحامل له على الصوم هو إيمانه بأن الله قد فرض عليه ذلك، واحتسابه الأجر عند ربه في ذلك، وهكذا قيام رمضان يجب أن يفعله المسلم إيمانا واحتسابا لا لسبب آخر. ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » .
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس، ما قد يعرض للصائم من جراح أو رعاف أو قيء أو ذهاب الماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره، فكل هذه الأمور لا تفسد الصوم، لكن من تعمد القيء فسد صومه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء (2) » .
ومن ذلك ما قد يعرض للصائم من تأخير غسل الجنابة إلى طلوع الفجر، وما يعرض لبعض النساء من تأخير غسل الحيض أو النفاس إلى طلوع الفجر إذا رأت الطهر قبل الفجر فإنه يلزمها الصوم ولا مانع من تأخيرها الغسل إلى ما بعد طلوع الفجر ولكن ليس لها تأخيره إلى طلوع الشمس، بل يجب عليها أن تغتسل وتصلي الفجر قبل طلوع الشمس، وهكذا الجنب ليس له تأخير الغسل إلى ما بعد طلوع الشمس، بل يجب عليه أن يغتسل ويصلى الفجر قبل طلوع الشمس، ويجب على الرجل المبادرة بذلك حتى يدرك صلاة الفجر مع الجماعة.
ومن الأمور التي لا تفسد الصوم: تحليل الدم، وضرب الإبر غير التي يقصد بها التغذية، لكن تأخير ذلك إلى الليل أولى وأحوط إذا تيسر ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (3) » . وقوله عليه الصلاة والسلام: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (4) » .
ومن الأمور التي يخفى حكمها على بعض الناس: عدم الاطمئنان في الصلاة
__________
(1) صحيح البخاري صلاة التراويح (2014) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، سنن الترمذي الصوم (683) ، سنن النسائي الصيام (2203) ، سنن أبو داود الصلاة (1372) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(2) سنن الترمذي كتاب الصوم (720) ، سنن أبو داود الصوم (2380) ، سنن ابن ماجه الصيام (1676) ، مسند أحمد بن حنبل (2/498) ، سنن الدارمي الصوم (1729) .
(3) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(4) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .(34/320)
سواء كانت فريضة أو نافلة. وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الاطمئنان ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة بدونه، وهو الركود في الصلاة والخشوع فيها وعدم العجلة حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، وكثير من الناس يصلي في رمضان صلاة التراويح صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها، بل ينقرها نقرا، وهذه الصلاة على هذا الوجه باطلة، وصاحبها آثم غير مأجور.
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس ظن بعضهم أن التراويح لا يجوز نقصها عن عشرين ركعة، وظن بعضهم أنه لا يجوز أن يزاد فيها على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وهذا كله ظن في غير محله، بل هو خطأ مخالف للأدلة.
وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن صلاة الليل موسع فيها فليس فيها حد محدود لا تجوز مخالفته، بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة وربما صلى ثلاث عشرة ركعة وربما صلى أقل من ذلك في رمضان وفي غيره، ولما «سئل صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل قال: مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى (1) » متفق على صحته.
ولم يحدد ركعات معينة لا في رمضان ولا في غيره، ولهذا صلى الصحابة رضي الله عنهم في عهد عمر رضي الله عنه في بعض الأحيان ثلاثا وعشرين ركعة وفي بعضها إحدى عشرة ركعة، كل ذلك ثبت عن عمر رضي الله عنه وعن الصحابة في عهده.
وكان بعض السلف يصلي في رمضان ستا وثلاثين ركعة ويوتر بثلاث، وبعضهم يصلي إحدى وأربعين، ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وغيره من أهل العلم، كما ذكر -رحمة الله عليه- أن الأمر في ذلك واسع، وذكر أيضا أن الأفضل لمن أطال القراءة والركوع والسجود
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (472) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (749) ، سنن الترمذي الصلاة (461) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1691) ، سنن أبو داود الصلاة (1326) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1175) ، مسند أحمد بن حنبل (2/102) ، موطأ مالك النداء للصلاة (269) .(34/321)
أن يقلل العدد، ومن خفف القراءة والركوع والسجود زاد في العدد، هذا معنى كلامه رحمه الله.
ومن تأمل سنته صلى الله عليه وسلم علم أن الأفضل في هذا كله هو صلاة إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة في رمضان وغيره لكون ذلك هو الموافق لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أحواله، ولأنه أرفق بالمصلين وأقرب إلى الخشوع والطمأنينة، ومن زاد فلا حرج ولا كراهية كما سبق.
والأفضل لمن صلى مع الإمام في قيام رمضان ألا ينصرف إلا مع الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة (1) » .
ويشرع لجميع المسلمين الاجتهاد في أنواع العبادة في هذا الشهر الكريم من صلاة النافلة، وقراءة القرآن بالتدبر والتعقل والإكثار من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والاستغفار والدعوات الشرعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عز وجل، ومواساة الفقراء والمساكين، والاجتهاد في بر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الجار، وعيادة المريض، وغير ذلك من أنواع الخير، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «ينظر الله إلى تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله» ، ولما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه» ، ولقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «عمرة في رمضان تعدل حجة -أو قال- حجة معي (2) » .
والأحاديث والآثار الدالة على شرعية المسابقة والمنافسة في أنواع الخير في هذا الشهر الكريم كثيرة.
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (806) ، سنن النسائي السهو (1364) ، سنن أبو داود الصلاة (1375) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1327) ، مسند أحمد بن حنبل (5/160) ، سنن الدارمي الصوم (1777) .
(2) سنن الترمذي الحج (939) ، سنن أبو داود المناسك (1988) ، سنن ابن ماجه المناسك (2993) ، مسند أحمد بن حنبل (6/375) ، سنن الدارمي المناسك (1860) .(34/322)
والله المسئول أن يوفقنا وسائر المسلمين لكل ما فيه رضاه، وأن يتقبل صيامنا وقيامنا، ويصلح أحوالنا ويعيذنا جميعا من مضلات الفتن. كما نسأله سبحانه أن يصلح قادة المسلمين، ويجمع كلمتهم على الحق إنه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء
والدعوة والإرشاد(34/323)
حديث شريف
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: «قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله، قيل: ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره (1) »
رواه البخاري
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2786) ، صحيح مسلم الإمارة (1888) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1660) ، سنن النسائي الجهاد (3105) ، سنن أبو داود الجهاد (2485) ، سنن ابن ماجه الفتن (3978) ، مسند أحمد بن حنبل (3/88) .(34/324)
بسم الله الرحمن الرحيم
{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} (1)
(سورة التوبة، الآية 108)
__________
(1) سورة التوبة الآية 108(35/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(35/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
/د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(35/3)
المحتويات
الافتتاحية:
واجب المسلمين تجاه دينهم ودنياهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة:
حكم استعمال المياه النجسة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 35
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 61
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 93
البحوث:
المحاولات التوفيقية لتأنيس الفائدة الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين 101(35/4)
من أصول أهل السنة والجماعة د. صالح الفوزان 141
حب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد د. محمد الشويعر 157
القراءات القرآنية وموقف المفسرين منها محمد بن علي الحسن 185
بغية الطالبي في ترجمة أبي القاسم الشاطبي د. محمد سيدي محمد الأمين 247
الطريق الوسط في بيان عدد الجمعة المشترط الشيخ الوليد بن عبد الرحمن بن الفريان 301
من قرارات المجامع الفقهية 337
نصيحة عامة حول بعض كبائر الذنوب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 345(35/5)
صفحة فارغة(35/6)
الافتتاحية
واجب المسلمين
تجاه دينهم ودنياهم
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (2) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (3) {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (4) . أما بعد:
فأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يوفقنا جميعا لما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأشكره سبحانه على ما من به من العمل في سبيل الله. وفي طاعته جل وعلا، والتواصي بالحق، وأسأله جل وعلا أن يعيننا جميعا على ما فيه رضاه، ويعيذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. أما عن الفتاوى واستنباطها من كتاب الله؟ ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقول: إن هذا هو الواجب على أهل العلم، وهو الذي نفعله
__________
(1) سورة آل عمران الآية 102
(2) سورة النساء الآية 1
(3) سورة الأحزاب الآية 70
(4) سورة الأحزاب الآية 71(35/7)
ونهدف إليه، ونحرص على تطبيق فتاوانا عليه، ولكنني لست معصوما، فقد يقع الخطأ مني، ومن غيري من أهل العلم، ولكني لا آلو جهدا في تطبيق ما يصدر مني على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا آلو جهدا في استنباط ما دل عليه كتاب الله. وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما يصدر مني، من قليل أو كثير. هذا هو جهدي، وأسأل الله أن يجعل ذلك موفقا ومصيبا للحق.
وأما ما يتعلق بسؤال أهل العلم، والاستفتاء منهم، فهذا أمر معلوم قد شرعه الله لعباده فإن الله جل وعلا أمر بسؤال أهل العلم، وأسأل الله أن يجعلنا وسائر إخواننا من أهل العلم النافع، والعمل الصالح. فقال سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوم أفتوا بغير علم: «ألا سألوا إذ لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال (2) » . فالواجب على طالب العلم، وعلى كل مسلم أشكل عليه أمر من أمور دينه أن يسأل عنه، ذوي الاختصاص من أهل العلم، وأن يتبصر، وأن لا يقدم على أي عمل بجهل يقوده إلى الضلال. فعلى المسلمين أن يسألوا، وعلى أهل العلم أن يبينوا. فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم خلفاء الرسل في بيان الحق، والدعوة إليه، والإفتاء به. وعلى جميع المسلمين أن يسألوا عما أشكل عليهم. وأن يستفتوا أهل العلم.
وأهل العلم هم علماء الكتاب والسنة، وهم الذين يرجعون في فتاواهم إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. هؤلاء هم أهل العلم وليس أهل العلم من يقلد الرجال ولا يبالي بالكتاب والسنة، إنما العلماء هم الذين يعظمون كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويرجعون إليهما في كل شيء، هؤلاء هم أهل العلم.
وعلى طالب العلم أن يتأسى بهم، ويجتهد في سلوك طريقهم، وعلى عامة المسلمين أن يسألوهم عما أشكل عليهم في أمر دينهم ودنياهم، لأن الله جل وعلا بعث الرسل لإصلاح أمر الدين والدنيا جميعا، ولا سيما خاتمهم
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 7
(2) سنن أبو داود الطهارة (336) .(35/8)
وإمامهم، وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله بعثه للناس عامة للجن والإنس، وجعل رسالته عامة، وفيها صلاح أمر الدنيا والآخرة، وفيها صلاح العباد والبلاد في كل شيء، فيها خلاصهم من كل شر، وفيها صلاحهم فيما يتعلق بدنياهم، وأمر معاشهم، وفيها صلاحهم فيما يتعلق بطاعة ربهم وعبادته، وأداء حقه، وترك ما نهى عنه، وفيها صلاحهم في كل ما يقربهم من الله، ويباعدهم من غضبه، سبحانه وتعالى، وفيها صلاحهم بتوجيه العباد وإرشادهم إلى ما ينفعهم، ويهديهم إلى الطريق السوي، ويبعدهم عن طريق النار، وطريق الهلاك والدمار. فالمسلمون عليهم واجبات تتعلق بدينهم، وبالاستقامة عليه كما شرع الله، وكما أمرهم الله. فإن الله خلقهم ليعبدوه، وأرسل الرسل بذلك، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وهذه هي العبادة التي أمرهم الله بها، في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2) . وفي قوله سبحانه وبحمده: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (3) وفي قوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (4) ، وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (5) وفي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (6) .
والله بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، كما بعث الرسل قبله، بعثه بالدعوة إلى هذه العبادة، وللدعوة إلى هذا الدين، بعثه إلى الثقلين الجن والإنس رحمة
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 21
(3) سورة النساء الآية 36
(4) سورة البينة الآية 5
(5) سورة النحل الآية 36
(6) سورة الأنبياء الآية 25(35/9)
للعالمين، كما قال سبحانه وبحمده: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (1) ، بعثه معلما ومرشدا وهاديا إلى طريق النجاة، معلما لهم كل ما فيه صلاحهم ونجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وجعله خاتم الأنبياء. ليس بعده نبي ولا رسول، ومن ادعى النبوة بعده فهو كاذب كافر، بإجماع أهل العلم والإيمان، فمن ادعى أنه نبي أو أنه أوحي إليه بشيء كالقاديانية فهو كافر بالله، ضال مضل، مرتد عن دين الإسلام، إذا كان يدعي الإسلام، فهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، كما قال جل وعلا: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (2) .
وقد تواترت عنه عليه الصلاة والسلام الأحاديث الصحيحة، بأنه خاتم الأنبياء، لا نبي بعده، فالواجب على جميع الثقلين اتباعه، والاستقامة على دينه، والتفقه في ذلك، والسير على ذلك حتى الموت، وهذه العبادة التي خلقوا لها، لا بد أن يتفقهوا فيها، ولا بد أن يعرفوها بالأدلة من الكتاب والسنة، فهم خلقوا ليعبدوا الله، وتفسير هذه العبادة يؤخذ عن الله، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد فسرها الله في كتابه العظيم، وفسرها نبينا عليه الصلاة والسلام، فأصلها توحيد الله والإخلاص له، كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (3) .
