ونموذجا لهم في دراسة القضايا، وحل مشكلها، والدقة في تطبيق الأحكام فيها فبذلك تضيق شقة الخلاف وتتحقق المصلحة المرجوة.
أما ارتفاع أصل الخلاف فلا سبيل إليه ولو توحد المرجع العلمي للقضاة باختيار قول واحد وألزم القضاة الحكم به لما تقدم بيانه. ومع ذلك فإن الحكومة وفقها الله قد بذلت مجهودا تشكر عليه فجعلت محاكم تمييز تدرس الأحكام الصادرة من المحاكم، وتوجه القضاة فيما تراهم قد قصروا فيه، وجعلت وراء ذلك هيئة قضائية عليا تدقق الأحكام التي يحصل حولها اختلاف بين القضاة وهيئات التمييز، كل ذلك حرصا من ولي الأمر - وفقه الله - على براءة الذمة وإراحة الناس وإيصال الحقوق إلى أصحابها.
5 - إن الاختلاف في الأحكام قد وجد في عهد الخلفاء الراشدين والسلف الصالح حتى من القاضي الواحد في قضيتين متماثلتين، ظهر له في الثانية ما لم يظهر له في الأولى، فحكم به ولم ينقض حكمه السابق، ولم يكن ذلك داعيا إلى التفكير في مثل التدوين المقترح ولا إلزام القضاة الحكم بقول واحد، وهم كانوا أحرص منا على حفظ الدين وعلى سمعته وسمعة المسلمين ما وسعهم، ولا يجوز أن يكون هذا الاختلاف مثار ريبة وتهمة للقاضي فالأصل فيمن يختار للقضاء أن يكون عالما أمينا على مستوى المسئولية.
6 - مما تقدم يعلم أن العلاج السليم للمشكلة في غير التدوين المذكور الذي لا تؤمن عاقبته ونتيجته غير مضمونة، ويفضي إلى فصل الناس عن مصادر شريعتهم وثروة أسلافهم الفقهية كما سبق بيانه، فتعين سلوك الطريق السليم العاقبة، المأمون النتيجة الذي استقامت عليها حياة الأمة الإسلامية وأحوالها في قرونها السالفة.(31/64)
ونسأل الله أن يحفظ لأمتنا دينها، ويتم عليها الأمن والاستقرار، ويثبت إمام المسلمين ويسدده ويعينه بالبطانة الصالحة، ويمد في أجله على عمل صالح إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء(31/65)
صفحة فارغة(31/66)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(31/67)
أقسام التوحيد
فتوى رقم 9772
س: ما المقصود بتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات والذات؟
جـ: توحيد الربوبية هو توحيد الله بأفعاله من الخلق والرزق والإحياء والإماتة ونحو ذلك، وتوحيد الألوهية هو إفراد الله بالعبادة من صلاة وصوم وحج وزكاة ونذر وذبح ونحو ذلك، وتوحيد الأسماء والصفات أن تصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وتسميه بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيه ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/68)
من الفتوى رقم 8943
س: ما هي أنواع التوحيد مع تعريف كل منها؟
جـ: أنواع التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. فتوحيد الربوبية هو إفراد الله تعالى بالخلق والرزق والإحياء والإماتة وسائر أنواع التصريف والتدبير لملكوت السماوات والأرض، وإفراده تعالى بالحكم والتشريع بإرسال الرسل وإنزال الكتب قال الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1) وتوحيد الألوهية: هو إفراد الله تعالى بالعبادة فلا يعبد غيره ولا يدعى سواه ولا يستغاث ولا يستعان إلا به ولا ينذر
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54(31/68)
ولا يذبح ولا ينحر إلا له. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) وقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (3) وتوحيد الأسماء والصفات هو وصف الله تعالى وتسميته بما وصف وسمى به نفسه، وبما وصفه وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، وإثبات ذلك له من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تأويل ولا تعطيل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 2(31/69)
التصرف في الكون
من الفتوى رقم 9272
س: هل من يعتقد تصرف أحد في الكون سوى الله كافر؟
جـ: من يعتقد ذلك كافر لأنه أشرك مع الله غيره في الربوبية، بل هو أشد كفرا من كثير من المشركين الذين أشركوا مع الله غيره في الألوهية.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/69)
من الفتوى رقم 782
س: (عندنا أولاد ونريدهم يتفكرون بما خلق الله سبحانه وتعالى، هل الأرض التي على سطح الماء ماذا يحملها عن الماء، وقالوا: إن الأرض من سبع طبقات، وكل طبقة بها سكان، ومن عرض ما قالوا لنا: إن من طبقات الأرض سجين أحر من النار يحط - يضع - الله بها أرواح المذنبين والكفار، وقالوا لنا: هاروت وماروت إنهم في الأرض ملائكة معذبين جزاكم الله خيرا ما هو عذابهم) ؟
جـ: أولا ليس هناك أرض على سطح الماء حتى تسأل عما يحملها عن الماء، وإنما فوق الماء الهواء والسماء، وقد تماسكت الكونيات كلها ولزم كل منها مكانة بقدرة الله تعالى، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} (1) وقد يكون هذا التماسك بسر أودعه الله الكائنات يعرفه من هيأ الله له أسباب معرفته من علماء السنن الكونية وغيرهم، وفي صحيح البخاري عن علي رضي الله عنه: «حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله (2) » .
ثانيا: أخبر الله بأن الأرض سبع طبقات فقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (3) الآية، والعلماء الذين قالوا باجتهادهم إنها طبقات بعضها فوق بعض بينها هواء، ويسكن كل طبقة خلق من خلق الله مستدلين بقوله تعالى: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) الآية، ومنهم من قال إنها سبع طبقات متلاصقة بعضها فوق بعض ويستدلون بحديث: «من اقتطع شبرا من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين (5) » .
__________
(1) سورة فاطر الآية 41
(2) البخاري 1 \ 41 طبعة محمد أوزدمير.
(3) سورة الطلاق الآية 12
(4) سورة الطلاق الآية 12
(5) متفق عليه.(31/70)
ثالثا: سجين من الأمور الغيبية يجب علينا أن نمسك عن الخوض فيها إلا بقدر ما بين الله في كتابه أو رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} (1) {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} (2) {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} (3) فيجب أن نؤمن بذلك ولا نزيد عليه قولا من عند أنفسنا، وإلا وقعنا فيما نهى الله عنه بقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (4) .
رابعا: هاروت وماروت ملكان من ملائكة الله، امتحن الله بهما عباده، ولم يفعلا إلا ما أمرهما الله به فكانا بذلك مطيعين لله فيما كلفا ولله أن يختبر عباده ويمتحنهم بما شاء كيف شاء، لا منازع له في قضائه وشرعه. قال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} (5) الآية.
وأما أنهما كانا ملكين ومسخا رجلين وأنهما أساءا بارتكاب المعاصي وحجبا عن السماء، وأنهما يعذبان في الدنيا، أو معلقان من شعورهما فكل هذا وأمثاله من كلام الكذابين من القصاص، فيجب على المسلم ألا يقبله منهم، وأن يتجنب القراءة في الكتب التي ليست مأمونة مثل كتاب بدائع الزهور في وقائع الدهور، فإن مؤلفه وأمثاله هم الذين يذكرون مثل هذه الافتراءات. والله أعلم.
س: صخرة المقدس التي ركب المعراج عليها يوم يعرج النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لنا إنها معلقة بالقدرة أفتونا جزاكم الله خيرا؟
جـ: كل شيء قائم في مقره بإذن الله سواء في ذلك السماوات وما فيها
__________
(1) سورة المطففين الآية 7
(2) سورة المطففين الآية 8
(3) سورة المطففين الآية 9
(4) سورة الإسراء الآية 36
(5) سورة البقرة الآية 102(31/71)
والأرضون وما فيهن حتى الصخرة المسئول عنها قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ} (1) .
وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} (2) .
وليست صخرة بيت المقدس معلقة في الفضاء وحولها هواء من جميع نواحيها بل لا تزال متصلة من جانب بالجبل التي هي جزء منه متماسكة معه، وهي وجبلها قائمان في مقرهما للأسباب الكونية العادية المفهومة، شأنهما في ذلك شأن غيرهما من الكائنات ولا ننكر قدرة الله على أن يمسك جزءا من الكونيات في الفضاء، فمجموع المخلوقات كلها قائمة في الفضاء بقدرة الله كما تقدم، وقد رفع الله الطور فوق قوم موسى حينما امتنعوا من العمل بما أتاهم به موسى من الشرائع، وكان محمولا بقدرة الله، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) . وقال: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) . ولكن القصد بيان الواقع، وأن الصخرة التي في بيت المقدس ليست معلقة في الفضاء من جميع جوانبها منفصلة عن الجبل انفصالا كليا، بل هي متصلة به متماسكة معه. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) سورة فاطر الآية 41
(2) سورة الروم الآية 25
(3) سورة البقرة الآية 63
(4) سورة الأعراف الآية 171(31/72)
من الفتوى رقم 8805
س: هل يوجد في القرآن الكريم الأرضون السبع أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن فيه اختلافا بيننا، وفي أي سورة من القرآن الكريم أو حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم جزاكم الله خير الجزاء؟
ج: ثبت في القرآن الكريم أن الله تعالى خلق سبع أرضين كما خلق سبع سماوات. قال سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (1) آية 12، سورة الطلاق. وثبت أيضا في الحديث الصحيح أن الأرضين سبع، فقد روى البخاري ومسلم عن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه يوم القيامة من سبع أرضين (2) » وفي الصحيحين عن عائشة مرفوعا مثله. وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الطلاق الآية 12
(2) صحيح البخاري المظالم والغصب (2452) ، صحيح مسلم المساقاة (1610) ، سنن الترمذي الديات (1418) ، مسند أحمد بن حنبل (1/190) ، سنن الدارمي البيوع (2606) .(31/73)
من الفتوى رقم 1542
س: نشاهد ونقرأ في بعض الصحف العربية عن عمليات يقوم بها بعض الأطباء في أوروبا يتحول بها الذكر إلى أنثى والأنثى إلى ذكر فهل ذلك صحيح، ألا يعتبر ذلك تدخلا في شئون الخالق الذي انفرد بالخلق والتصوير، وما رأى الإسلام في ذلك؟
جـ: لا يقدر أحد من المخلوقين أن يحول الذكر إلى أنثى ولا أنثى إلى ذكر، وليس ذلك من شئونهم ولا في حدود طاقتهم مهما بلغوا من العلم بالمادة(31/73)
ومعرفة خواصها. إنما ذلك إلى الله وحده قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} (1) {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (2) .
فأخبر سبحانه في صدر الآية بأنه وحده هو الذي يملك ذلك ويختص به. وختم الآية ببيان أصل ذلك الاختصاص وهو كمال علمه وقدرته، ولكن قد يشتبه أمر المولود فلا يدري أذكر هو أم أنثى، وقد يظهر في بادئ الأمر أنثى وهو في الحقيقة ذكر أو بالعكس. ويزول الإشكال في الغالب وتبدو الحقيقة واضحة عند البلوغ فيعمل له الأطباء عملية جراحية تتناسب مع واقعة من ذكورة أو أنوثة، وقد لا يحتاج إلى شق ولا جراحة، فما يقوم به الأطباء في هذه الأحوال إنما هو كشف عن واقع حال المولود بما يجرونه من عمليات جراحية، لا تحويل الذكر إلى أنثى، ولا الأنثى إلى ذكر، وبهذا يعرف أنهم لم يتدخلوا فيما هو من شأن الله إنما كشفوا للناس عما هو من خلق الله. والله أعلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الشورى الآية 49
(2) سورة الشورى الآية 50(31/74)
من الفتوى رقم 9688
س: هل هناك من الإنسان من يجري الرزق إلى غيره من المخلوقات أو يدفع الضر عنه؟
جـ: الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه(31/74)
ويكشف السوء ويدفع الضر. أما الإنسان الحي فقد يجعله الله سببا في كسب الرزق لإنسان آخر، ودفع الضر عنه بإذن الله تعالى، أما هو في نفسه فلا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/75)
من الفتوى رقم 10909
س: يقول بعض الناس كيف يكون الرزق كله من الله وأنا يمكنني أن أزيد في عملي اليوم من أجل أن أحصل على رزق أكثر فكيف يكون مقدرا علي الرزق ومكتوبا علي لا دخل لي في زيادته أو نقصانه، وهل هناك كتب تبحث في مثل هذه القضايا لتدلوننا عليها؟
جـ: الرزق عند الله إيجادا وتقديرا وإعطاء وكسبا وتسببا، فالعبد يباشر السبب أيا كان صعبا أو سهلا كثيرا أو قليلا، والله يقدر السبب ويوجده فضلا منه ورحمة فينسب الرزق إلى الله تقديرا وإعطاء، وإلى العبد تسببا وكسبا.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/75)
كيفية خلق الإنسان
من الفتوى رقم 2612
س: هل نفهم من نفخ الروح في الجنين بعد أربعة أشهر أن الحيوان المنوي المتحد ببيضة المرأة والذي يتكون الجنين منه لا روح فيه أو ماذا؟
جـ: لكل من الحيوان المنوي وبويضة المرأة حياة تناسبه إذا سلم من الآفات(31/75)
تهيأ كل منهما بإذن الله وتقديره للاتحاد بالآخر. وعند ذلك يتكون الجنين إن شاء الله ذلك ويكون حيا أيضا حياة تناسبة، حياة النمو والتنقل في الأطوار المعروفة فإذا نفخ فيه الروح سرت فيه حياة أخرى بإذن الله اللطيف الخبير، ومهما بذل الإنسان وسعة ولو كان طبيبا ماهرا فلن يحيط علما بأسرار الحمل وأسبابه وأطواره، إنما يعرف عنه بما أوتي من علم وفحص وتجارب بعض الأعراض والأحوال. قال الله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} (1) {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (2) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} (3) . وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الرعد الآية 8
(2) سورة الرعد الآية 9
(3) سورة لقمان الآية 34(31/76)
أنتم خلفاء الله في أرضه
من الفتوى رقم 3014
س: وجدت في بعض الكتب عبارة " وأنتم أيها المسلمون خلفاء الله في أرضه " فما حكم ذلك؟
جـ: هذا التعبير غير صحيح من جهة معناه، لأن الله تعالى هو الخالق لكل شيء المالك له، ولم يغب عن خلقه وملكه، حتى يتخذ خليفة عنه في أرضه، وإنما يجعل الله بعض الناس خلفاء لبعض في الأرض، فكلما هلك فرد أو جماعة أو أمة جعل غيرها خليفة منها يخلفها في عمارة الأرض كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} (1) وقال تعالى: {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (2) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 165
(2) سورة الأعراف الآية 129(31/76)
وقال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (1) أي نوعا من الخلق يخلف من كان قبلهم من مخلوقاته.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 30(31/77)
هل يقال عن الهواء ونحوه أنه طبيعي
فتوى رقم 9552
س: هل يجوز التعبير بما يأتي هذا الهواء طبيعي أم لا يجوز؟
جـ: إذا كان المقصود من هذا التعبير أن الهواء معتدل فهو جائز.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/77)
شهادة أن لا إله إلا الله
فتوى رقم 7887
س 1: لم سمي الدين الإسلامي (بالإسلام) ؟
جـ 1: لأن من دخل فيه أسلم وجهه لله واستسلم وانقاد لكل ما جاء(31/77)
عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحكام قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} (1) . . . إلى قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) . . . وقال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (3) .
س 2: ما معنى العبادة؟
جـ 2: معناها التأله والتذلل لله وحده والانقياد له سبحانه بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وقد عرفها العلماء بأنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه.
س3: هل تجوز الجملة: (الموت واحد والأسباب كثير) ؟
ج 3: نعم يجوز التعبير بذلك ولا حرج فيه إن شاء الله. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 130
(2) سورة البقرة الآية 131
(3) سورة البقرة الآية 112(31/78)
من الفتوى رقم 3481
س: أنا سيدة مسلمة أعيش في الدانمرك مع زوجي المسلم، ولي منه والحمد لله ثلاثة أطفال، وليكن اسمي م. م. م. رمزا، في لحظة غضب عارمة سببت ذات الله العلي القدير، ومنذ ذلك الحين أبى زوجي التحدث معي بحجة أنني مرتدة وقد فسخ الله عقد نكاحي وحرام عليه ذبيحتي ولا أورث ولا يصلى علي ولا أغسل ولا أدفن، ويغري الكلاب على جيفتي، ومالي فيء للمسلمين، وأنا نادمة أشد الندم وهذه هي المرة الأولى في حياتي، ولي قسط طيب من الثقافة والعلم والحمد لله، وأعلم أن هذا شيء فظيع الذي حدث(31/78)
مني - وأشار علي أن أكتب لفضيلتكم في أمر توبتي - هل لي توبة؟ وهل لي مع زوجي رجعة وكيف؟ أصلح الله حالكم.
جـ: لا شك أن سب ذات الله جل جلاله ردة وخروج عن دائرة الإسلام بإجماع المسلمين، يستحق صاحبه القتل إذا لم يتب منه، لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة (1) » وما دمت قد تبت من ذلك، وندمت على فعلك له، وعزمت ألا يخرج منك مثل ذلك الكلام السيئ، فتوبتك صحيحة ولزوجك الاتصال بك واعتبار حالك معه بعد التوبة مثلها قبل أن يصدر منك ذلك؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أقروا المرتدين على نكاحهم بعد أن عادوا للإسلام ولم يفرقوا بينهم وبين زوجاتهم، ولم يجددوا لأحد منهم نكاحا ولنا فيهم أسوة حسنة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الديات (6878) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676) ، سنن الترمذي الديات (1402) ، سنن النسائي تحريم الدم (4016) ، سنن أبو داود الحدود (4352) ، سنن ابن ماجه الحدود (2534) ، مسند أحمد بن حنبل (6/181) ، سنن الدارمي الحدود (2298) .(31/79)
من الفتوى رقم 3782
س: بعد إثبات قواعد الخمس المذكور في الحديث هل يوجد هناك شيء يكفرك من الشرك وغيره أم لا؟
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، والإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.(31/79)
والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. والإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان: هو الأعمال الباطنة، وهما متلازمان فلا يصح إسلام بدون إيمان ولا إيمان بدون إسلام، أما المكفرات فكثيرة وتسمى نواقض الإسلام، وأعظمها الشرك بالله كدعاء الأموات والاستغاثة بهم، ودعاء الأصنام والأشجار والكواكب ونحو ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك (1) » الحديث متفق على صحته. ومن ذلك سب الله ورسوله والاستهزاء بالدين، ومن ذلك جحد ما علم من الدين بالضرورة أنه واجب كالصلاة والزكاة، وجحد ما علم من الدين ضرورة أنه محرم كالزنا والسرقة. وقد نبه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله على عشرة منها موجودة في مجموعة التوحيد ص 271 ومطبوعة وحدها، فإذا أردت التوسع في معرفة ذلك فراجع باب حكم المرتد في كتب الفقه الإسلامي.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري تفسير القرآن (4477) ، صحيح مسلم الإيمان (86) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3183) ، سنن النسائي تحريم الدم (4014) ، سنن أبو داود الطلاق (2310) ، مسند أحمد بن حنبل (1/380) .(31/80)
حكم من يسب الدين والسلام عليه
من الفتوى رقم 3419
س: أسكن في منزل يسكن فيه إنسان يطلق لحيته حينا ويحلقها حينا، ويكذب، ويعصي والديه، ويسب هذا الدين، وخالص الأمر أنه يظهر فيه جملة من علامات النفاق - أعاذنا الله - وقد حدث أنه سب لي الدين في عشر دقائق سبع أو ثماني مرات. فهل يلقى على مثل ذلك السلام وأنا أبغضه. وإذا ألقى علي السلام فهل أرده؟ أفيدونا.(31/80)
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
سب الدين - والعياذ بالله - كفر بواح بالنص والإجماع، لقوله سبحانه: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) الآية. وما ورد في معناها ويجب أن ينصح وينكر عليه ذلك، فإن استجاب فالحمد لله وإلا فلا يجوز أن يبدأ من يسب الدين بالسلام ولا يرد عليه إن بدأ، ولا تجاب دعوته ويجب هجره هجرا كاملا حتى يتوب، أو ينفذ فيه حكم بالقتل من جهة ولي الأمر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (3) » خرجه البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ولا شك أن المنتسب للإسلام إذا سب الدين فقد بدل دينه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66
(3) أحمد 2 \ 217 و 282 و 283 و 323 و 5 \ 231، والبخاري برقم 3017 و 6922، وأبو داود برقم 4351، والترمذي برقم 1458، والنسائي 7 \ 104، وابن ماجه برقم 2535.(31/81)
حكم الإسلام في بعض الأقوال
من الفتوى رقم 5628
س: ما حكم الإسلام في هؤلاء وهل يعدون كفارا:
(1) من قال: لا يؤمن بالقرآن الكريم أو بآية واحدة منه فهل يعد كافرا.
(2) من قال: إنه يؤمن بعقله فقط.
(3) من قال لشخص: قد ارتددت عن الإسلام لأنه ذهب مع فتاة متبرجة.
(4) من قال: أنا في غنى عن التفسير الفلاني وغيره.(31/81)
(5) من صلى بأهله الجمعة في المنزل - أي منزله - وخطب عليهم زاعما أنه أدى الجمعة في المنزل فهل صلاته صحيحة.
(6) من قال لشخص: لماذا لا تترك الزغيبات تكبر في وجهك بدلا من اللحية فهل يعد ذلك استهزاء بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال اللحى.
(7) رغم هذه الأشياء عاند ولم يرجع إلى الله فهل يعد كافرا المعاند لكتاب الله وسنة نبيه.
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
أولا: من قال: لا يؤمن بالقرآن الكريم أو بآية واحدة أو أنه يؤمن بعقله فقط دون الشرع، فإنه يبين له أن هذا كفر، فإن أصر على مقالته فهو كافر مرتد عن الإسلام، يستتاب من جهة ولاة الأمر، فإن تاب وإلا قتل مرتدا، لأن الإيمان بالقرآن ركن من أركان الإيمان وجحد آية منه كجحده كله لا فرق في ذلك، ومن اقتصر على عقله ورد ما جاء من الشرع فقد كفر بالقرآن الكريم وبالرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: الذهاب مع فتاة متبرجة لا يكون كفرا، بل هو معصية لكونه من وسائل وقوع الفاحشة، ولكن ينبغي نصح هذا الشخص الذي ذهب مع الفتاة المتبرجة لعل الله أن يهديه.
ثالثا: التفاسير للقرآن مختلفة وبعضها يجب تركه وبعضها أصل يعتمد عليه في فهم القرآن، كتفسير ابن جرير الطبري، وابن كثير، ولم يتبين لنا التفسير الذي يستغني عنه من ذكرت حتى نجيبك عنه.
رابعا: من صلى الجمعة بأهله في بيته فإنهم يعيدونها ظهرا ولا تصح منهم صلاة الجمعة؛ لأن الواجب على الرجال أن يصلوا الجمعة مع إخوانهم المسلمين في بيوت الله عز وجل، أما النساء فليس عليهن جمعة والواجب عليهن أن يصلين ظهرا، لكن إن حضرنها مع الرجال في المسجد أجزأت عن الظهر.
خامسا: أما ما يتعلق باللحية فقد صدر منا فتوى هذا نصها: حلق اللحية حرام، لما رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما(31/82)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب (1) » وما رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس (2) » والإصرار على حلقها من الكبائر، فيجب نصح حالقها والإنكار عليه ويتأكد ذلك إذا كان في مركز قيادي ديني، وعلى هذا إذا كان إماما للجماعة في الصلاة ونصح ولم ينتصح وجب عزله إن تيسر ذلك ولم تحدث فتنة، وإلا وجبت الصلاة وراء غيره من أهل الصلاح على من تيسر له ذلك، زجرا له وإنكارا عليه إن لم يترتب على ذلك فتنة، وإن لم تتيسر الصلاة وراء غيره شرعت الصلاة وراءه تحقيقا لمصلحة الجماعة، وإن خيف من الصلاة وراء غيره حدوث فتنة صلي وراءه درءا للفتنة وارتكابا لأخف الضررين.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5892) ، صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن أبو داود الترجل (4199) .
(2) صحيح مسلم الطهارة (259) ، سنن الترمذي الأدب (2764) ، سنن النسائي الزينة (5224) ، سنن أبو داود الترجل (4199) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، موطأ مالك الجامع (1764) .(31/83)
حكم ذبيحة من يسب الدين والأكل معه
من الفتوى رقم 9407
س: تجد بعض الناس لا يعملون من الإسلام شيئا، لا يقرءون القرآن بل لا يعرفون منه آية واحدة، لا يصلون ولا يزكون، ويسبون الدين والرسول صلى الله عليه وسلم، بل يسبون الله في اليوم 20 مرة، ومع ذلك يقول لك: أنا مسلم ابن مسلم، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فهل يجوز لنا أن نأكل من ذبيحتهم مع أن أغلب الناس من هذا الصنف في مجتمعنا؟
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: أولا: ترك الصلاة جحدا لوجوبها كفر بالإجماع، وتركها تهاونا وكسلا(31/83)
كفر على الراجح من قولي العلماء.
ثانيا: سب الله ورسوله وسب الدين كفر أكبر وردة عن الإسلام، فيستتاب فإن تاب قائلها وإلا وجب على ولي الأمر قتله، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » رواه البخاري في صحيحه.
ثالثا: لا يجوز أكل ذبيحة المرتد حتى يتوب، فإذا تاب توبة صادقة حلت ذبيحته التي يذبحها بعد التوبة، وكذلك غيره من الكفرة سوى أهل الكتاب، ولو شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لأنها لا تنفع قائلها مع المجيء بناقض من نواقض الإسلام بإجماع علماء المسلمين.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017) ، سنن الترمذي الحدود (1458) ، سنن النسائي تحريم الدم (4060) ، سنن أبو داود الحدود (4351) ، سنن ابن ماجه الحدود (2535) ، مسند أحمد بن حنبل (1/282) .(31/84)
حكم بعض الكلمات التي فيها سب الدين
من الفتوى رقم 7549
س: ماذا تقولون في رجل يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويصلي ويقوم بالفرائض الإسلامية إلا أنه عند غضبه أو مناجشته لأحد من الناس يقول بعض الكلمات أستحي أن أذكرها أو أتلفظ بها، اللهم إلا لمثل هذه الأمور التي لا بد من ذكرها حتى نكون على بينة من الأمر وهذه الكلمات هي: النعلة على دين ربك ونحو هذه العبارات. هل يكفر من تلفظ بهذه الكلمات، هل يوجب عليه الوضوء الأكبر، هل يحبط عمله، نرجوا البسط في هذه المسالة؟
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ما ذكرته من قوله: (النعلة على دين ربك) اللفظ يخرج من الإسلام، فينبغي نصحه وإرشاده بالحكمة والموعظة الحسنة ومجادلته بالتي هي أحسن(31/84)
لعل الله أن يهديه فلا يقول ذلك مستقبلا، وأن ينصح أيضا بالتوبة عما مضى، فإن التوبة إذا قبلت غفر لصاحبها ما اقترفه من ذنب. قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (1) أجمع العلماء على أن هذه الآية في التائبين، وقوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (2) والأدلة من القرآن والسنة على مشروعية التوبة كثيرة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الزمر الآية 53
(2) سورة طه الآية 82(31/85)
حكم سب الذات الإلهية
من الفتوى رقم 9842
س: في بلادنا عادة منتشرة من الكبائر وهي شتم الذات الإلهية، فما حكم الإسلام بهذا، وهل تطلق زوجة من يفعلها وهو غير مقر بها. .؟ فأفتونا مأجورين؟
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: سب الذات الإلهية أكبر الكبائر بل ردة من الإسلام، ويجب على من وقع منه ذلك المبادرة بالتوبة والاستغفار والإكثار من الحسنات، فإذا تاب توبة نصوحا تاب الله عليه وصارت زوجته في عصمته بذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/85)
حكم تمزيق المصحف
من الفتوى رقم 9220
س: ما حكم الدين في رجل أمسك بالمصحف الشريف ثم أخذ يمزق صفحاته الواحدة تلو الأخرى، وهو يعرف أنه مصحف، وقد قال له شخص آخر يقف بجانبه إنه مصحف، وفي رجل أطفأ السيجارة في المصحف؟
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: كلاهما بفعله ذلك كافر، لاستهتاره بكتاب الله تعالى وإهانته له. وهما بحكم المستهزئين على حكمه فقوله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66(31/86)
المكفرات التي تخرج من الإسلام
من الفتوى رقم 7503
س: أرجو عرض كل الحالات التي تكفر الإنسان وتخرجه من الملة، وحكم هذا الكافر مع عرض للردة، وعرض بكفر دون الكفر، والموالاة والبغض في الله لهؤلاء الكفار.
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: المكفرات التي تخرج من دين الإسلام كثيرة، منها: جحد ما علم من الدين بالضرورة وجوبه، كإنكار فرض الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج ونحو ذلك. أو استحلال ما علم تحريمه في الإسلام بالضرورة كالزنى وشرب الخمر وقتل النفس عمدا بغير حق وعقوق الوالدين ونحو ذلك، ومنها: سب(31/86)
الله أو رسوله أو دين الإسلام أو الملائكة ونحو ذلك، وأما استيعابها فعليك الرجوع فيه إلى باب حكم المرتد من كتب الفقه لتعلمه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/87)
من الفتوى رقم 7353
س: ما بال قوم يسبون الدين ما حكمهم في الإسلام وإن كانوا الدرجة الأولى من القرابة (الأب - الأخ) مثلا، وما حكم الإسلام في الأضرحة الموجودة مثل ضريح إبراهيم الدسوقي - والسيد البدوي - الحسين) وما شابه ذلك، وما حكم المساجد التي توجد فيها هذه القبور، وهل ينطبق عليها حديث الرسول عليه الصلاة والسلام فيما معناه: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » ؟
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
أولا: سب دين الإسلام ردة عظيمة عن الإسلام إذا كان الساب ممن يدعي الإسلام، وعلى من اطلع على ذلك أن ينكر المنكر، وينصح لمن حصل منه ذلك عسى أن يقبل النصيحة، ويمسك عن المنكر ويتوب إلى الله سبحانه ويتأكد ذلك بالنسبة للقريب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (2) » .
ثانيا: لا يجوز بناء المساجد على القبور، ولا دفن الأموات فيها، ولا تجوز
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(31/87)
الصلاة في هذه المساجد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (1) » خرجه مسلم في صحيحه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(31/88)
من الفتوى رقم 2204
س: قد حصل نزاع بين إخواننا المسلمين في تركيا في هذا الحديث: (من حلل حراما أو حرم حلالا فقد كفر) هل يعد من حلل حراما أو حرم حلالا من الكافرين أو من المذنبين، وما معنى قوله " كفر " في الحديث أو ليس بينه وبين كلمة: " كافر " فرق؟ نرجو من سماحتكم جوابا مقنعا كافيا شافيا في هذا الحديث.
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
أولا: هذا الحديث لا نعلم له أصلا ولا نعلم أحدا من الأئمة المعتبرين أخرجه لا بإسناد صحيح ولا ضعيف فلا يعول عليه والحال ما ذكر.
ثانيا: إذا خالف مسلم حكما ثابتا بنص صريح من الكتاب والسنة لا يقبل التأويل ولا مجال فيه للاجتهاد، أو خالف إجماعا قطعيا ثابتا بين له الصواب في الحكم، فإن قبل فالحمد لله، وإن أبى بعد البيان وإقامة الحجة وأصر على تغيير حكم الله حكم بكفره وعومل معاملة المرتد عن دين الإسلام، مثال ذلك: من أنكر الصلوات الخمس أو إحداهن أو فريضة الصيام أو الزكاة أو(31/88)
الحج وتأول ما دل عليها من نصوص الكتاب والسنة ولم يعبأ بإجماع الأمة، وإذا خالف حكما ثابتا بدليل مختلف في ثبوته أو قابل للتأويل بمعان مختلفة وأحكام متقابلة فخلافه خلاف في مسألة اجتهادية. فلا يكفر بل يعذر في ذلك من أخطاء ويؤجر على اجتهاده، ويحمد من أصاب الحق ويؤجر أجرين، أجرا على اجتهاده وأجرا على إصابته، مثال ذلك من أنكر وجوب قراءة الفاتحة على المأموم، ومن قال بوجوب قراءتها عليه. ومن خالف في حكم صنع أهل الميت الطعام وجمع الناس عليه فقال إنه مستحب أو قال إنه مباح أو إنه مكروه غير حرام، فمثل هذا لا يجوز تكفيره ولا إنكار الصلاة وراءه ولا تمتنع مناكحته، ولا يحرم الأكل من ذبيحته بل تجب مناصحته ومذاكرته في ذلك على ضوء الأدلة الشرعية، لأنه أخ مسلم له حقوق المسلمين، والخلاف في هذه المسألة خلاف في مسألة فرعية اجتهادية، جرى مثلها في عهد الصحابة رضي الله عنهم وأئمة السلف، ولم يكفر بعضهم بعضا ولم يهجر بعضهم بعضا. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/89)
من الفتوى رقم 9438
س: لقد صرح القرآن الكريم بتكفير أهل الكتاب إلا الذين آمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم (القرآن) أما الذين قالوا من اليهود إن عزيرا ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، والعياذ بالله. وصرح القرآن الكريم بتكفيرهم: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (1) الآية.
ولكن مع هذه الحجة القطعية وجدنا بعض العلماء يقولون: إن أهل الكتاب ليسوا كفارا، إنما كانوا أهل الكتاب فقط. . أفيدونا عن هذه المسائل.
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول وآله وصحبه. . وبعد:
__________
(1) سورة المائدة الآية 73(31/89)
من قال ذلك فهو كافر لتكذيبه بما جاء في القرآن والسنة من التصريح بكفرهم، قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} (1) الآيات من سورة آل عمران وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} (2) الآيات من سورة المائدة، وقال: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (3) الآيات من سورة المائدة، وقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (4) الآيات من سورة التوبة، وقال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} (5) الآيات من سورة البينة، وقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (6) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة آل عمران الآية 70
(2) سورة المائدة الآية 17
(3) سورة المائدة الآية 73
(4) سورة التوبة الآية 30
(5) سورة البينة الآية 1
(6) سورة التوبة الآية 29(31/90)
فتوى رقم 2175
س: في بلادنا فطاني بجنوب التايلند مشاكل كبرى على مسألة اتخاذ الطعام من أهل الميت، فأرجو من سماحتكم إفادتنا بالإجابة على هذه المسألة وعلى المسألة الآتية:
أحكام التكليف: واجب، مندوب، جائز، مكروه، محظور.
ما هو الحكم على من أنكر الأحكام المذكورة بأنه قال:
(1) في الواجب بالمندوب أو المباح أو المكروه أو المحظور.
(2) وفي المندوب بالواجب أو المباح أو المكروه أو المحظور.
(3) وفي المباح بالواجب أو المندوب أو المكروه أو المحظور.
(4) وفي المكروه بالواجب أو المندوب أو المباح أو المحظور.
(5) وفي المحظور بالواجب أو المندوب أو المباح أو المكروه.
وبعض الأمثلة لذلك، قال العلماء العالمون: " ويكره اتخاذ الضيافة من الطعام من أهل الميت، لأنه شر في السرور لا في الشرور وهي بدعة مستقبحة " وقال: " يكره اتخاذ الطعام في اليوم الأول والثاني والثالث وبعد الأسبوع " وقال: " واتفق الأئمة الأربعة على كراهة صنع أهل الميت طعاما للناس يجتمعون عليه " ونحو ذلك من أقوال العلماء. والعلماء في بلادنا فطاني بالكثرة قالوا بالعكس مما قال به العلماء العاملون السابقون، بعضهم قال بالسنة وبعضهم قال بالمباح، وقليل منهم قال: بالوجوب، فنحن أنا والحاج عبد الله والحاج محمد صالح والحاج عبد الرحمن جافاكيا نقول كما قال به العلماء العاملون السابقون. ولأجل هذه المسألة كفر بعضهم بعضا، ولا يأكل بعضهم ذبيحة بعض، ولا ينكح بعضهم مولية بعض، ولذلك أرجو من سماحتكم الموافقة والاعتماد على ذلك بالفتوى جوابا إيجابيا، ثم ترسلون إلينا لكي نطبع ونوزع إلى الناس كافة مجانا إن شاء الله سبحانه وتعالى.
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
أولا: دلت السنة الصحيحة على أن غير أهل الميت من إخوانه(31/91)
المسلمين هم الذين يصنعون طعاما ويبعثون به إلى أهل الميت، إعانة لهم وجبرا لقلوبهم، فإنهم ربما اشتغلوا بمصيبتهم وبمن يأتي إليهم عن صنع الطعام وإصلاحه لأنفسهم، فقد روى أبو داود في سننه عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر رضي الله عنه حين قتل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنعوا لآل جعفر طعاما فإنهم قد أتاهم أمر شغلهم (1) » رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وحسنه الترمذي، أما صنع أهل الميت طعاما للناس واتخاذها ذلك عادة لهم فغير معروف فيما نعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه الراشدين، بل هو بدعة، فينبغي تركها، لما فيها من شغل أهل الميت إلى شغلهم، ولما فيها من التشبه بصنع أهل الجاهلية، والإعراض عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم، وقد روى الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعدون الاجتماع إلى أهل الميت وصنع أهل الميت طعاما لمن جاءهم بعد الدفن من النياحة، وكذا لا يجوز ذبح حيوان عند القبر أو ذبحه عند الموت أو عند خروج الميت من البيت لما رواه أحمد وأبو داود من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا عقر في الإسلام (2) » .
ثانيا: إذا خالف مسلم حكما ثابتا بنص صريح من الكتاب أو السنة لا يقبل التأويل ولا مجال فيه للاجتهاد، أو خالف إجماعا قطعيا ثابتا بين له الصواب في الحكم فإن قبل فالحمد لله، وإن أبى بعد البيان وإقامة الحجة وأصر على تغيير حكم الله حكم بكفره وعومل معاملة المرتد عن دين الإسلام، مثال ذلك: من أنكر الصلوات الخمس أو إحداها أو فريضة الصيام أو الزكاة أو الحج وتأول ما دل عليها من نصوص الكتاب والسنة ولم يعبأ بإجماع الأئمة، وإذا خالف حكما ثابتا بدليل مختلف في ثبوته أو قابل للتأويل بمعان مختلفة وأحكام متقابلة فخلافه خلاف في مسألة اجتهادية، فلا يكفر بل يعذر في ذلك من أخطأ ويؤجر على اجتهاده، ويحمد من أصاب الحق ويؤجر أجرين أجرا على اجتهاده وأجرا على إصابته، مثال ذلك من أنكر وجوب قراءة الفاتحة على المأموم، ومن قال بوجوب قراءتها عليه، ومن خالف في حكم صنع أهل الميت
__________
(1) سنن الترمذي الجنائز (998) ، سنن أبو داود الجنائز (3132) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1610) .
(2) سنن أبو داود الجنائز (3222) ، مسند أحمد بن حنبل (3/197) .(31/92)
الطعام وجمع الناس عليه فقال إنه مستحب، أو قال إنه مباح، أو إنه مكروه غير حرام، فمثل هذا لا يجوز تكفيره ولا إنكار الصلاة وراءه ولا تمتنع مناكحته، ولا الأكل من ذبيحته بل تجب مناصحته ومذاكرته في ذلك على ضوء الأدلة الشرعية، لأنه أخ مسلم له حقوق المسلمين. والخلاف في هذه المسألة خلاف في مسألة فرعية اجتهادية جرى مثلها في عهد أصحابه رضي الله عنهم وأئمة السلف ولم يكفر بعضهم بعضا ولم يهجر بعضهم بعضا.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/93)
من الفتوى رقم 3786
س3: في حكم كفار أهل الكتاب المقيمين بين أظهرنا مع العلم بعدم دفعهم جزية، بل إنهم يعادون أهل الإسلام ولا يتركون موطئا يعود على الإسلام بالأذى والضر إلا وشاركوا فيه خفية أو جهارا، فكيف يكون التعامل معهم؟ وكيف يبدي المسلم عدم الموالاة لهم في هذا الموضع؟
ج3: من سالم المسلمين من الكفار وكف عنهم أذاه عاملناه بالتي هي أحسن، وقمنا بواجب الإسلام نحوه، من بر ونصح وإرشاد ودعوة إلى الإسلام وإقامة الحجة عليه؛ رجاء أن يدخل في دين الإسلام، فإن استجاب فالحمد لله، وإن أبى طالبناه بما يجب عليه من الحقوق التي دل عليها الكتاب والسنة، فإن أبى قاتلناه حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الكفر هي السفلى، أما من تعالى على المسلمين منهم، وتولاهم بالأذى وبيت لهم الشر فالواجب على المسلمين أن يدعوه إلى الإسلام، فإن أبى قوتل؛ نصرة للدين، وكفا لأذاه(31/93)
عن المسلمين، قال الله تعالى {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (1) الآية، وقال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) .
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المجادلة الآية 22
(2) سورة الممتحنة الآية 8(31/94)
من الفتوى رقم 3786
س: في المساجد التي أقامتها جمعيات دينية تنتمي إلى بعض فرق المسلمين أمثال الجماعات التي تدعو إلى تحكيم العقل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتكذب آلاف الأحاديث الصحيحة والجماعات التي تصرف أسماء الله سبحانه وصفاته عن ظاهرها، وتقول هذه القولة والخبيثة: " السلف أحكم والخلف أعلم " ونشرت بين العامة قولة: " إن الله موجود في كل الوجود " وغيرها من الجماعات، هل يجوز الصلاة فيها وراء إمام من أهل هذه النحل؟
وماذا لو أظهر أحد أئمة واحد من هذه المساجد التراجع عن هذا فهل علي أن أطالبه بالتبرؤ من الانتساب لهؤلاء القوم أم أنني أكتفي بقوله؟
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . . وبعد: من أنكر الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذبها فهو مخطئ آثم، وفي تكفيره تفصيل، ومن تأول الآيات والأحاديث الدالة على أسماء الله وصفاته عن ظاهرها، وقال: إن مذهب السلف أحكم وأسلم وإن الخلف أعلم، فهو مخطئ في قوله إن الخلف أعلم، فإن السلف أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأفقه لهما وأفهم للمقصود شرعا من الخلف ومذهبهم أحكم وأسلم من مذهب الخلف.(31/94)
ومن قال: إن الله في كل مكان بنفسه وذاته فهو حلولي خاطئ كافر، ومن قال: إن الله في كل مكان بعلمه لا بذاته فهو مصيب، ومن غلا فأنكر جميع الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن بالقرآن فهو كافر لا تجوز الصلاة وراءه ولا تصح وكذا من غلا في تأويل نصوص الأسماء والصفات والمعاد حتى قال بوحدة الوجود، أو بوجود الله وجودا كليا في الأذهان لا في خارجها. أو بالمعاد الروحاني لا الجسماني فهو كافر، لا تصح الصلاة خلفه، ومن تاب من هؤلاء قبلنا توبته ووكلنا سريرته إلى الله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/95)
من فتوى رقم 2196
س: اللحية سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم وهناك أناس كثير من يحلقها، ومنهم من ينتفها، ومنهم من يقصر منها، ومنهم من يجحدها، ومنهم من يقول: إنها سنة يؤجر فاعلها ولا يعاقب تاركها، ومن السفهاء من يقولون: لو أن اللحية فيها خير ما طلعت مكان العانة قبحهم الله فما حكم كل واحد من هؤلاء المختلفين وما حكم من أنكر سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم؟
جـ: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
قد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة على وجوب إعفاء اللحى وإرخائها وتوفيرها، وعلى تحريم حلقها وقصها كما في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا(31/95)
المشركين (1) » وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس (2) » وهذان الحديثان وما جاء في معناهما من الأحاديث كلها تدل على وجوب إعفاء اللحى وتوفيرها وتحريم حلقها وقصها كما ذكرنا، ومن زعم أن إعفاءها سنة يثاب فاعلها ولا يستحق العقاب تاركها فقد غلط وخالف الأحاديث الصحيحة؟ لأن الأصل في الأوامر الوجوب وفي النهي التحريم ولا يجوز لأحد أن يخالف ظاهر الأحاديث هذه الأحاديث عن ظاهرها.
وأما ما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها (3) » فهو حديث باطل لا صحة له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن في إسناده راويا متهما بالكذب.
أما من استهزأ به وشبهها بالعانة فهذا قد أتى منكرا عظيما يوجب ردته عن الإسلام؛ لأن السخرية بشيء مما دل عليه كتاب الله أو سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تعتبر كفرا وردة عن الإسلام لقول الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (4) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (5) الآية.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 2 \ 229 والبخاري برقم 5893 ومسلم برقم 259.
(2) مسلم برقم 260.
(3) الترمذي برقم 2763.
(4) سورة التوبة الآية 65
(5) سورة التوبة الآية 66(31/96)
فتوى رقم 5044
س: ما حكم الشرع فيمن استهزأ بسنة من سنن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كمن يستهزئ باللحية أو بصاحبها لكونه ذا لحية فيناديه استهزاء (يا دقن) فنرجو من فضيلتكم التكرم ببيان حكم قائلها؟
جـ: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: الاستهزاء باللحية منكر عظيم فإن قصد القائل بقوله: (يا دقن) السخرية فذلك كفر، وإن قصد التعريف فليس يكفر ولا ينبغي له أن يدعوه بذلك. لقول الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) الآية.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66(31/97)
فتوى رقم 5703
س: ما حكم تارك الصلاة والمفطر في رمضان المستهزئ بالدين والسنة كاللحية وتقصير الثوب، ثم أرجو بيان ما الواجب أن نعمله تجاه من يفعل ذلك سواء كان أخا أو أبا أو صديقا؟
جـ: من ترك الصلاة عمدا فإن كان جاحدا فهو كافر بإجماع العلماء، وإن تركها كسلا فهو كافر على الصحيح من قولي العلماء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » أخرجه الإمام أحمد
__________
(1) أحمد 3 \ 370 ومسلم برقم 82، والترمذي برقم 2621، وابن ماجه برقم 1078، والبيهقي في السنن 3 \ 336 وابن أبي شيبة في المصنف 11 \ 33، والإيمان برقم 44 و 45، والمروزي في تعظيم الصلاة برقم 886، وأبو يعلى في المسند برقم 1953، وابن حبان في صحيحه برقم 1453، وابن منده في الإيمان رقم 219، والطبراني في الصغير 2 \ 14، والدرامي في السنن 1 \ 280، والدراقطني 2 \ 53، والنسائي 1 \ 232(31/97)
وأصحاب السنن بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب، وقوله صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (1) » . .
خرجه الإمام مسلم في صحيحه، والأدلة في ذلك كثيرة.
ومن استهزأ بدين الإسلام أو بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كإعفاء اللحية وتقصير الثوب إلى الكعبين أو إلى نصف الساقين وهو يعلم ثبوت ذلك فهو كافر، ومن سخر من المسلم واستهزأ به من أجل تمسكه بالإسلام فهو كافر لقول الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (2) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (3) وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(2) سورة التوبة الآية 65
(3) سورة التوبة الآية 66(31/98)
فتوى رقم 7654
س: أرجو من حضرتكم قراءة رسالتي هذه كاملة للتعرف على استفساراتي: متى يرتد الشخص والعياذ بالله؟ قد يبدو سؤالي غريبا ولكنه محيرني أشد الحيرة. في بعض الأحيان قد تنتابني الوساوس في بعض تصرفاتي وأفعالي، مصورة هذه الأفعال على أنها أفعال تدل على الردة والعياذ بالله. أحب(31/98)
أن أعلمكم بأن قلبي والحمد لله مطمئن تماما بالإيمان، إنما تساورني الشكوك - كما ذكرت - في كل عمل أقوم به أو قبل أن أقوم به؛ على سبيل المثال: إذا تحدثت لشخص أو عدة أشخاص تداخلني الشكوك قبل أن أنطق الكلمة بأن هذه الكلمة قد تدل على الكفر والعياذ بالله فأتردد في كلامي وأتلعثم وأحيانا، لا أجد فرصة في مراجعة نفسي في أن أقولها أو لا أقولها، ونظرا للإحراج واستمراري في كلامي تخرج الكلمة مني قهرا دون أن أقصد بها الكفر والعياذ بالله، فقد أدخلني الوساوس هل أكون وقتها كمن ارتد أعوذ بالله من ذلك. ومما يزيد وساوسي أني قد شعرت بالكلمة قبل أن أقولها، فهل أكون كمن أجبر على الكفر حيث إن عيون الأشخاص الذين أتحدث معهم معلقة بي منتظرة منى مواصلة الحديث، ثم أجد أن هذه حجة واهية فتزداد شكوكي ورغم هذا أشعر بأنني لن أترك هذا الدين أبدا مهما عذبت، فكيف بي في تلك اللحظات أثناء الحديث، إنه شعور غريب ينتابني ويقض مضجعي، وإذا حاولت أن أتغاضى عن ذلك لا أستطيع حيث تداخلني الشكوك مرة أخرى: هل يجب علي الآن أن أغتسل كمن أراد الدخول في الإسلام فلا تصح صلاتي إلا بذلك، وهل تلغى كل أعمالي الصالحة السابقة كمن ارتد والعياذ بالله فيجب علي مثلا أن أعيد أداء فريضة الحج. ومما يحدث لي أيضا في حالات الضيق أو الغضب أن أجد نفسي تندفع برغبة نحو أفكار معينة (لا أستطيع ذكرها) ثم لا ألبث أن أتمالك أعصابي وأحاول التخلص من هذه الأفكار، فهل يعتبر ذلك كفرا والعياذ بالله. ومما أريد أن أقوله: أني قرأت حديثا شريفا بما معناه أنه إذا كفر مسلم أخاه قد باء بها أحدهما فهل معنى هذا أن المسلم لو كفر شخصا آخر فقد كفر، أي أصبح حكمه كحكم المرتد تماما، فكيف إذا شعرت بأن ذلك الشخص مثلا كافر ولم أصرح بذلك. وأريد أن أسأل أيضا: هل يعتبر الاعتقاد في بعض الخرافات كرقم النحس (13) أو التشاؤم من رمي الأظافر على الأرض وغيرها من هذه الخرافات هل تعتبر كفرا، علما بأن المعتقد بها مسلم تماما ومؤمن بكل ما جاء في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإذا تاب الشخص ولم(31/99)
يعد يعتقد بها هل يكون كمن دخل الإسلام أي يجب عليه الاغتسال ونحوه، ثم أريد أن أسأل: هل تعتبر وساوسي وشكوكي في نفسي هذه مهما بلغت ذنبا أؤاخذ عليه أم لا، علما بأنني أقضي أحيانا ساعات في التفكير فيها محاولا التخلص منها. ولن أطيل رسالتي أكثر من هذا وأضع هذا السؤال إجمالا لكل ما سبق وهو: متى يرتد الشخص؟ لا أريد أن أسأل كيف يعرف المرتد إنما كيف يعرف الإنسان نفسه إذا ارتد والعياذ بالله؟ كما أريد أن أسأل: هل يجب على المرتد إن أراد العودة إلى الإسلام أن يغتسل مثله مثل الكافر إذا أسلم حتى ولو لم يجنب في فترة ارتداده؟ وسؤال آخر: الحج فريضة تؤدى مرة واحدة في العمر باستثناء حالة الردة والعياذ بالله هل توجد حالات أخرى يصبح فيها على المسلم فرضا أن يحج مرة ثانية؟
جـ: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: أولا: من ارتد عن الإسلام ثم عاد إليه لا يحبط ما سبق أن عمله أيام إسلامه من الأعمال الصالحات لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) .
ثانيا: الخواطر النفسية والوساوس الشيطانية لا يؤاخذ بها المسلم، ولا يرتد بها عن الإسلام إلا إذا استقرت عقيدة له.
ثالثا: ادفع عنك الوساوس والخواطر الخبيثة واستعذ بالله منها، وقل: آمنت بالله ورسوله، وأكثر من ذكر الله وتلاوة القرآن ومخالطة الأخيار، وعالج نفسك عند دكتور لأمراض النفسية والعصبية، واتق الله ما استطعت وألجأ إليه في كل ما أصابك يكشف عنك الغمة ويزيل ما بك من الكرب، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (2) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 217
(2) سورة الطلاق الآية 2
(3) سورة الطلاق الآية 3(31/100)
نسأل الله لك الشفاء وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/101)
فتوى رقم 7658
س: في العام قبل الماضي نويت أداء فريضة الحج مقرنا وما إن وصلت إلى بيت الله الحرام حتى أديت فريضة العمرة، وتعتبر طواف القدوم في نفس الوقت حيث لم أتشرف بزيارة بيت الله من قبل ثم بعدها بيوم واحد أديت فريضة العمرة نيابة عن والدتي المتوفاة ولما كان هناك متسع من الوقت قبل الذهاب إلى منى في يوم التروية أشار علي الأهل الذين أقضي الوقت عندهم بالتحلل من الإحرام، ففعلت وعند الذهاب إلى منى أحرمت من جديد، ثم صليت ركعتين بنية الإحرام بالحج فقط في مسجد العمرة، وفي هذه الحالة تعتبر نيتي قد تغيرت من القران إلى التمتع. فهل يشوب حجي أي شائبة رغم قيامي بنحر ذبيحة. وهل تعتبر العمرة التي أديتها نيابة عن والدتي في موسم الحج صحيحة أم أنه لا يجوز تأدية عمرتين في موسم حج واحد. هل أي ذنب يرتكبه الإنسان بعد أدائه الفريضة يؤثر عليها لأننا لسنا منزهين عن الخطأ؟
جـ: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
أولا: تعتبر في حجك المذكور متمتعا بالعمرة إلى الحج وقد أحسنت فيما فعلت من التحلل من العمرة.
ثانيا: العمرة التي أديتها عن أمك بعد أن اعتمرت عن نفسك صحيحة إذا كنت أديتها بعد التحلل من عمرتك بالحلق أو التقصير بعد الطواف والسعي.(31/101)
ثالثا: ما كان من الذنوب دون الكفر الأكبر لا يبطل الأعمال الصالحة، ولكن تكون المقاصة بين حسنات وسيئات من خلط عملا صالحا وآخر سيئا ما لم يتب منها أو يعف الله عنه.
أما الردة عن الإسلام - والعياذ بالله - فتحبط جميع الأعمال الصالحة إذا مات على ردته. ومن تاب منها توبة نصوحا لم تحبط أعماله الصالحة فضلا من الله ورحمة، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 217(31/102)
فتوى رقم 7712
س: وصلني سؤال من أحد العاملين في قسم البطاقات الشخصية ومفاده: أن من دخل في الإسلام حديثا يلزمه تغيير اسمه، وخصوصا إذا كان مخالفا للإسلام ويحدث أن يرتد بعضهم ويلزم بعد ذلك إعادة أسمائهم الأولى يوم كانوا كفارا، لأنه يترتب على ذلك أحكام كثيرة منها الإسلامية ومنها ما تفرضه ملل الكفر كالميراث والزواج والأحوال الشخصية، وحيث إن طالب الفتوى يعمل في قسم الأحوال المدنية شعبة البطاقات فهل عليه إثم إذا قام(31/102)
بتغيير تلك الأسماء، وهل يعتبر عمله هذا تأييدا لهم على ردتهم، كما أنه يحدث أنه يتلقى أوامر من رؤسائه بذلك فما الحكم في الجميع؟
جـ: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: إذا علمت أن طالب التغيير منتقل من الإسلام إلى الكفر فليس لك أن تساعده في ذلك في أي نوع من أنواع المساعدة ولو أمرك رئيسك بذلك، لقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم: «لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء (2) » رواه مسلم في صحيحه، فإذا كان من يساعد على أعمال الربا ملعونا فكيف بمن يساعد على إثبات الكفر وتسهيل أعمال المرتدين. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف (3) » ، «لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق (4) » .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) أحمد 1 \ 83 و 87 و 293 و 402 ومسلم برقم 1098، وأبو داود برقم 3333، والترمذي برقم 1206، وابن ماجه برقم 2297، والنسائي في المجتبى 8 \ 147.
(3) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(4) مسند أحمد بن حنبل (1/131) .(31/103)
فتوى رقم 6899
س: الإنسان المسلم أبا وأما ولكن رفض الصلاة والصيام وغير ذلك من شعائر الله فهل تجوز معاملته معاملة المسلمين فمثلا أن يأكل معه المسلم وغير ذلك أم لا؟(31/103)
جـ: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
إذا كان حال هذا الشخص ما ذكرت من رفض الصلاة والصيام وغيرهما من شعائر الإسلام فهو كافر كفرا يخرج من الإسلام على الصحيح من قولي العلماء، يستتاب ثلاثة أيام فإن تاب فالحمد لله، وإلا نفذ فيه ولي أمر المسلمين ما يوجبه الشرع من قتل المرتدين، ولا يجوز للمسلمين موالاته ولا زيارته ونحو ذلك إلا لنصحه وإرشاده ووعظه عسى أن يتوب إلى الله سبحانه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/104)
فتوى رقم 6592
س: بعض الناس يقول الكلام قد يؤدي إلى الكفر أو الفسق، ويقول إنني أمزح فهل مزاحه به صحيح في رفع الحرج أم لا؟
جـ: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: يحرم المزاح تحريما شديدا بما فيه كفر أو فسق، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) الآية، وتجب التوبة من ذلك العمل والاستغفار عسى الله أن يتوب على فاعله.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66(31/104)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/105)
فتوى رقم 9104
س 1: تفسيرهم الكفر المخرج عن الملة بالجحود فقط، وتارك الصلاة كسلا غير جاحد، أم هناك كفر مخرج من الملة بدون جحود؟
ج1: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: تفسير الكفر المخرج من الملة بالجحود فقط غير صحيح، فإن إنكار المسلم حكما اجتهاديا اختلف فيه الأئمة لا يعتبر كفرا، بل يعذر في ذلك، وقد يكفر من يترك بعض أركان الإسلام عمدا وهو قادر على الإتيان به والإعراض عن النطق بالشهادتين مع القدرة على ذلك وكترك الصلوات الخمس عمدا وكسلا لا جحودا.
س 2: اعتبارهم تارك الصلاة كافرا كفرا عمليا والكفر العملي لا يخرج صاحبه من الملة إلا ما استثنوه من سب الله تعالى وما شابهه، فهل تارك الصلاة مستثنى وما وجه الاستثناء؟
ج 2: ليس كل كفر عملي لا يخرج من ملة الإسلام، بل بعضه يخرج من ملة الإسلام وهو ما يدل على الاستهانة بالدين والاستهتار به كوضع المصحف تحت القدم، وسب رسول من رسل الله مع العلم برسالته، ونسبة الولد إلى الله، والسجود لغير الله، وذبح لغير الله، ومن ذلك ترك الصلوات المفروضة كسلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (2) » خرجه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(31/105)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/106)
فتوى رقم 2151
س: لدينا زملاء كثيرون لا يصلون، وربما كانوا يصلون عندما كانوا عند أهلهم، فلما شاهدوا الحياة الأمريكية تركوا الصلاة والصيام ونسوا دينهم القديم ونصحتهم أنا وبعض زملائي ودعوناهم للصلاة فلم يجيبوا فهل تبرأ ذمتنا والمسكن واحد؟
جـ: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: إذا كان الواقع كما ذكرتم فذمتكم بريئة ولا يضركم مساكنتهم للضرورة، وعليكم مواصلة نصحهم ودعوتهم إلى التمسك بدينهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ومجادلتهم بالتي هي أحسن لعل الله يهديهم على يديكم فتغنموا أنتم وهم الخير الكثير والأجر المضاعف إن شاء الله. ثبتكم الله وأعانكم ورزقكم الصبر والاحتساب إنه سميع مجيب وهدى بقية الزملاء إلى صراطه المستقيم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/106)
فتوى رقم 3535
س: ما حكم الصلاة خلف حالق اللحية، بل ويهزأ ممن ترك لحيته ويأمره بحلقها؟
جـ: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: لا يجوز الاستهزاء بمن أعفى لحيته لأنه أعفاها تنفيذا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي نصح المستهزئ وإرشاده، وبيان أن استهزاءه ممن أعفى لحيته جريمة عظيمة يخشى على صاحبها من الردة عن الإسلام لقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66(31/107)
فتوى رقم 6280
س: من ينكر بعض الأحاديث الصحيحة الواردة في الصحيحين مثل حديث عذاب القبر ونعيمه والمعراج والسحر والشفاعة والخروج من النار. ما الحكم فيهم هل يصلى وراءهم أو يتبادل معهم السلام أو يعتزلوا؟
جـ: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: يبحث معهم أهل العلم بالحديث رواية ودراية ليعرفوهم بصحتها وبمعانيها فإن أصروا بعد ذلك على إنكارها أو تحريف نصوصها عن معناها الصحيح تبعا لهواهم وتنزيلا لها على رأيهم الباطل فهم فسقة ويجب اعتزالهم(31/107)
وعدم مخالطتهم اتقاء لشرهم إلا إذا كان الاتصال بهم من أجل النصح لهم وإرشادهم، أما الصلاة وراءهم فحكمها حكم الصلاة وراء الفاسق والأحوط عدم الصلاة خلفهم لأن بعض أهل العلم كفرهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(31/108)
فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن باز
من كان أتقى لله فهو أفضل
السؤال: متى يكون الأعجمي أفضل من العربي؟
الجواب: الحكم في ذلك كما نبه الله سبحانه عليه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) فإذا كان العجمي أتقى لله فهو أفضل، وهكذا إذا كان العربي أتقى لله فهو أفضل. فالفضل والكرم والمنزلة بالتقوى فمن كان اتقى لله فهو أفضل سواء كان عجميا أو عربيا.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13(31/109)
أخذ الأجرة على تعليم القرآن
السؤال: ما حكم أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن الكريم حيث إن لدينا إماما في قريتنا يأخذ أجرا على تحفيظ القرآن للصبيان؟
الجواب: لا حرج في أخذ الأجرة على تعليم القرآن وتعليم العلم لأن الناس في حاجة إلى التعليم، ولأن المعلم قد يشق عليه ذلك ويعطله التعليم عن الكسب، فإذا أخذ أجرة على تعليم القرآن وتحفيظه وتعليم العلم فالصحيح أنه لا حرج في ذلك. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جماعة من الصحابة نزلوا ببعض العرب فلدغ سيدهم - يعني رئيسهم - وأنهم عالجوه بكل شيء ولم ينفعه ذلك، وطلبوا منهم أن يرقوه فتقدم أحد الصحابة فرقاه بفاتحة الكتاب فشفاه الله وعافاه،(31/109)
وكانوا قد اشترطوا عليهم قطيعا من الغنم فأوفوا لهم بشرطهم، فتوقفوا عن قسمه بينهم حتى سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: «أحسنتم واضربوا لي معكم بسهم (1) » رواه البخاري في صحيحه، ولم ينكر عليهم ذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله (2) » رواه البخاري في الصحيح أيضا فهذا يدل على أنه لا بأس بأخذ الأجرة على التعليم كما جاز أخذها على الرقية.
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الطب (5749) ، صحيح مسلم السلام (2201) ، سنن الترمذي الطب (2063) ، سنن أبو داود البيوع (3418) ، سنن ابن ماجه التجارات (2156) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .
(2) صحيح البخاري الطب (5737) .(31/110)
المشروع أن يقال: غفر الله له أو رحمه الله
السؤال: ما هي العبارات التي تطلق في حق الأموات فنحن نسمع عن فلان المغفور له أو المرحوم. . فهل هذه العبارات صحيحة وما التوجيه في ذلك؟
الجواب: المشروع في هذا أن يقال: غفر الله له أو رحمه الله ونحو ذلك إذا كان مسلما، ولا يجوز أن يقال: المغفور له أو المرحوم لأنه لا تجوز الشهادة لمعين بجنة أو نار أو نحو ذلك، إلا لمن شهد الله له بذلك في كتابه الكريم أو شهد له رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا هو الذي ذكره أهل العلم من أهل السنة فمن شهد الله له في كتابه العزيز بالنار كأبي لهب وزوجته، وهكذا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة كأبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وبقية العشرة رضي الله عنهم، وغيرهم ممن شهد له الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنة كعبد الله بن سلام وعكاشة بن محصن رضي الله عنهما، أو بالنار كعمه أبي طالب وعمرو بن لحي الخزاعي وغيرهما ممن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالنار، نعوذ بالله من ذلك. أما من لم يشهد له الله سبحانه ولا رسوله بجنة ولا نار فإنا لا نشهد له بذلك على التعيين، وهكذا لا نشهد لأحد معين بمغفرة أو رحمة إلا بنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أهل السنة يرجون للمحسن ويخافون على المسيء ويشهدون لأهل الإيمان عموما بالجنة، وللكفار عموما بالنار. كما أوضح سبحانه في كتابه المبين قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} (1) الآية من سورة
__________
(1) سورة التوبة الآية 72(31/110)
التوبة، وقال تعالى فيها أيضا: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} (1) الآية. وذهب بعض أهل العلم إلى جواز الشهادة بالجنة أو النار لمن شهد له عدلان أو أكثر بالخير أو الشر لأحاديث صحيحة وردت في ذلك.
__________
(1) سورة التوبة الآية 68(31/111)
لا يكفي إطعام مسكين عشر مرات عن إطعام عشرة مساكين
السؤال: من كفارة اليمين إطعام عشرة مساكين. . فهل يجوز إطعام واحد منهم الآن والآخر بعد أسبوع لأنه قد لا يوجد عشرة مساكين دفعة واحدة. . وهل إذا أطعمت واحدا عشر مرات أكون أطعمت عشرة مساكين؟
الجواب: يجب التماس العشرة فإذا أطعمت واحدا وكررت ذلك لا يكفي فلا بد من عشرة كما قال الله عز وجل في كتابه الكريم في سورة المائدة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (1) الآية. فلا بد من التماس العشرة ولو تعددت الأيام، لكن تجب المبادرة حسب الإمكان، ولو كان إطعامهم متفرقا في أيام فلا بأس، ولكن عليك أن تجتهد وتلتمس عشرة وتبادر بإخراج الكفارة أو تكسوهم كسوة تجزئهم في الصلاة تغديهم أو تعشيهم فإن هذا يكفي للآية السابقة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 89(31/111)
يجب على المرأة التستر سواء كانت بدوية أو حضرية
السؤال: إننا نسكن في صحراء والناس كلهم بدو وهناك النساء يلبسن ثيابا تغطي العورة ولكنها قصيرة وبعض الأحيان ضيقة. . فبم تنصحون هؤلاء؟
الجواب: لا شك أن الواجب على النساء التستر والبعد عن التبرج وإظهار(31/111)
المحاسن لقول الله تعالى عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (1) . قال علماء التفسير معنى التبرج إظهار المحاسن والمفاتن.
فالواجب على المرأة أن تكون متسترة متحجبة إذا كانت بحضور رجل أو أكثر من غير محارمها وبعيدة عن الفتنة كما قال عز وجل في سورة الأحزاب أيضا: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (2) الآية. فأطهر لقلوب الرجال وقلوب النساء التستر والتحجب من جهة النساء وعدم التبرج حتى لا تفتن ولا تفتن. وقال عز وجل: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} (3) الآية في سورة النور. وقال تعالى في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) . والجلباب لباس تضعه المرأة فوق رأسها وعلى جميع بدنها فوق ثيابها العادية لمزيد الستر والبعد عن الفتنة. هكذا ينبغي للمرأة سواء كانت بدوية أو حضرية، الواجب عليها أن تتمسك بحكم الإسلام وأن تجتهد في ستر عورتها، وأن تكون ثيابها وسطا لا ضيقة تبين حجم العورة ولا واسعة تبين العورة، ولكن وسط بين ذلك مع ستر الرأس والوجه واليدين عند وجود رجل أجنبي، وإن كان ابن عمها أو ابن خالها أو زوج أختها أو أخا زوجها. وهكذا في صلاتها تستر جميع بدنها ما عدا الوجه. فالسنة كشفه في الصلاة إذا لم يكن حولها رجل ليس من محارمها. أما الكفان فإن كشفتهما فلا بأس وإن غطتها فهو أفضل.
وأما القدمان فيجب سترهما في الصلاة عند جمهور أهل العلم ولا يجوز كشفهما، ويكون سترهما بإرخاء القميص أو لبس الجوربين ونحوهما حين أداء الصلاة.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) سورة النور الآية 31
(4) سورة الأحزاب الآية 59(31/112)
حكم الاستماع للغناء
السؤال: إن كثيرا من الرجال والنساء يستمعون الغناء، فما حكم ذلك، نرجو النصيحة؟
الجواب: نصيحتي لجميع الرجال والنساء عدم استماع الأغاني، فالأغاني خطرها عظيم وقد ابتلي الناس بها في الإذاعات وفي التلفاز وفي أشياء كثيرة كالأشرطة، وهذا من البلاء. فالواجب على أهل الإسلام من الرجال والنساء أن يحذروا شرها وأن يتغاضوا عنها بسماع ما ينفعهم من كلام الله عز وجل، ومن كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن كلام أهل العلم الموثوقين في أحاديثهم الدينية وندواتهم ومقالاتهم، كل ذلك ينفعهم في الدنيا والآخرة، أما الأغاني فشرها عظيم وربما سبب للمؤمن انحرافا في أخلاقه لقول الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1) {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) .
وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى تفسير لهو الحديث بالغناء، وإذا كان معه آلات اللهو كالمزمار والعود ونحوهما صار الإثم أكبر لعظم ما يحصل بذلك من الفساد في القلوب والأخلاق، وقد يجر ذلك إلى الضلال والإضلال والاستهزاء بالدين والاستكبار عن سماع القرآن والعياذ بالله من ذلك كما نبهت الآيات المذكورات على ذلك. وقد يفضي بأهله إلى النفاق كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع.
__________
(1) سورة لقمان الآية 6
(2) سورة لقمان الآية 7(31/113)
شرح حديث «استوصوا بالنساء خيرا (1) » .
السؤال: في الحديث «استوصوا بالنساء خيرا فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج ما في الضلع أعلاه (2) » . . إلخ الحديث، والرجاء توضيح معنى
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3331) ، صحيح مسلم الرضاع (1468) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3331) ، صحيح مسلم الرضاع (1468) .(31/113)
الحديث مع توضيح معنى أعوج ما في الضلع أعلاه؟
الجواب: هذا حديث صحيح رواه الشيخان في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فاستوصوا بالنساء خيرا (1) » انتهى. . هذا أمر للأزواج والآباء والإخوة وغيرهم أن يستوصوا بالنساء خيرا، وأن يحسنوا إليهن وألا يظلموهن، وأن يعطوهن حقوقهم ويوجهوهن إلى الخير. . وهذا هو الواجب على الجميع لقوله عليه الصلاة والسلام: «استوصوا بالنساء خيرا (2) » وينبغي ألا يمنع من ذلك كونها قد تسيء في بعض الأحيان إلى زوجها وأقاربها بلسانها أو فعلها، لأنهن خلقن من ضلع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه. ومعلوم أن أعلاه ما يلي منبت الضلع، فإن الضلع يكون فيه اعوجاج، هذا معروف، فالمعنى أنه لا بد أن يكون في خلقها شيء من العوج والنقص. ولهذا ورد في الحديث الآخر في الصحيحين: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن (3) » والمقصود أن هذا حكم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ثابت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومعنى نقص العقل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أن شهادة المرأتين تعدل شهادة رجل واحد. وأما نقص الدين فهو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنها تمكث الأيام والليالي لا تصلي، يعني من أجل الحيض. وهكذا النفاس. وهذا نقص كتبه الله عليها ليس عليها فيه إثم، فينبغي لها أن تعترف بذلك على الوجه الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانت ذات علم وتقى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وإنما ذلك منه وحي يوحيه الله إليه فيبلغه الأمة كما قال عز وجل: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (4) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (5) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (6) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (7)
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3331) ، صحيح مسلم الرضاع (1468) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3331) ، صحيح مسلم الرضاع (1468) .
(3) صحيح البخاري الحيض (304) ، صحيح مسلم الإيمان (80) .
(4) سورة النجم الآية 1
(5) سورة النجم الآية 2
(6) سورة النجم الآية 3
(7) سورة النجم الآية 4(31/114)
الحشرات التي يجوز قتلها
السؤال: الحشرات التي توجد في البيت مثل النمل والصراصير وما أشبه ذلك هل يجوز قتلها بالماء أو بالحرق أو ماذا أفعل؟
الجواب: هذه الحشرات إذا حصل منها الأذى جاز قتلها، لكن بغير التحريق بل بأنواع المبيدات الأخرى لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خمس من الدواب كلهن فواسق يقتلن في الحل والحرم، الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور (1) » وفي لفظ: «والحية (2) » . . فهذه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أذاها وأنها فواسق، يعني مؤذية، وأذن في قتلها وهكذا ما أشبهها من الحشرات يقتلن في الحل والحرم إذا وجد منها الأذى كالنمل والصراصير والبعوض ونحوها مما يؤذي.
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (2881) .
(2) صحيح مسلم الحج (1200) ، مسند أحمد بن حنبل (2/52) .(31/115)
على المسلم أن يبلغ عن ربه وأن يؤدي الأمانة
السؤال: بعض الموظفين والعاملين لا يعطون عملهم الحماسة اللازمة، فنجد بعضهم يمر عليه عام فأكثر وهو لا يأمر بخير ولا ينهى عن شر، ويتأخر عن العمل ويقول: أنا مأذون من رئيسي فلا علي شيء. فمن كانت هذه حاله فهل عليه شيء في دينه ما دام على هذه الحال؟ أفتونا جزاكم الله خيرا.
الجواب: أولا المشروع لكل مسلم ومسلمة التبليغ عن الله - سبحانه وتعالى - لما سمع من الخير كما دل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها (1) » وقال عليه الصلاة والسلام: «بلغوا عني ولو آية (2) » وكان إذا خطب الناس وذكرهم يقول: «فليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى من سامع (3) » فأنا أوصيكم جميعا أن تبلغوا ما سمعتم من الخير عن بصيرة وتثبت. فكل من سمع علما وحفظه يبلغ أهل بيته وإخوانه ومجالسيه ما يرى فيه الخير من ذلك مع العناية بضبط ذلك وعدم التكلم بشيء لم يحفظه حتى يكون من المتواصين بالحق ومن الدعاة إلى الخير.
أما الموظفون الذين لا يؤدون أعمالهم أو لا ينصحون فيها فقد سمعتم أن
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2658) ، سنن ابن ماجه المقدمة (232) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3461) ، سنن الترمذي العلم (2669) ، مسند أحمد بن حنبل (2/159) ، سنن الدارمي المقدمة (542) .
(3) صحيح البخاري الحج (1741) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) ، سنن ابن ماجه المقدمة (233) ، مسند أحمد بن حنبل (5/49) ، سنن الدارمي المناسك (1916) .(31/115)
من خصال الإيمان أداء الأمانة ورعايتها كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (1) فالأمانة من أعظم خصال الإيمان والخيانة من أعظم خصال النفاق. كما قال سبحانه في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) فالواجب على الموظف أن يؤدي الأمانة بصدق وإخلاص وعناية، وحفظا للوقت حتى تبرأ الذمة ويطيب الكسب ويرضى ربه وينصح لدولته في هذا الأمر أو للشركة التي هو فيها أو لأي جهة يعمل فيها، هذا هو الواجب على الموظف أن يتقي الله وأن يؤدي الأمانة بغاية الإتقان وغاية النصح، يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، ويعمل بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (4) .
ومن خصال أهل النفاق الخيانة في الأمانات كما قال النبي علية الصلاة والسلام: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان (5) » متفق عليه، فلا يجوز للمسلم أن يتشبه لأهل النفاق بل يجب عليه أن يبتعد عن صفاتهم، وأن يحافظ على أمانته، وأن يؤدي عمله بغاية العناية، ويحفظ وقته، ولو تساهل رئيسه ولو لم يأمره رئيسه فلا يقعد عن العمل أو يتساهل فيه بل ينبغي أن يجتهد حتى يكون خيرا من رئيسه في أداء العمل والنصح في الأمانة، وحتى يكون قدوة حسنة لغيره.
__________
(1) سورة النساء الآية 58
(2) سورة المؤمنون الآية 8
(3) سورة الأنفال الآية 27
(4) سورة النساء الآية 58
(5) صحيح البخاري الإيمان (33) ، صحيح مسلم الإيمان (59) ، سنن الترمذي الإيمان (2631) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5021) ، مسند أحمد بن حنبل (2/536) .(31/116)
لا يجوز للمسلم أن يخلو بالمرأة الأجنبية
سواء كانت خادمة أو غيرها
السؤال: ما حكم الاختلاط والاختلاط بالخادمات العاملات في كثير من بيوت المسلمين اليوم؟ وهل يجوز استقدام خادمة كافرة؟
الجواب: الخادمات خطرهن عظيم والبلية بهن كبيرة. فلا يجوز للمسلم أن يخلو بالأجنبية، سواء كانت خادمة أو غيرها كزوجة أخيه وزوجة عمه وأخت زوجته وزوجة خاله وغير ذلك، ولا يخلو بامرأة من جيرانه ولا غيرهن من أجنبيات؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما (1) » فليس له أن يخلو بامرأة أجنبية لا خادمة ولا غيرها، وليس له أن يستقدم خدما كفارا ولا عمالا كفارا ولا خادمات كافرات في هذه الجزيرة. فهذه الجزيرة لا يستقدم لها إلا المسلمون من الرجال والنساء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج الكفار منها، وأوصى عند موته بذلك، وأن لا يبقى فيها إلا الإسلام فقط، فهي معقل الإسلام وهي منبع الإسلام فلا يجوز أن يستقدم إليها الكفار. فالجزيرة العربية على طولها وعرضها لا يجوز أن يستقدم إليها الكفرة ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بالناس فيما يفعلون من استقدام الكفرة لأن أكثر الخلق لا يتقيدون بحكم الشرع كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} (2) إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك كحاجة المسلمين إلى طبيب اضطروا إليه، أو عامل اضطروا إليه يرى ولي الأمر استقدامه لمصلحة المسلمين بصفة مؤقتة فلا حرج في ذلك، كما استخدم النبي صلى الله عليه وسلم اليهود في خيبر للضرورة إليهم ثم أخلاهم عمر رضي الله عنه لما استغنى عنهم، وكذلك إذا قدموا لمصلحة المسلمين بغير إقامة كالوافدين لبيع البضائع ثم يرجعون لمدة معلومة وأيام معدودة.
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2165) ، مسند أحمد بن حنبل (1/18) .
(2) سورة الأنعام الآية 116(31/117)
الزواج بنية الطلاق والفرق بينه وبين زواج المتعة
السؤال: بعض المسلمين يسافرون للدراسة وغيرها إلى الخارج، فهل يجوز له أن يتزوج بنية الطلاق؟ وما الفرق بينه وبين زواج المتعة؟ أرجو توضيح هذا الأمر وفقكم الله.
الجواب: الزواج في الخارج فيه ضرر عظيم وخطر كبير فلا يجوز السفر للخارج إلا بشروط مهمة، لأن السفر للخارج يعرضه للكفر بالله ويعرضه للمعاصي من شرب الخمر وتعاطي الزنا وغير هذا من الشرور. ولهذا نص العلماء على تحريم السفر إلى بلاد الكفار عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين (1) » فالإقامة بينهم خطيرة جدا سواء كانت للسياحة أو للدراسة أو للتجارة أو غير ذلك. فهؤلاء المسافرون من الطلبة من الثانوي والمتوسط أو للدراسة الجامعية على خطر عظيم والواجب على الدولة - وفقها الله - أن تؤمن لهم الدراسة في الداخل وليس لها أن تسمح لهم بالسفر إلى الخارج لما فيه من الخطر العظيم. وقد نشأ عن ذلك شر كثير من الردة والتساهل بالمعاصي من الزنا وشرب الخمور، وأعظم من ذلك ترك الصلوات كما هو معلوم عند من سبر أحوال من يسافر للخارج إلا من رحمه الله منهم وهم القليل. فالواجب منعهم من ذلك وأن لا يسافر إلا الرجال المعروفون بالدين والإيمان والعلم والفضل إذا كان ذلك للدعوة إلى الله أو التخصص لأمور تحتاجها الدولة الإسلامية، ولمسافر معلوم بالعلم والفضل والإيمان والاستقامة حتى يدعو إلى الله على بصيرة، ويتعلم ما بعث من أجله.
أما الزواج بنية الطلاق ففيه خلاف بين العلماء، منهم من كره ذلك كالأوزاعي - رحمه الله - وجماعته وقالوا إنه يشبه المتعة فليس له أن يتزوج بنية الطلاق عندهم، وذهب الأكثرون من أهل العلم كما قال الموفق ابن قدامة - رحمه الله - في المغني إلى جواز ذلك إذا كانت النية بينه وبين ربه فقط، وليس بشرط كأن يسافر للدراسة أو أعمال أخرى وخاف على نفسه فله أن يتزوج ولو نوى طلاقها إذا انتهت مهمته، وهذا هو الأرجح إذا كان ذلك بينه وبين ربه
__________
(1) سنن الترمذي السير (1604) ، سنن النسائي القسامة (4780) ، سنن أبو داود الجهاد (2645) .(31/118)
فقط من دون مشارطة ولا إعلام للزوجة ولا وليها بل بينه وبين الله، فجمهور أهل العلم يقولون لا بأس بذلك كما تقدم وليس من المتعة في شيء؛ لأنه بينه وبين الله ليس في ذلك مشارطة.
أما المتعة ففيها المشارطة شهرا أو شهرين أو سنة أو سنتين بينه وبين أهل الزوجة أو بينه وبين الزوجة، وهذا النكاح يقال له نكاح متعة وهو حرام بالإجماع، ولم يتساهل فيه إلا الرافضة - وكان مباحا في أول الإسلام ثم نسخ وحرمه الله إلى يوم القيامة كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم - أما أن يتزوج في بلاد سافر إليها للدراسة أو لكونه سفيرا أو لأسباب أخرى تسوغ له السفر إلى بلاد الكفار؛ فإنه يجوز له النكاح بنية الطلاق إذا أراد أن يرجع كما تقدم إذا احتاج إلى الزواج خوفا على نفسه، ولكن ترك هذه النية أولى احتياطا للدين وخروجا من خلاف العلماء، ولأنه ليس هناك حاجة إلى هذه النية لأن الزوج ليس ممنوعا من الطلاق إذا رأى المصلحة في ذلك ولو لم ينوه عند النكاح.(31/119)
يجب منع المجلات التي عليها صور النساء
السؤال: ما رأيكم في المجلات التي تباع في الأسواق وعليها صور النساء متبرجات فاتنات؟ وهل يجوز بيعها؟
الجواب: جميع المجلات والصحف يجب أن تمنع إذا كانت تشتمل على صور النساء لأنها فتنة. ووافقت الدولة والحمد لله على ذلك، وكذا وزير الإعلام قد صدر منه الأمر بمنع ذلك. فالواجب على الجميع التعاون لحماية المسلمين من هذه المجلات والصحافة التي تنشر الرذائل والصور الخليعة سواء كانت داخلية أو خارجية؛ لأن ذلك منكر يجب القضاء عليه بواسطة المسئولين عن ذلك. والواجب على وزارة الإعلام والمراقبة الدينية متابعة ذلك وعمل ما يلزم للقضاء عليه. سدد الله خطاهم ووفقهم لكل ما فيه صلاح العباد والبلاد إنه سميع قريب.(31/119)
هل الذنوب تسبب محق البركة؟
السؤال: الأخت التي رمزت لاسمها بـ (أ - ع) من الرياض تقول في سؤالها: قرأت أن من نتائج الذنوب العقوبة من الله ومحق البركة فأبكي خوفا من ذلك، أرشدوني جزاكم الله خيرا؟
الجواب: لا شك أن اقتراف الذنوب من أسباب غضب الله عز وجل، ومن أسباب محق البركة وحبس الغيث وتسليط الأعداء كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (1) وقال سبحانه: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه (3) » .
فالواجب على كل مسلم ومسلمة الحذر من الذنوب والتوبة مما سلف منهما، مع حسن الظن بالله ورجائه سبحانه المغفرة والخوف من غضبه وعقابه كما قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم عن عباده الصالحين: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (4) ، وقال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (5) وقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (6) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 130
(2) سورة العنكبوت الآية 40
(3) سنن ابن ماجه المقدمة (90) ، مسند أحمد بن حنبل (5/282) .
(4) سورة الأنبياء الآية 90
(5) سورة الإسراء الآية 57
(6) سورة التوبة الآية 71(31/120)
ويشرع للمؤمن والمؤمنة مع ذلك الأخذ بالأسباب التي أباح الله عز وجل، وبذلك يجمع بين الخوف والرجاء والعمل بالأسباب متوكلا على الله سبحانه معتمدا عليه في حصول المطلوب والسلامة من المرهوب والله سبحانه هو الجواد الكريم القائل عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (1) {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (2) والقائل سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (3) وهو القائل سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (4) .
فالواجب عليك أيتها الأخت في الله التوبة إلى الله سبحانه مما سلف من الذنوب والاستقامة على طاعته مع حسن الظن به عز وجل، والحذر من أسباب غضبه، وأبشري بالخير الكثير والعاقبة الحميدة. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الطلاق الآية 2
(2) سورة الطلاق الآية 3
(3) سورة الطلاق الآية 4
(4) سورة النور الآية 31(31/121)
صفحة فارغة(31/122)
تعليق عن التفريق
بين
الفائدة البنكية والربا
الشيخ \ صالح بن عبد الرحمن الحصين
من المعروف أن الربا مكروه من قديم الزمان وفي مختلف العصور، ولكن ربما كان أقدم نص مكتوب في تحريم الربا الفاحش في العصر الفرعوني هو قانون الفرعون بوخوريس من الأسرة الرابعة والعشرين، وحرمت التشريعات الموسوية والمسيحية الربا بمختلف أشكاله ومهما كان قدره، إلا أن اليهود بعد موسى أجازوا الربا مع غير اليهود على أساس أن مال غير اليهود حلال لليهود: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (1) وقد عاب الله في القرآن الكريم اليهود بذلك فقال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} (2) {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} (3) والربا الذي كانت تأخذه اليهود كما هو معروف هو الزيادة التي يأخذونها على القروض التي يقدمونها لغير اليهود، فيأخذون زيادة على رأس مال القرض مقابل الأجل، وقد ظل العالم المسيحي يكره اليهود ويشنع عليهم أخذهم الربا، ومن آثار ذلك المسرحية المشهورة لشكسبير (تاجر البندقية) عن المرابي اليهودي،
__________
(1) سورة آل عمران الآية 75
(2) سورة النساء الآية 160
(3) سورة النساء الآية 161(31/123)
وقد ظل اليهود يتألمون من هذه المسرحية ويكافحون ضد ظهورها، ولولا أن القيمة الأدبية لها قد حمتها لكانت قد اختفت من الآثار الثقافية.
وقد ظلت القوانين في البلاد المسيحية تحرم الربا، فلما جاءت الثورة الفرنسية في عام 1789 م أباحت الفائدة على القروض في حدود معينة وانتقلت هذه الإباحة إلى تقنين نابليون الصادر عام 1804 م والنافذ حتى الآن في فرنسا، ثم صدر في فرنسا عام 1808 م قانون يحدد السعر القانوني للفائدة بـ 5 % في المسائل المدنية و 6 % في المسائل التجارية، وفي 5 أغسطس عام 1935 م صدر قانون يجعل من يتقاضى فوائد زائدة عن حدود معينة مرتكبا جريمة الربا، وبالمثل اعتبرت المادة 644 من القانون الجنائي الإيطالي الجديد من يتقاضى فوائد زائدة عن حدود معينة مرتكبا جريمة الربا.
وهكذا نرى أن الضمير الإنساني لم يستطع حتى الآن أن يتخلص من كراهيته للربا واعتباره جريمة وعملا غير أخلاقي، وإن تسامح في حدود معينة ونسب محددة للفائدة يتحكم واضع القانون في تقييمها بين وقت وآخر.
أما الإسلام فقد جاء بنصوص قاطعة الدلالة، قاطعة الثبوت على تحريم ربا النسيئة (أو أخذ زيادة في القرض عن رأس المال مقابل الأجل) ووردت بذلك آيات سورة البقرة التي قررت أن الدائن لا يجوز له أن يأخذ زيادة عن رأس ماله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1) أي لا تظلمون المدين يأخذ زيادة عن رأس المال، كما وردت بذلك الأحاديث الصريحة المتواترة تواترا معنويا، ثم أجمعت على ذلك الأمة، وقد وجد النزاع بين العلماء قديما وحديثا في صور عديدة من التعامل هل تدخل في الربا، ولكن طوال القرون الماضية لم يوجد نزاع (بل لم ينقل) حول ربا النسيئة، فالأمة متفقة على تحريمه بكل صوره سواء كان قليلا أم كثيرا.
__________
(1) سورة البقرة الآية 279(31/124)
وقد حدث أن وقعت البلاد الإسلامية (عدا المملكة العربية السعودية واليمن) تحت الاستعمار الأوروبي فنقل إليها النظام البنكي المعتمد على الفائدة الربوية وأنتج ذلك نتيجتين:(31/125)
النتيجة الأولى: شل التعامل الاقتصادي المتحرر من الربا، وتقليد البلدان الإسلامية الدول الغربية العلمانية في تقنين التفريق بين قليل الربا وكثيره، فسمحت التقنينات المدنية العربية مثلا بتقاضي فوائد يحددها القانون وحرمت الزيادة عليها، كما حرمت الفوائد المركبة (الفوائد على متجمد الفوائد) بعد أن سمحت بالفوائد البسيطة فنصت المادة (236) من التقنين المدني المصري الجديد على تحديد سعر الفوائد بـ 4% في المسائل المدنية و 5% في المسائل التجارية، كما نصت المادة (237) منه على أنه (يجوز للمتعاقدين أن يتفقا على سعر آخر للفوائد على ألا يزيد هذا السعر عن 7%، فإذا اتفقا على فوائد تزيد على هذا السعر وجب تخفيضها إلى 7% ويمكن رد ما دفع زائدا على هذا القدر، وكل عمولة أو منفعة أيا كان نوعها اشترطها الدائن إذا زادت هي والفائدة على الحد الأقصى المتقدم ذكره تعتبر فائدة مستترة وتكون قابلة للتخفيض) ونصت المادة (233) منه على أنه (لا يجوز تقاضى فوائد على متجمد الفوائد ولا يجوز في أية حال أن يكون مجموع الفوائد التي يتقاضاها الدائن أكثر من رأس المال) ، والحال الأخيرة يقصد بها تراكم الفوائد لسنوات كثيرة تبلغ بها رأس المال. وتتضمن التقنينات المدنية العربية الأخرى السوري والليبي والعراقي نصوصا مماثلة عدا تحديد نسبة الفائدة. ويقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري - وهو الذي وضع أصول القوانين الأربعة المشار إليها في شرحه لهذه المواد: (ويتكفل القانون بتحديد مقدار الفوائد والسبب في ذلك كراهية تقليدية للربا لا في مصر فحسب، ولا في البلاد الإسلامية وحدها، بل في أكثر تشريعات العالم، فالربا مكروه في كل البلاد وفي جميع العصور ومن ثم لجأ المشرع إلى تحديده للتخفف من رزاياه وهذا هو المبرر القوي الذي حمل القانون في هذه الحالة على التدخل - ثم يقول - وسنرى فيما يلي كيف كره المشرع المصري الربا(31/125)
فحدد لفوائد رءوس الأموال سعرا قانونيا وسعرا اتفاقيا، وتشدد في مبدأ سريان هذه الفوائد، وأجاز استرداد ما يدفع زائدا على السعر المقرر، وأعفى المدين في حالات معينة من دفع الفوائد حتى في الحدود التي قررها منع تقاضي فوائد على متجمد الفوائد، في هذه وغيرها آيات على كراهية المشرع (المصري) للربا وعلى الرغبة في التضييق منه حتى لا يستفحل فيرهق المدين وقد يؤذيه بالإفلاس والخراب، ثم يقول: " وقد زاد التقنين الجديد على التقنين القديم في كراهية الربا (ثم يذكر أمثلة) " (1) .
__________
(1) الوسيط، جـ 1، ص 883.(31/126)
النتيجة الثانية: لما كانت البنوك التي وجدت في العالم الإسلامي تحت ظل المستعمر في الأغلبية الساحقة بنوكا أجنبية، وكانت أداة فعالة لاستغلال أموال المواطنين تحت نير الاستعمار، وكانت المشكلة الكبرى للمسلم كيف يوفق بين قلبه الذي يمنعه من الربا، خوفا من الله، وتفكيره الذي يمنعه من ترك الفوائد الربوية عن إيداعاته لعدوه المستعمر الكافر، وكان هذا الأمر يشكل أعظم أزمة فكرية يواجهها العالم المفتي كما تصور ذلك أبلغ تصوير الفتاوى التي نقلت عن الشيخ محمد رشيد رضا.
ومن ناحية أخرى فإن البنوك الربوية الاستعمارية وقد شلت التعامل الاقتصادي المتحرر من الربا، وصارت هي المسيطرة على التعامل الاقتصادي في البلاد الإسلامية كما هي المسيطرة في غيره من العالم، قد شككت بعض المثقفين المسلمين في إمكانية الخروج عن سيطرة التعامل البنكي الربوي، وأصبح كثير من المسلمين يعتقدون أن لا بديل للاقتصاد الاشتراكي إلا الاقتصاد الرأسمالي القائم على الربا.
وحينما عقد أسبوع الفقة الإسلامي في باريس عام 1953م حضره مجموعة كبيرة من القانونيين الغربيين، كما حضره من المسلمين الدكتور معروف الدواليبي، والشيخ محمد عبد الله دراز. وتبعا لطريقة الدكتور معروف الدواليبي في التفكير وشغفه بالحلول السياسية حتى بالنسبة للمشاكل الفقهية، ونظرا لعاطفته الإسلامية القوية ورغبته في أن يجمل وجه الفقه الإسلامي أمام علماء(31/126)
القانون الغربيين وأن يقنعهم بأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأنه لا يعارض المصالح الواقعية، فقد عرض نظرية غريبة مفادها أن الإسلام لا يحرم ربا النسيئة في كل صوره، وإنما يحرم هذا الربا في مجال قروض الاستهلاك، أما مجال قروض الإنتاج والاستثمار فلا يحرم فيها ربا النسيئة ويجوز فيها تقاضي الفوائد عن القروض، ولحسن الحظ فقد كان طرح الشيخ محمد عبد الله دراز في تلك الندوة معاكسا تماما لطرح الدكتور الدواليبي، إذ أوضح أن الإسلام يحرم ربا النسيئة بمختلف صوره دون تفريق بين مجال قروض الاستهلاك والاستثمار، وأنه من المستحيل إثبات وجود مثل هذا التفريق، وكان حضور الشيخ دراز - رحمه الله - وطرحه توفيقا من الله، إذ لو استقر في أذهان أعضاء الندوة أن فكرة الدكتور الدواليبي تمثل حقا الفقه الإسلامي لانتهوا إلى عكس الهدف الذي توخاه الدكتور الدواليبي، إذ سوف يعتبرون الفقه الإسلامي يمكن أن يكون له مجال في عالم الأخلاق والمثل ولكن لا يمكن أن يكون له مجال في عالم الواقع والتشريع، إذ أن التمييز بين مجال القروض الاستهلاكية ومجال القروض الاستثمارية إن أمكن في بعض الصور فهو غير ممكن في غالب الصور، كما أوضح ذلك الدكتور السنهوري في تعليقه على هذه الفكرة في كتابه المشهور مصادر الحق، يوضح هذا أن التفريق بين قروض الاستثمار وقروض الاستهلاك يعتمد في أغلب الصور على محض النية الباطنة للمتعاملين والتي لا تتخذ بالضرورة مظهرا يمكن الحكم عليه، ومحض النية يصلح معيارا للنظام الأخلاقي ولكنه لا يصلح معيارا للنظام التشريعي إلا إذا تشكل في مظهر يمكن أن يكون محلا للحكم.
وعلى كل حال ومع أن الإنسان عندما يخترع فكرة فإنها عادة تسيطر عليه ولا يستطيع أن يتخلص من أسرها، إلا أنا مع ذلك لا نظن أن الدكتور الدواليبي يصر حتى الآن على فكرته - تلك - لا سيما بعد أن وضح له لا من قبل علماء الشرع بل من قبل علماء القانون أن فكرته تستند على أساس من الوهم لا من الحقيقة.(31/127)
ما سبق يضع أمامنا صورة لأعظم أزمة فكرية للمثقف المسلم قبل ثلاثين عاما، وكان العالم الإسلامي ينتظر - للتخلص من هذه الأزمة - روادا عظاما ينظرون لإمكانية الإفلات من أسر النظام البنكي الغربي الربوي، ويثبتون صلاحية الأدوات الفقهية الإسلامية كبديل كفء. وينتظر مؤسسات تطبق هذا التنظيم وتثبته واقعا ملموسا، وقد تم هذا ولله وحده الحمد والشكر.
أما الفضل - بعد الله - فيرجع لحكومة المملكة العربية السعودية في فتح الآفاق المباركة، فبفضل إيمانها وشجاعتها حرصت عندما أصدرت نظام بنكها المركزي (مؤسسة النقد العربي السعودي) في عام 1377 هـ على أن تضمن المادة الثانية منه النص على أنه (لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي دفع أو قبض فائدة وإنما يجوز لها فقط فرض رسوم لقاء الخدمات التي تؤديها للجمهور أو للحكومة وذلك لسد نفقات المؤسسة) ونصت المادة السادسة على أنه: " لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي القيام بأي عمل من الأعمال الآتية:
(1) مباشرة أي عمل يتعارض مع قواعد الشريعة الإسلامية السمحاء فلا يجوز لها دفع أو قبض فائدة على الأعمال.
وهكذا رفعت المملكة الراية للمسيرة المباركة، وأعلنت بوضوح أن العمل على التحرر من النظام البنكي الربوي ليس ممكنا فحسب، بل هو واجب. ثم أتيح لها في فرصة أخرى أن تعزز هذه الريادة فعند صياغة نظام البنك الإسلامي للتنمية وضعت كل ثقلها في جانب تضمن نظام البنك نصوصا تقضي بأنه لا يجوز للبنك أن يتقاضى فوائد عن قروضه، وأن تتم معاملاته كلها وفق القواعد الشرعية.
وقد توالت الثمار، فمن ناحية التنظير وجدت أعمال فكرية تنتهج الموضوعية والأسلوب العلمي تشرح الحلول الفقهية الإسلامية وتثبت كفاءتها لأن يعتمد عليها اقتصاد نام وسليم.(31/128)
ومن بين الأعمال الكثيرة نقدم هنا مثالين:
(1) لاحظ الأستاذ \ سامي حسن حمود الذي تدرج في وظائف البنك الأهلي الأردني حتى وصل إلى رتبة نائب مدير البنك، أن كثيرا من عملاء البنك يمتنعون تورعا من تقاضي فوائد على إيداعاتهم، وقد عرف أن سبب ذلك هو تحريم الإسلام لتقاضي الفوائد الربوية، وقد لفت هذا نظره إلى البحث في الفقه الإسلامي فاكتشف أن هذا الفقه زاخر بإمكانيات البدائل عن النظام الربوي، وعند تقدمه للحصول على درجة الدكتوراة من جامعة القاهرة كان موضوع أطروحته (تطوير المعاملات المصرفية بما يوافق الشريعة الإسلامية) . ويعتبر هذا الكتاب - وقد صدر قبل حوالي خمسة عشر عاما - من أفضل الكتب في موضوعه، ويمتاز بالتزامه بالمنهج التزاما دقيقا، وقد هيئ للدكتور سامي حمود فيما بعد أن يشرف على تطبيق أفكاره في هذه الأطروحة عند تأسيس البنك الأردني الإسلامي وقيامه بإدارته.
(2) تولى الأستاذ الدكتور عمر شابرا منصب الخبير الاقتصادي لمؤسسة النقد العربي السعودي لمدة طويلة كادت تبلغ ربع قرن، وقد كان درس الاقتصاد على المنهج الغربي، ولكن عند التحاقه بالعمل في المؤسسة كان من الطبيعي أن تلفت انتباهه نصوص نظام المؤسسة المشار إليها آنفا والتي تحرم على المؤسسة دفع أو اقتضاء الفوائد وتوجب أن تكون معاملاتها موافقة للقواعد الشرعية، وكان من الطبيعي أن يتوجه اهتمامه إلى البحث في الأساليب الاقتصادية الإسلامية، وأن يكتشف نتيجة للبحث الطويل العميق امتياز الأساليب الإسلامية وصلاحيتها الكاملة لإقامة نظام اقتصادي قوي وسليم، وكانت الثمرة المباركة لهذه الجهود صدور كتابه المعنون towards a gust monetary system وقد صدر في إنجلترا قبل حوالي ثلاث سنوات، إن الكتاب يتضمن دراسة علمية لعدد من الوسائل الاقتصادية الشرعية وأثبت بوضوح ودقة امتياز هذه الوسائل وكفايتها(31/129)
لأن يستند عليها نظام اقتصادي سليم، ولا يعنينا في هذا المجال هذا وإنما سنهتم بنتيجة الموازنة العلمية الدقيقة بين الوسائل الشرعية، والوسائل الربوية التي تضمنها الفصل الخامس، فبالاستناد إلى الاكتشافات والأفكار الاقتصادية الحديثة وبالرجوع إلى أساطين الاقتصاد الغربي المعاصرين وإلى الإحصاءات وتقارير الخبراء أثبت عجز الوسائل الربوية (أو نظام الفائدة) كأساس يعتمد عليه في البناء الاقتصادي السليم وذلك على النحو الذي نلخصه فيما يلي، (وإن كان هذا التلخيص تلخيصا مبتسرا قد لا يقدم الصورة بالوضوح والقوة الذي جاءت به في الكتاب) .
ما مدى كفاءة نظام الفائدة كأساس للاقتصاد؟ إنه من حيث إن المعروف أن الاقتصاد القوي السليم يجب أن يتوافر له من ضمن ما يتوافر شروط أربعة، هي:
(أ) القدرة على التخصيص الأمثل للموارد.
(ب) المناخ الاستثماري الإيجابي الذي يشجع على الادخار والتكوين الرأسمالي.
(جـ) الاستقرار.
(د) قابلية النمو الاقتصادي، فقد أوضح الكتاب أن نظام الفائدة الربوي عاجز عن توفير هذه الشروط وذلك على النحو التالي:
أ - فمن ناحية التخصيص الأجدى للموارد، يلاحظ أن للفائدة وظيفة رئيسية مفترضة هي أنها وسيلة لتخصيص الأموال النادرة المقدمة من المدخرين إلى المستثمرين بطريقة موضوعية على أساس القدرة على دفع الثمن، وإذا تغير الطلب على الأموال القابلة للإقراض أو تغير عرضها تم عند معدل فائدة مختلف التوصل إلى توازن جديد، إن هذه المقولة مبنية على افتراض أن المعدل النقدي للفائدة يعتبر أداة ناجحة لتخصيص الموارد بطريقة مثالية. ولكن هذا الافتراض غير صحيح إذ يوجد في الواقع دليل مقنع على العكس، وقد تجمعت لدى إنزلو وكونراد وجونسن أدلة تثبت أن رأس المال الحالي قد أسيء تخصيصه - ربما إلى حد خطير - بين قطاعات الاقتصاد. إن افتراض باريتو في تخصيص(31/130)
الموارد لا يوجد إلا في عالم الأحلام عالم نموج التوازن التنافسي الكامل.
إن معدل الفائدة التوازني لا يوجد إلا في الكتب المدرسية فقط، أما في الواقع فلا يوجد معدل مقاصة سوقية فعالة، بل هناك مزج نظري من معدلات قصيرة الأجل وطويلة الأجل مع فروق واختلافات هائلة في مستوياتها ولا يوجد مفهوم واضح لكيفية توحيد هذه المعدلات المتعددة في معيار واحد، إن معدل الفائدة في الحقيقة والواقع تعبير عن المفاضلة لا لصالح المقترض الأجدى إنتاجا بل لصالح الأكثر غنى؛ لأن المعيار في الواقع هو الجدارة الائتمانية فكلما كانت الجدارة الائتمانية لشخص أكبر كان معدل الفائدة الذي يدفعه أقل، والعكس بالعكس، وبذلك تحصل المنشأة الكبيرة (بغض النظر عن مدى حاجتها للتمويل ومدى درجتها في الجدوى الإنتاجية) تحصل على أموال أكثر بسعر فائدة أقل وذلك فقط بسبب ارتفاع درجة تصنيفها الائتماني، بمعنى آخر فإن المنشأة الكبيرة التي هي أقدر على تحمل عبء الفائدة تحمل عبئا أقل، وعلى العكس فإن المنشأة المتوسطة أو الصغيرة التي قد تكون ذات إنتاجية أعظم بمقياس المساهمة في الناتج الوطني تحصل على مبالغ أقل بكثير نسبيا وبأسعار فائدة أعلى بكثير، وهذا يعني أن الكثير من الاستثمارات الأجدى إنتاجية بالقوة لا توجد بالفعل بسبب عدم قدرتها التنافسية في الحصول على القروض التي تنساب إلى مشاريع أقل جدوى إنتاجية، ولكنها متقدمة في سلم التصنيف الائتماني.
وبهذا يتضح أن معيار الفائدة ليس معيارا موضوعيا للجدوى الإنتاجية للمنشأة، وإنما معيار متحيز من معايير التصنيف الائتماني، وهذا هو أحد الأسباب في النظام الرأسمالي للنمو السرطاني للمنشآت الكبيرة واختناق المنشآت المتوسطة والصغيرة، ويقع هذا بصفة خاصة في حالة ارتفاع معدل الفائدة، إن زيادة تدفق الائتمان إلى الأغنياء - في النظام الربوي صار حقيقة معترفا بها على نطاق واسع. يقول جالبريت على سبيل المثال: " إن المنشأة الكبيرة عندما تقترض تحظى بصفة العميل المفضل لدى المصارف وشركات التأمين " ويقول:(31/131)
" إن أولئك الأقل حاجة إلى الاقتراض هم المفضلون، وأولئك الأكثر حاجة إلى الاقتراض هم الأقل حظا في نظام المنافسة السوقية ".
ب - وبالنسبة لأثر الفائدة على الادخار والتكوين الرأسمالي، فيجب أن نلاحظ أولا أنه لخلق مناخ استثماري إيجابي نشط لا بد من المحافظة الدائمة على العدالة والتوازن بين المدخرين والمستثمرين، ثم نشير إلى أنه بسبب المعدل الاجتماعي للتفضيل الزمني فقد يعتقد بأن للفائدة دائما دورا إيجابيا مطردا على الادخار والتكوين الرأسمالي، غير أنه بدراسة الواقع فإن الدلائل الإحصائية لا تشير إلى وجود ترابط كبير بين الفائدة والادخار في البلاد الصناعية، أما في البلدان النامية فإن أغلب الدراسات توضح أنه لا تأثير لمعدل الفائدة على الادخار على الإطلاق، وحتى من الناحية النظرية فإن عددا من الاقتصاديين يرفض افتراض بوم باورك التفضيل الزمني الإيجابي حتى أن جراف شكك بأن له وجودا فعليا بالمرة، على أن آراء آخرين تقول بأن التفضيل الزمني لدى المستهلك الرشيد قد يكون موجبا أو صفرا أو سالبا وقد لاحظ ساملسون " أن الأدلة تهدي إلى أن بعض الناس يقل ادخارهم بدلا أن يزيد عند ارتفاع معدل الفائدة، وأن البعض يزيد ادخارهم في تلك الحالة وأن الكثير لا يتأثر ميلهم للادخار في حالة الارتفاع أو الانخفاض ".
من الطبيعي أن يعاني المدخرون إذا كانت الفائدة منخفضة وأن يعاني المستثمرون إذا كانت مرتفعة، وأن الظلم الواقع في توزيع المردود بين المدخر والمستثمر بسبب معدلات الفائدة المتغيرة أو الثابتة يؤدي إلى تشويه جهاز الثمن وإلى سوء تخصيص الموارد ومن ثم إلى تباطؤ التكوين الرأسمالي.
لقد كان ارتفاع معدل الفائدة مانعا كبيرا من الاستثمار في النظام الرأسمالي، ولما كانت تكاليف الفائدة تقتطع من الأرباح فقد أنتج هذا تآكل ربحية الشركات، هو ما اعتبر في تقرير مصرف التسويات الدولية (عاملا كبير الأهمية في إضعاف الحجم الكلي للاستثمار) وقد أدت معدلات التكوين الرأسمالي المنخفضة في الولايات المتحدة، إلى إيجاد دور وتسلسل حيث إن هبوط(31/132)
الإنتاجية أدى إلى تقليل القدرة على تعويض التكلفة المرتفعة للقرض، وهذا أدى إلى هبوط في الربحية وهبوط أكثر في معدل التكوين الرأسمالي، فزاد اعتماد المنشآت على الديون التي إنما تحصل عليها بمعدل مرتفع للفائدة.
وبالمقابل فإن معدلات الفائدة المنخفضة لا تقل ضررا عن المرتفعة، ففي حين أن المرتفعة تضر المستثمرين فإن المنخفضة تضر المدخرين، وقد شجعت معدلات الفائدة المنخفضة على الاقتراض من أجل الاستهلاك فزادت بذلك الضغوط التضخمية كما شجعت الاستثمارات غير الإنتاجية، وزادت من حدة المضاربة في أسواق السلع والأوراق المالية، وبالجملة فقد أنتجت خفض المعدلات الإجمالية للادخار، وتدني نوعية الاستثمارات. وأحدثت قصورا في التكوين الرأسمالي.
جـ - وبالنسبة لأثر الفائدة على الاستقرار الاقتصادي فإن من المؤكد أن الفائدة من أهم العوامل المخلة بالاستقرار في الاقتصاد الرأسمالي، لذا لم يكن غريبا أن يجيب في عام 1982 ميلتون فردمان عن السؤال عن أسباب السلوك الطائش الذي لم يسبق له مثيل في الاقتصاد الأمريكي بأن (الإجابة البديهية هي السلوك الطائش الموازي في معدلات الفائدة) .
إن التقلبات الطائشة في معدل الفائدة تحدث تحولات لولبية في الموارد المالية بين المستفيدين منها، إن زيادة تقلب معدل الفائدة تحقن السوق المالي بكثير من الشكوك، وهذا من شأنه تحويل المقرضين والمقترضين على السواء من الأجل الطويل إلى الأجل القصير في سوق المال، واستمرار التقلب في نصيب الفائدة في مجموع عائد رأس المستثمر يجعل من الصعب اتخاذ قرارات استثمارية طويلة الأجل بثقة، ومن ناحية أخرى فإن الثابت أنه في ظل نظام تعويم المعدل في سوق قصيرة الأجل أنه كلما ارتفع معدل الفائدة ارتفع معدل الإفلاس التجاري للمنشآت، وذلك بسبب الهبوط المفاجئ في نصيب المنشأة من مجموع العائد على رأس المال لا بسبب عدم كفاءة المنشأة، ونحن نعرف أن الإفلاسات التجارية لا تقتصر فقط على الخسارة الشخصية لمالكي المنشأة(31/133)
بل تستتبع الانخفاض في العمالة والناتج والاستثمار والطاقة الإنتاجية وهي خسائر يصعب وتطول فترة تعويضها وبديهي أن لكل هذه العوامل آثارا خطيرة على الاستقرار الاقتصادي.
لسنا في حاجة إلى إيضاح أثر تقلب معدلات الفائدة على القلق في الأسواق المالية والسلع، ولما كانت هذه الأسواق للاقتصاد الرأسمالي بمثابة مقياس الضغط الجوي فإن التقلبات التي تحدثها الفائدة على هذه الأسواق تعكس تأثيرا موجبا للاضطراب على الاقتصاد بجملته.
وأخيرا فبالنسبة لتأثير الفائدة على إجراءات السياسة النقدية فإن البنك المركزي في إمكانه إما أن يراقب معدلات الفائدة أو يراقب رصيد النقود، فإذا ما حاول تثبيت معدل الفائدة فقد السيطرة على عرض النقود، وإذا ما حاول تحقيق نمو معين في عرض النقود تقلبت معدلات الفائدة وبخاصة القروض القصيرة الأجل.
وقد دلت التجربة على أنه من المستحيل تنظيم كلا العنصرين بطريقة متوازنة يمكن معها السيطرة على التضخم دون إضرار بالاستثمار، ونستشهد بهذه العبارة المتحفظة في تقرير التسويات الدولية لعام 1982 " إن التقلب الشديد في معدلات الفائدة يمكن أن يسهم في التقلبات الحادة في النشاط الاقتصادي كما قد يؤدي إلى مشكلات هيكلية سواء في الاقتصاد أو في النظام المالي ".
د - بالنسبة لتأثير الفائدة على النمو الاقتصادي، نشير إلى أن الفاعلية الاقتصادية تعاق كثيرا بوجود حالة الشك الذي يصعب معه التوقع للمستقبل، فلا يملك معه المستثمرون القدرة ولا الجرأة على التخطيط لاستثمارات طويلة الأجل، وإن الاعتماد في التمويل على القروض الربوية من شأنه أن يوجد مناخا للشك إذ يزداد الخطر الذي يواجه المستثمر (المنظم) لأن نصب عينه دائما أن الفائدة الربوية لا بد من دفعها بصرف النظر عن ربحية المشروع، وتزيد حدة الشك إذا تقلبت معدلات الفائدة تقلبا طائشا ولا سيما إذا تضمن عقد(31/134)
التمويل معدلا عائما للفائدة كما هو المتبع بصفة عامة في الوقت الحاضر. وبصعوبة القيام باستثمارات طويلة الأجل فإن الاستثمار في النهاية يعاني من هبوط الإنتاجية، وانخفاض معدل النمو، ومن المعروف أنه عندما ارتفعت معدلات الفائدة في السبعينات هبطت نسبة إجمالي الاستثمار الثابت المحلي إلى إجمالي الناتج الوطني في البلدان الغربية، كما انخفض النمو الدولي انخفاضا كبيرا في كل مكان عما كان عليه في العقود التي أعقبت الحرب العالمية مباشرة، ومن المعترف به أن الأداء الاستثماري الأفضل هو مفتاح النمو الأسرع، ومع الأسف فإن خفض معدل الفائدة ليس علاجا ناجحا لهذه الحالة لأن ذلك لا يزيل حالة الشك في المستقبل، لا سيما إذا أخذ في الاعتبار العجز المرتفع المتكرر في موازنات بعض الدول الصناعية الرئيسية.
إن ما تقدم يمكن أن يعتبر اختصارا مخلا لما ورد في الكتاب، ولكن لعله يكون كافيا لإقناع القارئ بهذه الفرضية: إننا ننساق مع الوهم إلى حد كبير حينما نظن أن تبني الاقتصاد الرأسمالي نظام (الفائدة الربوية) هو سبب ازدهار هذا الاقتصاد وقوته، بل الصحيح القول: إن لازدهار الاقتصاد الرأسمالي أسبابا متعددة ساهمت في هذا الازدهار بالرغم من (نظام الفائدة الربوية) .
والحقيقة الواضحة أنه إذا كان لنظام الفائدة في كثير من الأحوال تأثير سلبي على الاقتصاد - كما شرح - وذلك في البلدان التي تتقبل اتجاهاتها الأخلاقية هذا النظام، فما ظنك بأثر هذا النظام على الاقتصاد في بلاد استقر في ضمائرها واتجاهها الخلقي كراهيته إلى درجة أن تعتقد أنها بقبوله تأذن بالحرب على الله، وتعتقد أن نتيجته على سلوكها الاقتصادي المحق والدمار.
وهذه الحقيقة توجب الإشارة إلى حقيقة أخرى هي:
أنه لا بد لنجاح نظام اقتصادي في بلد ما أن يتناسق ويتناغم مع النظام الخلقي والقيم الثقافية التي تسود في ذلك البلد، ومن المستحيل أن يزدهر نظام اقتصادي أو أساليب اقتصادية في بلد مع معارضة ذلك النظام أو تلك الأساليب(31/135)
للقيم الخلقية والمعتقدات السائدة، إن الشرط الأساسي لازدهار الاقتصاد في بلد ما أن يحور لينسجم مع نظام البلد الأخلاقي، أو أن يحور النظام الأخلاقي لينسجم مع الاقتصاد وبدون ذلك يكون الاقتصاد كشجرة مغروسة في تربة ومناخ غير ملائمين لها.
إن الأفكار النظرية وحدها لم تكن لتقوى على تحرير الفكر، وزعزعة التصور الذي ساد قبل ثلاثين عاما في أذهان المثقفين المسلمين عن نظام الفائدة الربوية، لو لم توجد إمكانية لوضع تلك الأفكار النظرية موضع التطبيق، ولو لم تتح فرصة اختبارها في ظروف الواقع واجتيازها لهذا الاختيار بنجاح. وقد أمكن في خلال السنوات القليلة الماضية وجود حوالي خمسين مؤسسة مصرفية تستخدم الأساليب الإسلامية، وتحرر معاملاتها من الفائدة الربوية، وقد حاز بعضها نجاحا كبيرا بمختلف المعايير، صحيح أن عددا قليلا منها لم يوفق تمام التوفيق بسبب سوء الإدارة، لنقص الإخلاص أو نقص الكفاءة، أو بسبب ظروف خارجية. ولكن نجاح مؤسسة من هذه المؤسسات دليل كاف على كفاءة الأساليب المالية التي طبقتها، إذ لو تخلفت كفاءتها لاستحال نجاح المؤسسة، وعلى العكس من ذلك فإن فشل بعض هذه المؤسسات لا يدل على عدم كفاءة الأساليب الإسلامية؛ لأن الفشل له أسباب كثيرة أخرى كما أشرنا، ويجب أن نتذكر أنه في تجربة المملكة مع المؤسسات المصرفية التي اعتمدت نظام الفائدة الربوي تكررت الإخفاقات، ولا حاجة للتذكير بأبرزها - وهو انهيار البنك الوطني - لأنه كابوس لا ينسى.
ولم يقتصر الأمر على قيام مؤسسات مصرفية تعتمد الأساليب المالية الإسلامية، بل إن أكبر دولة إسلامية - بعد أندونسيا - وهي الباكستان أعلنت تقريرها عام 1985 تؤكد أنها حررت فروع بنوكها المحلية البالغة 7000 فرع من نظام الفائدة، وذلك باستثناء الاتفاقيات السابقة والمعاملات مع الخارج.(31/136)
تلخيص
لعل القارئ قد تنبه إلى أن ما سبق لم يتضمن آراء تقبل الجدل حولها والحكم عليها بالصحة أو الخطأ، وإنما تضمن تسجيل وقائع، ولا سبيل إلى تكذيب هذا التسجيل لأنه كما يلاحظ القارئ مدعوم بالتوثيق وإذا فيمكن للكاتب بكل اطمئنان أن يقول بأن ما تقدم يكشف الحقائق الآتية:
(1) إن الربا ليس مفهوما غامضا وإنما هو معاملة معروفة، استقر في الضمير الخلقي للإنسان (منذ أقدم العصور) كراهيته واعتباره عملا غير أخلاقي.
(2) إن هذا المفهوم ليس شيئا غير ربا النسيئة حيث يدفع الممول المال لطالب التمويل لأجل بشرط أن يرده بزيادة في مقابل الأجل.
(3) الربا بهذا المفهوم حرمته الشرائع السماوية الموسوية والمسيحية والإسلام، وذلك بمختلف صوره ومهما كان حجمه.
(4) الربا بهذا المفهوم هو الذي ارتكبته اليهود مع الناس من غيرهما، وذمهم الله به، وكانوا به موضوعا للكراهية والتعيير والسخرية من قبل الناس: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (1) .
(5) إنه حتى بعد أن انتصرت العلمانية - ممثلة في الثورة الفرنسية - على الكنيسة وقوانينها، وأباحت الربا فإنها لم تبحه إلا في حدود ضيقة، وقد سمحت لها بذلك الفكرة العامة التي تعتنقها العلمانية عن نسبية القيمة الخلقية، ومع ذلك فإنها لم تستطع أن تتحرر تماما من كراهية الربا المغروسة في الضمير الإنساني، فظلت قوانينها الجنائية تعتبر التعامل بما يزيد على الحد الذي تسمح به نصوص القوانين من الربا جريمة تعاقب بعقوبات الجرائم.
(6) الدكتور السنهوري الذي تولى صياغة النصوص التي تسمح بالفائدة في حدود معينة في القوانين المدنية: المصري والسوري والليبي والعراقي عندما قام بشرح هذه النصوص لم يسمح له احترامه للعقل والمنطق أن
__________
(1) سورة النساء الآية 161(31/137)
يتجنب تسمية الفائدة باسمها وأن يخفي طبيعتها، فوصفها بأنها ربا سمح به القانون على سبيل الاستثناء مع بقاء اتجاهه العام في كراهية الربا، ومحاولة تضييق دائرته، ولا بد أن يقارن القارئ الواعي هذا الاتجاه للدكتور السنهوري باتجاه بعض إخواننا الطيبين الذين يفزعهم أن تسمى الفائدة باسمها، ويزعجهم أن يواجهوا بأن الفائدة البنكية هي ربا النسيئة، إن ربا النسيئة ليس مجالا للرأي والاجتهاد والخلاف وإنما هو محرم بالنصوص القاطعة الثبوت القاطعة الدلالة كما هو محرم بالإجماع، وأنه إذا كان قد نقل عن بعض الصحابة الخلاف في بعض الأنكحة الفاسدة كنكاح المتعة أو نقل عن بعض الأئمة خلاف في تحريم خمر الشعير أو التفاح، أو نقل خلاف حول ربا الفضل أو بعض المعاملات الأخرى؛ فإنه لم ينقل عن أحد طوال ثلاثة عشر قرنا خلاف على تحريم ربا النسيئة، بل إن الأمة متفقة على أن تحريم ربا النسيئة معلوم من الدين بالضرورة، يكفر مستحله، وإنه إذا لم يتب مستحله من المسلمين بعد استتابته فيقتل مرتدا.
(7) في الفترة الماضية وبسبب ظروف سياسية وثقافية وغيرها، سيطرت على المثقف المسلم تصورات مبنية على الأوهام عن نظام الفائدة الربوي، ولكن التاريخ لا يقف والحياة تمضي قدما، والأوهام أعجز من أن تثبت في مواجهة الوعي، فهيأ الله روادا عنوا باكتشاف الحقائق وتقديمها وتقدمت كوكبة من صالحي المسلمين الذين درسوا الاقتصاد الرأسمالي في بلاد الغرب، واكتشفوا أسراره، وتحرروا من رهبة المجهول، ثم انصرفوا لموروثهم الثقافي، فاكتشفوا إمكانيات عظيمة كفيلة بأن يبني عليها العالم الإسلامي اقتصادا ناميا سليما إذا توفرت لديه القدرة والجرأة على الانتفاع بإمكانياته المتاحة المادية والمعنوية. ثم قامت المؤسسات المالية التطبيقية - وكان من المنتظر أن تواجه بالعقبات والتجارب الفاشلة - التي تواجه عادة من يشق أرضا مجهولة جديدة، ولكن الله الذي وعد من يتقيه بأن يجعل له من أمره يسرا، ووعد من ينصره بالنصر، هيأ(31/138)
لها النجاح بقدر ما وفقت له من إخلاص النية والقوة في الأخذ بالأسباب المادية، ولعل من الملفت للنظر أن التقارير الإحصائية أثبتت بالأرقام أن أكثر هذه المؤسسات تحفظا ودقة في ممارسة الأساليب الإسلامية كانت أعظمها توفيقا ونجاحا.
(8) أثبتت التجارب الواقعية والكتابات والإحصاءات الحديثة أن نظام الفائدة الربوي ليس حجر الفلاسفة الذي يحول الرصاص إلى ذهب، وإن هذا النظام ليس فقط عاجزا عن توفير الشروط لوجود اقتصاد نام مستقر سليم بل إن هذا النظام في كثير من الأوقات دمر شروط ودعائم الاقتصاد ونموه واستقراره.
(9) إن الفكرة التي اخترعها قبل أكثر من 35 سنة دولة الدكتور معروف الدواليبي بدافع ظروف معينة، والتي تفترض إمكانية التفريق بين الفائدة في قروض الاستهلاك والفائدة عن قروض الإنتاج أو الاستثمار، باعتبار أن الأولى تقتضي استغلال المقرض للمقترض بخلاف الثانية، هذه الفكرة بالرغم من ظهور بطلانها لمعارضتها للنصوص القاطعة والإجماع الذي لم يفرق بين ربا وربا، فقد كشف رجال القانون منذ ظهور الفكرة أنها لا تستند إلى حقائق وإنما إلى أوهام، فمن وجه واضح أن التفريق بين قروض الاستهلاك وقروض الاستثمار من الناحية العملية مبني على معيار النية الباطنة، وهذا المعيار يصلح للتفريق في القضايا الأخلاقية ولكنه لا يصلح للتفريق في قضايا المعاملات، إلا إذا اتخذت النية مظهرا خارجيا يمكن الحكم عليه، ومن وجه ثان فإن الاستغلال لا يكون ملازما دائما لقروض الاستهلاك وانتفاؤه لا يكون لازما دائما لقروض الإنتاج، فمثلا يمكن أن يقترض أحد المترفين تمويل شراء يخت للنزهة، ويمكن أن يقترض مهني فقير لإنشاء ورشة صغيرة يعتاش منها - فكما نرى - القرض الأول قرض استهلاك والقرض الثاني قرض إنتاج فهل يمكن عقلا القول بأن المقرض في القرض الأول مراب استغل حاجة المقترض، وأن المقرض الثاني ممول شريف لم يستغل حاجة المقترض.(31/139)
الخاتمة
إن هدف الورقة أن تحمل المثقف السعودي على مواجهة الذات وإثارة الأسئلة والتماس أجوبتها المبنية على الحقائق الموضوعية ونتائج المحاكمة المنطقية، وأن يتحرر من العبودية للأفكار السائدة والتصورات الشائعة المبنية على الوهم والخيار والتي كل سندها وسر قوتها إلفها وغلبة انتشارها على الجمهورية، قد يعذر المثقف السعودي في عجزه عن استشراف المستقبل، ولكنه ليس معذورا عن أن يتعامى عن حقائق الحاضر وأن يصر على التشبث بأوهام الماضي.
إن سمة هذا العصر الواضحة هي تسارع التغيير والتطور فلا مجال لمواكبة الحياة لمن يستنيم لأغلال الاتجاهات الدجماتية في أمر لا مجال للدجماتية فيه.
إن التقدم لا يتم بنقل مظاهره من البلاد المتقدمة، وإنما بالسيطرة على منهج التفكير وطريقته في البلاد المتقدمة، وبإدراك هذه البديهة: إن المقياس الدقيق للتقدم هو مدى القدرة على الانتفاع بالإمكانيات المتاحة سواء كانت مادية أم معنوية، بل سواء كانت إيجابية أو سلبية، إذ من مظاهر التخلف الغربية أن بعض مشكلات التخلف يمكن حلها بأن يتوقف البلد المتخلف عن خلق المشكلة، وتثبيتها على التخلف يعجزها لا عن الانتفاع بإمكانية العمل بل عن الانتفاع بإمكانية عدم العمل.
إن واجب المثقف السعودي المشغول بالتفكير في التقدم الاقتصادي لبلده أن يلح على نفسه بالسؤال، هل اكتشفنا إمكانياتنا المتاحة المعنوية قبل المادية، وما هو مدى شجاعتنا وقدرتنا على الانتفاع بهذه الإمكانيات، والله المستعان، وصلى الله على النبي الكريم الذي بتربيته تحول رجال الصحراء إلى قادة أخرجوا الناس في بلاد الحضارة من ضيق الدنيا إلى سعتها، وقدموا إنجازات مذهلة - بكل المعايير - في المجال الاقتصادي لا يمنع من تقديرها حق قدرها إلا الجهل بها.(31/140)
من منافع الحج وآدابه
الدكتور صالح بن فوزان الفوزان (1)
الحمد لله الذي جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمنا يتجهون إلى شطره أينما كانوا في صلواتهم ويستقبلونه في عباداتهم، وتهوى إليه أفئدتهم، ويلتقون حوله من جميع أقطار الأرض لتتحد كلمتهم، وتعتز أمتهم وتقوم دولتهم والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد، بعثه الله من أرض الحرم إلى كافة الأمم، وأمره بتطهير هذا البيت من كل نجس ورجس - فدخله عام الفتح وفوقه ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بالقضيب ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (2) فجعلت هذه الأصنام تتهاوى لوجوهها خاسئة ذليلة، ثم أمر بها صلى الله عليه وسلم فأخرجت من المسجد وأحرقت وطهر منها بيت الله. قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (3) فالحج لغة: القصد إلى الشيء. وشرعا: قصد المسجد الحرام لأداء الحج أو العمرة لله، وكان الحج من ملة إبراهيم الخليل عليه السلام حيث أمره الله ببناء البيت والأذان في الناس بالحج إليه، فالحج عبادة عظيمة وفيه منافع كثيرة، منها غفران الذنوب، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق وجع كيوم ولدته أمه (4) » ومنها شهود المنافع العظيمة التي قال الله عنها: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (5)
__________
(1) وردت للباحث ترجمة في العدد السابع من المجلة ص (238) .
(2) سورة الإسراء الآية 81
(3) سورة البقرة الآية 197
(4) رواه البخاري 2 \ 209.
(5) سورة الحج الآية 28(31/141)
منافع دينية ومنافع دنيوية لا تدخل تحت حصر - ولهذا أجملها الله سبحانه ولم يحددها - ومنها ذكر الله في الأيام المعلومات والأيام المعدودات بالتكبير والتلبية والوقوف بعرفة والمزدلفة وذبح القرابين ورمي الجمار والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والمبيت بمنى والأكل والشرب من ضيافة الله في أيام التشريق، ومن منافع الحج العظيمة تعارف المسلمين حين التقائهم في تلك البقاع الطاهرة والمشاعر المقدسة في المسجد الحرام وفي صعيد عرفات وساحات مزدلفة وفج منى المبارك، يلتقون في زمن واحد، وفي مكان واحد، لأداء عبادة واحدة، لرب واحد: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (1) .
استمر الحج بعد إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، ولكن مع تطاول الزمن دخله بعض التغيير في عهد الجاهلية، فكانوا يضمنون تلبيتهم الشرك بالله عز وجل حيث يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك) فجعلوا لله شريكا من عبيده يأنفون ذلك لأنفسهم. فرد الله عليهم بقوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (2) وكانوا يطوفون بالبيت عراة ويرون أن ذلك طاعة أمر الله بها - فرد الله عليهم بقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (3) .
وأمر سبحانه باللباس وستر العورة في الصلاة والطواف وغيرهما فقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (4) وكان سكان الحرم
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 92
(2) سورة الروم الآية 28
(3) سورة الأعراف الآية 28
(4) سورة الأعراف الآية 31(31/142)
لا يقفون مع الناس في عرفة، وإنما يقفون في المزدلفة لأنهم بزعمهم من أهل الحرم ولا يجوز لهم الخروج منه فرد الله عليهم ذلك، وأمر بالوقوف بعرفة لجميع الحجاج فقال سبحانه: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} (1) فأعاد الله سبحانه الحج كما كان على ملة إبراهيم على يد محمد خاتم النبيين وعلى التوحيد الخالص وباللباس الساتر، والوقوف بالمشاعر، وأعلن صلى الله عليه وسلم للناس قبل أن يحج بقوله: «لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان (2) » عملا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (3) وبقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (4) وهكذا يجب أن يكون البيت والحرم دائما وأبدا طاهرا مطهرا من الشرك والبدع؛ ليكون مباءة للتوحيد ومصدرا للعقيدة الصحيحة السليمة إلى سائر بقاع الأرض، فحج صلى الله عليه وسلم في العام العاشر للهجرة بعدما طهر الله بيته من أوزار الشرك وعادات الجاهلية، وبذلك تمت أركان الإسلام وأنزل الله عليه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (5) (الآية 3 \ المائدة) .
أيها الإخوة: لقد أوجب الله الحج على الناس كافة وحكم بالكفر على من امتنع منه مع قدرته عليه فقال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (6) لقد جعله الله أحد أركان الإسلام وخامس مبانيه العظام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا (7) » وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء
__________
(1) سورة البقرة الآية 199
(2) انظر تفسير ابن كثير جـ 2 \ ص 346.
(3) سورة التوبة الآية 28
(4) سورة الحج الآية 26
(5) سورة المائدة الآية 3
(6) سورة آل عمران الآية 97
(7) رواه مسلم.(31/143)
الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا (1) » .
وبين صلى الله عليه وسلم أن هذه الفريضة بالنسبة للأفراد تتمثل بأداء الحج مرة واحدة في العمر وما زاد عنها فهو تطوع. وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالحج فقال بعض أصحابه: أكل عام يا رسول الله فقال: «لا، الحج واحدة فمن زاد فهو تطوع (2) » فالحج من العبادات العظيمة التي تؤدى جماعة في مواقيت مخصوصة هي أشهر الحج المعلومات، فالصلوات الخمس يتكرر الاجتماع لأدائها في اليوم والليلة خمس مرات في المساجد، والجمعة يتكرر الاجتماع لأدائها كل أسبوع في الجوامع الكبار، والحج يتكرر الاجتماع لأدائه كل عام في المسجد الحرام والمشاعر، وهكذا كل اجتماع أكبر من الآخر - وكلما كان الاجتماع أكثر وأشق كان تكرره أقل دفعا للمشقة والحرج.
والحج وإن كان يؤدى في أيام معدودات كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (3) إلا أن الله سبحانه وسع وقت الإحرام به حيث يقول سبحان: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} (4) والمراد بهذه الأشهر - شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة. فإذا أحرم بالحج في هذه الأشهر صح إحرامه من غير خلاف. وإذا أحرم به في غيرها فمحل خلاف - ليس من غرضنا الآن الدخول في تفاصيله - إلا أننا نقول إن المسلم إذا أحرم بالحج فله حالة تختلف عما قبل الإحرام، وإن كانت كل أحوال المسلم ينبغي أن تكون على الاستقامة والتقى والسداد، إلا أنه بإحرامه ينتقل إلى حال أفضل، فإن المحرم يمنع من مزاولة أشياء كانت مباحة له في غير حالة الإحرام من أمور الرفاهية والتوسع، فيتعين على المحرم تجنب المحرمات العامة والمحرمات الخاصة بالإحرام، ولهذا قال سبحانه: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (5) .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم
(2) سنن النسائي مناسك الحج (2620) ، سنن أبو داود المناسك (1721) ، سنن ابن ماجه المناسك (2886) ، مسند أحمد بن حنبل (1/291) ، سنن الدارمي المناسك (1788) .
(3) سورة البقرة الآية 203
(4) سورة البقرة الآية 197
(5) سورة البقرة الآية 197(31/144)
ومعنى (فرض) أحرم، عبر عن الإحرام بالفرض لينبه على أن المحرم يجب عليه أداء النسك الذي أحرم به، ولا يجوز له رفضه، وإن كان هذا النسك قبل الإحرام به ليس بواجب عليه. . ثم نهى سبحانه عن تعاطي الأمور التي تتنافى مع الإحرام من الأقوال والأفعال فقال سبحانه: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (1) . وجاء هذا النهي بصيغة النفي ليكون آكد وأبلغ في الابتعاد عن هذه الأمور.
والرفث معناه: الجماع ودواعيه من النظر والمباشرة والتحدث به، بل قد نهي حال الإحرام عن الخطبة وعقد النكاح، قال الإمام ابن كثير: أي من أحرم بالحج أو العمرة فليجتنب الرفث وهو الجماع. كما قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (2) . وكذا يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك. وكذلك التكلم به بحضرة النساء. انتهى.
والفسوق: جميع المعاصي فلا يجوز للمسلم فعلها في جميع الأحوال. ولكن نهي عنها المحرم خصوصا لأنها تؤثر على الإحرام، وإثمها فيه أشد، ولأن المفترض في المحرم أن يشتغل بالطاعات لا بضدها، ولأن الإحرام مظنة التوبة من المعاصي، فإذا فعلها المحرم دل على إصراره عليها وهذا ما يتنافى مع الغرض المطلوب من الإحرام، وقد فسر الفسوق بأنه فعل شيء من محظورات الإحرام. وفسر بأنه إتيان المعاصي في الحرم. وفسر بأنه السباب، وفسر بأنه الذبح للأصنام، ولا تنافي بين هذه التفاسير، فإن لفظ الفسوق يشملها كلها فهي من أفراد الفسوق، قال الإمام الشوكاني: ولا يخفى على عارف أن إطلاق اسم الفسوق على فرد من أفراد المعاصي لا يوجب اختصاصه به. انتهى. أقول: ومن أعظم الفسوق محاولة جعل موسم الحج وساحات المشاعر المقدسة مجالا للمهاترات والمظاهرات والهتافات والشعارات القومية وإحياء
__________
(1) سورة البقرة الآية 197
(2) سورة البقرة الآية 187(31/145)
العنصريات الجاهلية والدعاية للأشخاص أو المذاهب أو رفع الصور للزعماء والرؤساء.
فإن هذا فعل أهل الجاهلية حيث كانوا يجعلون موسم الحج مجالا للمفاخرة بآبائهم وأمجادهم وغاراتهم وثاراتهم، فنهى الله عن ذلك وأمر بذكره قال الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} (1) قال الإمام الشوكاني: لأن العرب كانوا إذا فرغوا من حجهم يقفون عند الجمرة فيذكرون مفاخر آبائهم ومناقب أسلافهم، فأمرهم الله بذكره مكان ذلك الذكر. انتهى.
وأما الجدال فهو المخاصمة والمماراة والمنازعة وهو يشمل الجدال في موضع الحج كما كانوا في الجاهلية يختلفون في الموضع الذي يقفون فيه. فمنهم من يقف في عرفة ومنهم من يقف في المزدلفة ويشمل الجدال بمعنى المخاصمة التي توغر الصدور وتشغل عن ذكر الله، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: وقوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (2) أي يجب أن تعظموا الإحرام بالحج وخصوصا الواقع في أشهره، وتصونوه عن كل ما يفسده أو ينقصه من الرفث وهو الجماع ومقدماته والقولية، خصوصا عند النساء بحضرتهن.
والفسوق وهو جميع المعاصي ومنها محظورات الإحرام. والجدال وهو المماراة والمنازعة والمخاصمة لكونها تنشر الشر وتوقع العداوة، والمقصود من الحج الذل والانكسار لله والتقرب إليه بما أمكن من القربات، والتنزه عن مقارفة السيئات فإنه بذلك يكون مبرورا، والمبرور ليس له جزاء إلا الجنة، وهذه الأشياء وإن كانت ممنوعة في كل زمان ومكان فإنه يتغلظ المنع منها في الحج. . انتهى.
__________
(1) سورة البقرة الآية 200
(2) سورة البقرة الآية 197(31/146)
وأقول: ويستثنى من الجدال ما كان لبيان حق أورد على باطل فإنه واجب في الحج وغيره لقوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (1) ثم لما نهى الله عن هذه الأشياء أمر بالاشتغال بالطاعة فقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (2) فحثهم على حسن الكلام مكان الفحش، وعلى البر والتقوى مكان الفسوق والجدال، لأنه لا يتم فعل الأوامر إلا بترك المنهيات، ولما كان الحج يحتاج إلى سفر وتنقلات وذلك يحتاج إلى نفقة ومؤنة أمر سبحانه بالاستعداد لذلك بأخذ الزاد والنفقة التي تمون تلك الاحتياجات حتى لا يحتاج الإنسان إلى ما بيد غيره. فقال سبحانه: {وَتَزَوَّدُوا} (3) وقد كان ناس يحجون بلا زاد ويقولون نحن المتوكلون فيصبحون عالة على غيرهم، فأمرهم الله بأخذ الزاد الذي يغنيهم، ولما أمر سبحانه باتخاذ الزاد الحسي لسفر الدنيا أمر باتخاذ الزاد المعنوي لسفر الآخرة فقال: {فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (4) فمن ترك هذا الزاد انقطع عن الوصول إلى الجنة، وختم سبحانه الآية بقوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبََابِ} (5) وهذا نداء عام لأصحاب العقول أن يتقوا الله في الحج وغيره.
ولقد أمر الله بأداء الحج والعمرة خالصين له فقال سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (6) مما يدل على أن كل حج وعمرة لا يتوفر فيهما توحيد الله بالعبادة فليسا بمقبولين عند الله سبحانه وتعالى.
ومن مظاهر هذا التوحيد في الحج: رفع الأصوات بعد الإحرام بالتلبية لله، ونفي الشريك عنه، وإعلان انفراده بالحمد والنعمة والملك: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك) يرددها الحجاج بين كل فترة وأخرى حتى يشرعوا في أداء المناسك.
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة البقرة الآية 197
(3) سورة البقرة الآية 197
(4) سورة البقرة الآية 197
(5) سورة البقرة الآية 197
(6) سورة البقرة الآية 196(31/147)
ومن مظاهر هذا التوحيد في الحج: أن أعظم الذكر الذي يقال في يوم عرفة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) (1) . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (2) » . فهذا إعلان في هذا المجمع العظيم وفي هذا اليوم المبارك لتوحيد الله بالعبادة من خلال النطق بهذه الكلمة وتكرارها لأجل أن يستشعر الحاج مدلولها ويعمل بمقتضاها؛ فيؤدي أعمال حجه خالصة لله عز وجل من جميع شوائب الشرك.
ومن مظاهر توحيد الله في الحج: أن الله أمر بالطواف ببيته فقال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (3) مما يدل على أن الطواف خاص بهذا البيت فلا يجوز الطواف ببيت غيره على وجه الأرض، لا بالأضرحة ولا بالأشجار والأحجار. ومن هنا يعلم الحاج أن كل طواف بغير البيت العتيق فهو باطل، وليس عبادة لله عز وجل، وإنما هو عبادة لمن شرعه وأمر به من شياطين الإنس والجن. .
ومن مظاهر توحيد الله في الطواف بالبيت العتيق: أن الطائف حين يستلم الركن اليماني والحجر الأسود يعتقد أنه يستلمهما لأنهما من شعائر الله فهو يستلمهما طاعة لله واقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما استلم الحجر وقبله: والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر. ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك. ومن هنا يعلم المسلم أنه لا يجوز التمسح بشيء من الأبنية والأحجار إلا بالركن اليماني والحجر الأسود، فلا يتمسح بجدران الأضرحة ولا بغيرها، لأن ذلك مخالف لشرع الله ولأنها ليست من شعائر الله.
__________
(1) رواه الترمذي 572 \ 2.
(2) سنن الترمذي الدعوات (3585) .
(3) سورة الحج الآية 29(31/148)
ومن مظاهر توحيد الله في الحج: أن الحاج حينما يفرغ من الطواف ويصلي الركعتين فإنه يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة الكافرون وفي الثانية يقرأ سورة الإخلاص، لما تشتمل عليه هاتان السورتان من توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ففي السورة الأولى البراءة من دين المشركين وإفراد الله بالعبادة. وفي السورة الثانية إفراد الله بصفات الكمال وتنزيهه عن صفات النقص، وبذلك يعرف العبد ربه ويخلص له العبادة ويتبرأ من عبادة ما سواه من خلال هذا الدرس العملي العظيم.
ومن مظاهر توحيد الله في السعي بين الصفا والمروة: أن العبد يسعى بينهما امتثالا لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (1) .
ومن ذلك يتعلم المسلم أنه لا يحل السعي في أي مكان من الأرض إلا بين الصفا والمروة؛ لأنهما من شعائر الله وأن السعي بينهما إنما هو بأمر الله، فكل سعي في مكان غيرهما فليس عبادة لله، لأنه سعي بغير أمره وبغير شعائر.
ومن مظاهر توحيد الله في الحج: ما شرعه الله في يوم العيد وأيام التشريق. قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (2) وذكر الله في هذه الأيام يتجلى في الشعائر العظيمة التي تؤدى في أيام منى، من رمي الجمار، وذبح الهدي، وأداء الصلوات الخمس في هذا المشعر المبارك والأيام المباركة، كل هذه الأعمال ذكر لله عز وجل. فرمي الجمار ذكر لله، ولهذا يقول المسلم عند رمي كل حصاة: (الله أكبر) ، وذبح الهدي ذكر لله عز وجل كما قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 158
(2) سورة البقرة الآية 203
(3) سورة الحج الآية 28(31/149)
وقال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (1) {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (2) ومن هنا يتعلم المسلم أن الذبح عبادة لا يجوز صرفها لغير الله فلا يجوز أن يذبح لقبر ولا لولي أو أي مخلوق، لأن الذبح عبادة وصرف العبادة لغير الله شرك.
ومن مظاهر العبادة في الحج: أن الله أمر بذكره أثناء أداء مناسكه وبعد الفراغ منه ونهى عن ذكر غيره من الرؤساء والعظماء الأحياء والأموات، وعن المفاخرة في الأحساب والأنساب. فقال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} (3) {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (5) {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (6) {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (7) {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (8) إن الحج ليس رحلة استطلاعية أو متعة ترفيهية أو مجرد مظاهر وشعارات، ولكنه دروس وعبر وتعليم عمل للعقيدة الصحيحة ونبذ للعقائد الجاهلية.
لقد شرع الله الاستغفار في ختام الحج وغيره من العبادات ليجبر ما يقع من نقص وخلل، قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (9) كما شرع الله الاستغفار في ختام قيام الليل قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (10) {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (11) فلنستغفر الله في ختام حجنا وفي ختام جميع أعمالنا وأعمارنا، لعل الله أن يغفر لنا خطايانا ويكفر عنا سيئاتنا. . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة الحج الآية 36
(2) سورة الحج الآية 37
(3) سورة البقرة الآية 198
(4) سورة البقرة الآية 199
(5) سورة البقرة الآية 200
(6) سورة البقرة الآية 201
(7) سورة البقرة الآية 202
(8) سورة البقرة الآية 203
(9) سورة البقرة الآية 199
(10) سورة الذاريات الآية 17
(11) سورة الذاريات الآية 18(31/150)
الدعوة إلى الله
مكانتها وكيفيتها وثمراتها
الدكتور صالح بن فوزان الفوزان (1)
الحمد لله رب العالمين، أمر المسلمين بأن تكون منهم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد خير من دعا إلى الله وبشر وأنذر، وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بنشر هذا الدين عن طريق الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله حتى تحقق وعد الله بقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (2) أما بعد: فإنني بحول الله سأتناول في كلمتي هذه ما تيسر من بيان الدعوة إلى الله من حيث:
1 - أهميتها ومكانتها في الإسلام.
2 - كيفية الدعوة ومجالاتها.
3 - الصفات التي يجب أن يتحلى بها الداعية إلى الله.
4 - ثمرة الدعوة إلى الله ونتائجها.
وأسأل الله أن يوفقني وجميع المسلمين لقول الحق والعمل به، وأن يجعل من هذه الكلمة إسهاما في أداء الواجب وخطوة في طريق الخير.
__________
(1) وردت للباحث ترجمة في العدد السابع من المجلة ص (238) .
(2) سورة التوبة الآية 33(31/151)
تعريف الدعوة إلى الله
الدعوة والدعاء لغة: الطلب. والدعاء إلى الشيء: الحث على قصده، والدعوة إلى الله - هي طلب الإيمان به وعبادته وحده لا شريك له والعمل بطاعته وترك معصيته، فإن الله سبحانه خلق الخلق لعبادته كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (2) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3) وهذا مقتضى العقول والفطر السليمة، فإن العبادة لا يستحقها إلا الذي يقدر على الخلق والرزق. كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} (4) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا} (5) ولما كانت الفطر قد تتغير فينحرف بعض المخلوقين إلى عبادة غير الله بحكم التربية السيئة أو البيئة الفاسدة أو بسبب دعاة السوء من شياطين الإنس والجن، كما قال صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه (6) » وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: «خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن فطرتهم (7) » وقد أمر الله بالهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام من أجل مفارقة البيئة الفاسدة، لما كانت هذه العوامل هي سبب ضلال الخلق مع تأثير النفوس الأمارة بالسوء، أمر الله بالدعوة إلى الله لرد الشاردين وتعليم الجاهلين وتذكر الغافلين فأنزل كتبه وأرسل رسله من أجل الدعوة إليه، ودعا عباده إلى الرجوع إليه بهما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} (8) . {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} (9) . {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (10) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الذاريات الآية 57
(3) سورة الذاريات الآية 58
(4) سورة النحل الآية 20
(5) سورة العنكبوت الآية 17
(6) صحيح البخاري الجنائز (1385) ، صحيح مسلم القدر (2658) ، سنن الترمذي القدر (2138) ، سنن أبو داود السنة (4714) ، مسند أحمد بن حنبل (2/275) ، موطأ مالك الجنائز (569) .
(7) رواه مسلم وأحمد.
(8) سورة البقرة الآية 221
(9) سورة يونس الآية 25
(10) سورة إبراهيم الآية 10(31/152)
وجاءت النداءات المتكررة منه سبحانه في كتابه الكريم (يا أيها الناس - يا أيها الذين آمنوا - يا عباد) يدعوهم إلى الخير وينهاهم عن الضر.(31/153)
1 - أهمية الدعوة ومكانتها في الإسلام
منذ حصل الانحراف في البشرية عن عقيدة التوحيد في قوم نوح - والله سبحانه يرسل الرسل لدعوة الخلق إلى التوحيد والإيمان كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) وبين مهمتهم في قوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (2) ، {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} (3) .
ولما كانت هذه الأمة المحمدية وارثة الرسالات والكتب السماوية بما جعل الله نبيها خاتم الرسل ومبعوثا للناس كافة، وجعل كتابها المهيمن على الكتب وجعلها وارثة هذا الكتاب العظيم كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (4) فإنها يجب عليها نحو البشرية أكثر مما يجب على غيرها ممن سبقها من الأمم لما أعطاها الله من الإمكانيات العظيمة التي لم تعطها أمة غيرها، بل هي المسئولة الوحيدة عن القيام بدعوة البشرية وتبليغها دعوة الله، وجهاد من لم يقبل هدى الله أو صد عن سبيل الله. كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (5) . وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (6) وقد كلف الله رسول هذه الأمة
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة النساء الآية 165
(3) سورة النحل الآية 2
(4) سورة فاطر الآية 32
(5) سورة آل عمران الآية 110
(6) سورة البقرة الآية 143(31/153)
محمدا صلى الله عليه وسلم بدعوة البشرية كلها. قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (1) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (2) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} (3) . وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (4) وقد كلفت هذه الأمة بما كلف به رسولها صلى الله عليه وسلم من القيام بدعوة البشرية إلى الله عز وجل قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ} (5) .
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله: يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين: الإنس والجن آمرا له أن يخبر الناس أن هذه سبيله: أي طريقته ومسلكه وسنته وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان، هو وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي اهـ. فالدعوة إلى الله تعالى واجبة على هذه الأمة وحق للبشرية عليها، وهذا الوجوب يكون فرض كفاية إذا قام به من يكف من الأمة سقط الإثم عن الباقين، وإن لم يقم به أحد أو قام به من لا تحصل به الكفاية أثم كل أفراد الأمة ممن عنده الاستطاعة قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (6) .
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله: والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم
__________
(1) سورة الفرقان الآية 1
(2) سورة الأحزاب الآية 45
(3) سورة الأحزاب الآية 46
(4) سورة سبأ الآية 28
(5) سورة يوسف الآية 108
(6) سورة آل عمران الآية 104(31/154)
يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (1) » . وفي رواية: «وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل (2) » انتهى.
وأخبر سبحانه وتعالى أن الدعاة إلى الله هم أحسن الناس قولا، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) . قال الحافظ ابن جرير - رحمه الله: يقول تعالى ذكره: ومن أحسن أيها الناس ممن قال ربنا الله ثم استقام على الإيمان به والانتهاء إلى أمره ونهيه، ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك. وقال الإمام الشوكاني: والأولى حمل الآية على العموم كما يقتضيه اللفظ، فكل من جمع بين دعاء العباد إلى ما شرعه الله وعمل عملا صالحا وهو تأدية ما فرض الله عليه مع اجتناب ما حرمه الله عليه، وكان من المسلمين دينا لا من غيرهم فلا شيء أحسن منه، ولا أوضح من طريقته، ولا أكثر ثوابا من عمله. . انتهى.
إن الدعوة إلى الله تعالى لها مكانة عظيمة في الإسلام فهي أعظم المهمات التي بعث من أجلها الرسول صلى الله عليه وسلم وكلف بها هو وأتباعه قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (4) والدعوة إلى الله تسبق القتال في سبيل الله فقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو الكفار إلى الله قبل أن يقاتلهم، وكان يوصي قواده وجيوشه وسراياه أن يبدءوا عدوهم بالدعوة قبل القتال فإن استجابوا قبلوا منهم وإلا قاتلوهم.
إن الدعوة إلى الله في هذا الزمان تشتد الحاجة إليها بسبب كثرة التضليل والإلحاد ونشاط دعاة الشر والفساد والإباحية واستخدامهم مختلف الوسائل، فها هم دعاة التنصير ينتشرون في العالم ويلجون في الأدغال النائية ويستغلون جهل الشعوب وفقرها لبث شرهم، وها هي أحكام القرآن تنحى وتجعل بديلا عنها الأحكام القانونية في غالب الدول الإسلامية، ووسائل الإعلام في أغلب
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (50) .
(3) سورة فصلت الآية 33
(4) سورة يوسف الآية 108(31/155)
دول العالم تبث سمومها مستخدمة هذه الوسائل المرئية والمسموعة والمقروءة، وأخطر من ذلك نشاط الفرق الضالة التي تتسمى بالإسلام وهي تكيد له من داخله بالتشكيك في أصوله، ومعاداة السنن وأهلها، ونشر البدع والخرافات وبغض الصحابة والابتعاد عن عقيدة السلف، فأصبح المسلمون مهددين من الداخل والخارج مما يتطلب من الدعاة المخلصين ومن علماء المسلمين مضاعفة الجهود لمقاومة هذه الجيوش الزاحفة على الإسلام وأهله؛ لرد كيدهم في نحورهم، وتبصير المسلمين بدينهم، وبيان كيد عدوهم، ويوم يتنبه دعاة الإسلام لصد هذا الهجوم فإن النصر بإذن الله سيكون حليفهم فإن معهم الحق، والله تعالى يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (1) . ويقول تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (2) ويكفينا قدوة ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله رسولا من مقاومة جحافل الشرك والكفر والطغيان، فقد كان الشرك والكفر حين بعثته يعم وجه الأرض، حتى جللت الأصنام الكعبة المشرفة، فكان فوقها ثلاثمائة وستون صنما، والصور تكسو حيطانها من الداخل، فما زال صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله ويجاهد المشركين إلى أن دخل مكة عام الفتح، واتجه إلى الكعبة فأزال ما عليها وما حولها من الأصنام، وجعل يطعن فيها بالقضيب وهي تتهاوى على وجوهها وهو يقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا إن في هذا درسا للدعاة اليوم وهم يواجهون تحديات الكفر والإلحاد في أن يضاعفوا الجهود في دعوتهم، ويصبروا ويصابروا، والنصر قريب بإذن الله. قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (4) .
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 18
(2) سورة الإسراء الآية 81
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة آل عمران الآية 186(31/156)
2 - كيفية الدعوة ومجالاتها
1 - أما كيفية الدعوة فيجب على الداعية إلى الله أن يصلح نفسه أولا ومحيطه من أهل بيته وأقاربه، ثم يتجه إلى دعوة الناس. قال تعالى عن نبيه شعيب - عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (1) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (2) . وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (3) قال الإمام العلامة ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد (3 \ 158) : أول ما أوحى إليه ربه - تبارك وتعالى - أن يقرأ باسم ربه الذي خلق. وذلك أول نبوته فأمره أن يقرأ في نفسه ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ. ثم أنزل عليه: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} (4) {قُمْ فَأَنْذِرْ} (5) فنبأه بقوله: (اقرأ) وأرسله بقوله: (يا أيها المدثر) ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالمين. انتهى. ومن هنا نعلم أن الدعاة الذين يتجاوزون بلادهم ومن حولهم، بل يتجاوزون أهل بيوتهم وأقاربهم، وهم على الشرك والكفر أو المعاصي، ويذهبون في محيط بعيد عنهم أنهم مخالفون لهدي النبوة في الدعوة.
وعلى الداعية أن يبدأ بالأمور المهمة، فيبدأ أولا بإصلاح العقيدة؛ لأنها هي الأساس الذي تنبني عليه سائر الأعمال، فالأعمال مهما بلغت إذا لم تكن مبنية على عقيدة صحيحة سليمة من الشرك فإنها لا قيمة لها ولا فائدة منها، قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (6) ومن هنا كانت دعوات الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أول ما تتجه إلى إصلاح العقيدة بالدعوة إلى التوحيد وترك الشرك.
__________
(1) سورة هود الآية 88
(2) سورة التحريم الآية 6
(3) سورة الشعراء الآية 214
(4) سورة المدثر الآية 1
(5) سورة المدثر الآية 2
(6) سورة الزمر الآية 65(31/157)
قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (1) وكل نبي يقول لقومه أول ما يدعوهم: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (2) وهكذا كانت دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد لبث ثلاث عشرة سنة في مكة قبل الهجرة يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك، قبل أن يأمرهم بصلاة أو زكاة أو صيام أو حج، مما يدل على أن منهج الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في الدعوة منهج واحد، وهو البداءة بالدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك، ثم إلى بقية الأحكام، وحتى لو كان المجتمع إسلاميا فإنه لا يخلو من وجود أنواع من الشرك في بعض الناس وبعض البلاد، بسبب الجهل وبسبب انتشار المشعوذين والدجالين الذين يحاولون إفساد عقائد الناس، وفي مجتمعنا المعاصر كما تعلمون الكثير والكثير من أنواع الشرك الأكبر المتمثل بعبادة الأضرحة في كثير من البلاد الإسلامية، ولم يتجه إلى إنكاره إلا قليل من الدعاة على كثرتهم، وهذا خلل عظيم في منهج الدعوة.
ثم على الدعاة كذلك أن يهتموا بإنكار البدع المحدثة في العبادات، وبتعليم الناس السنن الصحيحة - لأن البدع من أعظم ما يفسد الدين بعد الشرك - فالمبتدع يشرع في الدين ما لم يأذن به الله، والبدع كلها مرفوضة مردودة على أصحابها مهما أتعبوا أنفسهم وأنفقوا أموالهم وضيعوا أوقاتهم في إقامتها، قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (3) » وقال: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (4) » فعلى الدعاة أن يهتموا بدعوة الناس إلى إحياء السنن وترك البدع وإماتتها - فهذا من أعظم مجالات الدعوة.
ثم بعد ذلك يتجه الدعاة إلى الدعوة إلى أداء الفرائض وترك المعاصي
__________
(1) سورة النحل الآية 36
(2) سورة النساء الآية 36
(3) متفق عليه - رياض الصالحين ص437.
(4) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .(31/158)
والمحرمات وتصحيح المعاملات؛ لأن المعاصي سبب لهلاك العباد والبلاد قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1) ووجود الدعاة والمصلحين أمان من العذاب والهلاك قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (2) وعدم وجود الدعاة والمصلحين سبب الهلاك.
وعلى الدعاة أن يراعوا أحوال المدعوين، فالجاهل له معاملة في الدعوة والعالم له معاملة والمعاند له معاملة، فيعاملوا كلا بما يليق به، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (3) وذلك أن المدعو له حالات يعامل في كل حالة بما يناسبها: الحالة الأولى: أن يكون جاهلا بالحق ولو بين له لأخذ به، فهذا يدعى بالحكمة واللين واللطف والرأفة. الحالة الثانية: من إذا بين له الحق لم يسرع لقبوله والعمل به، بل يكون عنده كسل وفتور، فهذا يحتاج مع البيان إلى موعظة بأن يخوف ويبين له ثواب المطيعين وعقاب العاصين. الحالة الثالثة: من إذا بين له الحق لم يقبله، وحاول رده بالشبهات، فهذا يجادل بالتي هي أحسن لكشف شبهاته وبيان خطئه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (2 \ 45) : الناس ثلاثة أقسام: إما أن يعترف بالحق ويتبعه فهذا صاحب الحكمة. وإما أن يعترف به لكن لا يعمل به، فهذا يوعظ حتى يعمل. وإما ألا يعترف به فهذا يجادل بالتي هي أحسن؛ لأن الجدال في مظنة الإغضاب فإذا كان بالتي هي أحسن حصلت منفعته بغاية الإمكان كدفع الصائل. . انتهى. وقال الإمام ابن القيم في مفتاح دار السعادة: جعل الله مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعى بطريق الحكمة - والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يدعى بالموعظة
__________
(1) سورة الروم الآية 41
(2) سورة هود الآية 117
(3) سورة النحل الآية 125(31/159)
الحسنة - وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب - والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن. انتهى. وهذا لأن الداعية كالطبيب يراعي حالة المريض في علاجه له.
2 - وأما مجالات الدعوة فهي كثيرة يجب أن تستغل كلها وتشغل بالدعوة إلى الله، منها:
1 - مجال التعليم سواء كان على نظام الحلق في المساجد أو على نظام الفصول الدراسية، فالمدرس يجب أن يكون داعية إلى الله بالقول والعمل والقدوة الحسنة، ولا يقتصر عمله على إلقاء درسه فقط، فإن الطالب يتأثر بمدرسه ويقبل منه، ويقتدي به أكثر من غيره، فليستغل المدرسون هذا الانقياد من طلابهم فيقودوهم إلى الخير، ويذودوهم عن الشر.
2 - إمامة المسجد وخطبة الجمعة، وهما مجال واسع ومتكرر يوميا وأسبوعيا يستطيع من خلاله الإمام والخطيب أن يوجه وينبه وأن يدعو إلى الله على بصيرة، وكان غالب تعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم توجه إلى الناس بعد الصلوات وفي خطب الجمعة، فلو استغل هذا المجال استغلالا حسنا لأثمر خيرا؛ لأن الناس يجتمعون في بيت من بيوت الله بقلوب مؤمنة متطلعة إلى التوجيه والتعليم، ومن هنا يجب أن يكون الإمام والخطيب على مستوى طيب من العلم والرغبة في الدعوة والتوجيه؛ لينفع الله به، فيجب أن يختار للإمامة من هو على هذا المستوى.
3 - موسم الحج - هذا الموسم العظيم الذي يجتمع فيه المسلمون من جميع أقطار الأرض في مكان واحد مما يوفر على الدعاة كثيرا من عناء السفر إلى مشارق الأرض ومغاربها، ويتيح لهم الفرصة أن يلتقوا بأكبر عدد ممكن من المدعوين، ولا شك أن الحجاج يتقبلون التوجيه أكثر من غيرهم، لأنهم جاءوا بقلوب مؤمنة متطلعة إلى الخير والتوجيه الحسن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى الحجاج في منازلهم فيعرض دعوته عليهم، وكان يلقي خطبه في عرفات وأيام التشريق.(31/160)
4 - في الدوائر الحكومية والأعمال الوظيفية، فيجب على رئيس الدائرة والمصلحة الحكومية أن يسهم في الدعوة في محيط منسوبيه، بأن يوجه من يحتاج إلى توجيه في دينه، ويتفقدهم عند حضور الصلاة، ويناقش من يتخلف منهم، فليس هو مسئولا عنهم في الأعمال الوظيفية فقط، بل هو مسئول عنهم من الناحية الدينية في الدرجة الأولى. قال صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (1) » ، وكذلك الموظف مع زملائه، ومع رئيسه يجب عليه أن يقوم بالمناصحة والدعوة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (2) » .
وهذا نبي الله يوسف - عليه الصلاة والسلام - لما دخل السجن صار يدعو السجناء إلى الله - عز وجل - ويقول: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهََّّارُ} (3) {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (4) .
وهكذا المؤمن في كل مجال يجب أن يدعو إلى الله كلما سنحت فرصة وحصلت مناسبة.
5 - في أمكنة التجمعات العامة، فيجب على الداعية أن يغشى التجمعات العامة في المساجد والمدارس ومدرجات الجامعات والنوادي وتجمعات الأسواق بالدعوة إلى الله من خلال هذه التجمعات.
6 - من خلال وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة - فيجب على الداعية أن يسهم في البرامج الدينية في الإذاعة، ويكتب في الصحف والمجلات الهادفة؛ لأن هذه الوسائل تغزو كل مكان، وتدخل كل بيت وتصاحب المسافر والسائر في الطريق، فيجب أن تحمل الدعوة إلى الله والتوجيه
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .
(2) رواه مسلم
(3) سورة يوسف الآية 39
(4) سورة يوسف الآية 40(31/161)
الصالح، وإذا تركت استغلها أهل الشر فأصبحت معاول تدمير وفتنة.
7 - يجب على أفراد البعثات الدراسية والدبلوماسية في الخارج أن يمثلوا الإسلام أمام البلاد الخارجية تمثيلا صحيحا في أقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم، وأن يكونوا دعاة صادقين لدينهم وأمتهم حتى يعرف من يسمعهم ويراهم رسالة الإسلام على الوجه الصحيح، فإن الناس ينظرون إليهم ويعتبرون ما يصدر عنهم هو التطبيق العملي للإسلام.
8 - تجب مناصحة ولاة الأمور بما فيه الخير لهم ولرعيتهم وبما يعينهم على القيام بمهامهم. قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة (1) » ثلاث مرات «قالوا: لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (2) » .
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(31/162)
الصفات التي يجب أن يتحلى بها الداعية إلى الإسلام
لما كانت الدعوة إلى الله عز وجل منصبا جليلا وجب ألا يتقدم للقيام به إلا من توفرت فيه شروط، وتحلى بصفات تليق بهذا المنصب ومنها:
1 - أن يكون على علم بما يدعو إليه. قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} (1) فالرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله على بصيرة، وأتباعه يدعون إلى الله على بصيرة. والبصيرة هي العلم، فلا بد للداعية من العلم بما يشرع وما لا يشرع بأن يميز بين السنة والبدعة والحسنة والسيئة، والحلال والحرام، وأن يعرف الشرك والتوحيد، وما هو الكفر والفسوق والعصيان حتى يعامل المدعوين بحسب ما عندهم من الخلل، فهو يحتاج إلى العلم الذي يستطيع به إقناع المعارض وإفحام المناظر ودحض الشبهة. لأن الله تعالى يقول: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: «إنك تأتي قوما
__________
(1) سورة يوسف الآية 108
(2) سورة النحل الآية 125(31/162)
من أهل الكتاب (1) » نبهه على ذلك ليتهيأ لمناظرتهم ويعد الأجوبة الصائبة لامتحانهم له؛ لأنهم أهل علم سابق بخلاف المشركين وعبدة الأوثان الذين لا علم عندهم. ومخاطبة العالم ليست كمخاطبة غيره، فالجاهل لا يصلح أن يكون داعية لأنه يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، ويقف عند أدنى شبهة وينقطع عند أدنى خصومة، فلا يحصل المقصود. أو يتكلم بجهل أو يحكم بغير علم، والله تعالى قد حرم القول عليه بلا علم وجعله عديلا للشرك، وقد انتمى إلى الدعوة اليوم أناس لا علم عندهم فنخشى أن يحدثوا آثارا سلبية، فالواجب أن يقفوا عند حدهم ولا يدخلوا فيما ليس من اختصاصهم، وأن يستبدلوا بأهل العلم والبصيرة.
2 - على الداعية أن يكون عاملا بما يدعو الناس إليه من الخير؛ لأن الناس ينظرون إلى عمله قبل أن يستمعوا إلى قوله، وقد ذكر الله سبحانه عن نبيه شعيب عليه السلام أنه قال لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (2) . قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله: يفهم من هذه الآية الكريمة أن الإنسان يجب عليه أن يكون منتهيا عما ينهى عنه غيره مؤتمرا بما يأمر به غيره، وقد بين سبحانه ذلك في مواضع أخر كقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} (3) الآية. وقوله: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (4) وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه في النار، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه، فيتجمع عليه أهل النار فيقولون يا فلان ألست كنت تأمرنا
__________
(1) صحيح البخاري الزكاة (1458) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(2) سورة هود الآية 88
(3) سورة البقرة الآية 44
(4) سورة الصف الآية 3(31/163)
بالمعروف وتنهانا عن المنكر. فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه (1) » وقد قال الشاعر:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
3 - على الداعية أن يكون مخلصا لله في دعوته لا يريد بها رياء ولا سمعة ولا مدحا من الناس ولا إظهارا لنفسه. وإنما يريد إظهار دين الله وإعلاء كلمته، ونفع المدعوين وهدايتهم إلى الخير وهذا يؤخذ من قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} (2) سورة يوسف آية 108. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله: فيها التنبيه على الإخلاص لأن كثيرا ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه - يعني أنه يريد الظهور والمدح من الناس، وهذا ينافي الإخلاص.
4 - على الداعية أن يتحلى بالصبر والحلم لأنه سيتعرض في سبيل الدعوة لمشاق وسيواجه صعوبات، وما لم يتحل بالصبر والحلم فإنه سيقف في أول الطريق. ولهذا لما أمر الله نبيه محمد بالدعوة أمره بالصبر فقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (3) . وقال لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (4) .
5 - على الداعية أن يوقن بأن العاقبة الحميدة للحق ولو تأخرت، ولا يقنط ولا ييأس من حصول النتائج الحميدة، ولو على الأقل إقامة الحجة وبراءة الذمة. كما ذكر الله سبحانه عن الذين أنكروا على أصحاب السبت فعلتهم الشنيعة وقال لهم من قال: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (5) . قال الإمام الشوكاني - رحمه الله: أي موعظتنا معذرة إلى الله حتى لا يؤاخذنا بترك الأمر
__________
(1) صحيح البخاري كتاب بدء الخلق (3267) ، صحيح مسلم الزهد والرقائق (2989) ، مسند أحمد بن حنبل (5/205) .
(2) سورة يوسف الآية 108
(3) سورة النحل الآية 127
(4) سورة لقمان الآية 17
(5) سورة الأعراف الآية 164(31/164)
بالمعروف والنهي عن المنكر اللذين أوجبهما الله علينا، ولرجاء أن يتعظوا فيتقوا ويقلعوا عما هم فيه من المعصية.(31/165)
ثمرة الدعوة إلى الله ونتائجها
لا شك أن كل عمل من أعمال الخير لا بد أن تكون له آثار طيبة ونتائج حميدة، والدعوة إلى الله من أجل أعمال الخير، وهي وظيفة الرسل وأتباعهم، فلها آثار حميدة منها: امتثال أمر الله تعالى بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} (1) وبقوله: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} (2) قوله: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (3) . . والأمر للرسول صلى الله عليه وسلم أمر لأمته ما لم يدل دليل على اختصاصه به، فكما أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بالدعوة فأمته مأمورة بذلك، بل قد أمرها الله بذلك في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} (4) .
ومنها الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (5) فأتباع الرسول يدعون إلى الله على بصيرة كما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله على بصيرة، ومن لم يدع كان اتباعه ناقصا، ومنها: تبليغ دين الله إلى الناس وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «بلغوا عني ولو آية (6) » . ومن لم يبلغ ما علمه من دين الله كان كاتما، وقد توعد الله الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة. ومنها هداية من أراد الله هدايته بسبب الدعوة وحصول الأجر العظيم لما دعاه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا (7) » .
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة القصص الآية 87
(3) سورة الشورى الآية 15
(4) سورة آل عمران الآية 104
(5) سورة يوسف الآية 108
(6) رواه البخاري والترمذي والدارمي.
(7) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .(31/165)
ومن لم يقبل الدعوة قامت عليه الحجة واستحق القتال.
وفي الختام أسأل الله أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وينصر أولياءه، ويخذل أعداءه، ويهدي ضال المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(31/166)
مخطوطة "حجة التحذير في
المنع من لبس الحرير "
تأليف عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب
1193 - 1285 هـ
بتحقيق الوليد بن عبد الرحمن بن محمد آل فريان
مقدمة. . .
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} (1) اللهم واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها قابليها، وأتمها علينا (2) .
ليس باستطاعة أي إنسان كائنا من كان أن يحيط بنعم الله، وهو يتقلب في أفيائها المتصلة المتدفقة الشاملة لأدق تفاصيل حياته اليومية {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} (3) غير أن النعمة موصولة بالشكر، والشكر معلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن (4) .
فالشكر إلى جانب كونه عبادة من أعظم العبادات كما قال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (5) وأجره مدخر لصاحبه كما قال: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} (6) . فهو سبب أساس في زيادة النعم
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 15
(2) أخرجه أبو داود في السنن رقم 969 والحاكم في المستدرك 1 \ 265.
(3) سورة إبراهيم الآية 34
(4) من كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر 18.
(5) سورة البقرة الآية 172
(6) سورة لقمان الآية 12(31/167)
واستمرارها {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (1) . وسبب أيضا في صرف غضب الله ونقمته {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} (2) .
ولا يقتصر الشكر على النطق باللسان فحسب، وإنما المداومة على الطاعات، كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل دون ملل أو ضجر، حتى إنه كان يقول لمن لامه على كثرة القيام والتهجد: «أفلا أكون عبدا شكورا (3) » .
وظهور أثر النعمة على العبد كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (4) » . واستخدامها فيما يرضي الله، أو فيما أباحه دون تخط للحدود أو تطاول على الشرع {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (5) {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (6) {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (7) كلها مظاهر أصيلة تعبر عن الشكر.
وحين يذهب الإنسان إلى استثمار نعم الله في معاصيه، فقد أخل إخلالا عظيما بواجب الشكر، وكفر النعمة. وهناك مع الأسف بين المسلمين - ممن أفاء الله عليهم - من ينفق أمواله في وجوه السرف والمخيلة والتباهي، والله تعالى يقول: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (8) ويقول: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} (9) . وفي الحديث: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 7
(2) سورة النساء الآية 147
(3) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 1130، 4836، 6471، ومسلم في الصحيح رقم 2819، وأحمد في المسند 4 \ 251، 255 من حديث المغيرة بن شعبة، وأخرجه أبو يعلى في المسند رقم 2900 من حديث أنس.
(4) أخرجه أبو داود في السنن رقم 4063، والترمذي في الجامع رقم 2820، وأحمد في المسند 2 \ 311، واللفظ له من حديث أبي هريرة.
(5) سورة البقرة الآية 229
(6) سورة الطلاق الآية 1
(7) سورة المائدة الآية 6
(8) سورة الأعراف الآية 31
(9) سورة غافر الآية 43(31/168)
غير إسراف ولا مخيلة (1) » .
ومن الصور القاتمة لهذا الداء - الدخيل على المجتمع - أننا نجد من يصرف بسخاء المبالغ الطائلة في اقتناء فرش الحرير. وهي مما يحرم على المسلم الجلوس عليه أو استعماله بنص السنة، يقول حذيفة رضي الله عنه: «نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه (2) » .
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لأن أقعد على جمر الغضا أحب إلي من أن أقعد على مجلس حرير (3) .
ونجد أيضا من الناس من يجتهد في تغطية جدران بيته بالأقمشة الفاخرة، ويتفنن في اجتلاب أجمل (الموديلات) دون أن يعبأ بإنكار النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: «إن الله لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسو الحجارة واللبن (4) » ! ! . إلى غير ذلك من النماذج المتخمة بالعلو والاستكبار، والتي نتمنى أن تزول سريعا من بيننا، ويعود الناس إلى هدي الكتاب والسنة، يستمتعوا بنفحاتهما، ويحققوا شكر الله على نعمه التي لا تنقطع.
__________
(1) أخرجه النسائي في المجتبى 5 \ 79، وابن ماجه في السنن رقم 3650، وأحمد في المسند 2 \ 181، 182، والبخاري في الصحيح معلقا 10 \ 252.
(2) أخرجه البخاري في الصحيح رقم 5837.
(3) أخرجه ابن وهب في الجامع كما في فتح الباري 10 \ 292.
(4) أخرجه مسلم في الصحيح رقم 2107، وأبو داود في السنن رقم 4153، والترمذي في الجامع رقم 2806، وابن ماجه في السنن رقم 3649.(31/169)
موضوع الرسالة
يهتم أئمة الدعوة اهتماما شديدا بكل ما يتعلق بشئون مجتمعهم، ويحرصون دائما على تواجد مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياتهم، ولا يفرطون أبدا في تطبيقه متى تطلبت الأمور ذلك.
ولما بدأت بعض الملابس المصنوعة من القز، أو التي يدخل القز في صناعتها تغزو ديارهم، وتنتشر فيما بين الناس أيام حكم الإمام عبد العزيز بن محمد بن(31/169)
سعود (ت 1218) وعلموا ما تعنيه كلمة القز، أنكروا ما وسعهم الإنكار، وكتب أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والشيخ حمد بن ناصر بن معمر (ت 1225) الرسالة التالية:
علامة القزية مغفول عنها مدة طويلة، وسبب الغفلة عدم استحضارنا أنها حرير، وأنها مما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم تبين لنا أنها حرير، ونبيكم أخبر أن لبس الحرير حرام على الرجال. . . إلى آخر الرسالة.
وقام الإمام عبد العزيز - رحمه الله - ببعثها إلى أنحاء البلاد، وكتب معها ما يلي: هذا كتاب آل الشيخ، تشرفون على ما فيه من الأدلة التي لا تنكر، في مسألة العلامة التي تجعل في العبي وغيرها من الحرير. فيكون عندكم معلوما أن إخوانكم من أهل الدرعية عملوا على ما في الورقة، فأنتم اعملوا على مثل ما عملوا، ومن وجد دليلا يخالف ما فيها فالحق مقبول متبوع، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل (1) .!!
واستمر التواصل بين العلماء والقادة وأفراد المجتمع على هذا المنوال، مترسمين خطا إمام الدعوة ومن سبقه من أئمة الهداية والصلاح.
ورسالتنا التي نسعد بالتقديم لها، تعالج أمرا يشبه تماما ما وقع في صدر الدعوة، حيث أخذت المحارم المسماة أخضر قز تنتشر بين الناس، دون أن يشعروا بما تنطوي عليه من مخالفة، مما دفع الشيخ عبد الرحمن إلى كتابة هذه الرسالة.
وقد استهلها بذكر جملة من الأدلة على تحريم استعمال الحرير على الرجال، بوجه عام.
ثم ناقش قول من قال بحرمته على الرجال والنساء معا، ومن قال بإباحته للجميع، وردهما ردا مبنيا على الدليل، وأورد بعد ذلك الخلاف في مقدار ما يحل استعماله بالنسبة للرجال.
واختار التحريم سواء وجد الحرير منفردا أو مختلطا إلا ما استثناه الشارع،
__________
(1) الدرر السنية في الأجوبة النجدية 3 \ 115 - 117.(31/170)
وهو مقدار أربعة أصابع فما دون، سواء كان مجتمعا أو مفرقا، واحتج له بالنصوص الصريحة التي لا تقبل التأويل. وأشار إلى تحريم استعمال المحارم المسماة أخضر قز؛ لأن ما فيها من الحرير يزيد على المقدار المشروع. ثم بين ضابط المقدار المشروع، وختم رسالته بجواب للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين.
وهكذا أنهى رسالته، متحريا الدقة التامة، والاستدلال لكل مسألة، والمناقشة الهادئة المشبعة بالصدق والبحث عن الحق حيث كان.(31/171)
المؤلف
هو العلامة الكبير الحافظ المفسر الفقيه الداعية: أبو الحسن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب التميمي. ولد سنة 1193 هـ في بلدة الدرعية الواقعة إلى الشمال من مدينة الرياض، وقد هيأ الله له أسرة علمية كريمة تربى في ظلها، وانطلق منذ وقت مبكر إلى طلب العلم ومجالسة العلماء، وأخذ عن جده الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب (ت 1206 هـ) وأعمامه: الشيخ عبد الله (ت 1243) والشيخ حسين (ت 1224) والشيخ علي (ت 1245) وغيرهم من العلماء.
ولاه سعود بن عبد العزيز القضاء في الدرعية، واستمر على ذلك وعلى إلقاء الدرس وتعليم الطلاب، والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشجاعة نادرة مع التواضع الجم، ولم يثنه قط ابتعاده عن بلاده أيام فتنة الدرعية عن مواصلة الطلب وتكريس أوقاته للعلم والعلماء.
ولما عاد إلى نجد سنة 1241 اجتهد في إزالة آثار الفتنة، وسعى إلى توحيد الصف، وقام بتأليف الكتب والمنافحة عن الدعوة، إلى أن لقي الله بعد مديد قضاه في ساحة الجهاد سنة 1285، فارتاع الناس لفقده وبكته القلوب، رحمه الله رحمة واسعة.(31/171)
وصف النسخ:
تمكنت عند الشروع في تحقيق الرسالة من الحصول على نسختين خطيتين وهما كما يلي:
الأولى وذكر في بدايتها ما نصه: حجة التحذير في المنع من لبس الحرير. تصنيف شيخنا الشيخ أبي حسن عبد الرحمن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (كذا) أجزل الله لهم الثواب. وبجانبها كلمات منقولة عن كتاب الإقناع.
وتقع في نحو ست ورقات ومسطرتها 22 سطرا، وأصلها محفوظ في مكتبة الرياض السعودية بدون رقم. مكتوبة بقلم نسخي جيد مشكول أحيانا، غير أنها خلت من اسم الناسخ وتاريخ النسخ، وإن كنت أرجح أنها كتبت في حياة المؤلف. وهي نسخة تامة ومقابلة ومصححة، ولذلك جعلتها أصلا.
الثانية: وتقع في نحو ست ورقات أيضا ومسطرتها 21 سطرا وسجل على طرتها ما نصه: حجة التحذير في المنع من لبس الحرير. تصنيف شيخنا الشيخ أبي حسن عبد الرحمن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب (كذا) أجزل الله لهم الثواب آمين. وبجانبها الأيسر نفس الكلمات المنقولة من كتاب الإقناع.
كتبت بقلم نسخي واضح، وخلت عن اسم الناسخ وتاريخ النسخ، وأصلها محفوظ في مكتبة الرياض السعودية برقم 659. ويبدو أنها منقولة من النسخة الأولى، لاتفاقهما كثيرا. . ورمزت لها بحرف (ض) .(31/172)
التوثيق
نص على نسبتها إلى المؤلف ابن بشر، قال: وله مصنف فيما يحل ويحرم من الحرير، دل على سعة علمه الغزير، رد فيه على من أباح لبس المحرمة الروغان التي ابتلي الناس بلبسها في هذا الزمان (1) . بالإضافة إلى ما سجل على طرة
__________
(1) عنوان المجد في تاريخ نجد 2 \ 46.(31/172)
الأصلين المذكورين. وهما وإن نسباها إلى أبي حسن عبد الرحمن بن محمد فهو خطأ محض ربما أوقعهما فيه العجلة في النقل، والله أعلم.
وقد أورد الشيخ عبد الرحمن بن قاسم (ت 1393) في الدرر السنية 3 \ 117 - 128 جوابين منسوبين إلى الشيخ عبد الرحمن، وهما يشبهان بمجموعهما رسالتنا هذه. ولا أدري هل اعتمد على نسخة مضطربة اضطرته إلى ذلك، أو أنه تصرف في النص، على أني أرجح الاحتمال الأول؟ لأمانته التي يعرفها الجميع. وعلى أي حال، فقد استفدت منهما واستأنست بما جاء فيهما، دون أن أدرجهما ضمن النسخ المعتمدة.(31/173)
منهج التحقيق:
اعتمدت النسخة الأولى، لقدمها وعارضت بها الأخرى، وأثبت ما بينهما من فروق، ولم أتصرف في النص إلا ما رأيت الضرورة تفرضه فألحقته بالصلب بين حاصرتين، وقمت بترقيم الآيات الكريمة وتخريم الأحاديث والآثار. ونقل ما قاله أهل العلم فيها. كما ترجمت لغير المشاهير وفسرت الغامض.
أسأل الله تعالى أن يجعل فيها الخير والنفع، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، ويرزقنا الثبات على الحق إلى أن نلقاه على أحسن حال إنه جواد كريم، والحمد لله حمدا كثيرا طيبا كما يحب.
كتبه
الوليد بن عبد الرحمن الفريان
\ 10 \ 1409 هـ
الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية(31/173)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحل الحلال وحرم الحرام، وأحكم الشرائع وشرع الأحكام، ونهى العباد عن قربان حدوده، رحمة منه بهم كيلا يقعوا في الآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شديد الانتقام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الذي أكمل (1) قواعد الشريعة وأحكمها غاية الإحكام؛ فأكمل الله به الدين (2) وأتم به علينا نعمة الإسلام. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وصحبه الأئمة الأعلام وسلم تسليما، أما بعد:
فإن الأحاديث النبوية والآثار السلفية، قد تواترت وتظاهرت بتحريم استعمال الحرير، على ذكور هذه الأمة، وسأذكر إن شاء الله جملة منها، مع الإشارة إلى شرحها ومذاهب الأئمة في مقدار ما يباح بحمل مطلقها على مقيدها، فأقول وبالله التوفيق:
أخرج الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها (3) » .
وخرج أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، عن علي رضي الله عنه، قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا فجعله في يمينه، وذهبا فجعله في شماله، ثم قال: إن هذين حرام على ذكور أمتي (4) » . زاد ابن ماجه: «حل لإناثهم (5) » .
وأخرج البخاري، ومسلم، والنسائي، عن حذيفة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا
__________
(1) (ض) : أعلا.
(2) (ض) : بالدين. تحريف.
(3) أحمد في المسند 4 \ 392، 393، 407 والترمذي في الجامع رقم 1720، والنسائي في المجتبى 8 \ 161.
(4) أبو داود في السنن رقم 4057، والنسائي في المجتبى 8 \ 160 \ 161، وابن ماجه في السنن رقم 3595، وأخرجه أحمد في المسند 1 \ 96، 115، وأخرجه 4 \ 392 من حديث أبي موسى الأشعري.
(5) سنن ابن ماجه اللباس (3595) .(31/174)
في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما. فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة (1) » .
وأخرج الإمام أحمد، والحافظ الضياء، عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يستمتع بالحرير من يرجو أيام الله تعالى (2) » .
وأخرج البخاري، ومسلم، وأهل السنن، [1 \ ب] عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له (3) » . زاد البخاري، وابن ماجه، والنسائي - في رواية - في الآخرة.
والخلاق: النصيب. وقيل: الحظ، أي: لا نصيب له، ولا حظ له في الآخرة.
وأخرج الإمام أحمد، والنسائي، عن المقدام بن معدي كرب، قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرير والذهب ومياثر النمور (4) » . وأخرج الدارمي، والطيالسي، في مسنديهما (5) عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، وكائنا خلافة ورحمة، وكائنا ملكا عضوضا، وكائنا عتوا وجبرية وفسادا في الأمة، يستحلون الفروج، والخمور، والحرير، ويرزقون مع ذلك، وينصرون، حتى يلقوا الله عز وجل (6) » . قال الحافظ السخاوي: حديث حسن.
__________
(1) البخاري في الصحيح رقم 5426، 5632، 5633، 5831، 5837، ومسلم في الصحيح رقم 2067، والنسائي في المجتبى 8 \ 199.
(2) أحمد في المسند 5 \ 267. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5 \ 141: فيه أبو بكر بن أبي مريم، وقد اختلط.
(3) البخاري في الصحيح رقم 886، 948، 2104، 2612، 2619، 3054، 5841، 5981، 6081، ومسلم في الصحيح رقم 2068، وأبو داود في السنن رقم 4040، والنسائي في المجتبى 8 \ 196، وابن ماجه في السنن رقم 3636، وأخرجه أحمد في المسند 2 \ 24، 49، 51، 68 وأبو يعلى في المسند رقم 5814، والحميدي في المسند رقم 679 والطيالسي في المسند رقم 1823.
(4) أحمد في المسند 4 \ 132، والنسائي في المجتبى 7 \ 176.
(5) الأصل: مسنيدهما. تحريف.
(6) الدارمي في السنن رقم 2107 والطيالسي في المسند رقم 228.(31/175)
فهذه الأحاديث: منها ما هو صريح في التحريم، ومنها ما هو ظاهر فيه. والذي لم نذكره من الأحاديث أضعاف أضعاف ما ذكرناه.
قال بعض العلماء - لما ذكر بعضا من أحاديث هذا الباب: وإذا لم تفد هذه الأدلة التحريم فما في الدنيا محرم. انتهى.
وقد أجمع المسلمون على تحريم الحرير - في الجملة - على الرجال دون النساء إلا ما ذكر عن ابن الزبير أنه نهى عنه النساء، مستدلا بعموم النهي (1) .
وحكى غير واحد من الأئمة: الإجماع - بعد ابن الزبير - على تحريمه على الرجال، دون النساء.
قال أبو عمر بن عبد البر (2) : أجمع المسلمون على تحريم الحرير. وقال القاضي عياض (3) : حكي عن قوم إباحته. وقال غيره: الخلاف في ذلك منسوب إلى ابن علية (4) ، وقد انعقد الإجماع بعده على التحريم. انتهى (5) .
قال في الفروع - عن هذا القول، وقول ابن الزبير: هما شاذان. وما أخرجه البخاري، ومسلم، عن المسور بن مخرمة: «أنها قدمت للنبي صلى الله عليه وسلم أقبية، فذهب هو وأبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لشيء منها، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وعليه قباء مزرور، وقال: يا مخرمة خبأنا لك هذا وجعل يريه محاسنه (6) » .
__________
(1) أخرجه مسلم في الصحيح رقم 2069، والنسائي في المجتبى 8 \ 200.
(2) يوسف بن عبد الله النمري، حافظ فقيه إمام (ت 463) سير أعلام النبلاء 18 \ 153.
(3) عياض بن موسى اليحصبي، فقيه محدث (ت 544) وفيات الأعيان 2 \ 126.
(4) أبو بشر، إسماعيل بن إبراهيم الأسدي مولاهم، حافظ ثبت (ت 193) سير أعلام النبلاء 9 \ 107.
(5) ينظر فتح الباري 10 \ 285 ونيل الأوطار 2 \ 165.
(6) البخاري في الصحيح رقم 2599، 2657، 3127، 5800، 5862، 6132 ومسلم في الصحيح رقم 1058، وأخرجه أبو داود في السنن رقم 4028، والترمذي في الجامع رقم 2819، والنسائي في المجتبى 8 \ 205، وأحمد في المسند 4 \ 328(31/176)
فقد أجيب عنه: بأنه فعل، والأقوال صريحة بالتحريم فلا [2 \ أ] يعارضها. وبأن النبي صلى الله عليه وسلم: لبس الحرير ثم نزعه ونهى عنه؛ كما في حديث جابر: «لبس النبي صلى الله عليه وسلم قباء من ديباج أهدي له، ثم أوشك (2) » . أخرجه أحمد والنسائي.
ولأحمد، والبخاري، ومسلم، وابن حبان، عن عقبة بن عامر، قال: «أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فروج (5) » .
وأخرج أحمد - أيضا - عن أنس بن مالك، «أن أكيدر دومة (7) أو ديباج - قبل أن ينهى عن الحرير - فلبسها، فتعجب الناس منها، فقال: والذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ
__________
(1) أحمد في المسند 3 \ 383، والنسائي في المجتبى 8 \ 200، وأخرجه مسلم في الصحيح رقم 2070.
(2) (1) أن نزعه، وأرسل به إلى عمر بن الخطاب. فقيل: قد أوشكت ما نزعته يا رسول الله. قال: " نهاني جبرائيل عليه السلام ". فجاءه عمر يبكي، فقال: يا رسول الله! كرهت أمرا فأعطيتنيه، فمالي؟ ! فقال: ما أعطيتكه لتلبسه، إنما أعطيتك تبيعه فباعه بألفي درهم
(3) أحمد في المسند 4 \ 149، 150، والبخاري في الصحيح رقم 375، 5801، ومسلم في الصحيح رقم 2075، وابن حبان في الصحيح رقم 5409، وأخرجه النسائي في المجتبى 2 \ 72.
(4) ما بينهما معلق في هامش (ض) وبجواره كلمة صح. (3)
(5) (4) حرير، فلبسه ثم صلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعا عنيفا شديدا، كالكاره له، ثم قال: لا ينبغي هذا للمتقين
(6) أحمد في المسند 3 \ 207، 234، وأخرجه بغير هذا اللفظ الترمذي في الجامع رقم 1723 وقال حديث حسن صحيح، والنسائي في المجتبى 8 \ 199، وأحمد في المسند 3 \ 121، وأصله في صحيح البخاري رقم 2615، 2616، 3248، ومسلم رقم 2469.
(7) (6) : أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة سندس في الأصل و (ض) : سندك. تحريف.(31/177)
في الجنة أحسن منها» .
فهذه الأحاديث مصرحة بالنهي عن الحرير، [وقد] (1) وقع بعد ذلك (2) فيكون هذا الاستعمال منسوخا بأحاديث النهي المصرحة بالتحريم. على أن من العلماء من قال: إن [الذي] (3) استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النهي ليس حريرا كله، وإنما فيه اليسير منه.
قال أبو حاتم، ابن حبان (4) ، لما ذكر حديث عقبة: فروج الحرير. هو الثوب الذي يكون على دروزه حرير، دون أن يكون الكل من الحرير. ولو كان الكل حريرا ما لبسه ولا صلى فيه، وهذا (5) معنى خبر عمر: إلا إصبعين أو ثلاث أو أربع (6) انتهى كلام ابن حبان - رحمه الله تعالى (7) .
فتبين بهذا أنه لا متمسك لمن قال: يجوز استعمال الحرير للذكور. وأن قول ابن الزبير، وما نسب إلى ابن علية: قولان متقابلان، شاذان مردودان، بالسنة والإجماع.
__________
(1) مطموس في الأصل وساقط من (ض) وهو مما يقتضيه السياق.
(2) أي: وقع في النهي عنه بعد لبسه.
(3) ساقط من الأصل.
(4) محمد بن حبان بن أحمد التميمي، البستي، حافظ فقيه مجود (ت 354) . تذكرة الحفاظ 3 \ 920.
(5) (ض) : هذا.
(6) سيأتي تخريجه.
(7) صحيح ابن حبان 7 \ 396.(31/178)
ثم اعلم أنه قد وقع الاختلاف بين العلماء في مقدار ما يحل من الحرير. فذهب كثير [2 \ ب] من الحنابلة والشافعية وغيرهم - في المختلط بالحرير -(31/178)
إلى أن الاعتبار بالقلة والكثرة. ولهم طريقان:
أحدهما: اعتبار القلة والكثرة بالظهور. فإذا كان الحرير أكثر ظهورا حرم، وإن (1) كان غيره أكثر ظهورا لم يحرم.
وهذا هو المعتمد عند الحنابلة (2) ، واختاره بعض الحنفية، وجزم به الزيلعي (3) في شرح الكنز (4) ، واختاره القفال (5) في جمع من الشافعية.
الثاني: أن الاعتبار بالوزن، واعتمده كثير من متأخري الشافعية. وإن استويا ظهورا: فوجهان، اختلف الترجيح فيهما عندهم. أحدهما: أنه جائز (6) والثاني: هو حرام (7) .
قال ابن عقيل، والشيخ تقي الدين ابن تيمية: الأشبه أنه محرم؛ لعموم الخبر. قال: والأشبه بكلام أحمد التحريم.
وقال ابن عقيل: لأن النصف كثير، وليس تغليب التحليل بأولى من التحريم. انتهى (8) .
هذا إذا كان الحرير أو بعضه ظاهرا في اللحمة (9) . أما إذا كان في السدى (10) دون اللحمة، فإنه جائز عند جمهور العلماء. نص عليه الإمام أحمد - رحمه الله.
__________
(1) (ض) : أو.
(2) وهو الصحيح من المذهب الإنصاف 1 \ 475.
(3) عثمان بن علي بن محجن، فقيه حنفي (ت 743) . الدرر الكامنة 2 \ 446.
(4) تبيين الحقائق في شرح كنز الدقائق.
(5) أبو بكر، محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي، فقيه شافعي (ت 507) . وفيات الأعيان 1 \ 464.
(6) وهو المذهب. الإنصاف 1 \ 476.
(7) ينظر في فتح الباري 10 \ 294.
(8) من كتاب الفصول لابن عقيل، وشرح العمدة لابن تيمية، كما في الإنصاف 1 \ 476.
(9) خيوط النسيج العرضية التي بلحم بها السدى. ينظر القاموس 4 \ 174، والإكمال لابن مالك 2 \ 562.
(10) ما يمد في النسيج طولا. ينظر القاموس 4 \ 341 والخزانة للبغدادي 11 \ 115.(31/179)
وهو الخز، قال المجد في شرحه: الخز: ما سدي بالإبريسم، وألحم بوبر أو صوف أو نحوه، لغلبة اللحمة على الحرير. انتهى (1) .
قال في الإنصاف وغيره: فرق الإمام، بأنه لبس الصحابة (2) ، وبأنه لا سرف فيه ولا خيلاء (3) وذهب ابن حزم رحمه الله: إلى أنه لا يجوز لبس الخز.
وأجاب عما ذكره أصحابنا - رحمهم الله تعالى: بأنه قد جاء تحريمه عن بعض الصحابة كابن عمر، فإنه قال: اجتنبوا من الثياب ما خالطه الحرير وذكر عن بعض الصحابة نحو هذا.
ثم قال: ولا يصح (في) (4) الرخصة في ثوب سداه حرير خبر أصلا، لأن الرواية فيه عن ابن عباس، انفرد بها خصيف (5) وهو ضعيف. انتهى (6) قلت: وممن قال بقول ابن عمر هنا من التابعين: الحسن، وابن سيرين (7) قاله (8) في فتح الباري (9) .
__________
(1) نقله المرداوي في الإنصاف 1 \ 477.
(2) في الإنصاف: قد لبسه الصحابة.
(3) المصدر السابق 1 \ 476.
(4) ساقط من الأصل.
(5) أبو عون، ابن عبد الرحمن الجزري (ت 137) . تقريب \ 193.
(6) المحلى 4 \ 54.
(7) أبو بكر، محمد بن سيرين الأنصاري مولاهم، ثقة، ثبت عابد كبير القدر (ت 110) تقريب \ 483.
(8) الأصل: قال.
(9) فتح الباري 10 \ 290.(31/180)
ومن حجتهم: ما تقدم من حديث عمر، وحديث أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا يرجو أن يلبسه في الآخرة (1) » .
قال الحسن: فما بال أقوام يبلغهم هذا عن نبيهم، فيجعلون حريرا في ثيابهم وبيوتهم.
وهذا الحديث: أخرجه الإمام أحمد (2) ، من طريق [3 \ أ] مبارك بن فضالة (3) ، عن الحسن البصري (4) .
وأخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى - أيضا - بسنده عن علي بن زيد، قال: قدمت المدينة، فدخلت على سالم بن عبد الله، وعلي جبة خز، فقال سالم: ما تصنع بهذه الثياب؟ ! سمعت أبي، يحدث عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما يلبس الحرير من لا خلاق له (5) » .
ثم اعلم: أن محل الخلاف عند من اعتبر القلة والكثرة بالظهور أو الوزن، إنما هو في الحرير المخالط لغيره، الممتزج به، غير المتحد الخالص.
على أنه ليس معهم من الحجة لما ذهبوا إليه إلا حديث واحد، وهو ما أخرجه أحمد، وأبو داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: «إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير، فأما العلم من الحرير وسدى
__________
(1) مسند أحمد 1 \ 49، وأخرجه دون القصة أحمد 2 \ 24، وأخرجه أيضا في المسند \ 51، 68، 82، 127 من طريق آخر عن ابن عمر، من حديث أبي هريرة 2 \ 337. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5 \ 140: رجال أحمد ثقات.
(2) أحمد: إضافة من (ض) .
(3) أبو فضالة، البصري صدوق يدلس ويسوي، صحب الحسن. (ت 166) . تقريب \ 519.
(4) مسند أحمد 2 \ 329.
(5) مسند أحمد 1 \ 49، وأخرجه دون القصة أحمد 2 \ 24، وأخرجه أيضا في المسند \ 51، 68، 82، 127 من طريق آخر عن ابن عمر، من حديث أبي هريرة 2 \ 337. قال الهيثمي في مجمع الزوائد 5 \ 140: رجال أحمد ثقات.(31/181)
الثوب فلا بأس بها (1) » .
وهذا الحديث: لا ينهض لمعارضة ما تقدم من الأحاديث الصحيحة الصريحة في تحريم ماهية الحرير؛ لوجوه:
أولها: أن في إسناده خصيف بن عبد الرحمن، وقد ضعفه غير واحد. قال الحافظ ابن حجر: هو صدوق سيئ الحفظ، خلط بآخره، ورمي بالإرجاء (2) .
ثانيها: أن لفظة إنما، لا تفيد الحصر الحقيقي عند أكثر النحاة.
سلمنا: إفادتها للحصر، فابن عباس أخبر بما بلغه من قصر النهي على المصمت، وغيره أخبر بما هو أعم من ذلك، كما تقدم في الأحاديث.
ثالثها: أنه لا قائل بمفهوم هذا الحديث. فإن الثوب من الحرير إذا كان فيه جزء يسير من غيره، لا يسمى مصمتا، فيلزم المستدل به تجويز هذا، وإلا بطل استدلاله.
رابعها: أنه استثنى المباح، بقوله: فأما العلم من الحرير وسدى الثوب فلا بأس بها. فمفهومه: أن ما زاد على ذلك فيه بأس. فترك أهل هذا القول مفهوم هذه الجملة، كما تركوا مفهوم الجملة قبلها، فصار الحديث حجة عليهم لا لهم.
ثم يقال لهم: فأين الحجة من الحديث على [ما] (3) ذهبتم إليه من اعتبار الكثرة بالوزن أو الظهور. فهذا الدليل لا يستلزم المدعى.
قال [3 \ ب] في شرح المنتقى - في شرح حديث ابن عباس هذا بعد
__________
(1) أحمد في المسند 1 \ 218، 313، 321، وأبو داود في السنن رقم 4055، واللفظ له، وأخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار 2 \ 348، والحاكم في المستدرك 4 \ 192 بسند صحيح، والطبراني بسند حسن كما قال الحافظ في فتح الباري 10 \ 294، وأخرجه الأثرم كما في المغني لابن قدامة 1 \ 590.
(2) تقريب التهذيب \ 193.
(3) إضافة من (ض) .(31/182)
ذكره الأحاديث الدالة على تحريم ماهية الحرير -: وقد عرفت مما سلف، الأحاديث (1) الواردة في تحريم الحرير دون تقييد. والظاهر منها: تحريم ماهية الحرير، سواء وجدت منفردة أو مختلطة بغيرها. ولا يخرج عن التحريم إلا ما استثناه الشارع من مقدار الأربع الأصابع من الحرير. وسواء وجد ذلك المقدار مجتمعا كما في القطعة الخالصة، أو مفرقا كما في الثوب المشوب.
حديث ابن عباس: لا يصلح لتخصيص (2) تلك العموميات، ولا لتقييد تلك الإطلاقات، ولا متمسك للقائلين بحل المشوب (3) إذا كان الحرير مغلوبا إلا قول ابن عباس فيما أعلم.
فانظر أيها المنصف: هل يصلح كونه جسرا تذاد عنه الأحاديث الواردة قي تحريم مطلق الحرير ومقيدة؟ ! .
وهل ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الأصل العظيم، مع ما في إسناده من الضعف الذي يوجب سقوط الاستدلال به، على فرض تجرده عن المعارضات. انتهى (4) .
وقوله: إلا ما استثناه الشارع. إلى آخره.
يشير إلى ما أخرجه الشيخان، وأهل السنن، قال البخاري - رحمه الله تعالى - في صحيحه: حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا قتادة، قال: سمعت أبا عثمان النهدي (5) قال: أتانا كتاب عمر، ونحن مع عتبة بن فرقد (6) بأذربيجان، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن الحرير إلا هكذا، وأشار
__________
(1) الأصل و (ض) : من الأحاديث. والمثبت من شرح المنتقى.
(2) (ض) : للتخصيص. تحريف.
(3) (ض) : الثوب. تحريف.
(4) نيل الأوطار 2 \ 177 - 178.
(5) عبد الرحمن بن مل، مشهور بكنيته، ثقة ثبت عابد (ت 95) . تقريب \ 351.
(6) أبو عبد الله السلمي، صحابي جليل، نزل الكوفة، وهو الذي فتح الموصل في زمن عمر. تقريب \ 381.(31/183)
بإصبعيه اللتين تليان الإبهام (1) » . قال: فيما علمنا أنه يعني الأعلام.
حدثنا أحمد بن يونس، حدثنا زهر، حدثنا عاصم، عن أبي عثمان، قال: كتب إلينا عمر ونحن بأذربيجان، «أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن لبس الحرير إلا هكذا، وصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم إصبعيه (2) » ، ورفع زهير الوسطى والسبابة.
قال في فتح الباري: ولم يقع في رواية أبي عثمان في الصحيح [في] (3) استثناء ما يجوز إلا ذكر الإصبعين. لكن وقع عند أبي داود، من طريق حماد بن سلمة، عن عاصم الأحول - في هذا الحديث - أن النبي صلى الله عليه وسلم: «نهى عن الحرير [4 \ أ] إلا ما كان هكذا وهكذا، إصبعين أو ثلاث أو أربع (4) » .
ولمسلم، من طريق سويد بن غفلة - بفتح (5) المعجمة والفاء واللام الخفيفتين - أن عمر خطب، فقال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع (6) » وأو هنا للتنويع والتخيير. وقد وقع عند النسائي، في رواية سويد: «لم يرخص في الديباج إلا في موضع أربع أصابع (7) » الحديث. . انتهى (8) .
قلت: وهذه الأحاديث احتج بها العلماء - رحمهم الله تعالى - على أنه لا يباح من الحرير في الثوب ونحوه إلا مقدار أربع أصابع فما دون؛ لأن التحديد بالأربع الأصابع يمنع الزائد عليها.
وهذا الحكم لا يختص به العرض دون الطول، لعدم التقييد في التقدير (9)
__________
(1) صحيح البخاري اللباس (5828) ، صحيح مسلم اللباس والزينة (2069) ، سنن النسائي الزينة (5312) ، سنن أبو داود اللباس (4042) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2820) ، مسند أحمد بن حنبل (1/50) .
(2) صحيح البخاري رقم 5828، 5829، 5830، 5834. 5835.
(3) زيادة من الفتح، يقتضيها السياق.
(4) (ض) : ثلاثة أو أربعة.
(5) في الأصل و (ض) : بضم. تحريف.
(6) مسلم في الصحيح رقم 2069.
(7) النسائي في المجتبى 8 \ 202.
(8) فتح الباري 1 \ 288.
(9) (ض) : التعديد.(31/184)
والتحديد. وتخصيص أحدهما بالحكم دون الآخر، لا دليل عليه أصلا. وظاهر هذه الأحاديث: أن هذا الحكم عام فيما إذا وجد الحرير في الثوب، سواء كان مجتمعا أو مفرقا؛ تقدم لشارح المنتقى. وهذا اختيار ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى.
ومن الحجة لهذا القول: ما أخرجه البخاري، وأبو داود، والنسائي، «عن عمر بن الخطاب رضي الله: أنه رأى حلة سيراء تباع، فقال: يا رسول الله، لو ابتعتها؟ تلبسها للوفد إذا أتوك، والجمعة، فقال: إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة (1) » .
ولهم، ولمسلم، عن علي رضي الله عنه قال: «أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة سيراء، فبعث بها إلي فلبستها، فعرفت الغضب في وجهه، وقال: إني لم أعطكها لتلبسها فأمرني فأطررتها بين نسائي (2) » قال أبو داود، والنسائي: السيراء: المضلع بالقز (3) .
قال ابن الأثير (4) السيراء: بكسر السين وفتح الياء، المد، نوع من البرود يخالطه حرير كالسيور (5) .
ونقل العيني (6) في شرح البخاري، عن الأصمعي، والخليل، وآخرين: أنها ثياب فيها خطوط من حرير، وقز، وإنما قيل لها سيراء، لتسير الخطوط كأنها السيور، وقيل: هي وشي من حرير (7) ، وقيل: حرير محض.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) البخاري في الصحيح رقم 5840، ومسلم في الصحيح رقم 2071، وأبو داود في السنن رقم 4043، والنسائي في المجتبى 8 \ 197.
(3) سنن أبي داود 4 \ 331، والمجتبى للنسائي 8 \ 197.
(4) أبو السعادات، المبارك بن محمد الشيباني، فقيه لغوي محدث. (ت 606) : شذرات الذهب 5 \ 22.
(5) النهاية في غريب الحديث 2 \ 433.
(6) أبو محمد، محمود بن أحمد العيني، مؤرخ محدث، الضوء اللامع 10 \ 131.
(7) عمدة القارئ 22 \ 17.(31/185)
والصحيح الأول، [4 \ ب] ، لما روى ابن أبي شيبة، وابن ماجه، والبيهقي، وغيرهم، عن علي رضي الله عنه، قال: «أهدى أمير بأذربيجان إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة مسيرة بحرير، إما سداها وإما لحمتها، فبعث بها إلي فأتيته، فقلت: يا رسول الله ألبسها، فقال: لا، أكره لك ما أكره لنفسي (1) » .
والكراهة - في لسان الشرع - يراد بها: التحريم غالبا، في هذا الحديث، بدليل ما تقدم من رؤية الغضب في وجهه صلى الله عليه وسلم لما رآه قد لبسها. وفي التنزيل: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} (2) والإشارة: إلى ما تقدم في الآيات من ذكر المحرمات.
وأخرج مسلم، وأبو داود، والترمذي، واللفظ لمسلم، عن علي رضي الله عنه، قال: «نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القسي، وعن المياثر الحمر (3) » . قال: أما القسي فثياب مضلعة فيها حرير، وفيها أمثال الأترج (4) .
قال البخاري: قال عاصم، عن أبي بردة، قلنا لعلي: ما القسية؟ قال: ثياب أتتنا من الشام أو من مصر، مضلعة فيها حرير، وفيها أمثال الأترج. والمثيرة: كانت النساء تصنعه لبعولتهن، مثل القطائف يصنعونها. وقال جرير، عن (5) يزيد - في حديثه: القسية: ثياب مضلعة يجاء بها من مصر، فيها الحرير. والمثيرة: جلود السباع (6) .
ثم ساق حديث (7) البراء - بسنده - قال: «نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المياثر الحمر، وعن القسي (8) » .
__________
(1) ابن أبي شيبة المصنف رقم 4696، 4699، 12136، وابن ماجه في السنن رقم 3641، والبيهقي في السنن 2 \ 424، وأخرجه أحمد في المسند 1 \ 90، 137، والطيالسي في المسند رقم 119.
(2) سورة الإسراء الآية 38
(3) مسلم في الصحيح رقم 2078، وأبو داود في السنن رقم 4051، 4225، والترمذي في الجامع رقم 2809، وأخرجه النسائي في المجتبى 8 \ 165، وابن ماجه في السنن رقم 3654، وأحمد في المسند 1 \ 80، 119، 137، 138.
(4) (ض) : الأترج.
(5) الأصل و (ض) : ابن. تحريف.
(6) فتح الباري 10 \ 292.
(7) (ض) : الحديث.
(8) البخاري في الصحيح رقم 5838.(31/186)
وقال الخطابي (1) : القسي، ثياب يؤتى بها من مصر، فيها حرير. وإنما حرمت هذه على الرجال دون النساء. انتهى (2) .
قال في النهاية: القسي، ثياب من كتان مخلوط بحرير، يؤتى بها من مصر، نسبة إلى قرية على ساحل البحر قريبا من تنيس، يقال لها: القسى، بفتح القاف. انتهى (3) . .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى: حديث السيراء والقسي يستدل به على تحريم ما فيه الحرير، لأن ما فيه خيوط حرير أو سيور لا بد أن تنسج مع غيرها من الكتان والقطن. فالنبي صلى الله عليه وسلم حرمها لظهور الحرير فيها، ولم يسأل: هل وزن ذلك الموضع من الكتان والقطن أكثر أم لا، مع أن العادة أنه أقل. انتهى.
وقال في فتح الباري [5 \ أ] : واستدل بالنهي عن لبس القسي على منع لبس ما خالطه الحرير من الثياب؛ لتفسير القسي بأنه ما خالط غير الحرير فيه الحرير، ويؤيده عطف الحرير على القسط في حديث البراء.
ووقع كذلك في حديث علي، عند أحمد، وأبي داود، والنسائي - بسند صحيح على شرط الشيخين - من طريق عبيدة بن عمرو، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القسي والحرير (4) » . فعلى هذا: يحرم لبس الثوب الذي خالطه الحرير. انتهى (5) .
ومن هنا: يتبين أن هذه المحارم المسماة أخضر قز (6) ، لا يجوز استعمالها
__________
(1) أبو سليمان، حمد بن محمد الخطار البستي، فقيه محدث إمام (ت 388) . تذكرة الحفاظ 3 \ 1018.
(2) معالم السنن 4 \ 190.
(3) النهاية في غريب الحديث 4 \ 59.
(4) أحمد في المسند 1 \ 119، 138، وأبو داود رقم 4044، 4045، والنسائي في المجتبى 2 \ 187، 8 \ 169، واللفظ له، لكن من طريق محمد بن عبيدة.
(5) فتح الباري 10 \ 294.
(6) تعريفها بأخضر قز، من الإضافة البيانية، والقز من الحرير. اهـ. مجموعة الرسائل والمسائل 4 \ 413.(31/187)
لبسا ولا افتراشا (1) ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أحل الذهب والحرير لإناث أمتي، وحرم على ذكورها (2) » .
وأنت ترى الحرير الخالص في أربعة مواضع منها، كل موضع يبلغ خمسين إصبعا، فمبلغ جميعه نحو مائتي إصبع، بعرض الأصابع، لأن التقدير إنما هو بعرضها، كما هو ظاهر الأحاديث المتقدم ذكرها.
ونص عليه الفقهاء رحمهم الله تعالى، قال في شرح العمدة: وتعتبر الأصابع عرضا لا طولا.
قال في الإنصاف: ويباح علم الحرير في الثوب، إذا كان أربع أصابع فما دون، يعني مضمومة. هذا المذهب ونص عليه، وجزم به في المغني والشرح (3) .
وقال في المبدع: ويباح العلم الحرير - وهو طراز الثوب - إذا كان أربع أصابع مضمومة فما دون، أي: فأقل. نص عليه (4) . ومثله في الفروع (5) وغيره.
وقال في حاشية المنتهى: وفي الإقناع ما معناه: لو كان في ثياب قدر يعفى عنه من الحرير، وضم بعضه إلى بعض كان كثيرا، فلا بأس. انتهى. أي: فلو كان في ثوب حرم ذلك. انتهى من الحاشية.
وهو صريح في ضم المتفرق من الحرير إذا كان في ثوب، وهو ظاهر الأحاديث السابقة.
يوضحه: ما أخرجه أبو داود بسند صحيح، من طريق قتادة، عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا أركب أرجوان، ولا ألبس المعصفر، ولا ألبس القميص المكفف بالحرير (8) » قال - يعني قتادة -: وأومأ (9) الحسن
__________
(1) (ض) : فراشا.
(2) سبق تخريجه.
(3) الإنصاف 1 \ 480.
(4) المبدع شرح المقنع 1 \ 382.
(5) الفروع 1 \ 351.
(6) سنن الترمذي الأدب (2788) ، سنن أبو داود اللباس (4048) ، مسند أحمد بن حنبل (4/442) .
(7) الأصل و (ض) : ألا لا أركب. (6)
(8) الأصل و (ض) : المصفى. تحريف. (7)
(9) الأصل و (ض) : فأومأ.(31/188)
إلى جيب قميصه.
وأخرج البزار، والطبراني، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة مجيبة بحرير، فقال: طوق من نار يوم القيامة (1) » قال المنذري - في هذا الحديث: رواته كلهم ثقات. وأخرج الحاكم - وقال صحيح الإسناد - من حديث عبد الله بن عمرو (2) .
قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي عليه جبة من طيالسة مكفوفة، أو مزرورة بالديباج، فقال: إن صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع وابن راع، ويضع كل فارس وابن فارس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا، فأخذ بمجامع ثوبه، فاجتذبه، وقال: لا أرى عليكم ثياب من لا يعقل (4) » .
وأخرج أبو داود، من حديث أبي ريحانة - رجل من الصحابة: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشر: عن الوشم، والوشر، والنتف، وعن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار، وعن مكامعة المرأة المرأة بغير شعار، وأن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرا مثل الأعاجم، أو يجعل على منكبيه حريرا مثل الأعاجم، وعن ركوب النمور (5) » . . الحديث.
وفي المواهب اللدنية: «وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد كندة في ثمانين أو ستين راكبا، فدخلوا عليه مسجده قد رجلوا جممهم، وتسلحوا ولبسوا الجباب
__________
(1) البزار في المسند رقم 2999 (كشف) والطبراني في الأوسط والكبير، كما في مجمع الزوائد 5 \ 142، قال الهيثمي: رجال الأوسط ثقات.
(2) الأصل و (ض) : عمر. تحريف.
(3) أخرجه أحمد في المسند 2 \ 225، واللفظ له، قال البيهقي في مجمع الزوائد 5 \ 142: ورجاله ثقات وأخرجه أيضا البزار في المسند رقم 2998 (كشف) ولم أقف عليه في مستدرك الحاكم.
(4) في مسند أحمد والبزار: عليك. (3)
(5) أبو داود في السنن رقم 4049، وأخرجه النسائي في المجتبى 8 \ 143، 149، وابن ماجه في السنن رقم 3699، وأحمد في المسند 4 \ 134.(31/189)
الحبرات مكففة بالحرير، فلما دخلوا، قال صلى الله عليه وسلم: أو لم تسلموا؟ ! قالوا بلى! قال: فما هذا الحرير في أعناقكم فشقوه فنزعوه وألقوه (2) » .
وبهذه الأحاديث: يندفع ما قد يورده بعضهم، من أن العلماء أباحوا الزيق المحيط بالعنق طويلا، وكذا سجف (3) . الفراء ونحوهما. وهذا لا يصلح أن تعارض به السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولو سلمنا أن ما ذكر من الزيق والسجف. فيه طول، فيجب أن ينقص من عرضه بقدر طوله، بحيث لا يزيد مجموعه على أربع أصابع طولا وعرضا. وإنما تتبين حقيقة الحال عند الاعتبار بالضم، فإن زاد منع وإلا فلا؛ وذلك لأنهم أباحوا السجف ونحوه قياسا على العلم، وهو مقيد بأربع أصابع كما علمت، فيجب أن يقيد الفرع بقيد أصله المقيس عليه.
وقد نص العلماء - رحمهم الله تعالى - على ذلك. قال في جمع الجوامع: ولبنة الجيب، وسجف الفراء، كالعلم 1 \ 61، في الإباحة والقدر.
وقال الشيخ عثمان (4) في حاشية المنتهى - على قول المصنف: لا فوق أربع أصابع -: يعنى أن ما ذكر من العلم والوقاع والسجف ولبنة الجيب، إنما يباح إذا كان أربع أصابع معتدلة مضمومة فما دون، لا إن كان أكثر منها انتهى (5) .
__________
(1) أخرجه ابن إسحاق، كما في سيرة ابن هشام 2 \ 585، وابن سعد في الطبقات الكبرى 1 \ 328.