هذا أصل هذه العبادة، فأصلها توحيد الله وتخصيصه بالعبادة قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (4) وبهذا أنزلت الكتب جميعها من الله سبحانه وتعالى، لبيان هذه العبادة، كما قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (5) {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} (6) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 107
(2) سورة الأحزاب الآية 40
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الأنبياء الآية 25
(5) سورة هود الآية 1
(6) سورة هود الآية 2(35/10)
فالكتب المنزلة من السماء، وآخرها القرآن، كلها تدعو إلى توحيد الله والإخلاص له، وطاعة أوامره، وترك نواهيه.
والرسل كلهم جميعا كذلك يدعون إلى توحيد الله وطاعة أوامره، وترك نواهيه، واتباع شريعته والحذر مما نهى عنه سبحانه وتعالى.
فعلى جميع المكلفين من إنس وجن، وعرب وعجم، ورجال ونساء، عليهم جميعا أن يعبدوا الله وحده وأن ينقادوا لما جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قولا وعملا، فعلا وتركا. فأصل الدين وأساسه هو شهادة أن لا إله ألا الله. وأن محمدا رسول الله.
وهذا هو أصل هذه العبادة وأساسها، أن يعبد الله وحده. دون كل ما سواه: بالدعاء والرجاء والخوف، والنذر والذبح، وسائر العبادات، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (1) ، وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) ، وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (3) وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (5) ، وقال سبحانه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (6) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (7) .
فالعبادة حق الله لا تصلح لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، ولا لصنم ولا لجن ولا لوثن، ولا غير ذلك، بل هو حق الله عليك أن تعبده وحده بدعائك ورجائك، وخوفك وذبحك ونذرك وصلاتك، وصومك وحجك وصدقاتك، وغير ذلك، لأنه سبحانه هو المعبود بالحق، وما سواه معبود
__________
(1) سورة الإسراء الآية 23
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة البينة الآية 5
(4) سورة الأنعام الآية 162
(5) سورة الأنعام الآية 163
(6) سورة الكوثر الآية 1
(7) سورة الكوثر الآية 2(35/11)
بالباطل، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (1) وكان العرب وغيرهم من الأمم، إلا من رحم الله، وهم قليل حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا على الشرك بالله، منهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء. ومنهم من يعبد الأصنام المنحوتة على صورة فلان وفلان، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد القبور، ومنهم من يعبد النجوم، ويستغيث بها، وينذر لها إلى غير ذلك.
فبعث الله هذا النبي العظيم، صلى الله عليه وسلم، يدعوهم إلى توحيد الله، وينذرهم من هذا الشرك الوخيم، فقام بذلك أكمل قيام عليه الصلاة والسلام. ودعا إلى الله وأرشد إلى دينه جل وعلا، الذي رضيه للناس، وعلم الناس توحيد الله.
__________
(1) سورة الحج الآية 62(35/12)
مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة، يدعو فيها إلى توحيد الله والإخلاص لله، وترك عبادة ما سواه جل وعلا.
ويعد مضي عشر سنين فرض الله عليه الصلوات الخمس، قبل أن يهاجر أسري به إلى بيت المقدس ثم عرج به إلى السماء، وتجاوز السماوات السبع جميعا، ورفع إلى مستوى فوق ذلك عليه الصلاة والسلام، وكلمه الله جل وعلا، وأوحى إليه الصلوات الخمس، فنزل بها عليه الصلاة والسلام، وعلمها الناس، وقام بها المسلمون في مكة، ثم هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وفرض الله عليه بقية أمور الدين من زكاة وصيام وحج وغير ذلك.
فالواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس، والعرب والعجم، والذكور والإناث، والحكام والمحكومين، والأغنياء والفقراء، الواجب عليهم جميعا في وقته، وبعد وقته، وفي وقتنا هذا وإلى يوم القيامة، الواجب على(35/12)
الجميع أن يعبدوا الله وحده، وأن ينقادوا لشرعه، وأن يتبعوا ما جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قولا وعملا، وعقيدة.
هذا واجب الجميع نحو دينهم، يجب عليهم أن يعبدوا الله ويطيعوا أوامره ويتركوا نواهيه، فالعبادة هي طاعة الأوامر إخلاصا لله ومحبة له وتعظيما له، من صلاة وزكاة وحج، وبر بالوالدين، وصلة للرحم، وجهاد في سبيل الله بالنفس والمال، وصدق في الحديث، وغير هذا مع ترك كل ما حرم الله من الشرك بالله، وهو أعظم الذنوب، فالشرك الذي هو صرف العبادة، أو بعضها لغير الله أعظم الذنوب، وهو الشرك الأكبر: كدعاء الملائكة أو الأنبياء، أو الجن أو أصحاب القبور فيستغيث بهم " أو ينذر لهم، أو يذبح لهم، وهذا ينافي قول لا إله إلا الله. فإن قول لا إله إلا الله، معناها لا معبود بحق إلا الله، وهي كلمة التوحيد، وهي أصل الدين وأساس الملة، فدعاء الأموات والأصنام وغيرهم. والاستغاثة بهم، والنذر لهم ينقض هذه الكلمة وينافيها. وهو الشرك الأكبر، والذي يأتي الأموات ويدعوهم، ويستغيث بهم، وينذر لهم أو يسألهم النصر على الأعداء، أو شفاء المرضى، أو يدعو الملائكة أو الرسل، أو يدعو الجن ويستغيث بهم، أو ينذر لهم ويذبح لهم، كل هذا من الشرك بالله، وكل هذا يناقض قول: لا إله إلا الله، ويخالف قوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (1) ويناقض قوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (2) .
وبهذا يعلم كل مسلم أن ما يفعله بعض الجهال عند بعض القبور، فيأتي إلى القبر، ويقول يا سيدي فلان اشف مرضي، أو انصرني على عدوي، أو أنت تعلم ما نحن فيه انصرنا، أو ما أشبه ذلك.
__________
(1) سورة الفاتحة الآية 5
(2) سورة البينة الآية 5(35/13)
هذا من الشرك الأكبر، وهذا هو دين الجاهلية، نسأل الله السلامة والعافية.
ولا بد أيضا مع توحيد الله، والإخلاص له، والحذر من الكفر به، لا بد من الشهادة بأن محمدا رسول الله. هاتان الشهادتان هما أصل الدين، وأساس الملة. فعلى كل مكلف أن يؤمن بأن محمدا رسول الله، هو عبده ورسوله إلى الثقلين الإنس والجن، وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي العربي المكي ثم المدني، أرسله الله حقا إلى جميع الثقلين يجب الإيمان به بالقلب واللسان والعمل، فيؤمن المكلف بأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي، هو رسول الله حقا إلى جميع الناس، وهو خاتم الأنبياء، إيمانا صادقا، لا نفاق فيه، ويحققه بالعمل بطاعة الأوامر، وترك النواهي، بطاعة أوامر الله من صلاة وزكاة، وصوم وحج وغير ذلك، وترك محارم الله من الشرك بالله، والزنا والسرقة، وشرب المسكرات، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، إلى غير ذلك مما حرم الله، تحقق هاتين الشهادتين يا عبد الله، بطاعة الأوامر، وترك النواهي هذا حق الله عليك أيها العبد، أما حق الرسول عليك، فعليك أن تعبد الله وحده بطاعة الأوامر، وترك النواهي والإيمان بأنه ربك، وإلهك الحق، وأنه إله الجميع، وأنه سبحانه خالق الكون. ومصرف أحوال الجميع، وأنه ذو الأسماء الحسنى، والصفات العلا، كل هذا داخل في الإيمان بالله وحده، فهو سبحانه رب الجميع وخالقهم ومصرف أحوال العباد فهو سبحانه: الخلاق الرزاق مدبر الأمور، مصرف الأشياء، ليس للعباد خالق سواه، ولا مدبر سواه، فهو النافع الضار، المانع المعطي، الخالق لكل شيء، القادر على كل شيء، الرزاق للعباد، بيده تصريف الأمور كلها، سبحانه وتعالى.
وهذا يسمى توحيد الربوبية، وهو وحده لا يدخل في الإسلام، بل لا بد مع ذلك من الإيمان بأنه هو المستحق للعبادة، فلا يستحقها سواه، وهذا هو(35/14)
معنى لا اله إلا الله. أي لا معبود حق إلا الله. وهذا هو توحيد العبادة، وهو تخصيصه سبحانه بالعبادة، وإفراده بها من دعاء وخوف، ورجاء وتوكل، وصلاة وصوم. وغير ذلك، مع الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات، وهو الإيمان بأنه سبحانه هو الكامل في ذاته، وأسمائه وصفاته وأفعاله، له الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته، لا شريك له، ولا شبيه له، ولا كفؤ له سبحانه وتعالى. وهذا هو توحيد الأسماء والصفات كما تقدم. قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (1) {اللَّهُ الصَّمَدُ} (2) {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (3) {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (4) ، وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (5) .
فعلى جميع المكلفين من الثقلين، الإيمان بأسماء الله وصفاته الواردة في القرآن الكريم، كالعزيز الحكيم، والسميع والبصير، والخلاق والرزاق، والرحمن الرحيم، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، وعلى الجميع أيضا الإيمان بما ثبت في السنة، سنة النبي صلى الله عليه وسلم، من أسماء الله " وصفاته، ثم إمرارها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تمثيل ولا تأويل، ولا زيادة ولا نقصان، بل نؤمن بها ونقرها ونمرها كما جاءت "، لا نحرف ولا نغير، ولا نزيد ولا ننقص، ولا نئول شيئا من صفات الله، بل هي حق كلها يجب إثباتها لله، على الوجه اللائق بالله، مع الإيمان القطعي بأنه سبحانه لا يشبه خلقه في شيء من صفاته جل وعلا، كما أنه لا يشبههم في ذاته، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، وهو الذي أجمعت عليه الرسل، ونزلت به الكتب، التي أعظمها وأكملها القرآن الكريم، وهو الحق لا ريب فيه، فعليك يا عبد الله أن تؤمن
__________
(1) سورة الإخلاص الآية 1
(2) سورة الإخلاص الآية 2
(3) سورة الإخلاص الآية 3
(4) سورة الإخلاص الآية 4
(5) سورة الشورى الآية 11(35/15)
به. وأن تعض عليه بالنواجذ ولا بد مع هذا كله، من الإيمان بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم واتباعه، مع الإيمان بجميع المرسلين، ولا بد أن تؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله، من الملائكة والكتب، وأمر الجنة والنار، والبعث والنشور، والحساب والجزاء، وعذاب القبر ونعيمه، والإيمان بالقدر خيره وشره.
لا بد من الإيمان بهذا كله من جميع المكلفين من الرجال والنساء، والأحرار والعبيد، والعرب والعجم، والأغنياء والفقراء، والحكام والمحكومين، والجن والإنس، على الجميع الإيمان بكل ما أخبر الله به، ورسوله.
هذا واجبهم نحو دينهم، وواجب عليهم جميعا أن يؤمنوا بكل ما أخبر الله به ورسوله مما كان في الدنيا من الرسل الماضين من آدم ومن بعده من الرسل، وما جاءوا به من الهدى، وأن الله جل وعلا بعثهم لدعوة الناس إلى الخير والهدى والتوحيد، وأنهم بلغوا الرسالة، وأدوا الأمانة عليهم الصلاة والسلام، ولا بد من الإيمان أيضا بكل ما مضى من أخبار الماضين، مما جرى على قوم نوح وعاد وثمود، وغيرهم ممن قص الله علينا أخبارهم.
فعليك يا عبد الله أن تؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله. في كتابه العزيز، وفيما جاءت به سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بد من هذا الإيمان، ومن ذلك الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، كما تقدم فإن القبر إما روضة من رياض الجنة للمؤمن، أو حفرة من حفر النار للكافر.
أما العاصي فهو على خطر، وقد يناله في قبره ما شاء الله من العذاب، إلا من رحم الله، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر على قبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، ثم قال: بلى، أما(35/16)
أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من البول (1) » . الحديث. ومعنى لا يستتر من البول، أي لا يتنزه منه كما جاء ذلك في رواية أخرى. فعذبا في قبريهما بهاتين المعصيتين، وهذا عذاب معجل.
وهذا الحديث يبين لنا أن أمر المعاصي خطير، وأن الواجب على المؤمن أن يستقيم على دين الله، قولا وعملا وعقيدة، وأن يحافظ على ما أوجب الله عليه، وأن يحذر ما نهى الله عنه سبحانه وتعالى، وأن يؤمن بكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما يتعلق بأحوال القبر، وأحوال الناس في قبورهم، فالقبر إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار. والميت أول ما يوضع في قبره يسأله ملكان عن ربه، وعن دينه وعن نبيه. فالمؤمن يثبته الله فيقول: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي، لأنه كان ثابتا في الدنيا على الحق، قبل أن يموت، فكان بصيرا بدينه، ثابتا عليه، فلهذا يثبته الله في القبر، وأما الكافر والمنافق إذا سئل فإنه يقول: هاه هاه، لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه الإنسان لصعق. وهكذا يحاسبهم الله، ويجازيهم بأعمالهم.
فالناس يبعثون ويجازون بأعمالهم بعد قيام الساعة، وقد دل الكتاب والسنة على أن إسرافيل عليه السلام، ينفخ في الصور، فيموت الناس الموجودون، ثم ينفخ فيه نفخة أخرى بعد ذلك، فيبعثهم الله، ويقومون من قبورهم، ومن كل مكان من البحار وغيرها، ويجمعهم الله ويجازيهم بأعمالهم، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. هذا حق لا ريب فيه، فلا بد من الإيمان بهذا كله، والإعداد له العدة الصالحة، بتوحيد الله وطاعته، واتباع شريعته، والحذر من معصيته سبحانه وتعالى ثم بعد هذا المحشر والقيام بين يدي رب العالمين، ومجازاة الناس بأعمالهم، جنهم وإنسهم ينصب الله الموازين، ويزن بها أعمال العباد، فهذا يرجح ميزانه وهو السعيد، وهذا يخف ميزانه وهو
__________
(1) صحيح البخاري الوضوء (218، 218) ، صحيح مسلم الطهارة (292، 292) ، سنن الترمذي الطهارة (70، 70) ، سنن النسائي الجنائز (2068، 2068) ، سنن أبو داود الطهارة (20، 20) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (347، 347) ، مسند أحمد بن حنبل (1/225، 1/225) ، سنن الدارمي الطهارة (739، 739) .(35/17)
الهالك، وهذا يعطى كتابه بيمينه وهو السعيد، وهذا يعطى كتابه بشماله وهو الشقي، نسأل الله السلامة والعافية.
فهذا المقام العظيم. وهذا الأمر الجلل، لا بد من أن نستحضره، وأن نعد له عدته، فيوم القيامة يوم عظيم، وهو يوم الأهوال والشدائد، ومقداره خمسون ألف سنة، كما قال تعالى في كتابه الكريم: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (1) {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} (2) {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} (3) {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (4) .
فلا بد من الإعداد لهذا اليوم، والإيمان بأنه حق.
فعليك يا عبد الله أن تعد له العدة الصالحة، بتوحيد الله وطاعته، واتباع شريعته، وتعظيم أمره، واجتناب نهيه، والتعاون على البر والتقوى مع إخوانك المسلمين، والتواصي بالحق والصبر عليه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرشاد الضال، وتعليم الجاهل، إلى غير ذلك من وجوه الخير والنصح.
فعليك يا عبد الله، وعليك يا أمة الله، العناية بهذا الأمر والإعداد له، وعلى الجميع أن يتقوا الله، ويطيعوا أمره، ويتواصوا بالحق والصبر عليه، وأن يعلموا الجاهل، ويرشدوا الضال، وينصحوا لله، ولعباده، وأن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، كما قال تعالى في كتابه العظيم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (5) ويقول سبحانه وبحمده:
__________
(1) سورة المعارج الآية 4
(2) سورة المعارج الآية 5
(3) سورة المعارج الآية 6
(4) سورة المعارج الآية 7
(5) سورة التوبة الآية 71(35/18)
{وَالْعَصْرِ} (1) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (2) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) ويقول سبحانه وتعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) .
__________
(1) سورة العصر الآية 1
(2) سورة العصر الآية 2
(3) سورة العصر الآية 3
(4) سورة المائدة الآية 2(35/19)
والمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة رؤية حقيقية، يكلمهم سبحانه، ويريهم وجهه الكريم. هذه عقيدة أهل السنة والجماعة: أجمع أهل السنة والجماعة، على أن الله سبحانه يراه المؤمنون يوم القيامة، يريهم وجهه الكريم جل وعلا، ويحجب عنه الكفار، كما قال سبحانه وتعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (1) .
فالمؤمنون يرونه سبحانه، والكفار محجوبون عنه، هذه الرؤية العظيمة آمن بها أهل السنة والجماعة، وأجمعوا عليها. وهكذا في الجنة يراه المؤمنون، وذلك أعلى نعيمهم، كما قال عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (2) . فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل، مع ما يزيدهم الله به من الخير والنعيم المقيم، الذي فوق ما يخطر ببالهم.
وقال عز وجل: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} (3) {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} (4) {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (5) . وقال سبحانه وتعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (6) {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (7) . فالمؤمنون يرون الله سبحانه في القيامة، وفي الجنة رؤية عظيمة حقيقية. لكن من دون إحاطة لأنه سبحانه أجل وأعظم من أن تحيط به الأبصار من خلقه، كما قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (8) ، والمعنى أنها لا تحيط به، لأن الإدراك أخص والرؤية أعم، كما قال تعالى في قصة موسى وفرعون: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} (9) فأوضح سبحانه، أن الترائي
__________
(1) سورة المطففين الآية 15
(2) سورة يونس الآية 26
(3) سورة المطففين الآية 22
(4) سورة المطففين الآية 23
(5) سورة المطففين الآية 24
(6) سورة القيامة الآية 22
(7) سورة القيامة الآية 23
(8) سورة الأنعام الآية 103
(9) سورة الشعراء الآية 61(35/19)
غير الإدراك وقال جمع من السلف. في تفسير الآية المذكورة، منهم عائشة رضي الله عنها: إن المراد أنهم لا يرونه في الدنيا.
وعلى كلا القولين، فليس فيها حجة لمن أنكر الرؤية من أهل البدع لأن الآيات القرآنية الأخرى، التي سبق بيانها مع الأحاديث الصحيحة المتواترة كلها قد دلت على إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وفي الجنة.
وأجمع على ذلك الصحابة رضي الله عنهم، وأتباعهم من أهل السنة وشذت الجهمية والمعتزلة والأباضية فأنكروها، وقولهم من أبطل الباطل، ومن أضل الضلال، نسأل الله العافية والسلامة مما ابتلاهم به، ونسأل الله لنا وللموجودين منهم الهداية والرجوع إلى الحق.
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: «يقول الله جل وعلا يوم القيامة، لأهل الجنة: هل تريدون شيئا أزيدكم؟ قالوا: يا ربنا ألم تبيض وجوهنا، ألم تثقل موازيننا، ألم تدخلنا الجنة، ألم تنجنا من النار. فيقول الله سبحانه: إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيكشف لهم الحجاب عن وجهه الكريم، فيرونه سبحانه وتعالى، رؤية حقيقية وذلك أعلى نعيمهم، وأحب شيء إليهم (1) » ، جعلنا الله وإياكم منهم.
وقد أجمع أهل الحق من أهل السنة والجماعة على هذه الرؤية، كما تقدم، وقد حكى ذلك عنهم أبو الحسن الأشعري في كتابه: مقالات الإسلاميين، وحكى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وذكر إجماع أهل السنة على ذلك. وذكر أن جمهور أهل السنة يكفرون من أنكر هذه الرؤية.
فجمهور أهل السنة والجماعة، يرون أن من أنكر هذه الرؤية فهو كافر، نسأل الله السلامة والعافية.
أما في الدنيا فإنه سبحانه لا يرى فيها، فالرؤية نعيم عظيم، والدنيا ليست دار نعيم، ولكنها دار ابتلاء وامتحان، ودار عمل. فلهذا ادخر الله سبحانه رؤيته، ادخرها لعباده في الدار الآخرة. حتى النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه في
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (181) ، سنن الترمذي صفة الجنة (2552) ، تفسير القرآن (3105) ، سنن ابن ماجه المقدمة (187، 187) ، مسند أحمد بن حنبل (4/332، 4/333) .(35/20)
الدنيا عند جمهور العلماء، كما سئل عن ذلك فقال: «رأيت نورا (1) » فلم ير عليه الصلاة والسلام ربه يقظة.
وقال عليه الصلاة والسلام: «اعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت (2) » أخرجه مسلم في صحيحه. فليس أحد يرى ربه في الدنيا أبدا، لا الأنبياء ولا غيرهم، وإنما يرى في الآخرة سبحانه وتعالى. فعلى المسلم أن يؤمن بهذا. وبكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الجنة حق والنار حق، وأن أهل الإيمان يدخلون الجنة، ويرون ربهم سبحانه في القيامة، وفي الجنة، كما يشاء سبحانه، وأن الكفار يصيرون إلى النار مخلدين فيها، نعوذ بالله من ذلك. وأنهم عن ربهم محجوبون لا يرونه سبحانه وتعالى لا في القيامة ولا في غيرها. بل هم عن الله محجوبون لكفرهم وضلالهم.
وأما العاصي فهو على خطر، لكنه مآله إلى الجنة وإن دخل النار بسبب معصيته فإنه لا يخلد فيها، بل يخرج منها فيصير إلى الجنة، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليه أهل السنة، خلافا للخوارج ومن تابعهم.
وأما المسلم الموحد العاصي فهو على خطر من دخول النار بمعاصيه، ومن تعذيبه في القبر بمعاصيه كما تقدم. ولكنه مصيره إلى الجنة بعد ذلك وإن دخل النار، وإن جرى عليه بعض العذاب.
فأهل السنة والجماعة مجمعون على أن العصاة لا يخلدون في النار، خلافا للخوارج والمعتزلة، ومن سار على نهجهم. فأهل السنة والجماعة مجمعون على أن العاصي الموحد، المؤمن لا يخلد في النار، بل هو تحت مشيئة الله كما قال الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) الآية فإن شاء الله عفا عنه ودخل مع إخوانه في الجنة، من أول وهلة، وإن لم يعف عنه صار إلى النار، وعذب فيها على قدر معاصيه، ثم بعد التعذيب
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (178) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3282) ، مسند أحمد بن حنبل (5/175) .
(2) صحيح البخاري الفتن (7123) ، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (169) ، سنن الترمذي الفتن (2235) ، مسند أحمد بن حنبل (2/135) .
(3) سورة النساء الآية 48(35/21)
والتطهير يصير إلى الجنة كما تواترت بذلك الأحاديث. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هكذا قال أهل السنة والجماعة، وقد يعذب العاصي في قبره، وقد يعذب في النار، لأنه مات على الزنى، أو على شرب الخمر، أو على عقوق الوالدين، أو على الربا، أو على غير ذلك من الكبائر إن لم يعف الله عنه، وقد أخبر الله سبحانه في الآية السابقة، أن الشرك لا يغفر لمن مات عليه، كما أخبر الله سبحانه في آية أخرى، أن من مات عليه فله النار، والعياذ بالله، مخلدا فيها. لا يغفر له. كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) . وقال سبحانه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (2) .
وأما العاصي فهو تحت مشيئة الله، إن شاء ربنا غفر له، وعفا عنه، فضلا منه وجودا، وكرما بسبب أعماله الصالحة، أو بشفاعة الشفعاء، أو بمجرد فضله وإحسانه بدون شفاعة أحد، أو بأسباب أخرى من أعمال صالحة تكون سببا لعفو الله، إلى غير ذلك من الأسباب هذا إذا لم يتب.
أما من تاب فإن الله جل وعلا يلحقه بإخوانه المؤمنين، من أول وهلة فضلا منه وإحسانا. ومن تمام حق الله عليك يا عبد الله في هذه الدار أن تعتني بصلاتك، وتحافظ عليها في جماعة مع إخوانك المسلمين، وأن تبتعد عن مشابهة المنافقين المتكاسلين عنها، الذين ذمهم الله في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} (3) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 88
(2) سورة التوبة الآية 17
(3) سورة النساء الآية 142(35/22)
ومن حق الله عليك أن تؤدي الزكاة، زكاة مالك بكل عناية، طيبة بها نفسك، وأن تصوم رمضان كما أمرك الله، وأن تحج البيت مرة واحدة في(35/22)
العمر، لأن الله سبحانه أوجب عليك ذلك، مع الاستطاعة، وأن تؤدي ما أوجب الله عليك من بر والديك، وصلة أرحامك، وصدق الحديث، وأداء الأمانة والجهاد في سبيل الله، إذا تيسر ذلك بالنفس وبالمال واللسان وأنتم الآن عندكم جهاد. جهاد إخوانكم الأفغان للشرك بالله والشيوعية، هؤلاء الإخوان المجاهدون لهم حق عليكم أن تساعدوهم بالنفس والمال واللسان، فهم مجاهدون للشرك والإلحاد والشيوعية، فنوصيكم جميعا بمساعدتهم بالنفس والمال واللسان، ومن قال: إنه لا يساعد إلا فلانا منهم، أو فلانا فقد غلط وأخطأ، بل الواجب أن يساعد الجميع حتى يفتح الله عليهم، ويمكنهم من عدوهم، ومن جملتهم الشيخ جميل الرحمن، وفقهم الله جميعا، ونصرهم على عدوهم. فكلهم مستحقون للمساعدة، وكلهم يجب أن يساعد، وكلهم بحمد الله على جهاد شرعي. وجهاد إسلامي.
وما قد يقع من بعضهم من الخطأ والغلط يعالج بالتي هي أحسن، فكل بني آدم خطاء، فإذا وقع الخطأ والغلط من بعض القادة أو غيرهم، ينبه إلى خطئه، وليس أحد منهم معصوما، بل يجب أن يبين له ما قد أخطأ فيه، ويوجه إلى الخير، ويجب أن يعان الجميع على البر والتقوى، وأن يجاهد مع الجميع بالنفس والمال واللسان، لأن جهادهم جهاد عظيم، وجهاد شرعي لأكفر دولة، وأخبثها.
وهكذا إخواننا في فلسطين لهم حق على جميع الدول الإسلامية وأغنياء المسلمين أن يساعدوهم في جهادهم، وأن يقوموا حتى يتخلصوا من عدو الله اليهود.
فاليهود شرهم عظيم، وبلاؤهم كبير، وقد آذوا إخواننا المسلمين في فلسطين، فالواجب على الدول الإسلامية، وعلى جميع المسلمين القادرين، أن يساعدوهم في جهاد أعداء الله من اليهود، حتى يحكم الله بينهم وبين المسلمين، وهو خير الحاكمين، وذلك بنصر الله لهم على اليهود، وإخراجهم من بلاد المسلمين، أو الصلح بينهم وبين دولة فلسطين. صلحا ينفع(35/23)
المسلمين، ويحصل به للفلسطينيين، إقامة دولتهم، وقرارهم في بلادهم، وسلامتهم من الأذى والظلم، فيجب على الدول الإسلامية أن تقوم بهذا الأمر حسب الطاقة والإمكان.