(2) (ض) : الحبرة. (1)
(3) السجف: الستر، الصحاح 4 \ 1371
(4) عثمان بن عثمان بن أحمد بن قائد النجدي، فقيه مجود نقي المعتقد (ت 1097) علماء نجد 3 \ 183.
(5) ينظر هداية الراغب \ 112.(31/190)
وبمجموع ما ذكرناه يرتفع الإيراد من أصله، ولله الحمد والمنة. ثم اعلم:
أنه لم يوجد في حديث ما، ولا عن أحد من العلماء ما يقتضي تخصيص التقدير بأربع أصابع بعرض الحرير دون طوله.
فلا يظن أن قول شارح العمدة: وتعتبر الأصابع عرضا لا طولا. يومئ إلى تخصيص العرض بهذا الحكم؛ لأن صريح هذه العبارة، ينادى على أن المعنى هو: أن اعتبار (1) المباح إنما يكون بعرض الأصابع لا بطولها؛ لما في الطول من الزيادة. فلو اعتبر بطول الأصابع لزيد في المباح ما ليس منه، ولأن التقدير بالطول غير منقول ولا معهود ولا معقول.
وأيضا، فيلزم على هذا التأويل البعيد: أن الشارح المشار إليه ارتكب مجاز الحذف، وهو خلاف استعمال الفقهاء، فإنهم لا يستعملون المجاز في كتبهم أصلا. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وهنا سؤال: وهو أنه إذا كان في ثوب ما يزيد على أربع أصابع من حرير، وبين موضع كل أصبعين منها فاصل من غيره، فهل يؤثر ذلك في إباحة ما زاد أم لا؟ .
الجواب: هذا السؤال، قد ورد على صاحبنا الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن، فأجاب - وفقنا الله وإياه لما يحبه ويرضاه - بما نصه: إذا كان بين قدر كل أصبعين أو ثلاث (2) فاصل غير الحرير، فلا شك أنه يضم
__________
(1) (ض) : الاعتبار.
(2) (ض) : ثلاثة.(31/191)
بعض ذلك إلى بعض؛ لئلا يلزم جعل الثوب كله حريرا ويفصل بين كل ثلاث أصابع بفاصل غير حرير. انتهى.
وهو في غاية القوة، ودليله من السنة ما تقدم في حديث القسي والسيراء ونحوهما، والله أعلم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. انتهى.(31/192)
الفقيه المفتي
زيد بن ثابت
- رضي الله عنه - من مفتي الصحابة
بقلم
د \ محمد رواس قلعه جي.
أستاذ الفقه بالدراسات العليا
في جامعة الملك سعود
الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وأصلي وأسلم على رسول الهدى والرحمة سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. . وبعد:
فإن الهدى والنور الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم قد تلقفه أصحابه رضوان الله عليهم، فحمل كل واحد منهم من هذا النور ما قدر على حمله، كما ومضمونا، فمنهم من أوقر قلبه وعقله منه كله، ومنهم من أخذ لونا من ألوانه فأوقر قلبه وعقله منه، وحذق كل بما أخذ بقدر ما بذل من جهد وأوقف النفس في هذا السبيل.
وكان من الذين أخذوا كل لون من هدى رسول الله ومن النور الذي جاء به زيد بن ثابت رضي الله عنه الذي كان أحد الستة الذين آلت إليهم الفتوى(31/193)
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويسعدني أن أقدمه اليوم للقارئ الكريم راجيا من الله تعالى أن ينفعنا بعلمه إنه سميع مجيب.(31/194)
ا - زيد بن ثابت:
هو الصحابي الجليل زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بن عمرو (1) بن عبد مناف - أو عوف - بن غنم بن مالك بن النجار، الأنصاري الخزرجي (2) وكنيته أبو سعيد على الأشهر، وقيل: أبو ثابت، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل أبو خارجة (3) وأمه هي: النوار بنت مالك بن معاوية بن عدي بن عامر بن غنم من بني عدي بن النجار (4) وفي طبقات ابن سعد: هي النوار بنت مالك بن صرمه بن مالك بن عدي بن عامر (5) وتزوجت النوارة بعد مقتل والد زيد بن ثابت عمارة بن حزم بن زيد بن لوذان وولدت له مالكا، فمالك أخو زيد بن ثابت لأمه (6) وعلى هذا فهو عربي صريح، خزرجي، أنصاري.
ولد قبل الهجرة بإحدى عشرة سنة، إذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة المنورة مهاجرا إليها كان عمر زيد إحدى عشرة سنة (7) وتوفي سنة 45 للهجرة على أرجح الأقوال، وله من العمر. ست وخمسون سنة (8) وكانت وفاته في المدينة المنورة.
نشأ في المدينة المنورة يتيما، لأن والده قتل يوم بعاث - قبل الهجرة بخمس سنين - وكان زيد في السادسة من عمره (9) . .
__________
(1) في دائرة المعارف الإسلامية '' عمر ''.
(2) تهذيب التهذيب ودائرة المعارف الإسلامية، كلاهما في مادة زيد بن ثابت
(3) الاستيعاب 1 \ 188 وطبقات خليفة بن خياط ص 890 طبع مطبعة العاني ببغداد، والإصابة برقم 8 \ 2882
(4) طبقات حليفة بن خياط ص 890 ودائرة المعارف الإسلامية مادة: زيد بن ثابت.
(5) طبقات ابن سعد 3 \ 486 طبع دار بيروت وتجريد أسماء الصحابة للذهبي برقم 3726.
(6) طبقات ابن سعد 3 \ 486 و 8 \ 419.
(7) تهذيب التهذيب 3 \ 399، وصفة الصفوة 1 \ 704 طبع دار المعرفة بتحقيقنا.
(8) الاستيعاب 1 \ 189 وصفة الصفوة 1 \ 706.
(9) الإصابة برقم 2882 وعيون النجابة ص 99 طبع دار الكتاب العربي(31/194)
تزوج زيد بن ثابت أم جميل فولدت له سعيدا. وتزوج أم سعد جميلة ابنة سعد بن الربيع ووحيدته ودخل بها في خلافة عمر بن الخطاب، وقال لها: إن كنت تريدين أن تتكلمي في ميراثك من أبيك فتكلمي، فإن أمير المؤمنين عمر ورث، وكان أبوها قتل يوم أحد وهي حمل فولدت له: خارجة، وسليمان، ويحيى، وعمارة، وإسماعيل، وسعدا، وعبادة، وإسحق، وحسنة، وعمرة، وأم إسحاق، وأم كلثوم. وتزوج عمرة بنت معاذ بن أنس، فولدت له: إبراهيم، ومحمدا، وعبد الرحمن، وأم حسن. وكانت له أم ولد، فولدت له: زيدا، وعبد الرحمن، وعبيد الله، وأم كلثوم. وكانت له أم ولد أخرى، فولدت له: سليطا، وعمران، والحارث، وثابتا، وصفية، وقريبة، وأم محمد (1) . .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 2 \ 428(31/195)
2 - إسلامه:
أسلم زيد بن ثابت صغيرا، ولعل أمه كانت سببا في إسلامه مبكرا، فهي قد أسلمت قبله وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم (1) وذلك قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة المنورة كان زيد يكتب الوحي (2) ، ويحفظ شيئا من القرآن، وكان يجيد قراءة سبع عشرة سورة من القرآن الكريم (3) .
__________
(1) طبقات ابن سعد 8 \ 419
(2) تهذيب التهذيب 3 \ 399 وصفة الصفوة 1 \ 407
(3) الإصابة برقم 2882(31/195)
3 - ذكاؤه:
كان زيد بن ثابت رضي الله عنه ذكيا متميزا بين أقرانه، حتى قال الذهبي: كان زيد أحد الأذكياء (1) . .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 5 \ 427(31/195)
ومما يدل على هذا الذكاء المتميز أنه كان يتقن القراءة والكتابة إتقانا يؤهله لكتابة الوحي، مع كل ما تتطلبه هذه المهمة من نباهة ودقة وهو في سن الحادية عشرة.
وقد رأى فيه الرسول الكريم مخايل الذكاء حين قدم الرسول المدينة مهاجرا من مكة، فكلفه بتعلم لغة اليهود - رغم صغر سنه - لأنه عليه الصلاة والسلام كان لا يأمن أن يدس عليه اليهود في معاهداتهم معه شيئا وهو لا يعلم، فأقبل زيد على تعلم لغة اليهود، فتعلمها تحدثا وكتابة في سبعة عشر يوما فقط، وهذا أمر لا يتأتى إلا لشخص خارق الذكاء، قوي الحافظة، روى ابن حجر في الإصابة، عن خارجة بن زيد، عن أبيه زيد بن ثابت قال: أتي بي النبي صلى الله عليه وسلم مقدمه المدينة، فقيل هذا من بني النجار. وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأت عليه، فأعجبه ذلك، فقال: «تعلم لغة يهود، فإني ما آمنهم على كتابي (1) » ، ففعلت، فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب إليه، وإذا كتبوا إليه قرأت له. وفي رواية: إني أكتب الحقوق فأخاف أن يزيدوا علي أو ينقصوا، فتعلم السريانية، فتعلمتها في سبعة عشر يوما (2) . .
وما أظن أن إنسانا يتعلم لغة قوم تحدثا وكتابة في سبعة عشر يوما إلا وهو في الغاية من الذكاء وحدة الذهن.
__________
(1) سنن الترمذي الاستئذان والآداب (2715) ، سنن أبو داود العلم (3645) ، مسند أحمد بن حنبل (5/186) .
(2) الإصابة برقم 2882 ودائرة المعارف الإسلامية مادة زيد بن ثابت(31/196)
4 - فكاهته:
لا يخل بقدر الرجل أن يكون فكها مزاحا بين أهله وذوي خاصته، إذا كان جادا وقورا في مجالس الجد، وفي غير أهله وخاصته، وكذلك كان زيد بن ثابت رضي الله عنه، فإنه كان في أهله فكها مزاحا، يؤنسهم بحديثه ويفرج عنهم، ويزرع البسمة على وجهوههم. أما إذا جلس في مجالسه العامة التي(31/196)
يحضرها القريب والغريب، أو جلس إلى القضاء التزم الوقار وما حدث إلا بالجد من القول، وبهذا وصفه ثابت بن عبيد عندما قال: " كان زيد من أفكه الناس في بيته، وأزمتهم إذا خرج إلى الرجال " (1) . وهو لا يريد بقوله: (أزمتهم) إلا التزام الوقار، ولذلك جاء في الإصابة: " ما رأيت رجلا أفكه في بيته، ولا أوقر في مجلسه من زيد بن ثابت " (2) . .
__________
(1) صفة الصفوة 1 \ 706
(2) الإصابة في تمييز أسماء الصحابة برقم 2882(31/197)
5 - جهاده:
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة مهاجرا من مكة كانت سن زيد بن ثابت إحدى عشرة سنة (1) . ولكنه كان فتى مؤمنا صادق الإيمان، وبحلول رسول الله المدينة المنورة واحتضانه زيد بن ثابت منذ حلوله وتكليفه بأعباء تنوء عنها الرجال كتعلم لغة اليهود، وكتابة الوحي، قد نما الإيمان في قلب زيد، وزادت الرؤية عنده وضوحا في معرفة الحق وأهل الحق، والباطل وأهل الباطل، واشتد الحماس لديه للحق وأهله، وأن الحق يجب أن يعلو ويظهر بقوة الحجة التي يحملها، وإلا فبالقوة إن استعملت القوة في إخفاء صوت الحق وتحطيم أهله.
ولذلك رأينا يوم بدر - في السنة الثانية من الهجرة - زيد بن ثابت وهو لم يتم الخامسة عشرة من عمره يتقدم بكل ثقة ليكون بين صفوف المجاهدين في بدر، ولاحظ رسول الله وجود زيد بن ثابت بين صفوف المجاهدين، فاستصغره ورده صلوات الله وسلامه عليه، (2) ، لأن الحرب لا يفلح فيها إلا ذو زند مفتول، وزيد لما يبلغ ذلك بعد.
ولما كان يوم أحد - في السنة الثالثة للهجرة - اشترك فيه زيد بن ثابت - كما تذكر بعض الروايات، وإن كانت بعض الروايات الأخرى تقول
__________
(1) تهذيب التهذيب 3 \ 399 وصفة الصفوة 1 \ 4 / 70
(2) الإصابة الترجمة رقم 2882 وتاريخ الطبري 2 \ 477 و 505(31/197)
إن أول مشاهده كان يوم الخندق (1) .
وقد ساهم رضي الله عنه في حفر الخندق والدفاع عنه، وكان ممن ينقل التراب مع المسلمين، فأعياه التعب فنعس فنام، فجاء عمارة بن حزم فأخذ سلاحه وهو لا يشعر، فلما استيقظ زيد ولم يجد سلاحه ذعر وتغيرت حاله، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا أبا رقاد ويومئذ «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يروع المؤمن، ولا يؤخذ متاعه جادا ولا لاعبا (2) » .
ونحن لا نشك في أنه اشترك في وقائع تلت الخندق، ولم يرد له اسم فيها لأنه لم يكن له فيها دور مميز.
واشترك يوم تبوك، وكانت راية بني النجار يوم تبوك مع عمارة بن حزم، فأخذها الرسول صلى الله عليه وسلم من عمارة ودفعها إلى زيد بن ثابت، فتكدر لذلك عمارة وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أبلغك عني شيء؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا، ولكن القرآن مقدم، وزيد أكثر أخذا للقرآن منك واشترك في قتال المرتدين في أيام أبي بكر، مع مجموعة من أولاده، ووقعت فيهم مقتلة عظيمة يوم ذاك، قتل فيها من أولاد زيد بن ثابت فيما أحصيت: ابنه سعد بن زيد (3) . ويحيى بن زيد، وسليمان بن زيد (4) .، وسليط بن زيد، وعبد الرحمن بن زيد، وعبد الله بن زيد، وزيد بن زيد (5) . وأصيب فيها زيد بن ثابت بسهم في كتفه، ولكنه لم يضره (6) . .
__________
(1) الإصابة برقم 2882 وتهذيب 3 \ 399 وصفة الصفوة 1 \ 704
(2) الإصابة في ترجمة زيد بن ثابت برقم 2882
(3) طبقات ابن سعد 5 \ 263
(4) طبقات ابن سعد 5 \ 264
(5) طبقات ابن سعد 5 \ 265
(6) الاستيعاب في ترجمة زيد بن ثابت(31/198)
6 - علمه:
كان زيد بن ثابت رضي الله عنه متعدد جوانب المعرفة، فهو لم يحصر نفسه في جانب من جوانبها، بل تناول العلوم المعروفة في عصره، فتعلمها وبرع فيها، ساعده على ذلك ذكاؤه الوقاد، ورغبته الصادقة، ومما برع فيه من العلوم ما يلي:
(أ) الكتابة والخط:
تذهب بعض الروايات إلى أن زيد بن ثابت رضي الله عنه كان قد تعلم الكتابة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة - وكان عمره عند قدوم رسول الله إحدى عشرة سنة - وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم (1) . ولكن ابن سعد يروي في الطبقات عن محمد بن الصباح قال: أخبرنا شريك عن قريش عن عامر قال: كان فداء أهل بدر أربعين أوقية، فمن لم يكن عنده، علم عشرة من المسلمين الكتابة، فكان زيد بن ثابت ممن علم (2) . .
ونرى أنه لا تناقض بين الروايتين، فزيد بن ثابت كان مع نفر قليل من المسلمين يعرفون الكتابة، ولكن كثيرا منهم لا يتقنونها، وإن من يباشر مهمة عظيمة ككتابة الوحي لا بد وأن يكون على درجة عظيمة من إجادة الكتابة، ولذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يدفع زيد بن ثابت رضي الله عنه - كاتب الوحي - إلى من يجيد الكتابة من هؤلاء الأسرى ليزداد إتقانه للكتابة، وتصقل موهبته فيها، وهكذا كان، والله أعلم.
__________
(1) تهذيب التهذيب 3 \ 399 وصفة الصفوة 1 \ 704
(2) طبقات ابن سعد 2 \ 22(31/199)
(ب) لغة العرب وشعرها:
كان زيد بن ثابت رضي الله عنه عالما بشعر العرب حافظا له، وقد ذكر سعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت، أن جده زيد بن ثابت روى من شعر(31/199)
كعب بن مالك تسعين قصيدة (1) .، وإن من يروي تسعين قصيدة لشاعر واحد، لا بد وأن يحفظ ويروي الكثير لغيره من الشعراء.
وقد كان لزيد بن ثابت مجالس مع حافظي الشعر ورواته يتناشدون فيها الأشعار، وقد بقي رضي الله عنه محافظا على هذه المجالس حتى أواخر أيامه، قال محمد بن كثير بن أفلح: إن آخر مجلس جالسنا فيه زيد بن ثابت مجلس تناشدنا فيه الشعر (2) . .
__________
(1) تهذيب الآثار للطبري 4 \ 14 بتحقيق ناصر بن سعد الرشيد
(2) سنن البيهقي 10 \ 240(31/200)
(جـ) اللغات الأجنبية:
كان زيد بن ثابت رضي الله عنه يحسن لغتين - على الأقل - إلى جانب لغته العربية، أما اللغة الأولى فهي السريانية، وهي اللغة التي يتحدث بها اليهود آنذاك، وقد تضافرت الأخبار على أنه كان يجيد هذه اللغة قراءة وكتابة، وأنه تعلمها بتوجيه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يقرأ لرسول الله الكتب التي ترده بهذه اللغة، وأنه يكتب له بها حين يريد أن يكتب بها. وإن كنا لا نعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجه كتابا معينا بهذه اللغة لأحد، ولا تحفظ لنا الآثار النبوية شيئا من هذا فيما نعلم.
وقد اختلف في الزمن الذي أمر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بتعلم السريانية، فقد ذكر الطبري في تاريخه في حوادث السنة الرابعة للهجرة فقال: وفي هذه السنة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود، وقال لا آمن أن يبدلوا كتابي (1) . .
ولكن روى الإمام أحمد في المسند وابن حجر في الإصابة ما يفيد أن
__________
(1) تاريخ الطبري 2 \ 561(31/200)
الرسول صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت بتعلم السريانية قبل هذا التاريخ، وأعادت هذه الرواية أن تعلمه يعود إلى مقدم الرسول من مكة إلى المدينة، فقد روى خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه زيد بن ثابت، قال: أتي بي النبي مقدمه المدينة - وفي رواية الإمام أحمد: «لما قدم الرسول المدينة - فقيل: هذا غلام من بني النجار، وقد قرأ سبع عشرة سورة، فقرأت عليه، فأعجبه ذلك، فقال: هل تحسن السريانية؟ قلت: لا، فقال: تعلم لغة يهود، فإني ما آمنهم على كتابي - ففعلت فما مضى لي نصف شهر - وفي رواية: سبعة عشر يوما - حتى حذقته، فكنت أكتب له إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له (1) » . .
فقوله في هذه الرواية: «أتي النبي مقدمه المدينة» تفيد فور مقدمه المدينة أو بعيد مقدمه إليها بقليل، وهذا هو الأرجح، والله أعلم.
وأما اللغة الثانية: فهي اللغة الفارسية، وقد عرفنا ذلك من رواية ساقها الطبري في تاريخه في سياق حديثه عن إسلام القائد الفارس الهرمزان، وخلاصة ذلك: أنه أتي عمر بن الخطاب بالهرمزان بعد أسره، فجعل عمر يحاوره، فطلب الهرمزان الأمان من عمر بن الخطاب حتى يشرب كأس ماء طلبها، فأعطاه عمر الأمان حتى يشربها، فألقاها الهرمزان فلم يشربها، وحصل على الأمان من عمر بالحيلة والمكر، وكان الترجمان بين عمر بن الخطاب والهرمزان - الذي يتكلم الفارسية - هو المغيرة بن شعبة إلى أن جاء الترجمان، وكان المغيرة يفقه شيئا من الفارسية، فقال عمر للمغيرة: قل له من أي أرض أنت؟ فقال المغيرة - مترجما: أز كدام أرضي، فقال: مهرجاني، فقال عمر: تكلم بحجتك يا هرمزان، فقال الهرمزان: كلام حي أو ميت؟ قال عمر: بل كلام حي، قال الهرمزان: قد أمنتني، قال عمر: خدعتني، إن للمخدوع في الحرب حكمه، لا الله لا أؤمنك حتى تسلم، فأيقن أنه القتل أو الإسلام، فأسلم، ففرض له عمر على ألفين، وأنزله المدينة، وقال للمغيرة: ما أراك حاذقا - أي
__________
(1) الإصابة 2882 ومسند الإمام أحمد 5 \ 182 و 186(31/201)
بالفارسية - ما أحسن منكم أحد إلا خب، وما خب إلا دق، وإياكم وإياها، فإنها تنقض الإعراب. وأقبل زيد - هو زيد بن ثابت وكان هو الترجمان - فكلمه، وأخبر عمر بقول الهرمزان، والهرمزان بقول عمر (1) . .
من هذا النص الذي ساقه الطبري نرى أن زيد بن ثابت كان يتقن الفارسية أيضا، وأنه كان الترجمان الرسمي بين عمر بن الخطاب وبين من يتكلم هذه اللغة، ولعله لهذا السبب ولغيره من الأسباب الأخرى كان عمر بن الخطاب يحتفظ بزيد بن ثابت بجانبه في المدينة المنورة ولا يبعده عنه - والله أعلم.
__________
(1) تاريخ الطبري 4 \ 88(31/202)
(د) القرآن الكريم:
لا جدال في أن زيد بن ثابت رضي الله عنه كان من كتاب الوحي، وأنه أحد الذين جمعوا القرآن كله - دون أن يفوتهم منه شيء - في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أنس بن مالك: جمع القرآن على عهد رسول الله أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد (1) . .
وقال الشعبي: جمع القرآن على عهد رسول الله ستة نفر: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وسعد بن عبد، وأبو زيد، وكان مجمع بن جارية قد جمع القرآن إلا سورتن أو ثلاثا، وكان ابن مسعود أخذ بضعا وتسعين سورة، وتعلم بقية القرآن من مجمع (2) . وكان زيد قد جمع إلى جمع القرآن الكريم حفظه، ففاق بذلك الأقران، وعرف بينهم بذلك حتى كان الخليفتان عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان يقدمانه في القرآن على غيره، قال سليمان بن يسار: ما كان عمر ولا عثمان يقدمان على زيد أحدا لا في القضاء والفتوى والفرائض والقراءة (3) .، وذاع ذلك بين أهل المدينة وعرف
__________
(1) سير أعلام النبلاء 2 \ 431
(2) طبقات ابن سعد 2 \ 355
(3) طبقات ابن سعد 2 \ 359(31/202)
بينهم، حتى قال قبيصة بن ذؤيب كان زيد رأسا في المدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض (1) .، وعرفت الأجيال اللاحقة هذا التقديم لزيد، فأقروه ولم يعترضوا عليه، حتى قال الشعبي: غلب زيد بن ثابت الناس على اثنتين: الفرائض والقرآن (2) . .
__________
(1) الإصابة برقم 2882
(2) تهذيب التهذيب 3 \ 399 والاستيعاب 1 \ 189 وسير أعلام النبلاء 2 \ 432(31/203)
(هـ) الحديث النبوي الشريف:
لم يكن الكثير من الصحابة بعامة من الذين يكثرون من رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا يرون الإنصراف إلى القرآن أولى، بخاصة أن القرآن لم يكن مجموعا ولا منشورا في العهد الأول، ولذلك انصرفت جهودهم إليه، وأحبوا من الناس أن تنصرف جهودهم إليه، ويظهر هذا الاتجاه واضحا في مسلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما خطر له أن يجمع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فطفق يستخير الله تعالى شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا. وعندما شيع رضي الله عنه جماعة من الصحابة يقصدون الكوفة، حيث قال لهم: إنكم تأتون أهل قرية - يعنى: الكوفة - لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث فتشغلوهم، جردوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولعل مراده التثبت في رواية الحديث.
ولذلك لا نستغرب إن وجدنا كبار الصحابة وأقدمهم إسلاما كانوا من المقلين في التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل زيد بن ثابت من هؤلاء المقلين،(31/203)
فلم يرو له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى اثنين وتسعين حديثا، اتفق البخاري ومسلم على خمسة منها، وانفرد البخاري بأربعة منها، وانفرد مسلم بحديث واحد (1) . .
ولكن زيد بن ثابت رضي الله عنه كان دقيقا في روايته للحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الدقة نقله مقرونا بالظرف الذي قيل فيه الحديث، بخاصة إن كان لهذا الظرف تأثير في الحكم، نذكر - من ذلك على سبيل المثال ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن قبيصة بن ذؤيب: «أخبرت عائشة آل الزبير أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عندها ركعتين بعد العصر (2) » ، فكانوا يصلونها، قال قبيصة: فقال زيد بن ثابت: يغفر الله لعائشة نحن أعلم برسول الله من عائشة، إنما كان ذلك لأن ناسا من الأعراب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجير، فقعدوا يسألونه ويفتيهم حتى صلى العصر، فانصرف إلى بيته، فذكر أنه لم يصل بعد الظهر شيئا، فصلاهما بعد العصر (3) . .
وسمع زيد بن ثابت أن رافع بن خديج يحدث عن رسول الله بالنهي عن تأجير المزارع، فقال زيد: أنا والله أعلم بالحديث منه، «إنما أتاه رجلان من الأنصار قد اقتتلا، فقال رسول الله: إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع (4) » فسمع رافع بن خديج آخر الحديث «لا تكروا المزارع (5) » . . وفي رواية عبد الرزاق: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع بن خديج، والله ما كان هذا الحديث هكذا، «إنما كان لذلك الرجل أكرى لرجل أرضا، فاقتتلا واستبا بأمر تدارءا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان هذا شأنكم فلا تكروا الأرض (6) » فسمع رافع آخر الحديث، ولم يسمع أوله (7) . وكان زيد بن ثابت يكره كتابة الحديث، وكان يرى أن نهي الرسول عن كتابة الحديث كان عاما
__________
(1) عنوان النجابة ص 99
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/185) .
(3) مسند الإمام أحمد 5 \ 185
(4) سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3927) ، سنن أبو داود البيوع (3390) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2461) ، مسند أحمد بن حنبل (5/182) .
(5) أبو داود في البيوع باب المزارعة، والنسائي في المزارعة باب النهي عن كراء الأرض ومسند الإمام أحمد 5 \ 187 وشرح الزرقاني 3 \ 376 والمغني 5 \ 385
(6) سنن النسائي كتاب الأيمان والنذور (3927) ، سنن أبو داود البيوع (3390) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2461) ، مسند أحمد بن حنبل (5/182) .
(7) عبد الرزاق 8 \ 97(31/204)
ليس مخصوصا بزمن دون زمن، فقد دخل مرة على معاوية بن أبي سفيان فحدثه حديثا، فأمر معاوية إنسانا أن يكتب، فقال زيد: إن رسول الله نهى أن نكتب شيئا من حديثه، فمحا معاوية (1) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد 5 \ 182(31/205)
(و) القيافة:
كان زيد بن ثابت بذكائه الوقاد ودقة ملاحظته يجيد القيافة، ويعرف أن هذا ابن فلان أو فلانة، وذاك ابن فلان أو فلانة، بالنظر إلى هيئته العامة، فقد روى أنس بن سيرين قال: دخل علينا زيد بن ثابت، ونحن ستة إخوة، فيهم محمد بن سيرين، فقال: إن شئتم أخبرتكم من أخو كل واحد لأمه، هذا وهذا لأم، وهذا وهذا لأم، وهذا وهذا لأم، فما أخطأ شيئا (1) . .
__________
(1) طبقات ابن سعد7 \ 193(31/205)
(ز) الفقه والفرائض:
(1) أحد الفقهاء الستة:
كان زيد بن ثابت من فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم، بل كان أحد ستة انتهى إليهم علم الفقه من الصحابة وقاموا بعمل الفتوى، وإذا كان الاختلاف قد وقع في تسمية هؤلاء الستة الذين آلت إليهم الفتوى، إلا أنه لم يقع الاختلاف في تسمية زيد بن ثابت رضي الله عنه واحدا من هؤلاء الستة المفتين.
فالمسور بن مخرمة يعد هؤلاء الستة: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت (1) . بينما يعد مسروق بن الأجدع هؤلاء الستة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وأبا موسى الأشعري (2) ،
__________
(1) طبقات ابن سعد 2 \ 350 و 351
(2) الإصابة برقم 2882 وسير أعلام النبلاء 2 \ 433 وتهذيب التهذيب 3 \ 399.(31/205)
وبذلك نرى زيد بن ثابت لم يغفل إيراد اسمه بين المفتين من الصحابة أحد يعتد به.
وما جمعناه من فقه زيد بن ثابت رضي الله عنه يشهد على فقهه.(31/206)
(2) إتقانه الفرائض مع الفقه:
ولما كان كثير من الفقهاء من يتقن الأحكام ولا يتقن المواريث - أعني: الفرائض - أو يتقن المواريث ولا يتقن الأحكام، كما قال المغيرة بن مقسم: لما مات إبراهيم النخعي رأينا أن يخلفه الأعمش، فأتيناه فسألناه عن الحلال والحرام فإذا لا شيء، فسألناه عن الفرائض فإذا هو عنده، ثم أتينا حمادا فسألناه عن الفرائض فإذا لا شيء، فسألناه عن الحلال والحرام فإذا هو صاحبه، قال: فأخذنا الفرائض عن الأعمش، وأخذنا الحلال والحرام عن حماد عن إبراهيم (1) . .
أقول: لما كان الأمر كذلك اقتضى التنويه إلى أن زيد بن ثابت كان يتقن الفرائض إتقانا تاما إلى جانب إتقانه الحلال والحرام، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتفوق في الفرائض والمواريث حيث قال عليه الصلاة والسلام: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأشدهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت (2) » . .
وقد عرف الناس ذلك في زيد بن ثابت، حتى قال قبيصة بن ذؤيب: كان زيد بن ثابت رأسا في المدينة في القضاء والفتوى والقراءة والفرائض (3) . . وقاك الشعبي: غلب زيد الناس على اثنتين: الفرائض والقرآن (4) .، وقال سليمان بن
__________
(1) طبقات ابن سعد 6 \ 332
(2) الترمذي في مناقب أهل البيت، والنسائي برقم 3793 وانظر: طبقات ابن سعد 2 \ 359
(3) الإصابة 2882
(4) تهذيب التهذيب 3 \ 399 والاستيعاب 1 \ 189 وسير أعلام النبلاء 2 \ 432(31/206)
يسار: ما كان عمر ولا عثمان يقدمان أحدا على زيد بن ثابت في القضاء والفتوى والفرائض والقراءة (1) . .
__________
(1) طبقات ابن سعد 2 \ 359(31/207)
(3) إتقانه القضاء مع الفقه:
ومن الفقهاء من يتقن الأحكام النظرية، ولا يتقن تطبيق هذه الأحكام في الواقع العملي، أما زيد بن ثابت فقد كان يتقن الأحكام ويتقن تطبيقها على الحوادث، والنصوص المتقدمة التي ذكرناها تنوه بذلك عندما ذكرت إتقانه للقضاء حتى قال الشعبي - رحمه الله تعالى - القضاة أربعة: عمر وعلي وزيد وابن مسعود (1) .، وكان الشعبي يرى أنه لم يرق أحد رقي هؤلاء الأربعة في القضاء.
__________
(1) سير أعلام النبلاء 2 \ 434(31/207)
(4) عمل أهل المدينة بقوله:
لقد تألق نجم زيد بن ثابت في المدينة، وعمل بفتاواه أهلها، وأصبحوا يرون رأيه هو الرأي، وما عداه هو دونه، بل صاروا لا يتورعون عن التشنيع بمن يرد رأيه، فقد روى سليمان بن يسار أن زيد بن ثابت كان يقول: إذا طلق الرجل زوجته واحدة أو اثنتين فرأت أول قطرة من حيضتها الثالثة فلا رجعة له عليها، فرددت ذلك من قوله، فشنعني أهل المدينة فقالوا: هذا يرد على زيد بن ثابت، فسألت علماء أهل المدينة رجلا رجلا فأثبتوا أن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء كانوا يجعلون له الرجعة عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة (1) . .
من ذلك نرى أنه رغم وجود اجتهاد آخر من صحابة أجلاء كعمر ومعاذ وأبي الدرداء يخالف اجتهاد زيد بن ثابت في هذه المسألة، فإن أهل المدينة، لم يقبلوا بقولهم بديلا عن قول زيد وعملهم بقوله، وهذه مرتبة من الثقة بعلم زيد لا تبلغ بيسر ولا سهولة.
__________
(1) مصنف عبد الرزاق 6 \ 319(31/207)
(5) سؤال الخلفاء إياه وعملهم بقوله:
كان زيد بن ثابت مستشارا فقهيا لجميع الخلفاء بدءا من أبي بكر الصديق وإنتهاء بمروان بن الحكم - أمير المدينة المنورة - وإن هذا الإجماع على استشارته يدل على أن زيدا كان له من التفكر الفقهي المحكم والمحاكمة الصادقة والرأي الناضج ما أهله للاحتفاظ بهذه المكانة عند جميع الخلفاء الذين عاصرهم.
لقد كان أبو بكر لا يتوانى عن استشارة زيد، واستدعائه ليكون بين أهل الشورى، فقد روى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر الصديق كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه، ودعا رجالا من المهاجرين والأنصار، دعا عمر، وعثمان، وعليا، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وكل هؤلاء كان يفتى في خلافة أبي بكر (1) . .
وكان عمر بن الخطاب إذا حزبه أمر يدعو أهل الشورى الذين كان يدعوهم أبو بكر الصديق، وفيهم زيد بن ثابت (2) . وكان يستشيره ويسأله في مسائل، منها أنه استشاره واستشار علي بن أبي طالب في انتهاء العدة بالوضع، فقال زيد: قد حلت، وقال علي: أربعة أشهر وعشرا - فقال زيد لعلي: أرأيت إن كانت يائسا؟ قال علي: فآخر الأجلين، فقال عمر: لو وضعت ذا بطنها وزوجها على نعشه لم يدخل حفرته لكانت قد حلت (3) .، أي أن عمر قد رجح الأخذ بقول زيد بن ثابت، وهذا ما جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحتفظ بزيد بن ثابت مع من يحتفظ بهم في المدينة المنورة من أهل شوراه ويضن بإرسالهم إلى الآفاق، فقد جاء في طبقات ابن سعد: أن عمر كان يفرق الناس في البلدان، ويوجههم في الأمور المهمة، ويطلب إليه الرجال المسمون، فيقال
__________
(1) طبقات ابن سعد 2 \ 350
(2) طبقات ابن سعد 2 \ 350
(3) ابن أبي شيبة 1 \ 223(31/208)
له: زيد بن ثابت، فيقول: لم يسقط على مكان زيد، ولكن أهل البلد يحتاجون إلى زيد فيما يجدون عنده مما يحدث لهم ما لا يجدون عند غيره (1) . .
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يسأل زيد بن ثابت عن الحكم الشرعي فيما يعرض له من الوقائع، فقد طلق حبان بن منقذ إمراته وهي ترضع ابنا له، فمكثت سبعة أشهر أو ثمانية أشهر لا تحيض، فقيل له: إن مت ورثتك، فقال: احملوني إلى عثمان، فحملوه فأرسل إلى علي وزيد بن ثابت فسألهما؟ فقالا: نرى أن ترثه، قال: ولم؟ قالا: لأنها ليست من اللائي يئسن من المحيض، ولا من اللائي لم يحضن، وإنما منعها من الحيض الرضاع، فأخذ الرجل ابنه منها، فلما فقدته حاضت حيضة، ثم حاضت في الشهر الثاني حيضة أخرى، ثم مات قبل أن تحيض الثالثة، فورثته (2) . وكان معاوية بن أبي سفيان يسأل زيد بن ثابت فيما يعرض له من الحوادث، ومن ذلك أن الأحوص طلق امراته، ثم مات بالشام حين دخلت امرأته في الحيضة الثالثة، فكتب معاوية بن أبي سفيان إلى زيد بذلك، فكتب إليه زيد: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت، فلا رجعة ولا ميراث (3) . . وسأله عن ميراث الجد، فكتب إليه زيد بن ثابت رضي الله عنه: إنك كتبت إلى تسألني عن الجد، الله أعلم، وذلك مما لم يكن يقضي فيه إلا الأمراء - يعني الخلفاء - وقد حضرت الخليفتين قبلك يريد: عمر وعثمان - يعطيانه مع الأخ الواحد النصف، ومع الاثنين الثلث فإن كثرت الأخوة لم ينقصوه عن الثلث (4) . وكان مروان بن الحكم قبل توليه الخلافة - لأن زيدا توفي ومروان أمير
__________
(1) طبقات ابن سعد 2 \ 360
(2) ابن أبي شيبة 1 \ 253 والمحلى 10 \ 225 و 269 وعبد الرزاق 6 \ 340 والمغني 7 \ 465.
(3) ابن أبي شيبة 1 \ 253 ب وسنن البيهقي 7 \ 415 وتفسير القرطبى 2 \ 444
(4) عبد الرزاق 10 \ 267 والموطأ 2 \ 510 والمحلى 9 \ 285 وكشف الغمة 2 \ 39(31/209)
المدينة المنورة - يسأل زيد بن ثابت فيما يعرض له من الحوادث، ومن ذلك: أنه حدث أن تزوج الحارث بن الحكم امراة، فقال عندها فرآها خضراء - أي سمراء - فطلقها ولم يمسها، فأرسل مروان بن الحكم إلى زيد بن ثابت فسأله، فقال زيد: لها الصداق كاملا، فقال مروان: إنه لا يتهم، قال زيد: أرأيت يا مروان لو كانت حبلى كنت مقيما عليها الحد؟ قال: لا، قال: فلا إذن (1) . .
وروى ثويب قال: رمى البحر بسمك كثير ميتا، فأتينا أبا هريرة فاستفتيناه، فأمرنا بأكله، فرغبنا عن فتيا أبي هريرة، فأتينا مروان، فأرسل إلى زيد بن ثابت يسأله؟ فقال: حلال، كلوه (2) . .
وسأله عن تسري الرجل بمطلقته الأمة في حادثة وقعت في عصره، فقد تزوج رجل أمة كانت لكثير بن الصلت، فطلقها ألبتة، ثم ابتاع الجارية من كثير، فقال له كثير: لا تعجل حتى أرجع إليك، فأتى مروان بن الحكم يذكر ذلك له، فقال له مروان: انطلق إلى زيد بن ثابت فاسأله عن ذلك، فانطلق إلى زيد بن ثابت، فسأله، فقال: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. فانطلق كثير إلى الرجل فأخبره. فقال الرجل: اشهدوا أني أعتقتها وتزوجتها، وأصدقها كذا وكذا، فقال كثير: لا تعجل حتى أرجع إليك، فأتى زيد بن ثابت، فذكر ذلك له، فقال: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. .
وكان عبد الملك بن مروان لا يعدل بقول زيد بن ثابت قولا غيره، ويعتر زيد بن ثابت نعم المشير على عثمان بن عفان، ولما كان عبد الملك يعرف حب أهل المدينة لزيد بن ثابت، وأخذهم بقوله، فإنه كان يستغل هذا الحب وهذا
__________
(1) عبد الرزاق 6 \ 286 وابن أبي شيبة 1 \ 217 وسنن البيهقي 7 \ 256 والمحلى 9 \ 483
(2) عبد الرزاق 4 \ 506 وسنن البيهقي 9 \ 254 والموطأ 2 \ 495 وشرح السنة 11 \ 249 وكشف الغمة 1 \ 240(31/210)
الالتزام ليطلب منهم الأخذ بما جاء عن عثمان بن عفان باعتبار أن زيد بن ثابت قد أشار به عليه، فقد قال عبد الملك لأهل المدينة مرة: يا أهل المدينة، إن أحق الناس أن يلزم الأمر الأول لأنتم، وقد سالت علينا أحاديث من قبل هذا المشرق - يعنى: العراق - لا نعرفها، ولا نعرف إلا قراءة القرآن، فالزموا ما في مصحفكم الذي جمعكم عليه الإمام المظلوم - عثمان - وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليها إمامكم المظلوم، فإنه قد استشار في ذلك زيد بن ثابت، ونعم المشير كان للإسلام، فأحكموا ما أحكما، وأسقطوا ما شذ عنهما (1) . .
__________
(1) طبقات ابن سعد 2 \ 233(31/211)
(6) شواذه:
إننا لو تأملنا فيما جمعناه من فقه زيد بن ثابت لا نجد فيه قولا شاذا متروكا لا يعمل به، بل كل اجتهاداته وفتاواه أخذ بها أقوام وعملوا بها، وهذه ملاحظة وإن كنا لاحظناها اليوم في فقه زيد بن ثابت رضي الله عنه، إلا أنه قد سبقنا إليها تلميذه وحامل فقهه الإمام سعيد بن المسيب رحمه الله. فقد قال - رحمه الله تعالى: " لا أعلم لزيد قولا لا يعمل به، مجمع عليه في الشرق أو الغرب، أو يعمل به أهل مصر، وإنه ليأتينا عن غيره أحاديث وعلم ما رأيت أحدا من الناس يعمل بها، ولا من هو بين ظهرانيهم (1) . .
__________
(1) طبقات ابن سعد 2 \ 360(31/211)
(7) إمتناعه عن الفتوى فيما لم يقع:
لقد كان لتحذير الرسول صلى الله عليه وسلم من الاجتراء على الفتوى أثر كبير في نفوس فقهاء السلف رضوان الله عليهم، لأن الخطأ في الفتوى قد يكون بداية إنحراف عن دين الله تعالى، ولذلك كان الواحد منه يدفع الفتوى عن نفسه ما استطاع، ويود لو أنه لا يفتي أبدا، ولكن الفتوى أمر لا مناص منه للعلماء الفقهاء، ولذلك فإنهم كانوا يضيقون دائرتها ما استطاعوا، ومن أساليب تضييق(31/211)
دائرة الفتوى: الامتناع عن الفتوى فيما لم يقع من الحوادث.
وقد كان شأن زيد بن ثابت رضي الله عنه شأن غيره من فقهاء السلف في ذلك، قال الزهري: بلغني أن زيد بن ثابت كان يقول إذا سئل عن الأمر: أكان هذا؟ فإن قالوا نعم، حدث فيه بالذي يعلم، وإن قالوا: لم يكن، قال: فذروه حتى يكون (1) ، بل وكان أحيانا يحلف السائل أن مسألته واقعة - إمعانا في دفع الفتوى - فإذا حلف أفتاه بما يعدم، فقد حدث موسى بن علي قال: سمعت أبي قال: إنه كان الرجل ليأتي زيد بن ثابت فيسأله عن الشيء فيقول: الله أنزل هذا؟ فإن قال: الله أنزل هذا، أفتاه، وإن لم يحلف تركه (2) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 2 / 438.
(2) صفوة الصفوة 1 \ 706.(31/212)
(8) منعه عن كتابة فتاواه:
وكان علماء السلف على وجه العموم يكرهون أن تكتب فتاواهم، وقد أثر ذلك عن كثير منهم، وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه أحد أولئك الذين يكرهون أن تكتب فتاواهم. فقد روى ابن سعد أن مروان بن الحكم أجلس لزيد بن ثابت رجلا وراء الستر، ثم دعاه - أي دعا زيد بن ثابت - فجلس يسأله ويكتبون، فنظر إليهم زيد فقال: يا مروان عذرا، إنما أقول برأيي (1) . .
__________
(1) طبقات ابن سعد 2 \ 361(31/212)
(9) تأثره بفقه عمر بن الخطاب:
من استقراء فقه الصحابة ودراسته دراسة دقيقة يظهر لنا أن الصحابة رضي الله عليهم كانوا على مدارس فقهية متعددة، فكان عمر بن الخطاب أستاذا لمدرسة الرأي، وكان من أكبر أعضاء هذه المدرسة عبد الله بن مسعود (1) . وزيد بن ثابت، وكان علي بن أبي طالب أستاذ مدرسة أخرى للرأي، وكان من أكبر أعضاء هذه المدرسة أبي بن كعب، وأبو موسى
__________
(1) انظر مقدمة كتابنا '' موسوعة فقه عبد الله بن مسعود ''(31/212)
الأشعري، وعبد الله بن عباس (1) . حتى قال الشعبي ونحوه عن مسروق: علماء هذه الأمة بعد نبيها ستة، عمر وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت، فإذا قال عمر قولا، وقال هذان قولا كان قولهما لقوله تبعا؛ وعلي وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري، فإذا قال علي قولا، وقال: هذان قولا كان قولهما لقوله تبعا (2) . .
ونحن مع اعترافنا بتأثر زيد بن ثابت بعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، إلا أننا لا نتفق مع الشعبي ومسروق في قولهما أن قول زيد لقول عمر تبع، بل إننا لنؤكد استقلال زيد بالاجتهاد والفكر.
ولقد استقرأنا ما جمعناه من فقه زيد بن ثابت في كتابنا " موسوعة فقه زيد بن ثابت " وقارناه مع ما جمعنا من فقه عمر بن الخطاب في كتابنا " موسوعة فقه عمر بن الخطاب " فوجدنا أن زيد بن ثابت كثيرا ما يختلف في الأحكام مع عمر بن الخطاب، ومما أحصيناه في ذلك ما يلي:
- كان زيد بن ثابت لا يورث ذوي الأرحام (3) . بينما كان عمر بن الخطاب يورثهم (4) . .
- وكان زيد بن ثابت لا يورث مولى الموالاة (5) . وكان عمر بن الخطاب يورثه، ويورث بالولاء باليد، وبالنصرة، وبالجوار (6) . .
- وكان زيد بن ثابت يورث الزانية والملاعنة من ولدها فرضها، ولا يجعل عصبتها عصبته، بل يضع الباقي في بيت المال (7) . وكان عمر بن الخطاب يجعل
__________
(1) انظر مقدمة كتابنا '' موسوعة فقه عبد الله بن عباس ''
(2) طبقات ابن سعد 2 \ 351
(3) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت، مادة (أرث \ 2 أ 1) و (أرث \ 18)
(4) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت، مادة (أرث \ 13)
(5) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت، مادة (أرث 2 \ جـ
(6) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب، مادة (أرث \ 7)
(7) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت، مادة (أرث \ 17(31/213)
عصبة الأم الزانية والملاعنة عصبة لابنها من الزنا والملاعن عليه ويجعل لهم الباقي بعد أخذ ذوي الفروض فرائضهم (1) . .
- وكان زيد بن ثابت لا يأخذ بالرد على أصحاب الفروض (2) .، وكان عمر بن الخطاب يرد عليهم (3) . .
- وكان زيد بن ثابت لا يشترط الإستهلال لثبوت حياة المولود (4) .، وكان عمر لا يثبت حياة المولود إلا باستهلاله (5) . .
- وكان زيد بن ثابت يرى أن المولى منها تبين بمضي أربعة أشهر على الإيلاء منها (6) .، وكان عمر يرى أنها لا تبين بمضي المدة، ولكن يوقف المولي، فإما أن يفيء أو إما أن يطلق (7) . .
- وكان زيد بن ثابت يرى أن تكبير التشريق يبدأ من ظهر يوم النحر إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق (8) .، وكان عمر بن الخطاب يرى أنه يبدأ من بعد صلاة الفجر من يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق (9) . .
- وكان زيد بن ثابت يرى أن دية القتل الخطأ مائة من الإبل توزع أسنانها كما يلي: ثلاثون جذعة، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض.
وفي رواية ثانية: ثلاثون حقة، وثلاثون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض.
وفي رواية ثالثة: ثلاثون جذعة، وثلاثون بنت لبون، وعشرون ابن لبون،
__________
(1) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب، مادة (أرث \ 5)
(2) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت، مادة (أرث \ 19)
(3) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب، مادة (أرث \ 10)
(4) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت، مادة (استهلال)
(5) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب، مادة (اجهاض \ 4)
(6) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت، مادة (إيلاء)
(7) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب، مادة (إيلاء \ 2 أ)
(8) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت، مادة (تكبير \ 2)
(9) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب، مادة (تكبير \ 2 أ)(31/214)
وعشرون بنت مخاض: (1) . بينما يرى عمر بن الخطاب أن المائة موزعة كما يلي: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون بنت مخاض (2) . .
- وكان زيد بن ثابت يرى في الجرح السمحاق أربعة أبعرة (3) . بينما يرى عمر بن الخطاب أن فيها نصف ما في الجرح الموضحة، وكان يرى في الموضحة خمسا من الإبل (4) . .
- وكان زيد بن ثابت يرى أن القرء المذكور في الآية الكريمة في سورة البقرة (228) {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (5) هو الطهر، وبناء على ذلك فإن عدة المطلقة تنتهي بابتداء الحيضة الثالثة (6) . وأن للزوج الذي طلق زوجته طلاقا رجعيا أن يعيدها إلى عصمة الزوجية ما لم تدخل في الحيضة الثالثة، فإذا بدأت الحيضة الثالثة فقد بانت منه (7) . .
بينما يرى عمر بن الخطاب أن القرء المذكور في الآية المتقدمة هو الحيض، وبناء على ذلك فإن عدة المطلقة تنتهي بدخولها في الطهر بعد انتهاء الحيضة الثالثة، وذلك باغتسالها منها (8) . وأن للزوج الذي طلق زوجته طلاقا رجعيا أن يعيدها إلى عصمة الزوجية ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة، وإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة فقد بانت ولا رجعة له عليها (9) . .
- وكان زيد بن ثابت يرى أن الرجل إن قال لزوجته في الطلاق أنت خلية، أو أنت برية، أو أنت بتة، أو أنت بائن، ونحوها من الكنايات الظاهرة
__________
(1) موسوعة فقه زيد بن ثابت، مادة (جناية \ 3 أ 3)
(2) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة (جناية \ 5 ب 3 أ)
(3) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت، مادة (جناية \ 3 ج)
(4) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة جباية (5 ب 4 هـ)
(5) سورة البقرة الآية 228
(6) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت، مادة (عدة \ 2 جـ 1)
(7) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت، مادة (رجعة \ 2)
(8) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة (عدة \ 2 ب 1)
(9) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة (رجعة \ 4)(31/215)
في الطلاق فإن الطلاق يقع بها ثلاثا (1) . بينما يرى عمر بن الخطاب أن الطلاق لا يقع بهذه الكنايات إلا واحدة بائنة (2) . .
- وكان زيد بن ثابت لا يفرق في إباحة العزل في الوطء بين الحرة والأمة (3) .، بينما كره عمر بن الخطاب العزل عن الحرة وأباحه عن الأمة (4) . .
- وكان زيد بن ثابت يرى أنه يجوز لمن تبع الجنازة أن ينصرف منها بعد الصلاة عليها من غير استئذان أهلها بالانصراف (5) .، بينما يرى عمر بن الخطاب أنه لا يجوز له الانصراف منها حتى يستأذن أهلها بالانصراف (6) . .
- وكان زيد بن ثابت يرى أن نفقة الشخص الذي لا يقدر أن ينفق على نفسه واجبة على ورثته بقدر ميراثهم منه رجالا ونساء (7) .، بينما يرى عمر بن الخطاب أن نفقته واجبة على عصبته موزعة عليهم على رءوسهم بقطع النظر عن مقدار استحقاقهم من الميراث (8) . .
وكان زيد بن ثابت يرى أن أكل شيء من لحم الجزور، أو أكل شيء مما مسته النار ينقض الوضوء (9) .، بينما يرى عمر بن الخطاب أن الوضوء لا ينقضه أكل شيء من ذلك (10) . .
__________
(1) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت، مادة (طلاق \ 4 ب)
(2) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة (طلاق \ 7 ب)
(3) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت مادة (عزل \ 2)
(4) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة (عزل \ 2 أب)
(5) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت مادة (موت \ 3)
(6) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب مادة (موت \ 11)
(7) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت مادة (نفقة \ 2)
(8) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب، مادة (نفقة \ 2)
(9) ر: موسوعة فقه زيد بن ثابت، مادة (وضوء \ 2)
(10) ر: موسوعة فقه عمر بن الخطاب، مادة (وضوء \ 8 ب جـ)(31/216)
(10) حامل فقه زيد بن ثابت:
الذين وردوا منهل زيد بن ثابت واغترفوا منه كثير، ولكن الذي حظي بقسط أوفي هو الإمام الجليل سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى (1) . حتى إنه
__________
(1) طبقات ابن سعد 2 \ 380(31/216)
ليكاد لا يفارق قوله إلا قليلا، قال بكير بن الأشج: كل ما أخذ به سعيد بن المسيب من القضاء، وما كان يفتي به عن زيد بن ثابت، وكان كل قضاء أو فتوى جليلة ترد عليه تحكى له عن بعض من هو غائب عن المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم إلا قال: فأين زيد بن ثابت من هذا؟ إن زيد بن ثابت أعلم الناس بما تقدم من قضاء، وأبصرهم بما يرد عليه مما يسمع فيه بشيء (1) . . ثم تركز أكثر فقه زيد بن ثابت في مذهب الإمام مالك رحمه الله. والإمام مالك هو الذي يقول: إمام الناس عندنا زيد بن ثابت وبعده عبد الله بن عمر - سيأتي بعد قليل.
__________
(1) طبقات ابن سعد 2 \ 360(31/217)
(جـ) الحساب:
كان زيد بن ثابت بارعا بالحساب، وهذا أمر وإن لم يذكره به أحد، إلا أن الأعمال التي أسندت إليه والتي تحتاج إلى براعة في الحساب تدل على ذلك، من ذلك تفوقه في علم الفرائض - المواريث - وهو علم يستند على الحساب، وإسناد رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة الغنائم إليه أكثر من مرة، ومساعدته عمر بن الخطاب في تدوين الدواوين، وقيامه بأمانة بيتا مال المسلمين في عهد عثمان، سيأتي الكلام على ذلك بعد قليل.(31/217)
(ط) ثناء العلماء عليه:
لن نطيل في ذكر أقوال العلماء في الثناء على علم زيد بن ثابت رضي الله عنه بعد أن أثنى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «أفرض أمتي زيد بن ثابت (1) » .، وسأكتفي بذكر أربعة أقوال لأربعة من - قمم العلم في الإسلام.
الأول: أن عبد الله بن عباس أخذ لزيد بن ثابت بالركاب ليركب، فقال له زيد: تنح يا ابن عم رسول الله، فقال ابن عباس: هكذا نفعل بعلمائنا وكبرائنا (2) . .
__________
(1) أخرجه الترمذي في مناقب أهل البيت
(2) الإصابة برقم 2882 وصفة الصفوة 1 \ 706 وطبقات ابن سعد 2 \ 360(31/217)
والثاني: أن أبا هريرة لما مات زيد بن ثابت قال: مات اليوم حبر الأمة، وعسى الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفا (1) .
والثالث: أن سعيد بن المسيب قال: إن زيد بن ثابت أعلم الناس بما تقدم من قضاء، وأبصرهم بما ورد عليه مما لم يسمع فيه شيء. . لا أعلم لزيد قولا لا يعمل به، مجمع عليه في الشرق والغرب، أو يعمل به أهل مصر، وإنه ليأتينا عن غيره أحاديث وعلم ما رأيت أحدا من الناس يعمل بها ولا من هو بين ظهرانيهم (2) . .
والرابع: أن الإمام مالكا قال: إمام الناس عندنا بعد عمر بن الخطاب زيد بن ثابت، وكان إمام الناس بعده عندنا عبد الله بن عمر (3) .، ولولا خوف الإطالة لعقدنا مقارنة بين فقه زيد بن ثابت رضي الله عنه وفقه الإمام مالك؛ لنرى مدى أخذ الإمام مالك بفقه زيد.
__________
(1) تهذيب التهذيب 3 \ 399 صفة الصفوة 1 \ 707.
(2) طبقات ابن سعد 2 \ 360
(3) الاستيعاب 1 \ 189(31/218)
7 - سيرته مع الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء:
(أ) زيد مع الرسول صلى الله عليه وسلم:
(1) قلنا إن زيد بن ثابت رضي الله عنه كان يجيد القراءة والكتابة عندما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة من مكة، وأن رسول الله قد أمر زيد بن ثابت بتعلم لغة أو لغات أخرى غير العربية، كان رسول الله يحتاج إليها في مراسلاته كرئيس دولة، فتعلمها زيد، ولذلك فقد اتخذه الرسول كاتبا له، يكتب الوحي النازل من السماء ويكتب له كتبه إلى القوم وإلى ملوك الأرض (1) . وأراد رسول الله أن يحسن مستوى زيد بالكتابة فجعله في عداد الذين نالهم تعليم من لا يملك فداء من أسرى بدر (2) . .
__________
(1) تاريخ الطبري 6 \ 179
(2) طبقات ابن سعد 2 \ 22(31/218)
ولازم زيد رسول الله. ككاتب له، لا يفارقه، وكثيرا ما يكون إلى جنبه، قال زيد: " كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، فما وجدت ثقل شيء أثقل من فخذ رسول الله، ثم سري عنه، فقال لي: اكتب، فكتبت في كتف {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (1) فقام عمرو بن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - لما سمع فضيلة الجهاد فقال: يا رسول الله فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ يا زيد، فقرأت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (3) الآية كلها. قال زيد: أنزلها الله وحدها، فألحقها، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف. وكان زيد كثيرا ما يجلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤلف القرآن من الرقاع عنده (4) . .
(2) وخص رسول الله زيد بن ثابت بشيء من الرعاية والتوجيه، وعلمه بعض الأدعية ليدعو بها، ويتعاهد به نفسه وأكله كل يوم فقال له: «يا زيد قل كل يوم حين تصبح: لبيك اللهم لبيك وسعديك، والخير في يديك، ومنك وبك وإليك، اللهم ما قلت من قول أو من نذر، أو حلفت من حلف فمشيئتك بين يديه، ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بك، إنك على كل شيء قدير، اللهم ما صليت من صلاة فعلى من صليت وما لعنت من لعن فعلى من لعنت، إنك أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلما وألحقني بالصالحين، أسألك اللهم الرضى بعد القضاء وبرد العيش بعد
__________
(1) سورة النساء الآية 95
(2) سورة النساء الآية 95
(3) سورة النساء الآية 95
(4) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل برقم 1728(31/219)
الممات، ولذة النظر إلى وجهك، وشوقا إلى لقائك من غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، أعوذ بك اللهم أن أظلم أو أظلم، أو أعتدي أو يعتدى علي، أو أكسب خطيئة محبطة، أو ذنبا لا يغفر، اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، ذا الجلال والإكرام، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا، وأشهدك وكفى بك شهيدا، أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، لك الملك ولك الحمد وأنت على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبدك ورسولك، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنت تبعث من في القبور، وأشهد أنك إن تكلني إلي نفسي تكلني إلى ضيعة وعورة وذنب وخطيئة، وأني لا أثق إلا برحمتك، فاغفر لي ذنبي كله، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم (1) » . .
(3) ولما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيد إجادة الحساب عهد إليه بإحصاء الناس يوم خيبر وحساب الغنائم لهم. فأحصاهم ألفا وأربعمائة، وأحصى الخيل مائتي فرس، وكان السهمان على ثمانية عشر سهما لكل مائة فرس، وللخيل أربعمائة سهم (2) . .
كما أوكل إليه يوم الجعرانة إحصاء الناس والغنائم - بعد أن أعطى منها عليه الصلاة والسلام ما أعطى - ثم قسم الغنائم على الناس، فكانت سهامهم لكل رجل أربع من الإبل وأربعون شاة، فإن كان فارسا أخذ اثني عشر من الإبل وعشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس لم يسهم له (3) . - على ما ذكره ابن سعد -.
__________
(1) مسند الإمام أحمد 5 \ 191
(2) طبقات ابن سعد 2 \ 107
(3) طبقات ابن سعد 2 \ 153(31/220)
(ب) زيد مع أبي بكر:
لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجتمع كبار الصحابة في السقيفة لاختيار خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتولى رئاسة الدولة، ويدبر أمور المسلمين كان من جملة الآراء التي ظهرت في السقيفة أن يقوم بأمر المسلمين خليفتان: أحدهم من المهاجرين، والثاني من الأنصار، ولكن زيد بن ثابت بنظره الثاقب أدرك خطورة هذه الفكرة، فعارضها بشدة وقام قي الناس خطيبا فقال: إن رسول الله كان من المهاجرين، وإنما الإمام إنما يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول صلى الله عليه وسلم (1) . .
ولما ولي أبو بكر الصديق الخلافة اتخذ زيد بن ثابت كاتبا (2) .، ومشيرا، فكان زيد مع أهل الشورى، يستشار معهم، ويخصه أبو بكر بالشورى فيما يرى فيه المصلحة في استشارته. واشترك زيد بالقتال مع الجيش السائر لقتال المرتدين، وأصيب في كتفه بسهم ولكنه لم يضره كما تقدم في حديثنا عن جهاده.
ولما كان زيد بن ثابت من كتاب الوحي الذين جعلوا القرآن كله في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عهد إليه أبو بكر بجمع القرآن الكريم فقال زيد: فهو الله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، ثم أخذ يجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى تم جمع القرآن في مصحف، فسلم هذه الصحف التي جمع القرآن فيها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه (3) .، وكان هذا أهم ما قام به زيد من أعمال في عهد أبي بكر.
__________
(1) طبقات ابن سعد 3 \ 212 وسير أعلام النبلاء 2 \ 433 ومسند الإمام أحمد 5 \ 186 ومسند الطيالسي برقم 602
(2) تاريخ الطبري 6 \ 179
(3) ر: مسند الإمام أحمد 5 \ 188 وصفة الصفوة 1 \ 704 وغيرها(31/221)
(جـ) زيد مع عمر بن الخطاب:
ولما ولي الخلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، استأثر بزيد بن ثابت بجانبه، فلم يأذن له في مغادرة المدينة المنورة والإقامة في غيرها نظرا لحاجته إليه وعدم استغنائه عنه، فقد ورد في طبقات ابن سعد أن عمر كان يفرق الناس في البلدان، ويوجههم في الأمور المهمة، ويطلب إليه الرجال المسلمون، فيقال له زيد بن ثابت، فيقول: لم يسقط على مكان زيد، ولكن أهل البلد يحتاجون إلى زيد فيما يجدون عنده مما يحدث لهم ما لا يجدون عند غيره (1) .، وعن سالم قال: كنا مع ابن عمر يوم مات زيد، فقلت: مات عالم الناس اليوم، فقال ابن عمر: يرحمه الله، فقد كان عالم الناس في خلافة عمر وحبرها، فرقهم عمر في البلدان ونهاهم أن يفتوا برأيهم، وحبس زيد بن ثابت بالمدينة يفتي أهلها (2) . . وقد عمل زيد بن ثابت مستشارا ضمن مجموعة أهل الشورى، وفي مسائل فردية خصه عمر بن الخطاب بسؤاله عنها (3) .، وعمل له قاضيا وفرض له رزقا (4) . وعمل له ترجمانا، وقد رأينا أنه تولى ترجمة المحاورة التي تمت بين عمر بن الخطاب والهرمزان، وكان الهرمزان يتكلم الفارسية ولا يعرف العربية، وعمر بن الخطاب يتكلم العربية ولا يعرف الفارسية (5) . وعمل له أميرا على المدينة المنورة في فترة غياب عمر عنها، قال في الاستيعاب: وقد استخلف عمر زيد بن ثابت على المدينة ثلاث مرات في الحجتين وفي خروجه إلى الشام (6) . . والصواب أنه استخلفه أكثر من ذلك، فقد حج عمر في السنة السادسة
__________
(1) طبقات ابن سعد 2 \ 360
(2) سير أعلام النبلاء 2 \ 434
(3) طبقات ابن سعد 2 \ 350
(4) طبقات ابن سعد 2 \ 359 والمغني 9 \ 37 ودائرة المعارف الإسلامية، ترجمة زيد بن ثابت
(5) تاريخ الطبري 4 \ 88
(6) الاستيعاب 1 \ 189(31/222)
عشرة من الهجرة واستخلف على المدينة زيد بن ثابت (1) .، واعتمر في السنة السابعة عشرة في رجب واستخلف على المدينة زيد بن ثابت (2) .، وحج في السنة الحادية والعشرين واستخلف على المدينة زيد بن ثابت (3) . . فهذه ثلاث مرات، وإذا أضفنا إليها استخلافه حين خروج عمر إلى الشام كانت أربع مرات على الأقل.
والجدير بالذكر أنه - كما يقول ابن حجر في الإصابة - أن عمر كان يستخلف زيد بن ثابت إذا سافر، فقلما رجع إلا أقطعه حديقة من نخل (4) . . وهذا يدل على أن زيد بن ثابت كان يحسن التصرف في غياب عمر، وإلا لما كافأه بحديقة من نخل.
وأوكل إليه عمر بن الخطاب قسمة الغنائم بعد وقعة اليرموك، فقسمها وأحسن قسمتها (5) . وأعان عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إنشاء الدواوين حين أنشأها فكتب أثباتا بأسماء من سجلوا في الديوان (6) . . وكان زيد بن ثابت من الكتاب الرسميين لعمر بن الخطاب رضي الله عنه (7) . .
__________
(1) تاريخ الطبري 4 \ 39
(2) تاريخ الطبري 4 \ 69
(3) تاريخ الطبري 4 \ 145
(4) الإصابة برقم 2882
(5) دائرة المعارف الإسلامية، مادة: زيد بن ثابت، والإصابة برقم 2882
(6) دائرة المعارف الإسلامية، مادة زيد بن ثابت
(7) تاريخ الطبري 6 \ 179(31/223)
(د) زيد مع عثمان بن عفان:
ولما ولي الخلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه قرب زيد بن ثابت إليه، وأبقاه على القضاء (1) .، وولاه بيت مال المسلمين (2) . فاتخذ زيد بن ثابت كاتبا له ومساعدا غلامه " وهيبا " (3) . فدخل عثمان مرة إلى بيت المال فوجد وهيبا
__________
(1) تاريخ الطبري 4 \ 422
(2) عنوان النجابة ص 99 ودائرة المعارف الإسلامية، مادة: زيد بن ثابت، والاستيعاب 1 \ 189
(3) طبقات ابن سعد 5 \ 304 والاستيعاب 1 \ 189(31/223)
يعينهم، فقال عثمان لزيد: من هذا؟ فقال زيد: مملوك لي، فقال عثمان: أراه يعين المسلمين، وله حق، وإنا نفرض له، ففرض له ألفين، فقال زيد: وأن لا نفرض لعبد ألفين، ففرض له ألفا (1) . . وفي عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ظهر الاختلاف في قراءة القرآن بين القراء، فأفزع ذلك عثمان، فرأى عثمان أن يرد القراء إلى حرف واحد، ووقع اختياره على حرف زيد بن ثابت، فأمره أن يملي المصحف على قوم من قريش هم عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام - وفي صفة الصفوة أن أبي بن كعب كان يملي وزيدا هو الذي يكتب - وقال عثمان للرهط: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فأكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلغتهم (2) .، وكان هذا العمل هو أهم ما قام به زيد بن ثابت من أعمال في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
لقد أحب زيد بن ثابت عثمان بن عفان رضي الله عنه، وأخلص له (3) . . ولذلك نراه يرم نزل الثائرون المصريون الذين يريدون الشر بعثمان ذا خشب، وجاء الخبر أنهم يريدون قتل عثمان بن عفان لم يتأخر زيد بن ثابت عن السير إليهم مع علي بن أبي طالب ونفر من الصحابة لإقناعهم بالرجوع (4) . . ولما جاءت الجمعة التي تلت نزول المصريين مسجد رسول الله، خرج عثمان فصلى بالناس، ثم قام على المنبر فخطب، فحصب حتى صرع عن المنبر مغشيا عليه، فاحتمل فأدخل داره وشمر الناس فاستقتلوا وكان زيد بن ثابت من هؤلاء، فبعث إليهم عثمان بعزمه لما انصرفوا، فانصرفوا (5) . .
ولما حصر عثمان في داره جاء زيد بن ثابت إلى عثمان فقال: هذه الأنصار
__________
(1) الاستيعاب 1 \ 189
(2) ر: الاستيعاب 1 \ 189 وصفه الصفوة 1 \ 704 ومناهل العرفان 1 \ 259 وما بعدهما
(3) الاستيعاب 1 \ 189 وتاريخ الطبري 4 \ 337
(4) تاريخ الطبري 4 \ 359
(5) تاريخ الطبري 4 \ 353(31/224)
بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله مرتين، فقال عثمان: أما القتال فلا (1) . فخرج زيد بن ثابت من عنده يبكي (2) . وعلم بعزم أم المؤمنين عائشة على السفر للحج، فأتاها زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ومروان بن الحكم فقالوا: يا أم المؤمنين لو أقمت، فإن أمير المؤمنين على ما ترين محصور، ومقامك مما يدفع الله به عنه، ورأت عائشة أن الفتنة أكبر مما يظنون، وأن الثائرين لا يلوي عزمهم قعود عائشة ولا سفرها، ولذلك اعتذرت عن القعود (3) . .
وهكذا نجد زيد بن ثابت لعذل ما في وسعه للدفاع عن عثمان بن عفان وكف الأذى عنه، ولكن المؤامرة كانت أكبر من أن يحبطها تدبير زيد بن ثابت.
ولما قتل عثمان رضي الله عنه أتى مروان بن الحكم دار عثمان، وأتاه زيد بن ثابت وطلحة بن عبيد الله وعلي والحسن وكعب بن مالك وغيرهم فأخرجوا عثمان ودفنوه (4) .، وهكذا لم يفت زيد بن ثابت الاشتراك في دفن عثمان، رغم ما في ذلك من الخطورة عليه.
__________
(1) طبقات ابن سعد 3 \ 70
(2) طبقات ابن سعد 3 \ 81
(3) طبقات ابن سعد 5 \ 36
(4) تاريخ الطبري 4 \ 414(31/225)
(هـ) زيد مع علي بن أبي طالب:
قلنا إن زيد بن ثابت كان عثمانيا، ولما قتل عثمان مظلوما حزن عليه كل الحزن، ولما بايع الناس علي بن أبي طالب تأخر زيد بن ثابت عن بيعته كما يقول الطبري (1) . ويظهر أن المصاب والحزن أقعداه عن الإسراع في البيعة، بينما ينقل ابن سعد في الطبقات أن الناس لما قالوا قتل عثمان، بايع زيد بن ثابت علي بن أبي طالب في أول يوم ولي فيه الخلافة (2) . .
__________
(1) تاريخ الطبري 4 \ 430 و 431، ودائرة المعارف الإسلامية، مادة زيد بن ثابت
(2) طبقات ابن سعد 2 \ 31(31/225)
واعتزل زيد بن ثابت العمل السياسي في عهد علي بن أبي طالب، ولم يشهد شيئا من مشاهده، لأنه كان يراها فتنة، القاعد عنها خير من القائم فيها ولكن ذلك لم ينقص من حب علي بن أبي طالب في نفسه (1) .، ولم يمنعه من أن يروي ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل آل البيت كقوله صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم خليفتين، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض (2) » . .
__________
(1) الاستيعاب 1 \ 189
(2) فضائل الصحابة 2 \ 602 ومسند الإمام أحمد 5 \ 181(31/226)
(و) زيد مع مروان بن الحكم (أمير المدينة المنورة) :
لما ولي مروان بن الحكم إمارة المدينة المنورة قرب زيد بن ثابت، وبالغ في إكرامه، وكان يغضب إن مس زيد بن ثابت ما يكره مهما كان تافها، فقد روى الطيالسي في مسنده قال: حدثنا شعبة قال أخبرني عمرو بن مرة سمع أبا البختري يحدث عن أبي سعيد قال: لما نزلت هذه الآية: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} (1) قرأها رسول الله حتى ختمها، ثم قال: أنا وأصحابي خير، والناس خير، لا هجرة بعد الفتح.
قال أبو سعيد: فحدثت بهذا الحديث مروان بن الحكم - وكان أميرا على المدينة - فقال كذبت، وعنده زيد بن ثابت وزيد بن أرقم، فقلت: أما هذان إن شاءا حدثاك، ولكن هذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة، وهذا يخشى أن تنزعه عن عرافة قومه، فرفع - مروان - الدرة، فلما رأيا ذلك، قالا: صدق (2) . .
وكان زيد بن ثابت لا يتوانى في نصح مروان وطلب الإصلاح لما فسد من تصرفات الناس وأعمالهم، فعن أبان بن عثمان عن أبيه قال: خرج زيد من عند مروان نحوا من نصف النهار، فقلنا: ما بعث إليه الساعة إلا لشيء سأله
__________
(1) سورة النصر الآية 1
(2) مسند الطيالسي ص 601(31/226)
عنه، فقمت إليه فسألته، فقال: أجل، سألنا عن أشياء سمعتها من رسول الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه (1) » إلخ وسألنا عن الصلاة الوسطى، وهي الظهر (2) . .
وخرج في زمن مروان صكوك الأرزاق، فتبايع الناس تلك الصكوك بينهم قبل أن يستوفوها، فدخل زيد بن ثابت ورجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على مروان بن الحكم، فقالا: أتحل الربا يا مروان؟ فقال: أعوذ بالله، وما ذاك، فقالا: هذه الصكوك تبايعها الناس ثم باعوها قبل أن يستوفوها، فبعث مروان الحرس يتبعونها ينزعونها من أيدي الناس ويردونها إلى أهلها (3) . .
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2656) ، سنن أبو داود العلم (3660) ، سنن ابن ماجه كتاب المقدمة (230) ، مسند أحمد بن حنبل (5/183) ، سنن الدارمي المقدمة (229) .
(2) مسند الإمام أحمد 5 \ 183
(3) مواهب الجليل من أدلة خليل 3 \ 288 والموطأ 2 \ 641(31/227)
(8) وفاة زيد بن ثابت:
لما كبر زيد بن ثابت ابتلي بسلس البول، فكان يصلي وهو يخرج منه، ومات رحمه الله ولم يبرأ منه (1) . .
مات زيد بن ثابت رضي الله عنه سنة خمس وأربعين للهجرة على أرجح الأقوال وله من العمر ست وخمسون سنة (2) ودفن في المدينة المنورة، وصلى عليه مروان بن الحكم - أمير المدينة المنورة - ونزل نساء العوالي، وجاء نساء الأنصار يبكين، فجعل ولده خارجة يذكرهن الله، لا تبكين، فقلن: لا نسمع منه، ولنبكين عليه ثلاثا، وغلبنه (3) ورثاه حسان بن ثابت فقال:
فمن للقوافي بعد حسان وابنه ... ومن للمعاني بعد زيد بن ثابت (4)
رحم الله زيد بن ثابت، لقد كان رجلا أمة.
__________
(1) ابن أبي شيبة 1 \ 32 وسنن البيهقي 1 \ 356 والأوسط 1 \ 165 وكشف الغمة 1 \ 50
(2) الاستيعاب 1 \ 189 وصفة الصفوة 1 \ 706
(3) تهذيب ابن عساكر 5 \ 453.
(4) الإصابة برقم 2882(31/227)
صفحة فارغة(31/228)
ابن الجوزي ومنهجه في التفسير
بقلم: أحمد فهيم مطر (1)
المقدمة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، وبعد: لقد استهوتني دراسة شخصية ابن الجوزي لما اتصف به من صفات كثيرة كانت محل إعجاب من عاصره أو قام بدراسته، فقد كان من أكبر المؤرخين في عصره الذين كتبوا التاريخ بأمانة ودقة رغم التيارات الكثيرة والفتن التي كانت متفشية في ذلك العصر.
وقد كان ابن الجوزي كذلك إماما في الحديث وقد أطلق عليه لقب الحافظ مما يدل على مكانته وتمكنه، وكان محدثا وواعظا ومفسرا، حتى إنه قد فسر القرآن الكريم على منبر وعظه، وكان أديبا وله بعض الأشعار، وقد أكثر من التصانيف مما لم يقم به عالم قبله أو محدث أو فقيه، وقد اختلف المؤرخون في عدد تصانيفه ما بين الثلاثمائة والأربعمائة مصنف (2) ، وهذا هو الذي استهواني في دراسة شخصية ابن الجوزي والوقوف على بعض الملامح والصفات التي كان يتحلى بها، والوقوف كذلك على التيارات والفتن التي كانت سائدة في ذلك العصر الذي عاش فيه.
__________
(1) وردت ترجمة للباحث في العدد (23) ص (311) .
(2) ابن كثير - البداية 13 \ 28 - ابن العماد شذرات الذهب 4 \ 331.(31/229)
وأرجو أن يوفقني الله في نقل صورة حسية للقارئ، فأكون قد أديت بعض ما يجب علينا تجاه تلك الشخصية الفريدة.
والله يوفقنا إلى ما فيه الخير، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(31/230)
حياة ابن الجوزي
أسرته:
كان أهله تجارا في النحاس فلهذا يوجد في بعض سماعاته القديمة ابن الجوزي الصفار (1) وذكر أن والده كان يعمل الصفر بنهر القلائين (2) . مات والده وله من العمر ثلاث سنوات فكان يتما مبكرا بالنسبة له، ولكن ذلك لم يؤثر عليه من الناحية المادية، فالأسرة كانت على جانب من الثراء لا تحتاج فيه إلى أن تجعله يتعلم صنعة أو حرفة يقتاتون منها أو يتعايشون، فكانت وجهتهم هي طلب العلم.
أما والدته فقد ظلت على قيد الحياة حيث سبقها إلى الموت بأيام. وتولى رعايته بعد أبيه عمه أبو البركات الذي حمله إلى الحافظ أبي الفضل ابن ناصر لتسميعه الحديث (3) . وتشير بعض المصادر إلى أن عمته هي التي حملته إلى ابن ناصر وقرأ عليه (4) .
وكان لابن الجوزي ثلاثة إخوة وأختان: أولهما عبد الله وعبد الرزاق والثالث محمد. أما الأختان فقد شاركته إحداهما في التلمذة على بعض شيوخه (5) .
__________
(1) الذيل على طبقات الحنابلة جـ 1 ص 401.
(2) مرآه الجنان جـ 3 ص 492.
(3) المستفاد ص 416، 417.
(4) البداية والنهاية جـ 13 ص 29.
(5) التكملة جـ 1 ص 185.(31/230)
ولابن الجوزي أبناء ثلاثة: عبد العزيز وهو أكبرهم مات شابا في حياة والده، ثم أبو القاسم علي، وقد كان عاقا لوالده ألب عليه في زمن المحنة وغيرها وقد تسلط على كتبه في غيبته بواسط فباعها بأبخس الأثمان، ثم محي الدين يوسف وكان أنجب أولاده وأصغرهم ووعظ بعد أبيه، ثم باشر حسبة بغداد، ثم صار رسول الخلفاء إلى الملوك بأطراف البلاد، ثم صار أستاذ دار الخليفة المستعصم، وكان لأبي الفرج عدة بنات منهن: رابعة أم سبطه أبي المظفر صاحب مرآة الزمان (1) .
وخلاصة القول أن أسرة ابن الجوزي كانت من الأسر التي تهتم بالعلم والمعرفة، فقد أسهم ابن الجوزي هو وأبناؤه في بناء الفكر العربي والإسلامي وإمداد المكتبة العربية بكل ما هو نافع ومفيد.
__________
(1) البداية والنهاية جـ 3 ص 30.(31/231)
مولده ونشأته:
هو جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي القرشي التيمي البكري (من ذرية أبي بكر الصديق) الفقيه الحنبلي الحافظ المفسر الواعظ المؤرخ الأديب المعروف بابن الجوزي (1) وعرف بابن الجوزي نسبة إلى جده الأكبر جعفر (الجوزي) وسمي جده بالجوزي نسبة إلى مشرعة الجوز أو إلى فرضة فيها يقال لها جوزة، هي محلة أو فرضة في البصرة (2) ويقال إن جوزة فرضة على شاطئ دجلة قريبا من بغداد (3) .
ولد سنة ثمان وخمسمائة، وقيل سنة تسع، وقيل سنة عشر، وكان مولده بدرب حبيب (4) ، وتوفي والده وهو صغير فكفلته أمه وعمته وتوجها به إلى العلم، فحملته عمته إلى مسجد أبي الفضل بن ناصر فأولاه عناية كبيرة لما
__________
(1) مشيخة ابن الجوزي ص 5.
(2) مرآة الزمان جـ 8 ص 481، شذرات الذهب جـ 4 ص 330.
(3) وفيات الأعيان جـ 3 ص 142.
(4) الذيل على طبقات الحنابلة جـ 1 ص 400.(31/231)
رأى من بوادر نبوغه وإقباله وحرصه على العلم وهو صغير، وحفظ القرآن الكريم وقرأه على جماعة من أئمة القراء.
وسر نجاح ابن الجوزي يكمن في قوة بديهته، وسرعة بادرته، وحضور ذهنه، ونوادر أجوبته، مع كثرة محفوظه وسعة روايته (1) .
ولقد انقطع ابن الجوزي للدرس ومجالس العلم وترك ما كان أترابه يلهون به من اللعب؛ للتوفر على الحفظ، والتوغل في طريق علوم زمانه وثقافته " وكان لا يخرج من بيته إلا للجمعة ولا يلعب مع الصبيان " (2) .
وهكذا درج ابن الجوزي منذ صغره يحب العلم، ويشغف بالتحصيل في فنون العلم، وقد تحدث ابن الجوزي في كتابه " لفتة الكبد " فقال:
" كان الصبيان ينزلون إلى دجلة ويتفرجون وأنا في زمن الصبا آخذ جزءا، أقعد حجرة من الناس إلى جانب الرقة فأتشاغل بالعلم " (3) .
وكانت بغداد مشرقة زاهرة بعلومها وفنونها زاخرة بالعلم والعلماء، فنهل ابن الجوزي من هذا المنهل الفياض الذي لا يغيض، دفعه إلى ذلك حبه للعلم وولوعه به، وتحدث هو عن نفسه في كتابه " صيد الخاطر " فقال: فأقول عن نفسي وما يلزمني حال غيري: إنني رجل حبب إلي العلم من زمن الطفولة فتشاغلت به، ثم لم يحبب إلي فن واحد منه، بل فنونه، ثم لا تقتصر همتي في فن على بعضه، بل أروم استقصاءه والزمان لا يسع، والعمر أضيق والشوق يقوى، والعجز يقعد، فيبقى وقوف بعض المطلوبات حسرات " (4) .
وقد أخذ ابن الجوزي العلم عن خاله الشيخ أبي الفضل أكثر من ثلاثين سنة، وكذلك أخذ الحديث والوعظ على يد الشيخ الزاغوني، وأخذ
__________
(1) مقدمة صيد الخاطر ص 16.
(2) البداية والنهاية جـ 13 ص 29.
(3) لفته الكبد ص 81.
(4) صيد الخاطر ص 62.(31/232)
الفقه كذلك عن أبي بكر الدينوري الحنبلي، ودرس اللغة على أبي منصور الجواليقي، والحديث عن ابن عبد الواحد الدينوري، وقد جمع شيوخه في مشيخته " ذكر منهم ستة وثمانين شيخا " وكان يحارب أهل البدع وقد أعلن عليهم ذلك دون هوادة أو خوف، وقيل له مرة: قلل من ذكر أهل البدع مخافة الفتن فأنشد:
أتوب إليك يا رحمن مما جنيت ... فقد تعاظمت الذنوب
وأما عن هوى ليلى وتركي ... زيارتها فإني لا أتوب
وقال له قائل: ما فيك عيب إلا أنك حنبلي، فأنشد:
وعيرني الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (1)
وليس عجيبا أن يجلس الواعظ في بغداد منذ سنة 527 هـ وسنة دون العشرين، ومازال يدرس ويعظ ويؤلف حتى أصبح إمام بغداد وواعظها الأول (2) .
وكان يحضر مجلسه عامة الناس وخاصتهم، ويتزاحمون على حضور تلك المجالس، حتى لقد حرز الجمع في بعض المجالس بمائة ألف، وهذا العدد وإن كان يدل على المبالغة إلا أنه يدل دلالة قاطعة على كثرة العدد وشدة الزحام، وإقبال الناس على مواعظه وحضور مجالسه، وكان الخليفة يحضر وعظه ومجالسه في المناسبات، وكان أبو الفرج يلقي الموعظة على الخليفة ولا يخشى في ذلك شيئا.
وذكر أنه تكلم يوما بحضرة الخليفة وحكى له موعظة شيبان للرشيد: وقال فيما قال: يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك، وإن أمسكت خفت عليك
__________
(1) الذيل على طبقات الحنابلة جـ1 ص 403، 404.
(2) صفة الصفوة جـ 1 ص 10.(31/233)
وأنا أقدم خوفي عليك على خوفي منك (1) .
وفي آخر حياته وشى به حساده عند الخليفة فأرسل من أهانه وشتمه وختم على داره، وشتت عياله، وأخذ في سفينة إلى واسط فحبس في دار هناك، ومكث على ذلك الحال خمس سنين وهو يقوم بشئون نفسه من غسل وطبخ، حتى استطاع ابنه يوسف أن يجتهد وباجتهاده توصل إلى أم الخليفة فشفعت للشيخ فأطلق سراحه.
__________
(1) الذيل على طبقات الحنابلة جـ 1 ص 409.(31/234)
طلبه للعلم:
نشأ ابن الجوزي منذ نعومة أظفاره يحب العلم ويختلف إلى العلماء (ولم يكن يفعل مثل الصبيان يلعبون ويلهون ويضيعون أوقاتهم في اللعب والجري، ولكنه أوقف نفسه على الحفظ والتوغل في العلم، وقد كان لا يخرج من بيته إلا للجمعة ولا يلعب مع الصبيان) .
ولقد وجد ابن الجوزي المناخ مهيأ له والأمور تسير رخاء بريح طيبة، فأهله كانوا يشجعونه على العلم، وشيوخه كذلك عندما لمسوا فيه حب العلم والتعلق به، وكان أولهم خاله ابن ناصر، وكذلك وجد بغداد تعج بالعلماء والمفكرين، فقد كانت حاضرة العالم الإسلامي كله تزدهر بالعلوم وتشرق بالمعارف وتتيه بالعلماء.
وقد وصل ابن الجوزي قمة النضج العلمي حتى أطلق عليه لقب الحافظ دلالة على مكانته العلمية الكبيرة، وقد تحدث عن نفسه فقال: أنا كتبت الحديث ولي إحدى عشرة سنة، وسمعت قبل ذلك " (1) .
ولقد برع وتفوق في كل علم من العلوم وفن من الفنون، فكان في الفقه إماما يحضر مجلسه جماعة من الفقهاء الحنابلة.
أما في التفسير فكان لا يجارى ولا يبارى حتى أنه قد فسر القرآن الكريم
__________
(1) المنتظم جـ 7 ص 182.(31/234)
على منبر وعظه، وكان يقول: " ما عرفت واعظا فسر القرآن كله في مجلس الوعظ منذ نزل القرآن، فالحمد لله المنعم " (1) .
ولقد بلغت مؤلفاته وتصانيفه في القرآن وعلومه سبعة وعشرين كتابا كان من أبرزها كتابه الشهير " زاد المسير في علم التفسير " (2) .
وكان من المبرزين في التاريخ المتوسعين فيه، فكتب وترجم لكبار الصحابة والفقهاء، أما في الوعظ فكان وحيد عصره ونابغة قرنه، بدليل تسابق العامة والخاصة والأمراء والخلفاء على مجالس وعظه، وكان الناس يقصدونه للتوبة على يديه، ولقد حضر بعض هذه المجالس الرحالة العربي ابن جبير عند زيارته لبغداد عام خمسمائة وثمانين من الهجرة، وقد أطنب في وصفها وتأثيرها العام في المجتمع حتى قال: " تساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح " (3) وقال ابن رجب: " إذا وعظ اختلس القلوب وتشققت النفوس دون الجيوب " (4) ، وكان ابن الجوزي كذلك أديبا ومحدثا، ويرتجل ما يريد ارتجاله، وقد حفظت لنا المصادر بعض أشعار ابن الجوزي ووصفتها بأنها حسنة أو فائقة أو لطيفة (5) .
وكان له مؤلفات وتصانيف كثيرة، وقد ذكرت بعض المصادر أن الكراريس التي كتبها ابن الجوزي لو جمعت وقسمت على أيام حياته لكان له في كل يوم تسع كراريس (6) .
وقد اختلف المؤرخون في عدد تصانيف ابن الجوزي ما بين الثلثمائة والأربعمائة مصنف (7) .
ولهذا فقد وصل ابن الجوزي إلى مكانة علمية لم يتوصل إليها أحد قبله وبلغ منزلة لم يرق إليها عالم قط.
__________
(1) المنتظم جـ 10 ص 251.
(2) مؤلفات ابن الجوزي للعلوجي ص 222، 223.
(3) ابن جبير: الرحلة ص 208، 209.
(4) الذيل على طبقات الحنابلة جـ 1 ص 413.
(5) تذكرة الخواص: سبط ابن الجوزي ص 46.
(6) وفيات الأعيان جـ 3 ص 141.
(7) شذرات الذهب جـ 4، ص 331.(31/235)
مذهبه:
كان ابن الجوزي على مذهب أهل السنة ومذهب الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه، وكان يذم من يخالفهم، ويصرح بمذاهبهم في مسائل الأصول وخاصة مسألة القرآن ويتكلم عنهم كثيرا في كتبه، وكان على حرب دائمة مع أهل البدع والخرافات.
وقال يوما على المنبر: أهل البدع يقولون: ما في السماء أحد، ولا في المصحف قرآن، ولا في القبر نبي. ثلاث عورات لكم (1) .
وقد كان له خطة ومذهب ظهرا واضحين في كتابه " تلبيس إبليس " الذي تحدث فيه عن كثير من المفاسد والمبتدعات التي تفشت في ذلك العصر، ومنها البدع الصوفية التي أنكرها، ولم يقف على حد الإنكار ولكنه أعلن عليها حربا لا هوادة فيها.
ومع ذلك فإن بعض أصحاب مذهب الإمام أحمد نقموا على ابن الجوزي بعض آرائه، لأنه لم يكن يتعصب تعصبا كاملا للمذهب، وكان يرى في نفسه عدم وقوفه على رأي، بل لا بد من استعمال العقل والفكر.
يقول عنه ابن رجب الحنبلي في طبقات الحنابلة:
" نقم عليه جماعة من مشايخ أصحابنا ميله إلى التأويل في بعض كلامه، واشتد نكيرهم عليه في ذلك، ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف، وهو إن كان مطلعا على الأحاديث والآثار فلم يكن يحل شبه المتكلمين وبيان فسادها (2) .
وكان دفاع ابن الجوزي عن السنة والمذهب السلفي ومحاربة الصوفية وأهل البدع من الشيعة، كان سببا في إيذائه وإدخاله السجن، وإهانته، وختم داره، ومكوثه في السجن خمس سنين.
__________
(1) الذيل على طبقات الحنابلة جـ 1 ص 403.
(2) الوفا بأحوال المصطفى جـ 1 ص 5.(31/236)
أعماله:
أوقف الشيخ حياته على العلم، فتعلم وأخذ من العلم حظا كبيرا، وفاق أقرانه، ولم يتفوق في علم واحد من العلوم، وإنما تفوق في جميع العلوم التي كتب فيها حتى علوم الطب.
وكان من مبادئه أن يخدم الإسلام ويرفع راية السنة المحمدية، فأوقف حياته على محاربة البدع والمبتدعة وأهل الكلام والشيعة، ومن أعماله التي أوقف نفسه عليها هي: مجالس الوعظ والإرشاد. فقد كانت تؤتي ثمارها، وتؤثر في الناس تأثيرا كبيرا لدرجة أن الناس كانوا يتلقونه بالشموع التي حزرها بعضهم بألف شمعة. وقال ابن القطيعي: انتفع الناس بكلامه فكان يتوب في المجلس الواحد مائة وأكثر في بعض الأيام، وكان يجلس بجامع المنصور يوما أو يومين في السنة فتغلق المحال ويحزر الجمع بمائة ألف (1) .
وسلمت إليه المدرسة التي للجهة (بنفشا) وكتب في كتاب الوقف أنها وقف على أصحاب أحمد، وأنها مفوضة إلى ناصر السنة ابن الجوزي. وكان يعظ الأمراء والخلفاء ولا يخاف قول الحق لهم. لأنه يسعى إلى هدف معين هو إعلاء كلمة الله ورفع راية السنة المحمدية، لا يريد مالا ولا جاها ولا منصبا ولا مكسبا من مكاسب الدنيا.
وقد بنى ابن الجوزي مدرسة بدرب ديناء ودرس بها سنة سبعين، وذكر أول يوم تدريسه بها أربعة عشر درسا من فنون العلم (2) ، وزاد عدد المدارس بعد ذلك حتى صارت خمس مدارس كلها في خدمة العلم والتعليم، ويكفيه من العمل تلك المصنفات الكثيرة التي ألفها في كل علم وكل فن.
__________
(1) الذيل على طبقات الحنابلة جـ 1 ص 411.
(2) الذيل على طبقات الحنابلة جـ 1 ص 405.(31/237)
منهجه في التفسير:
لقد نهج ابن الجوزي في تفسيره للقرآن الكريم نهج السلف الصالح وأهل السنة، وقد استقى تفسيره من مصادر كثيرة أهمها ما يأتي:(31/237)
مصادره في القراءات:
كان أهم مصدر للتفسير في القراءات هم شيوخه الذين درس عليهم، وتعلم على أيديهم هذا العلم، ثم ما لبث أن تفوق عليهم جميعا، وألف في هذا العلم كتابا يسمى " الإشارة إلى القراءة المختارة " أربعة أجزاء مما يدل على تضلعه وتمكنه من هذا العلم.
والشيوخ الذين تلقاه عليهم هم:
أبو الحسن علي بن عبد الله الزاغوني، وأبو منصور محمد بن عبد الملك بن خيرون المقرئ، وأبو عبد الله بن الخياط المقرئ، وأبو الفضل أحمد بن الحسين المقرئ، وأبو منصور عبد الرحمن القزاز، وأبو حفص عمر بن ظفر بن أحمد المقرئ.
وقد قرأ بالروايات في كبره على ابن الباقلاني بواسط حين كان منفيا بها، وقرأ بالعشر على أبي بكر محمد بن الحسن المزرفي. ثم تتبع بعد ذلك أصحاب القراءات المشهورة، وكانت مصادره في تفسيره منهم، ومن هؤلاء:
ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو عمرو، وحفص، وطلحة وغيرهم كثير كقتادة والفراء والأخفش.(31/238)
مصادره في التفسير:
كان مصدره الأول هو ما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار ثم الصحابة رضوان الله عليهم. من أمثال علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وعبد الله بن عباس. ثم ما روي عن التابعين من أمثال ابن جبير وعكرمة وطاوس اليماني، وعطاء بن أبي رباح، وأبي العالية، والحسن البصري، وأبي سعيد الخدري، وقتادة، والسدي، والحسن، وابن جريج.
أما المصادر التي نقل عنها ففي طليعتها تفسير ابن جرير، وكتب الحديث، وكتابا ابن قتيبة " مشكل القرآن "، " غريب القرآن "، وكتب معاني القرآن ولا سيما كتابا الفراء والزجاج، والحجة لأبي علي الفارسي، و " مجاز القرآن " لأبي(31/238)
عبيدة، وكتب ابن الأنباري في القرآن، وأسماء الله الحسنى للخطابي وغيرها (1) .
وقد أخذ عن غير هؤلاء من تلاميذ الصحابة رضوان الله عليهم. كعلقمة بن قيس، ومسروق، والأسود بن يزيد، ومرة الهمذاني، وعامر الشعبي، وقتادة بن دعامة الدوسي، وهؤلاء من تلاميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وأخذ كذلك عن عبيدة السلماني، وأبي الطفيل، والحسين بن علي رضي الله عنه وهؤلاء من تلاميذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأخذ كذلك عن زيد بن أسلم، وأبي العالية ومحمد بن كعب القرظي وهؤلاء من تلاميذ أبي بن كعب رضي الله عنه.
فهؤلاء هم: أقطاب التفسير وأعلامه الذين أخذ عنهم، وعن الذين تتلمذوا عليهم حتى انتهت إليه الرئاسة في التفسير والفتوى، وكان أكثرهم شهرة هو ابن عباس الذي لقب بالحبر والبحر لكثرة علمه ومعرفته بمعاني كتاب الله.
__________
(1) زاد المسير جـ 1 ص 4.(31/239)
مصادره في أسباب النزول:
كان من أول مصادره في ذلك هم الصحابة رضوان الله عليهم، فقد فسروا القرآن بما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شاهدوه من الأحداث التي كان القرآن ينزل بها، وأشهرهم عبد الله بن عباس وابن مسعود وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب. ومن أكثر هؤلاء رواية ومعرفة هو: عبد الله بن عباس الذي نشأ في بيت النبوة وكان ملازما لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يشهد كثيرا من المواقف والظروف والملابسات والحوادث التي تنزل فيها الآيات القرآنية، وكان يسأل الصحابة ويعرف منهم مواطن نزول القرآن وتواريخ التشريع وأسباب النزول.
ويلي ابن عباس في المرتبة ابن مسعود، وقد كان أحفظ الصحابة لكتاب الله.(31/239)
فقد روي عن مسروق قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود - والذي لا إله غيره ما تركت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته (1) . ويلي ابن مسعود رضي الله عنه، فقد كان أعلم الصحابة بمواقع التنزيل ومعرفة التأويل. فعن أبي الطفيل قال: شهدت عليا يخطب وهو يقول: فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم نهار، أم في سهل أم في جبل. . وأخرج أبو نعيم في الحلية عن علي رضي الله عنه أنه قال: والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت وأين نزلت (2) .
ويلي هؤلاء أبي بن كعب الأنصاري الخزرجي وكان سيد القراء وأحد كتاب الوحي، ومن أعلم الصحابة بكتاب الله، وكان عارفا بأسرار الكتب القديمة وما ورد فيها، وكان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآيات التي لا يعرف معناها.
__________
(1) التفسير والمفسرون جـ 1 ص 85، 86 للدكتور الذهبي.
(2) أسد الغابة جـ 4 ص 16 - 40.(31/240)
مصادره النحوية واللغوية:
كان مصدره الأول في اللغة والنحو هو أبو منصور الجواليقي الذي تعلم منه الأدب واللغة وقرأ عليه كتاب المعرب (1) .
والوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة وكانت له معرفة بالنحو واللغة والعروض وصنف ووزر للمقتفي (2) .
أما مصادره التي نقل عنها فهي كتب ابن قتيبة، والفراء، والزجاج، وأبي علي الفارسي، وأبي عبيدة في كتبهم مشكل القرآن، وغريب القرآن، وكتب معاني القرآن والحجة، ومجاز القرآن، وبذلك كتب ابن الأنباري في القرآن.
__________
(1) مشيخة ابن الجوزي ص 126.
(2) مشيخة ابن الجوزي ص195.(31/240)
وكذلك الأصمعي، والمبرد، وابن فارس، وأبو معاذ النحوي، وثعلب، والفراء، والكسائي، وإبراهيم بن السري، وأبو الفرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني ويونس بن حبيب النحوي.(31/241)
مصادره الفقهية:
أما مصادره الفقهية فكثيرة وتعتبر مصادره الأولى " فقد قرأ الفقه والخلاف والأصول على أبي بكر الدينوري، والقاضي أبي يعلى، وتتبع مشايخ الحديث والفقه، وكان منهم القاضي أبو بكر الأنصاري، وأبو القاسم الحريري، وأبو السعادات المتوكلي، وأخوه يحيى، وأبو عبد الله البارع، وأبو الحسن علي بن أحمد الموحد، وأبو غالب المارودي، وأبو منصور بن خيرون، وأبو القاسم السمرقندي، وعبد الملك الكرخوي وأبو سعد الزوزني وأبو سعد البغدادي ويحيى بن الطراح، وإسماعيل بن أبي صالح المؤذن، وأبو القاسم علي الهروي، وأبو منصور القزاز، وعبد الجبار بن منده (1) .
__________
(1) زاد المسير جـ 1 ص 22، 23.(31/241)
أبرز سمات تفسير ابن الجوزي:
أبرز سمات تفسيره أنه كان يذكر الآية من القرآن ويتناولها بالتفسير السهل الواضح، ويذكر سبب نزولها إن كان هناك سبب للنزول، وكذلك كان يفسر الآية بالآية. وهذا ما يسمي تفسير القرآن بالقرآن، وكذلك كان يتناول معاني الألفاظ اللغوية بالإيضاح والبيان، وإن كان فيها أكثر من رأي ذكره، وكان يفسر بالمأثور مع تناول الأحكام الفقهية والتعرض لها والقراءات التي وردت بها الآية. ومن خلال ذلك نستطيع أن نتناول كل موقف وكل سمة من هذه السمات بشيء من التفصيل.(31/241)
مواقفه من القراءات:
لقد ذكر ذلك في مقدمة زاد المسير " وقد ألم أيضا بمشهور القراءات(31/241)
وأطراف من شواذها، ونقل توجيهها في العربية عن أئمة هذا العلم (1) . ومعنى ذلك أنه كان يذكر مشهور القراءات ثم يذكر التوجيه التي توجه إليه، والمعنى الذي يقصد منها على ذلك التوجيه. فنرى مثلا عند ذكره وتفسيره لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (2) الآية 143 من سورة البقرة " يقول " لرءوف " قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم (لرءوف) على وزن لرعوف في جميع القرآن، ووجهها أن فعولا أكثر في كلامهم من فعل، فباب ضروب وشكور أوسع من باب حذر ويقظ، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر بن عاصم (لرؤف) على وزن رعف. ويقال هو الغالب على أهل الحجاز: قال جرير:
ترى المسلمين عليك حقا ... كفعل الوالد الرؤف الرحيم
وعند قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (3) الآية 165 من سورة البقرة. قرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي (يرى) ومعناه لو يرون عذاب الآخرة لعلموا أن القوة لله جميعا. وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب (ولو ترى) بالتاء على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به جميع الناس وجوابه محذوف تقديره لرأيتم أمرا عظيما. كما تقول: لو رأيت فلانا والسياط تأخذه. وإنما حذف الجواب لأن المعنى واضح بدونه، قال أبو علي: وإنما قال " إذ " ولم يقل " إذا " وإن كانت " إذ " لما مضى لإرادة تقريب الأمر فأتى بمثال الماضي، وإنما حذف جواب لو لأنه أقحم لذهاب المتوعد إلى كل ضرب من الوعيد. وقرأ أبو جعفر (إن القوة لله) بكسر الهمزة فيها على الاستئناف كأنه يقول: فلا يحزنك ما ترى من محبتهم أصنامهم: إن القوة لله جميعا (4) .
وعند قوله تعالى: {لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (5)
__________
(1) زاد المسير جـ 1 ص 156.
(2) سورة البقرة الآية 143
(3) سورة البقرة الآية 165
(4) زاد المسير جـ 1 ص 170، 171.
(5) سورة العنكبوت الآية 66(31/242)
الآية 66 من سورة العنكبوت. " وليتمتعوا " قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بإسكان اللام على معنى الأمر، والمعنى ليتمتعوا بباقي أعمارهم {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (1) عاقبة كفرهم. وقرأ الباقون بكسر اللام في " ليتمتعوا " فجعلوا اللامين بمعنى " كي " فتقديره: كي يكفروا ولكي يتمتعوا. فيكون معنى الكلام: إذا هم يشركون ليكفروا وليتمتعوا: أي لا فائدة لهم في الإشراك إلا الكفر والتمتع بما يتمتعون به في العاجلة من غير نصيب لهم في الآخرة (2) .
ذلك هو موقف ابن الجوزي من القراءات يذكرها ثم يذكر المعنى على كل قراءة من تلك القراءات ليكون أبين وأوضح وأدعى إلى النفع.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 66
(2) زاد المسير جـ 6 ص 284.(31/243)
تفسير القرآن بالقرآن أو بالسنة:
رأى ابن الجوزي بثاقب نظره وعميق فكره أن القرآن الكريم قد اشتمل على إيجاز وإطناب وعموم وخصوص وإطلاق وتقييد وما جاء موجزا في مكان قد بسط في مكان آخر، فكان لا بد من تفسير الموجز بالمبسوط. فكان يذكر الآية التي تقابل أو تفسر أو توضح الآية التي يقوم بتفسيرها، ونلمس ذلك واضحا في تفسيره: فمثلا عند قوله تعالى {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (1) الآية 37 من سورة البقرة ". قال: وفي الكلمات أقوال:
أحدها:
أنها قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) الآية 23 من سورة الأعراف. وفي قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْهِ} (3) قال: أصل التوبة الرجوع، فالتوبة من آدم رجوعه عن المعصية وهي من الله تعالى رجوعه عليه بالرحمة، وإنما لم يذكر حواء في التوبة لأنها لم يجر لها ذكر. لا أن توبتها لم تقبل، وقال قوم: إذا كان معنى فعل الاثنين واحدا جاز أن
__________
(1) سورة البقرة الآية 37
(2) سورة الأعراف الآية 23
(3) سورة البقرة الآية 37(31/243)
يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما كقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} (1) سورة التوبة آية 63، وقوله تعالى: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (2) سورة طه الآية 117 (3) .
ومثلا عند قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (4) آية 103 من سورة الأنعام. قوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (5) في الإدراك قولان أحدهما: أنه بمعنى الإحاطة، والثاني بمعنى الرؤية. وفي (الإبصار) قولان أحدهما: أنها العيون: قاله الجمهور، والثاني أنها العقول. ففي معنى الآية ثلاثة أقوال. القول الثالث منها: لا تدركه الأبصار في الدنيا: رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن ومقاتل ويدل على أن الآية مخصوصة بالدنيا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (6) {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (7) سورة القيامة. فقيد النظر إليه بالقيامة وأطلق في هذه الآية، والمطلق حمل على المقيد (8) ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (9) الآية 31 من سورة النساء يقول: اجتناب الشيء تركه جانبا وفي الكبائر أحد عشر قولا:
أحدها: أنها سبع. فروى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي عند الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات (10) » .
والثاني: أنها تسع. وروى حديثا عن عبيد بن عمير عن أبيه. والثالث: أنها أربع وروى كذلك حديثا في البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر. وروى
__________
(1) سورة التوبة الآية 62
(2) سورة طه الآية 117
(3) زاد المسير جـ 1 ص 69، 70.
(4) سورة الأنعام الآية 103
(5) سورة الأنعام الآية 103
(6) سورة القيامة الآية 22
(7) سورة القيامة الآية 23
(8) زاد المسير جـ 3 ص 98، 99.
(9) سورة النساء الآية 31
(10) زاد المسير جـ 2 ص 62، 63.(31/244)
عن أنس بن مالك. والرابع: أنها ثلاث فروى حديثا عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى في البخاري ومسلم عن أبي بكرة.
ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} (1) الآيات من 60 - 66 من سورة الكهف. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} (2) سبب خروج موسى عليه السلام في هذا السفر ما روى عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل، فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عز وجل عليه إذ لم يرد العلم إليه. فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك (3) » إلى آخر الحديث، وهو حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين.
__________
(1) سورة الكهف الآية 60
(2) سورة الكهف الآية 60
(3) زاد المسير جـ 5 ص 161.(31/245)
أسباب النزول:
من الأشياء البارزة والسمات الظاهرة التي كان يتبعها ابن الجوزي في تفسيره هي أسباب النزول، فالآية يتضح معناها إذا علم سبب نزولها، فنراه يذكر سبب النزول إذا كان للآية أو للسورة وكل ذلك واضح ظاهر في تفسيره.
فمثلا في سورة آل عمران وسبب نزولها يذكر فيها أنها مدنية، وأن صدرا من أولها نزل في وفد نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم في ستين راكبا فيهم العاقب والسيد فخاصموه في عيسى. فقالوا إن لم يكن ولد الله فمن أبوه؟ فنزلت فيهم صدر (آل عمران) إلى بضع وثمانين آية منها (1) وقد ذكر سبب نزول سورة الأنفال على أقوال ثلاثة: الأول منها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: «من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل
__________
(1) زاد المسير جـ 1 ص 249.(31/245)
والغنائم، فقال المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإنا كنا لكم ردعا فأبوا، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت سورة الأنفال (1) » . . رواه عكرمة عن ابن عباس (2) .
ويذكر في سبب نزول سورة يوسف قولين: أما القول الأول فروي عن سعد بن أبي وقاص قال: «أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلاه عليهم زمانا، فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا، فأنزل الله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (3) إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} (4) فتلاه عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا، فأنزل الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} (5) » سورة الزمر آية 23، كل ذلك يؤمرون بالقرآن (6) . ويذكر في سبب نزول سورة المجادلة قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} (7) فقد روي عن عائشة أنها قالت: «تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة فكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب البيت أسمع كلامها ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها وتقول: يا رسول الله: أبلى شبابي، وفترت له بطني، حتى إذا كبر سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك، قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات (8) » . وأما الآيات فكان كذلك يتتبع نزول كل آية ويذكرها فهذا أحرى لتفسيرها وتوضيحها وبيان معناها والأمثلة كثيرة لتتبع الآيات ونورد بعضها.
فمثلا عند تفسير قوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} (9) سورة آل عمران آية 179. ففي سبب نزولها خمسة أقوال، أحدها: «أن قريشا قالت: تزعم يا محمد أن من اتبعك فهو في الجنة، ومن خالفك فهو في النار، فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك. فنزلت هذه الآية» . . هذا قول ابن عباس (10) .
__________
(1) سنن أبو داود الجهاد (2737) .
(2) زاد المسير جـ 3 ص 316.
(3) سورة يوسف الآية 1
(4) سورة يوسف الآية 3
(5) سورة الزمر الآية 23
(6) زاد المسير جـ 4 ص 177.
(7) سورة المجادلة الآية 1
(8) زاد المسير جـ 8 ص 180.