وأما بقاؤهم في حرب مع اليهود، وفي أذى عظيم، وضرر كبير على رجالهم ونسائهم وأطفالهم، فهذا لا يسوغ شرعا، بل يجب على الدول الإسلامية والأغنياء والمسئولين من المسلمين أن يبذلوا جهودهم ووسعهم في جهاد أعداء الله اليهود، أو فيما يتيسر من الصلح، إن لم يتيسر الجهاد، صلحا عادلا، يحصل به للفلسطينيين إقامة دولتهم على أرضهم، وسلامتهم من الأذى من عدو الله اليهود، مثلما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة. وأهل مكة ذلك الوقت أكثر من اليهود لأن المشركين الوثنيين أكفر من أهل الكتاب، فقد أباح الله طعام أهل الكتاب، والمحصنات من نسائهم، ولم يبح طعام الكفار من المشركين، ولا نساءهم وصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس. ويكف بعضهم عن بعض، وكان في هذا الصلح خير عظيم للمسلمين، وإن كان فيه غضاضة عليهم بعض الشيء، لكن رضيه النبي صلى الله عليه وسلم للمصلحة العامة.
فإذا لم يتيسر الاستيلاء على الكفرة، والقضاء عليهم، فالصلح جائز لمصلحة المسلمين، وأمنهم وإعطائهم بعض حقوقهم.
وهذا أمر مطلوب، وقد علم في الأصول المعتبرة، أن ما لا يدرك كله، لا يترك جله، ولهذا صالحهم صلى الله عليه وسلم عشر سنين، على وضع الحرب. وصبر على بعض الغضاضة في ذلك، لمصلحة المسلمين وأمنهم، حتى يتصلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحتى يسمعوا القرآن.
ولهذا كان صلحا عظيما، وفتحا مبينا، نفع الله به، وصار الناس يتصلون بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالصحابة ودخل بسبب هذا الصلح جمع غفير، وأمم كثيرة في الإسلام، دخلوا في دين الله، وتركوا الكفر بالله عز وجل، فعلى جميع(35/24)
المسلمين أيضا، أن يتعاونوا على البر والتقوى، ويتواصوا بالحق والصبر عليه، ويتعلموا دينهم ويتفقهوا فيه، حتى يكونوا على بصيرة بجهادهم، وسلمهم وصلحهم وحربهم.(35/25)
هكذا يجب على المسلمين أن يتعلموا فالإنسان ما خلق عالما، بل خلق جاهلا قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) . فالواجب على الجميع من الرجال والنساء التعلم والتفقه في الدين، من طريق المكاتبة، ومن طريق سماع المقالات العلمية في إذاعة القرآن الكريم، وغيرها، ومن برنامج نور على الدرب، فهو برنامج مفيد عظيم. وهو يذاع كل ليلة مرتين في نداء الإسلام، وفي إذاعة القرآن الكريم، وهذا البرنامج له فائدته العظيمة، وكذلك سماع المواعظ والمحاضرات التي تذاع في إذاعة القرآن الكريم وغيرها. وكذا العناية بخطب الجمعة، والاستفادة منها ومن المحاضرات والندوات التي يقوم بها العلماء، وحضور حلقات العلم والاستفادة منها.
وهذا واجب على الجميع، على الرجال والنساء أن يتعلموا ويتفقهوا في دينهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «خيركم من تعلم القرآن وعلمه (2) » . فخيار الناس أهل القرآن الذين يتعلمونه ويعلمونه الناس ويعملون به.
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من يرد الله به خيرا يفقه في الدين (3) » وهذا يدل على أن الذي لا يتفقه في الدين، ما أراد الله به خيرا. نسأل الله العافية.
فالواجب التعلم والتفقه في الدين، على الرجال والنساء، قال عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (4) » .
__________
(1) سورة النحل الآية 78
(2) صحيح البخاري فضائل القرآن (5027) ، سنن الترمذي فضائل القرآن (2907) ، سنن أبو داود الصلاة (1452) ، سنن ابن ماجه المقدمة (211) ، مسند أحمد بن حنبل (1/69) ، سنن الدارمي فضائل القرآن (3338) .
(3) سنن الترمذي العلم (2645) ، مسند أحمد بن حنبل (1/306) ، سنن الدارمي المقدمة (225) .
(4) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(35/25)
فأوصيكم جميعا أيها الأخوة من الرجال والنساء، وأوصي جميع من تبلغه هذه الكلمة أن يتقي الله، وأن يتعلم ويتفقه في الدين، وأن يعتني بكتاب الله القرآن الكريم، وأن يكثر من تلاوته، ويحفظ ما تيسر منه، فإنه كتاب الله، فيه الهدى والنور، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) ، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) ويقول سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) .
ويقول جل وعلا: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (4) .
ويقول سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (5) . فالوصية للجميع العناية بالقرآن الكريم، والإكثار من تلاوته، وتدبر معانيه، والسؤال عما أشكل عليك، وإذا كنت طالب علم، وهكذا المرأة إذا كانت طالبة علم، فعلى كل منهما أن يطالع ويراجع كتب التفسير فيما أشكل عليه، كتفسير ابن كثير، والبغوي وغيرهما من كتب التفسير المعروفة التي تذكر الأدلة.
فعلى طالب العلم من الرجال والنساء. أن يتأمل ويتدبر ويتفقه ويتعلم، وهكذا العامة عليهم أن يسألوا، ويسمعوا خطب الجمعة والمحاضرات، والندوات ونور على الدرب، الذي يسره الله في كل ليلة، ففيه سؤالات وأجوبة مهمة تفيد من يسمعها إذا قصد الفائدة.
أما التهاون والإعراض فهذا من عمل الكفار. قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} (6) وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} (7) ، فالواجب التعلم
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة الأنعام الآية 155
(4) سورة النحل الآية 89
(5) سورة ص الآية 29
(6) سورة الأحقاف الآية 3
(7) سورة الكهف الآية 57(35/26)
والتفقه في الدين، وسؤال أهل العلم عما أشكل. وهذا كتاب الله بين أيدينا فيه الهدى النور. وهكذا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم بين أيدينا، تدل على الحق وترشد إليه، وتبين ما قد يخفى من كتاب الله عز وجل، كما قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1) .
والعلماء موجودون بحمد الله، نسأل الله أن يبارك فيهم، ويعينهم على أداء الواجب، ويكثرهم ويمنحهم التوفيق، ويوفقهم لكل خير، ويعينهم على ما ينفع الأمة في دينها ودنياها إنه جواد كريم.
وقد أخذ الله الميثاق بذلك، وعلى الناس أن يتعلموا ويتبصروا، ويسألوا ولا يستحيوا من طلب العلم، فإن الله لا يستحي من الحق، فأم سليم امرأة أبي طلحة رضي الله عنها قالت والناس يسمعون: «يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق. فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا هي رأت الماء (2) » ، يعني المني.
فإذا احتلم الرجل أو المرأة في النوم في الليل أو النهار فعليهما الغسل إذا رأيا المني. فإذا لم يريا المني فلا غسل عليها.
وهكذا إذا قبل زوجته، أو نظر إليها، أو تفكر وأنزل المني عليه الغسل، وهكذا المرأة إذا قبلت زوجها، أو نظرت إليه أو تفكرت، ثم أنزلت المني فعليها الغسل.
فالتعلم والتفقه في الدين من أهم الواجبات. ولا سيما في عصرنا هذا عصر الغربة وقلة العلم والعلماء.
فالواجب التعلم والتفقه في الدين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (3) » متفق على صحته.
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) صحيح البخاري كتاب الأدب (6091) ، صحيح مسلم الحيض (313) ، سنن الترمذي الطهارة (122) ، سنن النسائي الطهارة (196) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (600) ، مسند أحمد بن حنبل (6/376) ، موطأ مالك الطهارة (118) .
(3) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(35/27)
ومما يبشر بالخير أن في كل مكان بحمد الله، يقظة عظيمة، وصحوة ظاهرة، ورغبة في التعلم والتفقه في الدين، في هذه البلاد وفي أوروبا وفي(35/27)
أمريكا وفي آسيا وفي أفريقيا. ففي كل بحمد الله حركة إسلامية، أو نشاط إسلامي، نسأل الله أن يسدد رأيهم، وأن يعينهم على كل خير، ونسأل الله أن يصلح القائمين على كل نشاط إسلامي، كما نسأله تعالى أن يمنحهم القادة الصالحين، والعلماء الموفقين، حتى يقودوا هذه الحركات الطيبة إلى الهدى وإلى الأمام، على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.
وعلى كل منا أن يعتني بهذا الأمر، ويساهم فيه بقدر طاقته في تعليم الناس وتوجيههم إلى الخير بالرفق والحكمة والأسلوب الحسن والإخلاص لله سبحانه وتعالى، وعلى كل منا أن ينصح لله ولعباده عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » رواه مسلم في صحيحه.
فكل واحد منا من الرجال والنساء عليه النصيحة لله، ولعباده، ومن النصيحة لله وللعباد تعليم الجاهل، وإرشاد الضال، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالحكمة والكلام الطيب، والأسلوب الحسن، لا بالعنف والشدة، إلا من ظلم كما قال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (2) .
والظالم المعتدي له شأن آخر من جهة ولاة الأمور، لكن أنت أيها الناصح تدعو إلى الله بالتي هي أحسن، فتعلم وتوجه، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بالحكمة والكلام الطيب، وبالأسلوب الحسن، عملا بالآية السابقة، وبقوله عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) وقوله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (4) الآية.
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(2) سورة العنكبوت الآية 46
(3) سورة النحل الآية 125
(4) سورة آل عمران الآية 159(35/28)
ومن النصيحة لله ولعباده الدعاء لولاة أمور المسلمين، وحكامهم بالتوفيق والهداية والصلاح في النية والعمل، وأن يمنحهم الله البطانة الصالحة، التي تعينهم على الخير، وتذكرهم به.
وهذا حق على كل مسلم في كل مكان، في هذه البلاد وفي غيرها، الدعوة لولاة الأمر بالتوفيق والهداية، وحسن الاستقامة، وصلاح البطانة، وأن يعينهم الله على كل خير، وأن يسدد خطاهم ويمنحهم التوفيق لما فيه صلاح العباد والبلاد.
فكل مسلم يدعو لولاة أمور المسلمين بأن يصلحهم الله وأن يردهم للصواب، وأن يهديهم. لما يرضيه سبحانه هكذا يجب عليك يا عبد الله أن تدعو لولاة الأمور، بأن يهديهم الله ويردهم للصواب، إذا كانوا على غير الهدى، تدعو الله لهم بالهداية والصلاح، حتى يستقيموا على أمر الله، وحتى يحكموا شريعة الله ففي تحكيم شريعة الله صلاح الجميع في كل مكان، وفي تحكيم شريعة الله، واتباع كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، صلاح الدنيا والآخرة، لأن الله إذا عرف من عبده نية صالحة وعزيمة صادقة، سدد رأيه وأعانه على كل عمل يرضيه، في أي مكان لأن في اتباع الشريعة، وتعظيم أمر الله ورسوله صلاح أمر الدنيا والآخرة.
فكل مسلم في دولته عليه أن يسأل الله لها التوفيق والهداية، وينصح لها، ويعينها على الخير، ويسأل الله لها التوفيق والسداد، ولا يسأم ولا يضعف عليه أن يستعمل الحكمة والأسلوب الحسن، والكلام الطيب، لعل الله يجعله مباركا في دعوته ونصيحته، فيكون سببا لهداية من أراد الله له الهداية، من أمير أو حاكم أو غيرهما، ممن له شأن في الأمة، لأن هداية المسئول وهداية من له شأن في الأمة، ينفع الله بها العباد والبلاد ويقتدي به الكثير من الأمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله (1) » . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر لدعوة اليهود: «لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم (2) » . .
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(2) صحيح البخاري المغازي (4210) ، صحيح مسلم فضائل الصحابة (2406) ، سنن أبو داود العلم (3661) ، مسند أحمد بن حنبل (5/333) .(35/29)
وهذه نعمة عظيمة، لا تتم إلا بالصدق والإخلاص والصبر، والحذر من الأسلوب الشديد العنيف، الذي ينفر الناس من الحق، ويسبب الفتن والشرور، بل على الداعي إلى الله، والناصح لدين الله أن يتحرى الأساليب المناسبة التي تعين على قبول الحق، وعلى الرضا به وتنفيذه، وعلى المسلم أيضا أن يجتهد فيما يصلح دنياه، كما يجتهد في صلاح دينه، وصلاح أهل بيته، فأهل البيت لهم حق عليك كبير، بأن تجتهد في إصلاحهم وتوجيههم إلى الخير، لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (1) .
فعليك أن تجتهد في إصلاح أهل بيتك، وهم زوجتك وأولادك الذكور والإناث، وإخوانك فجميع أهل البيت تجتهد في تعليمهم وتوجيههم وإرشادهم وتحذيرهم مما حرم الله، لأنك مسئول عنهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (2) » فالإمام راع ومسئول عن رعيته، الرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ثم قال صلى الله عليه وسلم: «ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (3) » .
فعلينا أن نجتهد في صلاحهم، من جهة الإخلاص لله في جميع الأعمال، والصدق في متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان به، ومن جهة الصلاة وغيرها مما أمر الله به سبحانه، ومن جهة البعد عن محارم الله.
فعلى كل واحد من الرجال والنساء النصح في أداء ما يجب عليه، المرأة عليها أن تجتهد. والرجل كذلك، إذ صلاح البيوت من أهم الأمور، قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} (4) وقال سبحانه عن نبيه إسماعيل: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (5) {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} (6) .