(9) سورة آل عمران الآية 179
(10) زاد المسير جـ 9 ص 510.(31/246)
وعند تفسير قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} (1) سورة الرعد آية 7، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال، أحدها: أنها نزلت في كفار مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بذلك قاله ابن عباس (2) وعند تفسير قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (3) سورة عبس آية 37، ذكر أن سبب نزولها. روى أنس بن مالك قال: «قالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: أنحشر عراة؟ قال: نعم. قالت: واسوأتاه، فأنزل الله تعالى: (5) » .
__________
(1) سورة الرعد الآية 6
(2) زاد المسير جـ 4 ص 305.
(3) سورة عبس الآية 37
(4) صحيح البخاري الرقاق (6527) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2859) ، سنن النسائي الجنائز (2083) ، سنن ابن ماجه الزهد (4276) ، مسند أحمد بن حنبل (6/90) .
(5) سورة عبس الآية 37 (4) {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}(31/247)
الأحكام الفقهية:
كان ابن الجوزي لا يترك حكما من الأحكام الفقهية إلا تعرض له وذكر الآراء التي قيلت فيه مع عدم التعرض للأرجح أو الصحيح اللهم إلا على لسان القائلين أنفسهم، ونرى ذلك في كل الآيات التي تحتاج إلى أحكام فقهية وأدلى فيها العلماء بآرائهم وخاصة المذاهب الفقهية الأربعة وبعض تلاميذهم من الذين يلونهم. وترى ذلك واضحا في كل تفسيره، وقلما كان يدلي برأيه. فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (1) سورة البقرة آية 179 يقول: نقل ابن منصور عن أحمد: إذا قتل رجل رجلا بعصا أو خنقه، أو شدخ رأسه بحجر، يقتل بمثل الذي قتل به، فظاهر هذا أن القصاص يكون بغير السيف، ويكون بمثل الآلة التي قتل بها. وهو قول مالك والشافعي، ونقل عن حرب: إذا قتله بخشبة قتل بالسيف، ونقل أبو طالب إذا خنقه قتل بالسيف، فظاهر هذا أنه لا يكون القصاص إلا بالسيف وهو قول أبي حنيفة رحمه الله (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 179
(2) زاد المسير جـ 1 ص 181.(31/247)
عند تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) سورة البقرة آية 184، يقول: وليس المرض والسفر على الإطلاق فإن المريض إذا لم يضر به الصوم لم يجز له الإفطار، وإنما الرحمة موقوفة على زيادة المرض بالصوم، واتفق العلماء أن السفر مقدر واختلفوا في تقديره: فقال أحمد ومالك والشافعي أقله مسيرة ثلاثة أيام: مسيرة أربعة وعشرين فرسخا، وقال الأوزاعي أقله مرحلة يوم. مسيرة ثمانية فراسخ (2) .
وعند تفسير قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (3) سورة المائدة الآية 5، يقول:
فأما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى، وطعامهم ذبائحهم: هذا قول ابن عباس والجماعة، وإنما أريد بها الذبائح خاصة لأن سائر طعامهم لا يختلف بمن تولاه من مجوسي وكتابي وإنما الذكاة تختلف. فلما خص أهل الكتاب بذلك دل على أن المراد الذبائح، فأما ذبائح المجوس فأجمعوا على تحريمها، واختلفوا في ذبائح من دان باليهودية والنصرانية من عبدة الأوثان؛ فروى ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب فقال: لا بأس بها. وتلا قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (4) المائدة آية 51. وهذا قول الحسن وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعكرمة، وقتادة والزهري والحكم وحماد، وقد روي عن علي وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحل، ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب روايتين:
إحداهما: تباح ذبائحهم وهو قول أبي حنيفة ومالك.
الثانية: لا تباح.
وقال الشافعي من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن لم يبح أكل ذبيحته (5) .
وعند تفسيره لقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} (6) سورة النحل آية 8.
__________
(1) سورة البقرة الآية 184
(2) زاد المسير جـ 2 ص 295.
(3) سورة المائدة الآية 5
(4) سورة المائدة الآية 51
(5) زاد المسير جـ 2 ص 295.
(6) سورة النحل الآية 8(31/248)
ويجوز أكل لحم الخيل، وإنما لم يذكر في الآية لأنه ليس هو المقصود، وإنما معظم المقصود بها الركوب والزينة. وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة ومالك: لا تؤكل لحوم الخيل (1) .
__________
(1) زاد المسير جـ 4 ص 431.(31/249)
اللغة والنحو:
لقد اهتم ابن الجوزي اهتماما كبيرا باللغة العربية والنحو ويظهر ذلك من خلال تفسيره، ولقد ورد ذلك أيضا في مقدمة تفسيره للجزء الأول، حيث جاء في المقدمة: " لم يفته وهو يفسر مفردات القرآن أن يذكر اشتقاقها استكمالا للمعنى وزيادة في الفائدة (1) .
فقد كان يورد الروايات والآراء التي وردت في تفسير اللفظ وما أيدها من الأشعار العربية والدلالة على معناها إلا أنه لم يكن يتعرض لها بالتعليق برأيه، بل كان يوردها مجردة عن التعليق بمعنى كل قائل واستشهاده، ثم بالنحو والإعراب وفي أحيان كثيرة يعرض للقراءات على الرفع أو على النصب أو خلافه، فمثلا عند تفسيره لسورة الفاتحة قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ} (2) يقول: فأما الرب فهو المالك، ولا يذكر هذا الاسم في حق المخلوق إلا بالإضافة، فيقال: هذا رب الدار، ورب العبد. وقيل: هو مأخوذ من التربية.
قال شيخنا أبو منصور اللغوي - يقال: رب فلان صنيعته يربها ربا: إذا أتمها وأصلحها فهو رب وراب. قال الشاعر:
برب الذي يأتي من الخير إنه ... إذا سئل المعروف زاد وتمما
قال: والرب يقال على ثلاثة أوجه، أحدها: المالك يقال: رب الدار، والثاني: المصلح يقال: رب الشيء، والثالث:: السيد المطاع قال تعالى: {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} (3) سورة يوسف آية 41. والجمهور على خفض باء رب. وقرأ ابن السميفع
__________
(1) زاد المسير جـ 1 ص 4.
(2) سورة الفاتحة الآية 2
(3) سورة يوسف الآية 41(31/249)
وعيسى بن عمر بنصبها، وقرأ أبو رزين العقيلي، والربيع بن خثيم، وأبو عمران الجوفي برفعها (1) وترى الإعراب والخلافات النحوية واضحة جلية عند تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا} (2) سورة آل عمران آية 30. قال الزجاج نصب اليوم بقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} (3) في ذلك اليوم. قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون متعلقا بالمصير، والتقدير: وإلى الله المصير يوم تجد، ويجوز أن يكون متعلقا بفعل مضمر، والتقدير: اذكر يوم تجد. وفي كيفية وجود العمل وجهان أحدهما: وجوده مكتوبا في الكتاب، والثاني وجود الجزاء عليه (4) .
ومثلا عند تفسير قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} (5) سورة النساء آية 81، قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} (6) نزلت في المنافقين كانوا يؤمنون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمنوا فإذا خرجوا خالفوا، هذا قول ابن عباس. قال الفراء والرفع في طاعة على معنى أمرك طاعة.
قوله تعالى: {بَيَّتَ طَائِفَةٌ} (7) قال ابن قتيبة: والمعنى فإذا برزوا من عندك، أي خرجوا، بيت طائفة منهم غير الذي تقول: أي: قالوا وقدروا ليلا غير ما أعطوك نهارا. قال الشاعر:
أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بشيء نكر
والعرب تقول: هذا أمر قد قدر بليل، وفرغ منه بليل، ومنه قول الحارث بن حلزة:
أجمعوا أمرهم عشاء فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
وقال بعضهم بيت بمعنى بدل وأنشد:
وبيت قولي عند المليك ... قاتلك الله عبدا كفورا (8)
__________
(1) زاد المسير جـ 1 ص 11.
(2) سورة آل عمران الآية 30
(3) سورة آل عمران الآية 30
(4) زاد المسير جـ 1 ص 372.
(5) سورة النساء الآية 81
(6) سورة النساء الآية 81
(7) سورة النساء الآية 81
(8) زاد المسير جـ 2 ص 142، 143.(31/250)
فإننا نرى اللغة والإعراب وأشعار العرب في تفسير تلك المفردات اللغوية ورواية الشعر للاستشهاد وتفسير الألفاظ هي الطريقة المشهورة لابن عباس رضي الله عنه الذي قد نقل عنه ابن الجوزي، ومن أهم مصادره وكذلك نجد المعاني البلاغية واضحة بارزة.
ومثلا عند تفسير قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} (1) سورة الأعراف آية 92 فيها أربعة أقوال: القول الأول: كأن لم يعيشوا في دارهم، قاله ابن عباس والأخفش قال حاتم طيئ:
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... فكلا سقاناه بكأسيهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
قال الزجاج: معنى غنينا: عشنا - والتصعلك: الفقر - والعرب تقول للفقير صعلوك. والثاني: كأن لم يتنعموا فيها، قاله قتادة.
والثالث: كأن لم يكونوا فيها، قاله ابن زيد ومقاتل.
والرابع: كأن لم ينزلوا فيها، قاله الزجاج. قال الأصمعي: المغاني: المنازل، يقال: غنينا بمكان كذا. أي نزلنا به. وقال ابن قتيبة كأن لم يقيموا فيها.
ومعنى غنينا بمكان كذا: أقمنا. قال ابن الأنباري وإنما كرر قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا} (2) للمبالغة في ذمهم: كما تقول: أخوك الذي أخذ أموالنا، أخوك الذي شتم أعراضنا (3) .
ومثلا عند تفسير قوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} (4) سورة إبراهيم، آية 10، يقول: هذا استفهام إنكار والمعنى لا شك في الله أي في توحيده (يدعوكم) بالرسل والكتب {لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} (5) قال أبو عبيدة - من زائدة - كقوله: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (6) سورة الحاقة، آية 47. قال أبو ذؤيب:
__________
(1) سورة الأعراف الآية 92
(2) سورة الأعراف الآية 92
(3) زاد المسير جـ 3 ص 232، 233
(4) سورة إبراهيم الآية 10
(5) سورة إبراهيم الآية 10
(6) سورة الحاقة الآية 47(31/251)
جزيتك ضعف الحب لما شكوته ... وما إن جزاك الضعف من أحد قبلي (1)
ومثلا عند تفسير قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} (2) سورة الواقعة الآية 25، يقول: فإن قيل التأثيم لا يسمع فكيف ذكره مع المسموع؟ فالجواب أن العرب يتبعون آخر الكلام أوله، وإن لم يحسن في أحدهما ما يحسن في الآخر، فيقولون: أكلت خبزا ولبنا، واللبن لا يؤكل، وإنما حسن هذا لأنه كان مع ما يؤكل. قال الفراء أنشدني بعض العرب:
إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزججن الحواجب والعيونا
قال: والعين لا تزجج وإنما تكحل فردها على الحاجب لأن المعنى يعرف (3) . .
__________
(1) زاد المسير جـ 4 ص 350.
(2) سورة الواقعة الآية 25
(3) زاد المسير جـ 8 ص 138(31/252)
موقفه من الإسرائيليات:
لقد جاء في مقدمه تفسير " زاد المسير " في الجزء الأول منه ما يظهر موقفه من الإسرائيليات التي ذكرها وأوردها في تفسيره، فقد ذكر في المقدمة " ومن إيراد طائفة غير قليلة من الأخبار الإسرائيلية الغربية التي أغنانا الله عنها بما هو أصح منها وأنفع وأوضح وأبلغ وغالبه مما لا يتعلق به كبير فائدة، ولا حاصل له مما ينفع به في الدين " (1) .
فنراه قد روى بعض الأخبار الإسرائيلية عن رواة اشتهروا برواية تلك الأخبار من أمثال كعب الأحبار، ووهب بن منبه، والسدي وغيرهم كأبي صالح الكلبي. فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (2) {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (3) سورة الأنبياء آية 83 - 84.
__________
(1) زاد المسير جـ 1 ص 5.
(2) سورة الأنبياء الآية 83
(3) سورة الأنبياء الآية 84(31/252)
يذكر قصصا طويلة عن أيوب لا يتسع المقام لذكرها. رواها عن وهب بن منبه، وهي رواية غريبة لا يصدقها العقل أو المنطق، ولا تليق بمقام الأنبياء لما فيها من المنافاة لمقامهم عند الله.
وقد ذكر هذه القصة في تفسيره في الجزء الخامس من زاد المسير من ص 375 إلى ص 378.
ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} (1) سورة النمل آية 35، يسرد في ذلك قصة طويلة هي أقرب ما تكون إلى الخيال.
يقول: إنها بعثت ثلاث لبنات من ذهب في كل لبنة مائة رطل وياقوتة حمراء طولها شبر مثقوبة، وثلاثين وصيفا، وثلاثين وصيفة، وألبستهم لباسا واحدا حتى لا يعرف الذكر من الأنثى، ثم كتبت إليه، إني بعثت إليك بهدية فأقبلها وبعثت إليك بياقوتة طولها شبر، فأدخل فيها خيطا على طرفي الخيط بخاتمتك، وقد بعثت إليك ثلاثين وصيفة وثلاثين وصيفا فميز بين الجواري والغلمان، فجاء أمير الشياطين فأخبره بما بعثت إليه، فقال له: انطلق فافرش على طريق القوم من باب مجلسي ثمانية أميال في ثمانية أميال [لبنا] ، من الذهب (2) . .
وهكذا حتى نهاية القصة وقد نسبها إلى ابن عباس، وقد علق ابن كثير رحمه الله عليها قائلا: والله أعلم أكان ذلك أم لا؟ وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات. ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا} (3) سورة القصص آية 38. نراه قد ذكر رواية غريبة عن بناء الصرح والعمال والفعلة وأنهم خمسون ألف بناء سوى الأتباع إلى آخر الرواية، ورميه بالنشابة وأنها رجعت ملطخة بالدم، فقال: قتلت إله موسى (4) .
وقد روى هذه الرواية الطبري عن السدي ورواها السيوطي عن السدي وقد علق عليها القرطبي قائلا: والله أعلم بصحة ذلك.
__________
(1) سورة النمل الآية 35
(2) زاد المسير جـ 6، ص 170
(3) سورة القصص الآية 38
(4) زاد المسير جـ 6 ص 223(31/253)
ومثلا عند تفسيره لقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (1) سورة ص آية 21. فقد روى عن وهب أنه قال: كانت الحمامة من طيور الجنة، وقال السدي تصور له الشيطان في صورة حمامة. قال المفسرون: إنه لما تبع الحمامة رأى امرأة في بستان على شط بركة لها تغتسل، وقيل: بل على سطح لها، فعجب من حسنها، فحانت منها التفاتة فرأت ظله، ففضت شعرها فغطى بدنها فزاده ذلك إعجابا بها، فسأل عنها، فقيل: هذه امرأة أوريا، وزوجها في غزاة فكتب داود إلى أمير ذلك الجيش أن ابعث أوريا إلى موضع كذا وكذا وقدمه قبل التابوت، وكان من قدم قبل التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح عليه أو يستشهد (2) . .
إلى نهاية القصة التي لا تليق بشخص عادي فما بالك بنبي من أنبياء الله. وعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص، جلدته مائة وستين جلدة وهي حد الفرية على الأنبياء (3) . . ومثلا عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} (4) سورة ص آية 33.
يقول: ولقد فتنا سليمان أي ابتليناه وامتحناه بسلب ملكه {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} (5) أي على سريره " جسدا " وفيه قولان:
أحدهما: أنه شيطان قاله ابن عباس والجمهور، وفي اسم ذلك الشيطان ثلاثة أقوال أحدها: أنه صخر، والثاني أنه آصف، إلى آخر هذه القصة التي ذكر فيها سبب الابتلاء. وكانت في خصومة قضى فيها بالحق إلا أن هواه كان مع أهل زوجته الذين كانوا طرفا في القضية، وقد ذكر هذه القصة في الجزء السابع من ص 132 إلى ص 136.
وقد علق على هذه الأقوال بعض المفسرين كابن كثير وقال إنها من
__________
(1) سورة ص الآية 21
(2) زاد المسير جـ 7 ص 112 - 117
(3) التفسير والمفسرون جـ 1 ص 479
(4) سورة ص الآية 34
(5) سورة ص الآية 34(31/254)
الإسرائيليات. وقال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف ص 143: وأما ما يحكى من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان عليه السلام فالله أعلم بصحته. وقد علق ابن كثير على قصة إعطاء جرادة الخاتم حين ذهابه إلى الخلاء بإسناده إلى ابن عباس ولكنه يقول - ولكن الظاهر أنه تلقاه - إن صح عنه من أهل الكتاب.
وهكذا نرى أن جميع تلك القصص قد نقلها ابن الجوزي عن الإسرائيليات وحشا بها تفسيره حشوا مما لا يليق في حق إنسان عادي فكيف بالأنبياء؟(31/255)
ترجيحه بعض الآراء على بعض:
قلما كان لابن الجوزي نظرة ترجيحية في الأقوال أو ترجيح رأي على رأي آخر، وإنما كان يسرد الآراء سردا على لسان قائليها دون أن يعقب عليها أو يكون له رأي فيها، وقد ذكر ذلك في مقدمة التفسير " وكذلك لم يحاول ترجيح رأي على رأي أو معنى على معنى، ولا ناقش ما يحكيه من أقوال إلا في مواضع قليلة " (1) . .
فمثلا عند تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} (2) سورة ص آية 33. وبعد أن يذكر الأقوال التي يراد بها الجسد يقول: والمفسرون على القول الأول. ونحن نذكر قصة ابتلائه على قول الجمهور (3) . وهو يقصد بالقول الأول الذي قاله ابن عباس والجمهور أن الذي ألقي على الكرسي شيطان، وهذه من نظراته الترجيحية القليلة.
وبعد ذلك تذكر القصة كيفية ضياع الخاتم، ويذكر ابن الجوزي كل تلك الأقوال الصحيح منها والدخيل من أهل الكتاب والإسرائيلية فلا يعلق عليها بشيء، مع أهمية هذا لأنه يمس نبيا من الأنبياء. والأنبياء لهم العصمة وهم منزهون عن كل ما لا يليق.
__________
(1) زاد المسير جـ 1 ص 5
(2) سورة ص الآية 34
(3) زاد المسير جـ 8 ص 135(31/255)
ومن نظراته الترجيحية القليلة أيضا، أنه علق على قصة الشيطان الذي استولى على ملك سليمان: هل كان يأتي نساء سليمان، فبعض الأقوال ذكرت أنه كان يأتيهن في زمن الحيض، والقول الآخر أنه لم يقدر عليهن. وقد علق عليها ابن الجوزي قائلا: وهذا هو الصحيح: أي عدم إتيانه لهن.
ومن نظراته الترجيحية أيضا: أنه علق على قصة سليمان واستيلاء الشيطان على ملكه، بأنه آصف الذي قال لسليمان عندما فتن: أنا أقوم مقامك إلى أن يتوب الله عليك، فقام في مقامه وسار بالسيرة الجميلة، وقد علق ابن الجوزي على هذا بقوله: وهذا لا يصح ولا ذكره من يوثق به.
وقد كانت هناك أشياء تمس العقيدة فلم يتعرض لها بالرأي أو الترجيح، مثل وجود الأوثان في بيت سليمان وعبادتها، وخصوصا وأن العبادة استمرت أربعين يوما كما تقول الرواية، وقد علق عليها بعض المفسرين الآخرين.
وكذلك في قصة امتحان داود عليه السلام وما ذكر من تلك القصة الطويلة والافتراءات التي تقول برؤيته لامرأة أوريا وحبه لها ورغبته فيها، يذكر ذلك كله ابن الجوزي دون أن يتعرض له بالتعليق أو التكذيب، وخصوصا وأنه مروي عن وهب بن منبه وهو ممن اشتهروا بالإسرائيليات. ولا يزيد عن قوله: " هذا قول وهب بن منبه ".
وكذلك في قصة أيوب عليه السلام وما كان من امتحانه وابتلائه بمرضه وإعراض الناس عنه، وسبب هذا الابتلاء، وقد رويت كذلك عن وهب بن منبه، وقيل عنها: إن بها غرابة، وقيل كذلك إنها من الإسرائيليات، ولم يعلق ابن الجوزي برأيه أو يدلي بدلوه.
ومن النظرات الترجيحية القليلة التي أبداها عند تفسيره لقوله تعالى: {لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (1) سورة يوسف آية 25، قال: وفي البرهان ستة أقوال: أحدها: أنه مثل له يعقوب. روى ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: نودي يا يوسف أتزني فتكون مثل الطائر الذي نتف ريشه فذهب يطير فلم يستطع
__________
(1) سورة يوسف الآية 24(31/256)
فلم يعط على النداء شيئا، فنودي الثانية فلم يعط على النداء شيئا فتمثل له يعقوب فضرب صدره، فقام فخرجت شهوته من أنامله.
والثاني: أنه جبريل عليه السلام، والثالث: أنها قامت إلى صنم في زاوية البيت فسترته بثوب، فقال لها يوسف: أي شيء تصنعين؟ قالت: أستحي من إلهي هذا أن يراني على هذه السوأة. فقال: أتستحين من صنم لا يعقل ولا يسمع، ولا أستحي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت، فهو البرهان الذي رأى.
والرابع: أن الله بعث إليه ملكا فكتب في وجه المرأة بالدم {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (1) الإسراء آية 32.
والخامس: أن سيده دنا من الباب، والسادس: أن البرهان هو علم ما أحل الله مما حرم الله، فرأى تحريم الزنا. قال ابن قتيبة: رأى حجة الله عليه وهي البرهان (2) . .
فكان من تعليق ابن الجوزي عليه بأن قال:
وهذا هو القول الصحيح وما تقدمه فليس بشيء وإنما هي أحاديث من أعمال القصاص، وقد أشرت إلى فسادها في كتاب " المغني في التفسير " وكيف يظن بنبي كريم أنه يخوف ويرعب ويضطر إلى ترك هذه المعصية وهو مصر هذا غاية القبح (3) . .
تلك هي النظرات الترجيحية التي أبدى بعضها ابن الجوزي وهي قليلة إذا قيست على غيره من المفسرين الذين يدلون بآرائهم أو يرجحون بعض الآراء على بعضها الآخر بما لهم من خبرة وعلم دون أن يتركوا القارئ يتخبط في تلك الأقوال لا يدري الصحيح منها أو غير الصحيح أو الأحسن أو الأفضل.
__________
(1) سورة الإسراء الآية 32
(2) زاد المسير جـ 4 ص 307، 308، 309
(3) زاد المسير جـ 5 ص 310(31/257)
وفاة ابن الجوزي:
بعد حياة حافلة بالعمل الدائب المستمر لخدمة الإسلام ورفعة شأن السنة المحمدية ومحاربة البدع والمبتدعة، مرض الشيخ مدة لا تزيد على خمسة أيام توفي على أثرها رحمه الله رحمة واسعة.
وكانت وفاته ليلة الجمعة الثاني عشر من رمضان بين العشاءين سنة سبع وتسعين وخمسمائة، ودفن من الغد في باب الحرب، وأجمع من ترجموا له على أن يوم وفاته كان يوما مشهودا في بغداد، فقد ازدحم الناس لتشييعه إلى مثواه الأخير، وغلقت الأسواق، وأفطر بعضهم لشدة الزحام والحر ولم يصل إلى حفرته عند قبر الإمام أحمد بن حنبل إلا وقت صلاة الجمعة، وحزن الناس عليه كثيرا حتى قيل: لم يخلف بعده مثله (1) . .
ذلك هو ابن الجوزي الذي أوقف حياته على العلم والدراسة وخدمة الدين ورفع رايته لمحاربة التيارات المعادية للإسلام، حتى ولو كلفته سجنه ونفيه.
ذلك هو ابن الجوزي الإمام المحدث الفقيه العالم الذي فسر القرآن على منبره، المؤلف صاحب التصانيف العديدة الذي التزم في تفسيره بالمأثور لا بطريقة التفسير بالرأي.
جزى الله ابن الجوزي خيرا على ما قدمه للإنسانية من ثروة ضخمة وما قدم للإسلام من خير ولأهله من نفع. . والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) صفة الصفوة جـ 1 ص10(31/258)
تأويل الصفات
في
كتب غريب الحديث
الشيخ \ بدر الزمان محمد شفيع النيبالي.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن تبعهم، ودعا بدعوتهم، وسلك سبيلهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد، فإن من واجب المسلم أن تكون عنايته بعقيدته أكثر من عنايته بالأعمال المفروضة عليه من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والجهاد، وغير ذلك، لأن الأعمال لا تؤتى جناها إلا إذا وجدت مع العقيدة الصحيحة الثابتة، السالمة من الشوائب.
ومن الأمور المهمة في العقيدة صفات الله جل وعلا. فإثباتها كما وردت، وإجراء اللفظ على ظاهر معناه بدون خوض في إدراك حقيقته، ومعرفة كيفيته هو الأصل. وأما حمل اللفظ على معنى بعيد، غير متبادر، وإجراء المجاز فيه فهو تعطيل الله تعالى عما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد هذا التعطيل في معظم كتب غريب الحديث عند بيان معاني الكلمات المتعلقة بالصفات.(31/259)
وكنت قد سجلت بعض ملاحظتي حول هذه الظاهرة الزائغة أثناء مطالعتي لكتاب النهاية لابن الأثير (606 هـ) ، فأحببت أن أصوغها في مقالة، وألفت بها أنظار المستفيدين من كتاب النهاية، ومصادره (1) ليكونوا على حذر من هذه التأويلات الفاسدة التي دخلت في كتب الغريب من جهة المعتزلة، والأشاعرة، وغيرها وكادت أن تقع موقعا حسنا في قلوب المستفيدين منها. ومن هنا يجدر بي أن أذكر ملخص أقوال أئمة أهل السنة في باب الصفات، ثم أناقش ما ورد في كتب غريب الحديث من تأويلها، فأقول:
قال الترمذي " وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة مثل هذا ما يذكر فيه أمر الرؤية أن الناس يرون ربهم، وذكر القدم وما أشبه هذه الأشياء. والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء وقالوا: تروى هذه الأحاديث، ونؤمن بها، ولا يقال: كيف؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن يرووا هذه الأشياء كما جاءت، ويؤمن بها، ولا تفسر، ولا يتوهم، ولا يقال: كيف؟ ، وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه " (2) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية نقلا عن الوليد بن مسلم أنه قال: " سألت مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات فقالوا: أمروها كما جاءت - وفي رواية - قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف " (3) .
ونقل عن مالك أنه قال: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة " (4) .
__________
(1) وهي كتاب الغريبين للهروي، والمجموع المغيث لأبي موسى، والفائق للزمخشري وغير ذلك.
(2) الترمذي مع التحفة (3 \ 336) .
(3) الفتوى الحموية الكبرى (24) .
(4) الفتوى الحموية الكبرى (24) .(31/260)
وقال في الذين يئولون الكلمات عن معناها الظاهر لتنزيه الله تعالى عن النقص والعيب إلى معنى آخر: " أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات، فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل: مثلوا أولا، وعطلوا آخرا " (1) .
وقال في بيان المذهب الحق نقلا عن الخطابي: " فإن فذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله " (2) .
وجعله أصلا للباب: " فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسله نفيا وإثباتا، فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه " (3) .
قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) .
وقال سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: " وكل من جحد شيئا مما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فقد ألحد في ذلك فليقل أو ليستكثر ".
وذكر السلف فقال: " فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظا ولا معنى " (5) .
فهذه النصوص تدل على إثبات الصفة كما وردت، والاعتقاد بها حسب
__________
(1) الفتوى الحموية الكبرى (17) .
(2) الفتوى الحموية الكبرى (34) .
(3) الرسالة التدمرية (4) .
(4) سورة الأعراف الآية 180
(5) تيسير العزيز الحميد (646) .(31/261)
معرفة معناها في لسان العرب من غير أن تشبه بصفات الخلوق، أو تعتقد لها كيفية.
وأما التأويل الذي نراه في كتب غريب الحديث في أبواب العقائد عامة وباب الصفات خاصة فالحق أنه تعطيل لصفات الله تعالى، ولم يدخل في كتب الغريب إلا من جهة تأثر اللغويين بكلام الجهمية والمعطلة، فليحذر الذين يستفيدون منها أن تصيبهم فتنة، فيعتقدوا بما جاء عندهم من تأويل الصفات، فيزيغوا عن الحق.
وقد أكثر اللغويون بالتأليف في غريب الحديث، ومع هذا ما وجدت - حسب علمي - أحدا منهم أهتم بالتنبيه على هذه الظاهرة الزائغة عن الحق، وأبان الصواب، في كتاب مفرد أو شبه مفرد، فذلك الذي حملني على أن أشر إلى بعض ما تسرب إلى كتب غريب الحديث من هنات في باب العقيدة سهوا من مؤلفيها - ونستغفر الله لنا ولهم - ونصوبها بالأدلة الصريحة الواضحة إن شاء الله، وهي كما يلي:(31/262)
(1) قدم الله ورجله:
نقل ابن الأثير عن الهروي (1) ". حديثا في صفة النار: " وحتى يضع الجبار فيها قدمه " (2) وعند الزمخشري جاء ذكر الرب أولا ثم أورده بلفظ: " فيضع قدمه عليها " (3) .
وقال الهروي بعد ذكر الحديث: " روي عن الحسن: يجعل الله تعالى فيها الذين قدمهم من شرار خلقه، فهم قدم الله تعالى للنار كما أن المسلمين قدم للجنة " (4) . .
__________
(1) وعنده بدون لفظ '' الجبار
(2) انظر النهاية (4 \ 25)
(3) انظر الفائق (3 \ 165) .
(4) كتاب الغريبين (3 \ 17)(31/262)
ومثله رواه عنه الأزهري، وابن سيده كما نقله عنه ابن منظور (1) .
وروى القرطبي عن النضر بن شميل في معنى الحديث: " أي من سبق في علمه أنه من أهل النار " (2) . .
وقال الزمخشري: " وضع القدم على الشيء مثل للردع والقمع، فكأنه قال: يأتيها أمر الله عز وجل فيكفها عن طلب المزيد فترتدع " (3) . وقال القاضي عياض في مادة " جبر ": " قيل: هو أحد الجبابرة الذين خلقهم الله لها، فكانت تنتظره، وقيل: الجبار هنا الله تعالى، وقدمه: قوم قدمهم الله تعالى لها، أو تقدم في سابق علمه أنه سيخلقهم لها، وهذا تأويل الحسن البصري، كما جاء في كتاب التوحيد من البخاري هو أن الله ينشئ للنار من يشاء فيلقون فيها " (4) . وقيل معناه يقهرها بقدرته حتى تسكن. . وعند أبي ذر في تفسير سورة (ق) : حتى يضع رجله. . وإذا أضفنا ذلك إلى أحد الجبابرة كان على وجهه، وإلا كان بمعنى الجماعة التي خلقهم الله لها، والرجل: الجماعة من الجراد، أو يتأول فيه كما يتأول في القدم " (5) . .
ونقل ابن الجوزي عن الحسن - كما سبق عند الهروي - وعن الخطابي - ولم أجده في غريبه - قوله: إنما أريد بذلك الزجر لها والتسكين من غربها كما يقال للأمر تريد إبطاله: وضعته تحت قدمي " ثم حسنه ابن الجوزي بقوله: " وهذا وجه حسن " (6) وذكر ابن الأثير ما عند الهروي، وأضاف إليه قول الزمخشري، والخطابي من غير عزو (7) .
__________
(1) انظر تهذيب اللغة (9 \ 45) واللسان (قدم) .
(2) تفسير القرطبي (17 \ 19)
(3) الفائق (3 \ 165)
(4) البخاري (ومعه الفتح) (13 \ 434)
(5) المشارق (1 \ 138)
(6) غريب ابن الجوزي (2 \ 225) . .
(7) انظر النهاية (4 \ 25) .(31/263)
ويتلخص مما سبق عدة أقوال للمؤلفين:
(1) القدم: الذين قدمهم الله من شرار خلقه.
(2) القدم: هم الذين سبق في علم الله أنهم من أهل النار.
(3) وضع القدم: يراد به الزجر والتوبيخ عن طلب المزيد، والقهر على النار بالقدرة، وإبطال طلبها.
(4) الجبار: هو أحد الجبابرة الذين خلقهم الله للنار.
(5) الرجل: رجل أحد الجبابرة.
(6) الرجل: الجماعة الذين خلقهم الله للنار.
هذه هي بعض أقوال العلماء في تأويل هذا الحديث، وقد عرض بعضها الآخر الحافظ ابن حجر (1) .
وقد وردت أحاديث عديدة في إثبات هذه الصفة لله تعالى فذكر بعضها:
" عن أبي هريرة رفعه - وأكثر ما كان يوقفه أبو سفيان - «يقال لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟ فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها فتقول: قط قط (2) »
" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأما النار فلا تمتلئ، حتى يضع رجله، فتقول: قط قط قط فهنالك تمتلئ، ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا، وأما الجنة فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقا (3) » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويبقى أهل النار فيطرح منهم فيها فوج، ثم يقال: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ ثم يطرح فيها فوج آخر فيقول: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟
__________
(1) انظر فتح الباري (8 \ 596) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4849) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2847) .
(3) الحديثان في البخاري (8 \ 595) حديث رقم (4849 - 4850) . .(31/264)
حتى إذا أوعبوا فيها وضع الرحمن قدمه فيها فانزوى بعضها إلى بعض، ثم قال: قط؟ قالت: قط قط (1) » .
" عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فيدلي فيها رب العالمين قدمه (2) » .
" سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى في النار أهلها، وتقول: هل من مزيد؟ ويلقى في النار، وتقول: هل من مزيد؟ حتى يأتيها تبارك وتعالى فيضع قدمه عليها (3) » .
" عن ابن عباس. . .: إن الله الملك تبارك وتعالى قد سبقت كلمته: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (4) فلما بعث الناس وأحضروا، وسيق أعداء الله إلى النار زمرا، جعلوا يقتحمون في جهنم فوجا فوجا، لا يلقى في جهنم شيء إلا ذهب فيها، ولا يملؤها شيء قالت: ألست قد أقسمت لتملأني من الجنة والناس أجمعين، فوضع قدمه، فقالت: حين وضع قدمه فيها: قد قد، فإني قد امتلأت، فليس لي مزيد، ولم يكن يملؤها شيء حتى وجدت مس ما وضع عليها، فتضايقت حين جعل عليها ما جعل، فامتلأت فما فيها موضع إبرة " (5) .
وفي رواية عنه: ". . . حتى إذا لم يبق من أهلها أحد إلا دخلها وهي لا يملؤها شيء أتاها الرب فوضع قدمه عليها. . . ولم يكن يملؤها شيء حتى وجدت مس قدم الله تعالى ذكره. . . " (6) .
فهذه الأحاديث الصحيحة صريحة في إثبات صفة القدم لله تعالى، ويظهر ذلك فيما يلي:
__________
(1) سنن الترمذي كتاب صفة الجنة (2557) .
(2) صحيح البخاري تفسير القرآن (4848) ، صحيح مسلم الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2848) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3272) ، مسند أحمد بن حنبل (3/134) .
(3) الأحاديث الثلاثة في التوحيد لابن خزيمة (96 - 98) .
(4) سورة هود الآية 119
(5) تفسير الطبري (26 \ 169) .
(6) تفسير الطبري (26 \ 169 -170) .(31/265)
(1) إتيان الرب تبارك وتعالى، يشير إلى أن القدم صفه له، لأنه إن كان إسما لمن قدمهم للنار من شرار خلقه، كان تقديم إدخالهم في النار أولى من تأخيرهم إلى آخر الدخول، وما كان لإتيان الرب معنى إلا إذ أوله المأول بإتيان أمر الرب على حذف المضاف، بالرأي ودون دليل، فلم تظهر لهذا الأمر فائدة أيضا، لأن من دخل النار لم يدخل إلا بأمره.
(2) تفسير القدم بالرجل في الرواية الثانية يظهر أن اللفظين يثبتان صفة حقيقية واحدة لله تعالى.
(3) قول ابن عباس: " حتى وجدت (أي النار) مس ما وضع عليها " و " حتى وجدت مس قدم الله تعالى ذكره " صريح في إثبات القدم حيث ذكر له أن النار وجدت منه مسا حينما وضع عليها، ذلك بعدما نفد من كان عليه دخول النار.
(4) جاء في الحديث بعد ذكر وضع الرجل والقدم، وامتلاء النار وانزواء بعضها إلى بعض: ولا يظلم الله عز وجل من خلقه أحدا، قال الحافظ ابن حجر: " فإن فيه إشارة إلى أن الجنة يقع امتلاؤها بمن ينشئهم الله لأجل ملئها، وأما النار فلا ينشئ لها خلقا بل يفعل فيها شيئا عبر عنه بما ذكر يقتضي لها أن ينضم بعضها إلى بعض " (1) .
وفيما سبق ذكرنا ما أثبت الله لنفسه على لسان نبيه من صفة القدم إجراء للفظ على ظاهره ولا نتخيل فيها مشابهة المخلوقين فنئولها، ولا ندرك حقيقتها فنكيفها، ولا يحملنا عدم معرفة كنهها أن ننكرها.
وبعد هذا ينبغي أن ننظر إلى تأويل المئولين لنعرف مدى معارضة نصوص الأحاديث فنقول:
أما التأويل الأول والثاني - وهما أن يراد بالقدم: الذين قدمهم الله من شرار خلقه، وهم الذين سبق في علم الله أنهم من أهل النار - فيندفعان بسياق
__________
(1) فتح الباري (8 \ 597) .(31/266)
الأحاديث، فسياقها أن النار تذكر الله تعالى رعده بملئها فتطب المزيد فيدخل فيها أهل النار أفواجا، ثم حينما لم يبق من أهل النار أحد وهي لا تزال تطلب المزيد أتاها الرب تعالى فوضع قدمه عليها، وحينما وجدت مس قدم الله تعالى تضايقت وامتلأت.
ووجه الرد على التأويلين أنه حينما لم يبق من أهل النار أحد إلا دخلها، والنار لا زالت تطلب المزيد، من يكون الذين قدمهم الله من شرار خلقه، ومن سبقوا في علمه تعالى أنهم من أهل النار؟ وألفاظ الأحاديث لبيان نفادهم هكذا: " حتى إذا أوعبوا فيها " " حتى إذا لم يبق من أهلها أحد إلا دخلها، وهي لا يملؤها شيء "، فحينئذ " أتاها الرب فوضع قدمه عليها ". فهل يعقل أن يقال: لم يبق من أهل النار أحد إلا دخلها في جملة، ثم يقال في جملة بعدها: ثم يلقى في النار من قدمهم الله من شرار الخلق، أو يسوغ أن يقال: ثم يلقى فيها الذين سبق في علم الله أنهم من أهلها؟ فالحق أن المراد من القدم صفة من صفات الله تعالى.
وأما التأويل الثالث وهو ما أشبه فيه قول الزمخشري والخطابي، فصار وضع القدم عندهما مثلا للزجر والردع عن طلب المزيد، وعند غيرهما رمزا للقهر على النار بالقدرة، فهذا التأويل - كما يبدر لي - يضمر في طيه أربعة تأويلات، فإن قول الزمخشري: فكأنه قال: " يأتيها أمر الله عز وجل فيكفها عن طلب المزيد فترتدع " مشتمل على تأويل في ثلاثة أشياء:
الأول: أنه قدر المحذوف، فأول إتيان الرب بإتيان أمره.
الثاني: أنه أول وضع القدم بالزجر والتوبيخ والكف عن طلب المزيد.
الثالث: أنه أول انزواء النار بعضها إلى بعض وقولها قط قط بارتداعها.
والرابع: هو التأويل الذي أوله بعضهم بأن وضع القدم رمز للقهر على النار وإبطال طلبها المزيد.
فهذه التأويلات وما أشبهها مما أوله المئولون باطلة لأنهم لم يأتوا لها ببرهان،(31/267)
ولم يبينوا سبب إخراج هذه الكلمات عن ظواهرها، وكل هذا ظن منهم أن ظواهر هذه الكلمات إذا أثبتت صفات للرب مثلا كان عيبا فيه، ولا تليق هذه بجلاله تعالى فينزه عنه، فبدأوا يئولون كل كلمة ثابتة أثبتت ما يخالف رأيهم، فجاعوا بالطامات حيث شحنوا الكتب بالتأويلات، أما ترى أن هذه الجملة الواضحة: " حتى يأتيها ربنا، فيضع قدمه عليها فتنزوي " اشتملت على قطعات ثلاث، وترى التأويل لكل قطعة.
ومن هنا يظهر أنه لا يبقى كلام على مراد القائل لم يسلم من التأويل.
ومع هذا يمكن الرد على كل تأويل بصريح النص فيرد التأويل الأول بقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (1) . .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: " يعني لفصل القضاء بين خلقه. . فيجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفا صفوفا " (2) .
ويرد التأويل الثاني والثالث بما ثبت عن ابن عباس وغيره، وقد سبق تفصيل ذلك قريبا في هذا المقال.
وإجمال القول فيه أن تأويل وضع القدم بالزجر والقهر، ينتفي بقول ابن عباس: " حتى وجدت (أي النار) مس قدم الله تعالى ذكره " بعدما ذكر وضع قدمه عليها.
ويرد التأويل الثالث - أعني تأويل انزواء النار بارتداعها عن طلب المزيد - ما جاء في حديث ابن عباس السابق بلفظ: " فتضايقت حين جعل عليها ما جعل "، وفي حديث أبي هريرة عند ابن خزيمة بلفظ: " هناك تمتلئ ويدنو بعضها إلى بعض " (3) .
__________
(1) سورة الفجر الآية 22
(2) تفسير ابن كثير (4 \ 511) .
(3) التوحيد (92) . .(31/268)
وأما التأويل الرابع - وهو تأويل الجبار - في قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يضع الجبار فيها قدمه) (1) . بأنه أحد الجبابرة أو أنه إبليس لأنه أول من تكبر (2) . فتأويل بعيد لما سبق من ألفاظ الأحاديث وهي: " فيضع الرب تبارك وتعالى قدمه عليها " و " وضع الرحمن قدمه فيها " و " حتى وجدت مس قدم الله تعالى ذكره " بدل لفظ الجبار.
وأما التأويل الخامس - وهو كون الرجل لأحد الجبابرة - ففرع عن ثبوت التأويل الرابع، فإذا بطل الأصل بطل الفرع.
وأما التأويل السادس - وهو إرادة الجماعة الذين خلقوا للنار بالرجل - فيبطل بما بطل به التأويل الأول والثاني.
وأما ما استدل به القاضي عياض - على تأييد ما نقل عن الحسن البصري من التأويل - من حديث أخرجه البخاري في كتاب التوحيد ولفظه: «وأن الله ينشئ للنار من يشاء ويلقون فيها، فتقول: هل من مزيد ثلاثا، حتى يضع فيها قدمه فتمتلئ (3) » فلا يؤيد التأويل المذكور لوجوه:
الأول: قال الحافظ بن حجر: " وقد قال جماعة من الأئمة، إن هذا الموضع مقلوب، وجزم ابن القيم بأنه غلط، واحتج بأن الله تعالى أخبر بأن جهنم تمتلئ من إبليس وأتباعه، وكذا أنكر الرواية شيخنا البلقيني واحتج بقوله {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (4) ثم قال: " وحمله على أحجار تلقى في النار أقرب من حمله على ذي روح يعذب بغير ذنب ".
الثاني: وأضاف الحافظ فقال: " ويحتمل أن يراد بالإنشاء ابتداء إدخال الكفار النار، وعبر عن ابتداء الإدخال بالإنشاء، فهو إنشاء الإدخال، لا الإنشاء
__________
(1) التوحيد لابن خزيمة (92) .
(2) انظر فتح الباري (8 \ 596)
(3) البخاري مع الفتح (13 \ 343) حديث رقم (7449) .
(4) سورة الكهف الآية 49(31/269)
بمعنى ابتداء الخلق، بدليل قوله: " فيلقون فيها وتقول: هل من مزيد، وأعادها ثلاث مرات، ثم قال: حتى يضع فيها قدمه، فحينئذ تمتلئ، فالذي يملؤها حتى تقول: حسبي هو القدم كما هو صريح الخبر " (1) .
الثالث: وهناك وجه آخر وهو أن وضع القدم ذكر بعد الإنشاء والإلقاء، فينبغي أن يكون الإنشاء ووضع القدم متغايرين، لأن الإنشاء لا يخلو من ثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون الإنشاء بمعنى ابتداء الخلق، وهو لا يراد لما سبق نقله عن ابن حجر.
الثاني: أن يكون الإنشاء الإدخال، فلا يفيد في تأييد التأويل المنقول عن الحسن.
الثالث: أن يكون الإنشاء بمعنى إنشائهم بما عملوا في الدنيا من موجبات النار، فلا يفيد أيضا للتأييد المذكور، فيستقل القدم بمعنى مغاير للإنشاء وهو أن يكون صفة لله تعالى.
وأخيرا أذكر طريق السلف في الصفات فقد قال ابن حجر: " هو أن تمر كما جاءت، ولا يتعرض لتأويله، بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله " (2) وهذا اختيار جماعة من اللغويين الأوائل الكبار أمثال أبي عبيد ومشايخه، والأزهري وغيرهم، فقد نقل الأزهري بعد ذكر حديث وضع القدم تأويل الحسن ثم علق عليه فقال: " وأخبرني محمد بن إسحاق السعدي عن العباس الدوري أنه سأل أبا عبيد عن تفسيره وتفسير غيره من حديث النزول والرؤية، فقال: " هذه أحاديث رواها لنا الثقات عن الثقات حتى رفعوها إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وما رأينا أحدا يفسرها، فنحن نؤمن بها على ما جاءت
__________
(1) فتح الباري (13 \ 437) .
(2) فتح الباري (13 \ 436) . .(31/270)
ولا نفسرها "، أراد أنها تترك على ظاهرها كما جاءت " (1) .
وقال البغوي: " قلت: والقدم والرجلان (2) ، (3) . . المذكوران في هذا الحديث من صفات الله سبحانه وتعالى، المنزه عن التكييف والتشبيه، وكذلك كل ما جاء من هذا القبيل في الكتاب أو السنة كاليد والإصبع والعين والمجيء والإتيان، فالإيمان بها فرض، والامتناع عن الخوض فيها واجب " (4) . .
__________
(1) تهذيب اللغة (9 \ 45 - 46) .
(2) هكذا وردت بالتثنية
(3) وذكر الحديث بالإفراد
(4) شرح السنة (15 \ 257)(31/271)
(2) أصابع الرحمن:
ذكر الزمخشري حديث: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبه كيف يشاء (1) » .
فقال: " هذا تمثيل لسرعة تقلب القلوب، إن ذلك معقود بمشيئته وذكر الأصابع مجاز كذكر اليد واليمين ". .
وقال القاضي عياض: " وقوله: " يضع السماوات على إصبع. . . " الحديث، قيل: الإصبع صفة سمعية لله تعالى، لا يقال فيها أكثر من ذلك كاليد، وهذا مذهب الأشعري وبعض أصحابه، وقد يحتمل أن يكون إصبعا من أصابع ملائكته، أو خلقا من خلقه سماه إصبعا، وقيل: هي كناية عن القدرة وعن النعمة، وقيل: قد يكون المراد ضرب المثل من أنه لا تعب عليه ولا لغوب في إظهار المخلوقات كلها ذلك اليوم " (2) . .
وأورد ابن الأثير الحديث الذي عند الزمخشري ثم شرح نحو شرحه، وأضاف إليه فقال: " وتخصيص ذكر الأصابع عن أجزاء القدرة والبطش لأن ذلك باليد، والأصابع أجزاؤها " (3) . .
__________
(1) صحيح مسلم القدر (2654) ، مسند أحمد بن حنبل (2/168) .
(2) المشارق (1 \ 47)
(3) النهاية (3 \ 9)(31/271)
وملخص الأقوال الواردة هنا كما يلي:
(1) ذكر الأصابع مجاز والمراد بها تمثيل المشيئة.
(2) الإصبع صفة لله تعالى، تثبت كما وردت من غير معرفة كنهها، وكيفيتها، ولا تجحد تشبيها بصفات المخلوقين.
(3) المراد من الإصبع إصبع بعض ملائكته، أو يراد بها بعض المخلوقين سمي إصبعا.
(4) هي كناية عن النعمة وعن القدرة.
(5) أريد بها ضرب المثل لإظهار عدم التعب.
وبعد ما عرضنا أقوالهم المعارضة في تأويل الإصبع يجدر بنا أن نسوق نصوصا وردت فيها هذه الكلمة، ونعرف مدى اهتمام الشارع بإثبات الصفات وتعطيل المئولين إياها، وهي فيما يأتي:
عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء (1) »
عن عبد الله «أن يهوديا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والخلائق على إصبع.
(وفي رواية عند الطبري: " ثم يهزهن "، ثم يقول: أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قرأ: (3) » وفي رواية الطبري المذكور: " ثم قرأ هذه الآية {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} (4) الآية.
وفي رواية عنه: «فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا وتصديقا له (5) »
__________
(1) مسلم (مع النووي) (16 \ 204) الترمذي (3 \ 199) مسند أحمد (3 \ 112) توحيد ابن خزيمة (81) توحيد ابن منده (1 \ 272) . .
(2) البخاري (مع الفتح) (13 \ 393) حديث رقم (741) تفسير الطبري (24 \ 26) . .
(3) سورة الأنعام الآية 91 (2) {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}
(4) سورة الأنعام الآية 91
(5) البخاري (مع الفتح) (13 \ 393) حديث رقم (741) تفسير الطبري (24 \ 26) . .(31/272)
قال ابن كثير بعد تفسير هذه الآية: " وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة، والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف " (1) . .
ثم ذكر أحاديث الأصابع.
وقال ابن خزيمة في " باب إثبات الأصابع لله عز وجل " بعد ذكر أحاديث الأصابع: " والصواب والعدل في هذا الجنس مذهبا، مذهب أهل الآثار ومتبعي السنن، واتفقوا على جهل من يسميهم مشبهة، إذ الجهمية المعطلة جاهلون بالتشبيه. . . كيف يكون مشبها من يثبت لله أصابع على ما بينه النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم للخالق البارئ " (2) قلت: لأنه لا مشابهة بين أصابع الرحمن، وأصابع الإنسان سوى اتفاقهما في الاسم ولا يكون تشبيها إلا إذا قسنا أصابعه بأصابعنا، فأما إذا أثبتناها له من غير تمثيل ولا تكييف يكون كإثباته لذاته " نفسا " ولبعض مخلوقاته " نفسا " حيث قال على لسان عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (3) .
فيقال: نفس لا كنفس، ومثله يقال: أصابع لا كأصابع، ويدان لا كيدين، وهكذا في كل ما ثبت عن الله تعالى في وصف نفسه، وكذا فيما أثبت له رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما ما لم يثبت فالخوض فيه ضلال.
__________
(1) تفسير ابن كثير (4 \ 63)
(2) التوحيد لابن خزيمة (82 - 83) . .
(3) سورة المائدة الآية 116(31/273)
(3) ضحك الله تعالى:
قال بيان الحق النيسابوري (553 هـ) في معنى: " يضحك الله إلى رجلين. . . " (1) : معنى الضحك: الرضا بفعلهما (2) . .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 6 \ 39 رقم 2826.
(2) جمل الغرائب 119 \ أ(31/273)
وهذا تأويل مخالف لأحاديث الضحك الكثيرة، منها ما رواه ابن مسعود في آخر أهل النار خروجا، وفيه:
" أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها؟ قال: يا رب أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ فضحك ابن مسعود، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ ، فقالوا: مم تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين؟ " (1) ، وانظر (2) ومنها ما رواه أبو رزين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال.
«ضحك ربنا من قنوط عباده، وقرب غيره، قال: قلت: يا رسول الله أو يضحك الرب عز وجل؟ قال: نعم، قال: لن نعدم من رب يضحك خيرا (3) » . .
وسئل أبو عمر الزاهد غلام ثعلب - الذي ألف كتابا في غريب مسند الإمام أحمد (4) . عن معنى الضحك في هذا الحديث، فقال:
" الحديث معروف، وروايته سنة، والاعتراض بالطعن عليه بدعة، وتفسير الضحك تكلف وإلحاد " (5) يريد أبو عمر بذلك أن معنى الضحك في الحديث واضح، لا خفاء به، فمن ترك المعنى المتبادر، والمفهوم الظاهر منه، ولجأ إلى تفسيره بما لا يلائم الظاهر فقد تكلف في التأويل وألحد في صفة من صفات الله تعالى.
هذا، وما قدمناه كنماذج لتأويل الصفات الذي أدى إلى التعطيل، أخذا من كتب غريب الحديث، يكفي لإظهار ما فيها أو في معظمها من أفكار التجهم
__________
(1) مسلم 3 \ 43
(2) التوحيد لابن خزيمة (231) . .
(3) مسند أحمد 4 \ 11، 12
(4) انظر تاريخ بغداد 2 \ 358
(5) طبقات الحنابلة 2 \ 69. .(31/274)
والاعتزال - والعياذ بالله - فليحذر الذين يستفيدون منها، وينقلون عنها، وليدركوا ما في النقول قبل نقلها والموافقة عليها.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى صحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(31/275)
فهرس المصادر والمراجع
القرآن الكريم.
تاريخ بغداد. للخطيب البغدادي أحمد بن علي (463 هـ) ط دار الكتب العلمية، بيروت.
تفسير الطبري. لابن جرير الطبري محمد (310 هـ) ، ط دار الفكر، بيروت.
تفسير القرطبي. للقرطبي محمد بن أحمد (671 هـ) ، ط إحياء التراث، بيروت.
تفسير ابن كثير. لابن كثير إسماعيل عماد الدين (774 هـ) ، ط دار الفكر، بيروت.
كتاب التوحيد. لابن خزيمة محمد بن إسحاق (311 هـ) ، تعليق هراس، ط العلمية، بيروت.
كتاب التوحيد. لابن منده محمد بن إسحاق (395 هـ) ، تحقيق محمد بن ناصر الفقيهي، ط المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
تهذيب اللغة. للأزهري محمد بن أحمد (370 هـ) ، ط الدار المصرية للتأليف بالقاهرة.
تيسير العزيز الحميد. لسليمان بن عبد الله (1233 هـ) ، ط 3 المكتب الإسلامي، بيروت.(31/275)
جامع الترمذي. (ومعه تحفة الأحوذي) . للترمذي محمد بن عيسى (279 هـ) ط دهلي.
جمل الغرائب. (مخطوط) لبيان الحق محمود بن أبي الحسين (بعد 553 هـ) ، صورة الجامعة الإسلامية بالمدينة برقم 3673 عن نسخة إسكوريال، بأسبانيا.
الرسالة التدمرية. لشيخ الإسلام ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم (728 هـ) ، تصحيح قصي محب الدين الخطيب، ط 2 \ 1397 هـ بالقاهرة.
شرح السنة. للبغوي الحسين بن مسعود (516 هـ) ، ط المكتب الإسلامي، بيروت.
صحيح البخاري (مع فتح الباري) . للبخاري محمد بن إسماعيل (256 هـ) ، تصحيح ابن باز، ومحب الدين الخطيب، ط المطبعة السلفية بالقاهرة.
صحيح مسلم (ومعه شرحه للنووي) . لمسلم بن الحجاج (261 هـ) ، ط دار الفكر، بيروت.
طبقات الحنابلة. للقاضي ابن أبي يعلى محمد (526 هـ) ، تحقيق الفقي، ط دار المعرفة، بيروت.
غريب الحديث. لابن الجوزي عبد الرحمن بن علي (597 هـ) ، تصحيح عبد المعطي أمين قلعجي، ط دار الكتب العلمية، بيروت.
كتاب الغريبين. للهروي أحمد بن محمد (401 هـ) (مخطوط) نسخة دار الكتب المصرية، برقم 55، لغة تيمور.
الفائق. للزمخشري محمود بن عمر (538 هـ) ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم والبجاوي، ط دار المعرفة، بيروت.
فتح الباري. للحافظ ابن حجر أحمد بن علي (852 هـ) ، صحيح البخاري.
الفتوى الحموية الكبرى. لشيخ الإسلام ابن تيمية أحمد بن عبد الحليم(31/276)
(728 هـ) ، تصحيح قصي محب الدين الخطيب، ط 3 \ 1398 هـ بالقاهرة.
لسان العرب. لابن منظور محمد بن مكرم (711 هـ) ، تحقيق علي عبد الله الكبير وغيره، ط دار المعارف بمصر.
مختصر الصواعق المرسلة. (الاختصار) لمحمد بن الموصلي، تصحيح محمد حامد الفقي، ط المطبعة السلفية بالقاهرة.
المسند. للإمام أحمد بن حنبل (241 هـ) ، ط القاهرة 1313 هـ.
مشارق الأنوار. للقاضي عياض بن موسى (544 هـ) ، ط المكتبة العتيقة، تونس، ودار التراث بالقاهرة.
النهاية في غريب الحديث والأثر. لابن الأثير المبارك بن محمد (606 هـ) ، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، ط عيسى البابي الحلبي بالقاهرة.(31/277)
صفحة فارغة(31/278)
من افتراءات المستشرقين على أساليب المحدثين في العناية بمتون الأحاديث
بقلم
د. عزية علي طه.
مقدمة:
لقد هاجم كثير من المستشرقين الإسلام، عقائده، وشرائعه، وتركز جل هجومهم على شخص النبي صلى الله عليه وسلم وسنته المطهرة. ولقد زعموا أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تدوين السنة قد أدى إلى ضياعها، ومن ثم دفع المحدثين في العصور اللاحقة إلى اختلاق كثير من الأحاديث ونسبتها زورا وبهتانا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمادا منهم على ما يدعونه من إجماع المسلمين، كما أدى ذلك أيضا بزعمهم إلى خلط متون الأحاديث بمزج من الأساطير المنقولة عن الوثنين وأهل الكتاب.
وزعموا كذلك أن جهود المحدثين لم تؤد إلى تنقية السنة من الشوائب والاختلاق والدس - على الرغم من ادعاء المحدثين وتفاخرهم بتحري الدقة والموضوعية في توثيق الأحاديث، بل كانت هذه الجهود هي السبب المباشر في ضياع السنة الشريفة وطمس معالمها وتشويهها؟ وحشوها بالمتناقضات التي لا يمكن التوفيق بينها لأنها - بزعمهم - كانت جهودا خالية من الجدية والنزاهة والموضوعية.(31/279)
فهل حقا صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث صحيحة تنهى عن كتابة السنة؟ وهل النهي عن كتابة السنة أدى إلى ضياعها؟ وهل توجد أحاديث نبوية أخرى صحيحة تحث على كتابة السنة؟ وهل وفق المحدثون بين أحاديث الإذن بكتابة السنة وأحاديث النهي عن كتابتها؟
وهل نقل المحدثون متون الأحاديث عن أساطير أهل الكتاب أو غيرهم؟ أم تحروا العدالة والنزاهة والجدية في تحقيق وتمحيص وتدوين السنة الشريفة؟ وهل كان للمحدثين مناهج دقيقة وثابتة في تحقيق السنة؟ وهل التزم المحدثون هذه المناهج عند اعتمادهم لمتون الأحاديث؟
وهل متون الأحاديث الشريفة الصحيحة متناقضة ومتدافعة؟ أم أن المقبول من السنة محكم في جملته وأن الأحاديث المقبولة المختلفة قليلة؟ وهل أعجزت الأحاديث المختلفة المحدثين وأعيتهم كما ادعى المستشرقون أم أنهم أولوها تأويلا مقبولا وموفقا بإذن الله؟
للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها ولدحض هذا الظلم والإجحاف الذي صدر عن بعض المستشرقين في حق النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، وإحقاقا للحق، ووضعا للأمور في نصابها، ومقاومة للباطل وتفنيدا له، فإنني سوف أتناول في هذا البحث الموضوعات التالية:
1 - استعراض بعض افتراءات المستشرقين حول أساليب المحدثين في العناية بمتون الأحاديث.
2 - اختلاف الروايات حول تدوين الحديث وكيفية الجمع بينها.
3 - بعض الأسباب التي دفعت المحدثين للعناية بمتون الأحاديث.
4 - بعض المناهج التي اتبعها المحدثون للعناية بمتون الأحاديث.
5 - بعض النتائج التي ترتبت على عناية المحدثين بمتون الأحاديث.
6 - حكم المحدثين على الأحاديث المتعارضة والأحاديث التي ظاهرها التعارض.(31/280)
7 - الرد على افتراءات المستشرقين حول أساليب المحدثين في العناية بمتون الأحاديث.
8 - الخاتمة ونتائج البحث.(31/281)
1 - استعراض بعض افتراءات المستشرقين حول
أساليب المحدثين في العناية بمتون الأحاديث
أولا: الادعاء أن النهي عن كتابة السنة أدى إلى ضياعها:
لقد ادعى المستشرق ألفريد غيوم أن الأحاديث الشريفة التي وردت في النهي عن كتابة السنة قد تسببت في إهمال المحدثين للسنة، وبالتالي أدى ذلك إلى ضياعها، ولقد أورد هذا الزعم في مؤلفه المسمى " الإسلام " حيث ورد فيه ما ترجمته كالآتي: " لقد انتهى التوجيه الإلهي للمسلمين والذي كان يتمثل في القرآن والسنة بوفاة محمد صلى الله عليه وسلم، ولما كان المسلمون في حاجة إلى المحافظة على كيان الجماعة الإسلامية وتوجيهها في مختلف شئون الحياة، فقد لجأ المحمديون إلى السنة لتفسير آيات القرآن وسوره، وللوصول إلى هدفهم صاروا يبحثون عن أقوال محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وتقريراته، ولكن في واقع الأمر فإنهم لم يستطعيوا الوصول إلا إلى نزر يسير من الآثار المنسوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لصعوبة التمييز بين أقوال رسولهم وما نسب إليه من أقوال، كما أن الواقع يشير إلى أن الروايات اختلفت وتضاربت عن كتابة السنة والإذن بكتابها، وهذا أدى إلى إهمال كثير من الأحاديث وأوقع المحدثين في شك ونزاع. ومن المؤكد أن بعض المجموعات من الحديث لم تدون إلا في العصر الأموي وما بعده " (1) ويؤكد دونكيان بلاك ماكدونالد هذا الزعم بقوله: " إن السبب الرئيس الذي أدى إلى تأخر تدوين السنة إلى منتصف القرن الثاني من الهجرة يرجع
__________
(1) islam: pp. 89 - 90.(31/281)
إلى اعتماد بعض المحدثين على الحفظ شفاهة، ورفضهم لكتابة السنة، ومقاومتهم لفكرة الكتابة بشدة باعتبار أن كل من يكتب السنة مبتدع وهذا أدى بدوره إلى ضياع السنة " (1) .
__________
(1) theology، jurisprudence and conditional theory pp. 76 - 77.(31/282)
ثانيا: الادعاء أن المحدثين لم يعتنوا بمتون الأحاديث:
لقد ادعى بعض المستشرقين أن المحدثين لم يولوا متون الأحاديث أي عناية، مما أدى إلى تلفيق الحديث وتسرب الأساطير الوثنية وأساطير أهل الكتاب إلى السنة النبوية الشريفة، ومن أشهر هؤلاء المستشرقين فيليب حتى الذي أورد في مؤلفه " الإسلام والغرب " ما يلي: " يعتقد هؤلاء المسلمون أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع، وأنها وحي من الله كالقرآن تماما، ذلك على الرغم من احتواء السنة على متون منقولة عن مصادر غير إسلامية، بل إن معظم نصوص السنة مأخوذ عن أناجيل النصارى. . . ومن أمثلة ذلك الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر أن رجلا جاء لمحمد صلى الله عليه وسلم وسأله عن العفو عن المسيء فرد محمد صلى الله عليه وسلم قائلا: إن استطعت أن تعفو عنه سبعين مرة فافعل. ومما لا شك فيه أن هذا القول وارد في إنجيل متى (1) . على لسان عيسى عليه السلام، وهناك حديث آخر عن جابر وفيه أن بركة محمد صلى الله عليه وسلم حلت على طعام جابر فأكل ألف رجل من وعاء واحد ولم ينقص ذلك مما في الوعاء شيئا. وهذه القصة مستوحاة أيضا من إنجيل متى (2) (3) .
ويدعي المستشرق موريس سيل أن شراح الحديث الشريف كانوا لا يتورعون عن الأخذ عن النصارى عند تصديهم لشرح الأحاديث وتوضيح معانيها، ولقد أورد هذا الزعم في مؤلفه المسمى " الديانة الإسلامية " حيث جاء
__________
(1) متى 18: 21، 22 من الكتاب المقدس 33 العهد الجديد.
(2) متى: 15 - 28، 15: 30 - 38 من الكتاب المقدس 26 - 39 العهد الجديد.
(3) انظر Islam and the west pp. 105 - 107.(31/282)
فيه ما ترجمته كالآتي: " لقد نقل كثير من المفسرين وشراح الحديث النبوي أفكارهم عن أهل الكتاب دون تحر أو تمحيص عن مدى صحة ما يصل إليهم من أقوال الأمم السابقة، ومما يدل على ذلك ما فعله ابن حجر عندما فسر كلمة الآريسيين بالفلاحين، وهذا تفسير خاطئ وصله عن أمة النصارى، أما علماء اللاهوت فيعلمون تمام العلم أن كلمة الآريسيين مشتقة من كلمة آريوس وهو اسم لأحد الهراطقة والمبتدعة، ولقد انتشرت تلك الهرطقة بين النصارى في القرن الرابع الميلادي، حيث كون آريوس أنصارا تحالفوا معه ولقبوا بالآريسيين. ولقد حاربت. كنيسة الإسكندرية آريوس وفرقته إلى أن تم إخماد نشاط الآريسيين في القرن الخامس الميلادي. . . ولم يتوقف النقل عن أهل الكتاب عند حد شرح الحديث فقط، بل إن بعض أفعال عيسى وأقواله قد تسربت إلى سنة المسلمين ونسبت إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك ما يدعيه المسلمون من أن نبيهم قد أعطى الشفاعة والمقام المحمود، ولكننا نعلم جميعا أن ذلك قد أخذ عن سفر أعمال الرسل حيث جاء فيه ما يلي: قال الرب للرب اجلس عن يميني فعندها يقضي عيسى بين الناس " (1) .
ولقد زعم غيوم أيضا أن الإجماع عند المسلمين قد أدى إلى تلفيق السنة وضياعها حيث أورد في مؤلفه المسمى " الإسلام " ما يلي: " إن كثيرا من متون الأحاديث كانت قد اعتمدت من قبل المحدثين لعدم تعارضها مع ما توافقت عليه جماعة المسلمين. ومما يؤكد أن تلفيق الحديث كان شائعا قبل القرن الثاني الهجري، أن الاتهامات الخاصة بالوضع كانت منتشرة بين جماعات المسلمين المتصارعة. . . وعلى الرغم من أن كثيرا من المتون تشابه ما جاء عند اليهود والنصارى واليونان، إلا أن أحدا من المحدثين لم يجرؤ على ردها لأن الأمة كانت
__________
(1) سفر أعمال الرسل 2: 34 من الكتاب المقدس 204 '' العهد الجديد ''.(31/283)
قد أجمعت على قبولها اعتمادا على حديث ورد فيه: «لا تجتمع أمتي على ضلالة (1) » ، وحديث آخر فيه أن محمدا صلى الله عليه وسلم قال: «إن جاء الحديث مطابقا للقرآن فانسبوه إلي وإلا فاعلموا أنه لم يصدر عني» . ومن هنا صار للإجماع سلطة كسلطة المجامع الكنسية، وكل من يخالف الإجماع يرمى بالزندقة والضلال والكفر، حتى صار الإجماع سلطة النسخ، والتمكن من إبطال مفعول نص قراني، أو حديث نبوي (2) .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (6/396) .
(2) مترجم عن: islam، pp. 94 - 97.(31/284)
ثالثا: الادعاء أن الأحاديث الشريفة مليئة بالمتون المتعارضة:
لقد ادعى المستشرق نيكلسون في مؤلفه " تاريخ الأدب العربي " أن المحدثين قد جمعوا كثيرا من الأحاديث المتناقضة دون توفيق أو تأويل ونسبوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما أدى إلى تعارض بعض متون السنة النبوية الشريفة وصعوبة التوفيق بينها. ولقد أورد نيكلسون حول هذا الموضوع في مؤلفه المشار إليه آنفا ما يلي: " تفاخر بعض المحدثين بأن الإسناد من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يسبق هذه الأمة غيرها في تحري الدقة والموضوعية عند نقل الأخبار المقدسة وتوثيقها، إلا أن الأحاديث المتعارضة عند المسلمين تدل على خلاف ذلك حيث توجد بالسنة متون كثيرة متعارضة حيرت المحدثين ولم يجدوا سبيلا للتوفيق بينها، ومن أمثلة ذلك الأحاديث التي أمرت بقتل الكلاب والأحاديث التي نهت عن ذلك، بل أن بعض كبار الصحابة قد استباحوا لأنفسهم اقتناء بعضها كأبي هريرة، الذي أباح اقتناء كلب الزرع لأنه كان يمتلك مزارع كما هو واضح من تعليق ابن عمر على الحديث، حيث قال: إن لأبي هريرة زرعا، ولم يتوصل العلماء إلى حلول مرضية إلى يومنا هذا في مجال الإذن باقتناء الكلاب والنهي عن ذلك (1) ويوافق غيوم نيكلسون في رأيه هذا حيث يقول في مؤلفه " الإسلام "
__________
(1) مترجم عن: Aliterary History of Arabs. p. 182.(31/284)
ما يلي: " إن محاولة الجمع بين الأحاديث لم تكن مقنعة ولا مرضية لمعظم المحدثين، ويظهر ذلك في تصارع الفرق الإسلامية وتكفير بعضها بعضا استنادا على بعض الأحاديث المتناقضة، ومن أمثلة ذلك قول محمد صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن سرق وإن زنى (1) » ، بينما يقول في حديث آخر: «لن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر (2) » . ويقول في حديث آخر يحمل نفس المعنى: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (3) » . . . كما أن هناك أحاديث أخرى متعارضة كحديث النهي عن الشرب قائما والحديث الذي يدل على أن محمدا صلى الله عليه وسلم شرب قائما، والحديث الذي ورد عن السيدة عائشة في أنه لم يبل واقفا قط وحديث حذيفة الذي يقول فيه: «إنه قد رأى محمدا صلى الله عليه وسلم بال واقفا» . وعلى الرغم من هذه المتناقضات فإن هذه الأحاديث وأمثالها تعد جزءا من التراث الإسلامي الذي يعتز به المسلمون، ولكي يكون المسلمون منطقيين مع أنفسهم فإن عليهم أن يعيدوا النظر في تراثهم بشيء من الجدية وأن طبقوا عليه قواعد النقد التاريخي العلمي والمنهجي حتى يصفوه من الشوائب والأكدار والأخطاء الشنيعة التي وقع فيها ما يسمون أنفسهم بالمحدثين " (4) .
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6443) ، صحيح مسلم الإيمان (94) ، سنن الترمذي الإيمان (2644) ، مسند أحمد بن حنبل (5/152) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (91) ، سنن الترمذي البر والصلة (1999) ، سنن أبو داود اللباس (4091) ، سنن ابن ماجه المقدمة (59) ، مسند أحمد بن حنبل (1/416) .
(3) صحيح البخاري الأشربة (5578) ، صحيح مسلم الإيمان (57) ، سنن الترمذي الإيمان (2625) ، سنن النسائي الأشربة (5659) ، سنن أبو داود السنة (4689) ، سنن ابن ماجه الفتن (3936) ، مسند أحمد بن حنبل (2/386) ، سنن الدارمي الأشربة (2106) .
(4) مترجم عن: islam. pp 106 - 111.(31/285)
2 - اختلاف الروايات حول تدوين الأحاديث وكيفية الجمع بينها
لقد وردت أحاديث نبوية صحيحة تنهى عن كتابة الحديث النبوي الشريف، كما وردت أحاديث أخرى صحيحه تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أذن بكتابة السنة، ولهذا فسوف أقوم هنا بإيراد الأحاديث التي تنهى عن كتابة السنة، ثم أورد الأحاديث التي فيها إذن بكتابة السنة، وبعد ذلك سوف أورد بإذن الله آراء العلماء حول هذه الأحاديث، وكيفية الجمع والتوفيق بينها.(31/285)
أولا: بعض الأحاديث والآثار الواردة في النهي عن كتابة السنة:
لقد أخرج الأمام مسلم بسنده من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي - قال همام أحسبه قال - متعمدا - فليتبوأ مقعده من النار (1) » .
وأخرج الإمام الترمذي بسنده من حديث أبي سعيد الخدري قال: «استأذنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب فلم يأذن لنا (2) » .
وأخرج الإمام أبو داود بسنده من حديث المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: دخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث؟ فأمر إنسانا يكتبه فقال له زيد: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا ألا نكتب شيئا من حديثه فمحاه (3) » ومن حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: " ما كنا نكتب غير التشهد والقرآن " (4) .
وأخرج الأمام أحمد بن حنبل بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا قعودا نكتب ما نسمع من النبي صلى الله عليه وسلم فخرج علينا فقال: ما هذا تكتبون؟ فقلنا نسمع منك، فقال: أكتاب مع كتاب الله؟ فقلنا ما نسمع، فقال: اكتبوا كتاب الله امحضوا كتاب الله، أكتاب غير كتاب الله، امحضوا كتاب الله وأخلصوه، قال: فجمعنا ما كتبنا في صعيد واحد ثم أحرقناه بالنار. قلنا: أي رسول الله أنتحدث عنك. قال: نعم تحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. قال: فقلنا يا رسول الله أنتحدث
__________
(1) صحيح مسلم الزهد والرقائق (3004) ، سنن الدارمي المقدمة (450) .
(2) أخرجه الترمذي في أبواب العلم، باب ما جاء في كتابة العلم 2 \ 1134 (من عارضة الأحوذي) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب 5 \ 246، 247 حديث رقم 3500.
(4) أخرجه الإمام أبو دواد في كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب 5 \ 248، حديث رقم 3501.(31/286)
عن بني إسرائيل؟ قال: نعم تحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإنكم لا تحدثون عنهم بشيء إلا وقد كان فيهم أعجب منه (1) » .
أما هذه الأحاديث الواردة في شأن التحدث عن بني إسرائيل وفيها الحديث الذي أورده السيوطي في مؤلفه تحذير الخواص من أكاذيب القصاص ونصه: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي (2) » ، فلا تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حث على الأخذ عن بني إسرائيل وإنما معناه كما جاء في تحذير الخواص للسيوطي، كما يلي: " أن الحديث عن بني إسرائيل إذا حدثت به فأديته على ما سمعته حقا كان أو غير حق، لم يكن عليك حرج، والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يحدث به إلا عن ثقة " (3) ويفهم من كلام السيوطي أن التحديث عن بني إسرائيل لا قيمة له ولا حرج على من صدق أو كذب فيه.
ولقد أورد الخطيب البغدادي عن السلف الصالح في كراهة تدوين السنة ما يلي: عن أبي نضرة قال: قلنا لأبي سعيد: لو كتبتم لنا فإنا لا نحفظ، قال: لا نكتبكم ولا نجعلها مصاحف، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا فنحفظ، فاحفظوا عنا كما كنا نحفظ عن نبيكم. . . إن ابن مسعود كره كتاب العلم. . . عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: كنا نسمع الشيء فنكتبه ففطن لنا عبد الله، فدعا أم ولده، ودعا بالكتاب وبإجانة من ماء فغسله ".
أورد الدارمي أيضا أن عبد الله بن مسعود إنما كان يمحو ما كتبه أناس معينون خشية أن يغتروا بما كتبوا ويفتنوا به كما فعل أهل الكتاب فقد جاء
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل 3 \ 12، 13.
(2) مسند أحمد بن حنبل (3/46) .
(3) عن تحذير الخواص من أكاذيب القصاص: 72، 73.(31/287)
في سنن الدارمي ما يلي: " بلغ ابن مسعود أن عند ناس كتابا يعجبون به، فلم يزل بهم حتى أتوه به فمحاه، ثم قال: إنما هلك أهل الكتاب قبلكم أنهم أقبلوا على كتب علمائهم وتركوا كتاب ربهم " (1) .
ولقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خشي خلط الكتاب والسنة بما جاء عند أهل الكتاب. فلقد أورد الخطيب في هذا الشأن ما يلي: " أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا، فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله تعالى، وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا. . . «عن خالد بن عرفطة قال: كنت جالسا عند عمر، إذ أتى برجل من عبد القيس، مسكنه بالسوس، فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدي؟ قال: نعم، قال: وأنت النازل بالسوس؟ قال: نعم، فضربه بقناة معه، فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: اجلس، فجلس فقرأ عليه: بسم الله الرحمن الرحيم. . . . إلى:. فقرأها عليه ثلاثا، وضربه ثلاثا، فقال له الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال (6) ؟ قال: مرني بأمر أتبعه، قال: انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ثم لا تقرأه ولا تقرئه أحدا من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس، لأنهكتك عقوبة، ثم قال له: اجلس، فجلس بين
__________
(1) أخرجه الدارمي في سنن كتاب العلم باب من لم ير كتابة الحديث 1 \ 100.
(2) تقييد العلم: 50، 51.
(3) سورة يوسف الآية 1 (2) {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}
(4) سورة يوسف الآية 2 (3) {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
(5) سورة يوسف الآية 3 (4) {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}
(6) سورة يوسف الآية 3 (5) {لَمِنَ الْغَافِلِينَ}(31/288)
يديه، فقال: انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب، ثم جئت به في أديم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا في يدك يا عمر، قال: قلت: يا رسول الله، كتاب انتسخته لنزداد به علما إلى علمنا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، ثم نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم، السلاح السلاح، فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إني أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه واختصر لي اختصارا، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية، فلا تتهوكوا، ولا يقربكم المتهوكون، قال عمر: فقمت فقلت: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبك رسولا، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
ولقد مال بعض التابعين وأتباعهم أيضا إلى عدم كتابة الحديث، ولقد جمع الدارمي أقوالهم في ذلك ومنها ما يلي: " عن الأوزاعي قال: كان قتادة يكره الكتاب. فإذا سمع وقع الكتاب أنكره والتمسه بيده. . . عن ابن عون قال: رأيت حمادا يكتب عن إبراهيم، فقال له إبراهيم: ألم أنهك؟ قال: إنما هي أطراف. . . عن إبراهيم قال: قال لي عبيدة: لا تخلدن عني كتابا. . . وإنه كان يكره أن يكتب الحديث في الكراريس ويقول: يشبه بالمصاحف. . . وإن عبيدة دعا بكتبه فمحاها عند الموت، وقال إني أخاف أن يليها قوم فلا يضعونها مواضعها " (1) .
__________
(1) أخرجه الدارمي في كتاب العلم، باب من لم ير كتابة الحديث 1 \ 99، 100.(31/289)
ثانيا: بعض الأحاديث والآثار الواردة في كتابة السنة:
لقد رأينا أعلاه بعض الأحاديث الصحيحة التي تنهى عن كتابة الحديث، ولكن كتب السنة قد أوردت أيضا أحاديث أخرى صريحة في جواز كتابة الحديث النبوي الشريف منها ما يلي:(31/289)
أخرج الترمذي بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: " ليس أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب ".
كما أخرج الإمام أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: «كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فيه فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق (1) » .
ولقد أورد الخطيب البغدادي في شأن صحيفة عبد الله بن عمرو ما يلي: " وكان عبد الله بن عمرو يسمي صحيفته التي كتبها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادقة. وكان يقول: " هذه الصادقة هذه ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه أحد، إذا سلمت لي هذه، وكتاب الله تبارك وتعالى والوهط - أرض تصدق بها عمرو بن العاص كان يقوم عليها - فما أبالي ما كانت عليه الدنيا " (2) .
ولقد أخرج الإمام البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء فقال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الخميس فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا: هجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب 5 \ 246 حديث رقم 3499 أخرجه الحاكم بلفظه في كتاب العلم، باب الأمر بكتابة الحديث 1 \ 104 وصححه وأقره الذهبي على تصحيحه.
(2) تقييد العلم: 84.(31/290)
أجيزهم، ونسيت الثالثة (1) » .
كما أخرج الحاكم بسنده من حديث أنس رضي الله عنه أنه كان يقول: " قيدوا العلم بالكتاب ".
ولقد جمع الدارمي في سننه أقوال من رخص في كتابة العلم من السلف الصالح فيما يلي: " كتب عن عمر بن عبد العزيز إلى أهل المدينة أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه فإني قد خفت دروس العلم وذهاب أهله. . . عن أبي المليح قال: يعيبون علينا الكتاب وقد قال تعالى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} (2) حدثنا سوادة بن حيان قال سمعت معاوية بن قرة أبا إياس يقول: كان يقال من لم يكتب علمه لم يعد علمه علما. . . وسئل أبو أمامة الباهلي عن كتاب العلم، فقال: لا بأس بذلك. . . عن سعيد بن جبير قال: كنت أسمع من ابن عمر وابن عباس الحديث بالليل، فاكتبه في واسطة الرحل. . . . وقال: كنت أسير مع ابن عباس في طريق مكة ليلا، وكان يحدثني بالحديث فأكتبه في واسطة الرحل حتى أصبح فأكتبه. . . وكنت أكتب عند ابن عباس في صحيفة، واكتبه في نعلي. . . وعن عبد الله بن حنش قال: رأيتهم يكتبون عند البراء بأطراف القصب على أكفهم. . . . وعن سليمان بن موسى: أنه رأى نافعا مولى ابن عمر يملي علمه ويكتبه بين يديه. . . . قال أبو قلابة: خرج علينا عمر بن عبد العزيز لصلاة الظهر ومعه قرطاس، ثم خرج علينا لصلاة العصر ومعه، فقلت له: يا أمير المؤمنين ما هذا الكتاب؟ قال: حديث حدثني به عون بن عبد الله فأعجبني فكتبته. . . دعا الحسن بنيه وبني أخيه فقال: يا بني وبني أخي، إنكم صغار قوم يوشك أن تكونوا كبار آخرين، فتعلموا العلم، فمن لم يستطع منكم أن يرويه، أو قال يحفظه فليكتبه وليضعه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة؟ ومعاملتهم 6 \ 170 (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري) .
(2) سورة طه الآية 52(31/291)
في بيته (1) .
ولقد جمع الخطيب البغدادي أيضا بعض أقوال السلف الصالح ممن رخص في كتابة العلم منها ما يلي: " أن حمادا قال: أخذت من ثمامة بن عبد الله بن أنس كتابا، زعم أن أبا بكر كتبه لأنس وعليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه مصدقا وكتبه له، وإذا فيه: هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، التي أمر الله تعالى بها نبيه صلى الله عليه وسلم، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها. . . وعن عمر بن الخطاب قال: قيدوا العلم بالكتاب. . . وعن الأعمش عن إبراهيم عن أبيه قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: من زعم أن عندنا شيئا نقرأه، ليس في كتاب الله تعالى وهذه الصحيفة، قال: صحيفة معلقة في سيفه، فيها أسنان الإبل وشيئا من الجراحات - فقد كذب، وفيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا، أو أوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، من أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا (2) » . . . وكان ابن عباس يأتي أبا رافع فيقول: ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا؟ ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم كذا؟ ومع ابن عباس ألواح يكتب فيها. . . وكان الشعبي يقول: الكتاب قيد العلم. . . إذا سمعتم مني شيئا فاكتبوه ولو في حائط. . . وعن الحسن قال: إنما نكتبه - يعني الحديث - لنتعاهده. . قالوا لقتادة نكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب قال: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} (3) . . . وعن أبي قلابة قال: الكتاب أحب إلي من النسيان. . . عن صالح بن كيسان قال: اجتمعت أنا والزهري ونحن نطلب العلم، فقلنا نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنة، فقلت أنا: ليس بسنة فلا نكتبه، قال: فكتب، ولم أكتب، فأنجح
__________
(1) سنن الدارمي كتاب العلم، باب من رخص في كتابة العلم 1 \ 104 - 107.
(2) صحيح البخاري كتاب الفرائض (6755) ، صحيح مسلم الحج (1370) ، سنن الترمذي الولاء والهبة (2127) ، سنن أبو داود المناسك (2034) ، مسند أحمد بن حنبل (1/81) .
(3) سورة طه الآية 52(31/292)
وضيعت " (1) .
__________
(1) تقييد العلم: 87 - 107.(31/293)
ثالثا: توفيق العلماء بين اختلاف الروايات في شأن تدوين السنة:
لقد وفق الله سبحانه وتعالى كثيرا من العلماء إلى فهم الروايات التي وردت في شأن النهي عن كتابة السنة والروايات التي وردت في الإذن بكتابتها، مما جعل هذا الأمر مفهوما لدى كثير من المسلمين، وسوف أقوم هنا بإيراد أقوال بعض العلماء في هذا الشأن لكي يزداد الأمر وضوحا:
جاء في مختصر سنن أبي داود من قول ابن القيم رحمه الله ما يلي: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الكتابة والإذن فيها، والإذن متأخر فيكون ناسخا لحديث النهي، فإنه صلى الله عليه وسلم، قال في غزاة الفتح: «اكتبوا لأبي شاة (1) » يعني خطبته التي سأل أبو شاة كتابتها " وأذن لعبد الله بن عمرو في الكتابة، وحديثه متأخر عن النهي لأنه لم يزل يكتب، ومات وعنده كتابته وهي الصحيفة التي كان يسميها الصادقة ولو كان النهي عن الكتابة متأخرا لمحاها عبد الله، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمحو ما كتب عنه غير القرآن، فلما لم يمح وأثبتها دل على أن الإذن في الكتابة متأخر عن النهي عنها، وهذا واضح والحمد لله، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لهم في مرض موته: ائتوني باللوح والدواة والكتف؛ لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا - وهذا إنما يكون كتابة كلامه بأمره وإذنه.
وكتب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم كتابا عظيما فيه الديات وفرائض الزكاة وغيرها، وكتبه في الصدقات معروفة. . . وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن في أول الإسلام لئلا يختلط القرآن بغيره فلما علم القرآن وتميز وأفرد بالضبط والحفظ، وأمنت عليه مفسدة الاختلاط أذن في الكتابة.
وقد قال بعضهم: إنما كان النهي عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة خشية الالتباس، وكان بعضهم يرخص فيها حتى يحفظ، فإذا حفظ محاها. . . وقد وقع الاتفاق على جواز الكتابة وإبقائها، ولولا الكتابة ما كان
__________
(1) أخرجه الترمذي في أبواب العلم، ما جاء في كتابة العلم 1 \ 135 وقال: حديث حسن صحيح.(31/293)
بأيدينا اليوم من السنة إلا أقل القليل. اهـ (1) .
وقال الخطابي: يشبه أن يكون النهي متقدما وآخر الأمرين الإباحة. وقد قيل إنه إنما نهي أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به ويشتبه على القارئ، فأما أن يكون نفس الكتاب محظورا وتقييد العلم منهيا عنه فلا. . . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبليغ وقال: ليبلغ الشاهد الغائب، فإذا لم يقيدوا ما يسمعونه منه تعذر التبليغ، ولم يؤمن ذهاب العلم، وأن يسقط أكثر الحديث، فلا يبلغ آخر القرون من الأمة، والنسيان من طبع أكثر البشر والحفظ غير مأمون عليه الغلط.
«ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل اشتكى إليه سوء الحفظ استعن بيمينك» . . . وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبا في الصدقات والمعاقل والديات أو كتب عنه، فعملت بها الأمة، وتناقلها الرواة، ولم ينكرها أحد من علماء السلف والخلف، فدل ذلك على جواز كتابة الحديث والعلم. اهـ (2) .
وقال الخطيب البغدادي: " وقد ثبت أن كراهة من كتب الكتاب من الصدر الأول، إنما هي لئلا يضاهي بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه، ونهى عن الكتب القديمة التي تتخذ، لأنه لا يعرف حقها من باطلها، وصحيحها من فاسدها، مع أن القرآن كفى منها، وصار مهيمنا عليها. ونهي عن كتب العلم في صدر الإسلام وجدته لقلة الفقهاء في ذلك الوقت، والمميزين بين الوحي وغيره، لأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهوا في الدين، ولا جالسوا العلماء العارفين، فلم يؤمن أن يلحقوا ما يجدون من الصحف بالقرآن، ويعتقدوا أن ما اشتملت عليه من كلام الرحمن. . . وأمر الناس بحفظ السنن، إذ الإسناد قريب والعهد غير بعيد، ونهي عن الاتكال على الكتاب، لأن ذلك يؤدي إلى اضطراب الحفظ حتى يكاد يبطل، وإذا عدم الكتاب قوى
__________
(1) مختصر سنن أبي داود: 245، 246.
(2) مختصر سنن أبي داود: 246، 247.(31/294)
لذلك الحفظ الذي يصحب الإنسان في كل مكان. ولهذا قال سفيان الثوري:. . . بئس المستودع العلم القراطيس. . . . وكان سفيان يكتب، أفلا ترى أن سفيان ذم الاتكال على الكتاب وأمر بالحفظ، وكان مع ذلك يكتب احتياطا واستيثاقا. . . . قال الأوزاعي: كان هذا العلم شيئا شريفا، إذ كانوا يتلقونه ويتذاكرونه بينهم. . فلما صار إلى الكتب ذهب نوره وصار إلى غير أهله. قلت إنما اتسع الناس في كتب العلم، وعولوا على تدوينه في الصحف بعد الكراهة لذلك، لأن الروايات انتشرت والأسانيد طالت، وأسماء الرجال وكناهم وأنسابهم كثرت وصار علم الحديث في هذا الزمان أثبت من علم الحافظ مع رخصة رسول صلى الله عليه وسلم لمن ضعف حفظه في الكتاب، وعمل السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين بذلك. . اهـ (1) .
وقال الأبي: " كره كثير من السلف كتب العلم لهذا النهي - النهي عن كتابة الحديث - وأجازه الأكثر، ثم وقع الإجماع على جوازه. . . والحديث محمول عند بعضهم على كتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة خوف أن يختلط به ويشتبه على القارئ، ويحتمل أن النهي منسوخ " (2) .
وجاء في شرح النووي أيضا ما يلي: " كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم، فكرهها كثيرون منهم، وأجازها أكثرهم، ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال ذلك الخلاف " (3) .
يتضح لنا مما سبق أن النهي عن كتابة السنة كان لأسباب وجيهة ومقبولة، منها الحيلولة دون خلط القرآن بالسنة، والدليل على ذلك زوال هذا النهي عندما أمن المسلمون الوقوع في مثل ذلك الخلط، ومنها أن النهي كان لترويض المسلمين على مذاكرة الحديث النبوي وتعهده بالحفظ وعدم إهمال السنة اعتمادا
__________
(1) تقييد العلم: 57 - 65.
(2) صحيح مسلم بشرح الأبي والسنوسي: 305.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 18 \ 129.(31/295)
على أنها مدونة في القراطيس، هذا بجانب أن الإذن بالكتابة قد جاء متأخرا مما يدل على أنه ناسخ لأحاديث النهي عن الكتابة.(31/296)
2 - بعض الأسباب التي دفعت المحدثين للعناية بمتون الحديث
لقد كان اهتمام المسلمين وما يزال اهتماما فائقا بالسنة النبوية الشريفة؛ لاقتناعهم بأن الإلمام بالسنة النبوية الشريفة يؤدى إلى التعمق في فهم كتاب الله تعالى واستنباط أحكامه، وتفصيل مجمله وتقييد مطلقه، وتخصيص عامه، وبيان مراده سبحانه وتعالى بتفسير آياته، وتوضح كيفية تلاوتها. قال سبحانه وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (1) .
وقد تبين السنة النبوية الشريفة أيضا بعض الأحكام التي سكت عنها القرآن كالأحاديث النبوية الشريفة التي وردت في تحريم (2) ربا الفضل وبيان أنواعه، والأحاديث التي وردت في تحريم لحوم الحمر الإنسية (3) ، وتحريم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير.
__________
(1) سورة النحل الآية 44
(2) انظر كتاب المساقاة والمزارعة، باب الربا 8 \ 15 - 125 (من صحيح مسلم بشرح النووي) .
(3) انظر كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم الحرم الحمر الآنسية 13 \ 90 (من صحيح مسلم بشرح النووي) .(31/296)
ولقد فطن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوهم إلى مكانة السنة في التشريع وأهميتها في الدين، فجدوا في طلبها والمحافظة عليها، وذلك امتثالا لأمر الله واستجابة لما ورد في القرآن الكريم من أوامر وتوجيهات توجب على المسلمين التفاني في طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وامتثال أوامره المتضمنة في سنته صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (1) . وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (2) . وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (3) .
ولقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من التنكر لسنته وإهمال العمل بها، وذلك في الحديث الشريف الذي أخرجه الترمذي بسنده من حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه، وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله (4) » .
ولقد امتثل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوهم لهذا التوجيه الكريم فكانوا يزجرون كل من تسول له نفسه التنكر لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ترك العمل بها، ويدلنا على ذلك ما أورده السمعاني من حديث عمران بن الحصين حيث قال: " إنهم كانوا يتذاكرون الحديث، فقال رجل: دعونا من هذا وحدثونا بكتاب الله. فقال له عمران: إنك أحمق، أتجد في كتاب الله الصلاة مفسرة؟
__________
(1) سورة الأنفال الآية 20
(2) سورة النساء الآية 65
(3) سورة النساء الآية 80
(4) أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم 10 \ 132. قال الترمذي حديث حسن غريب من هذا الوجه (من عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي) .(31/297)
أتجد في كتاب الله الصوم مفسرا؟ إن القرآن أحكم ذلك والسنة تفسر ذلك " (1) .
ومن الأسباب التي دفعت المحدثين للعناية بمتون الأحاديث وتحري الصدق في تحملها وأدائها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد شدد الوعيد والنكير لكل من يكذب عليه متعمدا، وذلك في الحديث الشريف الذي تواتر عنه صلى الله عليه وسلم: وفيه يقول: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (2) » .
ومن الأسباب التي دفعت المحدثين للعناية بمتون الأحاديث أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوصى بنشر العلم وحذر من كتمانه، وذلك في الحديث الشريف الذي أخرجه ابن ماجه من حديث معاوية القشيري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ليبلغ الشاهد الغائب (3) » ومن حديث هارون العبدي قال: «كنا إذا أتينا أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: إن الناس لكم تبع وإنهم سيأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيرا (4) » .
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل يحفظ علما فيكتمه، إلا أتى به يوم القيامة ملجما بلجام من النار (5) » .
قال الخطابي في شرحه للحديث السابق ما يلي: " هو في العلم الضروري
__________
(1) أدب الإملاء والاستملاء: 4.
(2) صحيح البخاري الجنائز (1291) ، صحيح مسلم مقدمة (4) ، مسند أحمد بن حنبل (4/252) .
(3) أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب من بلغ علما 1 \ 86 حديث رقم 234.
(4) أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب الوصاة بطلب العلم 1 \ 91، 92 حديث رقم 249.
(5) أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب من سئل عن علم فكتمه 1 \ 96 حديث رقم 261.(31/298)
كما لو قال: علمني الإسلام والصلاة، وقد حضر وقتها وهو لا يحسنها لا في نوافل العلم " (1) .
ولقد جاء في بعض طرق الحديث أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: " والله لولا آيتان من كتاب الله تعالى ما حدثت عنه- يعني عن النبي صلى الله عليه وسلم - شيئا أبدا، لولا قول الله {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} (2) إلى آخر الآيتين.
ومن الأسباب التي دفعت المحدثين للعناية بمتون الأحاديث أيضا ما ورد في القرآن الكريم من آيات بينات تحث المسلمين على طلب العلم والتفقه في الدين، قال تعالى في كتابه العزيز: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (3) .
ومن المعلوم أن التفقه في الدين لا يكتمل إلا عن طريق فهم الآيات القرآنية والأحاديث القدسية والنبوية التي قد يشكل معناها على الأفهام، مما يستدعي طلب العون للإحاطة بمراميها من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خصه الله بهذه الرسالة الخاتمة. ويقول الدكتور محمود حجازي في معرض تفسيره للآية المذكورة أعلاه. ما يلي: " فلولا خرج من كل فرقة كبيرة كالقبيلة أو البلد جماعة قليلة يقدر عددها بقدر الظروف والملابسات وذلك ليتأتي للمؤمنين في جملتهم التفقه في الدين، والوقوف على أسرار التنزيل، فيكونون حول النبي صلى الله عليه وسلم جماعة يتعلمون منه الأحكام ويأخذون عنه القرآن " (4) .
ومن الأسباب التي دفعت المحدثين للعناية بمتون الأحاديث كذلك حرصهم
__________
(1) سنن ابن ماجه 96.
(2) سورة البقرة الآية 174
(3) سورة التوبة الآية 122
(4) التفسير الواضح 1 \ 415.(31/299)
الشديد على استيعاب السنة النبوية الشريفة والإفادة منها وتدوينها قبل أن ترفع ويقبض أهلها؛ لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعا ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم (1) » . . . .
وجاء في سنن الدارمي من حديث ابن مسعود قال: " تعلموا العلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أهله (2) ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع وعليكم بالعتيق ".
ولقد امتثل الصحابة رضوان الله عليهم وتابعوهم لهذا الأمر وجدوا في الاستجابة له. ويدلنا على ذلك ما أورده الخطيب البغدادى من أن عليا رضي الله عنه قال: " تزاوروا وتذاكروا الحديث فإنكم إلا تفعلوا يدرس" (3) وعن عمرو بن العاص أنه أتى على حلقة من قريش فقال: " ما لكم قد طرحتم هذه الأغيلمة؟ لا تفعلوا، وأوسعوا لهم في المجالس، وأسمعوهم الحديث، وأفهموهم إياه، فإنهم صغار قوم أوشك أن يكونوا كبار قوم، وقد كنتم صغار قوم، فأنتم اليوم كبار قوم " (4) .
ولقد كان ابن عباس يحث المسلمين على مذاكرة الحديث وحفظه وتبليغه بقوله: " تذاكروا هذا الحديث لا ينفلت منكم، فإنه ليس بمنزلة القرآن، القرآن مجموع محفوظ وإنكم إن لم تذاكروا هذا الحديث تفلت منكم، ولا يقل أحدكم حدثت أمس لا أحدث اليوم، بل حدث أمس وحدث اليوم وحدث غدا " (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان 16، 255 (من صحيح مسلم بشرح النووي) .
(2) أخرجه الدارمي في المقدمة، باب من باب الفتيا وكره التنطع والبدع 1 \ 50.
(3) شرف أصحاب الحديث: 69.
(4) شرف أصحاب الحديث: 89.
(5) شرف أصحاب الحديث: 99.(31/300)
من الأسباب التي دفعت المحدثين للعنايه بمتون الأحاديث خاصة بعد عصر الفقه - ظهور الزنادقة والملاحدة ومناصري العصبيات والقوميات وغيرهم من أعداء الله ومحاولتهم دس الأحاديث الموضوعة وإشاعتها وسط المسلمين مما جعل المحدثين يتشددون في اعتماد الأسانيد والمتون ويسألون عن حال الرواة رجلا رجلا، ولقد أورد الإمام الذهبي في مؤلفه " تذكرة الحفاظ، عن هذا الأمر ما يلي: " إن الرشيد أخذ رجلا من الزنادقة ليقتله فقال: أين أنت من ألف حديث وضعتها؟ فقال له الرشيد: أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وابن المبارك ينخلانها ويخرجانها حرفا حرفا " (1) .
ومن الأسباب التي أدت إلى مضاعفة جهود المحدثين في العناية بمتون الأحاديث وأسانيدها أنهم قد اضطروا للرحلة في طلب الحديث بعد توسع الدولة الإسلامية وتفرق الصحابة بالأمصار، فكان على المحدثين أن يرحلوا إليهم طلبا للإسناد العالي، وتوثيق نصوص الأحاديث وتقويتها بكثرة الطرق.
ولقد بين الخطيب (2) البغدادي في مؤلفه " الرحلة " معظم من رحل منهم كأبي العالية الذي رحل ليسمع من الصحابة رضوان الله عليهم.
وكزر بن حبييش الذي رحل في خلافة عثمان رضي الله عنه ليسمع من الصحابة، ونقل قول عامر الشعبي: " لو أن رجلا سافر من أقصى الشام إلى أقصى اليمن، فحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبله من عمره ما ضاعت رحلته " (3) .
__________
(1) تذكرة الحفاظ: 1 \ 273.
(2) الرحلة: 48، 49.
(3) الرحلة: 48، 49.(31/301)
3 - بعض المناهج التي اتبعها المحدثون للعناية بمتون الأحاديث
لقد اتبع المحدثون مناهج عديدة في جمع السنة النبوية الشريفة وتوثيقها، وتقسيم ما وصلهم من أحاديث إلى مستويات متعددة تتراوح ما بين الصحيح(31/301)
والحسن والضعيف ثم الموضوع، ولقد انصبت جهودهم على تمحيص ونقد أسانيد الأحاديث ومتونها، وقد ترتب على عنايتهم بالسند أن بحثوا في رجال السند وحكموا على كل منهم بما يليق بحاله، من حيث التوثيق أو الجرح، وترتب على ذلك ظهور علوم كثيرة تتعلق بسند الحديث كعلم الجرح والتعديل، وعلم طبقات الرواة، والبحث في الكنى والألقاب وغيرها.
أما فيما يتعلق بعنايتهم بالمتن وهو موضوع بحثنا هذا فقد اتبع المحدثون مناهج فريدة من نوعها أيضا، متينة في أسسها، وقوية في أركانها؛ لصيانة متون الأحاديث الشريفة كأسانيدها تماما من الوهم والنسيان والعوارض البشرية، ومن التزيد والوضع والدس وتشويه الحقائق.
ولقد اهتم المحدثون بفحص المرويات اهتماما بالغا، فكان كل منهم يعرض ما يجمعه من أحاديث على زملائه من المحدثين للتأكد من سلامتها وخلوها من العلل. ويدلنا على ذلك ما أورده الخطيب البغدادي في مؤلفه " الكفاية " حيث روى عن الأوزاعي قوله: كنا نسمع الحديث ونعرضه على أصحابنا، كما يعرض الدرهم الزائف، فما عرفوا منه أخذناه وما أنكروا منه تركناه، قال جرير: كنت إذا سمعت الحديث جئت به إلى المغيرة فعرضته عليه فما قال لي ألقه ألقيته " (1) .
ولم ينته القرن الرابع الهجري إلا وقد جمعت معظم متون الأحاديث النبوية الشريفة ودونت في مصنفات، ثم انصب نشاط المحدثين بعد ذلك في العناية بهذه المصنفات والعمل على ترتيبها وتبويبها وشرحها والتعليق والاستدراك عليها، وتحقيقها، وما إلى ذلك من ضروب الأنشطة التي توضح مدى اهتمام المحدثين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثرة عنايتهم بها وتفانيهم في خدمتها. وسوف نورد فيما يلي بعضا من المناهج التي أتبعوها في ذلك:
__________
(1) الكفاية في علم الرواية: 431، 432.(31/302)
ا - الإقلال من رواية الحديث النبوي الشريف، وذلك لأسباب عديدة جمعها الشيخ محمد أبو زهو في مؤلفه " الحديث والمحدثون " وفيه يقول:
" نظر الخلفاء الراشدون، وتابعهم سائر الصحابة إلى السنة الشريفة، فألفوها كنوزا ثمينة في صدور الذين أوتوا العلم فلم يشاءوا أن يعرضوها في سوق الرواية، لئلا يتخذ المنافقون من شيوع الحديث ذريعة للتزيد فيه، وسلما لتزييف الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون. كما كرهوا أن يشتغل الناس برواية الحديث وينصرفوا عن تلاوة القرآن، ولما تيسر حفظه لكثير منهم، لذلك نجدهم قد أنفقوا من السنة في كتاب أبي الزهو بقدر حسب ما يعن لهم من مسائل الفتوى والقضاء. . . وهذا أبو هريرة يمسك عن التحديث في زمن عمر بن الخطاب، مع أنه معدود في المكثرين من الصحابة لرواية الحديث، ولكنه اتباعا لسنة الشيخين في التقليل من الرواية يكف عنها، ثم لما طالت به الأيام واحتيج إلى ما عنده من العلم حدث به وأظهره للناس " (1) .
2 - طلب توثيق وتأكيد النص المروي بشاهد وسند يقويه ويعضده، ومما يدلنا على ذلك أن سيدنا عمر بن الخطاب كان يطلب البينة على المروي تأكيدا وتقوية له، لا شكا في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد أورد الإمام الذهبي في مؤلفه " تذكرة الحفاظ " في شأن تثبت سيدنا عمر بن الخطاب عن حديث سمعه من أبي بن كعب ما يلي " فقال عمر لأبي لتأتيني على ما تقول ببينة فخرج، فإذا ناس من الأنصار، قال: فذكر لهم قالوا: قد سمعنا هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر: أما أني لم أتهمك ولكني أحببت أن أتثبت ".
وبعد أن نقل الذهبي تثبت عمر عن حديث أبي موسى الأشعري حول
__________
(1) تذكرة الحفاظ 1: 8.(31/303)
الاستئذان وطلبه البينة، وإحضار أبي موسى لشاهد يقر بصحة روايته، يقول الذهبي معلقا: " أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صحابي آخر، ففي هذا دليل على أن الخبر إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث؛ لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم، إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد ".
3 - اختبار مدى قوة حفظ الراوي وتمكنه من استحضار ما رواه من أحاديث متى طلب منه ذلك. ومما يدلنا على أن المسلمين كانوا يمارسون هذا المنهج في العناية بمتون الأحاديث ذلك الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم بسنده من حديث عروة بن الزبير قال: " قالت لي عائشة، يا ابن أختي بلغني أن عبد الله بن عمرو مار بنا إلى الحج فالقه فسائله فإنه قد حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا، قال: فلقيته فساءلته عن أشياء يذكرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عروة: فكان فيما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعا، ولكن يقبض العلماء فيرفع العلم معهم، ويبقي في الناس رءوسا جهالا فيفتونهم بغير علم فيضلون (1) » . قال عروة فلما حدثت عائشة بذلك أعظمت ذلك وأنكرته قالت: أحدثك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا؟ قال عروة حتى إذا كان قابل قالت له: إن ابن عمرو قد قدم، فالقه ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم، قال: فلقيته فسألته فذكره لي نحو ما حدثني به في مرته الأولى، قال عروة: فلما أخبرتها بذلك قالت: ما أحسبه إلا قد صدق أراه لم يزد فيه شيئا ولم ينقص ".
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7307) ، صحيح مسلم العلم (2673) ، سنن الترمذي العلم (2652) ، سنن ابن ماجه المقدمة (52) ، مسند أحمد بن حنبل (2/203) ، سنن الدارمي المقدمة (239) .(31/304)
4 - نقد الحديث بعرضه على القرآن الكريم والسنة الصحيحة المعروفة، ويدلنا على ذلك ما فعله كل من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والسيدة عائشة رضي الله عنها، وذلك عندما بلغهما حديث فاطمة بنت قيس الوارد في شأن عدة المطلقة المبتوتة، فقاما برد الحديث لأنه غير متوافق مع ما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة المعلومة لديهما. ولقد أخرج الإمام مسلم الحديث المشار إليه بسنده من حديث الشعبي قال: «دخلت على فاطمة بنت قيس، فسألتها عن قضاء رسول الله عليها فقالت: طلقها زوجها ألبتة، فقالت: فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السكنى والنفقة، فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة، وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم (1) » .
وجاء في بعض طرق الحديث عن أبي إسحاق قال: كنت مع الأسود ابن يزيد جالسا في المسجد الأعظم، ومعنا الشعبي، فحدثت الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، ثم أخذ الأسود كفا من حصى فحصبه به فقال: ويلك تحدث بمثل هذا! قال عمر: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} (2) . اهـ.
وأخرج البخاري بسنده من حديث عروة بن الزبير أنه قال لعائشة
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطلاق باب المطلقة البائن لا نفقة لها 10 \ 102 (من صحيح مسلم بشرح النووي) .
(2) سورة الطلاق الآية 1(31/305)
ألم ترين إلى فلانة بنت الحكم طلقها زوجها ألبتة فخرجت؟ فقالت: بئس ما صنعت. قال: ألم تسمعي قول فاطمة بنت قيس؟ قالت: أما أنه ليس لها خير في ذكر هذا الحديث " ((1) .
وأخرج البخاري تعليقا من حديث عروة أنه قال: عابت - يعني أن عائشة عابت حديث فاطمة - أشد العيب وقالت: إن فاطمة في مكان وحش فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم (2) .
5 - التدقيق في طرق تحمل الحديث (3) وأدائه سواء كان ذلك بالسماع من الشيخ أو بالقراءة عليه، أو بالإجازة منه، أو بالوجادة عنه وغير ذلك من طرق التحمل والأداء.
6 - التشدد في مواصفات طالب الحديث من حيث عدالته وضبطه وعدم فساد عقيدته وفهمه وإتقانه وتبصره بالرجال، وغير ذلك من الصفات التي لا مندوحة عنها فيمن يتصدى لتحمل حديث رسول الله وأدائه. ويدلنا على ذلك ما جاء في " معرفة علوم الحديث " من قول يحيى بن سعيد ما يلي:
لا ينبغي لصاحب الحديث أن يكون ثبت الأخذ، ويفهم ما يقال له، ويبصر الرجال، ثم يتعهد ذلك " (4) .
وقال الحاكم: " ومما يحتاج إليه طالب الحديث في زماننا هذا أن يبحث عن أحوال المحدث أولا: هل يعتقد الشريعة والتوحيد، وهل يلزم نفسه طاعة الأنبياء والرسل صلى الله عليهم وسلم فيما أوحى إليهم ووصفوا
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق باب قصة فاطمة بنت قيس 9 \ 447 (من صحيح البخاري بشرح فتح الباري) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب قصة فاطمة بنت قيس 9 \ 447 (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري) .
(3) فيما يختص بالتحمل والأداء يمكن اللجوء إلى تدريب الراوي 2 \ 1 - 59.
(4) معرفة علوم الحديث: 19.(31/306)
من الشرع، ثم يتأمل حاله هل هو صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه؟ فإن الداعي إلى البدعة لا يكتب عنه ولا كرامة لإجماع أئمة المسلمين على تركه " (1) .
7 - مذاكرة الحديث مع أهل العلم لمعرفة علله. قال الحاكم في هذا الشأن ما يلي: " إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط، وإنما يعرف بالفهم والحفظ، وكثرة السماع، وليس لهذا العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علل الحديث " (2) .
8 - تحديد شروط واضحة تبين مدى صحة الحديث، وهي: اتصال السند، عدالة الرواة، ضبط الرواة، عدم الشذوذ، عدم العلة، وأضاف إلى ذلك الإمام البخاري شرطي المعاصرة واللقيا. ولقد وضع المحدثون لذلك معايير لقبول الرواية مطلقا أو مقيدا كما أوضح لنا ذلك ابن القيم بقوله: " إما أن تقبل روايته - أي الراوي - مطلقا أو مقيدا، فأما المقبول إطلاقا فلا بد أن يكون مأمون الكذب بالمظنة، وشرط ذلك العدالة وخلوه عن الأغراض والعقائد الفاسدة التي يظن معها جواز الوضع، وأن يكون مأمون السهو بالحفظ، والضبط، والإتقان " (3) .
9 - إخلاص النية عند طلب الحديث، وتوخي الأمانة والدقة في أدائه، والتواضع لطلبة العلم، والامتناع عن التحديث عند الهرم خوف الاختلاط، واشتراط تأدب (4) المحدث مع شيخه.
ولقد التزم المحدثون بكل ذلك وحرصوا عليه. ويدلنا على ذلك أن الإمام البخاري كان قد أخلص النية عند جمع السنة، فقد بدأ صحيحه بالحديث الذي أخرجه بسنده من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن
__________
(1) معرفة علوم الحديث: 20.
(2) معرفة علوم الحديث: 75.
(3) علم الحديث: 108، 109.
(4) فيما يختص بآداب المحدثين انظر الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.(31/307)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (1) » .
قال ابن حجر في سبب تصدير البخاري لصحيحه بهذا الحديث ما يلي: " لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته في هذا التأليف " (2) .
10 - عدم الأخذ عن السفهاء والتحذير من الضعفاء والمتروكين. ويدلنا على ذلك ما أورده الخطيب البغدادي في مؤلفه (الكفاية) تحت باب (أن السفه يسقط العدالة) حيث أورد عن شعبة أنه قال: لم يكن شيء أحب إلي من أن أرى رجلا يقدم من مكة فأسأله عن أبي الزبير. حتى قدمت مكة، فسمعت منه فبينا أنا عنده، إذ جاء رجل فسأله عن شيء، فافترى عليه فقلت: تفتري على رجل مسلم؟ قال: إنه غاظني، قال: قلت: يغيظك فتفتري عليه؟ فآليت ألا أحدث عنه فكان - أي شعبة - يقول: في صدري منه أربعمائة لا والله لا أحدثنكم عنه بشيء أبدا " (3) .
11 - إمعان النظر في نصوص المتون ونقد محتوياتها، وذلك تنقية للأحاديث مما قد يلحق بها من قلب (4) أو إدراج (5) أو تصحيف أو غير ذلك.
12 - البحث والتحري عن تاريخ مواليد ووفيات الرواة كوسيلة لتحديد مدى
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم 1 \ 90 (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري) .
(2) فتح الباري 1 \ 10.
(3) فيما يختص بترك أحاديث السفهاء والتحذير من الضعفاء والمتروكين. انظر مقدمة صحيح مسلم.
(4) الحديث المقلوب هو: ما أبدل لفظ بآخر في سنده أو متنه بتقديم أو تأخير ونحوه.
(5) الحديث المدرج هو: ما غير سياق إسناده أو أدخل في متنه ما ليس منه بلا فصل.(31/308)
صدق الراوي من كذبه، ويدلنا على ذلك ما ورد في " الكفاية " في علم الرواية لمؤلفه الخطيب البغدادي، حيث ساق المؤلف حول هذا الموضوع ما يلي:
" ومما يستدل به على كذب المحدث في روايته عمن لم يدركه معرفة تاريخ موت المروي عنه، ومولد الراوي. . . حدثنا عفير بن معدان الكلاني قال: قدم علينا عمر بن موسى حمص، فاجتمعنا إليه في المسجد، فجعل يقول: حدثنا شيخكم الصالح، فلما أكثر قلت له: من شيخنا هذا الصالح؟ سمه لنا لنعرفه؟ . . . فقال: خالد بن معدان، قلت له: في أي سنة لقيته؟ قال: لقيته سنة ثمان ومائة، قلت: فأين لقيته؟ قال: لقيته في غزاة أرمينية، قال: فقلت له: اتق الله يا شيخ ولا تكذب! ! مات خالد بن معدان سنة أربع ومائة، وأنت تزعم أنك لقيته بعد موته بأربع سنين! ! وأزيدك أخرى أنه لم يغز أرمينية قط! ! كان يغزو الروم. . . وقال سفيان الثوري: لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ. . . وقال حفص بن غياث: إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين: يعني احسبوا سنه وسن من كتب عنه. وإذا روى الراوي عن نفسه بأمر مستحيل سقطت روايته " (1) .
13 - رد رواية من عرف بقبول التلقين أو من تساهل في سماع الحديث وروايته، وكذلك رد رواية من عرف بالشذوذ والغفلة.
لقد رد المحدثون رواية من عرف بقبول التلقين، ويدلنا على ذلك ما أورده الخطيب البغدادي في الكفاية حيث يقول: إن أبا داود سليمان بن الأشعث قال: عطاء بن عجلان بصري يقال له عطاء العطار ليس بشيء، قال أبو معاوية: وصفوا له حديثا من حديثي، وقالوا له: قل حدثنا محمد بن حازم، فقال: حدثنا محمد بن حازم، فقلت: يا عدو الله أنا محمد بن حازم ما حدثتك بشيء. . . وقال يحيى بن سعيد: إذا
__________
(1) الكفاية في علم الرواية: 119، 120.(31/309)
كان الشيخ إذا لقنته قبل فذاك بلاء. . . وقال الحميدي: من قبل التلقين ترك حديثه الذي لقن فيه، وأخذ عنه ما أتقن حفظه، إذا علم ذلك التلقين حادثا في حفظه لا يعرف به قديما، وأما من عرف به قديما في جميع حديثه فلا يقبل حديثه ولا يؤمن أن يكون حفظه مما لقن " (1) .
لقد نقل لنا الخطيب أيضا آراء العلماء حول من عرف بالتساهل في السماع والرواية منها ما يلي: " قال أحمد بن حنبل: رأيت ابن وهب وكان يبلغني تسهيله - يعني في السماع - فلم أكتب عنه شيئا، وحديثه حديث مقارب الحق. . . وقال عثمان بن أبي شيبة رأيت عبد الله بن وهب. . . ينام نوما حسنا، وصاحبه يقرأ له على ابن عيينة، وابن وهب نائم قال: فقلت لصاحبه: أنت تقرأ وصاحبك نائم. قال: فضحك ابن عيينة، قال: فتركنا ابن وهب إلى يومنا هذا. . . . وقال يحيى بن حسان: جاء قوم ومعهم جزء فقالوا: سمعناه من ابن لهيعة، فنظرت فإذا ليس فيه حديث واحد من حديث ابن لهيعة، فجئت إلى ابن لهيعة فقلت: هذا الذي حدثت به ليس فيه حديث من حديثك، ولا سمعتها أنت قط، فقال: ما أصنع يجيئوني بكتاب ويقولون هذا من حديثك فأحدثهم به. . . وكان عبد الله بن لهيعة سيئ الحفظ واحترقت كتبه، وكان يتساهل في الأخذ، وأي كتاب جاءوا به حدث منه، فمن هناك كثرت المناكير في حديثه. . . ومن عرف بكثرة السهو والغفلة وقلة الضبط رد خبره، ويرد خبر من عرف بالتساهل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم " (2) .
أما عن الراوي الذي يغلب على حديثه الشذوذ فقد أورد الخطيب من قول العلماء ما يلي: " من حمل شاذ العلماء فقد حمل شرا كثيرا ".
__________
(1) الكفاية في علم الرواية: 149.
(2) الكفاية: 152.(31/310)
وقال شعبة: لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ " (1) .
أما عن أحاديث أهل الغفلة فقد أورد الخطيب أيضا من قول ابن عباس رضي الله عنه ما يلي: " لا يكتب عن الشيخ المغفل " (2) .
14 - رد رواية أهل المجون والخلاعة والالتزام بالأخذ عن المشهورين المشهود لهم بطلب الحديث مع تجنب التحديث إلا بعد الحفظ والإتقان، ويظهر لنا كل ذلك فيما أورده الخطيب البغدادي في مؤلفه الكفاية حيث يقول:
" كانوا إذا أرادوا أن يأخذوا عن رجل نظروا إلى صلاته وإلى سمته وإلى هيئته. . . حدثنا العباس بن محمد قال: سمعت يحيى بن معين، وذكرت له شيخا كان يلزم سفيان بن عيينة يقال له ابن مناذر، فقال: أعرفه كان صاحب حديث، وكان يتعشق ابن عبد الوهاب الثقفي ويقول فيه الأشعار، ويشبب بالنساء، وطردوه من البصرة، وكان يرسل العقارب في المسجد حتى تلسع الناس، وكان يصب المداد بالليل في المواضع التي يتوضأ منها حتى يسود وجوه الناس، ليس يروي عنه رجل فيه خير. . . قال أبو نعيم: لا ينبغي أن يؤخذ الحديث إلا عن حافظ له، أمين عليه، عارف بالرجال، ثم يأخذ نفسه بدرسه وتكريره حتى يستقر له حفظه، ويجب أن يتثبت في الرواية حال الأداء، ويروي ما لا يرتاب في حفظه، ويتوقف عما عارضه الشك فيه. . .
وعن محمد بن سيرين قال: التثبت نصف العلم. . . . وحدثنا أبو زرعة الدمشقي قال: رأيت أبا مسهر يكره للرجل أن يحدث إلا أن يكون عالما بما يحدث ضابطا له. . . قال عبد الرحمن بن مهدي: محرم على الرجل أن يروي حديثا في أمر الدين حتى يتقنه ويحفظه كالآية من القرآن وكاسم الرجل. والمستحب له أن يورد الأحاديث بألفاظها؛ لأن ذلك أسلم. . . فإن كان ممن يروى على
__________
(1) الكفاية: 142.
(2) الكفاية في علم الرواية: 148.(31/311)
المعنى دون اعتبار اللفظ، فيجب أن يكون توقيه أشد، وتحرزه أكثر خوفا من إحالة المعنى الذي به يتغير الحكم " (1) .
15 - مقابلة النص المكتوب بالأصل أو عرضه على الشيخ وتصحيحه، والتدقيق في كيفية أداء النص بعد ذلك. ويصف لنا هذا المنهج الخطيب البغدادي بقوله: " عن هشام بن عروة، عن أبيه، أنه كان يقول: كتبت؟ قلت: نعم، قال: عرضت كتابك؟ قلت: لا. قال: لم تكتب. . . وعن يحيى بن كثير قال: من كتب ولم يعارض كمن دخل الخلاء ولم يستنج. . . وعن الأخفش قال: إذا نسخ الكتاب ولم يعارض ثم نسخ ولم يعارض خرج أعجميا. . . . ويستحب نظر جماعة السامعين في النسخة وقت قراءة المحدث لها، وخاصة لمن أراد النقل منها. . . ومن سمع من الراوي ولم يكن له في الحال نسخه، ثم نسخ من الأصل بعد ذلك، استحب له عرض ما نسخه على الراوي للتصحيح، وإن كان قد قابل به؛ لأنه يحتمل أن يكون في الأصل خطأ أو نقصان حروف وغير ذلك مما يعرفه الراوي " (2) .
16 - ضبط طرق التحمل والأداء بألفاظ مخصوصة تبين للسامع كيفية التحمل بأمانة تامة، وفي هذا الشأن أورد الخطيب البغدادي ما يلي: " عن يحيى بن سعيد قال: ينبغي للرجل أن يحدث الرجل كما سمع، فإن سمع يقول: حدثنا، وإن عرض يقول عرضت، وإن كان أجازه يقول: أجاز لي. وسئل الأوزاعي عن الرجل يقرأ على الرجل الحديث يقول حدثنا؟ قال: لا يقول كما صنع قرأت. . . وقال أحمد بن حنبل: إذا سمعت من المحدث فقل: حدثنا، وإذا قرأت عليه فقل: قرأت، وإذا قرئ عليه يقول: قرئ عليه " (3) .
__________
(1) الكفاية في علم الرواية: 165 - 167.
(2) الكفاية: 237 - 239.
(3) الكفاية في علم الرواية: 299.(31/312)
ومن هنا دقق المحدثون في استعمال العبارات عند الأداء بما يوضح صور التحمل، وتكلموا عن الإجازة وأنواعها وأحكامها وحكم العمل بها، وغيرها من ضروب المعارف (1) القيمة التي يشتمل عليها علم المصطلح بما يطول ذكره، ويعسر حصره في هذا البحث الموجز.
__________
(1) فيما يختص بهذا الموضوع يمكن الرجوع إلى الباعث الحثيث: 102 - 106، وأيضا فتح المغيث 24 - 135.(31/313)
4 - بعض النتائج التي ترتبت على عناية المحدثين بمتون الحديث
باستعراضنا للمناهج التي اتبعها المحدثون في العناية بمتون الأحاديث اتضح لنا أنهم اتبعوا مناهج في غاية الإحكام والدقة والموضوعية، مما مكنهم من بلوغ نتائج هامة تتصل بموضوع جمع الحديث النبوي الشريف وتوثيقه، نذكر منها ما يلي:
1 - تقسيم الحديث إلى قسمين: مقبول، ومردود.
والمقبول يتراوح حسب تفاوت تمكنه من صفات القبول إلى الآتي: صحيح لذاته، صحيح لغيره، حسن لذاته، وحسن لغيره.
أما الحديث المردود فهو الحديث الضعيف لفقدانه بعض شروط القبول التي اشترطها المحدثون لسلامة الحديث، وهو أيضا يتراوح في ضعفه إلى درجات حتى يصل إلى الواهي المتروك.
وهناك أيضا الأحاديث الموضوعة، ولا اعتبار لها؛ لأنها الأحاديث المكذوبة المنسوبة زورا وبهتانا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفرق بين الضعيف والموضوع هو أن الضعيف لم يترجح صدق المخبر به؛ لعدم وجود دليل على ذلك لدى الجامع، أما الموضوع فهو محض افتراء وتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم(31/313)
وهذا أدى بدوره إلى الاطمئنان إلى الأحاديث الصحيحة، وتجميعها في مصنفات سهلت الوصول إليها، والتمكن من معرفتها دون مشقة.
2 - ظهور المصنفات (1) العديدة في مختلف أنواع الحديث كالمصنفات في الصحيح المجرد وفي الصحيح والحسن والضعيف، وفي الأحاديث الضعيفة فقط، وفي الأحاديث الموضوعة وغيرها، وظهور المستدركات التي تضيف أحاديث أخرى للمصنفات المعروفة مع مراعاة نفس شروط صاحب المصنف، والمستخرجات التي تكثر طرق الحديث وتزيده قوة، وقد تضيف إلى متون الأحاديث بعض الزيادات المفيدة.
3 - توضيح الفروق والاختلافات بين الأحاديث المحفوظة والشاذة، والأحاديث المعروفة والمنكرة باعتبار أن الأحاديث المحفوظة والمعروفة تعد من ضمن الأحاديث المقبولة، أما الشاذة والمنكرة فتعد من الأحاديث المردودة. ولقد عرف جمال الدين القاسمي الشاذ والمنكر فيما يلي: " الشاذ هو ما رواه المقبول مخالفا لرواية من هو أولى منه، لا أن يروي ما لا يروي غيره، فمطلق التفرد لا يجعل المروي شاذا كما قيل، بل مع المخالفة المذكورة. . . والمنكر هو الحديث الفرد الذي لا يعرف متنه من غير راويه، وكان راويه بعيدا عن درجة الضابط. اعلم أن الشاذ والمنكر يجتمعان في اشتراط المخالفة لما يرويه الناس، ويفترقان في أن الشاذ رواية ثقة أو صدوق، والمنكر رواية ضعيف (2) أما المحفوظ والمعروف فهما عكس الشاذ والمنكر كما يظهر ذلك من كلام جمال الدين القاسمي.
__________
(1) لمعرفة أسماء بعض مصنفات الحديث ومؤلفيها يمكن اللجوء إلى الرسالة المستطرفة للكتاني.
(2) قواعد التحديث: 130، 131.(31/314)
4 - معرفة العلل الغامضة الخفية التي تقدح في سلامة المتن والسند، وقد عرف علماء المصطلح العلة بما يلي: " هي سبب غامض خفي يقدح في سلامة الحديث مع أن الظاهر السلامة منه " (1) ، ويتوصل المحدثون عادة إلى معرفة العلة في المتن بوسائل مختلفة، كجمع طرق الحديث ومقارنة متونه بعضها ببعض، والبحث في رواته، والموازنة بينهم من حيث الضبط والإتقان.
5 - اكتشاف الأحاديث المدرجة سندا ومتنا، والذي يهمنا هنا الإدراج في المتن وهو في الاصطلاح: " ما أدخل في (2) متنه ما ليس منه بلا فصل "، وقد يكون الإدراج في أول الحديث أو في وسطه أو في آخره. ومما أدرج في الحديث من كلام الصحابة قول أبي هريرة رضي الله عنه: «أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار (3) » فصدر الحديث أي (أسبغوا الوضوء) من كلام أبي هريرة أما «ويل للأعقاب من النار (4) » فهو الجزء المرفوع من الحديث. ولقد أدرك المحدثون ذلك بتتبع طرق الحديث والنظر في المتون.
6 - اكتشاف الأحاديث المقلوبة (5) والقلب في اصطلاح المحدثين هو: إبدال لفظ بآخر في سند الحديث أو متنه بتقديم أو تأخير. ومن صور القلب في المتن تحويل بعض الأحاديث إلى أسانيد غيرها عن قصد أو لوهم، ومن صور القلب في المتن أيضا تقديم أو تأخير كلمة أو جملة في متن الحديث، ومثاله: " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله " (6) .
__________
(1) لمزيد من المعلومات عن الحديث المعلل يمكن الرجوع إلى الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث: 63.
(2) تدريب الراوي 1 \ 268.
(3) متن الحديث أخرجه أحمد بن حنبل 2 \ 228 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يأتي على الناس وهم يتوضؤن ويقول لهم: اسبغوا الوضوء فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار وأخرجه البخاري في كتاب العلم، باب إعادة الحديث ثلاثا ليفهم من حديث عبد الله بن عمرو، وفي آخره قول النبي صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار 1 \ 233 '' من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري ''.
(4) صحيح البخاري العلم (60) ، صحيح مسلم الطهارة (241) ، سنن النسائي الطهارة (111) ، سنن أبو داود الطهارة (97) ، مسند أحمد بن حنبل (2/226) .
(5) فيما يختص بالحديث المقلوب. انظر تدريب الراوي 1 \ 291 - 294.
(6) تدريب الراوي 1 \ 292.(31/315)
والصحيح ما أخرجه مسلم بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ بعبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (1) » .
7 - اكتشاف الأحاديث المكذوبة (2) المنسوبة زورا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولقد تم للمحدثين اكتشاف كثير من الأحاديث الموضوعة بتتبع أسانيدها ومتونها والبحث في علل ذلك، كأن يكون الحديث ركيك اللفظ مخالفا لصريح القرآن أو السنة الصحيحة، أو مخالفا للحس أو العقل. وقد يعرف الحديث الموضوع أيضا بتتبع سلوك الراوي وسيرته، وقد يعرف كذلك بإقرار الواضع نفسه أو ما يتنزل منزلة إقراره.
8 - معرفة الزيادات في متون الأحاديث ما يقبل منها وما يرد. ولقد جاء في تدريب الراوي حول هذا الموضوع ما يلي:
مذهب الجمهور من الفقهاء والمحدثين قبولها - أي زيادة الثقة - مطلقا، وقيل: لا تقبل مطلقا، وقيل: تقبل إن زادها غير من رواه ناقصا، ولا يقبل ممن رواه مرة ناقصا، وقسمه الشيخ أقساما. أحدها: زيادة تخالف الثقات فترد. . . الثاني: ما لا مخالفة فيه كتفرد ثقة بجملة حديث فيقبل، قال الخطيب باتفاق العلماء. الثالث: زيادة لفظة في حديث لم يذكرها سائر رواته كحديث: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (3) » ، انفرد أبو مالك الأشجعي فقال: «وتربتها طهورا (4) » .
والصحيح قبول هذا. اهـ.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة باب فضل إخفاء الصدقة 3 \ 120 - 122. '' من صحيح مسلم بشرح النووي ''.
(2) فيما يختص بذلك يمكن الرجوع إلى الباعث الحثيث: 78. تدريب الراوي: 1 \ 274 - 290.
(3) سنن الترمذي الصلاة (317) ، سنن أبو داود الصلاة (492) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (745) .
(4) تدريب الراوي 1 \ 245 - 247. الحديث أخرجه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة 5 \ 4 '' من صحيح مسلم بشرح النووي ''.(31/316)
9 - تمييز الأحاديث المضطربة من غيرها. والحديث المضطرب في اصطلاح المحدثين هو: " الذي يروى على أوجه مختلفة - متساوية في القوة متقاربة، فإن رجحت إحدى الروايتين بحفظ راويها أو كثرة صحبته المروي عنه أو غير ذلك فالحكم للراجحة، ولا يكون مضطربا، والاضطراب يوجب ضعف الحديث لإشعاره بعدم الضبط، ويقع في الإسناد تارة وفي المتن أخرى وفيهما من راو أو جماعة " (1) .
ولقد مثل السيوطي للاضطراب في المتن بما يلي:
" حديث فاطمة بنت قيس قالت: «سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الزكاة فقال: إن في المال لحقا سوى الزكاة (2) » أخرجه الترمذي هكذا من رواية شريك عن أبي حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس. ورواه ابن ماجه من هذا الوجه بلفظ: «ليس في المال حق سوى الزكاة (3) » . . . فهذا اضطراب لا يحتمل التأويل. اهـ (4) .
10 - معرفة الأحاديث المصحفة مما أدى إلى تصويبها وبيان خطأ من أوردها، والتصحيف في اصطلاح (5) المحدثين هو: تغيير الكلمة في الحديث إلى غير ما رواها الثقات لفظا أو معنى، وهو يقع في المتن والسند. ولقد أورد المحدثون أمثلة كثيرة لذلك نورد هنا بعض ما وقع في المتن مما أورده الحاكم في مؤلفه " معرفة علوم الحديث " ومنها ما يلي: عن معمش قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أبا عمير ما فعل البعير، ويقصد النغير وهو طائر يشبه العصفور.
__________
(1) تدريب الراوي 1 \ 262.
(2) أخرجه الترمذي في أبواب الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقا سوى الزكاة 3 \ 162.
(3) أخرجه ابن ماجه في كتاب الزكاة، باب من أدى زكاته ليس يكنز من الأموال 1 \ 571 حديث رقم 1787.
(4) تدريب الراوي 1 \ 266.
(5) تدريب الراوي 2 \ 193 - 195 انظر أيضا توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار 2 \ 419 - 422.(31/317)
ومنها حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تصحب الملائكة رفقة فيها خرس " والأصل جرس.
ومنها أن أحد الرواة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى نصب بين يديه شاة - فلما أنكر عليه الحاضرون ذلك أتى بجزء فيه. نصب بين يديه عنزة. اهـ (1) .
وهذا يدل على أن المعنى التبس عليه؛ لأن العنزة هي العصا أو الحربة تنصب بين يدي المصلي. ويدلنا على ذلك الحديث الذي أخرجه البخاري بسنده من حديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه وفيه: «ثم رأيت بلالا أخذ عنزة فركزها وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في حلة حمراء صلى إلى العنزة بالناس ركعتين (2) » .
11 - ظهور آداب كتابة الحديث وضبط كل ما يكتب سندا ومتنا، وقد وضح لنا ذلك ابن دقيق العيد في مؤلفه " الاقتراح في بيان الاصطلاح " حيث يقول الآتي:
" ينبغي الإتقان والضبط فيما يكتب مطلقا لا سيما هذا الفن؛ لأنه بين إسناد ومتن، والمتن لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتغيره يؤدي إلى أن يقال عنه ما لم يقل أو يثبت حكم من الأحكام الشرعية بغير طريقه. وقد اختلف الناس: هل الأولى ضبط كل ما يكتب أو يخص الضبط بما يشكل؟ فقيل: يضبط الكل؛ لأن الإشكال يختلف باختلاف الناس، فقد يكون الشيء غير مشكل عند الكاتب، ويكون مشكلا عند من يقف عليه ممن ليس له معرفة. ومن عادة المتقنين أن يبالغوا في إيضاح المشكل فيفرقوا حروف الكلمة في الحاشية ويضبطوها حرفا حرفا. ومن أشد ما ينبغي أن يعتنى به أسماء البلاد الأعجمية والقبائل العربية وقالوا: ينبغي أن يجعل بين كل حديثين دارة تفصل بينهما. وإذا
__________
(1) معرفة علوم الحديث: 146.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في الثوب الأحمر 2 \ 31. (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري) .(31/318)
كتب فلان بن فلان وكان الأول من الأسماء المعبدة، فالأدب ألا يجعل اسم الله تعالى في أول سطر والتعبد في آخر ما قبله. وكذلك الحكم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجعل رسول في آخر سطر واسم الله مع الصلاة في أول الثاني. . . وإذا وقع سقط فالمختار من الإصلاح أن يخرج له من بين الأسطر تخريجا لا يمد كثيرا، ثم يكون في قبالة ذلك الساقط مكتوبا على جهة اليمين من الناحية العليا، فإن وقع شيء في السطر بعينه كتبه من الجهة اليسرى ".
12 - التمكن من معرفة الحديث الغريب متنا وسندا. والحديث الغريب متنا هو ما تفرد برواية متنه راو واحد في طبقة من طبقات السند أو في جميع طبقات السند. ومثاله ما أخرجه البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه (1) » .
وهذا حديث فرد مطلق (2) ؛ لأنه انفرد به الصحابي عمر في أصل سنده.
13 - معرفة مختلف الحديث من محكمه. والمختلف في اصطلاح المحدثين هو: " أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهرا، فيوفق بينهما، أو يرجح أحدهما، وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه، والأصوليون الغواصون على المعاني. . والمختلف قسمان أحدهما يمكن الجمع بينهما فيتعين ويمكن العمل بهما، والثاني: لا يمكن بوجه، فإن علمنا أحدهما ناسخا قدمناه
__________
(1) صحيح البخاري بدء الوحي (1) ، صحيح مسلم الإمارة (1907) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1647) ، سنن النسائي الطهارة (75) ، سنن أبو داود الطلاق (2201) ، سنن ابن ماجه الزهد (4227) ، مسند أحمد بن حنبل (1/43) .
(2) انظر تدريب الراوي 2 \ 182، 183.(31/319)
وإلا عملنا بالراجح كالترجيح بصفات الرواة وكثرتهم في خمسين وجها (1) .
14 - معرفة ناسخ الحديث من منسوخه. وفيما يتعلق بتعريف النسخ وحكم كل من الناسخ والمنسوخ جاء في تدريب الراوي ما يلي: المختار أن النسخ: رفع الشارع حكما منه متقدما بحكم منه متأخر، فمنه ما عرف بتصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها (2) » ، ومنه ما عرف بقول صحابي: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار (3) » ، ومنه ما عرف بالتاريخ ومنه ما عرف بدلالة الإجماع كحديث قتل شارب الخمر في الرابعة، والإجماع لا ينسخ ولا ينسخ ولكن يدل على ناسخ. اهـ (4) .
__________
(1) تدريب الراوي 2 \ 196 - 198.
(2) صحيح مسلم الأضاحي (1977) ، سنن النسائي الجنائز (2033) ، سنن أبو داود الأشربة (3698) ، مسند أحمد بن حنبل (5/350) .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في ترك الوضوء مما مست النار 1 \ 141 حديث رقم 180 (مختصر سنن أبي داود) .
(4) تدريب الراوي 2 \ 189 - 192، انظر أيضا فتح المغيث 3 \ 64 - 66.(31/320)
5 -
أساليب المحدثين في تمحيص المتون المتعارضة
والمتون التي ظاهرها التعارض
أولا: المتون المتعارضة:
إنه لمن المعروف لدى علماء المصطلح أن معظم الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة التي جمعها المحدثون محكمة في مجملها. والمحكم في اصطلاح المحدثين هو: " الحديث المقبول الذي سلم من معارضة مثله له " (1) .
أما الأحاديث المتعارضة فهي محدودة العدد، وليست هي الغالبة على السنة كما ادعى بعض المستشرقين. ولقد قسم علماء المصطلح الأحاديث المتعارضة إلى ما يلي:
أ - الحديث الشاذ، ويقابله الحديث المحفوظ.
ب - الحديث المنكر، ويقابله الحديث المعروف.
جـ - الحديث المضطرب.
د - الحديث المنسوخ، ويقابله الحديث الناسخ.
__________
(1) مصطلح الحديث وأثره على الدرس اللغوي عند العرب: 217.(31/321)
أ - تعريف الشاذ ومثاله وحكمه
لقد سبق أن أوردنا تعريف جمال الدين القاسمي للحديث الشاذ في اصطلاح المحدثين، ويزيد ذلك التعريف وضوحا ما جاء في الباعث الحثيث لابن كثير، حيث أورد المؤلف بعض آراء العلماء في الشاذ فيما يلي: قال الشافعي: هو أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس، وليس من ذلك أن يروي ما لم يروه غيره. . . وقال الحاكم النيسابوري: هو الذي يتفرد به الثقة وليس له متابع. . . (1) فإن الذي قاله الشافعي أولا هو الصواب: إنه إذا روى الثقة
__________
(1) الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث: 55.(31/321)
شيئا قد خالف فيه الناس فهو الشاذ، يعني المردود وليس من ذلك أن يروي الثقة ما لم يروه غيره، بل هو مقبول إذا كان عدلا ضابطا حافظا " (1) .
وعرف ابن القيم الشاذ بما يلي: " وإنما الشذوذ أن يخالف الثقات فيما رووه. فأما إذا روى الثقة حديثا منفردا به ولم يرو الثقات خلافه، فإن ذلك لا يسمى شاذا " (2) .
ومن أمثلة الحديث الشاذ ما يلي: " ما رواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن أبي هريرة مرفوعا: «إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع عن يمينه (3) » . قال البيهقي خالف عبد الواحد العدد الكثير في هذا، فإن الناس إنما رووه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا من قوله. وانفرد عبد الواحد من بين ثقات أصحاب الأعمش بهذا اللفظ " (4) .
أما الحديث المحفوظ فهو عكس الشاذ، وفي المثال السابق يكون المحفوظ هو ما رواه الجماعة من «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضطجع عن يمينه بعد ركعتي الفجر (5) » . والحديث وارد في الكتب الصحيحة منها ما أخرجه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سكت المؤذن من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر بعد أن يستبين الفجر، ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة (6) » .
أما حكم الحديث الشاذ فهو الرد لمخالفته للحديث المحفوظ الذي يقبله علماء المصطلح.
__________
(1) الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث: 55.
(2) إغاثة اللهفان: 160.
(3) سنن الترمذي الصلاة (420) ، سنن أبو داود الصلاة (1261) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1199) .
(4) علوم الحديث ومصطلحه: 200 - 201.
(5) صحيح البخاري الجمعة (1160) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1198) ، مسند أحمد بن حنبل (6/49) .
(6) أخرجه البخاري في كتاب الأذان باب من انتظر الإقامة 2 \ 109 (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري) .(31/322)
ب - تعريف المنكر ومثاله وحكمه:
لقد جاء في تعريف المنكر ما يلي: " إنه الفرد الذي ليس في روايته من الثقة والإتقان ما يحتمل معه تفرده " (1) أو: " إنه المنفرد المخالف لما رواه الثقات " (2) وهذا التعريف الأخير هو الذي اختاره الحافظ ابن حجر.
ولقد بين ابن حجر أوجه التشابه والاختلاف بين المنكر والشاذ بقوله: " هما مشتركان في كون كل واحد منهما على قسمين، وإنما اختلافهما في مراتب الرواة، فالضعيف إذا انفرد بشيء لا متابع له ولا شاهد، ولم يكن عنده من الضبط ما يشترط في حد الصحيح والحسن، فهذا أحد قسمي الشاذ، فإن خولف فيما هذه صفته مع ذلك كان أشد شذوذا وربما سماه بعضهم منكرا، وإن بلغ تلك المرتبة في الضبط، ولكنه خالف من هو أرجح منه في الثقة والضبط، فهذا القسم الثاني وهو المعتمد في تسميته، وأما إذا انفرد المستور أو الموصوف بسوء الحفظ بشيء لا متابع له ولا شاهد عليه فهذا أحد قسمي المنكر، وهو الذي يوجد في إطلاق كثير من أهل الحديث، وإن خولف في ذلك فهو القسم الثاني وهو المعتمد على رأي الأكثرين ".
فبان بهذا فصل المنكر عن الشاذ، وأن كلا منها قسمان، ويجمعهما مطلق التفرد أو منع قيد المخالفة. . وعرف بهذا. . أن بينهما عموما وخصوصا من وجه، وهو أنه يعتبر في كل منهما شيء لا يعتبر في الآخر، ويعتبر في كليهما شيء آخر، حيث اعتبر في كليهما مخالفة الأرجح، وفي الشاذ مقبولية الراوي، وفي المنكر ضعفه؛ لأن بينهما اجتماعا في اشتراط المخالفة. وافتراقا في أن الشاذ رواية ثقة أو صدوق والمنكر ضعيف، أي لسوء حفظه أو جهالته أو نحو ذلك " (3) .
أما مثال المنكر على التعريف الأول الذي أورده السيوطي فهو كالآتي: " ما رواه النسائي وابن ماجه من رواية أبي زكير يحيى بن محمد بن قيس، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا: «كلوا البلح بالتمر فإن ابن آدم
__________
(1) تدريب الراوي 1 \ 239.
(2) تدريب الراوي 1 \ 239.
(3) توضيح الأفكار 2 \ 4 - 6.(31/323)
إذا أكله غضب الشيطان (1) » . . . الحديث، قال النسائي: هذا حديث منكر (2) تفرد به أبو زكير وهو شيخ صالح، أخرج له مسلم في المتابعات غير أنه لم يبلغ مبلغ من يحتمل تفرده. . . " (3) .
أما مثال المنكر حسب تعريف ابن حجر فقد أورده السيوطي أيضا كالآتي: ما رواه ابن أبي حاتم من طريق حبيب. عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أقام الصلاة وآتى الزكاة وحج وصام وقرى الضيف دخل الجنة» . قال أبو حاتم: هو منكر؛ لأن غيره من الثقات رواه عن أبي إسحاق موقوفا وهو المعروف " (4) .
أما حكم المنكر فهو الرد؛ لأن الحديث المنكر حسب مقاييس علماء المصطلح يعد ضعيفا كما سبق أن رأينا.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأطعمة، باب أكل البلح بالتمر 2 \ 1105 حديث رقم 3330.
(2) انظر أيضا ما أورده السيد محمد فؤاد عبد الباقي في هذا الحديث من سنن النسائي 2 \ 1105.
(3) تدريب الراوي 1 \ 239، 240.
(4) تدريب الراوي 1 \ 240.(31/324)
جـ - تعريف المضطرب ومثاله وحكمه:
لقد عرف ابن الصلاح الحديث المضطرب بما يلي: " هو الذي تختلف الرواية فيه فيرويه بعضهم على وجه، وبعضهم على وجه آخر مخالف له، وإنما نسميه مضطربا إذا تساوت الروايتان. أما إذا ترجحت إحداهما بحيث لا تقاومها الأخرى، بأن يكون راويها أحفظ وأكثر صحبة للمروي عنه، أو غير ذلك من وجوه الترجيحات المعتمدة، فالحكم للراجحة، ولا يطلق عليه حينئذ وصف المضطرب، وقد يقع ذلك من راو واحد، وقد يقع من رواة له جماعة. والاضطراب موجب ضعف الحديث لإشعاره بأنه لم يضبط (1) .
أما مثال الحديث المضطرب فهو حديث البسملة الذي أخرجه مسلم في صحيحه من رواية الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي عن قتادة أنه كتب
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح: 204 - 205.(31/324)
إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه قال: «صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها (1) » . وقد علق على هذا الحديث الدكتور صبحي الصالح في مؤلفه (علوم الحديث) بما يلي: " فهذه الرواية الأخيرة التي ينص فيها الراوي على نفي قراءة البسملة هي المتن المضطرب في هذا الحديث؛ لأن مسلما والبخاري اتفقا على إخراج رواية أخرى في الموضوع نفسه، لا يتعرض فيها لذكر البسملة بنفي أو إثبات، وإنما يكتفي الراوي بقوله: " فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين " يقصد أن الفاتحة هي السورة التي كانوا يستفتحون بها، ولو وقف الأمر عند هذا الحد لأمكن ترجيح الحديث المتفق عليه، فلم نصف الحديث الأول بالاضطراب، ولكن رواية ثالثة عن أنس تفيد أنه سئل عن الافتتاح بالتسمية فأجاب: أنه لا يحفظ في ذلك شيئا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتردد مثله في هذه المسألة يحسب له حسابه، فأصبح عسيرا أو متعذرا ترجيح ما يتعلق بالبسملة إثباتا أو نفيا، وتعذر الترجيح كان السبب المباشر في وصفنا لمتن الحديث الأول بالاضطراب " (2) .
أما حكم الحديث المضطرب بصورة عامة فهو الرد إلى أن يظهر مرجح يرجح إحدى الروايتين على الأخرى.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب حجة من قال: لا يجهر بالبسملة في الصلاة 4 \ 111 (من صحيح مسلم شرح النووي) .
(2) علوم الحديث 189.(31/325)
د - تعريف المنسوخ ومثاله وحكمه:
يعتبر المحدثون معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه من الفنون المهمة التي خاضها كبار العلماء، وخدموا بها السنة النبوية الشريفة، وعن هذا الموضوع جاء في(31/325)
تدريب الراوي ما يلي: " ناسخ الحديث ومنسوخة، فن مهم صعب، فقد مر على علي قاص فقال: تعرف الناسخ من المنسوخ، فقال: لا، فقال: هلكت وأهلكت. . . وقد روينا عن الزهري قال: أعيا الفقهاء وأعجزهم أن يعرفوا ناسخ الحديث من منسوخه. وكان للشافعي فيه يد طولى وسابقة أولى، فقد قال الإمام أحمد بن حنبل لابن وارة وقد قدم من مصر: كتبت كتب الشافعي؟ قال: لا، قال: فرطت، ما علمنا المجمل من المفسر ولا ناسخ الحديث من منسوخه حتى جالسنا الشافعي " (1) .
والنسخ في اصطلاح المحدثين هو: " رفع الشارع حكما منه متقدما بحكم منه متأخر " (2) .
قال السيوطي في شرحه لهذا التعريف: " فالمراد برفع الحكم قطع تعلقه عن المكلفين، واحترز به عن بيان المجمل، وبإضافته للشارع عن إخبار بعض من شاهد النسخ من الصحابة، فإنه لا يكون نسخا، وإن لم يحصل التكليف به لمن لم يبلغه قبل ذلك إلا بإخباره، وبالحكم عن رفع الإباحة الأصلية، فإنه لا يسمى نسخا، وبالمتقدم عن التخصيص المتصل بالتكليف، كالاستثناء ونحوه، وبقولنا بحكم منه متأخر، عن رفع الحكم بموت المكلف أو زوال تكليفه بجنون ونحوه، وعن انتهائه بانتهاء الوقت كقوله صلى الله عليه وسلم: «إنكم ملاقو العدو غدا، والفطر أقوى لكم فافطروا (3) » ، فالصوم بعد ذلك اليوم ليس نسخا (4) .
أما أنواع الأحاديث المنسوخة فهي كثيرة ومتعددة، فمنها ما يعرف بتصريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم كالحديث الذي أخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث علي رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور وعن الأوعية، وأن تحبس لحوم الأضاحي بعد ثلاث (5) » .
__________
(1) تدريب الراوي 2 \ 189، 190.
(2) قاله النووي في التقريب انظر تدريب الراوي 2 \ 190.
(3) صحيح مسلم الصيام (1120) ، سنن أبو داود الصوم (2406) .
(4) تدريب الراوي 2 \ 190.
(5) الفتح الرباني 8 \ 157.(31/326)
ولقد علم بأن هذا الحديث منسوخ بأحاديث أخرى، منها ما أخرجه مسلم بسنده من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فامسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا (1) » .
قال النووي عن هذا الحديث الأخير: " هذا الحديث مما صرح فيه بالناسخ والمنسوخ جميعا " (2) ومنها ما يعرف بقول صحابي، ومن أمثلة ذلك ما أخرجه مسلم بسنده من حديث عبد الله بن إبراهيم بن قارظ أنه وجد أبا هريرة رضي الله عنه يتوضأ في المسجد فقال: إنما أتوضأ من أثوار أقط أكلتها؛ لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «توضئوا مما مست النار (3) » .
هذا الحديث نسخ بأحاديث أخرى منها ما أخرجه أبو داود بسنده من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار (4) » .
ومنها ما عرف بالتاريخ فيكون السابق منسوخا واللاحق ناسخا. ومن أمثلة ذلك ما أخرجه الإمام أبو داود بسنده من حديث شداد بن أوس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي، لثمان عشرة خلت من رمضان، فقال: أفطر الحاجم والمحجوم (5) »
__________
(1) الفتح الرباني 8 \ 157 الحديث أخرجه مسلم في كتاب الأضاحي، باب النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث ونسخه 13 \ 134، 135 (من صحيح مسلم بشرح النووي) .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي: 13 \ 135.
(3) أخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب الوضوء كما مست النار 4 \ 43 (من صحيح مسلم بشرح النووي) وأخرجه البخاري في كتاب الأطعمة، باب في المنديل 9 \ 79 (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري) .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الطهارة، باب في ترك الوضوء مما مست النار (1 \ 141 حديث رقم 180 من مختصر سنن أبي داود.
(5) أخرجه أبو داود في كتاب الصوم، باب في الصائم يحتجم 3 \ 243، 244 حديث رقم 2267 (من مختصر سنن أبي داود) .(31/327)
وهذا الحديث نسخ بأحاديث وردت بعده منها الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري بسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم (1) » .
قال ابن حزم: " صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم بلا ريب، ولكن وجدنا من حديث أبي سعيد: أرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الحجامة للصائم، وإسناده صحيح فوجب الأخذ به؛ لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجما أو محجوما " (2) .
ومنها ما نسخ بدلالة الإجماع. كقتل شارب الخمر إن كرر شربها أربع مرات، ويدلنا على ذلك الحديث الآتي الذي أخرجه الإمام أبو داود بسنده من حديث قبيصة بن ذؤيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه، فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ثم أتي به فجلده، ورفع القتل، وكانت رخصة (3) » .
والإجماع لا ينسخ ولكن يدل (4) على ناسخ. قال النووي (5) : في شرح مسلم أنه منسوخ بدلالة الإجماع. وقال الصنعاني في تعقب النووي بأنه لا إجماع إذ قال ابن عمر بالعمل به، وقال به ابن حزم، وقال الشافعي: القتل منسوخ بهذا الحديث وغيره ".
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الحجامة والقيء للصائم 4 \ 174 (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري) .
(2) فتح الباري 4 \ 178.
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر 6 \ 289 حديث رقم 4320 (مختصر سنن أبي داود) .
(4) الرسالة: 137 - 146.
(5) توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار 2 \ 419.(31/328)
أما كل من الناسخ والمنسوخ إن صحا فحكمهما القبول، إلا أنه يترك العمل بالحديث المنسوخ ويعمل بالحديث الناسخ.(31/329)
ثانيا: المتون المتعارضة ظاهريا:
لقد عرف النووي مختلف الحديث وبين أهميته بقوله: " هو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهريا، فيوفق بينهما أو يرجح أحدهما. . وهذا فن من أهم الأنواع ويضطر إلى معرفته جميع العلماء من الطوائف. . وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه، والأصوليون الغواصون على المعاني. وصنف فيه الشافعي - رحمه الله تعالى - ولم يقصد استيفاءه بل ذكر جملة منه ينتبه بها على طريقته ".
ويجب في الحديثين المختلفين أن يكونا متساويين في القوة، فإن كان أحدهما قويا والآخر ضعيفا أو أقل منه قوة فإن الحديث الأقوى يترجح، ولا يؤبه بالحديث الأضعف، ولا يدخل هذا تحت دائرة مختلف الحديث، وإن لم يستطع علماء المصطلح التوفيق بين الحديثين يتركان معا ويكون الحديث مضطربا، وإن أولهما العلماء وجمعوا بينها جمعا مقبولا فحينئذ يؤخذ بالحديثين معا إن انطبقت عليهما شروط الصحة المتفق عليها في الحديث المقبول المعمول به.
ويتضح لنا ذلك بصورة أوضح إذا تأملنا ما جاء في فتح المغيث حيث ورد في هذا الشأن الآتي: " الجمع إن أمكن باعتبار الناسخ والمنسوخ، والترجيح إن تعين، ثم التوقف عن العمل بأحد الحديثين، والتعبير بالتوقف أولى من التعبير بالتساقط؛ لأن خفاء ترجيح أحدهما على الآخر إنما هو بالنسبة للمعتبر في الحالة الراهنة مع احتمال أن يظهر لغيره ما خفي عليه، وفوق كل ذي علم عليم.(31/329)
وإن لم يكن في المتن ما ينافيه بل سلم من مجيء خبر يضاده فهو المحكم وأمثلته كثيرة " (1) .
وسوف أقوم هنا بإبراز بعض الأحاديث التي ظاهرها التعارض مما أثار حوله المستشرقون بعض الشكوك، ثم أقوم باستعراض أقوال بعض العلماء حولها بما يدل على أنهم قد أوردوا فيها بيانا شافيا وآراء سديدة توفق بين كل حديثين ظاهرهما التعارض، مما يجعل هذه الأحاديث النبوية الشريفة متوافقة ومقبولة.
لقد سبق لنا أن رأينا أن المستشرق نيكلسون قد استشهد بالأحاديث الواردة في شأن الأمر بقتل الكلاب والأحاديث التي تنهى عن ذلك؛ ليدلل على تضارب متون بعض الأحاديث النبوية الصحيحة وعجز العلماء عن التوفيق بينها. لكن العلماء قد تمكنوا من الجمع بين هذه الأحاديث بما يزيل صور التعارض الظاهري، ويوفق بينها بصورة منطقية مقبولة، ومن بين هؤلاء العلماء ابن قتيبة الدينوري الذي قال في مؤلفه: (تأويل مختلف الحديث) حول هذا الموضوع ما يلي: " وأما قتله كلاب المدينة فليس فيه نقض لقوله: لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها؛ لأن المدينة في وقته صلى الله عليه وسلم مهبط وحي الله تعالى مع ملائكته، والملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة كما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال جبريل عليه السلام: لم يمنعني من الدخول عليك البارحة إلا أنه كان على باب بيتك سترا فيه تصاوير، وكان في بيتك كلب فمر به فليخرج، وكان الكلب جروا للحسن والحسين تحت نضد لهم (2) » . وهذا دليل على أنها كما تكره الكلاب في البيوت تكرهها أيضا في المصر فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها أو بالتخفيف منها فيما قرب منها، وأمسك عن
__________
(1) فتح المغيث 3 \ 78.
(2) سنن الترمذي الأدب (2806) ، سنن أبو داود اللباس (4158) .(31/330)
سائرها مما بعد من مهبط الملائكة ومنزل الوحي " (1) .
أما حديث أبي هريرة الوارد في شأن كلب الزرع فهو حديث صحيح أخرجه مسلم بسنده من حديث ابن عمر، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد، أو كلب غنم، أو ماشية، فقيل لابن عمر أن أبا هريرة يقول: أو كلب زرع فقال ابن عمر: إن لأبي هريرة زرعا (2) » .
ولقد وضح النووي معنى العبارة الأخيرة الواردة في الحديث، أي قوله: إن لأبي هريرة زرعا، بقوله ما يلي في شرحه لصحيح الإمام مسلم: " وقال سالم في الرواية الأخرى، وكان أبو هريرة يقول: أو كلب حرث، وكان صاحب حرث. قال العلماء: ليس هذا توهينا لرواية أبي هريرة ولا شكا فيها، بل معناه أنه لما كان صاحب زرع وحرث اعتنى بذلك وحفظه وأتقنه، والعادة أن المبتلى بشيء يتقنه مما لا يتقنه غيره، ويتعرف من أحكامه ما لا يعرفه غيره. وقد ذكر مسلم هذه الزيادة وهي اتخاذه للزرع من رواية ابن المغفل، ومن رواية سفيان ابن أبي زهير عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرها مسلم أيضا من رواية ابن الحكم. . فيحتمل أن ابن عمر كما سمعها من أبي هريرة وتحققها عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواها عنه بعد ذلك وزادها في حديثه الذي كان يرويه بدونها، ويحتمل أنه تذكر في وقت أنه سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم فرواها ونسيها في وقت وتركها. . والحاصل أن أبا هريرة ليس منفردا بهذه الزيادة بل وافقه جماعة من الصحابة في روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو انفرد بها لكانت مقبولة مرضية مكرمة" (3) .
أما حديث: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة (4) » والحديثان الآخران اللذان ادعى غيوم أنهما يعارضان هذا الحديث وهما: «لا يدخل الجنة من كان في
__________
(1) تأويل مختلف الحديث: 93.
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة والمزارعة، باب الأمر بقتل الكلاب وبيان نسخه وبيان تحريم اقتنائها إلا لصيد أو زرع أو ماشية أو نحو ذلك 10 \ 235، 236 (من صحيح مسلم بشرح النووي) .
(3) صحيح مسلم بشرح النووي: 236، 237.
(4) صحيح البخاري الرقاق (6443) ، صحيح مسلم الإيمان (94) ، سنن الترمذي الإيمان (2644) ، مسند أحمد بن حنبل (5/152) .(31/331)
قلبه مثقال ذرة من كبر (1) » و «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (2) » فقد وردت في الكتب الصحيحة كالآتي:
أ - أخرج البخاري بسنده من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني آت من ربي فأخبرني، أو قال: بشرني أنه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق (3) » .
ب - أخرج مسلم بسنده من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس (4) » .
جـ - أخرج ابن ماجه بسنده من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم، حين ينتهبها، وهو مؤمن (5) » .
ولقد أفلح العلماء في التوفيق بين هذه الأحاديث وإزالة التعارض الظاهري بينها. فحديث: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر (6) » لا يتعارض مع حديث: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة (7) » .
ولقد جمع ابن قتيبة بين هذين الحديثين بقوله: ليس هاهنا اختلاف، وهذا الكلام خرج مخرج الحكم، يريد ليس حكم من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان أن يدخل النار، ولا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر أن يدخل الجنة؛ لأن الكبرياء لله تعالى ولا تكون لغيره، فإذا نازعها الله تعالى
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (91) ، سنن الترمذي البر والصلة (1999) ، سنن أبو داود اللباس (4091) ، سنن ابن ماجه المقدمة (59) ، مسند أحمد بن حنبل (1/416) .
(2) صحيح البخاري الأشربة (5578) ، صحيح مسلم الإيمان (57) ، سنن الترمذي الإيمان (2625) ، سنن النسائي الأشربة (5659) ، سنن أبو داود السنة (4689) ، سنن ابن ماجه الفتن (3936) ، مسند أحمد بن حنبل (2/386) ، سنن الدارمي الأشربة (2106) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب الجنائز ومن كان آخر كلامه: لا إله إلا الله 3 \ 110 (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري) .
(4) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه 2 \ 89 (من صحيح مسلم بشرح النووي) .
(5) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب النهي عن النهبة 12 \ 1299 حديث رقم 3936.
(6) صحيح مسلم الإيمان (91) ، سنن الترمذي البر والصلة (1999) ، سنن أبو داود اللباس (4091) ، سنن ابن ماجه المقدمة (59) ، مسند أحمد بن حنبل (1/416) .
(7) صحيح البخاري الرقاق (6443) ، صحيح مسلم الإيمان (94) ، سنن الترمذي الإيمان (2644) ، مسند أحمد بن حنبل (5/152) .(31/332)
لم يكن حكمه أن يدخل الجنة، والله تعالى يفعل بعد ذلك ما شاء، ومثل ذلك من الكلام قولك في دار رأيتها صغيرة: لا ينزل في هذا الدار أمير، تريد حكمها وحكم أمثالها ألا ينزلها الأمراء، وقد يجوز أن ينزلوها. وقولك: هذا بلد لا ينزله حر: تريد ليس حكمه أن ينزله الأحرار، وقد يجوز أن ينزلوه، وكذلك قوله: من صام الدهر ضيقت عليه جهنم؛ لأنه رغب عن هدية الله تعالى وصدقته، ولم يعمل برخصته ويسره، والراغب عن الرخصة كالراغب عن العزم، وكلاهما مستحق للعقوبة إن عاقبه الله عز وجل. وكذلك قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} (1) ، أي أن حكمه أن يجزيه بذلك والله تعالى يفعل ما يشاء، وهو على حديث أبي هريرة من وعده الله تعالى على عمل ثوابا فهو منجزه له، ومن أوعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار. . عن قريش بن أنس قال: سمعت عمرو بن عبيد يقول: يؤتى بي يوم القيامة، فأقام بين يدي الله - عز وجل - فيقول لي: لم قلت أن القاتل والمقتول في النار؟ فأقول: أنت قلت يا رب، ثم تلا الآية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} (2) قلت له وما في البيت أصغر مني: أرأيت إن قال لك، فإني قد قلت: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (3) ، من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر له؟ قال: فما استطاع أن يرد شيئا. اهـ (4) .
أما حديث: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (5) » فلا يتعارض أيضا مع حديث: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة (6) » . ولقد وفق ابن قتيية بين هذين الحديثين أيضا بقوله: ليس هاهنا بنعمة الله تناقض ولا اختلاف؛ لأن الإيمان في اللغة التصديق بقول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} (7) : أي بمصدق لنا، ومنه قول الناس ما أؤمن بشيء كما تقول:
__________
(1) سورة النساء الآية 93
(2) سورة النساء الآية 93
(3) سورة النساء الآية 48
(4) تأويل مختلف الحديث 79، 80.
(5) صحيح البخاري الحدود (6772) ، صحيح مسلم الإيمان (57) ، سنن الترمذي الإيمان (2625) ، سنن النسائي الأشربة (5659) ، سنن أبو داود السنة (4689) ، سنن ابن ماجه الفتن (3936) ، مسند أحمد بن حنبل (2/386) ، سنن الدارمي الأشربة (2106) .
(6) صحيح البخاري الرقاق (6443) ، صحيح مسلم الإيمان (94) ، سنن الترمذي الإيمان (2644) ، مسند أحمد بن حنبل (5/152) .
(7) سورة يوسف الآية 17(31/333)
أي ما أصدق به. والموصفون بالإيمان ثلاثة نفر: رجل صدق بلسانه دون قلبه كالمنافق، فيقول آمن كما قال الله تعالى في المنافقين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} (1) ، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} (2) ثم قال: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (3) ؛ لأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، إنما أراد المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم والذين هادوا والنصارى. ولا تقول له مؤمن كما أن لا يقول للمنافقين مؤمنون، وإن قلنا قد آمنوا؛ لأن إيمانهم لم يكن عن عقد ولا نية، وكذلك تقول لعاصي الأنبياء صلى الله عليهم وسلم عصى وغوى، ولا نقول عاص ولا غاو؛ لأن ذنبه لم يكن عن إرهاص ولا عقد كذنوب أعداء الله عز وجل.
ورجل صدق بلسانه وقلبه مع تدنس بالذنوب وتقصير في الطاعات من غير إصرار غير إصرار فنقول: قد آمن وهو مؤمن تناهى عن الكبائر، فإذا لابسها لم يكن في حالة الملابسة مؤمنا (يريد) مستكمل الإيمان، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن (4) » يريد في وقته ذلك؛ لأنه غير مصر فهو مؤمن تائب. ومما يزيد في وضوح هذا الحديث الآخر: إذا زنى الزاني سلب عنه فإن تاب ألبسه.
ورجل صدق بلسانه وقلبه، وأدى الفرائض واجتنب الكبائر، فذلك المؤمن حقا المستكمل شرائط الإيمان. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه (5) » . يريد ليس بمستكمل الإيمان. وقال: «لم يؤمن من لم يأمن المسلمون من لسانه ويده (6) » . أي ليس بمستكمل الإيمان. . والناس يقولون: فلان لا عقل له، يريدون ليس هو مستكمل العقل، ولا دين له، أي ليس بمستكمل الدين.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله فهو في الجنة، وإن زنى وإن سرق (7) » ، فإنه لا يخلو من وجهين: أحدهما: أن يكون قاله على العاقبة يريد إن عاقبة
__________
(1) سورة المنافقون الآية 3
(2) سورة البقرة الآية 62
(3) سورة البقرة الآية 62
(4) صحيح البخاري الحدود (6772) ، صحيح مسلم الإيمان (57) ، سنن الترمذي الإيمان (2625) ، سنن النسائي الأشربة (5659) ، سنن أبو داود السنة (4689) ، سنن ابن ماجه الفتن (3936) ، مسند أحمد بن حنبل (2/386) ، سنن الدارمي الأشربة (2106) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (1/387) .
(6) صحيح البخاري الإيمان (10) ، صحيح مسلم الإيمان (40) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4996) ، سنن أبو داود الجهاد (2481) ، مسند أحمد بن حنبل (2/191) ، سنن الدارمي الرقاق (2716) .
(7) صحيح البخاري الجنائز (1237) ، صحيح مسلم الإيمان (94) ، سنن الترمذي الإيمان (2644) ، مسند أحمد بن حنبل (5/152) .(31/334)
أمره إلى الجنة وإن عذب بالزنا والسرقة. والآخر: أن تلحقه رحمة الله وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير إلى الجنة بشهادة لا إله إلا الله. اهـ (1) .
أما الأحاديث التي وردت في النهي عن الشرب قائما، والأحاديث التي وردت في أنه قد شرب صلى الله عليه وسلم قائما فقد جاءت في الكتب الصحيحة أيضا كما يلي: أخرج مسلم بسنده من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه نهى أن يشرب الرجل قائما. قال قتادة: فقلنا: والأكل. قال: ذاك أشر أو أخبث (2) » .
كما أخرج الإمام البخاري بسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: «شرب النبي صلى الله عليه وسلم قائما من زمزم (3) » .
ومن حديث النزال قال: «أتى علي رضي الله عنه على باب الرحبة بماء فشرب قائما فقال: إن ناسا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت (4) » .
ولقد وفق ابن قتيبة في الجمع بين الحديثين بقوله: " ليس هاهنا تناقض؛ لأن الحديث الأول نهى أن يشرب الرجل أو يأكل ماشيا، يريد أن يكون شربه وأكله على طمأنينة، وألا يشرب إذا كان مستعجلا في سفر أو حاجة وهو يمشي فيناله من ذلك شرق أو تعقد من الماء في صدره - والعرب تقول: قم في حاجتنا لا يريدون أن يقوم حسب، وإنما يريدون امش في حاجتنا اسع في حاجتنا. . وفي الحديث الثاني كان يشرب وهو قائم يراد غير ماش. . .، ولا بأس بذلك؛ لأنه يكون على طمأنينة فهو بمنزلة القاعد " (5) .
__________
(1) تأويل مختلف الحديث: 115، 116.
(2) أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب في الشرب قائما 13 \ 194 (من صحيح مسلم بشرح النووي) .
(3) أخرجه البخاري في كتاب الأشربة، باب الشرب قائما 10 \ 81 (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري) .
(4) أخرجه البخاري في كتاب الأشربة، باب الشرب قائما 10 \ 81 (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري) .
(5) تأويل مختلف الحديث: 227 - 228.(31/335)
أما حديث السيدة عائشة رضي الله عنها في أنه صلى الله عليه وسلم لم يبل واقفا قط، وحديث حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم بال واقفا، فقد ورد كل منهما في الكتب الصحيحة. أما الأول فقد أخرجه - الترمذي بسنده من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «من حدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبول قائما فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدا (1) » .
أما الحديث الثاني فقد أخرجه البخاري بسنده من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: «أتى النبي صلى الله عليه وسلم سباطة قوم فبال قائما، ثم دعا بماء، فجئته بماء فتوضأ (2) » .
ولقد جمع ابن قتيبة أيضا بين هذين الحديثين بما يلي: " قالوا حديثان متناقضان. . رويتم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما بال رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما قط، ثم رويتم عن حذيفة: أنه بال قائما، وهذا خلاف ذاك. . ونحن نقول: ليس هاهنا - بحمد الله - اختلاف، ولم يبل قائما قط في منزله، والموضع الذي كانت تحضره فيه عائشة رضي الله عنها، وبال قائما في المواضع التي لا يمكن أن يطمئن فيها إما للشق في الأرض وطين أو قذر. وكذلك الموضع الذي رأى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة يبول قائما كان مزبلة لقوم، فلم يمكنه القعود فيه ولا الطمأنينة، وحكم الضرورة خلاف حكم الاختيار " (3) .
وهكذا يتضح لنا أن هذه الأحاديث ليست متعارضة في حقيقتها، ولم يعجز علماء المسلمين عن التوفيق بينها كما ادعى بعض المستشرقين، بل إن هؤلاء العلماء قد وفقوا أيما توفيق في تأويل هذه الأحاديث وغيرها بما يزيل عنها صور اللبس والإبهام، وكل ما قد يتبادر إلى الأذهان من شبهة التعارض، وهكذا استطاع العلماء من المحدثين وغيرهم الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض، بما يحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم من الرد، وقبولها والعمل بما جاء في صحيحها.
__________
(1) أخرجه الترمذي في أبواب الطهارة، باب النهي عن البول قائما 1 \ 27، 28 قال الترمذي: حديث عائشة أحسن شيء في الباب (من عارضة الأحوذي) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الوضوء، باب البول قائما وقاعدا 1 \ 328 (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري) .
(3) تأويل مختلف الحديث: 62، 63.(31/336)
6 - الرد على افتراءات المستشرقين حول أساليب المحدثين في العناية بمتون الأحاديث
لقد سبق أن رأينا إدعاء ألفريد غيوم وصاحبه ماكدونالد أن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة السنة قد تسبب في إهمال المحدثين للسنة، ومن ثم ضياعها، ولقد اعتمدا في ذلك على حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد فيه: «لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه (1) » . . .
ومن الغريب في الأمر أن هذين المستشرقين قد تمسكا بحرفية هذا الحديث تمسكا أعمى، وتجاهلا أحاديث أخرى صحيحة، تدل على أن السنة كانت تدون بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أذن بكتابة حديثه كما جاء في حديث أبي هريرة حيث قال: " ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب ".
كما تجاهلا أيضا الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود من حديث عبد الله ابن عمرو وفيه: «اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا الحق (2) » ، والحديث الآخر الصحيح الذي أخرجه الترمذي، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اكتبوا لأبي شاة (3) » .
وهذا يدل دلالة واضحة على أن هذين المستشرقين لا يعتمدان إلا الأحاديث التي توافق هواهما وميولهما الشخصية المعادية للإسلام ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما علماء المسلمين فإنهم يرفضون مثل هذا المنهج الواهي عند اعتماد الأحاديث أو ردها، ولقد نظروا في الأحاديث التي تدل على النهي عن كتابة السنة، والأحاديث التي فيها إذن بكتابة السنة، وعلموا أنها جميعا أحاديث
__________
(1) صحيح مسلم الزهد والرقائق (3004) ، سنن الدارمي المقدمة (450) .
(2) سنن أبو داود العلم (3646) ، مسند أحمد بن حنبل (2/162) ، سنن الدارمي المقدمة (484) .
(3) أخرجه الترمذي في كتاب العلم، باب الرخصة في كتابة العلم 4 \ 228 - 429 وقال: الترمذي حديث صحيح (من تحفة الأحوذي) .(31/337)
صحيحة، فقاموا التوفيق بينها، واستقروا على إباحة كتابة الحديث كما رأينا من كلام النووي حيث قال: " إنه كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم، فكرهها كثيرون منهم، وأجازها أكثرهم وزال الخلاف ".
وليس هناك دليل على أن النهي عن كتابة السنة في أول الأمر قد أدى إلى ضياع السنة كما يدعي غيوم وصاحبه ماكدونالد، بل بالعكس فإن بعض السلف كان يرى أن عدم الكتابة يساعد على حفظ السنة، واستحضارها في القلب، والعمل بها، وعدم خلطها بغيرها من كتب أهل الكتاب وأساطيرهم.
ويدلنا على ذلك قول الخطيب البغدادي الذي ذكرناه آنفا وفيه: ". . . نهى عن الاتكال على الكتاب؛ لأن ذلك يؤدي إلى اضطراب الحفظ حتى يكاد يبطل، وإذا عدم الكتاب قوي لذلك الحفظ الذي يصحب الإنسان في كل مكان. ولهذا قال سفيان الثوري: بئس المستودع العلم القراطيس ".
كما يدلنا على ذلك أيضا ما أورده الخطيب البغدادي " في تقييد العلم " عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال: " كنا نسمع الشيء فنكتبه، ففطن لنا عبد الله، فدعا أم ولده ودعا بالكتاب وبإجانة من ماء فغسله ".
ولقد أورد الخطيب البغدادي تعليقا حول ذلك حيث قال: " إنه لو كان من القرآن أو السنة لم يمحه، ولكنه كان من كتب أهل الكتاب ".
أما ادعاء فيليب حتى أن المحدثين قد نقلوا متون الأحاديث عن أهل الكتاب وبخاصة أناجيل النصارى، فيبطله ما رأيناه من توجيهات إلهية واردة في القرآن الكريم، والتي تحث المسلمين على طاعة الله ورسوله قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (2)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 1
(2) سورة الأنفال الآية 20(31/338)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (1) ، وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (2) .
ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه وتوعد الكاذبين والوضاعين بعذاب النار يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (3) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين (4) » .
كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن اتباع سنن أهل الكتاب والاقتداء بهم، وذلك في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه بسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنة من كان قبلكم باعا بباع، وذراعا بذراع، وشبرا بشبر، حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتم فيه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذا؟ (5) » .
ولقد استجاب المسلمون لهذه التوجيهات وتمسكوا بها، واجتهدوا كي يضعوها موضع التنفيذ، ومما يدل على ذلك القصة التي أوردناها آنفا من أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد استدعى رجلا كان يستنسخ كتاب دانيال، فضربه وأمره أن يمحو ما كتبه بالحميم والصوف الأبيض وألا يقرأه ولا يقرئه أحدا من الناس.
ولقد بين سيدنا عمر بن الخطاب سبب نهيه عن استنساخ كتب النصارى واليهود وغيرهم عن طريق هذه القصة التي رواها عن نفسه: «انطلقت أنا
__________
(1) سورة محمد الآية 33
(2) سورة التغابن الآية 12
(3) صحيح البخاري الجنائز (1291) ، صحيح مسلم مقدمة (4) .
(4) أخرجه مسلم في المقدمة باب تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم 1 \ 196 (من صحيح مسلم بشرح النووي أخرجه مسلم في المقدمة، باب وجوب العمل بخبر الواحد 1 - 62 (من صحيح مسلم بشرح النووي) .
(5) أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب افتراق الأمم 2 \ 320 حديث رقم 3994 وعلق عليه الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي بقوله: '' إسناده صحيح ورجاله ثقات.(31/339)
فانتسخت كتابا من أهل الكتاب، ثم جئت به في أديم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا في يدك يا عمر، قال: قلت: يا رسول الله، كتاب انتسخته لنزداد به علما إلى علمنا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، ثم نودي بالصلاه جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم، السلاح السلاح، فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس، إني أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختصر لي اختصارا، لقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تتهوكوا ولا يقربكم المتهوكون، قال عمر: فقمت فقلت: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبك رسولا، ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم» .
ولم يكتف المسلمون بتجنب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحاشي الأخذ عن أهل الكتاب فقط، إنما ابتكروا مناهج رصينة وطرائق سديدة لتمحيص متون الأحاديث والاعتناء بأسانيدها قبل اعتمادها، ومن ذلك: طلب توثيق النص المروي بسند آخر أو شاهد للتأكد من سلامته، ونقد الحديث بعرضه على القرآن الكريم والسنة الثابتة، والتدقيق في طرق تحمل الحديث وأدائه ومذاكرة الحديث مع أهل الفهم والمعرفة ليتضح صحيحه من سقيمه، والتزام صحة السند والتشدد في ذلك؛ لأن صحة السند من أكبر الأدلة على صحة المتن، والتحذير من الأخذ عن الضعفاء والمجهولين والمتروكين، وأهل البدع والوضاعين وأشباههم، ومقارنة المكتوب بالأصل، وعرض الكتاب على الشيخ، وغير ذلك من المناهج الدقيقة التي تبطل دعوى تسرب الأساطير الوثنية من قبل أهل الكتاب أو غيرهم إلى السنة المقبولة. وفي ضوء هذه المناهج الدقيقة قام المحدثون بغربلة الأحاديث التي وصلتهم وتقسيمها إلى درجات متفاوتة من حيث القوة والضعف، وبهذه الطريقة أمكن معرفة صحيح الحديث من سقيمه.
كما قاموا بالتصدي للوضع والوضاعين، وكشفوا من مخططاتهم حتى أنهم أفردوا مصنفات خاصة للأحاديث الموضوعة لتحذير المسلمين من شرها.
أما الحديثان اللذان استشهد بهما فيليب حتى ليدلل بهما على عدم جدية(31/340)
المحدثين في تمحيص السنة، وأن المحدثين كانوا يأخذون عن أناجيل النصارى فقد وردا في بعض الكتب الصحيحة منها سنن الترمذي وصحيح مسلم.
الحديث الأول أخرجه الترمذي بسنده من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كم أعفو عن الخادم، فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا رسول الله، كم أعفو عن الخادم فقال: كل يوم سبعين مرة (1) » .
أما الحديث الثاني فقد أخرجه مسلم بسنده من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول: «لما حفر الخندق رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا، فانكفأت إلى امرأتي فقلت لها: هل عندك شيء فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا، فأخرجت لي جرابا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن قال: فذبحتها، ففرعت إلى فراغي فقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه. قال: فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله، إنا قد ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعا من شعير كان عندنا، فتعال أنت في نفر معك. فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سورا فحيهلا بكم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء فجئت، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت لي. فأخرجت له عجينا فبصق فيها وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك، ثم قال: ادعي خابزة فلتخبز معك، واقدحي من برمتك ولا تنزلوها وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجينتنا - أو كما قال الضحاك لتخبز كما هو (2) » .
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، باب ما جاء في العفو عن الخادم 8 \ 129، 130. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (من عارضة الأحوذي) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يتق برضاه 13 \ 215 - 217 (من صحيح مسلم بشرح النووي) .(31/341)
إن الحديث الأول حسن، والثاني صحيح، مما يؤكد بأنهما قد نالا القبول من المحدثين في ضوء مناهجهم الدقيقة التي أشرنا إليها آنفا، أما ما ورد في الإنجيل من أقوال منسوبة لعيسى عليه السلام تتشابه في وجه من الوجوه مع ما جاء في هذين الحديثين، فلا يدل على أن المسلمين قد أخذوا متن هذين الحديثين عن أناجيل النصارى؛ لأن جميع الأقوال الواردة في الأناجيل لا يمكن إثبات نسبتها لسيدنا عيسى عليه السلام؛ لانقطاع سلسلة السند بين سيدنا عيسى وبين مؤلفي هذه الأناجيل، ذلك باعتراف علماء اللاهوت أنفسهم.
وعليه فإن أقوال النصارى هذه تعد من قبيل الحديث المرفوض الذي لا يأبه به المحدثون؛ لأنهم يعتبرونه من قبيل الحديث الذي ليس له إسناد قائم.
وعليه فلا يعقل أن يعتمد المحدثون في مروياتهم على أناجيل النصارى التي لا سند لها، بجانب أن مناهج المحدثين تحتم عليهم عدم أخذ الحديث إلا عن العدل الضابط، وهو المسلم البالغ العاقل غير الفاسق ولا مخروم المروءة، وهذه الصفات كما هو معلوم لا تنطبق بحال من الأحوال على أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
أما اتهام موريس سيل لابن حجر العسقلاني بأنه استعان بما جاء عند النصارى عندما (فسر كلمة الأريسيين بالفلاحين) فهو زعم خاطئ؛ لأن الأريسين هم فعلا أتباع آريوس، وقد كانوا يقطنون الشام ومصر وشمال أفريقيا، وهذه من البلاد الزراعية، فلا يستبعد أن يكون معظم أنصار هذه الطائفة كانوا من الفلاحين؛ لأن الزراعة هي الحرفة الرئيسة لسكان تلك المنطقة، وعليه فلا يتعارض تفسير ابن حجر مع الواقع التاريخي لأنصار هذه الطائفة، ولهذا فليس هناك أي مبرر موضوعي لهذا الهجوم الصارخ الذي شنه موريس سيل على هذا العالم الجليل.(31/342)
أما أحاديث الشفاعة التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم فإنها مخرجة في الكتب الصحيحة، وإنها تخالف ما جاء عند النصارى فيما يختص بسيدنا عيسى ابن مريم عليه السلام تمام الاختلاف، لذا فإني سوف أورد هنا ما جاء في السنة الصحيحة عن الشفاعة، وما جاء في أسفار أعمال الرسل من أقوال حول هذا الموضوع ليتضح لنا فساد ما ساقه موريس سيل من افتراء حول تشابه الحديث الشريف مع ما جاء في تلك الأسفار.
أخرج الإمام البخاري بسنده من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى عامة الناس (1) » .
قال العيني: الشفاعة هي سؤال فعل الخير وترك الضرر عن الغير على سبيل الضراعة. وذكر الأزهري في تهذيبه عن المبرد: يغلب أن الشفاعة الدعاء، والشفاعة كلام الشفيع لملك عند حاجة يسألها لغيره. . وقال ابن دقيق العيد: الأقرب أن اللام فيه للعهد، والمراد الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف، ولا خلاف في وقوعها، وقيل الشفاعة التي اختص بها: أنه لا يرد فيما يسأل، وقيل الشفاعة لخروج من في قلبه ذرة من إيمان من النار، وقيل: في رفع الدرجات في الجنة، وقيل: قوم استوجبوا النار فيشفع في عدم دخولهم إياها. وقيل: إدخال قوم الجنة بغير حساب، وهي أيضا مختصة به صلى الله عليه وسلم " (2) .
أما ما جاء في سفر أعمال الرسل حول موضوع شفاعة عيسى ابن مريم ففيه
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب التيمم، باب التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة 4 \ 7 (من صحيح البخاري بشرحه عمدة القارئ) . وانظر ما أخرجه البخاري في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (ووجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) 13 \ 243 (من صحيح البخاري بشرحه فتح الباري) .
(2) عمدة القارئ 110.(31/343)
شرك صريح بالله تعالى حيث زعم مؤلف السفر أن هناك إلهين أحدهما (الأب) وهو الله سبحانه وتعالى، أما الثاني فهو عيسى عليه السلام، وأنهما يشتركان في الألوهية، جاء في هذا السفر ما نصه: " قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعدائك موطئا لقدميك، فليعلم يقينا جميع آل إسرائيل أن الرب جعل يسوع هذا الذي صلبتموه ربا ومسيحا " (1) .
ولقد تشكك علماء اللاهوت الغربيون في صحة نسبة هذا السفر - الذي استشهد به موريس سيل - إلى كاتبه الذي يدعون أن اسمه لوقا، وليس هذا فحسب، بل إن عالم اللاهوت الغربي الشهير ميريل تيني (2) قد صرح بأن كاتب هذا السفر غير معروف.
وبما أن علماء المصطلح يردون رواية مجهول العين ومجهول الحال حتى ولو كان مسلما، فلا يعقل أن يأبه هؤلاء المحدثون بما جاء في هذا السفر الذي لا يعرف راويه، وحتى لو عرف فإنه قطعا لا ينتمي لأمة الإسلام.
أما الحديث النبوي الذي ساقه المستشرق غيوم ليدلل به على أن الإجماع قد اتخذ بواسطة المحدثين كمبرر لتلفيق الأحاديث ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زورا وبهتانا، فقد أخرجه الترمذي بسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يجمع أمتي - أو قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار (3) » .
ولقد بين العلماء معنى الحديث، وأفاضوا في ذلك، منهم صاحب " الموقظة في علم مصطلح الحديث " حيث أورد في كتابه ما يلي: " ولكن هذا الدين مؤيد محفوظ من الله - تعالى - لم يجتمع علماؤه على ضلالة لا عمدا ولا خطأ
__________
(1) انظر كتاب: new testament survey pp. 171 - 172. .
(2) انظر كتاب: introduction to the new testament pp. 129 - 132.
(3) أخرجه الترمذي في أبوب الفتن، باب ما جاء في لزوم الجماعة 9 \ 11 قال الترمذي: حديث غريب من هذا الوجه '' من عارضة الأحوذي.(31/344)
فلا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف، ولا على تضعيف ثقة، إنما يقع اختلافهم في مراتب القوة أو مراتب الضعف، والحاكم منهم يتكلم بحسب اجتهاده وقوة معارفه، فإن قدر خطؤه في نقده فله أجر واحد " (1) .
ويظهر من هذا القول أن الإجماع المقصود ليس هو إجماع الرعاع والغوغاء حول رأي يصلون إليه كيفما اتفق، إنما الإجماع المقصود هنا هو إجماع أصحاب الحديث الذين لهم مناهجهم الدقيقة المحكمة في تحقيق المتن والسند فلا يعقل أن يجتمعوا على توثيق ضعيف أو تضعيف ثقة.
ونفس هذا المعنى تقريبا أورده أبو عيسى الترمذي عند إخراجه لهذا الحديث حيث يقول: " وتفسير الجماعة عند أهل العلم هم: أهل الفقه والعلم والحديث ".
وقال ابن العربي في العارضة في تعريفه للجماعة معلقا على هذا الحديث ما يلي: " إنما أراد عبد الله بن المبارك بالجماعة حيث يجتمع أركان الدين وذلك عند الإمام العادل أو الرجل العالم فهو الجماعة. . ".
فالإجماع إذن عند علماء المسلمين وفقهائهم ومحدثيهم لا يمكن أن يكون مدخلا أو مبررا لتلفيق الأحاديث ونسبتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما ادعى غيوم.
أما الحديث الآخر والذي أورده غيوم ليدلل به على أن علماء الحديث قد لفقوا بعض الأحاديث ونسبوها للرسول صلى الله عليه وسلم، والذي ورد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «إن جاء الحديث مطابقا للقرآن فانسبوه إلي، وإلا فاعلموا أنه لم يصدر عني» ، فهو حديث موضوع. ولقد أورد الشيخ أبو زهو في كتابه " الحديث والمحدثون " حول هذا الحديث ما يلي: " حديث وضعه الخوارج والزنادقة. وهذا ليس ببعيد على قوم وقفوا على ظواهر الكتاب وردوا الحديث إذا جاء من غير من ينتمون إليه ".
__________
(1) الموقظة في علم مصطلح الحديث: 84.(31/345)
وبما أن هذا الحديث موضوع فلا يحل لأحد من المسلمين نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الاستشهاد به أو العمل بما جاء فيه.
وعليه فإن المستشرق غيوم يكون قد استند على حديث موضوع، لا قيمة له في تهجمه على المحدثين الذين قاموا بجمع السنة النبوية الشريفة.
أما زعم غيوم أن سلطة الإجماع عند المسلمين تعادل سلطة المجامع الكنسية فهو محض افتراء؛ لأن المجامع الكنسية كما هو معروف لها السلطة المطلقة في التشريعات الدينية، بما في ذلك نسخ ما لا يروق لها من محتويات الأناجيل واستبداله بغيره على اعتبار أن روح القدس مازال يلهمهم ويسدد خطاهم، بجانب اعتقادهم أن رئيسهم البابا معصوم من الخطأ.
أما الإجماع عند المسلمين فهو المصدر الثالث للتشريع بعد القرآن والسنة، وهو بهذا لا ينسخ القرآن ولا الحديث، ولا يبطل أيا منهما، فكيف يدعي غيوم أن الإجماع عند المسلمين له سلطة النسخ والتمكن من إبطال مفعول نص قراني أو حديث نبوي كما تفعل المجامع الكنسية عند النصارى.
أما ادعاء كل من نيكلسون وغيوم أن السنة النبوية الصحيحة مليئة بالمتون المتعارضة بصورة أعيت المحدثين وحيرتهم فهو ادعاء باطل، ويظهر بطلان هذا الادعاء في ضوء الحقائق التي أوردناها آنفا في هذا البحث، والتي تدل على أن معظم الأحاديث الشريفة الصحيحة محكمة. أما المختلف فهو قليل ومع قلته فقد تصدى له جهابذة العلماء والمحدثون، ووفقوا في تأويله بصورة مقنعة، كما فعل ابن قتيبة في تأويله لكثير من الأحاديث التي ظاهرها التعارض بما في ذلك الأحاديث التي استشهد بها غيوم ونيكلسون وزعموا أنها أعيت المحدثين وأربكتهم.
ولقد رأينا أيضا كيف تعامل المحدثون مع الأحاديث المتعارضة كالشاذ والمحفوظ والمنكر والمعروف والمضطرب والناسخ والمنسوخ، وأصدروا الأحكام الصائبة في كل حالة حيث قبلوا المحفوظ والمعروف وردوا كلا من الشاذ(31/346)
والمنكر وتوقفوا عن العمل بالمضطرب إلى أن يظهر مرجح، وقبلوا كلا من الناسخ والمنسوخ إن توافرت فيهما شروط الصحة المعبرة في الحديث المقبول، وأجازوا العمل بالناسخ وتركوا العمل بالمنسوخ.
وعليه فيمكننا القول: إن علماء المسلمين لم يتحيروا ولم يرتبكوا عند مواجهتهم لهذه الأحاديث المتعارضة، بل اجتهدوا وبحثوا ودققوا ومحصوا وحكموا على الأحاديث الشريفة بما يليق بحالها في ضوء الأساليب التي اتخذوها للعناية بمتون الأحاديث وأسانيدها.(31/347)
الخاتمة ونتائج البحث
بعد استعراضنا للتهم الواهية التي أثارها المستشرقون حول أساليب المحدثين في العناية بمتون الأحاديث، ومحاولة تفنيدنا لهذه التهم وبيان فسادها وتهافتها، نورد فيما يلي أهم النتائج التي توصلنا إليها في هذا البحث:
ا - إن ادعاء كل من ماكدونالد وغيوم بأن النهي عن كتابة السنة أدى إلى ضياعها هو محض افتراء باطل؛ لأن هذا النهي لم يكن مطلقا قصد به تحريم كتابة السنة، وإنما كان نهيا مؤقتا له ما يبرره من أسباب موضوعية فلما زالت تلك الأسباب، اتفق المسلمون على كتابة السنة وتدوينها.
2 - إن ادعاء كل من فيليب حتى وموريس سيل بأن المحدثين لم يولوا متون الأحاديث أي عناية، مما أدى إلى تلفيق الحديث وتسرب الأساطير الوثنية وأساطير أهل الكتاب إلى السنة النبوية الشريفة زعم باطل لا أساس له من الصحة. ويظهر ذلك مما أوردناه من عناية المحدثين بمتون الأحاديث وأسانيدها في ضوء المناهج الرصينة التي وضعوها وعملوا على تطبيقها في تنقية السنة من الشوائب والبدع. وهذا يدل بما لا يدع مجالا للشك أن الأحاديث المقبولة عند المحدثين خالية من الأساطير(31/347)
الوثنية وغيرها من أساطير أهل الكتاب، خاصة إن كتب النصارى التي ادعى كل من فيليب حتى وموريس سيل بأن المسلمين قد اقتبسوا عنها هي من المصادر الساقطة التي لا يعتد بها المسلمون ولا يستشهدون بها؛ لأن مؤلفيها مجهولو العين ومجهولو الحال؛ ولأنه ليس لها إسناد قائم.
3 - إن زعم غيوم بأن سلطة الإجماع عند المسلمين شبيهة بسلطة المجامع الكنسية زعم باطل كما اتضح لنا ذلك من خلال هذا البحث. فالإجماع في الإسلام لا يمكن الاستناد عليه في إبطال نص قرآني أو حديث نبوي، وهذا يختلف بصورة جذرية عن الإجماع الكنسي الذي يمتلك مطلق الحرية في التشريع الديني للمسيحيين.
4 - أما زعم نيكلسون بأن المحدثين قاموا بجمع كثير من المتون المتعارضة، وضمنوها السنة النبوية دون التمكن من تأويلها أو التوفيق بينها فهو زعم باطل كما رأينا من خلال هذا البحث للأسباب التالية:
أ - قلة عدد المتون المتعارضة بالمقارنة مع المتون المحكمة.
ب - ابتكار المسلمين لمناهج دقيقة ومعايير موضوعية لتنقية الأحاديث النبوية والعناية بها.
ج - تطبيق هذه المعايير في نقد أسانيد الأحاديث ومتونها، مما ساعدهم على تمييز الخبر المقبول من المردود، وعلى التوفيق بين الأحاديث المتعارضة ظاهريا، وإصدار الأحكام الصائبة على الأحاديث المتعارضة.
وهكذا يتضح لنا بأن هذه الافتراءات التي أثارها كل من الفريد غيوم، ودونيكان بلاك ماكدونالد، وفيليب حتى، وموريس سيل، ونيكلسون حول عناية المحدثين بمتون الأحاديث تهم باطلة ما أنزل بها الله من سلطان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(31/348)
مراجع عربية
أ - أدب الإملاء والاستملاء، تأليف عبد الكريم بن محمد السمعاني باعتناء مكس وبويلز، طبع في ليدن، مطبعة بريل 1952 م.
2 - إغاثة اللهفان لابن قيم الجوزية، طبعة الميمنية بالقاهرة.
3 - الاقتراح في بيان الاصطلاح للسيوطي، مطبعة دائرة المعارف بحيدر أباد، عام 1310 هـ.
4 - التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق لسعيد بن البطريق، مطبعة الآباء اليسوعيين، بيروت، لبنان، عام 1905 م.
5 - تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة الدينوري، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
6 - تدريب الراوي شرح تقريب النووي للسيوطي، طبعة مصر عام 1307 هـ.
7 - تذكرة الحفاظ لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي، طبعة الهند، عام 1333 هـ.
8 - التفسير الواضح، د. محمود حجازي، تحقيق يوسف العشي، دار إحياء السنة النبوية، الطبعة الثانية، عام 1974 م.
9 - تقييد العلم للخطيب البغدادي، تحقيق يوسف العشي، دمشق 1949م.
10 - توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الآثار لمحمد بن إسماعيل الصنعاني، تحقيق محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، الطبعة الأولى، 1366هـ.
11 - الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، مكتبة الخانجي بمصر، الطبعة الأولى، عام 1366 هـ.
12 - تحذير الخواص من أكاذيب القصاص للإمام جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق محمد الصباغ، المكتب الاسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 1394 هـ - 1974م.(31/349)
13 - الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي، تحقيق نور الدين عتر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى عام 1395 هـ - 1975 م.
14 - الرسالة لمحمد بن إدريس الشافعي بتحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
15 - سنن ابن ماجه للحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة عيسى البابي الحلبي وأولاده، القاهرة عام 1372 هـ - 1952 م.
16 - سنن الدارمي للحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، تصحيح وتحقيق السيد عبد الله هاشم يماني المدني، دار المحاسن للطباعة، القاهرة عام 1386 هـ - 1966 م.
17 - شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي، دار إحياء السنة النبوية 1969 م.
18 - صحيح البخاري شرح كل من:
(أ) عمدة القارئ للبدر العيني، دار الفكر عام 1399هـ - 1959م.
(ب) فتح الباري لابن حجر العسقلاني، شركة ومكتبة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر عام 1378 هـ - 1959م.
19 - صحيح الترمذي شرح كل من:
(أ) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري، مراجعة عبد الرحمن محمد عثمان، مطبعة الفجالة الجديدة، القاهرة عام 1385 هـ - 1965 م.
(ب) عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي لابن العربي المالكي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.(31/350)
20 - صحيح مسلم بشرح النووي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية عام 1392 هـ - 1972 م.
21 - علم الحديث تأليف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، تحقيق وتعليق موسى محمد علي، دار التوفيق النموذجية للطباعة، مصر الطبعة الأولى عام 1390 هـ.
22 - علوم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان. الطبعة التاسعة عام 1977 م.
23 - الفتح الرباني بترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل، تأليف أحمد عبد الرحمن البنا، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.
24 - فتح المغيث شرح ألفية الحديث، تأليف السخاوي، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، مطبعة العاصمة، القاهرة، الطبعة الثانية عام 1388 هـ - 1968 م.
25 - قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث لمحمد جمال الدين القاسمي، تحقيق وتعليق محمد بهجة البيطار، دار إحياء الكتب العربية، مطبعة عيسى الحلبي.
26 - الكتاب المقدس، المطبعة الكاثوليكية، بيروت 1960 م.
27 - مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري، ومعالم السنن لأبي سليمان الخطابي، تهذيب الإمام ابن قيم الجوزية، تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي، دار المعرفة، بيروت، لبنان عام 1400 هـ - 1980 م.
28 - المستدرك على الصحيحين للإمام الحافظ أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، وبذيله التخليص للحافظ الذهبي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.
29 - مسند الإمام أحمد بن حنبل وبهامشه (منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال) طبعة مطبعة المكتب الإسلامي، دار صادر بيروت.
30 - مصطلح الحديث وأثره على الدرس اللغوي عند العرب، تأليف د. شرف الدين علي الراجحي، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان عام 1983 م.(31/351)
31 - معرفة علوم الحديث للحاكم بن عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ النيسابوري، تعليق أ. د. معتصم حسين، طبع دائرة المعارف العثمانية: حيدر أباد الدكن، الطبعة الثانية عام 1397 هـ - 1977 م.
32 - النفيس في التمييز بين الصحيح والضعيف وشرح مصطلح الحديث لمحمد عبد العزيز الهلالي، دار العلوم للطباعة، القاهرة.
مراجع أجنبية
1 - A. D. Ajijala، Myth of the Cross Kazi Publication - U. S. A.، 1979.
2 - Alfred Guillaume، Islam Macmillan، New York، 1976. .
3 - Alfred Guillaume، The tradition of Islam New York 1968. .
4 - Dancan B. Macdonald، Muslim Theology، Juris prudence and constitutional Theory، Beirut Khayats، 1965.
5 - Merrill. C. Tenney، New Testament Survey، Michigan U. S. A. 1982.
6 - Morris. S. Seale، Muslim Theology London، 1964.
7 - Nicholsen، A Literary History of Arabs، London، 1907.
8 - Philip. K. Hitti، Islam and the West، New Jersey، U. S. A. 1962. .
9 - Werener George Kummel. Introdution to the New Testament، New York 1975. .(31/352)
الشهادة بالحق في
مهرجان الجهاد
الحمد لله الذي جعل دفع الباطل بالحق سنة ماضية أبدا، لئلا تفسد الأرض بالظلم، وتهون كرامة الإنسان بالاضطهاد والعسف.
والحمد لله الذي جعل ذلك منهجا عمليا، فاستنهض همة المسلمين للدفاع عن المستضعفين. من الرجال والنساء والولدان.
والصلاة والسلام على خير من عرف الحق، والتزمه، وبينه. وخير من جاهد الظلم والطغيان، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
استجابة لرغبة كريمة من المهتمين بالشأن العام للأمة، وبالمخاطر المحيطة بها في الحاضر والمستقبل.
وشعورا بفداحة الكارثة المزلزلة التي جرها على الأمة، وفجرها في أرضها، وبين بنيها النظام العراقي.
ومشاركة في الكفاح ضد ظلم القيادة العراقية وبغيها.
وتجلية للتفاعل العميق بين الشعب السعودي وقواته المسلحة.
وتضامنا إسلاميا عاما مع المملكة العربية السعودية وهي تواجه العدوان السافر من ذوي القربى، منكري المعروف وجاحديه.
وإحياء لمفاهيم الجهاد ومعانيه في حياة المسلمين.(31/353)
أقامت جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية " مهرجان الجهاد " في هذه الظروف المفعمة بالتحديات الكبيرة، والنذر الخطرة.
وبحمد الله وفضله انتظم " مهرجان الجهاد " في الفترة من 4 - 6 شعبان 1411 هـ، في المدينة الجامعية لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، في مدينة الرياض، بالمملكة العربية السعودية.
وقد افتتح المهرجان نيابة عن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام.
ووجه خادم الحرمين الشريفين كلمة ضافية إلى المهرجان، استعرض فيها تطورات أزمة الخليج، وجهد المملكة العربية السعودية الجاد والمخلص والمثابر في حلها سلميا منذ البداية. ولكن القيادة العراقية ضيعت كل فرصة للسلام، وكل جهد للمصالحة بسبب أنها كانت تنطوي على نية الغدر والعدوان.
ولما وقع العدوان، بادرت قيادة المملكة العربية السعودية - على الرغم من هول الكارثة - إلى بذل كل جهد من شأنه أن يحمي المنطقة من حرب ضروس مدمرة. وأمام تعنت القيادة العراقية ورفضها لكل مسعى مخلص وخير وحكيم، فإن المملكة تحملت مسئوليتها في مواجهة العدوان، سواء تمثل هذا العدوان في احتلال الكويت، أم في الحشد العسكري المعادي على حدود المملكة.
وحين نشبت الحرب، نهضت المملكة بواجبها القتالي. . والمملكة العربية السعودية ترى أن الحرب ستستمر ما دامت أسبابها قائمة وهي: الاحتلال العراقي للكويت، وحشد قواته الباغية على حدود المملكة، كما ترى المملكة أن القيادة العراقية تستطيع أن تجنب بلادها والمنطقة كلها المزيد من الخسائر(31/354)
والدمار إذا هي اتخذت القرار الواضح بسحب جيشها من الكويت، ومن حدود المملكة العربية السعودية.
وقد حيت كلمة خادم الحرمين الشريفين المهرجان وأهدافه النبيلة، ومن خطط له ونفذه، وهو جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كما حيت الكلمة السامية المشاركين في المهرجان من خارج المملكة وداخلها.
وفي مناخ التفاعل الكريم بين قيادة المملكة والمشاركين في المهرجان، أتيح للمشاركين في مهرجان الجهاد فرصة لقاء خادم الحرمين الشريفين حيث تحدث إليهم مباشرة عن أزمة الخليج وتداعياتها ومضاعفاتها بصراحة وشمول. كما أتيحت للمشاركين فرص لقاء صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني، وصاحب السمو الملكي الأمر نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية.
ولقد حفل المهرجان بمناشط متنوعة، أثرته وأعانته على تحقيق أهدافه وبلوغ غاياته، إذ انتظم المهرجان مناشط عسكرية وثقافية وفكرية وأدبية وإعلامية، فشارك في المهرجان فصائل مختارة من الحرس الوطني، ووزارة الدفاع والطيران، والأمن العام. وأدت هذه الفصائل عملا حيا ومتألقا من خلال الاستعراض العسكري، ومشاهد الفروسية.
وحفل المهرجان بالكثير من الندوات والقاعات الثقافية والفكرية والأدبية والإعلامية التي دارت حول قضايا رئيسة وعميقة. . قضايا الجهاد في الخليج دفاع عن الدين والمقدسات، وحرب الخليج صراع بين الحق والباطل، والإعلام وأثره في الحرب، وصمود الجبهة الداخلية وأثره في تحقيق النصر، والشعر في ميدان الجهاد.(31/355)
وقد أم المهرجان وشارك فيه جموع كبيرة من رجالات المملكة من مختلف المواقع: المدنية والعسكرية: شعورا بالمسئولية، وتفاعلا مع الحدث، وتحفزا لأداء الواجب.
وشهد المهرجان وشارك فيه نخبة من رجال العلم والدعوة والفكر والرأي والقلم في العالم الإسلامي، انبعاثا من قيم الإسلام، وتضامنا مع المملكة العربية السعودية.
وبعد ثلاثة أيام من النشاط العلمي والفكري والثقافي والأدبي والإعلامي، أصدر المشاركون في مهرجان الجهاد " شهادة الحق " التالية:(31/356)
الشهادة بالحق في مهرجان الجهاد
نشهد أنه في الحادي عشر من شهر المحرم 1411 هـ الموافق الثاني من أغسطس عام 1990 م، احتل النظام العراقي بلدا عربيا مسلما هو الكويت، وأخرج أهله من ديارهم وأموالهم.
وأن هذا النظام، على أثر احتلاله للكويت، حشد جيشه المعادي على حدود المملكة العربية السعودية تأهبا للعدوان عليها. وهذا كله ظلم وبغي وعدوان.
ونشهد بأن النظام العراقي قد نودي - على مدى ما يقرب من نصف عام - أن كف عن العدوان، وانسحب من الكويت، ومن حدود المملكة العربية السعودية.
وأن هذه النداءات قد صدرت عن علماء الإسلام ودعاته - فرادى ومجتمعين - وعن المؤسسات الإسلامية والعربية الدولية، وعن المنظمات العالمية.(31/356)
ولكن النظام العراقي لم يستجب لأي نداء.
وبذلك يكون النظام العراقي قد ناشر أسباب الحرب غير مرة.
باشرها باحتلاله للكويت، وتهديده لأمن المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى.
وباشرها بالإصرار على عدم الانسحاب.
وكان لا بد - والحالة هذه - من مجاهدة الظلم والبغي والعدوان.
إن الظلم والباطل لا يقومان إلا على أنقاض الحق والعدل. . وهذا شذوذ عن سنن الله في الكون والحياة.
فقد عظم الله تعالى شأن الحق والعدل، وأقام عليهما السماوات والأرض وما بينهما:
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} (1) .
{مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (2) ومن مقاصد بعث النبيين والمرسلين تقرير الحق، ونصب موازين العدل، وبالتالي إبطال الباطل ومقاومة الظلم.
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (3) .
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 19
(2) سورة الأحقاف الآية 3
(3) سورة البقرة الآية 213(31/357)
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) .
والله تعالى عليم بخلقه، فهو - سبحانه - يعلم أن أكثر الناس لا يلتزمون بالحق والعدل، بل يظلمون ويجورون ويبغون.
ومن عدله ورحمته - جل شأنه - أن جعل لمن يظلم ويعتدى عليه سبيلا إلى مجاهدة الظالم المعتدي.
{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (2) {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (3) .
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (4) .
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (5) .
وقد استنهض الإسلام عزائم المؤمنين للدفاع عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} (6) .
وهذا كله محكوم بسنة الله المطردة في المجتمع البشري {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (7) .
__________
(1) سورة الحديد الآية 25
(2) سورة الشورى الآية 41
(3) سورة الشورى الآية 42
(4) سورة الحج الآية 39
(5) سورة البقرة الآية 194
(6) سورة النساء الآية 75
(7) سورة البقرة الآية 251(31/358)
في ضوء هذا الهدي المبين، والسنن التي لا تتخلف يجب دفع الصائل أو المعتدي، ولا شك أن ذلك نوع من أنواع الجهاد.
وفي الفقه الإسلامي مباحث مستفيضة لا تجيز دفاع الصائل فحسب، بل توجب هذا الدفع وتحتمه. فإن الرضى بالضيم يتناقض مع عزة المؤمن، ويتناقض مع مسئولية المجاهدة الدائمة للظلم في الأرض.
ويمكن تسمية دفع الصائل بأنه " الدفاع الشرعي عن النفر والمال والعرض والبيت أو الوطن، أو هو الدفاع المشروع عن الغير في كل هذه الأمور ".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد (1) » .
إن إنفاذ البصر إلى بيت ما - تلصصا - يجيز إنزال أشد العقوبات بالعين الصائلة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح (2) » فكيف بمن يحتل الديار، وكيف بمن يهدد الأوطان؟
ولا شك في أن النظام العراقي نظام صائل باغ، ويجب أن يدفع وأن يجاهد وإلا فإن الأمة كلها تأثم حين لم يقم من بينها من ينهض بواجب دفع الصائل أو المعتدي، وهو النظام العراقي في هذه الحال: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (3) .
إن المملكة العربية السعودية لم تتردد في مجاهدة الصائل المعتدي لأنها دولة قامت على الجهاد، وبه توطدت أركانها ولا غرو، فإن بلاد الحرمين الشريفين هي الموطن الأول للجهاد، ففيها نزلت آيات الجهاد، وفوق ثراها فرض الجهاد
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2480) ، صحيح مسلم الإيمان (141) ، سنن الترمذي الديات (1419) ، سنن النسائي تحريم الدم (4087) ، سنن أبو داود السنة (4771) ، مسند أحمد بن حنبل (2/206) .
(2) صحيح البخاري الديات (6888) ، صحيح مسلم الآداب (2158) ، سنن النسائي القسامة (4861) ، سنن أبو داود الأدب (5172) ، مسند أحمد بن حنبل (2/428) .
(3) سورة الأنفال الآية 73(31/359)
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) .
وفي وديانها، وفوق جبالها ورباها جرت وقائع الجهاد على أيدي رجالها المؤمنين بقيادة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} (3) .
ولئن حرم العدوان على كل بلد فإن حرمته مضاعفة بالنسبة لبلاد الحرمين الشريفين، فإن هذه البلاد يجب أن تظل آمنة أبدا لأجل أن يؤدي الحجاج المعتمرون نسكهم في محيط آمن.
وفي هذا المجال يقرر المشاركون في المهرجات أن الذي اعتدى على أرض مقدسات الإسلام هو النظام العراقي.
فهو - وليس غيره - الذي يهدد أمن هذه الأرض.
وهو - وليس غيره - الذي يضرب محيط مقدسات الإسلام بالصواريخ ثم يدعي الغيرة على المقدسات.
إن ما قام به النظام العراقي عدوان، وفتنه، وإفساد في الأرض كان بسبب انحرافه عن الإسلام، وتبنيه لمبادئ باطلة، ومقاصد فاسدة {وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} (4) .
ومن هنا، فإن الأمة مدعوة إلى أن تلتزم منهج الإسلام الحق في سلوكها العام والخاص، وفي سياسة دولها الداخلية والخارجية، فهذا النهج وحده هو
__________
(1) سورة البقرة الآية 216
(2) سورة الأنفال الآية 64
(3) سورة الأنفال الآية 65
(4) سورة الأعراف الآية 58(31/360)
العاصم من الانحراف والضلال والعدوان {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (1) .
ولئن كان دفع العدوان عن كل بلد مسلم واجبا، فهو بالنسبة لبلاد الحرمين الشريفين أشد وجوبا.
ولذا، يدعو المشاركون في المهرجان كافة المسلمين حكامهم ومحكوميهم، خاصتهم وعامتهم أن يكونوا عونا للمملكة العربية السعودية وهي تدفع عدوان النظام العراقي عن أرض مقدسات الإسلام.
إن ذلك من التعاون على البر والتقوى، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) .
وهو ضرب من التواصي بالحق والصبر، والله تعالى يقول: {وَالْعَصْرِ} (3) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (4) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (5) .
وهو تضامن على دفع المنكر، والله تعالى يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (6) .
وهو موقف من مواقف النصر في الدين، والله تعالى يقول: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (7) .
وهو جهاد إسلامي لدفع الظلم والعدوان ونصر المظلوم، وإعلاء كلمة الحق، كما قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (8) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 101
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة العصر الآية 1
(4) سورة العصر الآية 2
(5) سورة العصر الآية 3
(6) سورة التوبة الآية 71
(7) سورة الأنفال الآية 72
(8) سورة التوبة الآية 41(31/361)
إن من المفارقات المحزنة، أنه في الوقت الذي ينبغي أن يقف فيه المسلمون مع المملكة وهي تدفع الظلم عن نفسها، وعن بلاد الحرمين الشريفين، يوجد - في هذا الوقت بالذات - من يقف مع الظالم الباغي، يؤيده وينصره.
إن المشاركين في مهرجان الجهاد، إذ ينكرون هذه المواقف الخاطئة الممالئة للظلم والظالمين، فإنهم يتوجهون بنداء مخلص، ورسالة واضحة إلى بعض الحكومات وإلى بعض الجماعات الإسلامية التي ركنت إلى طاغية العراق، يتوجهون إلى هؤلاء بهذه الرسالة البينة:
إن تأييدكم للنظام العراقي كان سببا رئيسا، وحافزا أساسيا في تشجيع الطاغية على الاستمرار في عتوه وظلمه، وفي هذا تعاون على الإثم والعدوان، وتواص بالمنكر والشر.
وليس من مبادئ الإسلام، ولا حقوق الأخوة أن تقفوا هذا الموقف.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (1) .
«المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه (2) » وينبغي أن تتذكر الحكومات التي أيدت الظلم وشجعته ودعمته، مصائر الطغاة والظالمين والبغاة. قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} (3) {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} (4) {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} (5) {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} (6) {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} (7) {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} (8) {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} (9) {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} (10) {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (11) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 8
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، سنن الترمذي البر والصلة (1927) .
(3) سورة الفجر الآية 6
(4) سورة الفجر الآية 7
(5) سورة الفجر الآية 8
(6) سورة الفجر الآية 9
(7) سورة الفجر الآية 10
(8) سورة الفجر الآية 11
(9) سورة الفجر الآية 12
(10) سورة الفجر الآية 13
(11) سورة الفجر الآية 14(31/362)
{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} (1) .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته (2) » . كما ينبغي أن تعلم حكومات " تشجيع الطغيان " أن التعلق بالطغاة إنما هو تعلق ببيت العنكبوت: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (3) .
وإذ يذكر المشاركون في المهرجان هؤلاء وأولئك بذلك كله، ينصحونهم بالكف عن السير في ركاب الطغاة والتوبة النصوح من ذلك، وبالعودة إلى المقاييس الصحيحة في التمييز بين الحق والباطل، والعدل والظلم.
ويتوجه المشاركون في المهرجان برسالة خاصة إلى الإخوة الكويتيين: لقد شعرنا من صميم قلوبنا ومشاعرنا بمحنتكم المريرة، ومأساتكم المفجعة، وعشناها معكم، فالكويت عضو في جسد الأمة الإسلامية، فلما اشتكى تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.
وليس مسلما نقي القلب من لا يأسى لأخيه المسلم حين ينزل به غم وكرب وضر.
وليس إنسانا سويا من لا تؤرقه مأساة إخوانه في الكويت.
ومهما يكن من أمر، فإن المحن مهما اشتد ضغطها وحرجها لا ينبغي أن تضعف العزم على مقاومة الظلم والبطش والطغيان.
إن المقاومة الكويتية رمز حي على التصميم على تحرير الكويت من بغي النظام العراقي.
وخير عوامل المقاومة هي: الصبر والمصابرة والمجاهدة. ولستم وحدكم في الميدان.
__________
(1) سورة ص الآية 55
(2) صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن (4686) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2583) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3110) ، سنن ابن ماجه الفتن (4018) .
(3) سورة العنكبوت الآية 41(31/363)
معكم كل ذي ضمير حي.
ومعكم كل ذي خلق أصيل.
ومعكم كل ذي قياس عادل.
ويتوجه المشاركون في مهرجان الجهاد برسالة أخوية إلى شعب العراق وجيشه:
ليس بيننا وبين العراقيين عداوة وخصومة، فالشعب العراقي المسلم، جزء من الأمة العربية الإسلامية، له ما لها، وعليه ما عليها، إنما العداوة مع النظام العراقي وقيادته، هذه القيادة التي مردت على أن تجعل من جيش العراق وشعبه وقودا لحروب حمقاء فاشلة، والتي استمرأت توظيف إمكانات العراق في سبيل الطموح الشخصي، والهوى الذاتي العاصف لدى القيادة.
ولئن شعرنا بمأساة شعب الكويت، فإننا - في الوقت نفسه - نحس بمحنة العراقيين، فإن من طبيعة الطغيان أن يملأ بالأحزان أكبر عدد ممكن من قلوب البشر.
ماذا جنى الشعب العراقي من هذه المأساة التعسة النكدة؟
لقد حل المزيد من البوار بالعراق، ويبدو أن الطاغية مصر على ألا يترك الحكم إلا والعراق حطام مركوم.
إن العالم يتطلع إلى وقفة شجاعة من شعب العراق وجيشه، وقفة تنقذ العراق: بشرا وحضارة وأرضا ومقدرات من مصير بائس يجره إليه الطاغية المستبد.
وعلى علماء العراق مسئولية دينية وتاريخية في مجابهة ظلم القيادة العراقية وعدوانها، وفي تقدم الصفوف في هذه المجابهة الواجبة.