__________
(1) سورة التحريم الآية 6
(2) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(3) صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2409) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(4) سورة طه الآية 132
(5) سورة مريم الآية 54
(6) سورة مريم الآية 55(35/30)
فينبغي التأسي بالأنبياء والأخيار، والعناية بأهل البيت، لا تغفل عنهم يا عبد الله، من زوجة أو أم، أو أب أو جد، أو جدة أو إخوة، أو أولاد. عليك أن تجتهد في صلاحهم، وأن تأمر بنيك وبناتك بالصلاة لسبع، وتضربهم عليها لعشر ضربا خفيفا يعينهم على طاعة الله، ويعودهم أداء الصلاة في وقتها حتى يستقيموا على دين الله ويعرفوا الحق كما صحت بذلك السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فكل واحد منا عليه ذلك الدور، وكل امرأة عليها ذلك، فعلى المرأة والرجل جميعا التعاون على البر والتقوى في صلاح البيوت، وتحذير الأولاد مما يضرهم، فيعلمون ما أوجب الله عليهم ذكورا وإناثا، وينهون عما حرم الله عليهم، كالتخلف عن الصلوات، وشرب المسكر، وتعاطي المخدرات والتدخين، وحلق اللحى أو تقصيرها، وإسبال الثياب، والنميمة والغيبة، وسماع الأغاني والملاهي، وغير ذلك من المعاصي.
هذا مما يجب عليك نحو ولدك وأختك، وغيرهما من أهل البيت.
فالتعاون واجب على البر والتقوى، لأن الله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) .
ويقول سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (2) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (4) .
هؤلاء الرابحون من الرجال والنساء في سابق الزمان، وفي الزمان الحاضر، وفيما يأتي من الزمان، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانا صادقا، ثم نفذوا الإيمان وحققوه بالأعمال الصالحة، بفعل ما أوجب الله، وترك ما حرم الله، ثم تواصوا بالحق، فدعوا إلى الله، وعلموا الناس وأرشدوهم وتواصوا بالصبر.
هؤلاء هم الناجون، وهم الرابحون وهم السعداء في الدنيا والآخرة،
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) سورة العصر الآية 1
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3(35/31)
وهكذا قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (1) ، يعني أنهم أحبة فيما بينهم، لا يغتاب بعضهم بعضا، ولا ينم بعضهم على بعض، ولا يخونه في الأمانة، ولا يؤذيه ولا يظلمه، ولا يشهد عليه بالزور، إلى غير ذلك من الأعمال والأقوال، التي تنافي الولاية والمحبة.
فهم إخوة أحباب. متعاونون على كل خير ثم قال سبحانه وبحمده: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (2) ، والمعنى أنهم لا يسكتون عن إنكار المنكر، ولا يداهنون بل كل منهم يأمر أخاه بالمعروف، وينهاه عن المنكر، بالكلام الطيب والأسلوب الحسن، ثم قال سبحانه: {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (3) .
هكذا المؤمنون الصادقون والمؤمنات الصادقات، هذا شأنهم، يستقيمون على دين الله، ويتباعدون عن محارم الله، ويقفون عند حدود الله، ويرشدون الناس إلى الخير، وينصحونهم بعبارات حسنة، وأسلوب جيد، مع الإخلاص لله، والصبر والمصابرة.
وهكذا المؤمن يسعى في أمور دنياه، لا يكون كلا على الناس، يكتسب الكسب الحلال، ويبيع ويشتري، ويفعل كل ما يصلح أمر دنياه، فيتخذ المزرعة، كما كان الأنصار رضي الله عنهم، ويبيع ويشتري كما كان المهاجرون رضي الله عنهم، لا يكون عالة على الآخرين يسألهم ويشق عليهم، بل يجتهد في أن يغنيه الله عن الناس يتعاطى الأسباب المشروعة، والكسب الحلال، ويجتهد في طلب الرزق بالطرق المباحة والشرعية، من بيع وشراء، وزراعة وحرفة أخرى مباحة، كالحدادة والنجارة والخرازة والخياطة، أو يشتغل عند الناس في مزارعهم وفي بنائهم، وفي غير ذلك من الأعمال المباحة، فيستخدم هذا الجسم الذي أنعم الله عليه به في طاعة الله ورسوله، وفي كسب الحلال الذي يغنيه الله به عن الناس، ويشرع له أن يتعاطى الأدوية المباحة، التي يعينه الله بها على بقاء صحته وسلامة جوارحه.
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة التوبة الآية 71
(3) سورة التوبة الآية 71(35/32)
الخلاصة: أن المشروع للمسلم أن يفعل الأسباب المباحة التي تنفعه في دنياه وأخراه، وفي صحة بدنه، وفي كسب الحلال، وترك الحرام، وفي الاستغناء عن الناس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير (1) » . ثم قال صلى الله عليه وسلم: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان (2) » رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده (3) » . رواه البخاري في الصحيح. وسئل صلى الله عليه وسلم: «أي الكسب أطيب؟ فقال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور (4) » أخرجه البزار وصححه الحاكم.
فأنت يا عبد الله اجتهد في طلب الرزق، واكتسب الحلال واستغن عن الحاجة إلى الناس، وسؤالهم وعليك بالكسب الحلال، الطيب البعيد عن الغش والخيانة والكذب، واكتسب المباح بالصدق وأداء الأمانة سواء كان ذلك في بيع وشراء أو تجارة أو حدادة أو خرازة أو كتابة أو بناء أو غير ذلك من الأعمال المباحة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما (5) » متفق على صحته.
أسأل الله بأسمائه الحسنى أن يوفقنا وسائر المسلمين لما يرضيه، وأن يرزق الجميع الاستقامة على الحق، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا في كل مكان، وأن يولي عليهم خيارهم، وأن يوفق ولاة أمر المسلمين لكل ما فيه رضاه، ولكل ما فيه صلاح العباد والبلاد، وأن يعينهم على كل خير، وأن يصلح لهم البطانة، ويجعلهم هداة مهتدين، صالحين مصلحين، وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده، وإلزام
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (79) ، مسند أحمد بن حنبل (2/370) .
(2) صحيح مسلم القدر (2664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (79) ، مسند أحمد بن حنبل (2/370) .
(3) صحيح البخاري البيوع (2072) ، سنن ابن ماجه التجارات (2138) ، مسند أحمد بن حنبل (4/132) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (4/141) .
(5) صحيح البخاري البيوع (2079) ، صحيح مسلم البيوع (1532) ، سنن الترمذي البيوع (1246) ، سنن النسائي البيوع (4464) ، سنن أبو داود البيوع (3459) ، مسند أحمد بن حنبل (3/402) ، سنن الدارمي البيوع (2547) .(35/33)
الشعوب بها، وأن يعيذهم من نزغات الشيطان، ومضلات الفتن إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يوفق المسلمين في كل مكان للفقه في الدين، والاستقامة عليه، والتعاون على البر والتقوى، وأن يعيننا وإخواننا المسلمين على كل ما فيه رضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(35/34)
حكم استعمال المياه النجسة
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
بناء على ما تقرر في الدورة الثانية لهيئة كبار العلماء المنعقدة في الرياض في النصف الثاني من ربيع الأول سنة 1396 هـ من إعداد بحث في حكم استعمال المياه النجسة بعد استحالتها وزوال أعراض النجاسة عنها، اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في ذلك مشتملا على تمهيد في بيان معنى الاستحالة، وإيضاح هذا المعنى بكلام أهل العلم في حكم استحالة النجس إلى طاهر، بالإحراق أو غيره وهل تطهر الخمر بالاستحالة، ثم بيان كلام أهل العلم في حكم استعمال المياه المتنجسة بعد استحالتها وزوال أعراض النجاسة عنها. وبالله التوفيق.
أولا: التمهيد:
(أ) معنى الاستحالة لغة: جاء في معنى حال:
كل شيء تغير عن الاستواء إلى العوج فقد حال في معنى واستحال وهو مستحيل (1) .
ومعناها اصطلاحا انقلاب حقيقة إلى حقيقة أخرى (2) .
__________
(1) لسان العرب \ 14 \ 197.
(2) رد المحتار 1 \ 291.(35/35)
(ب) استحالة النجس إلى حقيقة أخرى بالإحراق أو غيره هل تكسبه الطهارة:
اختلف أهل العلم في ذلك فذهب قوم إلى القول بالطهارة، وممن قال(35/35)
بذلك أبو حنيفة ومحمد وأكثر الحنفية والمالكية، وسواء عندهم ما هو نجس لعينه، وما هو نجس لمعنى فيه، ووافقهم الشافعية في النجس لمعنى فيه، كجلد الميتة. وأما الحنابلة فمنهم من يقول بالطهارة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الظاهرية، وفيما يلي ذكر نصوصهم في ذلك وأدلتهم مع المناقشة.
جاء في البحر الرائق: من الأمور التي يكون بها التطهير انقلاب العين - ومضى إلى أن قال - وإن كان في غيره - أي الخسر - كالخنزير والميتة تقع في المملحة فتصير ملحا يؤكل، والسرجين والعذرة تحترق فتصير رمادا تطهر عند محمد (1) . وقال أيضا وضم إلى محمد أبا حنيفة في المحيط وكثير من المشائخ اختاروا قول محمد، وفي الخلاصة وعليه الفتوى وفي فتح القدير أنه المختار (2) .
والمالكية يذهبون إلى أن ما استحال إلى صلاح فهو طاهر وأن ما استحال إلى فساد كان نجسا، جاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه من الطاهر لبن الآدمي ولو كافرا، لاستحالته إلى الصلاح (3) .
ثم جاء في موضع آخر إذا تغير القيء، وهو الخارج من الطعام بعد استقراره في المعدة، كان نجسا وعلة نجاسته الاستحالة إلى فساد، فإن لم يتغير كان طاهرا (4) .
واعتبر المالكية كذلك أن المسك طاهر، ففي الحطاب الحكم بطهارة المسك؛ لأنها استحالة عن جميع صفات الدم، وخرجت عن اسمه إلى صفات وإلى اسم يختص به، وطهرت بذلك، كما يستحيل الدم وسائر ما يتغذى به الحيوان من النجاسات إلى اللحم، فيكون طاهرا. انتهى (5) .
وفرق الشافعية بين ما هو نجس لعينه، وما هو نجس لمعنى فيه؛ فأما الأشياء
__________
(1) البحر الرائق ص1 \ 239.
(2) البحر الرائق ص1 \ 239.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ص50.
(4) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1 \ 57.
(5) مواهب الجليل 1 \ 97.(35/36)
النجسة لمعنى فيها فإنها طاهرة قال في المهذب: ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا شيئان أحدهما جلد الميتة إذا دبغ والثاني الخمر (1) .
وقال ابن قدامة: ويتخرج أن تطهر النجاسات كلها بالاستحالة (2) .
وقال المرداوي: وعنه بل تطهر وهي مخرجة من الخمرة إذا انقلبت بنفسها خرجها المجد واختار الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق؛ فحيوان متولد من نجاسة، كدود الجروح والقروح وصراصير الكنيف، طاهر نص عليه (3) انتهى المقصود.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وتنازعوا فيما إذا صارت النجاسة ملحا في الملاحة، أو صارت رمادا، أو صارت - الميتة والدم والصديد ترابا كتراب المقبرة فهذا فيه خلاف - وبعد ذكره للخلاف قال: والصواب أن ذلك كله طاهر؛ إذ لم يبق شيء من النجاسة لا طعمها ولا لونها ولا ريحها (4) .
وقال ابن حزم: إذ استحالت صفات عين النجس أو الحرام، فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم، وانتقل إلى اسم آخر وارد على حلال طاهر، فليس هو ذلك النجس ولا ذلك الحرام، بل قد صار شيئا آخر ذا حكم آخر (5) . وقال أيضا إذا أحرقت العذرة أو الميتة أو تغيرت فصارت رمادا أو ترابا فكل ذلك طاهر (6) .
واستدل لذلك بالكتاب والسنة والاستقراء والمعنى؛ أما الكتاب فقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (7) وجه الدلالة أن هذه الأشياء، بعد استحالتها وزوال أوصاف النجاسة عنها صارت - طيبة، فهي طاهرة، وقد يعارض ذلك بأن القول بأنها طيبة، وهو محل النزاع، ولا يصح الاستدلال بمحل الخلاف، وقد يجاب عن ذلك بأن العبرة بالواقع لا بالدعوى، وواقعها أنها طيبة، فيسلم الدليل. وأما السنة فما ورد من الأدلة في
__________
(1) المذهب 1 \ 48.
(2) المغني ومعه الشرح 1 \ 59.
(3) الإنصاف 1 \ 5 \ 31 وما بعده.
(4) مجموع الفتاوى 21 \ 481.
(5) المحلى 1 \ 138.
(6) المحلى 1 \ 128، ويرجع أيضا إلى 1 \ 137 - 138 و 1 \ 118 و 1 \ 162 من المحلى.
(7) سورة الأعراف الآية 157(35/37)
طهارة المسك وجلود الميتة مأكولة اللحم بعد الدبغ ونحو ذلك من الأدلة.
وأما الاستقراء فقد ذكره شيخ الإسلام فقال بعد كلام سبق الاستقراء دلنا أن كل ما بدأ الله بتحويله وتبديله من جنس إلى جنس، مثل جعل الخمر خلا، والدم منيا، والعلقة مضغة، ولحم الجلالة الخبيث طيبا، وكذلك بيضها ولبنها، والزرع المستسقى بالنجس إذا سقي بالماء الطاهر، وغير ذلك، فإنه يزول حكم التنجس، ويزول حقيقة النجس واسمه التابع للحقيقة، وهذا ضروري لا يمكن المنازعة فيه؛ فإن جميع الأجسام المخلوقة في الأرض فإن الله يحولها من حال إلى حال، ويبدلها خلقا بعد خلق، ولا التفات إلى موادها وعناصرها، وأما ما استحال بسبب كسب الإنسان؛ كإحراق الروث، حتى يصير رمادا، ووضع الخنزير في الملاحة، حتى يصير ملحا ففيه خلاف مشهور، وللقول بالتطهير اتجاه انتهى المقصود (1) .
وقد سبق أنه يختار القول بالطهارة. وأما المعنى فقد جاء في فتح القدير أن الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة، وتنتفي الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها، فكيف بالكل؟ ! فإن الملح غير العظم واللحم، فإذا صار ملحا ترتب حكم الملح عليه (2) انتهى المقصود.
القول الثاني: أن استحالة النجس وزوال أعراض النجاسة عنه وتبدلها بأوصاف طيبة لا تصيره طاهرا، وممن قال بهذا القول أبو يوسف، وهو أحد القولين في مذهب مالك، وهو قول الشافعي فيما كان نجسا نجاسة عينية. وإحدى الروايتين في مذهب أحمد وهي المقدمة، جاء في فتح القدير أن أبا يوسف يرى أن الأشياء النجسة لا تطهر بانقلاب عينها، وفي التنجيس اختار قول أبي يوسف، كذا قال: خشبة أصابها بول فاحترقت، ودفع رمادها في بئر يفسد الماء، وكذلك رماد العذرة والحمار إذا مات في مملحة لا يؤكل الملح، هذا قول أبي يوسف (3) انتهى.
__________
(1) الفتاوى المصرية 2 \ 122.
(2) البحر الرائق 1 \ 239 وقد بسط ذلك ابن حزم في المحلى 1 \ 137 و 1 \ 162 منه و 1 \ 118 منه أيضا.
(3) فتح القدير 1 \ 139.(35/38)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو أحد قولي أصحاب مالك (1) .
وقال الشيرازي: ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة، إلا شيئان أحدهما جلد الميتة إذا دبغ، والثاني الخمر - ثم قال صاحب المهذب: وإن حرق العذرة والسرجين حتى صار رمادا لم تطهر (2) وقال ابن قدامة: ظاهر المذهب أنه لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة، إلا الخمر إذا انقلبت بنفسها خلا، وما عداه لا يطهر كالنجاسات إذا احترقت فصارت رمادا، والخنزير إذا وقع في الملاحة وصار ملحا، والدخان الصاعد من وقود النجاسة (3) .
وقال المرداوي على قول ابن قدامة، ولا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة. قال: هذا المذهب، وعليه جماهير الأصحاب ونصروه (4) .
واستدل لهذا القول بما ذكره أبو يوسف من أن الرماد أجزاء تلك النجاسة، فتبقى النجاسة من وجه، فالتحقت بالنجس من كل وجه احتياطا (5) وما ذكره الشيرازي بقوله: لأن نجاستها - أي العذرة والسرجين - لعينهما (6) وأما ابن قدامة فقد استدل لذلك بأنها نجاسة لم تحصل بالاستحالة، فلم تطهر كالدم إذا صار قيحا وصديدا (7) .
__________
(1) المجموع 21 \ 72.
(2) المهذب 1 \ 10.
(3) المغني مع شرحه 1 \ 59.
(4) الإنصاف 1 \ 318.
(5) فتح القدير 2 \ 139.
(6) المهذب 1 \ 48.
(7) المغني ومعه الشرح 1 \ 744.(35/39)
(ج) هل تطهر الخمر بالاستحالة:
اتفق أهل العلم - فيما نعلم - على أن الخمر إذا تخللت بنفسها فإنها تكون طاهرة، قال شيخ الإسلام: اتفقوا على أن الخمر إذا انقلبت بفعل الله بدون قصد صاحبها، وصارت خلا أنها تطهر (1) وأما إذا خللت فقد اختلف العلماء في ذلك؛ فمنهم من يقول بطهارتها، ومنهم من يقول بنجاستها، وممن قال بأنها طاهرة الحنفية والمالكية وابن حزم ومن وافقهم جاء في بداية المبتدي وشرحها
__________
(1) مجموع الفتاوى 21 \ 475 وما بعدها.(35/39)
الهداية: وإذا تخللت الخمر حلت سواء صارت خلا بنفسها أو بشيء يطرح فيها ولا يكره تخليلها (1) وفي الحطاب: ولو تخللت الخمر بإلقاء شيء فيها كالخل والملح والماء ونحوه يطهر الخل وما ألقي فيه (2) وقال ابن حزم: إذا تخللت الخمر وخللت فالخل حلال (3) .
واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى أما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «نعم الإدام الخل (4) » رواه مسلم والأربعة من حديث جابر. وجه الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم عم ولم يخص.
وعورض هذا الاستدلال بحديث أنس «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلا قال: لا (5) » . أخرجه مسلم. وعن أنس أن أبا طلحة «سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا قال: أهرقها. قال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: لا (6) » .
ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث بحمل الحديث الأول على الخمر إذا تخللت بنفسها، والخل الذي لم يكن أصله خمرا، وحمل الثاني على ما إذا خللت بفعل فاعل قصدا، وعلى هذا فلا دلالة في الحديث الأول على طهارة الخمر إذا خللت قصدا، وأما الدليل من جهة المعنى فقد جاء في البداية وشرحها، أنه بالتخليل يزول الوصف المفسد، وتثبت صفة الصلاح، من حيث تسكين الصفراء وكسر الشهوة والتغذي به والإصلاح مباح، وكذا الصالح للمصالح اعتبارا بالمتخلل بنفسه، وبالدباغ والأقرياب لإعدام الفساد فأشبه الإراقة والتخليل، وذلك لما فيه من احترام حال يصير حلالا في الثاني فيختاره من ابتلي به.
وقد يجاب عن ذلك بأنه دليل اجتهادي في مقابل نص، ولا اجتهاد مع النص، والنص هو حديث أنس الذي رواه مسلم «سئل عن الخمر تتخذ خلا؟ قال: لا (7) » الحديث وقد سبق (8) .
القول الثاني: أن الخمر إذا خللت لا تكون طاهرة وممن قال بهذا
__________
(1) البداية وشرحها 4 \ 113.
(2) مواهب الجليل 1 \ 98.
(3) المحلى 1 \ 124.
(4) صحيح مسلم الأشربة (2052) ، سنن الترمذي الأطعمة (1839) ، سنن أبو داود الأطعمة (3820) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي الأطعمة (2048) .
(5) صحيح مسلم الأشربة (1983) ، سنن الترمذي البيوع (1294) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/260) ، سنن الدارمي الأشربة (2115) .
(6) صحيح مسلم الأشربة (1983) ، سنن الترمذي البيوع (1293) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/119) ، سنن الدارمي الأشربة (2115) .
(7) صحيح مسلم الأشربة (1983) ، سنن الترمذي البيوع (1294) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/260) ، سنن الدارمي الأشربة (2115) .
(8) البداية وشرحها 4 \ 113.(35/40)
الشافعية والحنابلة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، قد جاء في المهذب وإن خللت بخل، أو ملح لم تطهر (1) .
وقال ابن قدامة (وإن خللت لم تطهر) ، وقال المرداوي تعليقا على ذلك: اعلم أن الخمرة يحرم تخليلها على الصحيح من المذهب وعليه الأصحاب (2) .
وقال شيخ الإسلام: والصحيح أنه إذا قصد تخليلها لا تطهر بحال (3) ، واستدل لهذا القول بالسنة والأثر والمعنى؛ أما السنة فما رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة عن أنس رضي الله عنه أنا أبا طلحة «سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا فقال: أهرقها. فقال أفلا أخللها قال: لا (4) » . .
وجه الدلالة أنه نهاه عن التخليل فدل على أنه لا يجوز.
وأجاب الطحاوي عن ذلك فقال: إنه محمول على التغليظ والتشديد؛ لأنه كان في ابتداء الإسلام، كما ورد ذلك في سؤر الكلب، بدليل أنه ورد في بعض طرقه الأمر بكسر الدنان وتقطيع الزقاق رواه الطبراني في معجمه: حدثنا معاذ بن المثنى، ثنا مسدد، ثنا معتمر، ثنا ليث، عن يحيى بن عباد، عن أنس، عن أبي طلحة قال: «قلت: يا رسول الله، إني اشتريت خمرا لأيتام في حجري. فقال: أهرق الخمر واكسر الدنان (5) » . انتهى.
ورواه الدارقطني أيضا، وروى أحمد في مسنده: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم، عن حمزة بن حبيب، عن ابن عمر رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم شق زقاق الخمر بيده في أسواق المدينة» وقد تقدم بتمامه في أحاديث تحريم الخمر، وهذا صريح في التغليظ؛ لأن فيه إتلاف مال الغير، وقد كان يمكن إراقة الدنان والزقاق وتطهيرها، ولكن قصد بإتلافها التشديد؛ ليكون أبلغ في الردع انتهى بواسطة الزيلعي (6) .
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن حمله على التغليظ على خلاف الظاهر، فيحتاج إلى دليل يدل عليه ذلك، فإن وجد، وإلا فالأصل بقاء
__________
(1) المهذب 1 \ 48.
(2) الإنصاف 1 \ 318
(3) المجموع 21 \ 481.
(4) صحيح مسلم الأشربة (1983) ، سنن الترمذي البيوع (1294) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/180) ، سنن الدارمي الأشربة (2115) .
(5) سنن الترمذي البيوع (1293) ، سنن أبو داود الأشربة (3675) ، مسند أحمد بن حنبل (3/119) .
(6) نصب الراية 4 \ 311.(35/41)
دلالة الحديث على التحريم (1) كما سبق.
وأما الأثر فقول عمر رضي الله عنه: لا تأكلوا خل خمر إلا خمرا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشتري خل خمر أهل الكتاب ما لم يعلموا أنهم تعمدوا إفسادها انتهى. استدل به شيخ الإسلام وذكر أنه صحيح (2) .
وأما المعنى فقال شيخ الإسلام: إن اقتناء الخمر محرم، فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرما، والفعل المحرم لا يكون سببا للحل والإباحة (3) .
__________
(1) نصب الراية 4 \ 311.
(2) الفتاوى 2 \ 136.
(3) الفتاوى 2 \ 136.(35/42)
ثانيا: استحالة المياه المتنجسة بسبب اختلاف أسبابها:
استحالة المياه المتنجسة قد تكون بصب ماء طهور عليها، أو نزح بعضه، أو زوال التغير بنفسه، وقد تكون برمي تراب ونحوه فيها، وقد تكون بسقي النباتات بها وشرب الحيوانات إياها، وقد تكون بتبخيره وتقطيره مثلا.
وفيما يلي الكلام على كل نوع:
أ - استحالة المياه المتنجسة بصب ماء طهور عليها، أو نزح بعضه، أو زوال التغير بنفسه - نذكر فيما يلي طريقة كل مذهب إجمالا، ثم نتبعها بالتفصيل؛ نظرا لاختلافهم من حيث الجملة في طريقة التطهير؛ فالحنفية يرون أن نزح مقدار من ماء البئر المتنجس مطهر لما بقي من الماء، لكن يختلف مقدار ما ينزح لتحصل به الطهارة للباقي اختلاف نوع النجاسة واختلاف أحوالها. وأما المالكية فإذا زال تغيره بمكاثرة ما لمادة فيه، أو بإدخال ماء آخر طهر، وإن زال بنفسه ففي الإرشاد الظاهر عودة إلى أصله، وقيل إن زال بالنقص المجرد فقولان أيضا.
وأما الشافعية فإنهم يقسمون الماء ثلاثة أقسام: أحدها أن يكون أكثر من القلتين، والثاني أن يكون قلتين، والثالث أن يكون دون القلتين؛ فإن كان أكثر من قلتين فإنه يطهر بطرق ثلاثة: إضافة ماء إليه يزول به التغير، وهذا متفق عليه،(35/42)
أو بأخذ بعضه حتى يزول التغير، بشرط أن يكون الباقي بعد الأخذ قلتين، وهذا بلا خلاف أيضا، أو بزوال التغير بنفسه بطلوع الشمس والريح، أو بدور الزمان، وهذا هو المذهب.
وإن كان قلتين طهر بجميع ما ذكر، إلا بأخذ بعضه؛ فإنه لا يطهر محل اتفاق. وإن كان دون القلتين وكاثره بماء حتى بلغ قلتين طهر بلا خلاف عندهم.
وأما الحنابلة فهم كالشافعية في تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام، فإن كان أكثر من قلتين وهو غير متغير بالنجاسة طهر بالمكاثرة فقط، وإن كان متغيرا بها طهر بالمكاثرة، وبنزح كثير يزول معه التغير، ويبقى بعد ذلك قلتان فصاعدا، وبزوال التغير بمكثه.
وإن كان قلتين وهو متغير بالنجاسة طهر بالمكاثرة فقط، وإن كان متغيرا بها طهر بالمكاثرة المذكورة إذا أزالت التغير، أو بتركه حتى يزول تغيره بطول مكثه، وإن كان دون القلتين وهو متغير طهر بالمكاثرة بقلتين طاهرتين يزول بهما التغير، وإن لم يكن متغيرا طهر بمجرد المكاثرة.