ولقد عرف علماء العراق بجهادهم المشرف في مقاومة الطغيان.
ويكفيهم حافزا على هذه المهمة ما فعله النظام العراقي بهم من كبت وسجن وتشريد وقتل.(31/364)
ويتوجه المشاركون في المهرجان بتحية خاصة إلى قيادة المملكة العربية السعودية وشعبها وجيشها.
إن المشاركين في المهرجان يعلنون وقوفهم التام مع قيادة المملكة العربية السعودية وهي تكافح هذه الفتنة العمياء الدامية التي أحدثها طاغية العراق ونظامه العدواني، ويستنفرون كل مسلم مخلص في العالم للوقوف معها. وينوهون بموقف خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز ويشكرونه على موقفه الصلب والحاسم من العدوان والمعتدين، ويشكرون الدول الشقيقة والصديقة التي تعاونت معه في درء هذه الكارثة الماحقة.
فالمملكة العربية السعودية بلد عزيز على كل مسلم، لما يقوم به من خدمة للحرمين الشريفين وللمسلمين، ولما يمثله من أهمية حضارية واستراتيجية للإسلام والمسلمين، في الماضي والحاضر والمستقبل.
ويتوجه المشاركون في المهرجان بالتحية إلى القوات المسلحة السعودية التي كانت وفية لدينها ومقدساتها وبلادها، فلبت نداء الواجب، ونهضت لدفع الصائل، ومجاهدة المعتدي، ورد الغزاة عن حمى الديار، والمشاركة في تحرير الكويت، والانتصار للمستضعفين يشكرون من شاركها في هذا الجهاد من القوات الإسلامية والمساعدة.
إن جهادها هذا هو جهاد في سبيل الله {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} (1) الآية.
وإن المسلمين يفوق معها بالتأييد والدعاء.
إن ذكريات بدر، وأحد - وغيرها من معارك الجهاد - ينبغي أن يستصحبها رجال القوات المسلحة السعودية وهم يأخذون مواقعهم على خطوط المواجهة المرة، فهي ذكريات فيها نفح أسلافهم، كما أنها ذكريات كانت
__________
(1) سورة النساء الآية 75(31/365)
أرضهم مسرح عملياتها، ولوحة تسجيلها.
وإن المهرجان ليسره أن ينوه بروح التضحية والفداء التي تبدت في شباب المملكة العربية السعودية وهو يقبل على التطوع والانخراط في ميادين التدريب استعدادا للجهاد، وتجاوبا مع نداء خادم الحرمين الشريفين الذي استنفر فيه الشباب للذود عن العقيدة والمقدسات والوطن.
ولقد تجلى في هذا المهرجان التلاحم الوثيق بين الشعب السعودي وقيادته، إذ كان المهرجان ذاته " مرآة " تعكس التفاعل العميق بين القيادة والشعب. ولا شك في أن هذا التلاحم والتفاعل هو ركيزة صمود الجبهة الداخلية ووقوفها صفا واحدا في مواجهة العدوان.
والمشاركون في المهرجان يدعون العلماء والدعاة والمثقفين والمفكرين، والإعلاميين والأدباء والشعراء لأن يسهموا بحظ أوفر في مجاهدة المعتدين عن طريق الموقف الأدبي الشجاع، والكلمة الحرة الأمينة، والرأي الواضح، والحجة الغالبة، والتعبئة المعنوية في الحياة العامة للأمة، وجمع الأمة أفرادا وجماعات على المفاهيم الصحيحة، والحقائق الناصعة، والمعاني القويمة للجهاد، فليس للكلمة وزن ما لم تكن موظفة في خدمة الحق، وليس للرأي قيمة ما لم يتبد في كلمة حاسمة تقول للظالم - علانية - أنت ظالم.
إن المشاركين في المهرجان يؤكدون أنه ليس للنظام العراقي أن يتحدث عن تحرير فلسطين بعد أن أخر القضية الفلسطينية - بغزوه للكويت وتهديده لأمن الخليج كله - عشرات السنين إلى الوراء، وليس له أن يتحدث عن هذه القضية بعد أن ساق إلى إسرائيل - باستفزازه الدعائي - مكاسب جمة: سياسية، وعسكرية، واقتصادية، واستراتيجية.
ليس لنظام علماني أن يتحدث عن تحرير القدس، فإنما يحرر القدس المؤمنون الصادقون، والقادة الذين يدينون دين الحق في كل شأن من شئونهم. فقد فتحها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم حررها صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.(31/366)
وهم القادة الذين رفعوا ألوية الجهاد بالحق، أما النظام العراقي فيرفع راية الجهاد كذبا وزورا.
إن المشاركين في مهرجان الجهاد إذ يشكرون جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على هذه المبادرة البناءة والنبيلة، وإذ يثنون على جهودها السديدة في الإعداد للمهرجان، وفي إدارته - حتى حقق هدفه - وإذ يشكرونها على دعوتها لهم لحضور هذه المناسبة الجليلة، وإذ يحمدون لكل الجهات التي تعاونت مع الجامعة في هذا المهرجان، فإنهم يودون أن يقترحوا ما يلي وأن يوصوا به:
1 - صياغة ما دار في مهرجان الجهاد في رسائل علمية وفكرية باعتبارها إسهاما في جهود التوعية والتعبئة، ووثائق تاريخية مهمة.
2 - تكوين وفد من المشاركين في المهرجان بهدف زيارة الدول الشقيقة والصديقة التي تعاونت مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى على دفع العدوان العراقي، زيارة هذه الدول وتقديم الشكر لقادتها على ما قاموا به من جهود حاسمة في هذه الأزمة.
3 - إقامة هذا المهرجان سنويا في المملكة: إحياء لروح الجهاد، وتعبئة نفسية وفكرية مستمرة للأمة، وإقامة مهرجانات مماثلة في العالم الإسلامي، بالتعاون مع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية باعتبارها صاحبة المبادرة الأولى في هذا المجال.
4 - تفويض معالي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالإشراف على تنفيذ المقترحات السابقة.
هذا، وإذ يختم المشاركون في مهرجان الجهاد أعمالهم ومناشطهم التي جرت في جو مفعم بمعاني الجهاد ودلالاته الحيوية العظيمة، ومشبع بروح الصمود، والثبات، فإنهم يعيدون التذكير بما للجهاد من أثر حاسم في حياة الأمة(31/367)
ومصائرها، ويؤكدون أهمية إعداد القوة بكل معانيها ومجالاتها تحقيقا لقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) .
ألا إن الجهاد ماض إلى يوم القيامة.
ألا إن الجهاد من شعب الإيمان، ومن خصائص المؤمنين.
ألا إن الجهاد حراسة للحق، والدين، والمقدسات والحرمات.
ألا إن لجهاد هو التجارة الرابحة كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3) {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (4) {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (5) .
والحمد لله من قبل ومن بعد، وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن جاهد في سبيله إلى يوم الدين.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2) سورة الصف الآية 10
(3) سورة الصف الآية 11
(4) سورة الصف الآية 12
(5) سورة الصف الآية 13(31/368)
من قرارات المجمع الفقهي
الإسلامي بمكة المكرمة التابع
لرابطة العالم الإسلامي
القرار الثالث
حول أوقات الصلوات والصيام
في البلاد ذات خطوط العرض
العالية الدرجات
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع في جلسته الثالثة صباح يوم الخميس الموافق 10 \ 4 \ 1402 هـ المصادف 4 \ 2 \ 1982 م على قرار ندوة بروكسل 1400 هـ \ 1980 م، وقرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم (61) في 12 \ 4 \ 1398 هـ؛ فيما يتعلق بمواقيت الصلاة والصوم في الأقطار التي يقصر فيها الليل جدا في فترة من السنة ويقصر النهار جدا في فترة أو التي يستمر ظهور الشمس فيها ستة أشهر وغيابها ستة أشهر.
وبعد مدارسة ما كتبه الفقهاء قديما وحديثا في الموضوع قرر ما يلي: تنقسم الجهات التي تقع على خطوط العرض ذات الدرجات العالية إلى ثلاث:(31/369)
الأولى: تلك التي يستمر فيها الليل أو النهار أربعا وعشرين ساعة فأكثر، بحسب اختلاف فصول السنة.
ففي هذه الحال تقدر مواقيت الصلاة والصيام وغيرهما في تلك الجهات على حسب أقرب الجهات إليها، مما يكون فيها ليل ونهار متمايزان في ظرف أربع وعشرين ساعة.
الثانية: البلاد التي لا يغيب فيها شفق الغروب حتى يطلع الفجر، بحيث لا يتميز شفق الشروق من شفق الغروب. ففي هذه الجهات يقدر وقت العشاء الآخرة والإمساك في الصوم وقت صلاة الفجر بحسب آخر فترة يتمايز فيها الشقان.
الثالث: تلك التي يظهر فيها الليل والنهار خلال أربع وعشرين ساعة، وتتمايز فيها الأوقات إلا أن الليل يطول فيها في فترة من السنة طولا مفرطا ويطول النهار في فترة أخرى طولا مفرطا.
ومن كان يقيم في بلاد يتمايز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس، إلا أن نهارها يطول جدا في الصيف ويقصر في الشتاء، وجب عليه أن يصلي الصلوات الخمس في أوقاتها المعروفة شرعا لعموم قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (1) . وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (2) .
ولما ثبت عن بريدة رضي الله عنه «عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله عن وقت الصلاة فقال له: صل معنا هذين يعني اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالا فأذن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر، والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره (3) »
__________
(1) سورة الإسراء الآية 78
(2) سورة النساء الآية 103
(3) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (613) ، سنن الترمذي الصلاة (152) ، سنن النسائي المواقيت (519) ، سنن ابن ماجه الصلاة (667) ، مسند أحمد بن حنبل (5/349) .(31/370)
فأبرد بالظهر فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها وصلى العصر والشمس مرتفعة آخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة فقال الرجل: أنا يا رسول الله. قال: وقت صلاتكم بين ما رأيتم رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس فأمسك عن الصلاة فإنها تطلع بين قرني شيطان (1) » أخرجه مسلم في صحيحه.
إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في تحديد أوقات الصلوات الخمس قولا وفعلا، ولم تفرق بين طول النهار وقصره، وطول الليل وقصره، ما دامت أوقات الصلوات متمايزة بالعلامات التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا بالنسبة لتحديد أوقات صلاتهم، وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان فعلى المكلفين أن يمسكوا كل يوم منه عن الطعام والشراب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم، ما دام النهار يتمايز في بلادهم من الليل، وكان مجموع زمانهما أربعا وعشرين ساعة. ويحل لهم الطعام والشراب والجماع ونحوها في ليلهم فقط وإن كان قصيرا فإن شريعة الإسلام عامة للناس في جميع البلاد وقد قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (2) .
ومن عجز عن إتمام صوم يومه لطوله، أو علم بالأمارات أو التجربة أو أخبار طبيب أمين حاذق، أو غلب على ظنه أن الصوم يفضي إلى مرضه مرضا شديدا
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (612) ، سنن النسائي المواقيت (522) ، سنن أبو داود الصلاة (396) ، مسند أحمد بن حنبل (2/210) .
(2) سورة البقرة الآية 187(31/371)
أو يفضي إلى زيادة مرضه أو بطء برئه أفطر، ويقضي الأيام التي أفطرها في أي شهر تمكن فيه من القضاء، قال تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) وقال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) . وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3) .
والله ولي التوفيق. وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[توقيع] ... [اعتذر لمرضه]
نائب الرئيس ... رئيس مجلس المجمع الفقهي
محمد علي الحركان ... عبد الله بن حميد
الأعضاء
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد محمود الصواف ... صالح بن عثيمين
[توقيع] ... [تخلف عن الحضور] ... [توقيع]
محمد بن عبد الله السبيل ... مبروك العوادي ... محمد الشاذلي النيفر
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
مصطفى أحمد الزرقاء ... عبد القدوس الهاشمي ... محمد رشيدي
[تخلف عن الحضور] ... [توقيع] ... [تخلف عن الحضور]
أبو الحسن علي الحسني الندوي ... أبو بكر محمود جومي ... حسنين محمد مخلوف
[توقيع] ... [تخلف عن الحضور] ... [توقيع]
محمد رشيد قباني ... محمود شيت خطاب ... محمد سالم عدود
[مقرر المجمع الفقهي الإسلامي]
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) سورة الحج الآية 78(31/372)
القرار السادس
حول العملة الورقية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطلع على البحث المقدم إليه في موضوع العملة الورقية، وأحكامها من الناحية الشرعية، وبعد المناقشة والمداولة بين أعضائه، قرر ما يلي:
أولا: إنه بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وبناء على أن علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة.
وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة، وإن كان معدنها هو الأصل.
وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنا، وقامت مقام الذهب والفضة في التعامل بها، وبها تقوم الأشياء في هذا العصر، لاختفاء التعامل بالذهب والفضة، وتطمئن النفوس بتمولها وادخارها ويحصل الوفاء والإبراء العام بها، رغم أن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في أمر خارج عنها، وهو حصول الثقة بها، كوسيط في التداول والتبادل، وذلك هو سر مناطها بالثمنية.
وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية وهي متحققة في العملة الورقية؛ لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر أن العملة الورقية نقد قائم بذاته، له حكم النقدين من الذهب والفضة، فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليها بنوعيه، فضلا ونسيا كما يجري ذلك(31/373)
في النقدين من الذهب والفضة تماما، باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياسا عليهما. وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها.
ثانيا: يعتبر الورق النقدي نقدا قائما بذاته كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، كما يعتبر الورق النقدي أجناسا مختلفة، تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وبذلك يجري فيها الربا بنوعيه فضلا ونسيا كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة وفي غيرهما من الأثمان.
وهذا كله يقتضي ما يلي:
(أ) لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما، نسيئة مطلقا، فلا يجوز مثلا بيع ريال سعودي بعملة أخرى متفاضلا نسيئة بدون تقابض.
(ب) لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية بعضه ببعض متفاضلا، سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد، فلا يجوز مثلا بيع عشرة ريالات سعودية ورقا، بأحد عشر ريالا سعودية ورقا، نسيئة أو يدا بيد.
(ج) يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا، إذا كان ذلك يدا بيد، فيجوز بيع الليرة السورية أو اللبنانية، بريال سعودي ورقا كان أو فضة، أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة ريالات سعودية أو أقل من ذلك أو أكثر إذا كان ذلك يدا بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة، بثلاثة ريالات سعودية ورق، أو أقل من ذلك أو أكثر، يدا بيد، لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.
ثالثا: وجوب زكاة الأوراق النقدية، إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين، من ذهب أو فضة، أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الأثمان والعروض المعدة للتجارة.(31/374)
رابعا: جواز جعل الأوراق النقدية رأس مال في بيع السلم، والشركات.
والله أعلم، وبالله التوفيق، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[توقيع] ... [اعتذر لمرضه]
نائب الرئيس ... رئيس مجلس المجمع الفقهي
محمد علي الحركان ... عبد الله بن حميد
الأعضاء
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد محمود الصواف ... صالح بن عثيمين
[توقيع] ... [تخلف عن الحضور] ... [توقيع]
محمد بن عبد الله السبيل ... مبروك العوادي ... محمد الشاذلي النيفر
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
مصطفى أحمد الزرقاء ... عبد القدوس الهاشمي ... محمد رشيدي
[تخلف عن الحضور] ... [توقيع] ... [تخلف عن الحضور]
أبو الحسن علي الحسني الندوي ... أبو بكر محمود جومي ... حسنين محمد مخلوف
[توقيع] ... [تخلف عن الحضور] ... [توقيع]
محمد رشيد قباني ... محمود شيت خطاب ... محمد سالم عدود
[مقرر المجمع الفقهي الإسلامي]
محمد عبد الرحيم الخالد(31/375)
من قرارات هيئة كبار العلماء
قرار رقم 10 بشأن الأوراق النقدية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فبناء على توصية رئيس إدارات البحوث العلمية " والإفتاء والدعوة والإرشاد، والأمين العام لهيئة كبار العلماء بدراسة موضوع الورق النقدي من قبل هيئة كبار العلماء استنادا في المادة السابعة من لائحة سير العمل في الهيئة التي تنص على أن ما يجري بحثه في مجلس الهيئة يتم بطلب من ولي الأمر، أو بتوصية من الهيئة أو من أمينها، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة، فقد جرى إدراج الموضوع في جدول أعمال الهيئة لدورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1 \ 4 \ 1393 هـ و 17 \ 4 \ 1393 هـ وفي تلك الدورة جرى دراسة الموضوع بعد الاطلاع على البحث المقدم عنه من اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء. وبعد استعراض الأقوال الفقهية التي قيلت في حقيقة الأوراق النقدية من اعتبارها أسنادا أو عروضا أو فلوسا أو بدلا عن ذهب أو فضة أو نقدا مستقلا بذاته، وما يترتب على تلك الأقوال من أحكام شرعية جرى تداول الرأي فيها، ومناقشة ما على كل قول منها من إيرادات، فنتج عن ذلك عديد من التساؤلات التي تتعلق بالإجراءات المتخذة من قبل الجهات المصدرة لها. وحيث إن الموضوع من المسائل التي تقضي المادة العاشرة من لائحة سير عمل الهيئة بالاستعانة بخبير أو أكثر في شئونها، حيث نصت على أنه لدى بحث الهيئة مسائل تتعلق بالشئون الاقتصادية والاجتماعية والأنظمة العامة، بما في ذلك القضايا البنكية والتجارية(31/376)
والعمالية، فإن عليها أن تشرك في البحث معها واحدا أو أكثر من المتخصصين في تلك العلوم. فقد جرى استدعاء سعادة محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي الدكتور أنور علي، وحضر معه الدكتور عمر شابريه أحد المختصين في العلوم الاقتصادية، ووجهت إلى سعادته الأسئلة التالية:
س 1: هل تعتبر مؤسسة النقد ورق النقد السعودي نقدا قائما بذاته أم تعتبره سندات تتعهد الدولة بدفع قيمتها لحاملها كما هو مدون على كل فئة من فئات أوراق النقد السعودي، وإذا لم يرد معنى هذه العبارة، فما معنى الالتزام بتسجيلها على كل ورقة، وهل يعني ذلك التعهد أن ورق النقد السعودي مغطى بريالات فضية أم لا؟
س 2: هل لكل عملة ورقية غطاء مادي محفوظ في خزائن مصدريها، وإذا كان كذلك فهل هو غطاء كامل أم غطاء للبعض فقط، وإذا كان غطاء للبعض فما هو الحد الأعلى للتغطية، وما هو الحد الأدنى لها؟
س 3: ما نوع غطاء العملات الورقية؟ وهل توجد عملة لأي دولة ما مغطاة بالفضة؟ وهل هناك جهات إصدار تخلت عن فكرة التغطية المادية مطلقا؟
س 4: المعروف أن الورقة النقدية لا قيمة لها في ذاتها، وإنما قيمتها في أمر خارج عنها فما هي مقومات هذه القيمة؟
س 5: نرغب شرح نظرية غطاء النقد بصفة عامة، وما مقومات اعتبار العملة الورقية على الصعيدين الدولي والمحلي؟
س 6: هل الغطاء لا يكون إلا بالذهب، وإذا كان بالذهب وغيره فهل غير الذهب فرع عن الذهب باعتبار أنه قيمة له، وهل يكفي للغطاء ملاءة ومتانة اقتصادها وقوتها لو لم يكن لنقدها رصيد؟
س 7: ما يسمى بالدينار، والجنيه هل هو مغطى بالذهب، ولذا سمي دينارا أو جنيها رمزا لما غطي به، ومثله الريال السعودي هل هو مغطى بفضة أم أن(31/377)
هذه التسميات يقصد منها المحافظة على التسميات القديمة للعمل المتداولة فيما مضى بغض النظر عما هي مستندة عليه من ذهب أو فضة؟
س 8: ما السبب في عدم الثقة في النقد المتداول اليوم مما أدى إلى ارتفاع الذهب ارتفاعا لم يسبق له نظير؟
وأجاب سعادته عنها بواسطة المترجم القائد الدكتور أحمد المالك إجابة جرى رصد خلاصتها في محضر الجلسة مع سعادته، وقد توصلت بها الأكثرية من الهيئة إلى الاقتناع بما ارتأته فيها من رأي.
ثم بعد إعادة النظر في الأقوال الفقهية التي قيلت فيها على ضوء الإيضاحات التي ذكرها سعادة المحافظ قرر المجلس بالأكثرية ما يلي:
بناء على أن النقد هو كل شيء يجري اعتباره في العادة أو الاصطلاح، بحيث يلقى قبولا عاما كوسيط للتبادل كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به بل الغرض أن يكون معيارا لما يتعاملون به، والدراهم والدنانير لا تقصد لنفسها بل هي وسيلة إلى التعامل بها، ولهذا كانت أثمانا - إلى أن قال - والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل بها المقصود كيفما كانت. اهـ ج 29 ص 251 من مجموع الفتاوى وذكر نحو ذلك الإمام مالك في المدونة من كتاب الصرف حيث قال: ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نسيئة. اهـ.
وحيث إن الورق النقدي يلقى قبولا عاما في التداول ويحمل خصائص الأثمان من كونه مقياسا للقيم ومستودعا للثروة وبه الإبراء العام. . وحيث ظهر من المناقشة مع سعادة المحافظ أن صفة السندية فيها غير مقصودة، والواقع يشهد بذلك ويؤكده، كما ظهر أن الغطاء لا يلزم أن يكون شاملا لجميع الأوراق النقدية، بل يجوز في عرف جهات الإصدار أن يكون جزء من عملتها(31/378)
بدون غطاء وأن الغطاء لا يلزم أن يكون ذهبا بل يجوز أن يكون من أمور عدة كالذهب والعملات الورقية القوية، وأن الفضة ليست غطاء كليا أو جزئيا لأي عملة في العالم. . كما اتضح أن مقومات الورقة النقدية قوة وضعفا مستمدة مما تكون عليه حكومتها من حال اقتصادية فتقوى بقوة دولتها وتضعف بضعفها، وأن الخامات المحلية كالبترول والقطن والصوف لم تعتبر حتى الآن لدى أي من جهات الإصدار غطاء للعملات الورقية. . وحيث إن القول باعتبار مطلق الثمنية علة في جريان الربا في النقدين هو الأظهر دليلا والأقرب إلى مقاصد الشريعة، وهو إحدى الروايات عن الأئمة مالك وأبي حنيفة وأحمد، قال أبو بكر روى ذلك عن أحمد جماعة كما هو اختيار بعض المحققين من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما، وحيث إن الثمنية متحققة بوضوح في الأوراق النقدية؛ لذلك كله فإن هيئة كبار العلماء تقرر بأكثريتها أن الورق النقدي يعتبر نقدا قائما بذاته، كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان، وأنه أجناس تتعدد بتعدد جهات الإصدار بمعنى أن الورق النقدي السعودي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته، وأنه يترتب على ذلك الأحكام الشرعية الآتية:
أولا: جريان الربا بنوعيه فيها كما يجري الربا بنوعيه في النقدين الذهب والفضة، وفي غيرهما من الأثمان كالفلوس وهذا يقتضي ما يلي:
أ - لا يجوز بيع بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة أو غيرهما نسيئة مطلقا، فلا يجوز مثلا بيع الدولار الأمريكي بخمسة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر نسيئة.
ب - لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلا سواء كان ذلك نسيئة أو يدا بيد فلا يجوز مثلا بيع عشرة أريلة سعودية ورق بأحد عشر ريالا سعوديا ورقا.
جـ - يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه مطلقا إذا كان ذلك يدا بيد فيجوز(31/379)
بيع الليرة السورية أو اللبنانية بريال سعودي ورقا كان أو فضة أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر، إذا كان ذلك يدا بيد، ومثل ذلك في الجواز بيع الريال السعودي الفضة بثلاثة أريلة سعودية ورق أو أقل أكثر يدا بيد؛ لأن ذلك يعتبر بيع جنس بغير جنسه، ولا أثر لمجرد الاشتراك في الاسم مع الاختلاف في الحقيقة.
ثانيا: وجوب زكاتها إذا بلغت قيمتها أدنى النصابين من ذهب أو فضة أو كانت تكمل النصاب مع غيرها من الإثمان والعروض المعدة للتجارة إذا كانت مملوكة لأهل وجوبها.
ثالثا: جواز جعلها رأس مال في السلم والشركات.
والله أعلم، وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء(31/380)
وجهة نظر
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
فلما كانت الأوراق النقدية لا قيمة لها في نفسها، ولم تكن قيمتها مستمدة من مجرد إصدار الدولة لها وحمايتها إياها، وإنما قيمتها فيما أكسبها ثقة الدول بها، وجعلها مع سن الدولة لها قوة شرائية وأثمانا للسلع ومقياسا للقيم، ومستودعا عاما للادخار، ولما كان الذي أكسبها ذلك وجعلها صالحة للحلول محل ما سبقها من العملات المعدنية هو ما استندت إليه من الغطاء ذهبا أو فضة أو ما يقدر بهما من ممتلكات الدولة أو إنتاجها أو احتياطها، أو أوراق مالية أو أوراق تجارية.
لما كان الأمر كذلك كانت الأوراق النقدية بدلا عما حلت محله من عملات الذهب أو الفضة التي سبقتها في التعامل بها، وكانت تابعة لهما، فما كان منها متفرعا عن ذهب فله حكم الذهب، وما كان منها متفرعا عن فضة فله حكم الفضة، وعلى هذا تجب فيها الزكاة كأصلها، ويقدر فيها النصاب بما قدر به في أصلها، ويجري فيها ربا الفضل والنسيئة مع اعتبار أن ما كان منها متفرعا عن فضة حسب الأصل جنس، وما كان متفرعا عن ذهب في الأصل جنس، ولا يجوز بيع الورقة النقدية بما تفرعت عنه من الذهب أو الفضة. . . مع التفاضل
ويعتبر قبض الأوراق النقدية في حكم قبض ما حلت محله من الذهب أو الفضة، هذا وليس بلازم أن يكون في خزينة الدولة ذهب أو فضة بالفعل ما دامت خاماتها وسائر إمكانياتها التي تقدر بوحدتها السابقة من الذهب أو الفضة قائمة محققة، تقوم مقامها في استمرار الثقة بالأوراق النقدية في دولة الإصدار وغيرها من الدول، وليس بلازم أيضا أن تسلم مؤسسة النقد ذهبا أو فضة لحامل الورقة النقدية مقابل ما فيها ما دامت الأوراق النقدية تؤدي وظيفتها وتقوم بما أنشئت من أجله، فإن لولي الأمر أن يتصرف في غطاء الأوراق النقدية أيا كان الغطاء فيما يعود على أمته بالمصلحة من وجوه تنمية(31/381)
الثروة والترفيه عن الرعية حتى لا تبقى معطلة في خزينة الدولة أو معرضه للتبديد والتهريب في أيدي الأفراد.
وبهذا يعرف أن عدم وجود الغطاء في خزينة الدولة بالفعل وعدم رد المقابل لحاملها لا يعتبر إلغاء للغطاء، ولا إبطالا له، ما دام الغطاء الذي هو روح العملة وسر الثقة بها موجودا قائما ممثلا فيما يثبت ملاءة الدولة وقوة إمكانياتها، ويكسب الثقة بها في الداخل والخارج من كل ما يقدر بوحدتها التي كانت الدولة تتعامل بها قبل إصدار الأوراق النقدية.
وإن وجود وحدة متفق عليها كالذهب مثلا تقاس بها موجودات وإمكانيات الدول ليعرف بها مدى ملاءة كل دولة بالنسبة للأخرى لا ينافي وجود غطاء لأوراق الدولة النقدية وإن تنوع، كما أنه لا ينافي وجود وحدة خاصة بكل دولة تتصل بعملتها المعدنية السابقة.
وقد سئل سعادة محافظ مؤسسة النقد أسئلة منها ما هو في الموضوع ومن اختصاصه، كالأسئلة المتعلقة بالغطاء وبالسر في ارتفاع سعر العملة وانخفاضها، فسلم وجود الغطاء وإن تنوع، وأن من الدول مالها احتياطي ومنها ما ليس لها احتياطي أو لها احتياطي ضعيف، ومنها ما ليس من اختصاصه بل من اختصاص الهيئة كالسؤال: هل الأوراق النقدية عملة قائمة بنفسها أو بدل عن غيرها، فإن الجواب عن هذا السؤال من اختصاص الهيئة بعد سؤالها عن مقدمات اقتصادية يبنى على الجواب عنها حكم الهيئة بأن الأوراق النقدية عملة قائمة بنفسها أو بدل عن غيرها حالة محلها، وهناك أسئلة أخرى لم توجه إلى سعادة محافظ المؤسسة إما لضيق الوقت، وقد كان من الممكن أن يستدعى في جلسة أخرى، وإما لاكتفاء الأكثرية بالإجابة عن بعض الأسئلة، وبالرجوع إلى ما كتب الأعضاء من الأسئلة وجعل عند فضيلة الأمين، والمقارنة بينها وبين الأجوبة يتبين ما ذكرت من عدم توجيه كل الأسئلة لسعادة المحافظ. . والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم في 16 \ 4 \ 1393 هـ
عضو هيئة كبار العلماء
عبد الرزاق عفيفي(31/382)
بيان خطأ من جعل جدة
ميقاتا لحجاج الجو والبحر
لسماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه أما بعد:
فقد اطلعت على ما كتب في التقويم القطري بإملاء فضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري صفحة 95 - 96 حول المواقيت للوافدين إلى مكة بنية الحج أو العمرة، فألفيته قد أصاب في مواضع، وأخطأ في مواضع خطأ كبيرا، فرأيت أن من النصح لله ولعباده التنبيه على المواضع التي أخطأ فيها راجيا بعد اطلاعه على ذلك توبته عما أخطأ فيه ورجوعه إلى الحق؛ لأن الرجوع إلى الحق شرف وفضيلة، وهو خير من التمادي في الباطل، بل هو واجب لا يجوز تركه؛ لأن الحق واجب الاتباع فأقول:
أولا: ذكر - وفقه الله - في الفقرة الثالثة من كلمته ما نصه (القاصدون عن طريق الجو لأداء الحج والعمرة إذا كانت النية منهم الإقامة بجدة ولو يوما واحدا ينطبق عليهم حكم المقيمين بجدة والنازلين بها، فلهم أن يحرموا من جدة) انتهى. وهذا كلام باطل وخطأ ظاهر مخالف للأحاديث الصحيحة الواردة في المواقيت، ومخالف لكلام أهل العلم في هذا الباب، ومخالف لما ذكره هو نفسه في الفقرة الأولى من كلمته المشار إليها آنفا لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت لمريدي الحج(31/383)
والعمرة من سائر الأمصار، ولم يجعل جدة ميقاتا لمن توجه إلى مكة من سائر الأمصار والأقاليم، وهذا يعم الوافدين إليها عن طريق البر أو البحر أو الجو.
والقول بأن الوافد من طريق الجو لم يمر عليها قول باطل، لا أساس له من الصحة؛ لأن الوافد من طريق الجو لا بد أن يمر قطعا بالمواقيت التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم أو على ما يسامتها، فيلزمه الإحرام منها، وإذا اشتبه عليه ذلك لزمه أن يحرم في الموضع الذي يتيقن أنه محاذيها أو قبلها حتى لا يجاوزهما بغير إحرام، ومن المعلوم أن الإحرام قبل المواقيت صحيح، وإنما الخلاف في كراهته وعدمها، ومن أحرم قبلها احتياطا خوفا من مجاوزتها بغير إحرام فلا كراهة في حقه، أما تجاوزها بغير إحرام فهو محرم بالإجماع في حق كل مكلف أراد حجا أو عمرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتفق عليه لما وقت المواقيت: «هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة (1) » . ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتفق عليه: «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن (2) » وهذا اللفظ عند أهل العلم خبر بمعنى الأمر، فلا تجوز مخالفته، وقد ورد في بعض الروايات بلفظ الأمر وذلك بلفظ (ليهل) والقول بأن من أراد الإقامة بجدة يوما أو ساعات من الوافدين إلى مكة من طريق جدة له حكم سكان جدة في جواز الإحرام منها، قول لا أصل له ولا أعلم به قائلا من أهل العلم، فالواجب على من يوقع عن الله ويفتي عباده في الأحكام الشرعية أن يتثبت فيما يقول، وأن يتقي الله في ذلك لأن القول على الله بغير علم خطره عظيم وعواقبه وخيمة. وقد جعل الله سبحانه القول عليه بلا علم في أعلى مراتب التحريم لقوله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (3) وأخبر سبحانه في آية أخرى أن ذلك مما يأمر به الشيطان فقال سبحانه في سورة البقرة: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (4) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (5) .
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الحج (1526) ، صحيح مسلم الحج (1181) ، سنن النسائي مناسك الحج (2654) ، مسند أحمد بن حنبل (1/332) ، سنن الدارمي المناسك (1792) .
(2) صحيح البخاري العلم (133) ، سنن الترمذي الحج (831) ، سنن النسائي مناسك الحج (2652) ، سنن أبو داود المناسك (1737) ، سنن ابن ماجه المناسك (2914) ، مسند أحمد بن حنبل (2/47) ، موطأ مالك الحج (732) ، سنن الدارمي المناسك (1790) .
(3) سورة الأعراف الآية 33
(4) سورة البقرة الآية 168
(5) سورة البقرة الآية 169(31/384)
وعلى مقتضى هذا القول الباطل لو أراد من توجه من المدينة إلى مكة بنية الحج والعمرة أن يقيم بجدة ساعات جاز له أن يؤخر إحرامه إليها. وهكذا من توجه من نجد أو الطائف إلى مكة بنية الحج أو العمرة وأراد الإقامة في لزيمة أو الشرائع يوما أو ساعات جاز له أن يتجاوز قرنا غير محرم، ويكون له حكم سكان لزيمة أو الشرائع. وهذا قول لا يخفى بطلانه على من تأمل النصوص وكلام أهل العلم والله المستعان.
ثانيا: ذكر الشيخ عبد الله الأنصاري في الفقرة الخامسة ما نصه: (يجوز لمن يقصد أداء العمرة أن يتجه إلى التنعيم فيحرم منها حيث أنها الميقات الشرعي) انتهى. وهذه العبارة فيها احتمال وإطلاق، فإن كان أراد بها سكان مكة والمقيمين بها فصحيح، ولكن يؤخذ عليه قوله أن التنعيم هو الميقات الشرعي، فليس الأمر كذلك بل الحل كله ميقات لأهل مكة والمقيمين بها، فلوا أحرموا من الجعرانة أو غيرهما من الحل فلا حرج، وكانوا بذلك محرمين من ميقات شرعي، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة إلى الحل لما أرادت العمرة، وكونها أحرمت من التنعيم لا يوجب ذلك أن يكون هو الميقات الشرعي، وإنما يدل على الاستحباب كما قاله بعض أهل العلم؛ لأن في بعض الروايات من حديثها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن يعمرها من التنعيم، وذلك والله أعلم لكونه أقرب الحل إلى مكة جمعا بين الروايات، أما إن أراد بهذه العبارة أن كل من أراد العمرة له أن يحرم من التنعيم، ولو كان في جهة أخرى من الحل فليس بصحيح؛ لأن كل من كان في جهة من الجهات خارج الحرم ودون المواقيت فإن ميقاته من أهله للحج والعمرة جميعا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتفق عليه، ومن كان دون ذلك يعنى دون المواقيت فمهله(31/385)
من أهله، وفي لفظ «فمهله من حيث أنشأ» وقد أحرم النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة عام الفتح لما فرغ من تقسيم غنائم حنين فلم يذهب إلى التنعيم، والله ولي التوفيق.
ثالثا: ذكر الشيخ عبد الله في الفقرة السادسة والسابعة ما نصه: (لا حجة لمن يقول بأن القاصد إلى جدة بالطائرة يمر بالميقات؛ لأنه لا يمر بأي ميقات من المواقيت، بل هو هائم أو طائر في الجو ولم ينزل إلا بجدة) ونص الحديث: «ولمن مر بهن (1) » ولا يعتبر من كان طائرا بالهواء بأنه مار بأي ميقات. انتهى كلامه. وهذا القول غير صحيح وقد مضى الرد عليه آنفا، وقد سبق الشيخ عبد الله الأنصاري إلى هذا الخطأ الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود في مقال وزعه زعم فيه أن الوافد من طريق الجو أو البحر إلى مكة لا يمر على المواقيت، وزعم أن ميقاته جدة، وقد أخطأ ذلك كما أخطأ الشيخ عبد الله الأنصاري، فالله يغفر لهما جميعا. وقد كتب مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ردا على الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود في زعمه أن جدة ميقات للوافدين إلى مكة من الحجاج والعمار من طريق الجو أو البحر، ونشر الرد في وقته وقد أصاب المجلس في ذلك، وأدى واجب النصح لله ولعباده، ولا يزال الناس بخير ما بقي فيهم من ينكر الخطأ والمنكر، ويبين الصواب والحق. وما أحسن ما قال الإمام مالك رحمه الله (ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر) يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله أن يغفر لنا جميعا، وأن يمنحنا وسائر إخواننا إصابة الحق في القول والعمل والرجوع إلى الصواب إذا وضح دليله إنه خير مسئول.
رابعا: ذكر الشيخ عبد الله الأنصاري هداه الله في الفقرة الثامنة والتاسعة ما نصه: (على من يريد مواصلة سيره إلى مكة لأداء نسكه أن يجهز إحرامه من آخر مطار يقوم منه، وينوي قبل جدة بمقدار عشرين دقيقة إذا كان قصده مواصلة السير بدون توقف أو إقامة في جدة، أما الذي يقيم بجدة ولو لساعات يجوز له أن يحرم من جدة إن شاء الله وينطبق عليه حكم ساكن جدة) .
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/238) .(31/386)
انتهى كلامه. وقد سبق أن هذا التفصيل والتحديد لا أساس له من الصحة، وإن الواجب على من أراد الحج أو العمرة من الوافدين إلى مكة من طريق الجو أو البحر الإحرام بالنسك الذي أرادوا من حج أو عمرة إذا حاذوا الميقات الذي في طريقهم أو سامتوه، ولا يجوز لهم تأخير الإحرام ولو نووا الإقامة بها يوما أو ساعات، فإن شكوا في المحاذاة لزمهم الإحرام من المكان الذي يتيقنون فيه احتياطا للواجب، وإنما الكراهة عند بعض أهل العلم في حق من أحرم قبل الميقات بدون عذر شرعي. وأسال الله أن يهدينا جميعا صراطه المستقيم، وأن يوفقنا وجميع علماء المسلمين لإصابه الحق في القول والعمل، وأن يعيذنا جميعا من القول عليه بلا علم إنه سميع قريب. ولواجب النصح للمسلمين جرى تحريره وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(31/387)
حديث شريف
عن معاذ رضي الله عنه قال كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، فقال: «يا معاذ هل تدري حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر به الناس. قال: لا تبشرهم فيتكلوا (1) » .
رواه البخاري
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (2856) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/238) .(31/388)
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1)
سورة المائدة الآية 51
__________
(1) سورة المائدة الآية 51(32/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(32/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(32/3)
المحتويات
الافتتاحية:
العلم وأخلاق أهله سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة:
تدوين الراجح من أقوال الفقهاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 19
فتاوى اللجنة:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 67
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 109
البحوث:
زكاة أسهم الشركات المساهمة الشيخ / عبد الله بن سليمان منيع 123
مفهوم الجهاد في الإسلام الدكتور / محمد بن سعد الشويعر 149(32/4)
تلبيس مردود الدكتور / صالح بن عبد الله بن حميد 175
المخدرات والعقاقير النفسية الدكتور / صالح بن غانم السدلان 221
عمرو بن شعيب الدكتور / عبد العزيز بن أحمد الجاسم 299
نصيحة تتعلق بفضل صيام رمضان 315
من قرارات المجامع الفقهية 321
حكم من يسخر من القرآن لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 337
بيان هيئة كبار العلماء بشأن ما كتب لولي الأمر عن بعض الأمور وما رأته الهيئة من وجوب النصيحة سرا 341(32/5)
صفحة فارغة(32/6)
الافتتاحية
العلم وأخلاق أهله
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله إلى يوم الدين. . أما بعد:
فإن العلم معلوم لدى الجميع فضله، وأن أشرف شيء يطلبه الطالبون، ويسعى في تحصيله الراغبون، هو العلم الشرعي. فإن العلم يطلق على أشياء كثيرة، ولكن عند علماء الإسلام: المراد بالعلم هو العلم الشرعي، وهو المراد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عند الإطلاق، وهو العلم بالله وبأسمائه وصفاته، والعلم بحقه على عباده، وبما شرعه لهم سبحانه وتعالى.
والعلم بالطريق والصراط الموصل إليه وتفاصيله، والعلم بالغاية والنهاية التي ينتهي إليها العباد في الدار الأخرى.
هذا العلم الشرعي هو أفضل العلوم، وهو الجدير بالطلب والحرص على تحصيله؛ لأنه به يعرف الله سبحانه وتعالى، وبه يعبد. وبهذا العلم يعرف ما أحل الله وما حرم، وما يرضيه وما يسخطه. وبهذا العلم يعرف المصير إليه والنهاية من هذه الحياة، وأن قسما من هؤلاء المكلفين ينتهون إلى الجنة والسعادة، وأن الآخرين - وهم الأكثرون - ينتهون إلى دار الهوان والشقاء.
وقد نبه أهل العلم على هذا وبينوا أن العلم ينحصر في هذا المعنى، وممن نبه عليه؛ القاضي ابن أبي العز شارح الطحاوية في أول شرحه، ونبه عليه غيره كابن القيم وشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة آخرين.(32/7)
وهو واضح ويتفاوت في الفضل بحسب متعلقاته، فأفضله وأعظمه وأشرفه ما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته، وهو علم العقيدة، فإن الله جل وعلا له المثل الأعلى سبحانه وتعالى. وهو الوصف الأعلى من جميع الوجوه في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.
ثم يلي ذلك ما يتعلق بحقه على عباده، وما شرعه من الأحكام، وما ينتهي إليه العاملون، ثم ما يتبع ذلك مما يعين عليه ويوصل إليه من علم قواعد العربية والمصطلحات الإسلامية في أصول الفقه، ومصطلح الحديث، وفي غير ذلك مما يتعلق بذلك العلم ويعين عليه وعلى فهمه، والكمال فيه.
ويلتحق بذلك علم السيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي، وتراجم رجال الحديث وأئمة الإسلام. ويلتحق بذلك كل ما له صلة بهذا العلم.
وقد شرف الله أهل هذا العلم. ونوه بهم وعظم شأنهم سبحانه، واستشهدهم على توحيده والإخلاص له حيث قال عز وجل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) ، فاستشهد أهل العلم على وحدانيته مع الملائكة، فالملائكة عليهم السلام، وأولو العلم الشرعي هم الشهداء على توحيد الله والإخلاص له، وأنه رب العالمين، وأنه الإله الحق، وأن العبادة لغيره باطلة، وكفى بها شرفا لأهل العلم، حيث استشهدهم على وحدانيته واستحقاقه في العبادة سبحانه وتعالى، وبين جل وعلا أنهم لا يستوون مع غيرهم بقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (2) ، ويقول عز وجل: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 18
(2) سورة الزمر الآية 9
(3) سورة الرعد الآية 19(32/8)
فلا يستوي هؤلاء وهؤلاء، لا يستوي من يعلم أن ما أنزل الله هو الحق وهو الهدى، وهو طريق السعادة، مع الذين قد عموا عن هذا الطريق، وعن هذا العلم، فرق عظيم بين هؤلاء وهؤلاء، فرق بين من عرف الحق واستضاء بنوره وسار على هداه إلى أن لقي ربه وفاز بالكرامة والسعادة، وبين من عمي عن هذا الطريق واتبع هواه وسار في طريق الشيطان والهوى.
لا يستوي هؤلاء وهؤلاء. وقد بين الله سبحانه أنه يرفع درجات أهل العلم، وما ذلك إلا لعظيم آثارهم في الناس ونفعهم لهم. ولهذا قال أهل العلم: ما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح آثار الناس عليهم.
فآثارهم بتوجيه الناس إلى الخير، وإرشادهم إلى الحق، وتوصيلهم للهدى. وهي آثار عظيمة شكرها الله لهم، وشكرها المؤمنون، وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام: فهم الهداة والدعاة، وهم أعلم الناس بالله وبشريعته، وأفضل الناس بعد الرسل وأتبعهم لهم، وأعلمهم بما جاءوا به، وأكملهم دعوة إليه وصبرا عليه، وإرشادا إليه. قال جل وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (1) ، وقال سبحانه وتعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} (2) ، وبين عز وجل أن أهل العلم هم الذين يخشونه على الحقيقة والكمال، وإن كانت الخشية موجودة من المؤمنين عموما، ومن بعض الآخرين، ولكن خشية الله على الكمال والحقيقة للعلماء، وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3) يعني الخشية الكاملة.
والعلماء هم العارفون بالله وبأسمائه وبصفاته، وبشريعته التي بعث بها رسله، ولهذا قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام لما قال له بعض الناس مستثقلا العلم
__________
(1) سورة المجادلة الآية 11
(2) سورة الأنعام الآية 83
(3) سورة فاطر الآية 28(32/9)
الذي أرشده إليه: «لسنا مثلك يا رسول الله! قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له (1) » .
فالعلماء بالله وبدينه وبأسمائه وصفاته هم أخشى الناس لله، وأقوى الناس في الحق على حسب علمهم به، وعلى حسب درجاتهم في ذلك، وأعلاهم في هذا وأكملهم فيه هم الرسل عليهم الصلاة والسلام، فهم أخشى الناس لله، وأتقاهم له، وقد جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان فضل العلم، وتكاثرت في ذلك.
فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة (2) » ، خرجه مسلم في صحيحه رحمه الله. فهذا يدلنا على أن طلاب العلم على خير عظيم، وأنهم على طريق نجاة وسعادة لمن أصلح نيته في طلب العلم وابتغى به وجه الله عز وجل.
وقصد العلم لنفس العلم، وللعمل لا لأجل الرياء والسمعة، أو لأجل مقاصد أخرى، من المقاصد العاجلة، وإنما يتعلمه لمعرفة دينه، والبصيرة بما أوجب الله عليه، وليسعى في إخراج الناس من الظلمات إلى النور فيعلم ويعمل ويعلم غيره من المقاصد الحسنة التي أمر المسلم بها، فكل طريق يسلكه في طلب العلم فهو طريق إلى الجنة، ويعم ذلك جميع الطرق الحسية والمعنوية. فسفره من بلاد إلى بلاد أخرى، وانتقاله من حلقة إلى حلقة ومن مسجد إلى مسجد، بقصد طلب العلم، فهذا كله من الطرق لتحصيل العلم. وهكذا المذاكرة في كتب العلم والمطالعة والكتابة، كلها من الطرق أيضا.
فجدير بالطالب أن يعنى بجميع الطرق الموصلة إلى العلم، وأن يحرص عليها قاصدا وجه ربه عز وجل، يريد الله والدار الآخرة، يريد أن يتفقه في دينه وأن يتبصر به، يريد أن يعرف ما أوجب الله عليه، وما حرم عليه، يريد أن يعرف ربه على بصيرة وبينة، ثم يعمل بذلك، يريد أن ينقذ الناس ويكون من دعاة الهدى وأنصار الحق، ومرشدا إلى الله على علم وهدى، فهو حيثما
__________
(1) صحيح مسلم الصيام (1108) .
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(32/10)
تصرف على خير عظيم بهذه النية الصالحة، حتى نومه من طرق الجنة، إذا نام ليتقوى على طلب العلم، وأداء الدرس كما ينبغي ليتقوى على حفظ كتاب في العلم، ليتقوى على السفر في طلب العلم، فنومه عبادة، وتصرفاته الأخرى بهذه النية عبادة، بخلاف من ساءت نيته، فهو على خطر عظيم، جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة (1) » رواه أبو داود رحمه الله بإسناد جيد.
وهذا وعيد عظيم لمن ساءت نيته.
وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو ليجاري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه فالنار النار (2) » .
وتعلم العلم يكون بمعرفته والعمل به لله؛ لأن الله أمر بذلك، وجعله وسيلة لمعرفة الحق. وجاء في الحديث الصحيح: «أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة: منهم الذي طلب العلم وقرأ القرآن لغير الله، ليقال: هو عالم وليقال له: قارئ (3) » ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فعليك يا عبد الله، أيها الطالب للعلم: عليك بإخلاص العبادة والنية لله وحده، وعليك بالجد والنشاط في سلوك طرق العلم والصبر عليها، ثم العمل بمقتضى العلم، فإن المقصود هو العمل، وليس المقصود هو أن تكون عالما أو تعطى شهادة راقية في العلم، فإن المقصود من وراء ذلك كله هو أن تعمل بعلمك، وأن توجه الناس إلى الخير، وأن تكون من خلفاء الرسل عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الحق. وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (4) » متفق على صحته.
فهذا يدل على فضل العلم وأنه من علامات الخير والسعادة، ومن علامات التوفيق، وأن الله أراد بالعبد خيرا أن يفقهه في دينه، وأن يتبصر في ذلك، حتى يعرف الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وحتى يعرف ربه بأسمائه وصفاته، وعظيم حقه، وحتى يعرف النهاية لأولياء الله ولأعدائه.
__________
(1) سنن أبو داود العلم (3664) ، سنن ابن ماجه المقدمة (252) ، مسند أحمد بن حنبل (2/338) .
(2) سنن الترمذي العلم (2654) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1905) ، سنن الترمذي الزهد (2382) ، سنن النسائي الجهاد (3137) ، مسند أحمد بن حنبل (2/322) .
(4) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(32/11)
فالنهاية لأولياء الله الجنة والسعادة بجوار الرب الكريم، والنظر إلى وجهه سبحانه وتعالى في دار الكرامة.
والنهاية لأعداء الله دار النكال والعذاب والهوان، والحجاب عن الله عز وجل.
وبهذا نعلم عظم العلم وشرفه، وأنه أفضل شيء وأشرفه لمن أصلح الله نيته؛ لأنه يتوصل به إلى معرفة أفضل واجب وأعظم واجب، وهو توحيد الله والإخلاص له، ويتوصل به أيضا إلى معرفة أحكام الله، وما أوجب على عباده، فهو واجب عظيم يوصل إلى أداء واجبات عظيمة؛ لإسعاده للعباد، ولا نجاة لهم إلا بالله ثم بالعلم بها، والتمسك بها والاستقامة عليها.
والعلماء الذين أظهروا العلم هم خيرة الناس، وأفضلهم على وجه الأرض، وعلى رأسهم أئمتهم الرسل عليهم الصلاة والسلام والأنبياء، فهم القدوة وهم الأساس في الدعوة والعلم والفضل، ويليهم أهل العلم على طبقات: فكل من كان أعلم بالله وبأسمائه وصفاته وأكمل في العمل والدعوة، كان أقرب الناس من الرسل، ومن درجاتهم ومنازلهم في الجنة. فأهل العلم هم أئمة هذه الأرض ونورها وسرجها، وهم أولى بها من غيرهم، يرشدون الناس إلى طريق السعادة، ويهدونهم إلى أسباب النجاة، ويقودونهم إلى ما فيه رضا الله جل وعلا، والوصول إلى كرامته والبعد عن أسباب غضبه وعذابه.
فالعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم أئمة الناس بعد الأنبياء يهدون إلى الله، ويرشدون إليه، ويعلمون الناس دينهم، فأخلاقهم عظيمة، وصفاتهم حميدة، علماء الحق، علماء الهدى، خلفاء الرسل، الذين يخشون الله ويراقبونه ويعظمون أمره - وهو من تعظيمه سبحانه. هؤلاء أخلاقهم أرفع الأخلاق وأسماها؛ لأنهم سلكوا مسلك الرسل، وساروا على نهجهم وطريقهم في الدعوة إلى الله على بصيرة، والتحذير من أسباب غضبه والمسارعة إلى ما عرفوا من الخير قولا وعملا، والابتعاد عما عرفوا من الشر قولا وعملا، فهم القدوة، والأسوة بعد(32/12)
الأنبياء، في أخلاقهم العظيمة، وصفاتهم الحميدة، وأعمالهم الجليلة، وهم يعملون ويعلمون، ويوجهون طلابهم إلى أسمى الأخلاق وخير السبل.
وسبق أن العلم قال الله قال رسوله، هذا هو العلم الشرعي، هو العلم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يعين على ذلك.
فالواجب على أهل العلم أن يتمسكوا بهذا الأساس العظيم، وأن يدعوا الناس إليه، وأن يوجهوا طلابهم إليه، وأن يكون الهدف دائما العلم بما قال الله وقال رسوله، والعمل بذلك، وتوجيه الناس وإرشادهم إلى ذلك. ولا يجوز التفرق والاختلاف ولا الدعوة إلى حزب فلان وحزب فلان، ورأي فلان، وقول علان، وإنما الواجب أن تكون الدعوة واحدة إلى الله ورسوله، إلى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، لا إلى مذهب فلان، أو دعوة علان، ولا إلى الحزب الفلاني، والرأي الفلاني.
يجب على المسلمين أن تكون طريقتهم واحدة وهدفهم واحدا، وهو اتباع كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
وأما ما جرى من الاختلاف بين أهل العلم في المذاهب الأربعة وغيرها، فالواجب أن يؤخذ منه ما هو أقرب إلى الصواب، وهو القول الذي هو أقرب إلى ما قاله الله ورسوله نصا أو بمقتضى قواعد الشريعة. فإن الأئمة المجتهدين إنما هدفهم ذلك، وقبلهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. وهم الأئمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم أعلم الناس بالله، وأفضلهم وأكملهم علما وخلقا. فقد كانوا يختلفون في بعض المسائل، ولكن دعوتهم واحدة، وطريقهم واحد. يدعون إلى كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهكذا من بعدهم من التابعين وأتباع التابعين؛ كالإمام مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد، وغيرهم من أئمة الهدى؛ كالأوزاعي والثوري وابن عيينة وإسحاق بن راهويه، وأشباههم من أهل العلم والإيمان، دعوتهم واحدة، وهي الدعوة إلى كتاب الله، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا ينهون أتباعهم عن تقليدهم، ويقولون: خذوا من حيث أخذنا. يعنون من الكتاب والسنة.(32/13)
ومن جهل الحق وجب عليه أن يسأل أهل العلم المعروفين بالعلم والفضل، وحسن العقيدة والسيرة، ويتبصر في ذلك، مع تقدير العلماء، ومعرفة فضلهم، والدعاء لهم بمزيد من التوفيق وعظيم الأجر؛ لأنهم سبقوا إلى الخير العظيم، وعلموا وأرشدوا، وأوضحوا الطريق، فرحمة الله عليهم، فلهم فضل السبق، وفضل علمهم ودعوتهم إلى الله؛ من الصحابة ومن بعدهم من أهل العلم والإيمان. فيعرف لهم قدرهم وفضلهم، ويترحم عليهم ويتأسى بهم في النشاط في العلم والدعوة إلى الله، وتقديم ما قاله الله ورسوله على غيره، والصبر على ذلك، والمسارعة إلى العمل الصالح، ويتأسى بهم في هذه الفضائل العظيمة، ويترحم عليهم، ولكن لا يجوز أبدا أن يتعصب لواحد منهم مطلقا، وأن يقال: قوله هو الصواب مطلقا. بل يقال: كل واحد قد يخطئ ويصيب، والصواب فيما وافق ما قاله الله ورسوله، وما دل عليه شرع الله من طريق الكتاب والسنة. وإجماع أهل العلم، فإذا اختلفوا وجب الرد إلى الله ورسوله، كما قال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (1) ، وقال عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (2) ، هكذا قال أهل العلم قديما وحديثا.
ولا يجوز أبدا التعصب لزيد أو عمرو، ولا لرأي فلان أو علان، ولا لحزب فلان أو الطريقة الفلانية، أو الجماعة الفلانية، كل هذا من الأخطاء الجديدة التي وقع فيها كثير من الناس.
فيجب أن يكون المسلمون هدفهم واحد، وهو اتباع كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام في جميع الأحوال؛ في الشدة والرخاء، في العسر واليسر، في السفر والإقامة، وفي جميع الأحوال. وعند اختلاف أهل العلم ينظر في أقوالهم، ويؤيد منها ما وافق الدليل من دون تعصب لأحد من الناس.
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة الشورى الآية 10(32/14)
أما العامة وأشباه العامة، فيسألون أهل العلم، ويتحرون في أهل العلم من هو أقرب إلى الخبر وأقرب إلى السداد والاستقامة. يسألونه عن شرع الله، وهو يعلمهم بذلك ويرشدهم إلى الحق حسب ما جاء في الكتاب والسنة، وأجمع عليه أهل العلم.
والعالم يعرف بصبره وتقواه لله، وخشيته له سبحانه وتعالى، ومسارعته إلى ما أوجب الله ورسوله، وابتعاده عما حرم الله ورسوله.
هكذا يكون العالم سواء كان مدرسا أو قاضيا أو داعيا إلى الله أو في أي عمل، فواجبه أن يكون قدوة في الخير، وأن يكون أسوة في الصالحات، يعمل بعلمه ويتقي الله أين ما كان، ويرشد الناس إلى الخير، حتى يكون قدوة صالحة لطلابه، ولأهل بيته ولجيرانه ولغيرهم ممن عرفه، يتأسون به: بأقواله وأعماله الموافقة لشرع الله عز وجل.
وعلى طالب العلم أن يحذر غاية الحذر من التساهل فيما أوجب الله، أو الوقوع فيما حرم الله، فإنه يتأسى به في ذلك، فإذا تساهل تساهل غيره، وهكذا في السنة والمكروهات، ينبغي له أن يحرص على تحري السنن، وإن كانت غير واجبة ليعتادها وليتأسى الناس به فيها، وأن يبتعد عن المكروهات والمشتبهات حتى لا يتأسى به الناس فيها.
فطالب العلم له شأن عظيم، وأهل العلم هم الخلاصة في هذا الوجود، فعليهم من الواجبات والرعاية ما ليس على غيرهم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته (1) » .
فأهل العلم رعاة وهداة، فعليهم أن يعنوا برعيتهم، الشعوب رعية لهم فعليهم أن يعنوا بهذه الرعية، وأن يخافوا الله فيها، وأن يرشدوها إلى أسباب النجاة، ويحذروها من أسباب الهلاك، وأن يغرسوا فيما بينهم حب الله ورسوله، والاستقامة على دين الله، والشوق إلى الله وإلى جنته وكرامته، والحذر من النار، فالنار بئس المصير، يجب الحذر منها، والتحذير منها، وأولى الناس بهذا الأمر هم العلماء، وطلاب العلم، هكذا يكون حالهم أبدا. وهكذا تكون أخلاقهم
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (893) ، صحيح مسلم الإمارة (1829) ، سنن الترمذي الجهاد (1705) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928) ، مسند أحمد بن حنبل (2/121) .(32/15)
أبدا، مسارعة إلى مرضاة الله، وابتعاد عن معاصي الله، ودعوة إلى الله، وإرشاد إليه، ووقوف عند حدوده، وأخذ بالأحوط دائما، وبعد عما حرم الله، وعما كرهه الله، حتى يتأسى بهم إخوانهم من المؤمنين، وحتى يتأثر بهم المسلمون أينما كانوا.
وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يوفقنا وإياكم إلى ما يرضيه وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصالحين مصلحين، كما أسأله سبحانه أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويوفق ولاة أمر المسلمين لكل ما فيه رضاه وصلاح العباد والبلاد، وأن يصلح لهم البطانة، وأن يمن عليهم بتحكيم شريعة الله بين عباده والتحاكم إليها، ونبذ ما خالفها.
أما العلوم الأخرى فلها شأن آخر: من استخراج المعادن، وشئون الزراعة والفلاحة، وسائر أنواع الصناعات النافعة. وقد يجب منها ما يحتاجه المسلمون، ويكون فرض كفاية، ولولي الأمر فيها أن يأمر بما يحتاجه المسلمون، ويساعد أهلها في ذلك، أي بما يعينهم على نفع المسلمين، والإعداد لعدوهم. وعلى حسب نية العبد تكون أعماله عبادة لله عز وجل، متى صلحت النية وخلصت لله، وإذا فعلها بدون نية كانت من المباحات: أعني أنواع الصناعات المباحة، واستخراج المعادن والزراعة والفلاحة وغير ذلك.
وكلها أمور مطلوبة، ومع صلاح النية تكون عبادة، ومع خلوها من ذلك تكون أمورا مباحة، وقد تكون فرض كفاية في بعض الأحيان، إذا دعت الحاجة إليها، ووجب على ولي الأمر أن يلزم بذلك من هو أهل لها، فهي أمور لها شأنها، ولها أحوالها الداعية إليها، وتختلف بحسب النية وبحسب الحاجة.
أما علم الشرع فلا بد منه، والله خلق الثقلين ليعبدوه وليتقوه، ولا سبيل إلى هذا إلا بعلم الشرع، علم الكتاب والسنة كما تقدم. فعلى طلبة العلم التفقه في الدين، وتعلم أحكام الله والتبصر في ذلك، ومعرفة العقيدة السلفية(32/16)
الصحيحة التي سار عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم، وسار عليها أتباعهم بإحسان، وهي الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بأسماء الله وصفاته، وإمرارها كما جاءت على الوجه الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا زيادة ولا نقصان.
هكذا درج أهل العلم على الطريقة التي درج عليها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ودرج عليها أصحابهم وأتباعهم بإحسان.
فنسأل الله لطلبة العلم التوفيق، وأن يعينهم على كل ما فيه رضاه. وأن يهدي بهم العباد، ويصلح بهم الأحوال، إنه جل وعلا على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على نبينا محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/17)
صفحة فارغة(32/18)
تدوين الراجح من أقوال الفقهاء
(القسم الثاني)
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
4 - أقوال فقهاء الإسلام قديما وحديثا في إلزام ولاة الأمور القضاة أن يحكموا بمذهب معين أو رأي معين.
تمهيد:
تقدم ذكر الدواعي إلى تدوين أحكام يلزم القضاة أن يحكموا بها فيما يرفع إليهم من القضايا، وأن التفكير في ذلك بدأ في القرن الثاني من الهجرة في خلافة أبي جعفر المنصور حين عرض عليه عبد الله بن المقفع ذلك، وتكلم أبو جعفر مع الإمام مالك فيها، وقد وضع كل منهما الأمر في نصابه، حيث رفعه الأول إلى المسئولين عن الأمة من ولاة الأمور وأهل السلطة فيها، ورده الخليفة إلى أهل العلم والفقه في الدين، ولم يكن تأثير الدواعي على النفوس قاصرا في ذلك العهد على ابن المقفع بل تجاوزه إلى غيره، فقد نقل فقهاء المالكية أن سحنون بن سعيد التنوخي ولى رجلا سمع بعض كلام أهل العراق وأمره ألا يتعدى الحكم بمذهب أهل المدينة. فهذا قد تمكنت منه الفكرة أكثر ممن سبقه، واستمر تأثيرها في العلماء وغيرهم جيلا بعد جيل حتى وقتنا الحاضر مع تفاوت في مدى تأثره بها، فمنهم من لم يستجب لها، ومنهم من استسلم لها فقال بها، ودافع عنها، وعمل بمقتضاها عندما أتيحت له الفرصة، ولكل وجهته.
وفيما يأتي ذكر أقوال الفقهاء، وما استندوا إليه مع المناقشة، وبالله التوفيق.(32/19)
أ- المذهب الحنفي:
أ- قال (1) ابن عابدين: ولو قيد السلطان القاضي بصحيح مذهبه كما في زماننا تقيد بلا خلاف، ولو قيده بضعيف المذهب فلا خلاف بعدم صحة حكمه.
2 - وقال (2) أيضا نقلا عن معروضات أبي السعود: إن العبد الآبق إذا كان من عبيد العسكرية فقد صدر الأمر السلطاني بمنع القضاة من بيعه كيلا يتخذ العبيد الأباق وسيلة للتخلص من خدمة الجيش- ثم قال-: وحينئذ لا يصح بيع هؤلاء العبيد، بل يؤخذون من مشتريهم ويرجع المشتري بالثمن، وكذلك بيع العبيد الآبقين من الرعايا إذا بيعوا بغبن فاحش، وبذلك ورد الأمر السلطاني فليحفظ فإنه مهم.
3 - وقال (3) أيضا على قول صاحب الدر: "ولو قضى بجواز بيعها لم ينفذ بل يتوقف على قضاء قاض آخر إمضاء وإبطالا".
قال: أي قضى به حنفي مثلا على إحدى الروايتين عن الإمام من أن القاضي لو قضى بخلاف رأيه ينفذ قضاؤه ما لم يقيده السلطان بمذهب خاص.
4 - وقال (4) أيضا على قول صاحب تنوير الأبصار في صلاة العيدين: "ويصلي بهم الإمام ركعتين مثنيا قبل الزوائد وهي ثلاث تكبيرات في كل ركعة " قال: هذا مذهب ابن مسعود وكثير من الصحابة ورواية عن ابن عباس، وبه أخذ أئمتنا الثلاثة. وروي عن ابن عباس أنه يكبر في الأولى سبعا، وفي الثانية ستا - وفي رواية خمسا - منها ثلاثة أصلية،
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 \ 369.
(2) حاشية ابن عابدين 3 \ 325.
(3) حاشية ابن عابدين 3 \ 51.
(4) حاشية ابن عابدين 1 \ 779- 780.(32/20)
وهي: تكبيرة الافتتاح، وتكبيرتا الركوع، والباقي زوائد في الأولى خمس وفي الثانية خمس أو أربع، ويبدأ بالتكبير في كل ركعة. قال في الهداية: وعليه عمل العامة اليوم؛ لأمر الخلفاء من بني العباس به.
والمذهب الأول؛ قال في الظهيرية - وهو تأويل ما روي عن أبي يوسف ومحمد - أنهما فعلا ذلك؛ لأن هارون أمرهما أن يكبرا بتكبير جده ففعلا ذلك امتثالا له لا مذهبا واعتقادا. قال في المعراج: لأن طاعة الإمام فيما ليس بمعصية واجبة.(32/21)
ب- المذهب المالكي:
قال (1) محمد بن عبد الرحمن الحطاب: قال ابن الحاجب: وللإمام أن يستخلف من يرى غير رأيه في الاجتهاد أو التقليد، ولو شرط الحكم بما يراه كان الشرط باطلا والتولية صحيحة، قال الباجي: كان في سجلات قرطبة: ولا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده. قال في التوضيح: للإمام أن يستخلف من يرى غير رأيه كالمالكي يولي شافعيا أو حنفيا، ولو شرط الإمام على القاضي الحكم بما يراه الإمام من مذهب معين أو اجتهاد له كان الشرط باطلا وصح العقد. وهكذا في الجواهر عن الطرطوشي. وقال غيره: العقد غير جائز وينبغي فسخه ورده. وهذا إنما هو إذا كان القاضي مجتهدا، وهكذا المازري فيه قال: وإن كان الإمام مقلدا وكان متبعا لمذهب مالك أو اضطر إلى ولاية قاض مقلد لم يحرم على الإمام أن يأمره أن يقضي بين الناس بمذهب مالك، ويأمره ألا يتعدى في قضائه مذهب مالك؛ لما يراه من المصلحة في أن يقضي بين الناس بما عليه أهل الإقليم والبلد الذي فيه هذا القاضي منه ولي عليهم. وقد ولى سحنون رجلا سمع بعض كلام أهل العراق وأمره ألا يتعدى الحكم بمذهب أهل المدينة. انتهى المقصود.
__________
(1) مواهب الجليل شرح مختصر خليل 6 \ 98 وما بعدها.(32/21)
2 - قال (1) ابن فرحون: قال الشيخ أبو بكر الطرطوشي: أخبرنا القاضي أبو الوليد الباجي أن الولاة كانوا بقرطبة إذا ولوا رجلا القضاء شرطوا عليه في سجله ألا يخرج عن قول ابن القاسم ما وجده. قال الشيخ أبو بكر: وهذا جهل عظيم منهم. يريد أن الحق ليس في شيء معين، وإنما قال الشيخ أبو بكر هذا لوجود المجتهدين وأهل النظر في قضاة ذلك الزمان فتكلم على أهل زمانه وكان معاصرا للإمام أبي عمر بن عبد البر، والقاضي أبي الوليد الباجي، والقاضي أبي الوليد بن رشد، والقاضي أبي بكر بن العربي، والقاضي أبي الفضل عياض، والقاضي أبي محمد بن عطية صاحب التفسير، وغير هؤلاء من نظرائهم، وقد عدم هذا النمط في زماننا من المشرق والمغرب. .
وهذا الذي ذكره الباجي عن ولاة قرطبة ورد نحوه عن سحنون، وذلك أنه ولى رجلا القضاء وكان الرجل ممن سمع بعض كلام أهل العراق فشرط عليه سحنون ألا يقضي إلا بقول أهل المدينة ولا يتعدى ذلك. . قال (2) ابن رشد: وهذا يؤيد ما ذكره الباجي، ويؤيد ما قاله الشيخ أبو بكر، فكيف يقول ذلك والمالكية إذا تحاكموا إليه فإنما يأتونه ليحكم بينهم بمذهب مالك. انتهى المقصود.
3 - قال (3) الدسوقي: بل حكوا خلافا إذا اشترط السلطان عليه ألا يحكم إلا بمذهب إمامه فيقبل لا يلزمه الشرط، وقيل: بل ذلك يفسد التولية، وقيل: يمضي الشرط لمصلحة انظر (ح \ 3) .
4 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية (4) لما انتشر مذهب مالك بالأندلس وكان يحيى بن يحيى بالأندلس والولاة يستشيرونه فكانوا يأمرون القضاة ألا يقضوا إلا بروايته عن مالك، ثم رواية غيره فانتشرت رواية ابن القاسم
__________
(1) تبصرة الحكام 1 \ 84 وما بعدها.
(2) الدسوقي على مختصر خليل 4 \ 130.
(3) قوله انظر ''ح'' هذه الإشارة لمواهب الجليل شرح مختصر خليل الخطاب.
(4) تفضيل مذهب أهل المدينة \ 38 ج.(32/22)
عن مالك لأجل من عمل بها، وقد تكون مرجوحة في المذهب، وعمل أهل المدينة والسنة، حتى صاروا يتركون رواية الموطأ الذي هو متواتر عن مالك، - وما زال يحدث به إلى أن مات - لرواية ابن القاسم - وإن كان طائفة من المالكية أنكروا ذلك فمثل هذا إن كان فيه عيب فإنما هو على من نقل ذلك لا على مالك. انتهى المقصود منه.
5 - قال محمد عليش (1) : وفي آخر أحكام ابن سهل وأول المدارك للقاضي عياض واللفظ للمدارك، وفي كتاب الحاكم المستنصر إلى الفقيه أبي إبراهيم - وكان الحاكم ممن طالع الكتاب ونقر عن أخبار الرجال تنقيرا لم يبلغ فيه شيئا كثيرا من أهل العلم فقال في كتابه: "وكل من زاغ عن مذهب مالك فإنه من رين على قلبه وزين له سوء عمله، وقد نظرت طويلا في أخبار الفقهاء، وقرأت ما صنف من أخبارهم إلى يومنا هذا فلم أر مذهبا من المذاهب غيره أسلم منه، وإن فيهم الجهمية والرافضة والخوارج والمرجئة والشيعة إلا مذهب مالك ما سمعت أن أحدا ممن يتقلد مذهبه قال بشيء من هذه البدع فالاستمساك به نجاة إن شاء الله.
ولغيره عن الخليفة الحاكم المستنصر بالله تعالى: من خالف مذهب مالك بالفتوى، وبلغنا خبره أنزلنا به من النكال ما يستحقه وجعلناه عبرة لغيره، فقد اختبرت فوجدت مذهب مالك وأصحابه أفضل المذاهب، ولم أر في أصحابه ولا فيمن تقلد بمذهبه غير معتقد للسنة والجماعة فليستمسك الناس بهذا، ولينهوا أشد النهي عن تمسكهم في العمل بمذهب جميع المخالفين له (2) .
__________
(1) فتح العلي المالك \ 1- 65.
(2) لكن مالكا رحمه الله لم يرض أن يحمل الناس على مذهبه أو كتابه كما تقدم.(32/23)
جـ- المذهب الشافعي:
1 - قال الماوردي (1) فلو شرط المولي وهو حنفي المذهب على من ولاه القضاء ألا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا على ضربين:
أحدهما أن يشترط ذلك عموما في جميع الأحكام فهذا شرط باطل سواء كان موافقا لمذهب المولى أو مخالفا له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطا فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله على وجه الأمر أو: لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي كانت الولاية صحيحة والشرط فاسدا سواء تضمن أمرا أو نهيا، ويجوز أن يحكم بما أداه اجتهاده إليه سواء وافق شرطه أو خالفه، ويكون اشتراط المولى لذلك قدحا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز، ولا يكون قدحا إن جهل، لكن لا يصح مع الجهل به أن يكون موليا ولا واليا، فإن خرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال: قد قلدتك القضاء على ألا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة. كانت الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل الشرط.
والضرب الثاني أن يكون الشرط خاصا في حكم بعينه فلا يخلو الشرط من أن يكون أمرا أو نهيا فإن كان أمرا فقال له أقد من العبد (2) بالحر. . . كان أمره بهذا الشرط فاسدا، ثم إن جعله شرطا في عقد الولاية فسدت، وإن لم يجعله شرطا فيها صحت وحكم في ذلك بما يؤديه اجتهاده إليه.
وإن كان نهيا فهو على ضربين:
أحدهما أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد ولا يقضي فيه بوجوب قود ولا بإسقاطه
__________
(1) الأحكام السلطانية \ 68.
(2) قوله: ''أقد من العبد بالحر'' هكذا نقل من أصل وتصحيح الجملة كذا ''أقد من الحر بالعبد''.(32/24)
فهذا جائز؛ لأنه اقتصر بولايته على ما عداه فصار ذلك خارجا عن نظره.
والضرب الثاني: ألا ينهاه عن الحكم وينهاه عن القضاء في القصاص، فقد اختلف أصحابنا في هذا النهي هل يوجب صرفه عن النظر فيه على وجهين: أحدهما: أن يكون صرفا عن الحكم فيه وخارجا عن ولايته فلا يحكم فيه بإثبات قود ولا بإسقاطه.
والثاني: أنه لا يقتضي الصرف عنه ويجري عليه حكم الأمر به، ويثبت صحة النظر إن لم يجعله شرطا في التقليد ويحكم فيه بما يؤديه اجتهاده إليه.
2 - قال (1) جلال الدين المحلي على قول النووي في المنهاج: "ولا يجوز أن يشترط عليه خلافه" قال: أي خلاف الحكم باجتهاده أو اجتهاد مقلده، وقضية ذلك أنه لو شرطه لم يصح الاستخلاف، وكذا لو شرطه الإمام في تولية القاضي لم تصح توليته.
3 - قال (2) . قليوبي على قوله "أن يشرط" خرج بالشرط الأمر والنهي نحو: احكم بمذهب كذا أو لا تحكم، فيلغو ولا تبطل التولية، ويعتبران في التفويض.
4 - وقال (3) إبراهيم بن علي الشيرازي: ولا يجوز أن يعقد تقلد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه، لقوله عز وجل: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (4) والحق ما دل عليه الدليل وذلك لا يتعين في مذهب بعينه، فإن قلد على هذا الشرط بطلت التولية؛ لأنه علقها على شرط وقد بطل الشرط فبطلت التولية.
__________
(1) شرح المحلى على المنهاج 4 \ 297، 298.
(2) قليوبي على المنهاج 4 \ 298
(3) المهذب 2 \ 291 طبعة حلبية.
(4) سورة ص الآية 26(32/25)
د- المذهب الحنبلي:
أ- قال (1) . ابن قدامة: ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن يحكم بمذهب بعينه، وهذا مذهب الشافعي، ولم أعلم فيه خلافا؛ لأن الله تعالى قال: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (2) والحق لا يتعين في مذهب، وقد يظهر له الحق في غير ذلك المذهب. فإن قلده على هذا الشرط بطل الشرط، وفي فساد التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع.
2 - قال (3) أبو يعلى: "فإن كان المولي على مذهب فشرط على من ولاه القضاء ألا يحكم إلا بمذهبه فهذا شرط باطل، وهل تبطل الولاية؟ نظرت:
فإن لم يجعله شرطا فيها، لكن أخرجه مخرج الأمر والنهي، بأن قال له: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب أحمد، على وجه الأمر، ولا تحكم بمذهب أبي حنيفة، على وجه النهي فالولاية صحيحة والشرط فاسد.
وإن أخرجه مخرج الشرط في عقد الولاية فقال: قد قلدتك القضاء على ألا تحكم فيه إلا بمذهب أحمد. فهذا عقد شرط فيه شرطا فاسدا فهل يبطل العقد؟ على روايتين: بناء على البيع إذا قارنه شرط فاسد فإن كان الشرط خاصا في حكم بعينه نظرت أيضا، فإن لم يخرجه مخرج الشرط لكن أخرجه مخرج الأمر فقال (4) اقد من العبد بالحر، ومن المسلم بالكافر، يبطل العقد على الروايتين. وإن كان نهيا فإن نهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر، والحر بالعبد وألا يقضي فيه بوجوب القود، ولا بإسقاطه، جاز؛ لأنه اقتصر بولايته على ما عداه، وإن لم ينهه عن الحكم فيه ونهاه عن القضاء بالقصاص احتمل أن يكون صرفا عن
__________
(1) المغني ومعه الشرح الكبير 11 \ 482 والإقناع وشرحه 6 \ 235
(2) سورة ص الآية 26
(3) الأحكام السلطانية \ 47- 48.
(4) قوله ''اقد من العبد بالحر'' كذا من الأصل المنقول منه ولعل الصواب: كذا ''أقد من الحر بالعبد''.(32/26)
الحكم فلا يحكم فيه بإثبات قود ولا بإسقاطه. ويحتمل ألا يقتضي الصرف، ويجرى عليه حكم الأمر به، فيبطل حكم الأمر، ويثبت صحة النظر إذا لم يجعله شرطا في التقليد، ويحكم بما يؤديه اجتهاده إليه.
3 - قال شيخ الإسلام (1) : ولو شرط الإمام على الحاكم أو شرط الحاكم على خليفته أن يحكم بمذهب معين بطل الشرط، وفي فساد العقد وجهان، ولا ريب أن هذا إذا أمكن القضاة أن يحكموا بالعلم والعدل من غير هذا الشرط فعلوا. فأما إذا قدر أن في الخروج عن ذلك من الفساد جهلا وظلما أعظم مما في التقدير كان ذلك من باب دفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما.
4 - وقال (2) أيضا- جوابا عن سؤال وجه إليه عمن ولي أمرا من أمور المسلمين، ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان فهل يجوز له منع الناس؟ فأجاب: ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد، وليس معه بالمنع نص من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ما هو في معنى ذلك، لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك، وهو ما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار، وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل، ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منعه من ذلك وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. وصنف رجل كتابا في الاختلاف فقال أحمد: لا تسمه كتاب الاختلاف ولكن سمه "كتاب السعة". ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
__________
(1) مجموع الفتاوى 31 \ 73 وما بعدها.
(2) مجموع الفتاوى 30 \ 79- 81.(32/27)
يختلفوا؛ لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة، وكذلك قال غير مالك من الأئمة: ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه، ولهذا قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه.
ونظائر هذه المسائل كثيرة- وبعد أن ذكر أمثلة كثيرة لهذا من المعاملات قال- ولو منع الناس مثل هذه المعاملات لتعطل كثير من مصالحهم التي لا يتم دينهم ولا دنياهم إلا بها، ولهذا كان أبو حنيفة يفتي بأن المزارعة لا تجوز ثم يفرع على القول بجوازها ويقول: إن الناس لا يأخذون بقولي في المنع، ولهذا صار صاحباه إلى القول بجوازها كما اختار ذلك من اختاره من أصحاب الشافعي وغيره.
5 - وقال عنه البعلي أيضا (1) : ومن أوجب تقليد إمام بعينه استتيب، فإن تاب وإلا قتل، وإن قال ينبغي كان جاهلا ضالا، ومن كان متبعا الإمام فخالفه في بعض المسائل لقوة الدليل أو لكون أحدهما أعلم أو أتقى فقد أحسن (وقال أبو العباس) في موضع آخر: بل يجب عليه، وإن أحمد نص عليه ولم يقدح ذلك في عدالته بلا نزاع.
6 - وقال أيضا في جواب ورقة أرسلت إليه في السجن في رمضان سنة ست وسبعمائة في الفصل الذي عقده لإحالة الحكم في قضيته إلى الحاكم قال: (2) أنا لم يدع علي دعوى يختص بها الحاكم من الحدود والحقوق
__________
(1) الفتاوى المصرية.
(2) مجموع الفتاوى 3 \ 238.(32/28)
مثل قتل أو قذف أو مال أو نحوه، بل في مسائل العلم الكلية مثل التفسير، والحديث والفقه وغير ذلك، وهذا فيه ما اتفقت عليه الأمة، وفيه ما تنازعت فيه، والأمة إذا تنازعت في معنى آية أو حديث أو حكم خبري أو طلبي لم يكن صحة أحد القولين وفساد الآخر ثابتا بمجرد حكم حاكم فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة، ولو جاز هذا لجاز أن يحكم حاكم بأن قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (1) هو الحيض أو الأطهار، ويكون هذا حكما يلزم جميع الناس قوله، أو يحكم بأن اللمس في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (2) هو الوطء أو المباشرة فيما دونه، أو بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج أو الأب والسيد. وهذا لا يقوله أحد- ومضى إلى أن قال- وأما إلزام السلطان في مسائل النزاع بالتزام قول بلا حجة من الكتاب والسنة فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين، ولا يفيد حكم حاكم بصحة قول دون قول في مثل ذلك، إلا إذا كان معه حجة يجب الرجوع إليها فيكون كلامه قبل الولاية وبعدها سواء، وهذا بمنزلة الكتب التي يصنفها في العلم. نعم الولاية قد تمكنه من قول حق ونشر علم قد كان يعجز عنه بدونها، وباب القدرة والعجز غير باب الاستحقاق وعدمه. نعم للحاكم إثبات ما قاله زيد أو عمرو ثم بعد ذلك إن كان القول مختصا به كان مما يحكم به الحاكم وإن كان من الأقوال العامة كان من باب مذاهب الناس، فأما كون هذا القول ثابتا عند زيد ببينة أو إقرار أو خط فهذا يتعلق بالحكام.
7 - وقال (3) أيضا: الأحكام كلها تلقتها الأمة عن نبيها لا تحتاج فيها إلى الإمام وإنما الإمام منفذ لما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 228
(2) سورة النساء الآية 43
(3) المنتقى للذهبي ''مختصر منهاج السنة لشيخ الإسلام'' \ 540.(32/29)
هـ - نقول عن بعض الفقهاء المعاصرين الذين يدعون إلى هذه الفكرة:
1 - قال (1) محمد رشيد رضا: وأما الاجتهاد في المعاملات والقضاء فهو الاجتهاد الحقيقي الذي يعجز عنه أكثر الناس ولا يقوم به إلا طائفة تتفرغ للاستعداد للقضاء والفتوى والتعليم، ويلزم الإمام أو السلطان سائر الناس بالعمل باجتهادهم على ما بينته تبيينا، فإن أصاب هؤلاء الحق والعدل فلهم أجران وإن أخطئوا بعد التحري وبذل الجهد في المعرفة فلهم أجر واحد ويعذرون هم ومقلدوهم العاملون بمقتضى اجتهادهم.
2 - قال (2) أيضا: فما أجمعوا عليه من أمر الدين فهو الذي لا يسع مسلما تركه وما اختلفوا فيه يرد إلى الكتاب والسنة كما أمر الله تعالى بقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (3) أي مآلا وعاقبة، والرد في الأمور العامة منوط بأولي الأمر، وفي الوقائع الخاصة يعمل كل فرد بما ظهر له الدليل على صحته. . إلخ.
3 - وسئل (4) ما قولكم - دام فضلكم - في أحكام السياسة والقوانين التي أنشأها سلطان البلد أو نائبه وأمر وألزم حكام بلده وقضاته بإجرائها وتنفيذها، هل يجوز لهم إطاعته وامتثاله لإطلاق قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (5) الآية، أم كيف الحكم؟ أفتونا مأجورين؛ لأن هذا الشيء قد عم البلدان والأقطار.
فأجاب: إذا كانت تلك الأحكام والقوانين عادلة غير مخالفة لكتاب الله وما صح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وجب علينا أن نعمل بها إذا وضعها أولو الأمر منا وهم أهل الحل والعقد، مع مراعاة قواعد المعادلة والترجيح
__________
(1) مجلة المنار 4 \ 368.
(2) فتاوى المنار رقم 522 ص 1466.
(3) سورة النساء الآية 59
(4) فتاوى المنار رقم 406.
(5) سورة المائدة الآية 92(32/30)
والضرورات، وإن كانت جائرة مخالفة لنصوص الكتاب والسنة التي لا خلاف فيها، لم تجب الطاعة فيها؛ للإجماع على أنه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (1) » وهذا نص حديث رواه بهذا اللفظ أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري، وصححوه بلفظ: «لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف (2) » ، ولا يشترط أن تكون هذه القوانين موافقة لاجتهاد الفقهاء فيما أصلوه أو فرعوه برأيهم؛ لأنهم صرحوا بأن الاجتهاد من الظن ولا يقوم دليل من الكتاب والسنة ولا من العقل والحكمة على أنه يجب على الناس أن يتبعوا ظن عالم غير معصوم، فلا يخرجوا عنه ولو لمصلحة تطلب، أو مفسدة تجتنب، ولا يغير هذا القيد.
وكذلك يطاع السلطان فيما يضعه هو أو من يعهد إليه ممن يثق بهم من القوانين التي ليس فيها معصية للخالق، وإن لم يكونوا من أولي الأمر الذين هم أهل الحل والعقد لأجل المصلحة لا عملا بالآية، ولكن إذا اجتمع أهل الحل والعقد ووضعوا غير ما وضعه السلطان وجب على السلطان أن ينفذ ما وضعوه دون ما وضعه هو؛ لأنهم هم نواب الأمة وهم الذين لهم حق انتخاب الخليفة، ولا يكون إماما للمسلمين إلا بمبايعتهم، فإن خالفهم وجب على الأمة تأييدهم عليه لا تأييده عليهم.
وبناء على هذه القاعدة التي لا خلاف فيها عند سلف الأمة؛ لأنها مأخوذة من نصوص القرآن الحكيم، قال الخليفة الأول في خطبته الأولى: "وليت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقوموني" وقال الخليفة الثاني على المنبر أيضا: "من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه" وله كلام آخر في تأييد هذه القاعدة، وقال الخليفة الثالث على المنبر أيضا: "أمري لأمركم تبع" وقال الخليفة الرابع في أول خطبة له - وكانت بعد ما علمنا من الأحداث والفتن -: "ولئن رد إليكم أمركم إنكم لسعداء وأخشى أن تكونوا في فترة" وهذا مأخوذ من قوله تعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (3) الشورى آية 38.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/131) .
(2) صحيح البخاري أخبار الآحاد (7257) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(3) سورة الشورى الآية 38(32/31)
4 - قال (1) الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا: والاجتهاد الإسلامي قد أقر لولي الأمر العام من خليفة أو سواه أن يحد من شمول بعض الأحكام الشرعية وتطبيقها ويأمر بالعمل بقول ضعيف مرجوح إذا اقتضت المصلحة الزمنية ذلك فيصبح هو الراجح الذي يجب العمل به، وبذلك صرح فقهاؤنا وفقا لقاعدة "المصالح المرسلة، وقاعدة تبدل الأحكام بتبدل الزمان" ونصوص الفقهاء في مختلف الأبواب تفيد أن السلطان إذا أمر بأمر في موضوع اجتهادي "أي قابل للاجتهاد غير مصادم للنصوص القطعية في الشريعة" كان أمره واجب الاحترام والتنفيذ شرعا، فلو منع بعض العقود لمصلحة طارئة واجبة الرعاية، وقد كانت تلك العقود جائزة نافذة شرعا، فإنها تصبح بمقتضى منعه باطلة وموقوفة على حسب الأمر.
5 - وقال (2) أيضا تعليقا على ذلك: جاء في كتاب الوقف من الدر المختار وحاشيته رد المختار نقلا عن معروضات المولى أبي السعود - وهو مفتي المملكة العثمانية ثم قاضي القسطنطينية في عهد السلطانين سليمان وسليم، ومن كبار رجال المذهب الحنفي المتأخرين المعول على فتاويهم وترجيحاتهم - أنه: صدر الأمر السلطاني بعدم نفاذ وقف المدين في القدر الذي يتوقف تسديد الدين من أمواله عليه قطعا لما يلجأ إليه بعض الناس من وقف أموالهم لتهريبها من وجه الدائنين.
وبناء على الأمر صرح الفقهاء من بعده بعدم نفاذ مثل هذا الوقف شرعا، وقد كانت النصوص في أصل المذهب صريحة في نفاذ وقف المدين ولو كان دينا محيطا بجميع أمواله؛ لأن الدين إنما يتعلق بذمته لا بعينه- ومضى إلى أن قال- والمهم جدا في هذه النصوص ليس هو الموضوعات التي وردت فيها، بل المبدأ الفقهي الذي تتضمنه لما له من
__________
(1) المدخل الفقهي العام 1 \ 191 ونسبه إلى رد المختار 1 \ 55.
(2) المدخل الفقهي العام 1 \ 192 وما بعدها.(32/32)
تأثير ذي بال في شتى الأحكام. . . - ومضى إلى أن قال- تحت عنوان "مشكلة إعطاء هذه الصلاحية لولاة الأمور والحل الصحيح لها" قال:
بقي أن يقال: إن إعطاء هذه الصلاحية لولي الأمر العام يؤدي إلى إمكان أن يتصرف هذا الحاكم بحسب هواه في تغيير الأحكام الاجتهادية وتقييدها بأوامر أو قوانين زمنية يصدرها. . . - إلى أن قال-: والجواب أن هذه النصوص الفقهية مفروضة في إحدى حالتين: إما أن يكون الحاكم نفسه من أهل العلم والتقوى والاجتهاد في الشريعة كما كان في الصدر الأول من العهد العباسي، وإما ألا يكون عالما مجتهدا، وعندئذ لا يكون لأوامره هذه الحرمة الشرعية إلا إذا صدرت بعد مشورة أهل العلم في الشريعة وموافقتهم.
6 - قال (1) محمد سلام مدكور تحت عنوان "تقييد القاضي على أن يحكم بمذهب أو رأي معين" قال: إذا قيد الحاكم القاضي أن يقضي بخلاف مذهبه وبالضعيف من مذهبه فهذا التقييد باطل ولم نقف على خلاف في هذا بين المتقدمين من فقهاء المذاهب، والدليل على ذلك أن القاضي مأمور أن يحكم بالحق، والحق ما يعتقده صحيحا - سواء كان الاعتقاد عن طريق بذل الجهد والنظر، أم عن طريق الاقتناع برأي إمامه والعلم بمذهبه - وهذا يتفق مع قولهم: إن من شرط صحة القضاء أن يحكم القاضي برأيه من غير تفرقة بين ما إذا قيده السلطان أو لم يقيده، ولا بين ما إذا كان القاضي مجتهدا أو مقلدا؛ لأن المقلد رأيه هو رأي إمامه الذي هو مذهبه. وفي (2) رسائل ابن عابدين عن أنفع الوسائل أن القاضي المقلد لا يجوز له أن يحكم إلا بما هو ظاهر في المذهب إلا أن ينص الفقهاء على أن الفتوى على غير ذلك، وفي (3) حاشية ابن عابدين على الدر:
__________
(1) المدخل للفقه الإسلامي 378 هـ وما بعد.
(2) رسائل ابن عابدين جزء 2 \ 75.
(3) حاشية ابن عابدين 4 \ 369.(32/33)
" ولو قيد السلطان القاضي بصحيح مذهبه كما في زماننا تقيد بلا خلاف، ولو قيده بضعيف المذهب فلا خلاف بعدم صحة حكمه "وهذان النقلان يشعران بأنه إذا قيده بغير مذهبه لا يتقيد به بطريق الأولى، كما يشعران بأن هذا التقييد لا يتجه إلى المجتهد أيضا بطريق الأولى، كما (1) أن ابن قدامة الحنبلي يقول: إنه لا يجوز أن يقلد القضاء الواحد على أن يحكم بمذهب بعينه عند أحمد والشافعي، ولا أعلم فيه خلافا؛ لأن الحق لا يتعين في مذهب، وهذا يشعر أيضا بالإطلاق بالنسبة للقاضي مجتهدا أو مقلدا، هذا الإطلاق المستفاد من كلمة "أن يقلد القضاء الواحد" وقد فصل (2) الماوردي الكلام في هذا التقييد وقال: إنه إما أن يكون بالنسبة لجميع الأحكام أو لبعضها، وقد نقل (3) مثله ابن فرحون عن بعض فقهاء المالكية، وهذا التفصيل لا نرى فيه فرقا أكثر من أن ذلك الشرط إذا كان يقصد به عدم سماع القاضي بعض الدعاوى فإنه يتقيد به وهذا غير ما نتكلم عنه من تقييد ولي الأمر للقاضي أن يقضي بمذهب أو رأي.
ومما يؤيد وجهتنا في عدم أثر هذه التفرقة ما علق به (4) ابن فرحون على ما نقله إذ يقول: " إن جميع تلك التقييدات لا يجوز للإمام اشتراطها؛ لأنه اشتراط ما لا يجوز، ومن كان لا يقتضي إلا بما أمره به من ولاه فليس بقاض على الحقيقة" ولما قيد القانون في مصر من زمن بعيد القضاء في المحاكم الشرعية بالمذهب الحنفي فيما لم يرد به قانون خاص فقد استلزم ذلك أن يكون القضاء فيها مقصورا على من كان حنفي المذهب حتى لا يحكم القاضي بخلاف مذهبه بأمر من السلطان، وبعد أن اتفق الفقهاء (5) على بطلان تقييد
__________
(1) المغني 9 \ 106.
(2) الأحكام السلطانية \ 64.
(3) تبصرة الحكام 1 \ 16 \ 17.
(4) تبصرة الحكام 1 \ 16.
(5) انظر المغني 9 \ 109، الماوردي \ 64، التبصرة \ 1-16.(32/34)
السلطان للقاضي على أن يقضي بمذهب معين، فقد تناولوا عقد التولية نفسه على هذا القيد بما خلاصته أنه إذا كان تم العقد على اشتراطه سواء أكان في صيغة العقد أو متقدما عليه فإن عقد التولية باطل عند غير الأحناف صحيح عندهم، وإذا كان غير مشروط في صيغة العقد فعقد التولية صحيح إجماعا.
مما تقدم يتبين:
أولا: الفرق بين الولاة والعلماء والرعية في القرون الأولى، والولاة والعلماء والرعية في القرون الأخيرة لهذه الأمة الإسلامية لاختلاف أحوالهم علما وأمانة وعدلا، وفي قوة الثقة وضعفها، وكثرة المشاكل وقلتها، ويترتب على هذا الأمر الثاني.
ثانيا: الفرق بين القاضي المجتهد والمقلد، فالقاضي المجتهد يجب عليه أن يحكم فيما يرفع إليه من القضايا بما وصل إليه باجتهاده، ولا يجوز للحاكم العام إلزامه حين التولية أو بعدها أن يحكم بمذهب معين أو قول معين، فإن ألزمه بطل الشرط وصحت التولية، وقيل: يبطل الشرط والتولية جميعا، وإن كان الإلزام بعد التولية بطل الإلزام، وقضى بموجب اجتهاده. . أما القاضي المقلد فقيل فيه بما ذكر من الخلاف في حكم المجتهد، وقيل: تصح التولية ويمضي الشرط كان ذلك عند التولية أم بعدها ويلزمه العمل بما قيد به ولو خالف اعتقاده.
ثالثا: الفرق بين المسائل العلمية الكلية، والقضايا الجزئية، فحكم القاضي أو ولي الأمر لا يرفع الخلاف في الأولى، فيبقى لغيره حق النظر والحكم فيها بما يراه عن اجتهاد، ويرفع الخلاف في الثانية، فليس لأحد أن ينقض حكم ولي الأمر أو القاضي فيها بعينها إلا إذا خالف نص الكتاب أو السنة الصحيحة أو الإجماع.
رابعا: عموم التشريع وشموله فلا يحتاج إلى أحد سوى الله ورسوله في التشريع وإلى ولاة الأمور من العلماء والأمراء وأئمة المسلمين الفهم والتنفيذ لا غير، وإذا عرفت الأقوال فلنشرع في الأدلة ومناقشتها.(32/35)
أولا: أدلة من قال بالمنع:
استدل من قال بمنع الإلزام بأدلة الكتاب والسنة والإجماع:
أ - أما الكتاب فقد قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (1) فأوجب سبحانه على رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيما شجر بين الناس بما أعلمه الله في كتابه، وما فهمه من الوحي المنزل عليه.
ومن المعلوم أنه يجب على ولاة الأمر بعده أن يحكموا بما حكم به، وإلزام القاضي ونحوه أن يحكم بما دون من القول الراجح، أو بمذهب معين - وإن كان على خلاف ما اقتنع به - يتنافى مع ذلك، فوجب رده عملا بمقتضى الآية. وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (2) والأقوال الراجحة في مسائل الخلاف إنما هي راجحة في نظر مرجحيها دون مخالفيهم، فلا يتعين أن تكون هي الحق الذي أنزله الله، وأمر بالحكم به بين الناس، فلا يلزم القاضي ونحوه الحكم بها إذا كانت أو كان بعضها على خلاف ما يعتقده حقا في نظره، بناء على اجتهاده أو ثقته بمن قلده، ولا يصح أن يشترط عليه ذلك حين التولية، أو يلزم به بعدها.
وقال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} (3) فأمر تعالى من تولى الفصل في الخصومات أن يحكم فيها بين الناس بالحق، والحق لا يتعين في مذهب أو رأي بعينه، ولا في قول رجحه بعض الفقهاء، فلا يلزم القاضي ونحوه الحكم أو الفتوى به، ولا يصح أن يشترط عليه ذلك في التولية أو بعدها؛ لجواز أن يفهم غير هذا الراجح ويقتنع به أو يقتنع به ثقة بمن رجحه من المجتهدين، فيكون حكمه بما ألزم به حكما بغير ما اعتقده حقا، وهو حرام، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (4) فأوجب سبحانه الرجوع إلى حكمه الذي أوحاه إلى رسوله
__________
(1) سورة النساء الآية 105
(2) سورة المائدة الآية 48
(3) سورة ص الآية 26
(4) سورة الشورى الآية 10(32/36)
في الكتاب أو السنة الثابتة دون الرجوع إلى الراجح عند بعض المجتهدين في مسائل الخلاف.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1) فأوجب سبحانه طاعته وطاعة رسوله في كل الأمور، وأوجب طاعة أولي الأمر من الحكام والعلماء فيما وضح أمره وظهر حكمه دون اشتباه والتباس بدليل المقابلة بقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) الآية، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الطاعة في المعروف (3) » رواه البخاري ومسلم. فعند الاختلاف في حكم من الأحكام العلمية الكلية في أصول الدين أو فروعه يجب الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله فقط ليتبين الحق في محل الخلاف، وأكد سبحانه ذلك بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (4) ولم يشرع لنا سبحانه الرجوع فيما اختلفنا فيه إلى القول الراجح في نظر بعض العلماء المجتهدين دون بعض؛ لأنه لم يتعين أن يكون هو الحق حتى يتفق عليه من يعتد بهم في الإجماع فيمكن أن يرجع إليه لكونه في نظر بعض الأصوليين، هذا وآيات القرآن في هذا المعنى كثيرة اجتزأنا عنها بما ذكر.
ب- وأما السنة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «القضاة ثلاثة، واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار (5) » رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه، ومن عرف الحق حسب اجتهاده واقتنع به، أو اقتنع به واعتقده ثقة لمقلده وتحسينا للظن به، ثم حكم بغير ما ظهر له أنه الحق فقد جار وأثم، وكان من أهل النار، فلا يصح أن يشترط عليه في التولية
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة النساء الآية 59
(3) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(4) سورة النساء الآية 59
(5) سنن الترمذي الأحكام (1322) ، سنن أبو داود الأقضية (3573) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2315) .(32/37)
أو يؤمر بعدها أن يحكم بغير ما ظهر له أنه الحق، وفي معنى هذا كثير من الأحاديث الصحيحة.
جـ- وأما الإجماع فقد جرى العمل على ما تقدم في تولية رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاة وإمضائه ما اختلف فيه من الأعمال، بناء على اختلاف فهم المجتهدين في المسائل النظرية التي يعذر في مثلها من أخطأ، ثم جرى العمل على هذا في عهد الخلفاء الراشدين ومن تبعهم من ولاة وعلماء القرون المشهود لها بالخير إلى ما شاء الله، فكان هذا إجماعا عمليا يلزم الوقوف معه والعمل بمقتضاه، فلا يصح أن يلزم من تولى الفصل في الخصومات أن يحكم فيها بغير ما رجح عنده عن اجتهاد أو عن ثقة بمن قلده من المجتهدين، وإن كان ما ألزم به راجحا عند غيره.
المناقشة:
نوقش أولا: بأنا نسلم ما تقتضيه الأدلة من وجوب الحكم بما أنزل الله، وما جاءنا به النبي صلى الله عليه وسلم من الحق، ولكن لا نسلم أن ما ألزم الحكم به ليس شرعا يجوز العمل به، إذ هو إلزام بما يسمى شرعا مؤولا فهمه الفقهاء مما يسمى شرعا منزلا، وكلاهما يصح العمل بموجبه والحكم بمقتضاه، وقد يجاب بأن مناط الاستدلال إلزام من تولى القضاء أو الإفتاء أن يحكم أو يفتي بخلاف ما يعتقده حقا لا مطلق جواز العمل أو الحكم بما يسمى شرعا مؤولا، ولا يلزم من جواز الثاني جواز الأول.
ونوقش ثانيا: بأنا نسلم ما تقتضيه الأدلة في القاضي أو المفتي المجتهد، أما المقلد فلا رأي له بل هو مخير فيمن يتبعه من أئمة الاجتهاد، فلولي الأمر أن يلزمه بقول من أقوال من في اتباعهم خير رعاية للمصلحة، وقد يجاب بأنه وإن كان مخيرا فيمن يتبعه من الفقهاء إلا أنه قد يثق بمجتهد بناء على معرفته بسيرته وأحواله ويعتقد رجحان رأيه فلا يجوز إلزامه القضاء أو الإفتاء بغير ما يعتقده.(32/38)
ونوقش ثالثا: بأن مضرة عدم إلزام القاضي أو المفتي أن يقضي أو يفتي بقول معين قد تكون أشد من مضرة إلزامه بذلك، فلولي الأمر أن يلزمه بقول معين ولو خالف عقيدته في المسائل الاجتهادية، رعاية للمصلحة بارتكاب أخف المفسدتين تفاديا لأشدهما، وقد يقال: إن معرفة ذلك تتوقف على معرفة الآثار المترتبة على كل منهما، وسيأتي بحث ذلك.(32/39)
ثانيا: أدلة من قال بجواز الإلزام أو وجوبه:
استدل من قال بجواز إلزام القاضي أو المفتي بمذهب أو قول معين بالدواعي والأسباب الطارئة التي اقتضت ضرورة تدوين أحكام المعاملات وإلزام القضاة والمفتين أن يعملوا بموجبها. . كما استدلوا بآثار عن السلف ووقائع قضوا فيها، ومن لم يثبت عنه قول في ذلك ولا عمل به سكت ولم ينكر فكان سكوته تقريرا، وصار ذلك إجماعا على مشروعية الإلزام، وفيما يلي تفصيل ذلك مع المناقشة.
أولا: الدواعي والأسباب التي تبرر التدوين والإلزام:
أ- وقوع أحكام اجتهادية متناقضة في قضايا متماثلة أدت إلى اتهام القضاة باتباع الهوى فيما يقضون. . إلخ، ويمكن أن يناقش ذلك بأن أحكام القضاة التي قيل فيها: إنها متناقضة قد يكون اختلاف الحكم فيها ناشئا عن اختلاف الظروف والأحوال في القضيتين، وتابعا للملابسات والدلائل والأمارات المختلفة فيهما، فيظن من نظر إلى أصل القضيتين دون ما أحاط بهما تماثل القضيتين، ويحكم بتناقض الحكم فيهما حسب نظره، والواقع أنه لا تناقض بل هذا من اختلاف الحكم لاختلاف الملابسات، وقد يكون تقابل الحكمين واختلافهما ناشئا عن اختلاف اجتهاد القاضيين، أو عن تغير اجتهاد القاضي وهذا سائغ شرعا، بل الواجب على القاضي أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده حين الفصل في القضية الحاضرة ولو خالف اجتهاده فيها اجتهاده في قضية سابقة مماثلة(32/39)
وإن قدر أنه لم يفعل ذلك كان آثما، ولهذا نظير في أحكام الخلفاء الراشدين، بل اختلف الحكم في قضاء الصحابي الواحد، مثاله ما حكم به عمر بن الخطاب في قضية ميراث، ومثيلتها من حرمان الإخوة الأشقاء أولا من الميراث في قضية وتشريكهم مع الإخوة للأم في الثلث بعد ذلك في مثيلة الأولى، ولم يبعث ذلك ريبة في القاضي للثقة بعلمه وعدله وأمانته ولم يحملهم ذلك على التفكير في اختيار رأي واحد يلتزمون القضاء به، وقد يكون الاختلاف ناشئا من قصور القاضي في علمه أو في تطبيقه أو غير ذلك، فيكون طريق الخلاص من ذلك النهوض بالقضاة علميا وتدريبهم على التطبيق إلى غير هذا مما سيأتي بيانه.
ب- عدم وجود كتاب في المعاملات سهل العبارة يتعرف منه الناس أحكام المعاملات التي يفصل بها في الخصومات ليراعوها ويوفقوا بينها وبين أعمالهم. . إلخ ما تقدم في الدواعي. ونوقش ذلك بما يأتي:
1 - الخلاف بين الفقهاء في الأحكام الفقهية قديم، وكان القاضي يعين منهم وليس له فقه مدون فيقضي باجتهاده، وأحيانا يعين حنفيا أو مالكيا أو شافعيا أو حنبليا فيقضي بالفقه المدون في مذهب الإمام الذي انتسب إليه، وقد يؤديه اجتهاده إلى القضاء بقول في غير مذهب إمامه، ولم يتوقف وجوب رجوع المتخاصمين في الحقوق إلى التقاضي أمام المحاكم الشرعية على معرفة الرعية بشيء من الأحكام قبل بدئهم في العمل أو قبل التقاضي أكثر من أن القاضي سيحكم بينهم بما أداه إليه اجتهاده أو اجتهاد إمامه في الكتاب والسنة وما تفرع عنهما، فكان ذلك منهم إلغاء لاعتبار هذا السبب في تدوين الراجح عند بعض الفقهاء وإلزام القضاة العمل به.
2 - إن هذا الداعي أو السبب مجرد فرض ومحض تقدير، وبيانه أن القوانين الوضعية مدونة ولها لوائح تفسيرية، ومع ذلك يجهلها السواد الأعظم من الأمة قبل العمل وقبل التقاضي عند الخلاف وإنما يعرفها القليل من(32/40)
المتعلمين، ولهذا يوكلهم السواد الأعظم في التقاضي لجهلهم بمراجع القضاء في الحكم وقصورهم عن الدفاع، فكان ما ذكر مجرد تقدير لا يتفق مع واقع الأمم.
3 - إنه على تقدير معرفة الناس بأحكام كلية حددت لهم فهي مما تختلف فيه الأفهام في التطبيق على جزئيات القضايا والوقائع، وخاصة إذا اختلفت الظروف والملابسات التي تحيط بالقضايا، فلا يزول ما تصور من الأشكال بالتدوين الخاص والإلزام بما فيه.
4 - إذا رضي السواد الأعظم في كل أمة تتحاكم إلى القوانين الوضعية بالتقاضي إلى محاكمهم مع جهلهم بهذه القوانين وجب أن يرضوا بالتحاكم إلى المحاكم الشرعية مع جهلهم بتفاصيل مراجعهم في المعاملات بل الرضا بهذه المحاكم أولى؛ لأن مراجعها أعدل وأحكم، إذ هي مستقاة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وقضاة المحاكم الشرعية أقرب إلى الخير والعدالة وأحرص على الحق وأكثر تحريا له، وأبعد عن الهوى وبواعث الجور.
جـ- تهرب بعض الناس من رفع قضاياه للمحاكم الشرعية بالمملكة إلى رفعها لمحاكم في دول أجنبية. . إلى آخر ما تقدم في الدواعي. . ويمكن أن يناقش بأن التهرب من المحاكم الشرعية ليس ناشئا من عدم تدوين الأحكام، فإنها مدونة ميسور الاطلاع عليها وفهمها وتحقيق الحق منها لمن راض نفسه على البحث فيها، وليس من ترك الاقتصار على الراجح وإلزام القضاة به خاصة. فإن القوانين الوضعية قد دونت وجعلت أحكاما موحدة منظمة معها أرقامها، وألزم قضاتها بالعمل بها فمع ذلك اختلفوا في فهمها أحيانا وفي تطبيقها أكثر، ووقع في الحكم بها اختلاف وأخطاء ونقض بعضها في محاكم الاستئناف، فلم يكن الاقتصار على أحكام موحدة في دولة ما، ولا الإلزام بها مانعا من الاختلاف ولا من الخطأ في فهمها أو تطبيقها، ولا من الخطأ عن إهمال أو هوى وإذن، فما وقع من الخطأ في الأحكام القضائية ليس مرده عدم الإلزام بقول(32/41)
واحد، وإنما مرده إلى عدم النهوض بالقضاة علميا وقلة تدريبهم على تطبيق الأحكام على الوقائع إلى غير هذا من عدم توفر الوسائل والنظم التي لا بد منها لتفادي الأخطاء أو تقليلها، فبذلك ضعفت الثقة عند بعض الناس، وتمكنت الريبة فيهم فكان ما قيل من التهرب من التقاضي أمام المحاكم الشرعية واللجوء إلى غيرها.