أما طريقتهم تفصيلا فهي كما يلي:(35/43)
1 - طريقة الحنفية:
جاء في بداية المبتدي وشرحها: وإذا وقعت في البئر نجاسة نزحت، وكذا نزح ما فيها طهارة لها بإجماع السلف، ومسائل الآبار مبنية على اتباع الآثار دون القياس. وإن ماتت فيها فأرة أو عصفورة أو صعوة أو سودانية أو سام أبرص نزح منها ما بين عشرين دلوا إلى ثلاثين، بحسب كبر الدلو وصغرها، يعني بعد إخراج الفأرة؛ لحديث أنس رضي الله عنه أنه قال في الفأرة إذا ماتت في البئر، وأخرجت من ساعتها: نزح منها عشرون دلوا، والعصفورة ونحوها تعادل الفأرة في الجثة فأخذت حكمها، والعشرون بطريق الإيجاب، والثلاثون بطريق الاستحباب.
فإن ماتت فيها حمامة ونحوها كالدجاجة والسنور نزح ما بين أربعين دلوا إلى ستين، وفي الجامع الصغير أربعون أو خمسون وهو الأظهر؛ لما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال في الدجاجة: إذا ماتت في(35/43)
البئر نزح منها أربعون دلوا وهذا لبيان الإيجاب، والخمسون بطريق الاستحباب، ثم المعتبر في كل بئر دلوها الذي يستقى به منها، وقيل: دلو يسع فيها صاعا، ولو نزح منها بدلو عظيم مرة مقدار عشرين دلوا جاز لحصول المقصود، وإن ماتت فيها شاة أو كلب أو آدمي نزح جميع ما فيها من الماء؛ لأن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما أفتيا بنزح الماء كله، حين مات زنجي في بئر زمزم، فإن انتفخ الحيوان فيها أو تفسخ نزح جميع ما فيها صغر الحيوان أو كبر؛ لانتشار البلة في أجزاء الماء.
وإن كانت البئر معينا لا يمكن نزحها: أخرجوا مقدار ما كان فيها من الماء، وطريقة معرفته أن تحفر حفرة مثل موضع الماء من البئر، ويصب فيها ما ينزح منها إلى أن تمتلئ، أو ترسل فيها قصبة، ويجعل المبلغ الماء علامة، ثم ينزح منه عشر دلاء مثلا، ثم تعاد القصبة فينظر كم انتقص؟ فينزح لكل قدر منها عشر دلاء، وهذان عند أبي يوسف رحمه الله، وعند محمد رحمه الله نزح مائتي دلو إلى ثلاثمائة، فكأنه بنى قوله على ما شاهد في بلده، وعند أبي حنيفة رحمه الله في الجامع الصغير في مثله ينزح حتى يغلبهم الماء، ولم يقدر القلة بشيء كما هو دأبه، وقيل: يؤخذ بقول رجلين لهما بصارة في أمر الماء، وهذا تشبه بالفقه.(35/44)
2 - طريقة المالكية:
قال الشيخ خليل: وإن زال تغير النجس لا بكثرة مطلق، فأستحسن الطهورية، وعدمها أرجح.
وقد شرح الحطاب ذلك فقال: يعني أن الماء إذا تغير بالنجاسة، ثم زال تغيره فلا يخلو إما أن يكون بمكاثرة ماء مطلق خالطه، أم لا؛ فالأول طهور باتفاق قاله في التوضيح، وذلك كالبئر ينزح منها حتى يزول التغير، وكالصهريج(35/44)
يتغير بميتة فيترك حتى يكثر ماؤه بمطر ونحوه، وقد جهل أبو محمد بعضهم في قوله في ماجل قليل الماء وقعت فيه فأرة، يطيق حتى يكثر ماؤه ثم يشرب، قال: فإن فعل شرب، وتجهيله في تأخير طرحه.
والثاني: إما أن يكون بإلقاء شيء فيه غير الماء، ولم يذكره المصنف وسيأتي حكمه، أو من نفسه فلا شيء، ومنه ما إذا نزع من الماء الذي لا مادة له بعضه، فزال تغيره، فذكر المصنف تبعا لابن الحاجب وابن شاس وابن بشير وغيرهم في طهوريته قولان: استحسن بعض الشيوخ القول بالطهورية، ورجح ابن يونس عدم الطهورية، فاعترض عليه ابن غازي فيما ذكره عن ابن يونس وفي التوضيح بأنه لم يوجد في كلامه إلا الكلام على حكم زوال النجاسة إذا زال عينها بالماء المضاف وسيأتي، وذكر ابن مرزوق في شرحه على المختصر نحو ذلك، وقال ما معناه: إن المصنف حمل كلام ابن يونس على نفس ما نحن فيه، فهو وهم، وإن أراد أن يقيسه عليه فبعيد، وقد رأيت كلام ابن مرزوق شرح المفصلين الأولين من المختصر، وفيه نحو ما ذكره ابن غازي، وقال ابن غازي: لم يعرفه ذلك الإمام ابن عرفة من نقل ابن يونس ولا غيره ممن قبل ابن بشير.
فقال: وقول ابن بشير في طهورية النجس يزول تغيره بلا نزح قولان، لا أعرفه فبقي وجدان القولين معا في المذهب، وإن كان لا يلزم من عدم الوجدان عدم الوجود، ولا يلتفت لما حكى أبو زيد القابسي من رد بعضهم على ابن عرفة بقول ابن يونس، لا أن الراد مقلد لخليل في نقله كالشارح، نعم أغفل ابن عرفة ما ذكر ابن رشد في رسم القسمة من سماع عيسى، وذكر بعض كلام ابن رشد، ولنأت بأكثر مما يتضح به المقصود.
قال: وسئل ابن وهب عن الجب من ماء السماء تموت فيه الدابة، وننشق والماء كثير لم يتغير منه، إلا ما كان قريبا منها. فلما أخرجت وحرك الماء ذهبت الرائحة هل يتوضأ به ويشرب؟ قال: إذا خرجت الميتة، فلينزح منه حتى يذهب دسمها والرائحة واللون إن كان به لون، إذا كان الماء كثيرا على ما وصفت طاب إذا فعل ذلك به.
قال ابن القاسم: الأخير فيه، ولم أسمع مالكا رخص فيه قط، ابن رشد قول ابن وهب وهو الصحيح على أصل مذهب مالك الذي رواه المدنيون عنه أن الماء لا ينجسه إلا ما غير أحد أوصافه على ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في بئر(35/45)
بضاعة وقد روى ابن وهب وابن أبي أويس عن مالك في جباب تحفر بالمغرب، فتسقط فيها الميتة، فيتغير لون الماء وريحه، ثم يطيب بعد ذلك، أنه لا بأس به. انتهى.
فظهر وجود القولين: أحدهما قول ابن القاسم فيما نزح بعضه، فأحرى إذا لم ينزح منه شيء؛ لأنه لما لم يعتبر ذهاب التغير مع النزح كان عدم اعتباره مع عدم النزح أولى؛ بناء على أن المعتبر مخالطة المغير فيجب بقاء حكمه، وإن زال التغير.
والثاني رواية ابن وهب وابن أبي أويس، وقد صححه ابن رشد، وهو الذي ارتضاه صاحب الطراز وشيخه أبو بكر الطرطوش، بضم الطاءين وبينهما راء، قال الطراز: ولقد عاينت في صهريج دار الشيخ أبي بكر هرا قد انتفخ وتزلع، وتغير منه ريح الماء وطمعه ولونه، فنزع الهر وترك الصهريج حتى ينزح، فأقام شهرا، ثم رفع منه الماء؛ فإذا هو سالم الأوصاف فشرب ذلك الماء في داره، وفيها ما يزيد على سبعين من أهل العلم وطلبته، ولم ينزح منه دلو. انتهى.
ولعل المصنف أشار إليهما بالاستحسان، ثم إن كلاهما فيما لا مادة له أو لم ينزح منه شيء؛ فما له مادة أو نزح بعضه أولى بالطهورية، وانظر ما الذي أنكره ابن عرفة: هل القول بالطهورية أو القول بعدمها؟ وليس في كلامه ما يدل على ذلك صريحا، غير أن المتبادر من كلامه إنما هو إنكار القول بالطهورية، كما يفهم ذلك من كلام ابن ناجي في شرح المدونة، في الكلام على من توضأ من ماء مات فيه دابة، وكذا ذكر ابن الفاكهاني في شرح الرسالة القولين، وشبهة من عدم الطهورية ونصه: وأما إن كان المخالط نجسا فإن غير أحد أوصاف الماء فلا خلاف في نجاسته قليلا كان أو كثيرا ما دام متغيرا، فإن زال تغيره بعد فقولان:
أحدهما: أنه كالبول، فلا ينتقل حكمه، وهو المشهور.
والثاني: أنه يرجع إلى أصله من الطهارة أو التطهير، وكذلك إن أزيل بعض الماء وسلمت أوصافه؛ فقولان. انتهى.
تنبيهات:
وبعد أن ذكر حكم الماء المتغير بطاهر قال: الثاني إن زال تغيره بمخالطة(35/46)
ماء مطلق قليل فظاهر كلام المصنف فيه قولان، وقال البساطي في شرحه: ولو جعل المصنف محل النزاع إذا زال التغير بنفسه سلم من المطالبة بالنقل، فيما إذا زال بقليل المطلق، وقال في المغني بعد أن ذكر الخلاف فيما زال تغيره بنفسه: وألحق الشيخ خليل في مختصره به إذا زال التغير بمطلق يسير، وهو في عهدته. انتهى.
قلت: وكلام ابن الإمام يقتضي ثبوت الخلاف فيه، فإنه قال: إذا كاثره الطهور حتى غلب عليه وزال به التغير فالأظهر نفي الخلاف فيه إن انتهى إلى ما لو رفع فيه جملة هذا التغير كان كثيرا، أو ثبوته إن انتهى إلى ما لو وقع فيه كان قليلا، وقد أطلق بعض من تكلم على هذه المسألة القول بطهوريته عند ذهاب التغير بالتكاثر ولا ينفى؛ لأن هذا الماء لما تغير لنجاسة كان نجسا، فطروء ماء عليه كطروئه عليه، فيجب لذلك أن يراعى كثرته وقلته انتهى المقصود (1) .
وقال ابن المواق على قول خليل: وإن زال تغير النجس لا بكثرة مطلق، فأستحسن الطهورية، وعدمها أرجح، قال ابن عرفة: قول ابن بشير في طهوريته: النجس يزول تغيره بلا نزح قولان لا أعرفه. والذي ينبغي أن تكون به الفتوى هو قول مالك في رواية ابن وهب وابن أبي أويس عنه في جباب تحفر بالمغرب، فتسقط فيها الميتة فتغير لونه وريحه، ثم يطيب الماء بعد ذلك أنه لا بأس به. انتهى، فترك نقل هذه الرواية ونقل غيرها قصور (2) .
__________
(1) مواهب الجليل شرح مختصر خليل 1 \ 84 وما بعدها.
(2) التاج والإكليل شرح مختصر خليل 1 \ 84.(35/47)
3 - طريقة الشافعية:
قال الشيرازي: إذا أراد تطهير الماء النجس نظر؛ فإن كانت نجاسته بالتغير وهو أكثر من قلتين طهر بأن يزول التغير بنفسه، وبأن يضاف إليه ماء آخر، وبأن يؤخذ بعضه؛ لأن النجاسة بالتغير وقد زال، وقال النووي شرحا لذلك: إذا زال تغير الماء النجس، وهو أكثر من قلتين نظر؛ إن زال بإضافة ماء آخر إليه طهر بلا خلاف، سواء كان الماء المضاف طاهرا أو نجسا، قليلا أو كثيرا، أو سواء صب الماء عليه أو نبع عليه، وإن زال بنفسه؛ أي بأن لم يحدث فيه(35/47)
شيئا، بل زال تغيره بطلوع الشمس أو الريح أو مرور الزمان طهر أيضا على المذهب، وبه قطع الجمهور، وحكى المتولي عن أبي سعيد الإصطخري أنه لا يطهر؛ لأنه شيء نجس، فلا يطهر بنفسه، وهذا ليس بشيء؛ لأن سبب النجاسة التغير فإذا زال طهر لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس (1) » ، وإن زال بأخذ بعضه طهر بلا خلاف بشرط أن يكون الباقي بعد الأخذ قلتين، فإن بقي دونهما لم يطهر بلا خلاف، ويتصور زوال تغيره بأخذ بعضه بأن يكون كثيرا لا يدخله الريح، فإذا نقص دخلته وقصرته وكذا الشمس فيطيب (2) .
وقال الشيرازي أيضا: وإن كان قلتين طهر بجميع ما ذكرناه إلا بأخذ بعضه، فإن لم يطهر لأنه نقص عن القلتين وفيه نجاسة.
وعلق النووي عليه فقال: هذا الذي قاله متفق عليه.
وقال الشيرازي أيضا: وإن كانت نجاسته بالقلة، بأن يكون دون القلتين طهر بأن يضاف إليه ماء حتى يبلغ قلتين ويطهر بالمكاثرة، وإن لم يبلغ قلتين طهر كالأرض النجسة طرح عليها ماء حتى غمر النجاسة، ومن أصحابنا من قال: لا يطهر؛ لأنه دون القلتين وفيه نجاسة، والأول أصح لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه، وهاهنا ورد الماء عليها فلم ينجس؛ إذ لو نجس لم يطهر الثوب إذا صب عليه الماء.
وعلق النووي على ذلك فقال: أما المسألة الأولى، وهي إذا كاثره فبلغ قلتين فيصير طاهرا مطهرا بلا خلاف، سواء كان الذي أورده عليه طاهرا أو نجسا، قليلا أو كثيرا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث (3) » ، وأما المسألة الثانية، وهي إذا كوثر بالماء ولم يبلغ قلتين فهل يطهر؟ فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف، وذكر دليلهما، وهما مشهوران، لكن الأصح عند المصنف وسائر العراقيين أنه يطهر، وبه قطع منهم شيخهم أبو حامد وهو قول ابن سريج، والصحيح عند الخراسانيين لا يطهر، وبه قطع منهم القاضي حسين، وقال إمام الحرمين: وإن صح عند ابن سريج قوله بالطهارة، فهو من هفواته؛ إذ لا معنى لغسل الماء من غير أن يبلغ قلتين، قال: فلا يتمارى في فساده وكذا
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن النسائي الطهارة (52) ، سنن أبو داود الطهارة (63) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، مسند أحمد بن حنبل (2/107) ، سنن الدارمي الطهارة (731) .
(2) المجموع شرح المهذب 1 \ 183 وما بعدها.
(3) سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، سنن الدارمي الطهارة (731) .(35/48)
صحح البغوي والرافعي عن الطهارة وهو الأصح (1) .
__________
(1) المجموع شرح المهذب 1 \ 188 وما بعدها.(35/49)
4 - طريقة الحنابلة:
قال عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة في تطهير الماء النجس: هو ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
أحدهما: ما دون القلتين؛ فتطهيره بالمكاثرة بقلتين طاهرتين؛ إما أن يصب فيه، أو ينبع فيه؛ فيزول بها تغيره إن كان متغيرا، وإن لم يكن متغيرا طهر بمجرد المكاثرة؛ لأن القلتين لا تحمل الخبث ولا تنجس إلا بالتغير؛ ولذلك لو ورد عليها ماء نجس لم ينجسها، ما لم يتغير به، فكذلك إذا كانت واردة، ومن ضرورة الحكم بطهارتها طهارة ما اختلطتا به.
القسم الثاني:
أن يكون وفق القلتين؛ فلا يخلو من أن يكون غير متغير بالنجاسة، فيطهر بالمكاثرة المذكورة لا غير، الثاني أن يكون متغيرا فيطهر بأحد أمرين: بالمكاثرة المذكورة إذا أزالت التغير، وبتركه حتى يزول تغيره بطول مكثه.
القسم الثالث:
الزائد عن القلتين فله حالان:
أحدهما: أن يكون نجسا بغير التغير: فلا طريق إلى تطهيره بغير المكاثرة.
الثاني: أن يكون متغيرا بالنجاسة؛ فتطهيره بأحد أمور ثلاثة: المكاثرة، أو زوال تغيره بمكثه وأن ينزح منه ما يزول به التغير ويبقى بعد ذلك قلتان فصاعدا؛ فإنه إن بقي ما دون القلتين قبل زوال تغيره، لم يبق التغير علة تنجسه، لأنه تنجس بدونه، فلا يزول التنجيس بزواله، ولذلك طهر الكثير بالنزح وطول المكث، ولم يطهر القليل؛ فإن الكثير لما كانت علة تنجيسه التغير زال تنجيسه بزوال علته، كالخمرة إذا انقلبت خلا، والقليل علة تنجيسه الملاقاة(35/49)
لا التغير، فلم يؤثر زوال التنجيس انتهى.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام في قاعدة التطهير للمياه، وعدم الفرق بين المياه والمائع، والجواب على شبهة من فرق بينهما قال: إذا عرف أصل هذه المسألة، فالحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها؛ كالخمر لما كان الموج لتحريمها ونجاستها هي الشدة، فإذا زالت بفعل الله تعالى طهرت، بخلاف ما إذا زالت بقصد الآدمي على الصحيح، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تأكلوا خل خمر إلا خمرا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشتري خل خمر من أهل الكتاب إذا لم يعلم أنهم تعمدوا فسادها؛ وذلك لأن اقتناء الخمر محرم فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرما والفعل المحرم لا يكون سببا للحل والإباحة، وأما إذا اقتناها لشربها واستعمالها خمرا، فهو لا يريد تخليلها، وإذا جعلها الله خلا كان معاقبة له بنقيض قصده، فلا يكون في حلها وطهارتها مفسدة، وأما سائر النجاسات فيجوز التعمد لإفسادها؛ لأن إفسادها ليس بمحرم، كما لا يحد شاربها لأن النفوس لا يخاف عليها بمقاربتها المحظور، كما يخاف من مقاربة الخمر؛ ولهذا جوز الجمهور أن تدبغ جلود الميتة، وجوزوا أيضا إحالة النجاسة بالنار وغيرها.
والماء لنجاسته سببان: أحدهما متفق عليه، والآخر مختلف فيه؛ فالمتفق عليه التغير بالنجاسة، فمتى كان الموجب لنجاسته التغير، فزال التغير كان طاهرا كالثوب المضمخ بالدم إذا غسل عاد طاهرا (والثاني) القلة فإذا كان الماء قليلا، ووقعت فيه نجاسة؛ ففي نجاسته قولان للعلماء، فمذهب الشافعي وأحمد في أحد الروايات عنه أنه ينجس ما دون القلتين، وأحمد في الرواية المشهورة عنه يستثني البول والعذرة المائية، فيجعل ما أمكن نزحه نجسا بوقوع ذلك فيه، ومذهب أبي حنيفة ينجس ما وصلت إليه الحركة، ومذهب أهل المدينة وأحمد في الرواية الثالثة أنه لا ينجس، ولو لم يبلغ قلتين، واختار هذا القول بعض الشافعية كالروياني.
وقد نصر هذه الرواية بعض أصحاب الشافعي، كما نصر الأول طائفة كثيرة من أصحاب أحمد، لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا: إن(35/50)
قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، ولم يحدوا ذلك بقلتين.
وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول؛ فهؤلاء لا ينجسون شيئا إلا بالتغير، ومن سوى بين الماء والمائعات، كإحدى الروايتين عن أحمد، وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد، قال في المائعات كذلك، كما قاله الزهري وغيره؛ فهؤلاء لا ينجسون شيئا من المائعات إلا بالتغير، كما ذكره البخاري في صحيحه، لكن على المشهور عن أحمد اعتبار القلتين في الماء. وكذلك في المائعات إذا سويت به، فنقول: إذا وقع في المائع القليل نجاسة فصب عليه مائع كثير، فيكون الجميع طاهرا إذا لم يكن متغيرا، وإن صب عليه ماء قليل دون القلتين، وصار الجميع كثيرا فوق القلتين؛ ففي ذلك وجهان في مذهب أحمد.
(أحدهما) وهو مذهب الشافعي في الماء: أن الجميع طاهر.
(والوجه الثاني) أنه لا يكون طاهرا، حتى يكون المضاف كثيرا، والمكاثرة المعتبرة أن يصب الطاهر على النجس، ولو صب النجس على الطاهر الكثير كان كما لو صب الماء النجس على ماء كثير طاهر أيضا، وذلك مطهر له، إذا لم يكن متغيرا، وإن صب القليل الذي لاقته النجاسة على قليل لم تلاقه النجاسة، وكان الجميع كثيرا فوق القلتين كان كالماء القليل إذا ضم إلى القليل.
وفي ذلك الوجهان المتقدمان، وهذا القول الذي ذكرناه في المائعات كالماء هو الأظهر في الدلالة، بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجس الأشربة والأطعمة، ولهذا أمر مالك بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الماء القليل، كما جاء في الحديث، ولم يأمر مالك بإراقته من الأطعمة والأشربة، واستعظم إراقة الطعام والشراب بمثل ذلك، وذلك لأن الماء لا ثمن له في العادة، بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم؛ فإن في نجاستها من المشقة والحرج ما لا يخفى على الناس، وقد تقدم أن جميع الفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب، فإذا لم ينجسوا الماء الكثير للحرج فكيف ينجسون نظيره من الأطعمة والأشربة والحرج في ذلك أشق؟ ! ولعل المائعات الكثيرة لا تكاد تخلو من نجاسة.
(فإن قيل) : الماء يدفع النجاسة عن غيره، فعن نفسه أولى وأحرى بخلاف المائعات.
(قيل) : الجواب من وجوه (أحدها) أن الماء إنما دفعها عن غيره؛ لأنه يزيلها عن ذلك المحل وتنتقل معه، فلا يبقى على المحل نجاسة، وأما إذا سقطت فيه فإنما كان طاهرا لاستحالتها فيه، لا لكونه أزالها عن(35/51)
نفسه، ولهذا يقول أصحاب أبي حنيفة: إن المائعات كالماء في الإزالة، وهي كالماء في التنجيس؛ فإذا كانت كذلك لم يلزم من كون الماء يزيلها إذا زال معها أن يزيلها إذا كانت فيه.
ونظير الماء الذي فيه النجاسة الغسالة المنفصلة عن المحل، وتلك نجسة قبل طهارة المحل. وفيها بعد طهارة المحل ثلاثة أوجه: هل هي طاهرة، أو مطهرة، أو نجسة. وأبو حنيفة نظر إلى هذا المعنى فقال: الماء ينجس بوقوعها فيه، وإن كان يزيلها عن غيره كما ذكرناه، فإذا كانت النصوص وقول الجمهور على أنها لا تنجس بمجرد الوقوع مع الكثرة، كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الماء طهور لا ينجسه شيء (1) » وقوله: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث (2) » فإنه إذا كان طهورا يطهر به غيره، علم أنه لا ينجس بالملاقاة؛ إذ لو نجس بها لكان إذا صب على النجاسة ينجس بملاقاتها، فحينئذ لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، لكن إن بقيت عين النجاسة حرمت، وإن استحالت زالت فدل ذلك على أن استحالة النجاسة بملاقاته لها فيه لا ينجس، وإن لم تكن قد زالت عن المحل، فإن من قال: إنه يدفعها عن نفسه، كما يزيلها عن غيره. فقد خالف المشاهدة. وهذا المعنى يوجد في سائر الأشربة من المائعات وغيرها.
الوجه الثاني: أن يقال: غاية هذا أنه يقتضي أنه يمكن إزالة النجاسة بالمائع، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره، وأحمد جعله لازما لمن قال: إن المائع لا ينجس بملاقاة النجاسة، وهذا لأنه إذا دفعها عن نفسه دفعها عن غيره كما ذكروه في الماء، فيلزم جواز إزالة النجاسات بكل مائع طاهر مزيل للعين قلاع للأثر على هذا القول، وهذا هو القياس فنقول به على هذا التقدير: وإن كان لا يلزم من دفعها عن نفسه دفعها عن غيره؛ لكون الإحالة أقوى من الإزالة، فيلزم من قال: إنه يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات أن تكون المائعات كالماء، فإذا كان الصحيح في الماء أنه لا ينجس إلا بالتغير إما مطلقا، وإما مع الكثرة، فكذلك الصواب في المائعات.
وفي الجملة التسوية بين الماء والمائعات ممكن على التقديرين، وهذا مقتضى النص والقياس في مسألة إزالة النجاسات، وفي مسألة ملاقاتها للمائعات الماء وغير الماء، ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها، والمعاني الشرعية المعتبرة في
__________
(1) سنن الترمذي الطهارة (66) ، سنن النسائي المياه (348) ، سنن أبو داود الطهارة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (2/420) .
(2) سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، سنن الدارمي الطهارة (731) .(35/52)
الأحكام الشرعية تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال؛ فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة، وكون حكم النجاسة يبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع أو غير مائع بعيد عن الأصول وموجب القياس، ومن كان فقيها خبيرا بمأخذ الأحكام الشرعية، وأزال عنه الهوى تبين له ذلك، ولكن إذا كان في استعمالها فساد فإنه ينهى عن ذلك، كما كان ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها، والإبل التي يحج عليها، والبقر التي يحرث عليها ونحو ذلك؛ لما في ذلك من الحاجة إليها لا لأجل الخبث، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في بعض أسفاره مع الصحابة فنفدت أزوادهم، فاستأذنوه في نحر ظهورهم، فأذن لهم، ثم أتى عمر رضي الله عنه فسأله أن يجمع الأزواد، فيدعو الله بالبركة فيها ويبقى الظهر، ففعل ذلك.
فنهيه لهم عن نحر الظهر كان لحاجتهم إليه للركوب، لا لأن الإبل محرمة؛ فلهذا ينهى عما يحتاج إليه من الأطعمة والأشربة عن إزالة النجاسة بها، كما ينهى عن الاستنجاء بما له حرمة من طعام الإنس والجن، وعلف دواب الإنس والجن، ولم يكن ذلك لكون هذه الأعيان لا يمكن الاستنجاء بها، بل لحرمتها بالقول في المائعات، كالقول في الجامدات.
الوجه الثالث: أن يقال: إحالة المائعات للنجاسة إلى طبعها أقوى من إحالة الماء، وتغير الماء بالنجاسات أسرع من تغير المائعات، فإذا كان الماء لا ينجس بما لا يقع فيه من النجاسة؛ لاستحالتها إلى طبيعته فالمائعات أولى وأحرى.
الوجه الرابع: أن النجاسة إذا لم يكن لها في الماء والمائع طعم ولا لون ولا ريح فلا نسلم بأن يقال بنجاسته أصلا، كما في الخمر المنقلبة أو أبلغ وطرد ذلك في جميع صور الاستحالة، فإن الجمهور على أن المستحيل من النجاسات طاهر، كما هو المعروف عن الحنفية والظاهرية، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، ووجه في مذهب الشافعي.
الوجه الخامس: أن دفع المائعات للنجاسة عن نفسها، كدفع الماء لا يختص بالماء، بل هذا الحكم ثابت في التراب وغيره؛ فإن العلماء اختلفوا في(35/53)