أما الأجانب فيلزمون بما ذكر في عقودهم من الشروط الخاصة بعقدهم، وهم أدرى بمقتضاه فنيا، ويطبق عليهم ذلك كما يطبق عليهم ما ذكر في العقد الموحد من الخضوع للأحكام المعمول بها في المملكة، وقد دخلوا على ذلك عند التعاقد باختيارهم مع عقل ورشد، فيلزم كل بما التزم به، وليس لدولته التدخل في ذلك مع معرفته إجمالا بما دخل عليه، فيجب حل الإشكال بما أشير إليه من قبل إجمالا، وسيأتي شرحه دون اللجوء إلى التدوين والإلزام بما دون من القول الراجح، وقد يقال: إن اختلاف الأحكام القضائية في صدر الإسلام لم يبعث على تدوين أحكام موحدة ولا على الإلزام برأي معين لقوة العلماء في ذلك العهد وكفايتهم وقلة الاختلاف في الأحكام وندرة المشاكل، فتوفرت الثقة في نفوس الأمة وأمنت الفتنة فلهذا وأمثاله لم تلجئهم حاجة إلى ما ذكر من التدوين ولا إلى إلزام القضاة بقول معين، أما اليوم وقد صار أمر الناس إلى خلاف ذلك، فالحاجة ملحة، والضرورة إلى التدوين على الطريقة المقترحة والإلزام بالحكم بمقتضى ما دون أمر لا بد منه رعاية للمصلحة، وحفظا لحقوق الأمة، وإبقاء على العمل بأحكام الشريعة في المحاكم الشرعية.
ويقال أيضا: إن الخطأ في الفصل في الخصومات وإن كان لا يزال متوقعا بعد الاقتصار على القول الراجح إلا أنه أقل وأخف خطرا؛ لأنه بالتزام العمل بالقول الراجح تنحصر الأخطاء في تطبيقه على الوقائع بعد تحقيقها وتشخيصها، ومن المعلوم شرعا أن المفاسد إذا لم يمكن(32/42)
القضاء عليها وجب بذل الجهد لتقليلها.(32/43)
ثانيا: استدل من قال بجواز الإلزام بأدلة من الكتاب والسنة والآثار:
أ - أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) الآية، فأمر سبحانه بطاعة أولي الأمر وهم الأمراء والعلماء وقرن حق طاعتهم بحق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا أن حق طاعة الله وطاعة رسوله عام في كل شيء وفي كل حال، وحق طاعة أولي الأمر خاص بالمعروف، فتجب طاعتهم فيما وافق الكتاب والسنة، وفيما لم يكن فيهما لكنه لم يتعارض معهما إذا أمروا به رعاية للمصلحة
ونوقش ذلك بما تقدم بيانه من أن طاعتهم فيما وضح حكمه واتفقت عليه الأمة، أما ما اشتبه أمره واختلف فيه العلماء فالمرجع في فصل النزاع فيه الكتاب والسنة بدليل قوله تعالى في نفس الآية: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (2) الآية، ولذا استدل علماء الأصول بهذه الآية على حجية الإجماع، وبذلك تكون الآية دليلا على المنع لا على الجواز، واستدلوا أيضا بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (3) وقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (4) فأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستشير أصحابه في الأمر ينزل به أو بالمسلمين، وأثنى على خيار المؤمنين بأن من شأنهم أن يتشاوروا بينهم، وقرن ذلك بثنائه عليهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وبالتناصر عند البغي عليهم ردا للعدوان ونصرة للحق، وغير هذا من الأفعال الواجبة والصفات الحميدة، ولا شك أن القضاء والفصل في الخصومات من أهم شئون المسلمين فينبغي تعاون القضاة مع كبار العلماء في حل مشاكل القضاء والعمل بمشورتهم ليكون القاضي على بصيرة فيما يحكم به بدلا من أن يستقل في ذلك بنفسه
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) سورة النساء الآية 59
(3) سورة آل عمران الآية 159
(4) سورة الشورى الآية 38(32/43)
فيكون عرضة لكثرة الخطأ والتناقض في أحكامه، ويكفيه أن يتحمل مشقة البحث في تشخيص القضايا وعناء تطبيق ما اختاره كبار العلماء من الأقوال على الوقائع والقضايا الجزئية بعد تحقيقها.
ب- وأما السنة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في شئونه وشئون الأمة، من ذلك أنه استشار الصحابة في أمر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كما هو معروف في قصة الإفك، ومنها استشارته إياهم في غزواته في غزوة بدر، وأحد، والأحزاب، وغيرها مما لا يكاد ينكره أحد، وعمل بمشورة أصحابه رجالا ونساء، فعمل بمشورة سلمان في حفر الخندق، وبمشورة أم سلمة حينما دخل عليها في صلح الحديبية مغضبا، وقد أمر أصحابه أن ينحروا هديهم ويتحللوا من إحرامهم فلم يفعلوا فأشارت عليه أن يبدأ في ذلك بنفسه فقبل مشورتها، وكان في قبولها الخير، إلى غير هذا من الاستشارات والمشورات الكثيرة التي تواتر معناها، ومنها فيما ذكروا ما جاء في الأثر: إن الأمر ينزل بنا يا رسول الله وليس فيه نص من كتاب ولا سنة، فقال: «اجمعوا له العالمين ولا تقضوا فيه برأي واحد» فثبت بهذا أن الشورى أصل شرعي فيجب على العلماء وضع كتاب فقهي مشتمل على الأقوال الراجحة ليسهل على الجميع معرفة الأحكام منه، وبالتالي يلزم القضاة الحكم بمقتضاه تفاديا لمفاسد الاختلاف وقضاء على التناقض في الأحكام، وإلا تعطلت الشورى واستشرى الفساد، وتفاقم التناقض.
ونوقش بأن الشورى مشروعة باتفاق، وعليها قامت الأدلة من الكتاب والسنة وعمل خير القرون من هذه الأمة، لكنها غير ملزمة لمن استشار إلا إذا وافق اجتهاده اجتهاد من أشار عليه واقتنع به، ولا يصح أن يلزم بما أشير به عليه من آراء خالفت اجتهاده وإن كان فردا والمشيرون عليه كثرة؛ لأن الحق ليس وقفا على الكثرة، وليست الكثرة ميزانا يفرق به بين الحق والباطل. وأيضا الصحابة كانوا أحرص الناس على الشورى(32/44)
وأكثرهم عملا بهم، ولم يلزموا المستشير أن يعمل بما أشير به عليه، ولم تتعطل الشورى، من ذلك أن عمر أشار على أبي بكر رضي الله عنهما أن يفاوت بين الناس في العطاء من بيت المال فيعطي كلا منهم حسب درجته ونصرته للإسلام وسبقه إليه، فأبى أبو بكر إلا أن يسوي بينهم في العطاء لاختلاف نظرهما في مقتضى العطاء. ومن ذلك ما أشار به الصحابة - وهم كثرة- على أبي بكر بترك قتال المرتدين ومانعي الزكاة فأبى إلا أن يقاتلهم ومضى فيما عزم عليه، وكان خيرا للمسلمين من رأي مخالفيه.
ومن ذلك أن عمر استشار الصحابة في دخول أرض علموا أن بها طاعونا وعدوله عن الدخول فيها ثم خالف مشورتهم وعدل عن الدخول فيها، وهم كثرة، ثم جاء عبد الرحمن بن عوف وأخبره بما حفظه في ذلك من الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان فيه تأييد لرأي عمر رضي الله عنه. وبالجملة فالأمر كما تقدم من أن الشورى ليست ملزمة، ولا حرج على الواحد في مخالفة الكثرة والعمل بمقتضى اجتهاده، بل هذا هو الواجب، وأصول الشريعة تشهد لصحته.
ولقائل يقول: إن ما ذكر في المناقشة إنما ينطبق على المجتهد؛ لأن له قولا أداه إليه اجتهاده واعتقد صحته، أما المقلد المحض فلا رأي له وهو لعجزه عن استنباط الأحكام مخير في اتباع إمام من الأئمة المجتهدين، فمثل هذا قد يقال بأن إمام المسلمين له أن يلزمه إذا تولى القضاء أن يحكم بمذهب أو قول معين، رعاية لما تقدم بيانه من المصلحة، ولا ضرر في ذلك؛ لأنه تابع على كل حال، فليكن تابعا لما أمره به ولي الأمر في الشئون العامة والحقوق المشتركة بين الأمة، وقد استدل بعض المعاصرين بأن الصحابة قالوا: «إن الأمر ينزل بنا يا رسول الله وليس فيه كتاب ولا سنة، فقال: " اجمعوا له العالمين ولا تقضوا فيه برأي واحد (1) » على الإلزام، ولكن الاستدلال به يتوقف على إثبات كونه عن
__________
(1) سنن الدارمي المقدمة (117) .(32/45)
النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنه لم يصح، فقد ذكره الخطيب البغدادي في باب القول في الاحتجاج بصحيح القياس ولزوم العمل به من كتاب الفقيه والمتفقه، قال: أنا أبو القاسم علي بن محمد بن موسى البزار، وأبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله المعدل قالا: أنا أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد المصري، أنا محمد بن الربيع بن بلال العامري، أنا إبراهيم بن أبي الفياض، أنا سليمان بن بزيع عن مالك بن أنس عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب قال: قلت: «يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن، ولم يسمع منك فيه شيء، قال: "أجمعوا له العابدين من أمتي، واجعلوه شورى بينكم، ولا تقضوا فيه برأي واحد» .
وساق ابن حجر في لسان الميزان هذا الحديث في ترجمة سليمان بن بزيع ثم قال: قال أبو عمر بن عبد البر: هذا حديث لا يعرف من حديث مالك إلا بهذا الإسناد، ولا أصل له في حديث مالك عندهم، ولا في حديث غيره، وإبراهيم وسليمان ليسا بالقويين، ولا يحتج بهما. قلت: وقال الدارقطني في غرائب مالك: لا يصح، تفرد به إبراهيم بن أبي الفياض عن سليمان، ومن دون مالك ضعيف، وساقه الخطيب في كتاب الرواة عن مالك من طريق إبراهيم عن سليمان، وقال: لا يثبت عن مالك. . والله أعلم. انتهى.
ثم هو مخالف لما جرى عليه العمل قرونا كثيرة حيث كان كل من المجتهدين يعمل بمقتضى اجتهاده ويحكم به، وكان الصحابة بل الرسول صلى الله عليه وسلم يقبلون مشورة الواحد ويعملون بها، ولم يكن من شأنهم أن يجمعوا العالمين في كل ما نزل بهم، ثم لو ثبت لم يزد على أن يكون نصا من نصوص المشورة، وتقدم أنها غير ملزمة إلا إذا وافقت اجتهاد المستشير، وإلا عمل باجتهاد نفسه كما تقدم بيانه في النقل عن الصحابة رضي الله عنهم.(32/46)
جـ- وأما الآثار فكثيرة:
أ- منها إجماع الصحابة على جمع القرآن وتدوينه في نسخة واحدة، حفظا للقرآن من أن يذهب بذهاب القراء، وهذا وإن كان في بادئ الأمر أمرا جديدا وعملا محدثا حيث إنه لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكنه واجب؛ لاتفاقه مع روح الشريعة ومقاصدها، فكذا إلزام القضاة أن يحكموا بالقول الراجح من أقوال الفقهاء، فإنه وإن كان يبدو أمرا محدثا إلا أنه لا يخالف كتابا ولا سنة، بل هو مقتضى المصلحة؛ لما فيه من دفع الريبة والقضاء على الاضطراب والتناقض في الأحكام فكان واجبا.
ونوقش بأن القرآن كان مكتوبا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والأمة مأمورة بحفظ الدين وإبلاغه بالنصوص المتواترة، ولم يزد الصحابة على أن جمعوا ما كان مفرقا عملا بمقصد ضروري من مقاصد الشريعة وهو وجوب حفظ الدين وإبلاغه بخلاف إلزام القضاة بالحكم الراجح من أقوال الفقهاء فإنه مخالف لمقتضى النصوص ولما جرى عليه العمل في القرون التي شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بالخير.
ونوقش هذا بأمور:
2 - ومنها جمع عثمان رضي الله عنه الأمة على حرف واحد من الحروف السبعة التي بها نزل القرآن، وقصر الناس على القراءة بهذا الحرف، وتحريقه المصاحف الأخرى التي تخالف مصحف الإمام. وقد كتب من هذا المصحف نسخا وأرسل بها إلى أمهات البلاد الإسلامية، واستمرت القراءة لهذا اليوم. فكذا إلزام القضاة بالقول الراجح من أقوال الفقهاء بل هو أولى بأن أقوال الفقهاء شرع مؤول يحتمل كل منها الخطأ أو الصواب، والقراءات شرع منزل كلها حق لا يحتمل الخطأ، فكان الإلزام واجبا رعاية للمصلحة.
ونوقش هذا بأمور:
الأول: أن عثمان ومن وافقه من الصحابة استندوا إلى مصلحة شهدت لها أصول الشريعة، فإن في قصره على حرف واحد حفظا للدين بحفظ أصله- وهو القرآن- من الاختلاف فيه، وحفظا للنفوس، وبيانه أن حذيفة أخبره بان الصحابة اختلفوا في القراءة اختلافا تخشى منه الفتنة ووقوع القتال بينهم، وفي اختلافهم واقتتالهم ضياع للدين(32/47)
وقضاء على وحدة المسلمين وقوتهم، بل قضاء على نفوسهم، وحفظ الدين والنفوس من الضروريات الخمس فوجب إيثار ذلك على بقاء القراءات؛ لأن بقاءها كمالي للاستغناء عنها بقراءة منها، لتضمنها ما في القراءات الأخرى من المعاني والأحكام، بخلاف إلزام القضاة أن يحكموا بقول راجح اختير من قولين أو أقوال للفقهاء، فإن ما ظن فيه من المصلحة غير معتبر لشهادة الأدلة السابقة بعدم اعتباره، ولأن القراءات كلها معصومة متحدة الأحكام والمقاصد فصح الاكتفاء بواحدة منها بخلاف أقوال الفقهاء فإنها مختلفة في مقاصدها وأحكامها ولا ينحصر الحق في واحد منها، فلم يجز الاقتصار على ما يرى جماعة من العلماء أنه الراجح منها وإلزام الناس به، فقد يكون الحق فيما ترك.
الثاني: أنه منع من القراءة بما يخالف مصحفه، أما الاحتجاج بالقراءات الأخرى فلم يمنع منه، ولذا لا يزال الاحتجاج بما صح منها قائما باقيا عند جماعة من الأئمة المجتهدين، إما على أنها أخبار آحاد أو قول صحابي عند من يعتبره حجة.
الثالث: إن القراءة بالأحرف السبعة كانت على التخيير لا الإلزام، تيسيرا للقراءة على الناس لاختلاف ألسنتهم، فلما لانت بها ألسنتهم لكثرة اجتماعهم والاختلاط بينهم، وكان ما كان من الاختلاف فيها كان بقاؤها كماليا عارضه مصلحة ضرورية، فقدمت على مصلحة بقاء القراءات، ولم يفت المسلمين شيء من أحكام القرآن بذلك؛ لاجتماعها في المصحف الإمام، بخلاف الاقتصار على قول من أقوال الفقهاء فإنه لا يدري عما اختير، هل هو متضمن للحق والصواب أو الحق فيما ترك من الأقوال.
3 - ومنها: ما رواه سعيد بن منصور في سننه، وابن أبي شيبة في المصنف أن معاوية كتب إلى زياد أن يأمر شريحا بتوريث المسلم من الكافر دون العكس، فلما أمره زياد قضى بقوله فكان إذا قضى بذلك يقول: هذا قضاء أمير المؤمنين، فهذا من معاوية وشريح دليل على جواز إلزام القضاة أن يحكموا بقول معين، وعلى التزام القاضي بذلك ولو كان مجتهدا.(32/48)
ونوقش أولا بأن في سند هذا الأثر مجالد بن سعيد، وهو ضعيف، وثانيا بأن قضاء شريح بقول معاوية يحتمل أن يكون من باب الخبر، بدليل أنه كان يقول بعد قضائه: هذا قضاء أمير المؤمنين.
4 - ومنها: كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما في شئون القضاء، وفيه: "اعرف الأشباه والنظائر، وقس الأمور برأيك" فأمره عمر أن يحكم بالقياس وأن يجتهد في ذلك، وكلاهما مجتهد، وقد يكون رأي أبي موسى في أصل العمل بالقياس مخالفا لرأي عمر رضي الله عنهما، ففي الأثر تقييد الإمام لقاضيه المجتهد برأيه حيث أمره أن يقيس الأمر بما يشبهه، ويحكم بمقتضاه، فدل على جواز إلزام القضاة - ولو كانوا مجتهدين - برأي معين. وقد يناقش بما ذكره ابن حزم في الجزء السابع من كتاب الأحكام من أن هذا الحديث روي من - طريقتين: الأولى فيها عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه، قال ابن حزم: عبد الملك متروك الحديث ساقط بلا خلاف وأبوه مجهول. وذكر أن في الطريق الثانية أربعة مجهولين وأنها منقطعة. وقد ناقشه ابن القيم في ذلك في كتاب إعلام الموقعين، وقد يناقش أيضا بأن هذا من باب إجابة الإمام لمن استرشده من أمرائه وعماله والنصيحة والتوجيه له في القيام بعمله، ثم هو مجتهد فيما يحكم به قاض بمقتضى نظره، وليس من باب تقييد القاضي وإلزامه أن يحكم بقول معين وإن كان مجتهدا، لقيام الدليل على أن كل مجتهد يجب عليه العمل باجتهاده.
5 - وفي معنى ما تقدم من الآثار تدوين السنة وسائر العلوم العربية والدينية وإنشاء المعاهد والمدارس والجامعات العلمية والمصانع والمصحات ودور العجزة والأيتام، وتدوين الدواوين ونحوها مما يدخل في عموم تصرفات ولاة الأمور، رعاية لمصلحة الأمة في دينها ودنياها، وحفظا لحقوقها العامة والخاصة، وسيأتي إن شاء الله بيان مدى تصرف إمام المسلمين، وبيان ما إذا كان يدخل فيه إلزام القضاة أن يحكموا بقول أو مذهب معين أو لا يدخل في ذلك.(32/49)
5 - الآثار التي تترتب على البقاء مع الأصل، والتي تترتب على العدول عنه إعمالا للدواعي الطارئة:
لما كان الترجيح بين الأقوال المختلفة لا يتوقف على أدلة كل منها فقط، بل يتوقف أيضا على ذكر لوازم الأقوال وما يترتب على العمل بكل منها من الآثار، وجب ذكر الآثار للنظر فيها إلى جانب الأدلة المتقدمة، وبعد المقارنة من هيئة كبار العلماء بين الأدلة والآثار يمكنها الترجيح. ويحسن قبل ذكر الآثار ذكر تمهيد لها في الفرق بين الشرع المنزل والمؤول، والمبدل.
تمهيد في الفرق بين الشرع المنزل، والمؤول، والمبدل:
من المعلوم أن ما يسمى شرعا يكون منزلا، ومؤولا، ومبدلا، فالمنزل ما أراده الله من الكتاب وما أراده الرسول صلى الله عليه وسلم من السنة، والمؤول ما فهمه العلماء من الشرع المنزل، ولذا انقسموا إلى قسمين: مصيبون، ومخطئون، فالمصيبون هم الذين أصابوا مراد الله ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع المنزل، والمخطئون بخلافهم.
وأما المبدل فهو ما لم يرجع في وضعه إلى الكتاب والسنة من القوانين الوضعية ونحوها مما خالف الحكم فيه الكتاب والسنة الصحيحة، أو إجماع الأمة، وهذا القسم ليس بمقصود في بحثنا للإجماع على تحريمه. وفيما يلي بيان الآثار المترتبة على كل منهما:(32/50)
أ- الآثار المترتبة على البقاء مع الأصل:
1 - في البقاء مع الأصل حفاظ تام على الشرع المنزل، وإعمال الأفكار في فهم أحكامه من عبادات ومعاملات، وأخلاق، وتدبر آياته ومواعظه إلى غير ذلك مما جاء به من هداية البشر وصلاح الناس أجمعين.
2 - في البقاء مع الأصل ربط القلوب به، وزيادة الثقة فيه، وإذكاء روح الغيرة عليه في النفوس، وتربية المهابة والإجلال في القلوب.
3 - في البقاء مع الأصل السلامة من الزيادة والنقص في التشريع والأمن من التغيير والتبديل، ومن المعلوم أن سد الذرائع واجب شرعا.(32/50)
4 - العناية بالفقه المؤول الذي دونه أسلافنا، وكان من خير ما ورثنا عنهم، ومن المعلوم أن مصادر التشريع لم تكن جميعها معلومة لكل واحد منهم.
وأن الفقه لم يكن وقفا على جماعة من العلماء دون غيرهم ولا كان الحق من آراء الفقهاء متعينا في قول جماعة منهم دون سائرهم، فكان البقاء مع الأصل، وترك الباب مفتوحا لدراسة الفقه المؤول ومقارنته بمصادر الشريعة، وتطبيقه على جزئياته نظريا وعمليا في الحياة الخاصة والعامة أوفق ليسر الشريعة وكمالها وإحاطتها بجميع الأحكام.
5 - من المعلوم أن المسائل العلمية منها ما هو موضع إجماع - وهذا لا إشكال فيه - ومنها ما هو موضع خلاف، وهذه للخلاف فيها أسباب متعددة
منها ما يرجع إلى بقاء الدليل من عدمه. ومنها ما يرجع إلى طريق الأدلة. ومنها ما يرجع إلى متن الدليل. ومنها ما يرجع إلى دلالته. ومنها ما يرجع إلى ما يحيط به من اختلاف في التقعيد، فنراهم في بعض المذاهب يحبذون فهم الأدلة الشرعية وحكم المسائل الجزئية على التقعيد المذهبي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هم مختلفون في مسالك الترجيح بناء على اختلافهم في التقعيد، فتجد مرجوحا عند الشافعية راجحا عند الحنفية وهكذا.
ومن جهة ثالثة وصف القول بأنه راجح من حيث التقعيد الشرعي، لا من حيث التقعيد المذهبي، وصفه بذلك ليس من الأوصاف اللازمة، فقد يكون راجحا في وقت بالنظر لما يحيط به من ظروف وملابسات من اختلاف الأحوال والأزمنة والأمكنة والأشخاص، ويكون مقابله على هذا الأساس مرجوحا فتتغير الأمور ويكون المرجوح راجحا، والراجح مرجوحا، وهذا كما يجري في الظاهر ومقابله، يجري أيضا في المسائل ذات الأقوال المتساوية في ظن المجتهد. فإن هذا قد يكون بالنسبة لوقت، ويأتي وقت آخر يوجد فيه من القرائن ما يجعل واحدا منها راجحا، فراجحية القول في المسائل الخلافية إنما تظهر بعد دراسة واقع المسألة وتطبيقها على موضعها من الشرع،(32/51)
ومن ثم تبرز راجحية القول، هذا من جهة فقه القضاء وهذا أمر يورثه الله فيمن يشاء من عباده ولا يدخل تحت حصر البشر.
6 - ما تقدم ذكره من الدواعي التي دعت إلى تدوين القول الراجح وإلزام القضاة الحكم به.(32/52)
ب- الآثار التي تترتب على العدول عن الأصل:
1 - إلزام القضاة أن يحكموا بالقول الراجح من أقوال الفقهاء ينتهي على مر الأيام إلى فصل أهل العلم عن فقه الكتاب والسنة فصلا يتدرج بهم إلى هجرهما، وعدم الرجوع إليهما في هذا المجال اكتفاء بهذه المواد
التي يقال: إنها هي القول الراجح.
2 - القضاء على التراث الإسلامي قضاء نهائيا في مجال البيان لأحكام المعاملات اكتفاء بهذه المواد المدونة، ومعلوم أن الفقه الإسلامي المدون هو أعظم ثروة فتجب المحافظة عليها والعناية بالبحث فيها والرجوع إليها.
3 - التضييق على الناس بحملهم على قول واحد بصفة مستديمة وإهدار الأقوال الأخرى.
4 - كونه مدخلا لتغيير الشريعة بزيادة أو نقص، وتبديل، وتعديل.
5 - إماتة الفكر الفقهي، والحجر عليه بحيث لا يكون قابلا للقوة والنماء والتوسع والعمق في التفكير؛ لأنه جعل في دائرة من العلم محدودة.
6 - حمل القضاة على الحكم بخلاف ما يعتقدون في بعض المسائل وهذا غير جائز شرعا.
7 - وبالتالي فهو نقطة تحول عما كانت عليه الأمة الإسلامية وعدول عن أمر جرت عليه أربعة عشر قرنا، منها القرون المفضلة، وفي هذا مخالفة للإجماع العلمي.
مناقشة الآثار المترتبة على إلزام القضاة الحكم بقول معين:
يناقش الأول والثاني بأن سبب انصراف الكثير من المتعلمين عن فقه(32/52)
الكتاب والسنة، والمراجع الكبيرة في الفقه الإسلامي هو ضعف الهمة، والملكات العلمية والوازع الديني والتعصب المذهبي في السواد الأعظم ممن يشتغل بالعلوم الدينية، بدليل انصرافهم عن فقه الكتاب والسنة مع دراسة التفسير والحديث، وعنايتهم بدراسة المختصرات الفقهية لمعرفة الأقوال دون تجشم لمتاعب الاستدلال حتى في الدول التي لم تلزم قضاتها الحكم بقول معين.
ويناقش الثالث بأن الأقوال الأخرى لا تهدر نهائيا، بل لا تزال دراستها موضع عناية في دور التعليم، وإنما قسر القضاة على الحكم بالراجح لمصلحة دفع مضرة التناقض في الأحكام الراجحة على ما يدعى من التيسير في بقاء الأمر على ما كان.
ويناقش الرابع بأن المدخل في التبديل. . . إلخ يرجع إلى ضعف الوازع الديني، لا إلى قسر القضاة على الحكم بما اختير لهم من القول الراجح، وربما قيل: إن تناقض الأحكام الناشئ من اختلاف أقوال الفقهاء في مراجع القضاة مدعاة إلى النفرة من الثروة الفقهية جملة، وإلى التبديل الشامل كما تقدم بيانه في الدواعي.
ويناقش الخامس بما تقدم في الأول والثاني والثالث.
ويناقش السادس بأنه قد يسلم هذا بالنسبة للمجتهد المطلق أو مجتهد المذهب دون المقلد المحض فإنه تابع لغيره مخير فيمن يتبعه، والمتعلمون اليوم يغلب فيهم طابع التقليد المحض، فللإمام العام أن يلزم من تولى القضاء منهم بقول من الأقوال المخير بينها تحقيقا للمصلحة على أن الحكم بأن هذا غير جائز هو محل النزاع.
ويناقش السابع بأنه من استصحاب الإجماع في محل النزاع وهو مختلف في الاحتجاج به، وبيانه أن ما ذكر من الإجماع العملي كان في قرون قويت فيها الملكات العلمية وكثر فيها المجتهدون في الشريعة، أما بعد أن ضعفت الملكات العلمية، وطغى سلطان التقليد المحض على المتعلمين فلا إجماع، بل النزاع قائم على أشده كما تقدم في سرد الأقوال في الإلزام، فتعين أن ذلك قول باستصحاب(32/53)
إجماع في قرون نيط فيها بأحوال إلى محل نزاع في قرون تلاشى فيها مناطه لاختلاف الظروف والأحوال.(32/54)
6 - هل إلزام القضاة الحكم بمذهب معين أو قول معين ضروري لحل مشاكل القضاء أو يمكن تفاديه بحل آخر؟
من المسلم به وجود مشاكل حول القضاء، والفصل بين الناس في الخصومات، ومن المسلم به أيضا أنه يجب بذل الجهود من الجهات المعنية والتعاون بينها لإيجاد حل ناجح لهذه المشاكل حتى يسهل على القضاة القيام بمهمتهم على خير حال، ولا يتهرب من العمل في حقل القضاء أحد من المؤهلين عند تعيينه من قبل أولي الأمر للعمل فيه، وحتى يطمئن من بينهم خصومات إلى التقاضي أمام المحاكم الشرعية، وتذهب عنهم الريب والظنون، وإذن لا بد من تحديد هذه المشاكل وبيان منشئها، ثم بيان وسائل حلها ورسم طريق الخلاص منها على ضوء معرفتها ومعرفة أسبابها.
أ- أما المشاكل فقد يقال فيها: إنها ما تقدم بيانه في دواعي إلزام القضاة أن يحكموا بقول معين من التناقض في الأحكام سببه قصور القضاة واختلاف الأقوال في المصادر الفقهية التي يرجعون إليها في أحكامهم، فنشأ من هذا الاضطراب في الأحكام، والريبة، والاتهام باتباع الهوى، والانصراف عن المحاكم الشرعية، وعلى هذا قيل: إن طريق الخلاص من هذه المشاكل إلزام القضاة الحكم بأقوال معينة راجحة تختارها جماعة كبار العلماء وتقدمها منظمة بعبارة سهلة معها أدلتها ولائحة تفسيرها وأمثلة فرضية أو مأخوذة من الواقع يسهل تطبيقها، ولا يلزم مما ذكر التقنين الوضعي ولا إغلاق باب الاجتهاد في وجوه الأقوياء من القضاة، بل إذا رأوا رجحان قول يخالف ما قد اختير لهم عرض على هيئة كبار العلماء فإن أيدوه جعلوه بدلا مما اختير من قبل وإلا مضوا على ما كان.(32/54)
وقد تقدم مناقشة هذه الفكرة وبيان الآثار المرتبة عليها، ويزاد هنا أن الإلزام ينافي تخويل الاجتهاد للقاضي المتأهل للترجيح وحسن الاختيار على تقدير أن الهيئة لم تقنع برأيه وأبقت على ما رآه ضعيفا وعرضه عليها، أما على تقدير اقتناعها برأيه والتعديل على مقتضى ما رجح عنده فيلزم اختلاف الحكم وتناقضه في قضيتين متماثلتين حكم في إحداهما قبل التعديل وفي الأخرى بعده، وقد يتكرر مثل هذا الاجتهاد ويوافق عليه وتعدل المادة، فيزداد ما سمي من قبل تناقضا وتعود المشكلة جذعة، ويتكرر ما سمي مأساة ومدعاة للتهرب من القضاء أمام المحاكم الشرعية وسببا لإباء الأجانب من التحاكم إليها، ولم يطمئن بذلك من وفق أعماله قبل الإقدام عليها مع الأقوال الراجحة، لتوقعه التعديل والتغيير. . إلخ، وربما كان استمرار التعديل ذريعة إلى تعديل بعض الأقوال الفقهية بقوانين وضعية - لا سمح الله - كما حصل في بعض الدول الأخرى على ما سبق ذكره في النبذة التاريخية لمراحل التدوين. والأدلة الشرعية دالة دلالة قاطعة على وجوب سد الذرائع، والقضاء على وسائل الشر ومسالكه.
ب - وقد يقال: إن المشكلة نشأت من أسباب كثيرة، من قصور بعض القضاة، ومن التوسع في تعيينهم حتى في قرى ربما يكفيها متعلم يقوم بالوعظ والإرشاد وإمامة المسجد وخطبة الجمعة وعقود الأنكحة ونحو ذلك، ومن قضايا جديدة في نوعها ربما يقال: إنها لم يسبق لها نظير، ولم يتبين لها حلول، إلى غير ذلك مما يشابهه.
وعلى هذا يمكن أن يقال: إن الطريق للإصلاح هو:
أولا: إعداد القضاة، والعناية بتأهيلهم علميا، وتدريبهم عمليا على أعمال القضاء ولو بدورات دراسية وتدريبية لمن يحتاج لذلك ممن على رأس العمل إن لم يكن تفريغه لإعداده والنهوض به.(32/55)
ثانيا: تقليل المحاكم وتركيزها في المدن وعواصم المناطق مثلا، ويكتفى بتعيين متعلمين في القرى ليقوموا بشئون المساجد وعقود الأنكحة والوعظ والإرشاد، وكتابة الوثائق ونحو ذلك، ويساعد على هذا سهولة المواصلات اليوم ووجود مرافق في المدن يرتفق بها الغريب، ويستريح فيها - ولو أقام أياما - وهذا مما يسهل على القضاة في المدن الاجتماع للاشتراك في دراسة القضايا وهضمها، ويمنع من رفع قضايا تافهة لأقل الأسباب، ويدعو إلى الصلح في كثير من القضايا، وهو خير من التقاضي واستمرار النزاع حتى يفصل في الخصومة.
ثالثا: حسن اختيار القضاة بمراعاة ما تحلوا به من قوة في العلم ورجاحة عقل وحلم وأناة، وبعد نظر وصدق وأمانة، وبعد عن مظان الريبة، إلى غير ذلك من الصفات الكريمة التي ينبغي أن تتوفر فيمن يولى هذا المنصب، ومما يساعد على سهولة حسن الاختيار ما تقدم من تركيز المحاكم.
رابعا: مراعاة أحوال القضاة في توزيع القضايا عليهم، أو تخصيص كل منهم بنوع منها والاشتراك في القضايا المهمة والتشاور فيما فيه التباس، وهذا يتيسر إذا تم تركيز المحاكم في المدن، وعواصم المناطق.
خامسا: تأليف لجنة من العلماء لبحث المسائل القضائية المعضلة، وإيضاح غامضها وحل مشكلها من جهة تحقيق الحكم فيها، ومن جهة توضيح تطبيقها بأمثلة وخاصة القضايا التي جدت في عصرنا، وليس هذا لإلزام القضاة بما انتهى إليه البحث، بل ليكون عونا لهم في القيام بمهمتهم إن اقتنعوا به، وليكون نموذجا لهم في دراسة القضايا وحل مشكلها والدقة في تطبيقها، وبهذا تضيق شقة الخلاف وتتحقق الدقة في الأحكام إن شاء الله. أما ارتفاع أصل الخلاف فلا سبيل إليه، ولو توحد المرجع العلمي للقضاة باختيار الأقوال الراجحة؛ لما تقدم بيانه من اختلاف الناس في المدارك والأفهام واختلاف أحوال القضايا وما يحيط بها من قرائن وأمارات، فبذلك تختلف أفهامهم للمادة العلمية ويختلف تطبيقهم لما فهموه على ما رفع إليهم من الخصومات.
من هذا يتبين أنه قد لا يكون هناك حل آخر لهذه المشكلة سوى الإلزام.(32/56)
7 - مدى تصرف إمام المسلمين في مجال الإلزام مع أمثلة توضح ذلك:
تمهيد:
لما كان لولي المسلمين العام حق التصرف في أمور كثيرة من شئون الأمة بمقتضى الإمامة الكبرى، والخلافة العامة - رعاية لمصلحة الأمة، وحفظا لكيان الدولة - وجب بيانها ليتبن ما إذا كان منها إلزام القضاة والمفتين أن يحكموا أو أن يفتوا بمذهب معين أو قول معين من أقوال فقهاء الإسلام أو لا.
وحيث إن فقهاء الإسلام قد بحثوا هذه الحقوق وبينوا ما يختص منها بولي الأمر العام وما لا يختص به كان من الضروري ذكر ما قالوه في هذا الأمر ليعرف مصدره من الشريعة، والسر في تخصيص ولاة الأمور ومنحهم إياه، ولنسترشد به فيما نحن بصدده.
وفيما يلي ذكر كلام الفقهاء فيما لهم وما عليهم، وما على الأمة لهم من الحقوق مع الإيجاز والاجتزاء ببعض النقول عن بعض خشية الطول، وبعدا عن التكرار، ولذا أشير إلى المراجع ليرجع إليها في شرح الغامض ومعرفة ما تفرع عنه النقل وما تفرع عليه.
ا- قال القرافي: تصرفه صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى أربعة أقسام: قسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالإمامة كالإقطاع، وإقامة الحدود، وإرسال الجيوش ونحوها، وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالقضاء كإلزام أداء الديون، وتسليم السلع، ونقد الأثمان وفسخ الأنكحة ونحو ذلك.
وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالفتيا كإبلاغ الصلوات وإقامتها، وإقامة المناسك، ونحوها.
وقسم وقع منه صلى الله عليه وسلم مترددا بين هذه الأقسام اختلف العلماء فيه على أيها يحمل وفيه مسائل. . . إلخ.
2 - وقال (1) أيضا: وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فهو وصف زائد على النبوة
__________
(1) الأحكام \ 93.(32/57)
والرسالة والفتيا والقضاء؛ لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق وضبط معاقد المصالح ودرء المفاسد، وقمع الجناة وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد، إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس.
3 - وقال (1) أيضا: فما فعله عليه السلام بطريق الإمامة كقسمة الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامة الحدود، وترتيب الجيوش، وقتال البغاة، وتوزيع الإقطاعات في القرى ونحو ذلك فلا يجوز لأحد الإقدام عليه إلا بإذن إمام الوقت الحاضر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إنما فعله بطريق الإمامة، وما استبيح إلا بإذنه، فكان ذلك شرعا مقررا؛ لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2) .
انتهى ما قاله القرافي، لكن مع ثبوت اختصاص الإمام بالتصرف في هذه الأمور وأمثالها لا يجوز له أن يتصرف فيها بمحض عقله أو هواه، بل يطبق فيها حكم الشريعة، وبذلك لم ينشئ حكما كليا.
4 - وقال (3) أيضا: بل الحاكم من حيث هو حاكم ليس له إلا الإنشاء، وأما قوة التنفيذ فأمر زائد على كونه حاكما، فقد يفوض إليه التنفيذ وقد لا يندرج في ولايته، فصارت السلطة العامة التي هي حقيقة الإمامة مباينة للحكم من حيث هو حكم. انتهى كلام القرافي. يريد بذلك أن القاضي له إصدار الحكم في القضايا الجزئية التي رفعت إليه حسب ما فهمه من الشريعة، ولا يملك التنفيذ إلا إذا أعطاه إياه من له السلطة من ولي الأمر العام ومن في حكمه.
5 - قال (4) الماوردي: والذي يلزمه من الأمور عشرة أشياء:
أحدها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة. . إلخ.
__________
(1) الأحكام \ 95.
(2) سورة الأعراف الآية 158
(3) الأحكام \ 93.
(4) الأحكام السلطانية للماوردي 15 \ 16.(32/58)
الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.
الثالث: حماية البيضة والذب عن الحريم. . إلخ.
الرابع: إقامة الحدود. . إلخ.
الخامس: تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة. . إلخ.
السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة. . إلخ.
السابع: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهادا من غير خوف ولا عسف.
الثامن: تقدير العطايا، وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
التاسع: استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.
العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأموال وتصفح الأحوال. . إلخ.
وقال (1) أيضا: وإذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم، ووجب له عليهم حقان الطاعة والنصرة ما لم يتغير حاله.
6 - وقال (2) القرافي: تصرفات الحكام والأئمة بغير الحكم أنواع كثيرة أنا ذاكر منها إن شاء الله عشرين نوعا، وهي عامة تصرفاتهم فيسلم من الغلط فيها.
1 - العقود كالبيع والشراء في أموال اليتامى. . إلخ.
__________
(1) الأحكام السلطانية \ 17.
(2) الأحكام 177 وما بعدها(32/59)
2 - إثبات الصفات نحو ثبوت العدالة عند حاكم. . إلخ.
3 - ثبوت أسباب المطالبات نحو ثبوت مقدار قيمة المتلف في المتلفات. . إلخ.
4 - إثبات الحجاج الموجبة لثبوت الأسباب الموجبة للاستحقاق نحو كون الحاكم ثبت عنده التحليف ممن تعين الحلف عليه. . إلخ.
5 - إثبات أسباب الأحكام الشرعية نحو الزوال. . إلخ.
6 - الفتاوى في الأحكام في العبادات وغيرها. . إلخ.
7 - تنفيذات الأحكام الصادرة عن الحكام فيما تقدم الحكم فيه من غير المنفذ. . إلخ بأن يقول: ثبت عندي أنه ثبت عند فلان من الحكام كذا وكذا. . إلخ.
8 - تصرفات الحكام بتعاطي أسباب الاستخلاص ووصول الحقوق إلى مستحقيها من الحبس والإطلاق. . إلخ.
9 - التصرف في أنواع الحجاج بأن يقول: لا أسمع البينة لأنك حلفت قبلها مع قدرتك على إحضارها. . إلخ.
10 - تولية النواب عنهم في الأحكام. . . إلخ
11 - إثبات الصفات الموجبة للمكنة من التصرفات في الأموال كالترشيد في الصبيان والبنات.
12 - الإطلاقات من بيت المال وتقدير مقاديرها في كل عطاء. . إلخ.
13 - اتخاذ الأحمية من الأراضي المشتركة بين عامة المسلمين ترعى فيها إبل الصدقة وغيرها. . إلخ.
14 - تأمير الأمراء على الجيوش والسرايا. . إلخ.
15 - تعيين أحد الخصال في الحرابة لعقوبة المحاربين. . إلخ.
16 - تعيين مقدار من التعزير إذا رفع لغيره قبل تنفيذه فرأى خلاف ذلك فله تعيينه وإبطال الأول. . إلخ.
17 - الأمر بقتل الجناة ورد الطغاة إذا لم ينفذ. . إلخ.(32/60)
18 - عقد الصلح بين المسلمين وبين الكفار ليس من المختلف فيه بل جوازه عند سببه مجمع عليه. . إلخ.
19 - عقد الجزية لكفار لا يجوز نقضه ولا تغييره. . إلخ.
20 - تقرير الخراج على الأرضين وما يؤخذ من تجار الحربيين. . إلخ.
7 - وقال (1) أيضا: الضابط الذي يرجع إليه في ترتيب الأحكام على أسبابها من غير حكم حاكم وما يفتقر لحكم الحاكم أن الموجب للافتقار لحكم الحاكم ثلاثة أسباب:
السبب الأول: كون ذلك الحكم يحتاج إلى نظر وتحرير وبذل جهد من عالم بصير حكم عدل في تحقيق سببه ومقدار مسببه وله مثل:
أ- الطلاق بالإعسار.
2 - التعزيرات.
3 - التطليق على المولى.
4 - إذا حلف ليضربن عبده ضربا مبرحا فالقضاء بالعتق عليه يفتقر للحاكم.
السبب الثاني الموجب لافتقار ترتيب الحكم على سببه إلى حكم الحاكم ومباشرة ولاة الأمور: كون تفويضه لجميع الناس يفضي إلى الفتن والشحناء والقتل والقتال وفساد النفس والمال، وله مثل:
1 - الحدود.
2 - قسمة الغنائم.
3 - جباية الجزية وأخذ الخراج من أرض العنوة وغيرها من مال المسلمين.
السبب الثالث: قوة الخلاف مع تعارض حقوق الله تعالى وحقوق الخلق، وله مثل:
__________
(1) الأحكام \ 146 وما بعدها(32/61)
ا- من أعتق نصف عبده لا يكمل عليه بقيته إلا بالحكم.
2 - العتق بالمثلة.
3 - بيع من أعتقه المديان.
فهذه الأسباب الثلاثة هي الموجبة للافتقار للحكام وولاة الأمور، فإذا لم يوجد شيء منها تبع الحكم سببه الشرعي حكم به حاكم أم لا.
ولأجل هذه القاعدة انقسمت الأحكام ثلاثة أقسام:
أ- منها ما يتبع سببه بالإجماع ولا يفتقر الحكم لقوة بعده عن اشتماله على أحد تلك الأسباب الثلاثة الموجبة للافتقار.
2 - ومنها ما يفتقر للحاكم إجماعا للجزم باشتماله على أحد الأسباب الثلاثة أو اثنين منها.
3 - ومنها ما اختلف فيه هل هو من القسم الأول أو من القسم الثاني لما فيه من وجوه الإحالة باشتماله على أحد الأسباب أو عدم اشتماله، فلحصول التردد في الاشتمال حصل التردد في الافتقار.
ثم ذكر أمثلتها.
8 - وقال (1) أيضا في أثناء الكلام على أي شيء ما يفيد الإنسان أهلية أن ينشئ حكما في مواطن الخلاف فيجب تنفيذه ولا يجوز نقضه فهل ذلك لكل أحد أو إنما يكون ذلك لمن حصل له سبب خاص، وما هو ذلك السبب، وهل هو واحد أو أنواع كثيرة.
قال: إنه لا خلاف بين العلماء أن ذلك ليس لكل أحد بل إنما يكون ذلك لمن حصل له سبب خاص وهو ولاية خاصة، ليس كل الولاية تفيد ذلك.
فمن الولايات ما لا يفيد أهلية شيء من الأحكام. ومنها ما يفيد أهلية الأحكام كلها. . إلخ.
وبعد أن ذكر أن الولاية لها طرفان ووسط وأن
__________
(1) الأحكام 156 وما بعدها(32/62)
لها خمس عشرة مرتبة، قال: المرتبة الأولى الإمامة الكبرى فأهلية جميع أنواع القضاء في الأموال والدماء وغيرها جزؤها وهي صريحة في ذلك فتتناول بصراحتها أهلية القضاء، وأهلية السياسة العامة.
9 - وقال (1) أيضا: كيف يمكن أن يقال: إن الله جعل لأحد أن ينشئ حكما على العباد؟ وهل ينشئ الأحكام إلا الله تعالى؟ فهل لذلك نظير وقع في الشريعة، وما يؤنس هذا المكان ويوضحه؟
فأجاب عن هذا السؤال: لا غرو في ذلك ولا نكير، بل الله تعالى قرر الواجبات، والمندوبات والمحرمات، والمكروهات، والمباحات، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله سبحانه وتعالى عليه في كتابه الكريم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) .
ومع ذلك قرر في أصل الشريعة أن للمكلف أن ينشئ الوجوب فيما ليس بواجب في أصل الشرع فينقل أي مندوب شاء فيجعله واجبا عليه، وخصص ذلك بالمندوبات، وخصص الطريق الناقل للمندوبات إلى الواجبات بطريق واحد وهو النذر، فالنذر إنشاء للوجوب في المندوب.
وقرر الله تعالى أيضا الإنشاء للمكلف في صورة أخرى. . له أن ينشئ السببية في المندوبات، والواجبات، والمحرمات، والمكروهات، والمباحات، وما ليس فيه حكم شرط البتة كفعل النائم. . إلخ.
ومع ذلك فلكل مكلف أن يجعل أي ذلك شاء سببا لطلاق امرأته وعتق عبده. . إلخ، فعمم صاحب الشرع في هذا الباب جميع الأشياء في المجعول سببا، وخصص في الطريق المجعول به، فعينه في التعليق، وفي الباب الأول خصص فيهما، فعين المجعول فيه في المندوب، وخصص الطريق بالنذر، فهذا الباب خاص، والأول خاص وعام.
__________
(1) الأحكام 27 \ 28
(2) سورة المائدة الآية 3(32/63)
وإذا تقرر أن الله تعالى جعل لكل مكلف وإن كان عاميا جاهلا الإنشاء في الشريعة لغير ضرورة فأولى أن يجعل الإنشاء للحاكم مع علمهم وجلالتهم؛ لضرورة درء العناد، ودفع الفساد وإخماد النائرة، وإبطال الخصومة. انتهى كلام القرافي.
ليس فيما ذكر من الصورتين إنشاء العبد لحكم شرعي، وضعي أو تكليفي، فإن الذي وقع من العبد في الصورة الأولى مجرد النذر لمندوب، وهو محل للحكم، وليس حكما، والله هو الذي جعل النذر سببا لما بناه عليه سبحانه من الحكم بوجوب الوفاء، وهو الذي جعل القابلية لذلك في المندوب وليس إلى غير الله إنشاء في هذه الثلاثة.
وأما الصورة الثانية: فالذي من العبد التعليق للعتق أو الطلاق مثلا على شيء مما ذكر في هذه الصورة، والتعليق الذي هو فعل العبد محل للحكم وليس حكما، ولا إنشاء للحكم، والله سبحانه الذي عم في المعلق عليه فجعله أيا كان قابلا لأن يكون سببا لترتيب الحكم على تحققه، وعلى ذلك يتبين بطلان ما ذكره من أن الله تعالى جعل لكل مكلف ولو عاميا جاهلا إنشاء الأحكام في الشريعة لغير ضرورة، وبطلان ما رتبه عليه من أن للحكام من باب أولى إنشاء أحكام كلية في الشريعة، وإنما الذي إليهم فهم الشريعة وتطبيقها على الوقائع والقضايا الجزئية كما دلت على ذلك أدلة اختصاص الله بالتشريع.
10 - قال (1) القرافي في الفرق بين المفتي والحاكم، وبين الإمام الأعظم في تصرفاته قال: إن الإمام نسبته إليهما كنسبة الكل لجزئه، والمركب لبعضه، فإن للإمام أن يقضي وأن يفتي كما تقدم، وله أن يفعل ما ليس بفتيا ولا قضاء؛ كجمع الجيوش وإنشاء الحروب، وحوز الأموال، وصرفها في مصارفها، وتولية الولاة وقتل الطغاة، وهي أمور كثيرة
__________
(1) الأحكام \ 32.(32/64)
يختص بها لا يشاركه فيها القاضي ولا المفتي، فكل إمام قاض ومفت، والقاضي، والمفتي لا يصدق عليهما وصف الإمامة الكبرى.
11 - وقال (1) أيضا: وظهر حينئذ أن القضاء يعتمد الحجاج، والفتيا تعتمد الأدلة، وأن تصرف الإمامة الزائد على هذين يعتمد المصلحة الراجحة أو الخالصة في حق الأمة.
__________
(1) الأحكام \ 41.(32/65)
صفحة فارغة(32/66)
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية(32/67)
فتوى رقم 6833
س: ما قول العلماء المهرة الكملة في رجل يخالف النصوص القطعية من القرآن الحكيم والسنة المتواترة، ويقول في جواب من ينصحه ويعظه أن لا بأس مما أفعل ولا حرج، وإذا أراد أن يقضي يقضي بالباطل وخلاف القرآن والحديث، وذلك الحاكم لا يصلي ولا يصوم إلا نادرا ويوالي الكفرة والفسقة وصاحب العقائد الردية، ويحل ما حرمه الله كالنذر لغير الله وشرب الخمر وأكل الربا والرشا والبيوع الفاسدة والباطلة ويستهزئ بأهل الدين العلماء العاملين الناصحين ويقول: إنهم مجانين، ويطلب مع هذا الإمارة بتأليف قلوب الناس إلى نفسه بإهلاك ما في يده من الأموال الفاخرة ويميل الناس إليه لأجل مفادهم من إبراء المجرم وتسجين مخالفهم وتعذيب من لا ذنب له، فبعد فوزه يشفع عند أهل القضاء شفاعة سيئة ليقضي القاضي بإبراء الظالم وتعذيب المظلوم، ويبذر ماله في الوجوه الفاسدة كالماء الجاري في الأنهار، ويأتيه الناس يهنئونه ويغنون ويضربون الطبل سواء كان سيئ العقائد، هل الموالاة لمثل هذا الرجل جائزة في الشريعة المطهرة أم حرام، وهل مثل هذا الرجل مسلم أم خرج من الإسلام؟ بينوا تؤجروا جزاكم الله أحسن الجزاء في دار البقاء. وقد استفتيته للإشاعة في سائر باكستان، فالمطلوب من جنابكم السرعة جزاك الله.
الحمد لله، وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إذا كان الواقع كما ذكر فمن هذه صفته كافر كفرا يخرج من ملة الإسلام لا تجوز موالاته، بل يجب على من هو أهل للنصح والإرشاد أن يقوم بنصحه وإرشاده إلى الحق وإقامة الحجة عليه، فإن أصر على ضلاله وجب على ولي أمر المسلمين عقابه بما يوجبه الشرع.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/68)
من الفتوى رقم 6460
س: هل يكفر الإنسان وعلى لسانه لا إله إلا الله؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: قد يكون الإنسان كافرا عند الله وهو يقول: لا إله إلا الله، وذلك كالمنافق الذي قال لا إله إلا الله بلسانه ولم يؤمن بها قلبه، كعبد الله بن أبي ابن سلول وأشباهه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/69)
من الفتوى رقم 9456
س: ما حكم الإسلام في الصلاة خلف إمام ينكر أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كحديث السحر وحديث نزول عيسى ابن مريم آخر الزمان؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: من أنكر ما ثبت من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كالحديثين المذكورين فهو مبطل ويحكم عليه بالفسق، وقد يحكم عليه بالكفر حسب حاله.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/69)
من الفتوى رقم 9272
س: هل الإكراه بالقول أو الفعل يسوغ إظهار الكفر؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إذا أثبت الإكراه رخص في إظهار الكفر مع اطمئنان قلب المكره بالإيمان؛ لعموم قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (1) .
س: يقول بعض متديني الشباب المعاصر: إن جميع أو غالب من يقع في الشرك في العالم الإسلامي اليوم ليس مشركا؛ لأنه إما عالم جليل أوصله اجتهاده إلى جواز مثل الاستغاثة بغير الله كما فعل السيوطي والنبهاني وغيرهما، وهذا له أجران إذا أصاب وواحد إذا أخطأ، وإما عامي مقلد، وهذا فعل أقصى ما يستطيع.
جـ: المخطئ المعذور من أخطأ في المسائل النظرية الاجتهادية لا من أخطأ فيما ثبت بنص صريح ولا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النحل الآية 106(32/70)
من الفتوى رقم 9406
س: هل دراسة الفلسفة والمنطق والنظريات التي فيها استهزاء بآيات الله(32/70)
يحل الجلوس في أماكن دراستها وهل هذا يدخل ضمن الآية الكريمة: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} (1) .
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد:
ج: إذا كان عالما واثقا من نفسه لا يخشى الفتنة في دينه من قراءتها ولا من مجالسة أهلها وقصد بقراءتها الرد على ما فيها من باطل نصرة للحق جاز له دراستها لذلك وإلا حرم عليه دراستها ومخالطة أهلها بعدا عن الباطل وأهله واتقاء للفتنة
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 140(32/71)
السؤال الأول من الفتوى رقم (9657)
س1: هل يجوز للمسلم أن يستخدم خادما أو سائقا غير مسلم، وإذا كان هذا العامل لا دين له؟
ج1: لا يجوز للمسلم أن يستخدم كافرا كخادم أو سائق أو غير ذلك في الجزيرة العربية؛ لأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- أوصى بإخراج المشركين من هذه الجزيرة، ولما في ذلك من تقريب من أبعده الله، وائتمان من خونه الله، ولما يترتب على الاستخدام من المفاسد الكثيرة. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/71)
من الفتوى رقم 9355
س: الكفار الذين يعملون معنا في الشركات من المسيح والهندوس والنصارى ماذا علينا نحوهم، وكيف يمكننا معاملتهم دون الوقوع في الموالاة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: تدعونهم إلى الإسلام، وتأمرونهم بالمعروف وتنهونهم عن المنكر وتقابلون برهم بالبر، وتستميلونهم بالمعروف إلى الإسلام مع بغض ما هم عليه من الكفر والضلال.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبة وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/72)
فتوى رقم 10523
س: حيث إن طبيعة العمل تستدعي الاحتكاك بالعمالة من مسلمين وغير مسلمين، ونجد أحيانا في الغرفة الواحدة الكفار مع المسلمين، وهذا يتطلب المؤاكلة والمشاربة والاختلاط، فنحس من بعضهم أن هذا شيء عادي ولا يهتم به، ونلمس من آخرين أن قصدهم بالعشرة الطيبة وإظهار الأخلاق الحسنة جذبا لغير المسلمين إلى الإسلام، فأرجو رفع هذا إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز لنعرف الحكم في ذلك. وفق الله الجميع لخدمة الإسلام والمسلمين.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا تجوز موادة الكفار، ولا مخالطتهم مخالطة تنشأ عنها فتنة، أما مؤاكلتهم ومخالطتهم والإحسان إليهم بما يرغبهم في الإسلام فلا بأس به، مع الأمن من الفتنة وعدم المودة.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/73)
فتوى رقم 1177
س: شخص مؤمن موحد مخلص العبادة لله وحده لا يشرك معه غيره، ومع ذلك يسكن مع جماعات الكفار ولا يستطيع أن يجهر بدينه أو يوضح هدفه، ولا يستطيع الهجرة منها، تكلم عن حالة هذا الرجل.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إذا كان حال هذا المؤمن كما ذكرت من عجزه عن الجهر بالتوحيد ونشر الإسلام وبيان أهدافه وأنه يعيش بين أظهر الكفار ولا يستطيع الهجرة(32/73)
إلى بلد يعلن فيه دينه ويدعو إليه فهو معذور، وعسى الله أن يعفو عنه، وعليه أن يتحين الفرصة للدعوة إلى الدين سرا، فعسى الله أن يهيئ له من يستجيب له ويسانده، وعليه أيضا أن يتحين الفرصة للخلاص والهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين، ويجتهد في ذلك ليكثر سواد المسلمين وليتعاون معهم على إقامة شعائر الإسلام.
أما من يقوى على الهجرة إلى بلاد الإسلام ولم يهاجر ورضي لنفسه أن يعيش في بلاد الكفار مكبوتا أو مجاملا على حساب دينه فقد أساء إلى نفسه ودينه والمسلمين، وهو متوعد بأن مأواه جهنم وبئس المصير، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1) {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} (2) {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا} (3) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة النساء الآية 97
(2) سورة النساء الآية 98
(3) سورة النساء الآية 99(32/74)
فتوى رقم 10684
س: ما هو الحد الفاصل بين الكفر والإسلام، وهل من ينطق بالشهادتين ثم يأتي بأفعال تناقضهما يدخل في عداد المسلمين رغم صلاته وحياته؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:(32/74)
جـ: الحد بين الكفر والإسلام النطق بالشهادتين مع الصدق والإخلاص والعمل بمقتضاهما، فمن تحقق فيه ذلك فهو مسلم مؤمن، أما من نافق فلم يصدق ولم يخلص فليس بمؤمن، وكذا من نطق بهما وأتى بما يناقضهما من الشرك، مثل من يستغيث بالأموات في الشدة أو الرخاء، ومن يؤثر الحكم بالقوانين الوضعية على الحكم بما أنزل الله تعالى، ومن يهزأ بالقرآن أو ما ثبت من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا كافر وإن نطق بالشهادتين وصلى وصام.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/75)
اتخاذ المسيحيين إخوانا
فتوى رقم (5930) :
س: هل يمكن أن نعتبر المسيحيين إخواننا مثل المسلمين تماما دون تفرقة؟
ج: يحرم اتخاذ المسيحيين إخوانا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (2) فحصر سبحانه الأخوة الحقيقية في المؤمنين، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره (3) » الحديث.
__________
(1) سورة المائدة الآية 51
(2) سورة الحجرات الآية 10
(3) أحمد (2 / 68، 277، 360) ، والبخاري برقم [فتح الباري] (2442، 6951) ، ومسلم برقم (2580، 2564) ، وأبو داود برقم (4893) ، والترمذي برقم (1426، 1928) .(32/75)
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/76)
من الفتوى رقم 6901
س: ما هي حدود الموالاة التي يكفر صاحبها وتخرجه من الملة، حيث نسمع أن من أكل مع المشرك أو جلس معه أو استضاء بنوره ولو برى لهم قلما أو قدم لهم محبرة فهو مشرك، وكثيرا ما نتعامل مع اليهود والنصارى نتيجة التواجد والمواطنة في مكان واحد، فما هي حدود الموالاة المخرجة من الملة، وما هي الكتب الموضحة ذلك بالتفصيل، وهل الموالاة من شروط لا إله إلا الله؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: موالاة الكفار التي يكفر بها من والاهم هي محبتهم ونصرتهم على المسلمين لا مجرد التعامل معهم بالعدل ولا مخالطتهم لدعوتهم للإسلام ولا غشيان مجالسهم والسفر إليهم للبلاغ ونشر الإسلام.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/76)
فتوى رقم 2540
س: من فضلك يا شيخنا العزيز قد دخل بيني وبين إخواني المسلمين مناقشة دين الإسلام، وهي أن بعض المسلمين في غانا يعظمون عطلات اليهود والنصارى ويتركون عطلاتهما حتى كانوا إذا جاء وقت العيد لليهود والنصارى(32/76)
يعطلون المدارس الإسلامية بمناسبة عيدهم وإن جاء عيد المسلمين لا يعطلون المدارس الإسلامية ويقولون: إن تتبعوا عطلات اليهود والنصارى سوف يدخلون دين الإسلام. يا شيخنا العزيز عليك أن تفهم لنا أفعلتهم هل هي صحيحة في الدين أم لا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
ج: أولا: السنة إظهار الشعائر الدينية الإسلامية بين المسلمين، وترك إظهارها مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت عنه أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضو اعليها بالنواجذ (1) » الحديث.
ثانيا: لا يجوز للمسلم أن يشارك الكفار في أعيادهم ويظهر الفرح والسرور بهذه المناسبة ويعطل الأعمال سواء كانت دينية أو دنيوية؛ لأن هذا من مشابهة أعداء الله المحرمة، ومن التعاون معهم على الباطل، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم (2) » والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) . وننصحك بالرجوع إلى كتاب [اقتضاء الصراط المستقيم] لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه مفيد جدا في هذا الباب.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن ابن ماجه المقدمة (44) ، مسند أحمد بن حنبل (4/126) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) أحمد (2 / 50، 92) ، وأبو داود برقم (4031) ، وابن أبي شيبة في [المصنف] (5 / 313) ، وعبد بن حميد في [المنتخب] برقم (846) ، وأبو يعلى في مسنده كما في [الكنز] (4 / 287) ، والطبراني في [الكبير] ، كما في [مجمع الزوائد] (5 / 267) ، وانظر [اقتضاء الصراط المستقيم] لشيخ الإسلام (1 / 236) .
(3) سورة المائدة الآية 2(32/77)
من الفتوى رقم (3326) :
س: ما حكم من يعطل مدرسته يوم السبت والأحد، ويقرأ فيها يوم الخميس والجمعة، وهل يجوز أن يؤم المسلمين في الصلاة أو لا؟
ج3: لا يجوز تخصيص يوم السبت أو الأحد بالعطلة أو تعطيلهما جميعا؛ لما في ذلك من مشابهة اليهود والنصارى، فإن اليهود يعطلون يوم السبت والنصارى يعطلون يوم الأحد؛ تعظيما لهما، وقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم (1) » رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وسنده جيد، فهذا الحديث فيه النهي عن التشبه بغير جماعة المسلمين، فيدخل فيه النهي عن التشبه باليهود والنصارى عموما في كل ما هو من سماتهم، ومن ذلك تعطيل اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد، ولا مانع من أن يؤم المسلمين في الصلاة إذا لم يكن فيه مانع سوى ما ذكر، مع نصيحته وتحذيره من التشبه بأعداء الله في أعيادهم وغيرها.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) انظر الفتوى رقم (2540) ص (72) .(32/78)
من الفتوى رقم 9254
س: الاحتفالات الوطنية الأرجنتينية التي تقام في كنائسهم كعيد الاستقلال، الاحتفالات النصرانية العربية كعيد الفصح. فما حكم الاستقبال لبعض رجال الدين النصراني؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا تجوز إقامتها من المسلمين ولا حضورها ولا المشاركة فيها مع النصارى لما في ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان، وقد نهى الله عن ذلك. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/79)
فتوى رقم 8848
س: هل يجوز للمسلم أن يشارك مع المسيحيين في أعيادهم المعروفة بالكريسماس التي تنعقد آخر شهر ديسمبر أم لا؟ عندنا بعض الناس ينسبون لهم مناسبة بالعلم لكنهم يجلسون في مجالس المسيحيين في عيدهم ويقولون بجوازه، فقولهم هذا صحيح أم لا؟ وهل لهم دليل شرعي على جوازه أم لا؟
الحمد لله وحده، الصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا تجوز مشاركة النصارى في أعيادهم، ولو شاركهم فيها من ينتسب إلى العلم لما في ذلك من تكثير عددهم والإعانة على الإثم، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) الآية.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(32/79)
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/80)
من الفتوى رقم 6397
س: مشاركة المسلم في الاحتفالات التي يقيمها البوذيون لموتاهم:
(أ) الحضور عند حرق الجثة.
(ب) التبرع لمثل هذه الحفلات في حالة عدم الحضور.
(ب) تقديم الأزهار السوداء لأهل الميت.
(د) تعليق شارة سوداء على الذراع أو وضع رباط أسود في العنق.
(هـ) زيارة أهل الميت في بيته وتقديم العزاء لهم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا يجوز فعل شيء من ذلك، بل فعله حرام لما في ذلك من مشاركة الكفرة وإعانتهم على ما لا يجوز في الإسلام.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن حسن بن قعود ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/80)
فتوى رقم 2234
س1: هل يصح في الشريعة الإسلامية أن يعبد أتباع أديان مختلفة تحت سطح واحد؟
س 2: هل يصح في بناء واحد وكل قسم محجوز لأتباع كل دين؟(32/80)
س3: ماذا يقول الإسلام عن اختلاط النساء والرجال، وذلك فيما يقال عنه مناقشات وتفاهم في المسائل الدينية؟
س4: هل يصح لغير المسلم أن يبني ما يتخذ مسجدا ويديره؟
س5: هل يجوز إنفاق مسلم للبناء مثل ما ذكر أعلاه؟
س6: هل يجوز لغير المسلمين الإنفاق على مشاريع الإسلام كالمساجد والمدارس؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: شريعة الإسلام شريعة عامة للإنس والجن وهذا مجمع عليه بحمد الله، ومن زعم أن اليهود على حق وأن النصارى على حق سواء أكان منهم أو من غيرهم فهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة بل مرتد عن الإسلام إن كان يدعي الإسلام، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (1) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (2) وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (3) وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (4) وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} (5) {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} (6) {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (7) {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (8) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 19
(2) سورة سبأ الآية 28
(3) سورة الفرقان الآية 1
(4) سورة آل عمران الآية 85
(5) سورة الأحقاف الآية 29
(6) سورة الأحقاف الآية 30
(7) سورة الأحقاف الآية 31
(8) سورة الأحقاف الآية 32(32/81)
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} (2) وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (3) » . وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (4) » .
ثانيا: إذا تمكن المسلمون من تخصيص محل لهم يجعلونه مسجدا ولا يكون في بناء مشترك مع أتباع الأديان الأخرى تعين عليهم ذلك وإلا فيعبدون الله في المكان الذي يمكنهم ولو كانوا هم وأتباع الأديان الأخرى تحت سقف واحد سواء كان محجوزا أو غير محجوز؛ لقوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (5) .
ثانيا: اختلاط الرجال بالنساء من الأمور الخطيرة، وقد صدر في ذلك فتوى سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله هذا نصها:
اختلاط الرجال بالنساء له ثلاث حالات:
الأولى: اختلاط النساء بمحارمهن من الرجال، وهذا لا إشكال في جوازه.
الثانية: اختلاط النساء بالأجانب لغرض الفساد، وهذا لا إشكال في تحريمه.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة البينة الآية 6
(3) أحمد 2 \ 412. والبخاري برقم 335 و 438 و 3122، ومسلم برقم 523، والترمذي برقم 1553 والنسائي في المجتبى 1 \ 210 والدارمي في السنن برقم 1396 بألفاظ مختلفة
(4) أحمد 2 \ 317 و 350 و 4 \ 396 و 298 ومسلم برقم 152 وابن مردويه كما في الدر المنثور 3 \ 325 والحاكم في المستدرك 2 \ 342.
(5) سورة التغابن الآية 16(32/82)
الثالثة: اختلاط النساء بالأجانب في دور العلم والحوانيت والمكاتب والمستشفيات والحفلات ونحو ذلك، فهذا في الحقيقة قد يظن السائل في بادئ الأمر أنه لا يؤدي إلى افتتان كل واحد من النوعين بالآخر، ولكشف حقيقة هذا القسم فإننا نجيب عنه عن طريق مجمل ومفصل: أما المجمل فهو أن الله تعالى جبل الرجال على القوة والميل إلى النساء، وجبل النساء على الميل إلى الرجال مع وجود ضعف ولين، فإذا حصل الاختلاط نشأ عن ذلك آثار تؤدي إلى حصول الغرض السيئ، لأن النفس أمارة بالسوء والهوى يعمي ويصم والشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر.
وأما المفصل: فالشريعة مبنية على المقاصد ووسائلها، ووسائل المقصود الموصلة إليه لها حكمه، فالنساء مواضع قضاء وطر الرجال وقد سد الشارع الأبواب المفضية إلى تعلق كل فرد من أفراد النوعين بالآخر، وينجلي ذلك بما نسوقه لك من الأدلة من الكتاب والسنة.
أما الأدلة من الكتاب فستة:
الدليل الأول: قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (1) وجه الدلالة: أنه لما حصل اختلاط بين امرأة عزيز مصر وبين يوسف عليه الصلاة والسلام ظهر منها ما كان كامنا فطلبت منه أن يواقعها ولكن أدركه الله برحمته فعصمه منها وذلك في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (2) . وكذلك إذا حصل اختلاط الرجال بالنساء اختار كل من النوعين من يهواه من النوع الآخر وبذل بعد ذلك الوسائل للحصول عليه.
الدليل الثاني: أمر الله الرجال بغض البصر وأمر النساء بذلك فقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (3) {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (4) الآية.
__________
(1) سورة يوسف الآية 23
(2) سورة يوسف الآية 34
(3) سورة النور الآية 30
(4) سورة النور الآية 31(32/83)
وجه الدلالة من الآيتين أنه أمر المؤمنين والمؤمنات بغض البصر، وأمره يقتضي الوجوب، ثم بين تعالى أن هذا أزكى وأطهر ولم يعف الشارع إلا عن نظر الفجأة؛ فقد روى الحاكم في المستدرك عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة (1) » قال الحاكم بعد إخراجه: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وبمعناه عدة أحاديث.
وما أمر الله بغض البصر إلا لأن النظر إلى من يحرم النظر إليهن زنا، فروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطو (2) » متفق عليه واللفظ لمسلم، وإنما كان زنا لأنه تمتع بالنظر إلى محاسن المرأة ومؤد إلى دخولها في قلب ناظرها فتعلق في قلبه فيسعى إلى إيقاع الفاحشة بها، فإذا نهى الشارع عن النظر إليها لما يؤدي إليه من المفسدة وهو حاصل في الاختلاط فكذلك الاختلاط ينهى عنه لأنه وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه من التمتع بالنظر والسعي إلى ما هو أسوأ منه.
الدليل الثالث: الأدلة التي سبقت في أن المرأة عورة ويجب عليها التستر في جميع بدنها؛ لأن كشف ذلك أو شيء منه يؤدي إلى النظر إليها، والنظر إليها يؤدي إلى تعلق القلب بها ثم تبذل الأسباب للحصول عليها، وكذلك الاختلاط.
__________
(1) أحمد في المسند رقم 1369 و 1373 و 5 \ 353 و 357 والدارمي في السنن 2 \ 298 والحاكم في المستدرك 3 \ 123 و 2 \ 194 وأبو داود برقم 2149 والترمذي برقم 2777 والبيهقي في السنن 7 \ 90 وابن أبي شيبة في المصنف 2 \ 324.
(2) أحمد 2 \ 276 و 317 و 329 و 344 و 372 و 359 و 411 و 528 و 535 و 536 والبخاري برقم 6612 ومسلم برقم 2657 وأبو داود برقم 2152.(32/84)
الدليل الرابع: قال تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (1) .
وجه الدلالة أنه تعالى منع النساء من الضرب بالأرجل وإن كان جائزا في نفسه؛ لئلا يكون سببا إلى سمع الرجال صوت الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن، وكذلك الاختلاط يمنع لما يؤدي إليه من الفساد.
الدليل الخامس: قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (2) فسرها ابن عباس وغيره: هو الرجل يدخل على أهل البيت بيتهم ومنهم المرأة الحسناء وتمر به فإذا غفلوا لحظها فإذا فطنوا غض بصره عنها فإذا غفلوا لحظ فإذا فطنوا غض وقد علم الله من قلبه أنه ود لو اطلع على فرجها وأنه لو قدر عليها لزنى بها.
وجه الدلالة أن الله تعالى وصف العين التي تسارق النظر إلى ما لا يحل النظر إليه من النساء بأنها خائنة فكيف بالاختلاط إذن؟!
الدليل السادس: أنه أمرهن بالقرار في بيوتهن، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (3) . وجه الدلالة أن الله تعالى أمر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاهرات المطهرات الطيبات بلزوم بيوتهن وهذا الخطاب عام لغيرهن من نساء المسلمين لما تقرر في علم الأصول أن خطاب المواجهة يعم إلا ما دل الدليل على تخصيصه وليس هناك دليل يدل على الخصوص، فإذا كن مأمورات بلزوم البيوت إلا إذا اقتضت الضرورة خروجهن فكيف يقال بجواز الاختلاط على نحو ما سبق، على أنه كثر في هذا الزمان طغيان النساء وخلعهن جلباب الحياء واستهتارهن بالتبرج والسفور عند الرجال الأجانب والتعري عندهم وقل الوازع ممن أنيط به الأمر من أزواجهن وغيرهم.
__________
(1) سورة النور الآية 31
(2) سورة غافر الآية 19
(3) سورة الأحزاب الآية 33(32/85)
وأما الأدلة من السنة فإننا نكتفي بذكر عشرة أدلة:
(1) روى الإمام أحمد في المسند بسنده عن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي رضي الله عنها أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «يا رسول الله إني أحب الصلاة معك قال: قد علمت أنك تحبين الصلاة معي وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي (1) » . قال: فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها وأظلمه فكانت والله تصلي فيه حتى ماتت.
وروى ابن خزيمة في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن أحب صلاة المرأة إلى الله في أشد مكان من بيتها ظلمة (2) » .
وبمعنى هذين الحديثين عدة أحاديث تدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد.
وجه الدلالة: أنه إذا شرع في حقها أن تصلي في بيتها وأنه أفضل حتى من الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه فلأن يمنع الاختلاط من باب أولى.
(2) ما رواه مسلم والترمذي وغيرهما بأسانيدهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها (3) » قال الترمذي بعد إخراجه: حديث صحيح. وجه الدلالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم شرع للنساء إذا أتين إلى المسجد فإنهن ينفصلن عن المصلين على حدة ثم وصف أول صفوفهن بالشر والمؤخر
__________
(1) أحمد 6 \ 371 وابن خزيمة في الصحيح برقم 1689 وابن حبان في الصحيح 2217 وابن أبي شيبة 2 \ 282 و 385
(2) ابن خزيمة برقم 1691 و 1692 والطبراني في المعجم 2 \ 35
(3) مسلم برقم 440 وأبو داود برقم 678 والترمذي برقم 224 والنسائي في المجتبى برقم 821 وابن ماجه في السنن برقم 1000 وابن خزيمة في الصحيح برقم 1693 والدارمي في السنن برقم 1272.(32/86)
منهن بالخير، وما ذلك إلا لبعد المتأخرات من الرجال عن مخالطتهم ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم وذم أول صفوفهن لحصول عكس ذلك، ووصف آخر صفوف الرجال بالشر إذا كان معهم نساء في المسجد لفوات التقدم والقرب من الإمام وقربه من النساء اللائي يشغلن البال، وربما أفسدن عليه العبادة وشوشن النية والخشوع، فإذا كان الشارع توقع حصول ذلك في مواطن العبادة مع أنه لم يحصل اختلاط وإنما هو مقاربة ذلك فكيف إذا وقع الاختلاط.
(3) روى مسلم في صحيحه عن زينب زوجة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا (1) » .
وروى أبو داود في سننه والإمام أحمد والشافعي في مسنديهما بأسانيدهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات (2) » .
قال ابن دقيق العيد: "فيه حرمة التطيب على مريدة الخروج إلى المسجد لما فيه من تحريك داعية الرجال وشهوتهم، وربما يكون سببا لتحريك شهوة المرأة أيضا. . قال: ويلحق بالطيب ما في معناه كحسن الملبس والحلي الذي يظهر أثره، والهيئة الفاخرة، قال الحافظ ابن حجر: وكذلك الاختلاط بالرجال، وقال الخطابي في معالم السنن: التفل سوء الرائحة يقال امرأة تفلة إذا لم تتطيب ونساء تفلات) (3) .
(4) روى أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تركت
__________
(1) أحمد 6 \ 363 ومسلم برقم 443 وابن خزيمة برقم 1680 وابن حبان في صحيحه برقم 1212 و 2215.
(2) أحمد 2 \ 475 و 5 \ 192 و 193 وأبو داود برقم 565 وابن خزيمة في الصحيح برقم 1679 والدارمي برقم 1282 وابن حبان برقم 2211 و 2214.
(3) إحكام الأحكام 2 \ 139.(32/87)
بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء (1) » . رواه البخاري ومسلم.
وجه الدلالة: أنه وصفهن بأنهن فتنة على الرجال فكيف يجمع بين الفاتن والمفتون؟! هذا لا يجوز.
(5) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء (2) » . رواه مسلم. وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتقاء النساء وهو يقتضي الوجوب، فكيف يحصل الامتثال مع الاختلاط، هذا لا يمكن، فإذا لا يجوز الاختلاط.
(6) روى أبو داود في السنن والبخاري في الكنى بسنديهما عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى أن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به (3) » . هذا لفظ أبي داود، قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث": (يحققن الطريق أن يركبن حقها وهو وسطها) .
وجه الدلالة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا منعهن من الاختلاط في الطريق لأنه يؤدي إلى الافتتان فكيف يقال بجواز الاختلاط في غير ذلك.
(7) روى أبو داود الطيالسي في سننه وغيره عن نافع عن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بنى المسجد جعل بابا للنساء وقال: «لا يلج
__________
(1) أحمد 5 \ 200 و 210 والبخاري برقم 5069 ومسلم برقم، 3740 و 2741 والنسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف 1 \ 49 وابن ماجه برقم 3998 والبيهقي في السنن 7 \ 91 والترمذي برقم 2780.
(2) أحمد 3 \ 19 و 22 و 61 ومسلم برقم 2742 والبيهقي 7 \ 91 والترمذي برقم 2191 وابن ماجه برقم 4000 وابن خزيمة برقم 1499.
(3) أبو داود برقم 5272.(32/88)
من هذا الباب من الرجال أحد» وروى البخاري في التاريخ الكبير له عن ابن عمر رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تدخلوا المسجد من باب النساء (1) » . وجه الدلالة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع اختلاط الرجال بالنساء في أبواب المساجد دخولا وخروجا ومنع أصل اشتراكهما في أبواب المسجد سدا لذريعة الاختلاط فإذا منع الاختلاط في هذه الحالة ففيما سوى ذلك من باب أولى.
(8) روى البخاري في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته قام النساء حين يقضي تسليمه ومكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكانه يسيرا (2) » . .
وفي رواية ثانية له: كان يسلم فتنصرف النساء فيدخلن بيوتهن من قبل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية ثالثة: «كن إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال (3) » .
وجه الدلالة: أنه منع الاختلاط بالفعل، وهذا فيه تنبيه على منع الاختلاط في غير هذا الموضع.
(9) روى الطبراني في المعجم الكبير عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير من أن يمس امرأة لا تحل له (4) » .
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: رجاله ثقات.
(10) وروى الطبراني أيضا من حديث أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي
__________
(1) البخاري في التاريخ الكبير 1 \ 60 وأبو داود يرقم 462 والطيالسي في السنن برقم 1829.
(2) البخاري برقم 849 وأبو داود برقم 1040 والنسائي في المجتبى 3 \ 67 وابن ماجه في السنن برقم 919
(3) صحيح البخاري الأذان (866) ، سنن النسائي السهو (1333) ، سنن أبو داود الصلاة (1040) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (932) ، مسند أحمد بن حنبل (6/316) .
(4) الطبراني في الكبير 2 \ 213 وابن أبي شيبة في المصنف 4 \ 341 موقوف.(32/89)
صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لأن يزحم رجل خنزيرا متلطخا بطين وحمأة خير له من أن يزحم منكبه منكب امرأة لا تحل له (1) » .
وجه الدلالة من الحديثين: أنه صلى الله عليه وسلم منع مماسة الرجل للمرأة بحائل وبدون حائل إذا لم يكن محرما لها لما في ذلك من الأثر السيئ، وكذلك الاختلاط يمنع لذلك، فمن تأمل ما ذكرناه من الأدلة تبين له أن القول بأن الاختلاط لا يؤدي إلى فتنة إنما هو بحسب تصور بعض الأشخاص وإلا فهو في الحقيقة يؤدي إلى فتنة، ولهذا منعه الشارع حسما لمادة الفساد، ولا يدخل في ذلك ما تدعو إليه الضرورة وتشتد الحاجة إليه ويكون في مواضع العبادة كما يقع في الحرم المكي والحرم المدني. نسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين وأن يزيد المهتدي منهم هدى وأن يوفق ولاتهم لفعل الخيرات وترك المنكرات والأخذ على أيدي السفهاء إنه سميع قريب مجيب.
رابعا: يصح لغير المسلم أن يبني ما يتخذ مسجدا، وإذا أمكن أن يكون تحت إدارة مسلم تعين ذلك وإلا فيجوز أن يديره من بناه ولو كان كافرا.
خامسا: يستحب للمسلم أن ينفق من ماله في بناء المساجد ونحوها من المشاريع الخيرية بل ذلك من القرب العظيمة إذا كان ذلك من غير الزكاة أما الزكاة فلا تصرف إلا في مصارفها الثمانية.
سادسا: يجوز لغير المسلمين أن ينفقوا على مشاريع الإسلام كالمساجد والمدارس إذا كان لا يترتب عليه ضرر على المسلمين أكثر من النفع.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الطبراني في مجمع الزوائد 4 \ 326 وقال: فيه علي بن يزيد وهو ضعيف جدا.(32/90)
من الفتوى رقم 2677
س: ما هي الطريقة المثلى لمعاملة الذمي، وهل نعامله معاملة عادية؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: الطريقة المثلى في معاملة المسلمين للذمي الوفاء له بذمته للآيات والأحاديث التي أمرت بالوفاء بالعهد وبره ومعاملته بالعدل، لقوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) ولين القول معه والإحسان إليه عموما إلا فيما منع منه الشرع كبدئه بالسلام وتزويجه المسلمة وتوريثه من المسلم ونحو ذلك مما ورد النص بمنعه، وارجع في تفصيل الموضوع إلى كتاب "أحكام أهل الذمة" للعلامة ابن قيم الجوزية، رحمه الله وكلام غيره من أهل العلم في ذلك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 8(32/91)
من الفتوى رقم 6541
س: هل تجوز زيارة الأقارب الذين يحبون الكفار؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إذا كان من يزورهم ينصحهم ويرشدهم إلى ترك ما هم عليه من محبة الكفار ويشرح لهم معنى الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين ليعرفوا ما يجب عليهم في ذلك وما يحرم فيرجى تمسكهم بدينهم وتركهم ما هم عليه(32/91)
من المنكر، جاز له زيارتهم بل قد تجب عليه من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا آكد في حق الأقارب؛ لأنه صلة للرحم وبلاغ للشرع، وإذا كان لا يقوم بذلك في زيارته لهم فلا يجوز له زيارتهم.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/92)
من الفتوى رقم 8097
س: لدينا في منطقة العمل بعض المسيحيين العرب يصادف أن يوجهوا إلينا الدعوة أحيانا لزيارتهم فهل تجوز زيارتهم وهل تجوز دعوتهم لزيارتنا.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: إذا كان القصد من زيارتكم لهم في مساكنهم ودعوتكم لهم لزيارتكم دعوتهم إلى دين الإسلام ونصيحتهم فالدعوة إلى الإسلام غاية نبيلة، ودعوتهم وزيارتهم في محلهم وسيلة لتحقيق هذه الغاية النبيلة، والوسائل لها حكم الغايات.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/92)
فتوى رقم 5855
س. نحن نعيش في استراليا، واستراليا بلد يقول عن نفسه: إنه علماني غير ديني مع حرية الاعتقاد لكل الأديان وغير الأديان، ومع ذلك نرى الإعلام الإذاعي والتلفزيوني مكسوا بغلال مسيحية يهودية يمكن لأي مدقق أن يراها(32/92)
ظاهرة والمسلمون يمثلون واحدا من كل (اثنين وثلاثين) من سكان البلاد، ونحن كمسلمين نضطر أحيانا للدخول إلى مراكزهم وأماكن العبادة، وقد يضطر المرء أحيانا أن يحضر الجنازات (صلاة الميت) على روح أحد الأصدقاء أو المسئولين أو ما شابه ذلك، مما تفرضه ظروف العمل أو المسئولية، وقد يدخل أحد هؤلاء بيوتنا ويجلس إلى موائدنا بل وقد يسألنا أن ندعه ينظر إلى داخل المسجد ويتجول به (طبعا ضمن الآداب الإسلامية من خلع حذاء أو وضع غطاء على الرأس بالنسبة للمرأة) فما هو الحكم الشرعي في تلك الأمور:
(1) دخولنا بيوتهم.
(2) حضورنا مراسيمهم الدينية.
(3) مشاركتهم في الأعمال التجارية.
(4) دخولهم بيوتنا.
(5) دخولهم أماكن عبادتنا.
(6) هل يمكن لهم أن يتكلموا في مساجدنا بإلقاء كلمة.
(7) هل يمكن لهم إلقاء كلمة في احتفالاتنا خارج المسجد في قاعة للمحاضرات.
(8) هل يمكن لنا أن نلتقي معهم (يهود ونصارى) في لقاء عام تنظمه الدولة الإسترالية أو إحدى مؤسسات الدولة وكل منا يتكلم عن ناحية خاصة من نواح دينيه مثلا (عن السلام في الأديان) ، الرحمة في الأديان، معنى العبادة في الأديان. . وهكذا.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: يجوز أن تدخلوا بيوتهم تأليفا لقلوبهم وللنصح لهم وإرشادهم ونحو ذلك من المصالح لا بدافع المودة والولاء لهم.
ثانيا: لا يجوز أن تحضروا مراسيمهم الدينية فإن في ذلك إشعارا باعتبارها والرضا بها والتعظيم لها كما أن في ذلك تكثيرا لسوادهم في الاجتماع لإقامة شعائرهم الدينية.(32/93)
ثالثا: تجوز مشاركتهم في الأعمال التجارية المباحة إذا أمن من يشاركهم من المسلمين غشهم وتعاملهم بما حرم الله من الربا والقمار والغرر ونحو ذلك ولكن ترك مشاركتهم في التجارة خير وأولى بعدا عن موارد الريبة ومواقع التهم والظنون والخطر.
رابعا: يجوز أن نأذن لهم في زيارتنا في بيوتنا مع الأمن من الفتنة والمحافظة على حرمات الأسرة ما دام في ذلك تأليف لقلوبهم والنصح والإرشاد عسى أن يجدوا في حسن المعاملة ومراعاة آداب الزيارة سماحة الإسلام فيستجيبوا للنصيحة ويدخلوا في الإسلام، قال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) .
خامسا: لا يجوز أن يدخلوا المسجد الحرام ولا حرم مكة ولا يجوز للمسلمين أن يمكنوهم من ذلك ويجوز أن يدخلوا الأماكن الأخرى المعدة للعبادة لسماع المواعظ والمحاضرات الإسلامية عسى الله أن يجعل بيننا وبينهم مودة ويرقق قلوبهم وأن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم.
سادسا: لا يجوز أن نمكنهم من إلقاء كلمات أو محاضرات في مساجد المسلمين فإنهم لا يؤمن جانبهم أن يثيروا شكوكا أو يلحدوا في دين الله أو يكسبوا وجاهة من ذلك في نظر الحاضرين فتكون فتنة وفساد كبير، وكذا الحكم في إلقائهم كلمات أو محاضرات في مجامعنا ومحافلنا الخاصة بالمسلمين لما تقدم بيانه من الأسباب.
سابعا: يجوز أن نجتمع بالكافرين في مجامع عامة أسستها الدولة وقامت بتنظيمها للمناظرات والندوات العلمية وإلقاء المحاضرات في الشئون الدينية على
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 8
(2) سورة الممتحنة الآية 9(32/94)
أن يقوم من حضر من علماء المسلمين ببيان عقائد الإسلام وأركانه وآدابه ويدفع ما يثيره من حضر من أهل الأديان الأخرى من شبهات حول الإسلام ويفند مقالاتهم التي يشوهون بها الإسلام، إلى غير ذلك مما فيه نصر للحق ودفاع عنه، أما من يخشى عليه من الفتنة في دينه لجهله أو ضعف استعداده وتفكيره أو لقلة معلوماته عن دينه من المسلمين فلا يجوز له الحضور في هذه المجامع وأمثالها حفظا له من الفتن وخوفا عليه أن تداخله الريب والشكوك.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/95)
من الفتوى رقم 8691
س: ما كيفية التعامل مع النصراني المجاور في السكن أو في المدرسة وهل أزوره وأهنئه في أعيادهم؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: يجوز التعامل مع النصراني المجاور بالإحسان إليه ومساعدته في الأمور المباحة والبر به وزيارته لدعوته إلى الله تعالى لعل الله أن يهديه للإسلام، وأما حضور أعيادهم وتهنئتهم بها فلا يجوز ذلك لقول الله سجانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) لأن حضور أعيادهم والتهنئة نوع من الموالاة المحرمة وهكذا اتخاذهم أصدقاء.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(32/96)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/97)
من الفتوى رقم (6582) :
س1: ما حكم الدين في تغيير جنسية الفرد سواء كان هذا التغيير من بلد عربي مسلم إلى بلد عربي مسلم آخر وكذلك من بلد عربي مسلم إلى بلد أوروبي مع الاحتفاظ بعقيدته السمحاء وهي الإسلام؟
ج1: انتقال المسلم من جنسية دولته المسلمة إلى جنسية دولة أخرى مسلمة يجوز، أما انتقال مسلم من جنسية دولته المسلمة إلى جنسية دولة كافرة فلا يجوز.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.(32/101)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/102)
من الفتوى رقم 6495
س: ما حكم تجنس الكافر بجنسية دولة مسلمة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: تجنس الكافر بجنسية دولة مسلمة جائز، إذا أمنت منه الفتنة ورجح فيه الخير، لكن لا يسمح له بالإقامة بالجزيرة العربية إلا إذا اعتنق الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: أوصى بإخراج المشركين من جزيرة العرب (1) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) أحمد 1 \ 222 والبخاري برقم 3168 ومسلم برقم 1637 والدارمي برقم 2501.(32/103)
فتوى رقم 3262
س 1: يدعوني بعض زملائي في الدراسة من النصارى إلى بيته لتناول الأطعمة فهل يجوز لي أن آكل منها إذا ثبت أنها حلال في نفسها شرعا؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:(32/103)
ج1: نعم يجوز أن تأكل مما يقدمه لك زميلك النصراني من الطعام سواء كان ذلك في بيته أو غيره إذا ثبت لديك أن هذا الطعام ليس بمحرم في نفسه أو جهل حاله؛ لأن الأصل في ذلك الجواز حتى يدل دليل على المنع، وكونه نصرانيا لا يمنع من ذلك؛ لأن الله تعالى أباح لنا طعام أهل الكتاب.
س 2: هل يجوز لي أن أضع بين أيديهم كتبا تشتمل على آيات كريمة تثبت وحدانية الله تعالى مكتوبة بالعربية ومترجمة معانيها إلى اللغة الإنجليزية؟
جـ 2: نعم يجوز أن تضع بين أيديهم كتبا تشتمل على آيات من القران للاستدلال بها على الأحكام، التوحيد وغيره، سواء كانت باللغة العربية أم مترجما معناها، بل تشكر على ذلك؛ لأن وضعها أمامهم أو إعارتها لهم ليطلعوا عليها نوع من أنواع البلاغ والدعوة إلى الله، وفاعله مأجور إذا أخلص في ذلك.
س 3: أحيانا يحين وقت الصلاة وأنا في بيت أحدهم فآخذ سجادتي الخاصة وأصلي أمامهم فهل صلاتي صحيحة، لكونها في بيت من بيوتهم.
جـ 3: نعم تصح صلاتك- زادك الله حرصا على طاعته- وخاصة أداء الصلوات الخمس في أوقاتها، والواجب أن تحرص على أدائها في جماعة، وتعمر بها المساجد ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
س 4: طلبوا مني أن أذهب معهم إلى الكنيسة فرفضت حتى أسأل عن حكم هذا، فهل يجوز الذهاب معهم لأثبت سماحة الدين الإسلامي، وأنه دين اجتماعي، ولكي يتسع المجال لدعوتهم إلى الإسلام، هذا ولا يخفى عليكم أن ديانتهم نصرانية ومذهبهم بروتستنت وكما يقولون: لا يوجد في صلاتهم سجود ولا ركوع، علما بأنه يستحيل أن أعتنق المسيحية بإذن الله تعالى.
جـ 4: إن كان ذهابك معهم إلى الكنيسة لمجرد إظهار التسامح والتساهل فلا يجوز، وإن كان ذلك تمهيدا لدعوتهم إلى الإسلام وتوسيع مجالها وكنت لا(32/104)
تشاركهم في عبادتهم ولا تخشى أن تتأثر بعقائدهم ولا عاداتهم وتقاليدهم فذلك جائز.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/105)
فتوى رقم 6876
س 1: ما حكم دخول غير المسلم مسجدا أو مصلى للمسلمين سواء لحضور الصلاة أو للاستماع إلى محاضرة؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ 1: سبق أن صدر منا جواب بالفتوى رقم 2922 هذا نصها: (يحرم على المسلمين أن يمكنوا أي كافر من دخول المسجد الحرام وما من الحرم كله لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (1) أما غيره من المساجد فقال بعض الفقهاء: يجوز لعدم وجود ما يدل على منعه، وقال بعضهم: لا يجوز قياسا على المسجد الحرام، والصواب جوازه لمصلحة شرعية ولحاجة تدعو إلى ذلك كسماع ما قد يدعوه للدخول في الإسلام أو حاجته إلى الشرب من ماء في المسجد.
س 2: ما حكم دخول المسلم إلى الكنيسة سواء لحضور صلاتهم أو الاستماع إلى محاضرة؟
__________
(1) سورة التوبة الآية 28(32/105)
ج 2: لا يجوز للمسلم الدخول على الكفار في معابدهم لما فيه من تكثير سوادهم، ولما روى البيهقي بإسناد صحيح عن عمر رضي الله عنه قال: ". . . ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم ومعابدهم فإن السخطة تنزل عليهم" لكن إذا كان لمصلحة شرعية أو لدعوتهم إلى الله ونحو ذلك فلا بأس.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(32/106)
من الفتوى رقم 6364
س: هل يجوز اتخاذ معبد للديانات الثلاث اليهودية والنصرانية والإسلام؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: لا يجوز ذلك؛ لأنه باتخاذه مشتركا بين الثلاث لا يكون مؤسسا على التقوى بل على الشرك وعبادة غير الله فيه. وليس هناك دين صحيح غير الإسلام لقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85(32/106)
الفتوى رقم 2245
س: اختلفنا في المسلم الذي يلبس الصليب شعار النصارى فبعضنا حكم بكفره بدون مناقشة والبعض الآخر قال: لا نحكم بكفره حتى نناقشه ونبين له تحريم ذلك وأنه شعار النصارى فإن أصر على حمله حكمنا بكفره.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: التفصيل في هذا الأمر وأمثاله هو الواجب فإذا بين له حكم لبس الصليب وأنه شعار النصارى ودليل على أن لابسه راض بانتسابه إليهم والرضا بما هم عليه فيحكم بكفره؛ لقوله عز وجل: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (1) والظلم إذا أطلق يراد به الشرك الأكبر. وفيه أيضا إظهار لموافقة النصارى على ما زعموه من قتل عيسى عليه الصلاة والسلام- والله سبحانه نفى ذلك وأبطله في كتابه الكريم حيث قال عز وجل: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (2) . الآية
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة المائدة الآية 51
(2) سورة النساء الآية 157(32/107)
شكل الصليب الذي هو شعار النصارى اليوم
فتوى رقم (6392) :
س: ما هي صفة الصليب المنهي عنه والمحذر من وضعه، وهل هو أنواع، وهل يسوغ لمسلم - بصفته وكيلا لبضاعة كالساعة أو القلم أو نحو ذلك(32/107)
أن يستقدم نصارى للعرض- يعني: احتفال وإقامة عرض للسلع - ويضع أعلامهم أو شعاراتهم المألوفة لديهم أمام بيته وفي الشوارع، وهو رجل فرد عادي ليس حكومة ولا يمثل حكومة، بل يمثل تجارته ونفسه، وأثناء مناقشته وبيان المحذور بوضع علمهم الذي عليه علامة كعلامة ما يسمى بالصليب الموجود على الساعة المسماة (وست إند) قال: (هذه عرقات كعرقات الدلو والغرب وهي عبارة عن شعار) هكذا علل، وتعليله الآخر يقول: (أنا إذا ذهبت لهم وضعوا لي علم المملكة وعلم سويسرا) ، هكذا يعلل وهو فرد لا يمثل إلا نفسه، فآمل الفتوى عن حكم مثل هذا العمل، وهل يدخل تحت تعظيم النصارى؟ وهل يسوغ له اتخاذ ذلك في مثل هذه المناسبة؟ وإذا نفى التعظيم بقوله: إنني لا أعظمهم فهل يقبل قوله؟ وهل نأثم بترك مناصحته وإرشاده؟ وما هي مراتب الإنكار في مثل هذا الموضوع؟ أفتونا مأجورين حفظكم الله.
ج: أولا: شكل الصليب المدعى الذي هو اليوم شعار النصارى هو وضع خط ونحوه على خط أطول منه قليلا بحيث يقع الأعلى القصير على قرابة ثلث الأسفل الطويل من فوق على أن يشكل التقاطع زوايا قائمة. ثانيا: لا يجوز للمسلم أن يرفع شعارات النصارى، ولا أن يشاركهم في احتفالاتهم، ولا أن يستقدمهم لغير ضرورة لبلاد المسلمين. ثالثا: مراتب الإنكار في إنكار المنكر ذكرها عليه الصلاة والسلام بقوله: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان (1) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه.
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الجمعة (956) ، صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه الفتن (4013) ، مسند أحمد بن حنبل (3/10) .(32/108)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
السؤال: ما حكم ارتكاب بعض المعاصي لا سيما الكبائر. . وهل يؤثر ذلك في تمسك العبد بالإسلام؟
الجواب: نعم يؤثر ذلك، فإن ارتكاب الكبائر كالزنا وشرب الخمر وقتل النفس بغير حق وأكل الربا والغيبة والنميمة وغير ذلك من المعاصي يؤثر في توحيد الله والإيمان به ويضعفه، ولكن لا يكفر المسلم بشيء من ذلك ما لم يستحله خلافا للخوارج فإنهم يكفرون المسلم بفعل المعصية كالزنا والسرقة وعقوق الوالدين وغير ذلك من كبائر الذنوب ولو لم يستحلها، وهذا غلط عظيم من الخوارج، فأهل السنة والجماعة لا يكفرونه بذلك ولا يخلدونه في النار ولكنهم يقولون: هو ناقص الإيمان والتوحيد لكن لا يكفر كفرا أكبر بل يكون في إيمانه نقص وضعف. ولهذا شرع الله في حق الزاني الحد بالجلد إذا كان بكرا يجلد مائة جلدة ويغرب عاما. وهكذا شارب المسكر يجلد ولا يقتل. وهكذا السارق تقطع يده ولا يقتل. فلو كان الزنا وشرب المسكر والسرقة توجب الكفر الأكبر لقتلوا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » رواه الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه. فدل ذلك على أن هذه المعاصي ليست ردة ولكنها تضعف الإيمان وتنقصه فلهذا شرع الله تأديبهم بهذه الحدود ليتوبوا ويرجعوا إلى ربهم ويرتدعوا عما حرم عليهم ربهم سبحانه. وقالت المعتزلة: إن العاصي في منزلة بين منزلتين ولكنه يخلد في النار إذا مات عليها فخالفوا أهل السنة ووافقوا الخوارج في ذلك، وكلتا الطائفتين قد ضلت عن السبيل.
والصواب هو القول الأول وهو قول أهل السنة والجماعة وهو أنه يكون عاصيا ضعيف الإيمان وعلى خطر عظيم من غضب الله وعقابه ولكنه
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017) ، سنن الترمذي الحدود (1458) ، سنن النسائي تحريم الدم (4060) ، سنن أبو داود الحدود (4351) ، سنن ابن ماجه الحدود (2535) ، مسند أحمد بن حنبل (1/282) .(32/109)
ليس بكافر الكفر الأكبر الذي هو الردة عن الإسلام ولا يخلد في النار أيضا خلود الكفار إذا مات على شيء منها، بل يكون تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه على قدر المعاصي التي مات عليها ثم يخرجه من النار، ولا يخلد فيها أبد الآباد إلا الكفار، ثم بعد مضي ما حكم الله عليه من العذاب يخرجه الله من النار إلى الجنة وهذا قول أهل الحق، وهذا هو الذي تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافا للخوارج والمعتزلة والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) فعلق سبحانه ما دون الشرك على مشيئته عز وجل.
أما من مات على الشرك الأكبر فإنه يخلد في النار، والجنة عليه حرام لقول الله سبحانه: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2) وقال سبحانه: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
أما العاصي إذا دخل النار فيبقى فيها إلى ما يشاء الله ولا يخلد خلود الكفار ولكن قد تطول مدته ويكون هذا خلودا خاصا مؤقتا ليس مثل خلود الكفار كما قال سبحانه في آية الفرقان لما ذكر المشرك والقاتل والزاني قال سبحانه:
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} (4) {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} (5) .
فهو خلود مؤقت له نهاية. أما المشرك فخلوده دائم أبد الآباد ولهذا قال عز وجل في حق المشركين في سورة البقرة {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (6) وقال سبحانه في
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة التوبة الآية 17
(4) سورة الفرقان الآية 68
(5) سورة الفرقان الآية 69
(6) سورة البقرة الآية 167(32/110)
سورة المائدة في حق الكفرة: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 37(32/111)
السؤال: النطق بالشهادة لا شك أنه لا بد معه من التصديق فما هو؟
الجواب: أولا لا بد من النطق بالشهادتين، فلو أمكنه النطق ولكن امتنع من النطق لم يدخل في الإسلام حتى ينطق بالشهادتين، وهذا محل إجماع من أهل العلم، ثم مع النطق لا بد من اعتقاد معنى الشهادتين والصدق في ذلك، وذلك بأن يعتقد أنه لا معبود حقا إلا الله ولو قالها كاذبا كالمنافقين يقولونها وهم يعتقدون أن مع الله آلهة أخرى لم تنفعهم هذه الكلمة ولم يدخلوا في الإسلام باطنا كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (1) وقال عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (2) .
فلا بد من التصديق بالقلب واليقين بأنه لا معبود حقا إلا الله فإن استكبر عن الانقياد لشرع الله كفر ولم ينفعه النطق بالشهادتين.
قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (3) .
وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (4) وهكذا لو استكبر عن الشهادة بأن محمدا رسول الله أو قالها كاذبا فإنه يكون كافرا حتى يؤمن بأن محمدا رسول الله وينقاد لشرعه، وهذا أمر مجمع عليه بين أهل العلم والله المستعان.
__________
(1) سورة النساء الآية 145
(2) سورة البقرة الآية 8
(3) سورة الحج الآية 62
(4) سورة غافر الآية 60(32/111)
حكم من يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس ببشر
السؤال: إذا مات الشخص وهو يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس ببشر وأنه يعلم الغيب وأن التوسل بالأولياء والأموات والأحياء قربة إلى الله عز وجل فهل يدخل النار؟ ويعتبر مشركا. . على أنه لا يعلم غير هذا الاعتقاد وأنه عالق في منطقة علماؤها وأهلها كلهم يقرون بذلك، فما حكمه وما حكم التصدق عنه والإحسان إليه بعد موته؟
الجواب: من مات على هذا الاعتقاد بأن يعتقد أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببشر أي ليس من بني آدم أو يعتقد أنه يعلم الغيب فهذا اعتقاد كفري يعتبر صاحبه كافرا كفرا أكبر، وهكذا إذا كان يدعوه ويستغيث به أو ينذر له أو لغيره من الأنبياء والصالحين أو الجن أو الملائكة أو الأصنام، لأن هذا من جنس عمل المشركين الأولين كأبي جهل وأشباهه، وهو شرك أكبر ويسمى بعض الناس هذا النوع من الشرك توسلا وهو غير الشرك الأكبر. وهناك نوع ثان من التوسل ليس من الشرك، بل هو من البدع ووسائل الشرك وهو التوسل بجاه الأنبياء والصالحين أو بحق الأنبياء والصالحين أو بذواتهم. فالواجب الحذر من النوعين جميعا. ومن مات على النوع الأول لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يدعى له ولا يتصدق عنه لقول الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (1) .
وأما التوسل بأسماء الله وصفاته وتوحيده والإيمان به فهو توسل مشروع ومن أسباب الإجابة لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (2) الآية، ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سمع من يدعو
__________
(1) سورة التوبة الآية 113
(2) سورة الأعراف الآية 180(32/112)
ويقول: "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" فقال: لقد سأل الله باسمه الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب (1) » .
وهكذا التوسل بالأعمال الصالحة من بر الوالدين وأداء الأمانة والعفة عما حرم الله ونحو ذلك كما ورد ذلك في حديث أصحاب الغار المخرج في الصحيحين وهم «ثلاثة آواهم المبيت والمطر إلى غار فلما دخلوا فيه انحدرت عليهم صخرة من أعلى جبل فسدت الغار عليهم فلم يستطيعوا الخروج. فقالوا فيما بينهم إنه لن ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تسألوا الله بصالح أعمالكم فتوجهوا إلى الله سبحانه فسألوه ببعض أعمالهم الطيبة فقال أحدهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا وإني ذات ليلة نأى بي طلب الشجر فلما رحت عليهما بغبوقهما وجدتهما نائمين فلم أوقظهما وكرهت أن أسقي قبلهما أهلا ومالا فلم أزل على ذلك حتى طلع الفجر فاستيقظا وشربا غبوقهما. اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج منه. أما الثاني فتوسل بعفته عن الزنا حيث كانت له ابنة عم يحبها كثيرا وأرادها في نفسها فأبت عليه ثم ألمت بها حاجة شديدة فجاءت إليه تطلب منه المساعدة فأبى عليها إلا أن تمكنه من نفسها فوافقت على هذا من أجل حاجتها فأعطاها مائة دينار وعشرين دينارا، فلما جلس بين رجليها قالت له: يا عبد الله اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقها فخاف من الله حينئذ وقام عنها وترك لها الذهب خوفا من الله عز وجل. فقال: اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة شيئا لا يستطيعون الخروج منه. ثم قال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيت كل واحد أجرته إلا واحدا ترك أجرته فنميتها له حتى بلغت إبلا وبقرا وغنما ورقيقا. فجاء يطلب أجرته فقلت له: كل هذا من أجرتك. . يعنى الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال يا عبد الله اتق الله ولا تستهزئ بي. فقلت له إني لا أستهزئ بك إنه
__________
(1) سنن الترمذي الدعوات (3475) ، سنن أبو داود الصلاة (1493) .(32/113)
كله مالك فساقه كله. اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا جميعا يمضون (1) » .
وهذا يدل على أن التوسل بالأعمال الصالحة الطيبة أمر مشروع وأن الله جل وعلا يفرج به الكربات كما جرى لهؤلاء الثلاثة. أما التوسل بجاه فلان وبحق فلان أو بذات فلان فهذا غير مشروع، بل هو من البدع كما تقدم. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الإجارة (2272) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2743) ، سنن أبو داود البيوع (3387) ، مسند أحمد بن حنبل (2/116) .(32/114)
القبيلي والخضيري
السؤال: ما معنى قولهم قبيلي وخضيري؟
الجواب: هذه مسألة جزئية وهي معروفة بين الناس. القبيلي هو الذي له قبيلة معروفة ينتمي إليها كقحطاني وسبيعي وتميمي وقرشي وهاشمي وما أشبه ذلك، هذا يسمى قبيليا؛ لأنه ينتمي إلى قبيلة، ويقال قبلي على القاعدة مثل أن يقال: حنفي وربعي وما أشبه ذلك نسبة إلى القبيلة التي ينتمي إليها.
والخضيري في عرف الناس في نجد خاصة ولا أعرفها إلا في نجد هو الذي ليس له قبيلة معروفة ينتمي إليها، أي ليس معروفا بأنه قحطاني أو تميمي أو قرشي، لكنه عربي ولسانه عربي ومن العرب وعاش بينهم ولو كانت جماعته معروفة. والمولى في عرف العرب هو الذي أصله عبد مملوك ثم أعتق. والعجم هم الذين لا ينتسبون للعرب يقال: عجمي فهم من أصول عجمية وليسوا من أصول عربية، هؤلاء يقال لهم أعاجم. والحكم في دين الله أنه لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى سواء سمي قبليا أو خضيريا أو مولى أو أعجميا كلهم على حد سواء. لا فضل لهذا على هذا ولا هذا على هذا إلا بالتقوى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بالتقوى ولا فضل لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى (1) » . وكما
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/411) .(32/114)
قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) لكن من عادة العرب قديما أنهم يزوجون بناتهم للقبائل التي يعرفونها ويقف بعضهم عن تزويج من ليس من قبيلة يعرفها. وهذا باق في الناس. وقد يتسامح بعضهم يزوج الخضيري والمولى والعجمي كما جرى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام زوج أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنه - وهو مولاه وعتيقه - زوجه فاطمة بنت قيس رضي الله عنها وهي قرشية، وكذلك أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وهو من قريش زوج مولاه سالما بنت أخيه الوليد بن عتبة ولم يبال لكونه مولى عتيقا. وهذا جاء في الصحابة رضي الله عنهم وبعدهم كثير. ولكن الناس بعد ذلك - خصوصا في نجد وفي بعض الأماكن الأخرى - قد يقفون عن هذا ويتشددون فيه على حسب ما ورثوه عن آباء وأسلاف، وربما خاف بعضهم من إيذاء بعض قبيلته إذا قالوا له: لماذا زوجت فلانا؟ هذا قد يفضي إلى الإخلال بقبيلتنا وتختلط الأنساب وتضيع إلى غير ذلك، قد يعتذرون ببعض الأعذار التي لها وجهها في بعض الأحيان ولا يضر هذا، وأمره سهل.
المهم. . اختيار من يصلح للمصاهرة لدينه وخلقه، فإذا حصل هذا فهو الذي ينبغي سواء كان عربيا أو أعجميا أو مولى أو خضيريا أو غير ذلك هذا هو الأساس وإذا رغب بعض الناس أن لا يزوج إلا من قبيلته فلا نعلم حرجا في ذلك. . والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13(32/115)
ينبغي للشباب ألا يتركوا مجالات الإعلام للجهلة والمنحرفين عن الحق (1)
السؤال: فضيلة الشيخ. . ما هو تقييمكم لمستوى الإفتاء في العالم الإسلامي؟ هل هو بخير أم لكم وجهة نظر فيه؟
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. . أما بعد:
فلا شك أن المسلمين في كل مكان في أشد الحاجة إلى الإفتاء بما يدل عليه كتاب الله الكريم وسنة نبيه الأمين عليه أفضل الصلوات والتسليم وهم في أشد الحاجة للفتاوى الشرعية المستنبطة من كتاب الله وسنة نبيه. . وإن من الواجب على أهل العلم في كل مكان في العالم الإسلامي، وفي كل مكان يقطنه مسلمون الاهتمام بهذا الواجب، والحرص على توضيح أحكام الله، وسنة رسوله التي جاء بها للعباد في مسائل التوحيد، والإخلاص لله، وبيان ما وقع فيه أكثر الناس من الشرك وما وقع فيه كثير منهم من الإلحاد والبدع المضلة حتى يكون المسلمون على بصيرة وحتى يعلم غيرهم حقيقة ما بعث الله به نبيه من الهدى ودين الحق.
والعلماء ورثة الأنبياء، فالواجب عليهم عظيم في بيان شرع الله لعباده وبيان الأحكام والأدلة الشرعية من الكتاب والسنة لا بالآراء المجردة. كما أن على العلماء أن يبينوا محاسن الإسلام وما دعا إليه من مكارم الأخلاق حتى يدخل في الإسلام من عرفه ويشتاق إليه من سمع ما فيه من الخير والأعمال الصالحات، وهذا كله سيعود بالخير على البلاد والعباد. وإن من أحسن ما حبانا الله به في هذه البلاد برنامجا مفيدا تتولاه جماعة من العلماء المسلمين الذين يجيبون عن كثير من الأسئلة التي يسألها المسلمون من الداخل والخارج. ولهذا أنصح
__________
(1) لقاء مع سماحة الشيخ أجرته مجلة ''المجتمع الكويتية'' نشر في عددها الصادر بتاريخ 17 \ 7 \ 1410هـ.(32/116)
بسماعه والاستفادة منه، وأنصح لجميع العلماء بأن يعنوا بمراجعة الكتب الإسلامية المعروفة حتى يستفيدوا منها، وكتب السنة مثل: الصحيحين وبقية الكتب الستة ومسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك وغيرها من كتب الحديث المعتمدة، وكتب التفسير المعتمدة كتفسير ابن جرير وابن كثير والبغوي ونحوهم من أهل السنة. كما أوصى بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وغيرها من كتب علماء السنة، كما أوصي إخواني قبل ذلك كله بقراءة كتاب الله وتدبره فهو أصدق كتاب وأشرف كتاب، كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) ، وأوصيهم أيضا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم لما فهيا من الهدى والعلم، وقد صح عن الرسول قوله: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (2) » . راجيا من الله أن يوفق العلماء في كل مكان لما فيه إظهار الحق وتبيان أحكام الدين.
السؤال: ما رأيكم في المقولة التي تقول: إن أمور العصر تعقدت وأصبحت متشابكة، لذلك لا بد أن تخرج الفتوى من فريق متكامل يضم كافة المختصين بجوانب المشكلة أو الحالة ومن بينهم الفقيه؟
الجواب: إن الفتوى ينبغي أن تتركز على الأدلة الشرعية، وإذا صدرت الفتوى عن جماعة كانت أكمل وأفضل للوصول إلى الحق، لكن هذا لا يمنع العالم أن يفتي بما يعلمه من الشرع المطهر.
السؤال: يقوم الإنتاج الإعلامي الحالي بتوجيه هذا الجيل كيفما يريد المنتجون. . فما يقدمه التليفزيون والإذاعة من تمثيليات ومسرحيات وبرامج مختلفة إنما يعمل على تكريس قيم وأفكار ومبادئ يريدها صانعو هذه المصنفات الفنية، فإن تركنا إنتاج هذه المصنفات لغيرنا أفسدوا أبناءنا وبناتنا، وإن وجهنا أبناءنا وبناتنا لفهم ودراسة هذه الفنون من أجل صياغتها صياغة إسلامية خافوا
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .(32/117)
على أنفسهم من الوقوع في الخطأ. . فبم تنصحون؟
الجواب: إن على المسئولين في الدول الإسلامية أن يتقوا الله في المسلمين وأن يولوا هذه الأمور لعلماء الخير والهدى، والحق، كما أن على علمائنا ألا يمتنعوا عن إيضاح الحقائق بالوسائل الإعلامية وألا يدعوا هذه الوسائل للجهلة والمتهمين، وأهل الإلحاد، بل يتولاها أهل الصلاح والإيمان والبصيرة وأن يوجهوها على الطريقة الإسلامية حتى لا يكون فيها ما يضر المسلمين شيبا أو شبانا، رجالا أو نساء، كما وأنه على العلماء أن يقدموا للناس إجابات وافية حول ما يبثه التلفاز ريثما يتولاها الصالحون، وأن على الدول الإسلامية أن تولي الصالحين حتى يبثوا الخير ويزرعوا الفضائل، نسأل الله للجميع التوفيق.
السؤال: هل معنى ذلك أنك تنصح أبناءنا المسلمين بدراسة هذه المجالات حتى يحتلوا الأماكن التي يغزوها هؤلاء المفسدون؟
الجواب: نعم ينبغي للعلماء ألا يتركوا هذه الأمور للجهلة وأن يتولوا بث الخير والفضيلة في كافة المجالات، ولكن هناك مسألة التمثيل فأنا لا أنصح بممارسة التمثيل، وإنما على العلماء أن يبينوا للناس أحكام الله ورسوله. أما أن يتقمص المرء شخصية فلان واسم فلان فيقول أنا عمر أو أنا عثمان أو نحو ذلك فهذا كذب لا يجوز فعله.
السؤال: كان كعب بن زهير رضي الله عنه يقف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول:
وهو لم ير سعاد، ولم يحدث له أي شيء مما يذكره في القصيدة عن سعاد مما اعتبر ذلك كذبا. والتمثيل ضرب من هذه الضروب. . فما رأيك؟
الجواب: هذا ليس تقمصا للشخصية، وإنما التقمص كقول أحدهم: أنا أبو بكر أنا عمر أنا عائشة فقد كذب. . والله أعلم.(32/118)
السؤال: هل تعتبر قيام جماعات إسلامية في البلدان الإسلامية لاحتضان الشباب وتربيتهم على الإسلام من إيجابيات هذا العصر؟
الجواب: وجود هذه الجماعات الإسلامية فيه خير للمسلمين ولكن عليها أن تجتهد في إيضاح الحق مع دليله وأن لا تتنافر مع بعضها. وأن تجتهد بالتعاون فيما بينها، وأن تحب إحداهما الأخرى، وتنصح لها وتنشر محاسنها وتحرص على ترك ما يشوش بينها وبين غيرها ولا مانع أن تكون هناك جماعات إذا كانت تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
السؤال: بم تنصح الشباب داخل هذه الجماعات؟
الجواب: أن يترسموا طريق الحق ويطلبوه، وأن يسألوا أهل العلم فيما أشكل عليهم، وأن يتعاونوا مع الجماعات فيما ينفع المسلمين بالأدلة الشرعية لا بالعنف ولا بالسخرية، ولكن بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن، وأن يكون السلف الصالح قدوتهم، والحق دليلهم، وأن يهتموا بالعقيدة الصحيحة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم.
السؤال: هل الأولوية في الدعوة الإسلامية للعمل الخيري كبناء المساجد وإغاثة المنكوبين أم لدعوة الحكومات لتطبيق الشريعة الإسلامية ومحاربة كافة أشكال الفساد؟
الجواب: الواجب على العلماء البداءة بما بدأ به الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما يتعلق بالمجامع الكافرة والبلدان غير الإسلامية وذلك بالدعوة إلى توحيد الله وترك عبادة ما سواه والإيمان به وبأسمائه وصفاته وإثباتها له على الوجه اللائق به عز وجل مع الإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباعه. كما أن عليهم دعوة المسلمين في كل مكان إلى التمسك بشريعة الله والاستقامة عليها ونصح ولاة الأمور ومساعدة المحتاجين ومواساتهم. كما أن على العلماء أن يستمروا في الدعوة إلى الله والحرص على الأعمال الخيرية وزيارة ولاة الأمور وتشجيعهم على الأعمال الحسنة وحثهم على تحكيم الشريعة وإلزام الشعوب(32/119)
بها عملا بقول الله عز وجل: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) وقوله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
السؤال: يتحمس بعض الشباب أكثر مما ينبغي وينحو إلى التطرف. . فما هي نصيحتكم له؟
الجواب: يجب على الشباب وغيرهم الحذر من العنف والتطرف والغلو لقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (3) وقوله عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (4) الآية. وقوله عز وجل لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (5) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «هلك المتنطعون قالها ثلاثا (6) » رواه مسلم في صحيحه. وقوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين (7) » رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن بإسناد حسن. فلهذا أوصي جميع الدعاة بأن لا يقعوا في الإسراف والغلو وإنما عليهم التوسط. . وهو السير على نهج الله وعلى حكم كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
السؤال: اليوم نعيش ظاهرة سياسية كبيرة هزت العالم وهي انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد اليهود. . فهل لكم كلمة توجهونها إلى الشباب المسلم في فلسطين المحتلة؟
الجواب: أنصحهم بتقوى الله والتعاون على الخير والاستقامة في العمل،
__________
(1) سورة النساء الآية 65
(2) سورة المائدة الآية 50
(3) سورة النساء الآية 171
(4) سورة آل عمران الآية 159
(5) سورة طه الآية 44
(6) صحيح مسلم العلم (2670) ، سنن أبو داود السنة (4608) ، مسند أحمد بن حنبل (1/386) .
(7) سنن ابن ماجه المناسك (3029) ، مسند أحمد بن حنبل (1/215) .(32/120)
فالله ينصر من ينصره. فقد قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال سبحانه في مكان آخر من كتابه الكريم: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (2) .
إنني أنصح كل إخواني بالتعاون معهم وأنصح الأغنياء وولاة الأمور بأن يمدوا يد العون لإخوانهم في فلسطين المجاهدة لاسترداد بلادهم والنصر على الأعداء إن شاء الله. أيدهم الله بالحق وجزاهم - عن المسلمين كل خير، وما عليهم إلا أن يصبروا ويصابروا فإن وعد الله حق - وإن الله ناصر من ينصره، وفقهم الله ونصرهم على عدوهم، ووفق المسلمين لمساعدتهم والوقوف بصفهم حتى ينصرهم الله على عدوهم وهو سبحانه خير الناصرين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة محمد الآية 7
(2) سورة النور الآية 55(32/121)
صفحة فارغة(32/122)
بحث في
زكاة أسهم
الشركات المساهمة
إعداد
فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع (1) .
عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية
والقاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، محمد وعلى آله وصحبه وبعد. .
فلا شك أن للزكاة مقاما رفيعا في الإسلام، وأنها أحد أركان الإسلام الخمسة، وأن منع أدائها جريمة كبرى، عاقب عليها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، باستحلال دم مانعها، حيث جهز خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا لقتالهم، وقال مقالته الخالدة: والله لو منعوني عناقا- وفي رواية- عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلهم عليه.
ومن أحكام منعها أنها تؤخذ من مانعها قهرا أداء للعبادة وشطرا من ماله عقوبة.
ومستند وجوبها من الكتاب والسنة والإجماع من الوضوح بحيث تعتبر معلومة من الدين بالضرورة.
__________
(1) ورد للكاتب ترجمة في العدد السابع صفحة (290)(32/123)
وحكمة مشروعيتها أنها طهرة للمال وتزكية، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (1) وفي الحديث: «ما نقص مال عبد من صدقة (2) » . وفيها مواساة للفقراء وعطف عليهم وتأمين كفايتهم المعيشية ممن أقعدهم العجز عن العمل.
وهي واجبة في كل مال نام بالفعل أو بالقوة، فتجب في أموال بهيمة الأنعام بشروطها، وفي الخارج من الأرض من كل مطعوم يكال ويدخر، وفي عروض التجارة من كل مال مباح للتجارة سواء أكان ثابتا كالعقار، أو منقولا كسائر أنواع وأجناس البضائع والسلع، وهذه الأجناس الثلاثة من الأموال- بهيمة الأنعام، الخارج من الأرض، عروض التجارة- هي في الغالب أموال نامية بالفعل، إذ هي محل النماء والكثرة بحكم تهيئها لذلك، سواء أكان ذلك من حيث تكاثرها ونموها، أم كان ذلك من حيث تهيؤها للزيادة في قيمها السوقية. كما تجب الزكاة في الأموال النامية بالقوة، وهي الأثمان بمختلف أجناسها وأنواعها من ذهب وفضة وأوراق نقدية وغير ذلك مما يعد ويعتبر ثمنا تجتمع فيه خصائص الثمنية.
وهناك أجناس من الأموال موضع خلاف بين العلماء في وجوب الزكاة في أثمانها، كالعقارات المعدة للاستغلال على سبيل الكراء، وكالحلي المعد للاستعمال، أو العارية وغير ذلك مما ذكره الفقهاء رحمهم الله تعالى في كتبهم الفقهية في كتاب الزكاة.
وحيث إن موضوع هذا البحث ليس في استعراض الأموال الواجبة فيها الزكاة وما لأهل العلم فيها من نظر وتأصيل وتفصيل، فقد آثرنا الاكتفاء بذكر الأموال التي هي في الواقع محل إجماع بين أهل العلم في وجوب الزكاة فيها، ذكرت هذه الأموال بصفة إجمالية تمهيدا للدخول في صميم البحث.
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
(2) الجامع الصحيح (سنن الترمذي) ج4 كتاب الزهد ص562 رقم 2325(32/124)
إن شركات المساهمة أموال تخضع لوجوب الزكاة إذا كانت محلا للاستثمارات المباحة، كشركات الزراعة والصناعة والمضاربات التجارية، كشركات الاستيراد والتصدير والمصارف الإسلامية وغيرها.
والأسهم في هذه الشركات عبارة عن حصص تملك فيها شائعة في عمومها. ولوجوب الزكاة في عمومها فهي واجبة في هذه الأسهم الممثلة لأجزاء هذه الشركات.
وحيث إن شركات المساهمة لكل واحدة منها مجال استثمار اختصت به حسبما نص عليه نظامها الأساسي وصدر الترخيص لها بذلك من الجهة المختصة في الدولة، فإن لهذا المال الاستثماري حكمه من حيث وجوب الزكاة فيها.
وحيث إن المتبع في جميع الشركات الوطنية حسبما نقرؤه من النشرات السنوية لميزانيات تلك الشركات أن الزكاة تستقطع من صافي ربح الشركة بغض النظر عن المجال الاستثماري للشركة، وبغض النظر عن الازدواجية التي تحصل على الشركات الزراعية في جباية الزكاة منها، حيث إن الزكاة تؤخذ منها مرتين، مرة عند تقديم محصولها الزراعي من الحبوب لصوامع الغلال، ومرة عند نشر ميزانيتها السنوية وأخذ الزكاة من صافي أرباحها، هذا فيما يظهر لنا.
لهذا ولأهمية الزكاة وضرورة العناية بمعرفة أحكامها والتحقق عن المال الواجبة فيه ومقدار ما يجب، ولأن شركات المساهمة اليوم تمثل كمية كبيرة من الأموال الوطنية المستثمرة، وهي في الواقع أموال لمجموعة من فئات المسلمين من أيتام وأرامل وأشخاص ذوي تقى وورع وصلاح وحرص بالغ على تطهير أموالهم من الزكاة. وفي نفس الأمر فإن القائمين على إدارة هذه الشركات وإن كانوا ذوي اختصاص إداري واقتصادي فإنهم في الغالب ليسوا على مستوى شرعي من التأهيل لمعرفة أحكام الزكاة وما تجب فيه من أموال ومقدار الواجب فيها، لهذا آثرت إعداد هذا البحث في زكاة أسهم الشركات، يكفيني منه في حال قصوره عن إيفاء البحث حقه من النظر والتحقيق أن يكون هذا البحث(32/125)
إثارة لمن هو أقدر مني في التأصيل والتفصيل والنظر والتحقيق، فالمسألة من الأهمية بحيث يجب أن تعطى ما تستحقه من النظر، سواء أكان ذلك على مستوى فردي أم كان على مستوى جماعي من هيئات شرعية مختصة، كالمجامع الفقهية ونحوها.
لا شك في أن شركات المساهمة لها مجالات استثمارية متخصصة في الصناعة والزراعة والتجارة، فإن كانت شركة زراعية فهذا يعني أن مجالها الاستثماري في زراعة الحبوب والثمار فتخضع لأحكام الزكاة فيما تخرجه الأرض من الحبوب والثمار مما يكال ويدخر، وتثبت لمنتجات هذه الشركة أحكام الزكاة في الخارجة من الأرض مالا ومقدارا وزمنا.
وحيث إن ناتج الشركات الزراعية في بلادنا من الحبوب يقدم لصوامع الغلال التابعة لوزارة الزراعة، وصوامع الغلال تستقطع مما يقدم إليها من حبوب مقدار الزكاة الواجبة فيها، فإذا قدمت إحدى الشركات الزراعية مثلا لصوامع الغلال ألفي طن من القمح فإن صوامع الغلال تستقطع من هذا المقدار نصف العشر زكاة وقدره مائة طن، وتسجل للشركة ألفا وتسعمائة طن، هذا يعني أن زكاة هذا الخارج من الأرض لهذه الشركة قد تم إخراجها فلا ينبغي لإدارة الشركة أن تخرج من زكاة عن صافي أرباحها، والحال أن الزكاة تؤخذ من كل منتوج زراعي في وقته عند تقديمه لصوامع الغلال التي هي إحدى المؤسسات العامة للدولة، لما في ذلك من الازدواجية في التصرف والمخالفة الشرعية، فإن الشارع الحكيم يراعي مصلحة دافع الزكاة وأخذها وتحقق العدل في ذلك، وليس من العدل أن تؤخذ ممن وجبت عليه مرتين.
هذا إذا كان نشاط الشركة الزراعي منحصرا في إنتاج الحبوب، أما إذا كان لها نشاط آخر كتربية الحيوان على سبيل الإنتاج والتسمين، أو كان لها نقود سائلة فإن الزكاة واجبة في هذين المالين بشروطه.
وإن كانت شركة المساهمة شركة صناعية كشركات الأسمنت والجبس(32/126)
والكهرباء والأدوية والصناعات الأساسية وغيرها، فإن الزكاة واجبة في صافي أرباحها قياسا على زكاة العقارات المعدة للكراء، حيث إن الأصول الثابتة فيها من أدوات وأجهزة ومكائن ومكاتب ومخازن وغير ذلك من وسائل الإنتاج والتصنيع تعتبر كالعقار المعد للاستغلال على سبيل الكراء وما ينتج من هذه المصانع من عوائد استثمارية بعد حسم المصروفات الإدارية منها تعتبر كأجرة العقار.
فلا زكاة في معدات التصنيع ومستلزماته من مكائن وتجهيزات وأدوات لازمة ومبان مستلزمة، إذ هي مقيسة على العقار المعد للكراء أو على أدوات الصانع والنجار والصائغ والحائك وتجهيزات الورش الصناعية ونحو ذلك.
وقد نص الفقهاء رحمهم الله على أن الزكاة في هذه الوسائل غير واجبة، قال شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله- في رسائله وفتاواه إجابة عن سؤال سئل عنه فقال: إن ما لم يعد للبيع لا زكاة فيه من العقار والمكائن والآلات والدور والفنادق والمراكب وغيرها. اهـ. الفتوى رقم 1043 ج4 ص106 \ 107.
وقال رحمه الله إجابة عن سؤال، هل في ورشة النجارة زكاة:
لا زكاة فيها بحال، وإنما الزكاة في غلتها إذا بلغت نصابا وحال عليها الحول. اهـ. الفتوى رقم 1044 ج4 ص107.
وقال رحمه الله إجابة عن سؤال، حول أدوات شركة الكهرباء وهل فيها زكاة؟
قال: ما سألت عنه من الأموال التي جعلت في شركة الكهرباء ونحوها لاستغلالها بالإيجار، فلا زكاة فيها، أي في الأعيان التي هي المكائن والمعدات التابعة لها؛ لأنها ليست من الأموال الزكوية ولا من العروض الزكوية. اهـ انظر الفتوى رقم 1035ج4 ص100.(32/127)
وإن كانت شركة المساهمة شركة تجارية اختصاصها تداول السلع بيعا وشراء واستيرادا وتصديرا، كالمصارف الإسلامية التي يعتمد استثمارها على المضاربات التجارية والكسب عن طريق التسهيلات المصرفية البعيدة عن الربا أخذا وإعطاء كالتحويلات المالية وإصدار الضمانات أو الشيكات بمختلف أجناسها وأنواعها والتوكيلات والسمسرة وغير ذلك من مستلزمات الحركة التجارية في الأسواق المصرفية مما لا يتعارض مع المقتضيات الشرعية والقواعد المرعية في الشريعة الإسلامية، فهذا النوع من شركات المساهمة تجب الزكاة فيها وجوب الزكاة في عروض التجارة، وذلك بوجوبها في رءوس أموالها وفي مالها من احتياطيات وأرباح بعد حسم المصاريف الإدارية لإدارة أموالها في التجارة من ذلك، وألا يعتبر من المقدار الواجبة فيه الزكاة التجهيزات الإدارية، سواء أكانت أعيانا قائمة أو منقولة، لأنها ليست محلا للإدارة المالية والحركة التجارية بيعا وشراء، وإنما هي شبيهة بدكان التاجر وما فيه من مستلزمات حركته التجارية من وسائل العرض والحفظ والتخزين.
هذا ما يظهر لي في زكاة هذا الجنس من الشركات، ولكن نظرا إلى أن السهم في غالب الشركات قد تكون قيمته السوقية أكثر من قيمته مما يمثله من حصة شائعة في الشركة باعتبار قيمة كامل أعيانها من أدوات ووسائل إنتاج وسيولة نقدية وبضائع وسلع وغير ذلك مما يعد ويعتبر من مقومات حركتها التجارية، كأن يكون للشركة قيمة اعتبارية مضافة إلى قيمتها المادية، فإذا ملك زيد من الناس مثلا ألف سهم في شركة مصرفية إسلامية قيمة السهم الاسمية- الأصلية وقت الاكتتاب- مائة (100) ريال وقيمته المادية باعتبار واقع الشركة وتقويم موجوداتها وقت وجوب الزكاة فيها خمسمائة (500) ريال وقيمة السهم في سوق الأسهم ألف ريال، فإذا نظرنا إلى هذه القيم الثلاث للسهم- قيمته الاسمية، قيمته المادية، قيمته السوقية- نجدها قيما معتبرة للسهم، في فأي هذه القيم الثلاث تحتسب الزكاة باعتباره؟ هل نعتبر القيمة الاسمية باعتبار أن هذه القيمة للسهم في الشركة هي الأصل، وما طرأ عليه من قيم(32/128)
أخرى تعتبر طارئة؟ أم تعتبر القيمة المادية للسهم باعتبار هذه القيمة هي القيمة الحقيقية للشركة وقت وجوب الزكاة؟ أم تعتبر القيمة الاعتبارية المتمثلة في قيمة السهم المادية والاعتبارية معا؟ .
إن القول بأن الزكاة واجبة في قيمة السهم الاسمية، قول يتجافى مع العدل والإنصاف والحقيقة المتمثلة في وجوب الزكاة في واقع المال، ذلك أن القيمة الاسمية- الأصلية- للسهم في الغالب لا تمثل القيمة الحقيقية لواقع الشركة، فقد تكون الشركة من النماء والازدهار بحال تكون قيمة السهم فيها أكثر من قيمته الاسمية، وقد تكون الشركة في حال من الكساد والخسارة بحيث تكون قيمة السهم فيها أقل من قيمته الاسمية.
وبهذا نستطيع القول بكل طمأنينة وقناعة: إن القيمة الاسمية للسهم في الشركات بعد مزاولتها خصائص أعمالها لا تمثل في الغالب القيمة الحقيقية للسهم في الشركات، حيث إن الشركات بعد حركتها الاختصاصية بين ارتفاع وانخفاض، ولهذا فإن احتساب الزكاة في هذه الشركات على اعتبار قيمة السهم الاسمية غير صحيح لفقده عنصر الأساس في النظر والتقدير.
ويبقى الأمر في وجوب الزكاة في أسهم هذا النوع من الشركات دائرا بين الأخذ باعتبار قيمته المادية المتمثلة في حقيقة وواقع الشركة بما لها من رأسمال وربح واحتياط، وذلك وقت وجوب الزكاة فيها، وبين الأخذ باعتبار قيمة السهم السوقية المتمثلة في قيمته المادية وقيمته الاعتبارية وقت وجوب الزكاة في الشركة.
فإن اتجه بنا النظر إلى أن الزكاة واجبة في الأموال الزكوية المحسوسة من حيوان أو عقار أو أثمان أو خارج من الأرض من حبوب أو ثمار أو سلع وبضائع تنتقل في أيدي الناس بإدارتها بيعا وشراء، وأن السلف الصالح من العلماء والفقهاء لم يذكروا في كتبهم الفقهية أموالا اعتبارية تجب فيها الزكاة كحقوق الارتفاق والاختصاص، وحقوق براءات الاختراع، وحقوق الطبع والتأليف(32/129)
والنشر والترجمة ونحو ذلك من الحقوق المعنوية، إن اتجه بنا النظر إلى هذا قصرنا وجوب الزكاة على القيمة الحقيقية لواقع الشركة لكونها المال النامي بالفعل أو بالقوة، وهو المال المحسوس المشاهد من الفقراء وغيرهم.
إننا حينما نقصر النظر على هذا وعلى التمسك بما ذكره فقهاؤنا من قصرهم الزكاة على الأموال العينية المحسوسة، نقول: إن الزكاة واجبة في القيمة الفعلية للسهم في الشركة باعتبار صافي ما تملكه من عروض وأثمان وقت وجوب الزكاة فيها، وأنه لا اعتبار للقيمة المعنوية المضافة إلى قيمة السهم الفعلية لأنها ليست قيمة مالية لمال محسوس، وإنما هي قيمة للرغبة النفسية في هذه الشركة.
ولكن قد يرد على هذا الاتجاه بأن التطور الاقتصادي في العصور الحديثة قد أتى بمستجدات من الأموال ومن طرق الاستثمار والتمويل، وأن الزكاة واجبة فيما يملكه المسلم مما هو محل للزكاة، ومن ذلك ما يؤول برغبته وتصرفه إلى مال زكوي عيني.
وهذا الإيراد هو حجة من يقول بوجوب الزكاة في الشركة باعتبار القيمة السوقية للسهم في أسواق الأسهم التجارية سواء أكانت هذه القيمة السوقية متفقة مع القيمة الحقيقية للسهم أم كانت زائدة عنها أو ناقصة، حيث إن السهم في الشركة عبارة عن حصة شائعة في عموم الشركة، يستطيع مالكها أن يبيعها بالسعر السوقي في أي وقت يشاء بالثمن الذي هو قيمته في أسواق الأسهم ليحصل من ذلك على ثمن من النقود يمثل قوة مالية محسوسة هي مال زكوي بإجماع أهل العلم.
ولقوة الاحتجاج لكلا الرأيين الأخيرين فإن ترجيح أحدهما على الآخر يحتاج إلى مزيد من النظر والتأمل، ويمكن أن يكون من النظر في ذلك التفصيل:
فإن كان مالك السهم في الشركة التجارية المساهمة يقصد بتملكه الاستثماري الاستمرار في تملك حصة شائعة في الشركة قدر ما يملكه فيها من(32/130)
أسهم وأنه لا يقصد بتملكها المتاجرة فيها بيعا وشراء. فهذه الفئة من المساهمين في الشركة لا يستفيدون من القيم السوقية للأسهم، وإنما يحتفظ الواحد منهم بما يملكه من أسهم في الشركة للاستثمار وأخذ العائد الدوري من ذلك.
وحيث إن الحصة الشائعة التي تمثلها الأسهم التي يملكها الفرد من هذه الفئة من المساهمين في هذه الشركات حصة من مجموعة حصص، تمثل كامل محتويات الشركة وهي- أعني هذه الشركة - تقوم بالمتاجرة في موجوداتها القابلة للإدارة التجارية بيعا وشراء، فقد يتجه القول بوجوب الزكاة على مالك هذه الأسهم من هذه الفئة من المساهمين باعتبار القيمة المادية الحقيقية لموجودات هذه الشركة لا باعتبار القيمة السوقية لأسهمها.
أما إذا كان مالك السهم أو الأسهم من هذه الشركات التجارية ممن يتملكها على سبيل المتاجرة فيها بيعا وشراء، يشتريها اليوم ليبيعها غدا، ويبيعها غدا ليشتري غيرها اعتبارا بها عروض تجارة، فإن الزكاة واجبة فيها باعتبار قيمتها السوقية لا باعتبار قيمتها المادية الحقيقية، لأن هذه الفئة من مالكي هذه الأسهم في هذه الشركات لا يقصد واحدهم بتملكه إياها استثمارها بأخذ عائدها الدوري، وإنما يقصد بذلك المتاجرة فيها بيعا وشراء وبسعر قيمتها السوقية، حيث إنه يشتري هذه الأسهم بسعرها في أسواق الأسهم ويبيعها بسعرها في أسواق الأسهم كذلك.
والقول بوجوب الزكاة في أسهم الشركات باعتبار قيمتا السوقية على من يتداولها بيعا وشراء على سبيل المتاجرة فيها، كالمتاجرة في عروض التجارة، هذا القول ليس مقصورا على أسهم شركات المساهمة التجارية، بل هو عام في جميع أسهم الشركات، سواء أكانت شركات تجارية، أم كانت شركات صناعية، أو زراعية، أو شركات خدمات عامة، فمن يملك أسهما من هذه الشركات يقصد بتملكها المتاجرة فيها، فالزكاة واجبة فيها وجوب الزكاة في عروض التجارة من جميع الأموال الزكوية، ثابتة كانت أم منقولة، وباعتبار قيمتها السوقية لأنها أي- القيمة السوقية- هي اعتبار مالكها في البيع والشراء.(32/131)
وقد يرد على هذا التفصيل إيراد خلاصته أن الشريعة الإسلامية لا تفرق في الحكم بين متماثلين، فكيف يتم لنا وجاهة التفريق في الحكم بين زكاة أسهم يملكها أحد الأفراد، وبين زكاة أسهم أخرى من نفس النوع يملكها فرد آخر، ويكون لهذا التفريق أثر كبير في المقدار الواجب فيها من الزكاة، كأن يملك زيد من الناس ألف سهم في شركة تجارية، قيمة السهم السوقية فيها ألف (1000) ريال غرضه من التملك أن تكون عروض تجارة مهيأة للبيع والشراء، يشتريها اليوم ليبيعها غدا أو بعد غد ليشتري بدلها أسهما أخرى غيرها، فإذا وجبت الزكاة فيها وهي في ملكه أخرج زكاتها ربع العشر من كامل قيمتها السوقية، أي خمسة وعشرين ألف ريال.
وعمرو من الناس يملك ألف سهم من الشركة نفسها، غرضه من التملك الاستمرار فيه وأخذ العائد الدوري، وقيمة السهم الحقيقية من واقع تقويم الشركة خمسمائة (500) ريال، فإذا وجبت الزكاة فيها وهي في ملكه أخرج زكاتها باعتبار قيمتها الحقيقية ربع العشر ومقداره اثنا عشر ألفا وخمسمائة (12500) ريال.
ومن هذا المثال يتضح أن الاثنين- زيدا وعمرا- متفقان في مقدار الأسهم وفي نوعها، ومع ذلك يخرج أحدهما زكاه ما يملكه من هذه الأسهم بمقدار ضعف ما يخرجه الثاني، فهذا تفريق بين متماثلين.
والجواب عن هذا الإيراد أن للنية والتصرف وفق النية أثرا في تميز الحكم، فلو افترضنا أن محمدا من الناس عنده ثلاث قطع من الأراضي متجاورات ومتساوية في المساحة والرغبة والقيمة، باعها على ثلاثة أشخاص أحدهم محمود اشترى منه القطعة الأولى بمائة ألف (000. 100) ريال لغرض بنائها مسكنا يسكنه، والثاني حامد اشترى منه القطعة الثانية بمائة ألف (000. 100) ريال لغرض تأجيرها، والثالث أحمد اشترى منه القطعة الثالثة بمائة ألف (000. 100) ريال لغرض المتاجرة فيها عرضا من عروض التجارة.(32/132)
فهؤلاء الثلاثة متفقون في التملك وفي قيمة العين المملوكة وفي مساحتها وموقعها، إلا أن لكل واحد منهم نية في التملك تخالف نية أخويه، ولهذه النية ما تستحقه من النظر الشرعي في وجوب الزكاة وفي مقدارها وفي سقوطها.
فالأرض التي اشتراها محمود في هذا المثال لا زكاة فيها، لأنه لم يتملكها بنية التجارة ولا الاستغلال، والأرض التي اشتراها حامد تجب الزكاة في غلتها إذا حال عليها الحول، حيث إنه تملكها بنية الاستغلال على سبيل الكراء، والأرض التي اشتراها أحمد تجب الزكاة في قيمتها وقت وجوب الزكاة فيها، حيث إنه تملكها بنية التجارة، فهؤلاء ثلاثة أفراد تملكوا ثلاث قطع من الأرض بقيم متساوية وفي موقع واحد ومساحة متفقة، وحيث إن لكل واحد منهم نية وغرضا في التملك لا تتفق مع نية أخويه، فقد اختلف الحكم في الزكاة فيها، سقوطا ومقدارا.
وهذا قول عامة أهل العلم، ومنهم سماحة شيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية سابقا- رحمه الله- فقد جاء في فتاواه ورسائله ما نصه:
الأرض المشتراة المعدة للتجارة هذه عروض تجارة تجب فيها الزكاة في قيمتها إذا حال عليها الحول وبلغت نصابا. اهـ. الفتوى رقم 1034 ج4 ص101.
وقال إجابة عن سؤال رجل يملك بيتا للسكنى ثم بعد ذلك أجره فهل تجب الزكاة في قيمته أو في أجرته، قال ما نصه:
لا تجب الزكاة في قيمته لأنه لم ينو بيعه وشراءه، ولا تجب في أجرته لأنه لم ينو بها الاتجار بطريق الأجرة إلا بعد ما ملكه بمدة، والأصل عدم وجوبها فيه، وهذه النية لا تقوى على رفع الأصل، لكن هذا المال الذي قبضه تجب فيه الزكاة بعد تمام الحول من وقت استحقاقه. اهـ. الفتوى رقم 1036 ج4 صح 103.(32/133)
وقال أيضا:
فاتضح مما ذكر أعلاه أن ما لم يعد للبيع لا زكاة فيه من العقار والمكائن والآلات والدور والفنادق والمراكب وغيرها. اهـ. الفتوى رقم 1043 ج4 ص107.
ونظرا إلى أن التفريق في الحكم في وجوب الزكاة وفي سقوطها وفي مقدارها تبعا للنية في التملك من الوضوح بحال متميزة، فقد لا نحتاج إلى مزيد نصوص من أقوال أهل العلم في تقرير ذلك، ويبقى من الإيراد الاستشكال في وجاهة التفريق بين وجوب الزكاة في أسهم شركة تجارية يملكها أحد الناس بنية الاستمرار في التملك، وبين وجوبها في أسهم من نفس الشركة يملكها فرد آخر منهم بنية المتاجرة فيها بيعا وشراء، والحال أن الزكاة واجبة في هذه الشركة في كامل قيمتها رأسمالها وأرباحها واحتياطياتها بعد حسم مصاريفها الإدارية وأصولها الثابتة التي ليست محلا للتجارة والتداول، حيث إن الزكاة واجبة في أسهم الأول باعتبار قيمها الحقيقية، وواجبة في أسهم الثاني باعتبار قيمتها السوقية.
وقد يكون هناك فرق كبير بين القيمتين، القيمة الحقيقية، والقيمة السوقية، والحال أن الزكاة في الجميع واجبة في القيمة لا في الغلة، ولا شك أن هذا الإيراد له وجاهة، وقد سبقت الإجابة عنه في معرض توجيه القول باعتبار التفريق بين القيمتين في تقدير الزكاة الواجبة على هذه الأسهم، وقلنا: إن من يملكها على سبيل الاستمرار في تملكها لا ينتفع بالفرق بين القيمة الحقيقية والقيمة السوقية، وقلنا: إن الزكاة في الأصل واجبة في الأموال المحسوسة، والقيمة السوقية تشتمل على قيمة اعتبارية ليس لها مقابل عيني محسوس ينتفع به ويحاسب عليه في زيادة حجم المال الزكوي. أما من يملكها على سبيل المتاجرة فيها بيعا وشراء يشتريها اليوم ليبيعها غدا أو بعد غد، ويبيعها ليشتري غيرها وهكذا، قصده ونيته الحركة في التملك والتداول في البيع والشراء. فإن هذا النوع من الناس لا يستطيع البيع والشراء إلا باعتبار القيمة السوقية لهذه(32/134)
الأسهم، فلا يشتري أسهما إلا بقيمة سوقية، ولا يبيع إلا بنفس القيمة السوقية، وهو في نفس الأمر مستفيد من القيمة السوقية المشتملة على القيمتين الاعتبارية والحقيقية، بخلاف الأول فإنه لا يستفيد من القيم الاعتبارية للأسهم التي يملكها ما دام قاصدا الاستمرار في التملك غير مستفيد من تقلب أسعارها في أسواق الأسهم.
والشريعة الإسلامية من الحكمة والعدل والإنصاف ومراعاة المصالح المختلفة والجمع بين تحصيلها للجميع في مقام دقيق ورفيع لا يتصور منها في هذا المقام أن تأتي بما يتعارض مع ذلك.
وخلاصة القول في زكاة أسهم الشركات المساهمة أن مالكها لا يخلو قصده في التملك من أمرين: أحدهما أن يقصد بتملكها الاستمرار في التملك على سبيل استثمارها بأخذ عائدها الدوري فإن كانت أسهم تملكه في شركة زراعية فإن زكاتها فيما تخرجه الشركة من حبوب وثمار طبقا لأحكام الزكاة في الخارج من الأرض، وإن كانت هذه الأسهم في شركة صناعية فإن زكاتها هي ما تخرجه الشركة عند كل حول مما يظهر في ميزانيتها عند نشرها في الوسائل الإعلامية وذلك من صافي أرباحها، وإن كانت شركة تجارية كشركات المصارف الإسلامية وشركات الاستيراد والتصدير فإن الزكاة واجبة في قيمة السهم الحقيقية حسبما تقوم به الشركة عند وجوب الزكاة فيها بعد حسم مصاريف الإدارة والأصول الثابتة مما ليس محلا للإدارة التجارية كمباني الشركة ومكاتبها ووسائل تجهيزها الثابتة.
الأمر الثاني أن يكون القصد من تملك الأسهم من مالكها المتاجرة فيها بيعا وشراء يشتريها اليوم ليبيعها غدا أو بعد غد ويبيعها اليوم ليشتري غيرها طلبا للربح في تداولها وتقليبها، فمن كانت هذه نيته في التملك وهذا صنيعه في التصرف فإن الزكاة واجبة في جميع ما يملكه من أسهم من كل شركة مساهمة سواء أكانت شركة زراعة أو شركة صناعة أو شركة تجارية، وذلك عند كل(32/135)
حول، والمعتبر في قيمة السهم قيمته السوقية، حيث إن هذه الأسهم تعتبر بهذا القصد والتصرف عروض تجارة، وتجب فيها الزكاة كوجوب الزكاة في عروض التجارة محلا وزمنا ومقدارا.(32/136)
منع الازدواجية في إخراج الزكاة:
خروجا من الازدواجية في إخراج الزكاة على سبيل تكرار إخراجها، ولأن القائمين على إدارة الشركات في الغالب في حاجة إلى تبصيرهم بما يجب على هذه الشركات من زكاة حتى يكونوا على بينة من تصرفهم، ولئلا يكونوا في ذلك بين إفراط وتفريط في دفع الزكاة، فإن الزكاة في شركات المساهمة تختلف من حيث مقدار الوجوب وزمنه باختلاف تخصصها، فإن كانت الشركة شركة صناعية فتخرج زكاتها من صافي أرباحها عند صدور ميزانية الشركة على الوضع الذي تكرر ذكره، ومن يملك أسهما فيها فإن كان تملكه إياها على سبيل الاستثمار والاستمرار في تملكها ترصدا لعائدها الدوري فإن الزكاة واجبة في عائد الأسهم التي يملكها، وحيث قامت الشركة بإخراج الزكاة عنها باعتبار القائمين عليها وكلاء عن المساهمين بحكم نظامها الأساسي والدخول في المساهمة فيها على هذا الاعتبار، ولأن نظام الشركات الصادر من ولي الأمر يلزمها بدفع زكاتها عند صدور كل ميزانية شركة، حيث الأمر كذلك فيكتفي المساهم فيها على هذا السبيل بما أخرجته الشركة زكاة عن كامل كيانها المتمثل في جميع أسهمها. ومن ذلك ما يملكه في هذه الشركة من أسهم. وإن كان تملكه إياها على سبيل المتاجرة فيها عروض تجارة فقد سبق القول إن الزكاة واجبة في القيم السوقية لهذه الأسهم.
فإذا افترضنا أن زيدا من الناس يملك ألف سهم في شركة صناعية على سبيل المتاجرة بهذه الأسهم، قيمة السهم السوقية منها ثلاثمائة ريال، فإن الزكاة عند تمام الحول واجبة فيها باعتبار قيمتها السوقية البالغة ثلاثمائة ألف (300000) ريال، وقدر هذه الزكاة سبعة آلاف وخمسمائة (7500) ريال.(32/136)
فإذا افترضنا أن الشركة أخرجت زكاتها عن صافي أرباحها، وأن كل سهم يخصه من الزكاة التي أخرجتها الشركة ريالا واحدا، وأن مجموع زكاة الألف سهم مما أخرجته الشركة ألف (1000) ريال، هذه الألف الريال يحسمها مالك هذه الأسهم من مجموع الزكاة الواجبة على أسهمه التي يملكها بنية التجارة، فتكون الزكاة الواجبة على هذه الأسهم ستة آلاف وخمسمائة (6500) ريال، إضافة إلى ما أخرجته الشركة زكاة عن صافي أرباحها، ومن ذلك هذه الأسهم الألف منها.
وإن كانت الشركة شركة زراعية مساهمة، فإذا كانت زراعتها محصورة في الحبوب التي تقدمها لصوامع الغلال، وقامت صوامع الغلال بحسم الزكاة من كامل ما استلمته من إنتاج هذه الشركة فلا ينبغي للشركة أن تكرر دفع الزكاة عند إصدار ميزانيتها، بل تكتفي بما قدمته لصوامع الغلال من زكاة عن الشركة.
فإن كان مالك الأسهم في هذه الشركة يقصد بتملكه إياها الاستمرار في التملك للاستثمار وأخذ العائد الدوري، فقد أخرجت عنه زكاة أسهمه، حيث أخذتها صوامع الغلال، فيكتفي بذلك.
وإن كان مالكها يقصد المتاجرة بها على سبيل المتاجرة بعروض التجارة، فإن زكاتها واجبة عليه في قيمتها السوقية عند تمام الحول، مخصوما من ذلك قيمة مقدار ما يخص السهم من الزكاة التي استلمتها صوامع الغلال؛ لأن عدم خصم ذلك يعني الازدواجية في دفع الزكاة.
وإن كانت الشركة شركة مساهمة تجارية كالمصارف الإسلامية وشركات الاستيراد والتصدير، فإن الزكاة واجبة في كامل القيمة الحقيقية للشركة رأسمالها وأرباحها واحتياطياتها محسوما من ذلك المصاريف الإدارية والأصول الثابتة على ما سبق ذكره.
فإذا أصدرت هذه الشركة ميزانيتها فيجب أن يكون إخراج زكاتها على هذا التوجيه.(32/137)
أما ما جرت عليه مثل هذه الشركات في الاكتفاء بإخراج الزكاة من صافي الربح قياسا على الشركات الصناعية فغير صحيح، وهو منع لجزء كبير من مال الشركة الواجب فيه الزكاة؛ لأن مال الشركة مال معد للتجارة بيعا وشراء وتداولا وإدارة وتقليبا، فهو خاضع لأحكام الزكاة في عروض التجارة، فإذا أخرجت الشركة الزكاة عن هذه الأموال باعتبار القيمة الحقيقية لها؛ فإن الأمر بالنسبة لمالكي الأسهم لا يخلو من حالين، إما أن يكون مالك الأسهم فيها يقصد بتملكه إياها الاستمرار في التملك والاكتفاء بالعائد الدوري منها؛ فإنه يكتفي بما أخرجته الشركة من زكاة عن أموال الشركة، وإن كان مالك هذه الأسهم يقصد بتملكه إياها المتاجرة فيها على سبيل الإدارة التجارية بيعا وشراء كعروض التجارة؛ فإن الزكاة واجبة في قيمتها السوقية عند تمام الحول.
فإذا افترضنا أن زيدا من الناس يملك في إحدى الشركات التجارية ألف سهم، قيمة السهم الحقيقية مائتا (200) ريال، وقيمته السوقية ألف (1000) ريال، فإذا حال الحول على أمواله التجارية؛ فإن الزكاة واجبة في كامل القيمة السوقية لهذه الأسهم الألف وقيمتها مليون ريال، ومقدار الزكاة على هذا المبلغ خمسة وعشرون ألف (25000) ريال، وحيث إن الشركة نفترض فيها أنها أخرجت الزكاة عن كامل القيمة الحقيقية لهذه الأسهم الألف، ومقدار قيمة هذه الأسهم مائتا ألف (200000) ريال مقدار زكاتها خمسة آلاف (5000) ريال فيخصم هذا المقدار من المبلغ الواجب؛ ليكون المبلغ الواجب عليه إخراجه زكاة عن هذه الأسهم عشرين ألف (20000) ريال، يخرجها مالك هذه الأسهم، وفي هذا مراعاة للخروج عن الازدواجية في دفع الزكاة، والله أعلم.(32/138)
هذا وقد رأيت أن من تمام البحث إيراد ما ذكره فضيلة الشيخ الجليل الدكتور يوسف القرضاوي - حفظه الله - في كتابه القيم " فقه الزكاة " من بحث بعنوان: كيف تزكى أسهم الشركات المختلفة. حتى إذا ظهر لنا فيه ما يدعو إلى التعليق أو الملاحظة أو المناقشة أمكننا ذلك لارتباط الموضوع بعضه(32/138)
ببعض، ولأن في ذلك تعاونا على إظهار الحقيقة. قال حفظه الله:
كيف تزكى أسهم الشركات المختلفة؟
نجد هنا اتجاهين لمن كتب من العلماء المعاصرين عن زكاة الأسهم والسندات وقليل من كتب فيها.
الاتجاه الأول:
فالاتجاه الأول ينظر إلى هذه الأسهم تبعا لنوع الشركة التي أصدرتها: أهي صناعية أم تجارية أم مزيج منهما؟
فلا يعطى السهم حكما إلا بعد معرفة الشركة التي يمثل جزءا من رأس مالها، وبناء عليه يحكم بتزكيته أو بعدمها. يمثل هذا الاتجاه الشيخ عبد الرحمن عيسى في كتابه (المعاملات الحديثة وأحكامها) حيث يقول:
" قد لا يعرف كثير ممن يملكون أسهم الشركات حكم زكاة هذه الأسهم، وقد يعتقد بعضهم أنها لا تجب زكاتها، وهذا خطأ. وقد يعتقد البعض وجوب الزكاة في أسهم الشركات مطلقا، وهذا خطأ أيضا. وإنما الواجب النظر في هذه الأسهم تبعا لنوع الشركة التي أصدرتها.
فإن كانت الشركة المساهمة شركة صناعية محضة، أي بحيث لا تمارس عملا تجاريا كشركات الصباغة، وشركات التبريد، وشركات الفنادق، وشركات الإعلان، وشركات (الأتوبيس) وشركات النقل البحري والبري، وشركات الترام، وشركات الطيران، فلا تجب الزكاة في أسهمها؛ لأن قيمة هذه الأسهم موضوعة في الآلات والإدارات والمباني وما يلزم الأعمال التي تمارسها، ولكن ما ينتج ربحا لهذه الأسهم يضم إلى أموال المساهمين ويزكى معها زكاة المال (أي ما بقي منه إلى الحول، وبلغ مع المال الآخر نصابا) .
" وإن كانت الشركة المساهمة شركة تجارية محضة تشتري البضائع وتبيعها بدون إجراء عمليات تحويلية على هذه البضائع: كشركة بيع المصنوعات(32/139)
المصرية، وشركة التجارة الخارجية، وشركات الاستيراد. . أو كانت شركة صناعية تجارية، وهي الشركات التي تستخرج المواد الخام أو تشتريها، ثم تجري عليها عمليات تحويلية، ثم تتجر فيها، مثل: شركات البترول وشركات الغزل والنسيج للقطن أو الحرير، وشركة الحديد والصلب، والشركات الكيماوية. . فتجب الزكاة في أسهم هذه الشركات. . فمقدار وجوب الزكاة في أسهم الشركات: أن تكون الشركة تمارس عملا تجاريا، سواء معه صناعة أم لا. وتقدر الأسهم بقيمتها الحالية، مع خصم قيمة المباني والآلات والأدوات المملوكة لهذه الشركات، فقد تمثل هذه الآلات والمباني ربع رأس المال أو أكثر أو أقل، فيخصم من قيمة السهم ما يقابل ذلك - أي الربع أو أكثر أو أقل - وتجب الزكاة في الباقي. ويمكن معرفة صافي قيمة المباني والآلات والأدوات بالرجوع إلى ميزانية الشركة وهي تنشر كل عام في الصحف ".
هذا ما ذكره الشيخ عن زكاة الأسهم وهو مبني على الرأي المشهور: أن المصانع والعمائر الاستغلالية ورءوس الأموال المغلة - غير التجارية - على وجه العموم كالفنادق والسيارات والترامات والطائرات ونحوها، ليس فيها كلها زكاة، لا في رأس المال والربح معا كمال التجارة، ولا في الغلة والإيراد، كالخارج من الأرض الزراعية (إلا إذا بقي منها شيء وحال عليه الحول) وعلى هذا الأساس فرق بين الشركات الصناعية (ويعني بها التي لا تمارس عملا تجاريا) وبين غيرها من الشركات، فأعفى أسهم الأولى من الزكاة وأوجب في الأخرى. فإذا كان هناك شخصان يملك كل منهما ألف دينار، اشترى أحدهما بألفه مائتي سهم من شركة للاستيراد والتصدير مثلا، واشترى الثاني بمبلغه مائتي سهم في شركة لطباعة الكتب أو الصحف، فإن على الأول أن يخرج الزكاة عن أسهمه المائتين، وما جلبت إليه من ربح أيضا في رأس كل حول، مطروحا من ذلك قيمة الأثاث ونحوه كما هو الشأن في مال التجارة، وأما الثاني فليس عليه زكاة عن أسهمه المائتين، لأنها موضوعة في أجهزة وآلات ومبان ونحوها.(32/140)
ولا زكاة فيما يأتي من ربح، إلا إذا بقي إلى رأس الحول وبلغ نصابا بنفسه أو بغيره، فإذا أنفقه قبل الحول فلا شيء عليه.
وبهذا يمكن أن تمضي أعوام على مثل هذا الشخص دون أن تجب عليه زكاة، لا في أسهمه ولا في أرباحها. بخلاف الشخص الأول، فالزكاة واجبة عليه لزوما في كل عام، عن أسهمه وعن أرباحها معا. وهي نتيجة يأباها عدل الشريعة التي لا تفرق بين متماثلين.
وقد بينا في الفصل الثامن في حديثنا عن زكاة " المستغلات " من العمارات والمصانع ونحوها: أن فيها - خلاف الرأي التقليدي المشهور - آراء ثلاثة:
1 - الرأي الذي يعتبرها مالا كمال التجارة ويقول بتقويمها كل حول وإخراج ربع عشرها.
2 - الرأي الذي يقول بأخذ الزكاة من غلتها وربحها، باعتبارها مالا مستفادا، فيزكي زكاة النقود.
3 - الرأي الذي يقيسها على الأرض الزراعية، ويوجب فيها العشر أو نصفه من صافي الغلة والأرباح.
وقد رجحنا هناك هذا الرأي الأخير.
فالذي أراه هنا:
أن التفرقة بين الشركات الصناعية أو شبه الصناعية، وبين الشركات التجارية أو شبه التجارية - بحيث تعفى الأولى من الزكاة، وتجب في الأخرى - تفرقة ليس لها أساس ثابت من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح.
ولا وجه لأخذ الزكاة عن الأسهم إذا كانت في شركة تجارية، وإسقاطها عنها إذا كانت في شركة صناعية، والأسهم هنا وهناك رأس مال نام يدر ربحا سنويا متجددا، وقد يكون ربح الثانية أعظم وأوفر من الأولى.
فإذا أردنا أن نأخذ بهذا الاتجاه وهو النظر إلى الأسهم تبعا لنوع الشركة(32/141)
التجارية التي يكون جزءا من رأس مالها، فإني أختار هنا أن تعامل الشركات - أيا كان نوعها - معاملة الأفراد، إذا ملكوا ما تملكه الشركات من مصانع أو متاجر. فالشركات الصناعية أو شبه الصناعية، وأعني بها تلك التي تضع رأس مالها أو جله في أجهزة وآلات ومبان وأدوات، كالمطابع والمصانع، والفنادق، وسيارات النقل والأجرة ونحوها، هذه الشركات لا تؤخذ الزكاة من أسهمها، بل من إيرادها وربحها الصافي بمقدار العشر، كما رجحناه في زكاة المستغلات، وكما نعامل المصانع والفنادق ونحوها لو كانت ملكا للأفراد على ما اخترناه من قبل.
أما الشركات التجارية وهي التي جل رأس مالها في منقولات تتاجر فيها ولا تبقى عينها، فهذه تؤخذ الزكاة من أسهمها حسب قيمتها في السوق. مضافا إليها الربح، وتكون الزكاة بمقدار ربع العشر 2. 5 في المائة بعد طرح قيمة الأثاث الثابت من الأسهم، كما ذكرنا في عروض التجارة: أن الزكاة في رأس المال المتداول المتحرك. وهذه المعاملة للشركات التجارية هي نفس المعاملة التي تعامل بها المحلات التجارية إذا كانت ملكا للأفراد ولا فرق. اهـ (1) .
وتعليقي على هذا الاتجاه الأول يتلخص فيما يلي:
أولا: إن الاتجاه الذي أخذ به فضيلة الشيخ عبد الرحمن عيسى - رحمه الله - من أن الزكاة واجبة في صافي ربح الشركة الصناعية إذا حال عليه الحول، أو حال على بعضه وفي القيمة الحقيقية للشركات التجارية بما في ذلك رأس مالها وأرباحها واحتياطياتها، مخصوما من ذلك الأصول الثابتة مما ليست محلا للتجارة، وإنما هي وسيلتها كمكاتب الشركة وتجهيزاتها.
هذا الاتجاه وهذا القول هو قول جمهور أهل العلم من جميع المذاهب الإسلامية، وهو قول يعتمد على النقل والعقل. أما العقل فإن الزكاة واجبة في كل ما هو نام بالفعل، أو بالقوة، ولاشك أن شركة المساهمة التجارية تجمع
__________
(1) فقه الزكاة جـ 1 ص 523 - 526.(32/142)
بين الأموال النامية بالفعل، وهي المتمثلة فيما لديها من سلع وبضائع معدة للبيع وشراء بدلها، وبين الأموال النامية بالقوة والمتمثلة فيما لديها من سيولة نقدية.
وأما النقل ففي مسند أبي داود بإسناده إلى سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع. وأما شركة المساهمة الصناعية فهي شبيهة بالعقار المعد للكراء من حيث حبس الأصل في الجميع عن أن تتداوله الأيدي على سبيل البيع والشراء وطلب الاستغلال، إما على سبيل الكراء أو على سبيل التصنيع وأخذ الكسب من ذلك. وقد أجمع الفقهاء - رحمهم الله إلا من شذ - على أن العقار المعد للكراء تجب الزكاة في غلته، والخلاف بينهم هل تجب بمجرد قبض الأجرة، أو حتى يحول الحول عليها، أو على بعضها.
أما عين العقار فلا تجب فيه الزكاة لكونه ليس ناميا بفعل ولا بقوة، إلا أن يكون لمالك هذا العقار قصد في تملكه للفرار من الزكاة، فيعامل بنقيض قصده، بل إن العقار المعد للكراء عرضة للنقص والخلل بحكم استعماله فيما أجر لأجله.
ثانيا: لم يتعرض فضيلة الشيخ عبد الرحمن عيسى فيما نقله عن فضيلة الدكتور يوسف إلى الشركات الزراعية، كما أنه لم يتعرض - رحمه الله - إلى طريق إخراج المساهم زكاته عما يملكه من أسهم في شركة تجارية للسهم فيها قيمتان قيمة حقيقية وقيمة سوقية تجمع بين القيمة الحقيقية والقيمة الاعتبارية، وعليه فالمساهم بتملكه أسهما في شركة تجارية بين قصدين: أحدهما أن يقصد بتملكه الاستمرار في التملك والاكتفاء من ذلك بالعائد الدوري، الثاني أن يقصد بتملكه المتاجرة فيما يملكه من أسهم على سبيل المتاجرة في عروض التجارة.
أرى أن بحثي هذه المسألة وما فيه من التفصيل المتقدم ذكره يعتبر إكمالا لرأي فضيلة الشيخ عبد الرحمن رحمه الله.
ثالثا: لم تظهر لي وجاهة الاعتراض من محبنا وزميلنا الدكتور يوسف على(32/143)
ما اتجه إليه الشيخ عبد الرحمن عيسى وأخذ به في تفريقه بين الشركة التجارية والشركة الصناعية.
فإن التفريق بين الشركات وبناء الحكم على ذلك في وجوب الزكاة، ومقدارها أمر يمليه ويبرره القصد في التملك، فبإجماع المسلمين أن من ملك عينا لاتخاذها عرضا من عروض التجارة - سواء أكانت ثابتة أو منقولة - فزكاتها ليست كزكاة من ملك مثلها على سبيل حبس أصلها واستغلاله على سبيل الكراء، فتجب الزكاة في قيمة الأولى ولا تجب في الثانية، وإنما تجب الزكاة في غلتها على خلاف بين أهل العلم في اشتراط تمام الحول على الغلة، كما أن من ملك مثل هذه العين على سبيل القنية ولم يرد بها تجارة ولا استغلالا فلا زكاة فيها مطلقا.
وبهذا يتضح التفريق بين الأموال الواجبة فيها الزكاة ومقدار ذلك، والأموال التي لا زكاة فيها، وأصل التفريق في ذلك النية في التملك والتصرف فيه وفق هذه النية.
وأذكر في ذلك مجموعة فتاوى لشيخنا الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - من مجموع رسائله وفتاواه - مطبوع.
قال رحمه الله:
الأرض المشتراة المعدة للتجارة، هذه عروض تجارة فيها الزكاة في قيمتها إذا حال عليها الحول وبلغت نصابا. اهـ. الفتوى رقم 1034 جـ 4 ص 101.
وقال رحمه الله إجابة عن سؤال رجل عنده سيارة يترزق عليها، هل تجب فيها الزكاة أو في دخلها؟
قال: لا زكاة فيها إذا لم ينوها من عروض تجارة، وإنما الزكاة فيما يتحصل من ريعها إذا بلغ نصابا وحال عليه الحول. اهـ. الفتوى رقم 1041 جـ 4 ص 105.
وقال رحمه الله عن الدور التي تبنى بمبلغ ضخم، هل عليها زكاة أو الزكاة(32/144)
تكون من ريعها؟
قال: لا زكاة عليها، وإنما الزكاة في ريعها إذا بلغ نصابا وحال عليه الحول. الفتوى رقم 1040 جـ 4 ص 105.
وقال في الفتوى رقم 1042 لا زكاة في سيارات النقل، وقال في الفتوى رقم 1043 لا زكاة في عين البواخر والفنادق والمكائن والآلات والورش والمراكب.
ونصه: إن جميع ما ذكر لا زكاة فيه سواء أريد للإجارة والكراء أو للاستغلال والقنية.
وقال في الفتوى رقم 1044 لا زكاة في ورشة النجارة، وإنما الزكاة في غلتها إذا بلغت نصابا وحال عليها الحول.
وقول فضيلة الدكتور يوسف - حفظه الله ومتعنا بعلمه - بعد ذكره مثالا لرجلين أحدهما يملك أسهما في شركة تجارية، والآخر يملك أسهما في شركة صناعية:
فإن على الأول أن يخرج الزكاة عن أسهمه المائتين وما جلبت إليه من ربح أيضا في رأس كل حول. . - إلى قوله -: وهي نتيجة يأباها عدل الشريعة التي لا تفرق بين متماثلين. اهـ. قول فضيلته.
هذا فيه نظر. فلا شك أن الشريعة لا تفرق في الحكم بين متماثلين ولكننا نؤكد لفضيلة الدكتور يوسف بأن المالكين في الشركتين ليسا متماثلين، فأحدهما ملك أسهمه في شركة تجارية وبنية التجارة، والتجارة حركة مبنية على المخاطرة في التصرف فقد يخسر التاجر وهو يأمل أن يربح، وقد يربح كثيرا وهو يخشى الخسارة، أو لا يؤمل الربح كثيرا، فهو في تصرفه بين الخوف والرجاء.
والشارع لا يوجب عليه زكاة إلا فيما تحت يده إذا حال عليه الحول.
أما الثاني فهو يملك في شركة أصولها ثابتة مرصودة للاستغلال من أعيانها(32/145)
مع بقائها وطلب غلتها، فالفرق بين المالين واضح، وبين القصدين في التملك لا يخفى، وبين الآثار المترتبة على قصد التملك جلي.
وبهذا ينتفي القول بالتماثل في الشركتين، شركة المساهمة التجارية، وشركة المساهمة الصناعية.
رابعا: ذكر فضيلة الدكتور يوسف - حفظه الله - أنه في حال الأخذ بما أخذ به الشيخ عبد الرحمن عيسى فهو يختار أن تعامل الشركات أيا كان نوعها معاملة الأفراد، فإن كانت تجارية فتعامل كالفرد التاجر، وإن كانت صناعية فتعامل معاملة من يملك مصنعا أو مطبعة أو فندقا ونحو ذلك. وهذا القول الذي يختاره فضيلة الدكتور يوسف في حال أخذه بهذا القول اختيار صحيح يتفق مع ما اتجه إليه عامة أهل العلم في جميع المذاهب الإسلامية، وأرجو أن يتمسك فضيلته بهذا الرأي، فهو قول يمليه العقل والنقل ويتفق مع الحكم والمقاصد الشرعية للزكاة، سواء ما يتعلق بمصلحة دافعها أو مصلحة آخذها.
ويبقى معنا التحفظ على ما أخذ به فضيلة الدكتور يوسف من قياس غلال الأعيان المعدة للاستغلال من ثابت أو منقول على الخارج من الأرض، إذ لا وجه لهذا القياس، فالخارج من الأرض إنتاج زراعي تجب الزكاة في عينه بشروطه، أما الغلة من الأعيان المعدة للاستغلال فهي أثمان من ذهب أو فضة أو أوراق نقدية تجب فيها الزكاة وجوب الزكاة في الأثمان بشروطه. وهذا ما اتجه إليه عامة أهل العلم، ولعل فضيلة شيخنا الدكتور يوسف - حفظه الله - يعيد النظر في هذا، فالحق أحق أن يتبع.
وقال فضيلة الدكتور ما نصه:
الاتجاه الثاني: اعتبار الأسهم عروض تجارة
وإلى جانب الاتجاه الذي ذكرناه نجد اتجاها آخر يخالف الاتجاه الأول، إنه(32/146)
لا ينظر إلى الأسهم تبعا لنوع شركاتها فنفرق بين أسهم في شركة وأسهم في شركة أخرى بل ينظر إليها نظرة واحدة ويعطيها حكما واحدا، بغض النظر عن الشركة التي أصدرتها، فيرى الأساتذة أبو زهرة وعبد الرحمن حسن وخلاف، أن الأسهم أموال قد اتخذت للاتجار فإن صاحبها يتجر فيها بالبيع والشراء ويكسب فيها كما يكسب كل تاجر من سلعته، وقيمتها الحقيقية التي تقدر في الأسواق تختلف في البيع والشراء عن قيمتها الاسمية، فهي بهذا الاعتبار من عروض التجارة، فكان من الحق أن تكون وعاء للزكاة لكل أموال التجارة، ويلاحظ فيها ما يلاحظ من عروض التجارة.
ومعنى هذا أن يؤخذ منها آخر كل حول 2. 5 % من قيمة الأسهم حسب تقديرها في الأسواق مضافا إليها الربح، بشرط أن يبلغ الأصل والربح نصابا أو مكملا مع مال عنده نصابا. اهـ.
وتعليقي على هذا الاتجاه الثاني يتلخص فيما يلي:
إن أصحاب هذا الاتجاه لم يفرقوا بين شركات صناعية الغرض منها حبس أصولها وطلب غلتها وبين شركات تجارية، اختصاصها في تقليب أموالها بيعا وشراء على سبيل الإدارة التجارية، بل عاملوا كل الشركات بمختلف اختصاصاتها ونوع نشاطها، كما تعامل عروض التجارة من حيث وجوب الزكاة في كاملها بعد حسم أصولها الثابتة، مما لا يعتبر محلا للتجارة.
وهذا الاتجاه مخالف ما عليه عامة أهل العلم من التفريق بين ما أعد للاستغلال على سبيل الكراء، وما أعد للتجارة على اعتباره عروض تجارة، وفضلا عن المخالفة لما عليه أهل العلم فإن في ذلك بعدا عن العدل والإنصاف مع من يملك أسهما في شركة صناعية لا يتصور له نماء في أسهمه على سبيل الإدارة التجارية، كما يتصور ذلك ويترقبه من يملك عينا يرصدها للتجارة، ومن ذلك الشركات التجارية.(32/147)
فكما أن الشريعة الإسلامية لا تفرق بين متماثلين كذلك لا تجمع بين مختلفين، وعليه فإن هذا الاتجاه الثاني صحيح في نظري فيما يتعلق بالشركات التجارية، وغير صحيح فيما يتعلق بالشركات الصناعية للفرق بين الشركات بحكم اختصاصها وما انحصر نشاطها فيه.
وأخيرا فلا يسعني وأنا ألاحظ على جزئية مما ورد ذكرها في كتاب فضيلة الدكتور يوسف - فقه الزكاة - إلا أن أعبر عن تقديري وإعجابي بهذا الكتاب القيم، الذي سد بحق ثغرة عظيمة في مسائل الزكاة ومشاكلها.
فجزى الله شيخنا خيرا، وجعل هذا الكتاب وغيره من كتبه القيمة عملا صالحا ينفعه في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ لانتفاع إخوانه المسلمين بها، وجعل العمل للجميع خالصا لوجهه الكريم.
والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(32/148)
مفهوم الجهاد في الإسلام
بقلم د. محمد بن سعد الشويعر (1) .
الحمد لله الذي أعلى مكانة الجهاد، وأعظم أجر المجاهدين، حتى لا يزهد في هذا العمل من يريد الخير من البشر، والحمد لله الذي جعل المجاهد بأفضل المنازل، وأعلى الدرجات: إما الظفر والعز في الدنيا، وإعلاء كلمة الله، وإما الفوز بالشهادة والنعيم المقيم، كما قال سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (2) {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (3) والصلاة والسلام على من كانت حياته جهادا في سبيل الله لنشر الدعوة التي أمر بتبليغها، فكان مجاهدا بلسانه، وكان مجاهدا بجنانه ومشاعره، وكان شجاعا بسيفه وسنانه، في مجاهدة الكفار ليأطرهم على الحق أطرا، حتى أبقى أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وترك فيهم أمرين يرغبانهم في الجهاد، ويوضحان للناس ما خفي عليهم من أموره وأهدافه، ويزيلان ما يثار من شبه تطرأ مع نقص الفقه بأمور الجهاد، ومنازل المجاهدين، لن تضل الأمة ما دامت متمسكة بهما: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته الأخيار الذين استنوا بسنته، واقتفوا أثره، فرفعوا راية الجهاد بعدما رفعت روحه الطاهرة إلى بارئها، فكان في صلابة الخليفة الراشد الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه قمعا لبذور الفتنة عندما جهز
__________
(1) وردت ترجمة للباحث في العدد التاسع ص 289.
(2) سورة آل عمران الآية 169
(3) سورة آل عمران الآية 170(32/149)
الجيوش متشجعا في قوله المشهور: " والله لو منعوني عقالا - وفي رواية عناقا - كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه " (1) .
فنشر الله راية الإسلام في الآفاق، وطهر الله قلوبا من النفاق، بسيف الجهاد الذي أشهر، وعزيمة المجاهدين المحتسبين، وتوفيق الله وإعانته، حيث حمت نفوس الرعيل الأول عن مطامع الدنيا، واستجابوا لله ولرسوله، لأنه نداء الحق، وأرخصوا أرواحهم من أجل دينهم، وبذلوا مهجهم وأموالهم، حتى تنتشر عقيدة الوحدانية لله، ويتغلب أمره سبحانه على طغيان الهوى، ونداء الشيطان.
أما بعد:
فمثلما أن كثيرا من الألفاظ العربية قد جد فيها مع نور الإسلام مفاهيم اقترنت به، حيث أخذ بعضها معنيين: دلالة لغوية، ودلالة شرعية. . فكذلك كلمة الجهاد، قد اشتركت مع القتال في الدلالة اللغوية، حسب معناها في لغة العرب، وفي الجهود الظاهرة من حيث العدة والسلاح، والتهيؤ والحماسة، لكنهما تختلفان في المفهوم العميق، والمقاصد التي قام الجهاد من أجلها، كما يتباينان في الهدف ونوعية الدلالة المرتبطة بالنية والإخلاص.
كما يبرز دور الجهاد الذي اقترن بعقيدة الإسلام، من حيث المؤثرات والأسباب والمسببات، والمفهوم القتالي حسبما هو سائد في العرف العربي: يعني الشجاعة والصلابة، وطلب الشهرة، وحب التسلط، لكي يتحصل المقاتل على ذكر حسن ومحمدة في قومه. وقد يدفعه اعتداده بقوته إلى فرض ما يريد بالقوة مهما كانت النتائج، وبأي مظهر من مظاهر الحياة التي يمقتها الإسلام لمنافاة ذلك لعدالته، ولمكانته السامية المفهومة من مشروعيته، لأي عبادة من العبادات فيه، حيث يفهم منها معنى اجتماعيا رفيعا بعد الأساس، وهو الطاعة لله ولرسوله.
أما الجهاد الذي أصبح مسماه ودلالته، من العبارات الجديدة في قاموس المصطلح الشرعي، حسبما جاء في كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) من كلام الصديق في حروب الردة انظر البداية والنهاية 6: 311.(32/150)
كغيره من المعاني التي ارتسمت في مخيلة المسلمين، بما تعنيه من مفاهيم جديدة جاءت مع شريعة الإسلام: كالصلاة والصيام والحج والزكاة وغيرها، مما تدل عليه من أوامر ونواه وعبادات، فإن هذا الجهاد يعني عبادة بدنية مخصوصة لها وضعها الخاص، وجزاؤها الوفير، الذي أبانه منبع التشريع في الإسلام: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وما ذلك إلا أن مكانة الجهاد في شريعة الإسلام عالية المنزلة، رفيعة الدرجة عند الله، إذ بالجهاد تقوى النفوس، وتشتد العزائم، وبنتيجة الجهاد ترسخ مكانة الأمة الإسلامية، وتقوى ركائز الإيمان، وينتشر دين الله في الملأ.
والجهاد وسيلة لإخافة الأعداء، وتقوية الجانب الإسلامي، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ضمن الأمور الخمسة التي أعطي إياها، ولم تكن لأحد من الأنبياء قبله، فقال: «نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي (1) » فقد خافت الروم في الشام وفارس في أرض السواد، والأحباش في اليمن، وكل منها يبعد شهرا في المسير عن المدينة، من زحف جيوش الإسلام إليهم.
ومن هذه المكانة عده بعض الفقهاء ركنا سادسا من أركان الإسلام، الذي لا يقوم الدين إلا عليها، كالعمد التي يرتكز عليها البيت، معللين ذلك بأن الجهاد يأتي بعد الأركان الخمسة في الترتيب، وأهمية الحث والترغيب. فقد روى مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من النفاق (2) » .
وكثير من شراح هذا الحديث، يرون أن ترك الجهاد أحد شعب النفاق.
__________
(1) ضمن حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما الذي أخرجه البخاري ومسلم والنسائي، وانظر جامع الأصول 8: 528.
(2) انظر جامع الأصول 2: 562.(32/151)
وإدراك منزلة الجهاد تبرز من الحث عليه، والترغيب فيه، والطواعية في التنفيذ والعمل، سواء في كتاب الله بالدعوة للقتال والحماسة في ذلك، أو في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالاستجابة للنفير، وعدم التولي عند الزحف، والثبات في المعركة مهما تكاثر الأعداء.
والإدراك العميق للدلالة الشرعية للجهاد، مما يجعل القلوب تتعلق به، والنفوس والأموال ترتبط به، والمشورة تبذل رخيصة في ساحاته. ولذا عده الفقهاء رحمهم الله أفضل العبادات البدنية.
قال الإمام أحمد: " لا أعلم شيئا بعد الفرائض أفضل من الجهاد ". وقال غيره: " اتفق العلماء، فيما نعلم، على أنه ليس في التطوعات أفضل من الجهاد " (1) .
ويعضد هذا القول ما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها (2) » .
والإسلام لم تبرز مهابته ولم يخافه أعداؤه ولم يكن للمسلمين شوكة إلا بعدما فرض الله الجهاد على أبنائه؛ ليقسروا العرب عليه أولا بآية مدنية من سورة البقرة، حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالجهاد بعدما نزلت هذه الآية: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (3) فكانت كراهية الموت في القتال مرتبطة بالمكاره التي حفت بها الجنة.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام، وقال
__________
(1) حاشية الروض لابن قاسم 4: 255.
(2) جامع الأصول لابن الأثير 10: 504، وحديث أنس 9: 471.
(3) سورة البقرة الآية 216(32/152)
الزهري: الجهاد واجب على كل أحد غزا، أو قعد. . فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين، وإذا استغيث أن يغيث، وإذا استنفر أن ينفر، وإن لم يحتج إليه قعد، قلت: - والكلام لابن كثير - ولهذا ثبت في الصحيح: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية (1) » وقال عليه السلام يوم الفتح: «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا (2) » (3) .
ومن دلالة النصوص رأى الفقهاء رحمهم الله: أن الجهاد فرض كفاية، وفرض الكفاية: هو الذي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن تركوه جميعا أثموا، ما لم يحضر العدو، ويستنفرهم الإمام فإنه يتعين حينئذ على القادرين جميعا، ليكون في حقهم فرض عين (4) .
وفرض العين هو المتعين على كل واحد الاستجابة والامتثال بعينه ما دام قادرا.
ولشدة المشركين على الدعوة، وأذاهم لكل من دخل في دين الله في أول ظهور الإسلام، ولم يسلم من كيدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما بان في سيرته العطرة طوال فترة مكثه في مكة، وهي ثلاثة عشر عاما قبل أن يهاجر، فقد كان الجهاد في هذه الفترة ينصب على مجاهدة النفس، وحثها على الصبر في الأذى، والتحمل في سبيل المعتقد، حتى لا تقبل الدنية في دين الله، ولا تتزحزح عن معتقد رضيت به، وذاقت حلاوته الباطنية: وجدانيا في القلب، وإحساسا بالأثر.
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1910) ، سنن النسائي الجهاد (3097) ، سنن أبو داود الجهاد (2502) .
(2) صحيح البخاري الحج (1834) ، صحيح مسلم الحج (1353) ، سنن الترمذي السير (1590) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2773) ، مسند أحمد بن حنبل (1/226) ، سنن الدارمي السير (2512) .
(3) تفسير ابن كثير 1: 252.
(4) كشاف القناع 3: 28.(32/153)
مكانة الصبر:
ولذا يجد المتابع للآيات المكية تكرارا للصبر وتوضيحا لمكانة الصابرين، وتسلية للنفس بقصص الأمم السابقة مع أنبيائهم، مع إبراز جزاء الصابرين المحتسبين مربوطا بعقاب المنحرفين الصادين عن شرع الله، المؤذين لعباده(32/153)
المؤمنين، الرافضين للدعوة الإسلامية.
وقد ورد الصبر في كتاب الله أكثر من مائة مرة، والمتابع لكل آية يلاحظ أن معظمهن مكية النزول، وهذا فيه دلالة على مكانة الصبر، وأثره في تهذيب النفوس وترويضها على التحمل، كما قرن الصبر في الآيات المدنية بآيات الجهاد لارتباطه به في تبيان العلاج النفسي، حيث لم تستطع المؤثرات الحديثة أن ترقى إلى مستوى العلاج الإسلامي عند الملمات، وخاصة في الجهاد الذي يعاين فيه المرء الموت ماثلا، فيهون الأمر على المسلم لتقوى معنويته، ويشتد في طلب عدوه برباطة جأش وثبات وجدان. وهذا من أحد أسرار تغلب الجيوش الإسلامية مع قلة عددها، على أعدائهم الذين يفوقونهم عددا وعدة، يقول سبحانه: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (1) وقد قال أحد قادة الرومان: إننا لن نتغلب على المسلمين؛ لأنهم يحبون الموت كما نحب الحياة.
كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب المثل لأصحابه بالتحمل، ويقوي النفوس بالثبات في المعارك القتالية وفي ميدان الدعوة إلى الله، وسلاح ذلك قوة القلوب في التعلق بالله، مع حسن التوكل عليه والاستعانة بالدعاء. وذكر الله في كل موقف، لأن بذكر الله تطمئن القلوب.
وحتى يرسخ ما يعنيه الجهاد عند المسلم، وما يتركه من أثر، فإنه في حاجة إلى إدراك: أن الجهاد في سبيل الله وفق شريعة الإسلام، قد مر بمراحل كان لها أثر عميق في توطين النفوس عليه وتحريك الرغبة بالتهيؤ والترغيب إلى هذا العمل، لأن حسن الاستجابة لا تتم إلا بتمهيد إعلامي وتهيئة نفسية.
وقد بدأ هذا في مكة لتسلية المسلمين الأوائل عندما جوبهت الدعوة المحمدية بصدود المشركين وعنجهيتهم نحو الإسلام ومن دخل فيه، فدعيت هذه الفئة
__________
(1) سورة الأنفال الآية 66(32/154)
المؤمنة إلى الصبر وجميل التحمل وإلى كظم الغيظ ومغالبة نوازع النفس.
والمسلمون في مكة ذلك الوقت لم يكن لهم شوكة، ولا قوة على المجابهة والمواجهة، كما أن مكة لم تكن لهم بقاعدة ينطلقون منها، فكل واحد في هذا المجتمع الإسلامي الصغير في حاجة إلى من يحميه ويسند ظهره حتى أن بعضهم استجار ببعض مشركي مكة، لأنهم يخفون إسلامهم ويتوارون بعباداتهم خوفا من ملاحقة عتاة قريش، وإيذائهم، ولكل منهم قصة أو أكثر لأنهم فئة قليلة مستضعفة في مجتمع متعجرف متجبر.
وقد نال جبابرة قريش، وعتاة المشركين من المسلمين الأوائل كثيرا: سبا باللسان، وتطاولا باليد، وتفننا بالإيذاء، وقد حفلت كتب التاريخ بصور عديدة من ذلك، كما حصل لبلال رضي الله عنه (1) ، ولعمار بن ياسر وأسرته رضي الله عنهم، فكان رسول الله يمر بهم، وهم يعذبون ولا يتزحزحون عن دينهم، فيقول لهم مواسيا ومؤازرا: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة (2) » .
وتعتبر والدته سمية رضي الله عنها أول شهيدة في الإسلام، حيث طعنها أبو جهل - فرعون هذه الأمة - بحربة في موطن حساس من جسدها، وهي تعذب فأسلمت بعدها الروح إلى بارئها (3) .
أما الدلالة اللغوية لمعنى الجهاد، فتعني المبالغة واستفراغ ما في الوسع وبذل الطاقة من قول أو فعل. والمراد بالنية إخلاص العمل لله تعالى. وقال الراغب (4) في حقيقة الجهاد: استفراغ الوسع وبذل الجهد فيما لا يرتضي، وهو ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس. وتدخل الثلاثة في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (5) .
__________
(1) راجع بعضا مما ناله رضي الله عنه في أسد الغابة لابن الأثير 1: 243.
(2) انظر فضائل عمار في جامع الأصول 9: 41.
(3) راجع قصة إسلام عمار وآله في أسد الغابة 4: 130 وعما حصل لسمية نفس المصدر 7: 152.
(4) تاج العروس 2: 330.
(5) سورة الحج الآية 78(32/155)
وهذه الدلالة اللغوية توطن العمل لغاية هي المفهوم الإسلامي للجهاد، الذي يعني التحمل احتسابا لما أعده الله من أجر للمجاهدين. ورغبة في تغلب الإسلام على الكفر إرضاء لله وامتثالا لأمره سبحانه، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بالطاعة القولية والعملية حتى يكون الدين كله لله. يقول سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (1) ، وقوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (2) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 193
(2) سورة الأنفال الآية 72(32/156)
حماسة المسلمين:
والمسلمون لمحبتهم لدينهم ورغبتهم في الدفاع عنه، ولفرط ما يوقعه المشركون على المسلمين من أذى، فقد كبرت الحماسة في نفوسهم بعدما بدأ عددهم يتكاثر، فكانوا يتمنون أن يفرض عليهم أمر بالقتال، وكانت كثير من آي الذكر الحكيم في السور المكية، وبداية العهد المدني توطن النفوس، وتهيئها للاستجابة والتحمل، وترغبها في الجزاء الأخروي، وتحمسها لنشر دين الله في الأرض، وكل ذلك من أجل إدراك المفهوم البعيد نحو الجهاد والغاية التي شرع من أجلها، وهي إقامة شرع الله، وفتح القلوب له ترغيبا أو ترهيبا، فإذا قبلته وذاقت حلاوته فلن ترضى عنه بديلا. كما قال سبحان: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1) {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) .
ففي مثل هذه الآيات منهج مرسوم لما يحققه الجهاد من دفاع عن الكرامة الإسلامية، ومحافظة على الشخصية المتميزة في التعامل، ليكون للمسلم قوة
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 8
(2) سورة الممتحنة الآية 9(32/156)
ومهابة، هي العزة التي يحرص عليها الإسلام نحو أبنائه في ظل خيمة الإسلام الوارفة وحمايته القوية: عقيدة وعملا، ومنهج سلوك وميدان تعامل.
فالآيات التي تحث على الجهاد سواء في جهاد النفس أو في جهاد الهوى والشيطان، كلها تنبئ عن عمق ما يرنو إليه المجاهد، وما يحرص منهج التشريع في الإسلام على تحقيقه بقوة الجهاد، إذ كثير من الأمور لا تأتي بالمهادنة والملاينة، والتراخي في العرض، والليونة في الصد.
فالنظرة البعيدة، والتهيئة الحاضرة، لا بد أن تستند على قاعدة أساسية لهذا المنطلق، وذلك ببيان حقيقة الدين وما يصبح عليه الذين آمنوا، والتمجيد لحالتهم الدنيوية بالتمكين، ولمعادهم الأخروي بالنعيم المقيم، ومقاربة ذلك تشويقا ببيان حقيقة الكفر، وما يئول إليه الذين كفروا من خسارة وخذلان في الدنيا، وعاقبة سيئة، وشقاوة أبدية في الدار الآخرة التي هي مصير أزلي لكل إنسان في هذه الدنيا.
وفي هذه المعادلة المرتبطة بالجهاد، يتضح من النتائج الحتمية التي هي وعد من الله جل وعلا، ووعده سبحانه حق لا مراء فيه، بيان حكمة عمليات الجهاد القتالية والتشجيع عليه، بإكرام الله لمن استشهد أثناء القتال، وما أعد الله له سبحانه من مكانة رفيعة حتى لا يزهد فيه أحد، ولما يتركه من نتائج في رفع الظلم، واستقرار النفوس وأمن المجتمعات.
أما من يخوض الحرب ولم يتحقق له فضل الاستشهاد، فإن الله يعده بالنصر على الأعداء، والعلو في الدنيا عندما ينتصر لدينه، ويتفانى في الذود عنه، ونفي الشبهات التي يسلطها أعداء الله، وأعداء دين الإسلام، وذلك بالحرص على إظهاره على الباطل، وتغليب سلطانه على غيره، وهذا مدخل من مداخل الدعوة لدين الله وترغيب الآخرين فيه تفقها وتعليما وتوضيحا وترغيبا، لأن مبدأ الجهاد: الدعوة إلى دين الله وإسماع الآخرين صوت هذا الدين، ومنهجه في مخاطبة النفوس ومعالجته لشئون الحياة، وإعطاء المهلة في ذلك لترعوي القلوب،(32/157)
وتناقش محاسن هذا الدين بالمقارنة مع أي مبدأ أو عقيدة، فإن لم يقبلوا الدخول في دين الإسلام بعد مهلة المراجعة، فإنهم يطالبون بدفع الجزية عن يد وهم صاغرون، أما مع عدم الاستجابة وبعد انتهاء فترة الخيار التي يجب على القائد المسلم تقديمها لمن يريد قتالهم، فإنه لا مناص من القتال، الذي يؤيد الله به الفئة المؤمنة، ويثبت به أقدام المجاهدين، بإهلاك الكافرين وإحباط أعمالهم. وهذا ما يتم في الدور العملي للجهاد.(32/158)
لا بد للجهاد من قاعدة:
فعندما تكالبت قوى الشر، وازداد كيدها في محاولة للقضاء على النور الذي أضاءه الله برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، تحرك الشر أكثر من ذي قبل، بعدما أذن الله لنبيه الكريم عليه الصلاة والسلام بالهجرة إلى المدينة، فقد شعر أعداء دين الله بأن هذا المنتجع الجديد قد يفتح عليهم جبهة جديدة يكبر حجمها بتكاثر من يدخل في الإسلام ويتأصل كيانهم بتقاطر جمعهم من كل مكان، وذلك بعدما أصبح لهم قاعدة ينطلقون منها، وأنصارا يزداد عددهم ويسندون ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مما جعل الخطر في نفوس المشركين يزداد والخوف يتضاعف، كما حصل بعد ذلك في كل زمان ومكان من تكالب قوى الشر على المسلمين. كلما شعروا بنقاط ضعف فيهم ووجود ثغرة ينفذون منها.
ولذا خطط المشركون لاستئصال شأفة المسلمين والقضاء على الدعوة بالمكيدة لمحمد صلى الله عليه وسلم، في محاولة منهم لكي يطغى صوت الباطل على دعوة الحق {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (1) .
فبدأ التحالف مع القبائل الأخرى، وسعوا إلى تمكين القوة المعنوية في حلفائهم بالوعود والترغيب، وهذه ظاهرة تبرز في كل عصر ومصر، كما هي
__________
(1) سورة الصف الآية 8(32/158)
لدى قوى الشر التي تريد التصدي للحق، ولا سبيل إلى علاجها - كما يبرز في مكائدها وتحالفها ضد الإسلام وأهله، مهما تسترت خلفه من أقنعة، أو سارت وراءه من غايات ومبادئ - إلا بنفس العلاج الجهادي الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا القول الكريم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (1) ثم مدح الله هذه الفئة بصالح أعمالهم وجميل صفاتهم، وذلك بقوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (2) . فكان هذا إيذانا للبدء بالقوة، ودخول طور جديد في حياة المسلمين وتهيئة نفوسهم لتقبل الجهاد، والثبات في ملاقاة أعداء الله: ردا للظلم، وانتصارا لشرع الله، واحتسابا لما وعدوا به في إحدى الحسنيين: إما الظفر على الأعداء أو الشهادة في سبيل الله. وفي كلا الحالين رفع للذلة عن المسلمين، وإعانة للمظلوم، وتقوية للأمة الإسلامية.
قال أبو السعود في تفسيره، عندما مر بهذه الآية الكريمة: أي بسبب أنهم ظلموا وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم، كان المشركون يؤذونهم، وكانوا يأتونه عليه الصلاة والسلام بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه، فيقول عليه الصلاة والسلام: «اصبروا فإني لم أومر بالقتال» حتى هاجروا فأنزلت هذه الآية، وهي أول آية نزلت في القتال، بعدما نهي عنه في نيف وسبعين آية، وقد وعدهم بالنصر وأكد ذلك بمؤكد، وأن المراد ليس تخليصهم من أيدي المشركين، بل تغليبهم وإظهارهم عليهم، والإخبار بقدرته على نصرتهم، وارد على سنن الكبرياء (3) .
أما ابن كثير رحمه الله، فقد أورد قول مجاهد والضحاك وغيرهما من علماء السلف الذي جاء فيه: هذه أول آية نزلت في الجهاد، واستدل بعضهم بأن
__________
(1) سورة الحج الآية 39
(2) سورة الحج الآية 41
(3) إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم 4: 28.(32/159)
هذه السورة مدنية، ومن فطنة أبي بكر رضي الله عنه أنه عرف بعدما نزلت هذه الآية، أنه سيكون قتال (1) .
__________
(1) تفسير ابن كثير 3: 225.(32/160)
جهاد اللسان:
أما الجهاد باللسان، فقد طرق أربابه فيه دربا مؤثرا، ودخلوا بالشعر ميدانا من ميادين الذب عن الإسلام، والذود عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك منذ أن وطئت قدما رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجره الجديد، فكان حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وغيرهم ممن فتح حربا كلامية في الرد على شعراء قريش وتصيد معايبهم وفضح أقوالهم. . وهذا المنهج هو ما يسمى في العصر الحاضر بالحرب الإعلامية التي لا يقل أثرها عن الحرب بقوة السلاح، فقد «قال قائل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: اهج القوم الذين يهجوننا. فقال: إن أذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عليا ليس عنده ما يراد من ذلك، تم قال: ما يمنع القوم الذين نصروا صلى الله عليه وسلم بأسيافهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان: أنا لها وأخذ بطرف لسانه، وقال: والله ما يسرني به مقول بين بصرى وصنعاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تهجوهم وأنا منهم؟ وكيف تهجو أبا سفيان وهو ابن عمي؟ فقال: يا رسول الله لأستلنك منهم، كما تسل الشعرة من العجين، فقال: ائت أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك» .
وكان يدعو له الرسول الكريم بقوله: «إن الله يؤيد حسان ما نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بروح القدس (1) » .
ولمكانة الشعر الذي اعتبره النقاد: صحيفة العرب المعبرة عن أحاسيسهم
__________
(1) انظر أسد الغابة لابن الأثير 2 \ 5(32/160)
وما يجول بخواطرهم فإن له تأثيرا كثيرا في المنهج الجهادي، عندما يشارك في أي وقت، ودورا بارزا في ترسيخ مفهوم الجهاد من حيث التأثير في الخصوم، وإنقاص مكانتهم عند الآخرين، تعرية معايبهم، وفي الجانب الآخر: بتقوية نفوس الفئة المؤمنة، وتوضيح الحق الذي يدعون إليه، وبيان ما ينتج عن الثبات على المبدأ السليم، الذي هو من عند الله، من عواقب حميدة، تبرز آثارها بأقرب مقارنة بين حالة وحالة.
كما نلمس اليوم الآثار الإعلامية في الحروب، وتسليط كل فريق ما يملك من قدرات وجهود على ما يريد من مطلب، وما يدعو إليه من هدف، لكن مع الفارق الكبير بين الحالين في المطالب الذاتية، والوسيلة المتخذة للهدف. فالشعر الجهادي يعتمد الحماسة وتبرير الموقف والصدق في القول وعدم البهتان للآخرين، كما رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان، والإعلام الحاضر يعتمد في الغالب على الكذب والتضليل، وتلبيس الحقائق، ولكي يكون الإعلام مقبولا ومؤثرا فإن الصدق لا بد أن يكون مطيته، لأن مبدأ الإسلام يمقت الكذب وينفر منه، ونلمس أيضا بروز مطالب الجهاد من مثل هذه الآية الكريمة التي توطن نفوس المجاهدين، وترسخ جزءا من المطلب الذي جاهدوا من أجله، لترتاح نفوسهم، فيقول سبحانه: {وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ} (1) .
وما ذلك إلا أن للجهاد مفهوما عميقا، ومطلبا عاليا، وغاية يقصد إليها المجاهد، تختلف عن مفهوم المقاتل بلا هدف، أو لمطمع دنيوي، أو أثرة نفسية، حيث تبرز مكانة المجاهد في سبيل الله من صدقه وإخلاصه مع عزته في نفسه، واعتداده بالدين الذي أرخص وجاد بنفسه وماله من أجله، لأنه استجاب لما أمر به من الدعوة إليه من أن يهان والدفاع عن حرماته، عن أن تنتهك. وهذا المطلب يدعوه لأن يكون قويا في الحق، معتمدا على الله، فاهما لما
__________
(1) سورة النساء الآية 104(32/161)
يجب عليه حياله، صلبا فيما يدعو إليه، مدركا ما يدعوه إليه الدور الجهادي من مهمة نحو نفسه، ونحو غيره. فالمعاندون الذين وقفوا من الإسلام موقف التحدي لا يزيحهم من اعتراض الطريق ومحاولة إبعاد الناس عن الدين الحق، ولا يسكت أصواتهم المسلطة للصد عن شرع الله، إلا التصدي لهم بالقوة، التي أمر الله الأخذ بأسبابها، في قوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (1) .
وهذه القوة تتبدى في شعب كثيرة: إذ هناك قوة السلاح وقوة الرجال، وقوة التصنيع وقوة التدريب، وقوة العدد المتطورة، وقوة الإعلام، وهناك قوة المال، وقوة الاقتصاد، وقوة التعليم، وأهمها قوة العقيدة وغيرها من القوى العديدة.
فكل قوة متطورة في أي شأن من شئون الحياة، في كل زمان ومكان، تعتبر جهدا يجب الحرص عليه، والأخذ منه بما يناسب الحالة القتالية، لكي تكون الغلبة للمسلمين، وهذا مما يقوي المفهوم الجهادي للفرد وفي المجتمع، ومما يعين على مغالبة الأعداء عند مجاهدتهم، وليكون من ذلك وسيلة تذعنهم لمنهج القوة الإسلامية حتى يذلهم الله بالهزيمة، ثم القضاء عليهم، وتشتيت شملهم بقوة الإسلام المادية وقوة معنويات أبنائه عقديا.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60(32/162)
فضل الجهاد:
فالجهاد فضله عظيم، ومكانته رفيعة، لأن حاصلة بذل أعز المحبوبات من المجاهد، وإدخال أعظم المشقات على النفس، ابتغاء مرضات الله، وتقربا إليه سبحانه، ونفع الجهاد لا يخص المجاهد نفسه، بل يعم المسلمين كلهم، وغيره من الأعمال لا تساويه في نفعه وخطره، ومن باب أولى ألا تساويه في فضله، أما الشهادة فيه فإنها تكفر الذنوب غير الدين «لقوله صلى الله عليه وسلم للذي(32/162)
سأله: أيكفر الله عني خطاياي إن مت صابرا محتسبا في سبيل الله؟ قال: نعم. . إلا الدين (1) » .
ومن فحوى الآيات الكثيرة في كتاب الله الكريم التي تدعو للجهاد في سبيل الله، وتجسم أجر من قتل صابرا محتسبا، وترغب في هذا العمل الجليل بصدق نية وإخلاص عمل، ينكشف للمتابع الإصرار الخبيث على الشر، وعلى فتنة الناس عن دينهم، وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة. في كل أرض وفي كل جيل، لأن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين، ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين، فالإسلام بذاته يؤذيهم ويخيفهم ويغيظهم، فهو من المكانة والقوة، بحيث يخشاه كل مبطل، ويرهبه كل باغ، ويكرهه كل مفسد. فهو حرب بذاته وبما فيه من حق ومنهج قويم، ونظام سليم، فلا يطيقه البغاة المفسدون. ومن ثم يرصدون لأهله ليردوهم كفارا مهما استطاعوا وبأي صورة كفرية تعجبهم (2) ولا يقف أمام ذلك الطغيان إلا سلاح الجهاد، وعزيمة المجاهدين المخلصين، حيث يتسلح المجاهد من ينبوع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم القولية والعملية وإقراراته أسوة بما أدركه الرعيل الأول من هذه الأمة.
فالفرد المسلم لا قوة له إلا بقوة دينه، ولا قوة للدين إلا بفرض سلطانه رغبة أو رهبة، يقول صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلكم على أحب عباد الله إلى الله، بعد النبيين والصديقين والشهداء، قال: عبد مؤمن معتقل رمحه على فرسه، يميل به النعاس يمينا وشمالا في سبيل الله، يستغفر الرحمن، ويلعن الشيطان. قال: وتفتح أبواب السماء فيقول الله لملائكته، انظروا إلى عبدي. قال: فيستغفرون له. ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (3) » إلى آخر الآية رواه ابن أبي شيبة
__________
(1) حاشية الروض لابن قاسم 4: 255.
(2) في ظلال القرآن 2: 157.
(3) سورة التوبة الآية 111(32/163)
عن عطاء بن أبي رباح، عن واصل بن عطاء (1) .
والسنة النبوية، توجه النفس البشرية للمنهج السليم الذي يجب أن يسلك في الجهاد، حتى يعود عليها هذا العمل بالفهم الجيد، وعلى المجتمع الإسلامي بالنفع العميم، يقول صلى الله عليه وسلم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، الذي رواه أبو داود والنسائي: «الغزو غزوان، فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام، وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد، فإن نومه ونبهه أجر كله، أما من غزا فخرا ورياء وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لا يرجع بالكفاف (2) » .
ومن حرص المتفقهين في دين الله من هذه الأمة في التوقي لأنفسهم، حتى لا تزل قدم بعد ثبوتها، وينحرفوا عن الطريق الذي رسمته شريعة الإسلام في مباعدة مفهوم القتال دفاعا عن الدين، عن معهودهم في القتال الذي يسود بين القبائل، ويتبارى فيه الفرسان لنيل المحمدة الدنيوية، والذكر الحسن، يهتمون بمثل هذا الحديث الذي يوضح فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما يجب أن تتحلى به النفس المجاهدة، من نية صادقة، وإخلاص في العمل، لأن الله لا يقبل إلا ما كان خالصا لوجهه، ومرادا به رضاه، فقد روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليحمد، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه. فمن في سبيل الله؟ ! قال البشير صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله (3) » رواه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود والترمذي.
ومن هذا المفهوم الاعتقادي، كانت حياة المسلمين العارفين بذلا، وأعمالهم جهادا، لأن قلوبهم كانت مشبعة بحب الحروب، لا رغبة في التسلط، أو تعطشا
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة 5: 342.
(2) انظر جامع الأصول 2: 576.
(3) انظر جامع الأصول 2: 581 والفظ للنسائي وأبي داود.(32/164)
للدماء، كما يفعل أصحاب الأهواء، وإنما انطلاقا من الاستجابة، وتطلعا إلى الغاية التي يهدف إليها القتال في سبيل الله وفق النص الشرعي، وأغلاها في حياة المجاهد المحتسب: الموت تحت ظلال السيوف في سبيل الله ومن أجل نشر دينه، حيث أخذ الفقهاء رحمهم الله: حكما من هذا المفهوم الرفيع، الذي انتهجه رسول الله في مكانة الشهيد عموما: بأنه لا يغسل ولا يكفن، بل يصلى عليه، ويدفن في مكانه وفي ثيابه التي قتل فيها بدمه، ليكون شاهدا له عند ربه (1) . أما شهيد المعركة فالأصح أنه لا يصلى عليه، فقد روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول: " أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ " فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال: " أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة " وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم (2) » .
واهتمام علماء الإسلام بهذه الشعيرة، تعلقا بالقلب، وبذلا بالمال، ودعوة باللسان، ثم مبادرة بالعمل، ومن لم يستطع خلف غيره في أهله بخير: جعل سير حياتهم تحفل بالأدوار الإيجابية، مقرونة بالنية الخالصة، التي هي شرط أساسي في الجهاد، مما يبرهن على الصدق والمحبة كل بحسب مكانه، كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن أناس من أمته يحظون بأجر المجاهدين في مثل هذا القول، قال أنس بن مالك: «رجعنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن قوما خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعبا ولا واديا إلا وهم معنا حبسهم العذر (3) » .
وكما كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وهما خليفتان راشدان أمرنا رسول الله بالأخذ بسنتهما، يحرص كل منها أن يودع الجيش الغازي إلى أطراف المدينة، وهو يمشي على قدميه، رغبة في تغبير قدميه في سبيل الله، ليزود القائد بما يجب أن يعمله من توصيات ترفع من مكانة الجيش الإسلامي في عيون
__________
(1) انظر مصنف عبد الرازق 3: 540 - 548.
(2) رواه البخاري في الجنائز باب الصلاة على الشهيد
(3) رواه البخاري، وانظر جامع الأصول 2: 622.(32/165)
الأمم المغزوة، فينتج عن ذلك السمعة الحسنة، والاستجابة لداعي دين الله، هذه أخلاق الظافرين من أبنائه تواضعا ورأفة واهتماما بالضعفاء، وعدلا بين الناس. وما ذلك إلا أنهما تلقنا من مدرسة النبوة المفهوم الحقيقي للجهاد، والتواضع المطلوب من القيادة، والأجر العظيم الذي يناله المجاهد الصادق (1) . كيف لا وهما ملازمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسمعان منه مثل هذا القول الكريم الذي يحرك المشاعر، ويثبت الوجدان: «والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه، ولا اغبرت قدم في عمل تبتغى به درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كالجهاد في سبيل الله عز وجل (2) » . وما ذلك إلا أن الجهاد هو ذروة سنام دين الإسلام.
أما أبو طلحة رضي الله عنه، فإنه لم يمنعه كبر سنه من إدراك مفهوم الدعوة إلى الجهاد، حسبما حوته النصوص الشرعية، بأهمية المبادرة إليه، وعدم التواني عن المشاركة في أقرب فرصة تسنح، لعل الله أن يكتب له الشهادة، فيحظى بما أعد الله للمجاهد من فضل، وتكون خاتمة حياته حسنة، فقد قال عندما سمع بالنفير إلى الجهاد، في إحدى الغزوات التي اتسعت بها رقعة الإسلام، وأزال الله بها غشاوة الوثنية: يقول الله عز وجل: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (3) أي كهولا وشبابا، ثم قال: ما أرى الله عذر أحدا، فخرج إلى الشام فجاهد حتى قتل (4) .
__________
(1) انظر بعضا من وصايا أبي بكر في البداية والنهاية.
(2) جامع العلوم الحكم لابن رجب ص 259.
(3) سورة التوبة الآية 41
(4) مصنف ابن أبي شيبة 5: 341.(32/166)
الدور الجهادي:
فالصفوة الأولى من هذه الأمة يحرصون على أن يكون المفهوم رابطا قويا بالله مثمرا في العمل، لأن من معرفة حقيقة الجهاد، والدعوة إليه أن يكون المجاهد عارفا بأمر ربه، مستقيما على منهج الإسلام، محافظا على شعائر هذا الدين بالاعتقاد والعمل، نابذا كل مبدأ يخالف الإسلام، مراقبا الله فيما(32/166)
يأخذ ويذر.
أما أن يأتي من يدعو للجهاد بلسانه، وهو مخالف للإسلام في سلوكه ومبدئه، ظالم لعباد الله، متحمل دماءهم وأموالهم في عنقه، فهذا ادعاء باطل، ولا يعتد بقوله، لأن الجهاد ليس منحة توزع، وجزاؤه ليس بيد الإنسان يعطيه من يشاء ويحرمه ممن يشاء، ومن يؤيد شيئا يخالف شرع الله، فهو من باب إعانة الظالم على ظلمه، والقول على الله بغير علم.
وما جيء الإسلام إلا من المنتسبين إليه، المتجرئين على حرماته تضليلا وادعاء، وما خشي صلى الله عليه وسلم على أمته بمثل ما خشي من العلماء المضللين، الذين يفتون بغير علم. وقديما كان للمنافقين مقالة شبيهة بهذه {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} (1) ويعنون بالأعز هم، والأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في نظرة مقلوبة، ومفهوم خاطئ. فالإسلام بشرائعه ليس بمقاييس البشر اعتقادا وجزاء، ولكنه يؤخذ من المقاييس التشريعية التي تحدد الهدف والغاية: بقول حق، ووعد صادق، هو من الله عز وجل، أو تبليغ من رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، والحق لا يتبع الهوى، ولا يخضع للرغبات البشرية: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (2) .
أما دور المرأة في الجهاد، فهي وإن عذرت منه بدنيا، حيث كانت كثير من نساء الإسلام يرغبن في الأجر الذي أعده الله للمجاهدين، ويرغبن أن يكون لهن شرف المشاركة في نشر دين الله، فإنها قد أعطيت مداخل أخرى، بجهاد النفس، وجهاد المال، وجهاد المشورة، والمجاهدة في أداء العبادات كما أمر الله. وقد سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جهاد المرأة، لترسخ مفهوم الدور الجهادي للمرأة، «فقالت: يا رسول الله هل على النساء من جهاد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم عليهن جهاد لا قتال
__________
(1) سورة المنافقون الآية 8
(2) سورة المؤمنون الآية 71(32/167)
فيه الحج والعمرة (1) » رواه أحمد وابن ماجه وإسناده صحيح.
ومن هنا اشترط الفقهاء في المجاهد أن يكون: ذكرا مسلما حرا، مكلفا صحيحا، واجدا ما يكفيه وأهله في غيبته - بملكه أو ببذل الإمام - ولا تنازع بينهم في عدم وجوبه على الأنثى (2) .
ومع هذا، فإن المرأة تحب المشاركة بقدر طاقتها، ووفق شريعة الإسلام بإنزالها مكانها اللائق بها، رغبة في نيل الفضل الجزيل من الجهاد، والمشاركة فيما فيه مصلحة لعقيدة الإسلام، ونشر دين الله كما أمر الله، فقد كان منصور بن عمار الواعظ، يذكر الناس يوما، ويحثهم على الجهاد في سبيل الله، ويبين لهم مكانته في عز الإسلام، وقوة المسلمين وما أعده الله من جزاء، فأثر في الناس، وتسابقوا في البذل، وتسجيل أنفسهم للتهيؤ مشاركة بالنفس ومجاهدة بالمال، وكان يحضر مجلسه بعض النساء في مكان خاص بهن، لرغبتهن في الخير، فسقط بين يديه وهو في مجلسه لفافة، ولما فتحت إذا ورقة مربوطة في جديلة شعر، وهي من امرأة تقول: لقد سمعت كلامك في الجهاد، والحث على المشاركة، وما يعنيه المفهوم الشرعي من مكانة رفيعة للجهاد في سبيل الله. ولما كنت طامعة في الأجر، ولكن المرأة لا جهاد عليها، فإنني لا أستطيع الجهاد بنفسي، ولا مال عندي فأدفعه لتجهيز الغزاة، حتى أنال مثل أجورهم، ولا أملك غير جديلة شعري هذه فقطعتها لتجعلها قيدا لفرس أو عقالا لناقة في سبيل الله.
وما هذا الإحساس الذي تمتلئ به بطون الكتب في فقه الإسلام، وتاريخ مسيرته، إلا نبع من قلوب صافية، وأذهان نيرة، واستجابة يدفعها الفهم الصحيح النابع عن علم ودراية، لما يجب أن يؤدى في سبيل الله، ومباعدة لما
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني.
(2) حاشية الروض لابن قاسم 4: 256.(32/168)
يراد إدخاله من زيف وتضليل على منهج الإسلام النقي، وقد كانت القدوة التي يجب أن تحتذى في العمل هي ما سارت عليه القرون الثلاثة الأولى من عصور الإسلام، وما أدوه من جهود مخلصة في نشر الإسلام في أنحاء الأرض، وما بذلوه من جهود في الاهتمام بأن تكون كلمة الله هي العليا، وإبراز صورة الإسلام المشرقة في تأمين النفوس، والمحافظة على الممتلكات والأعراض، ورفع الظلم، ونشر العدالة، كجزء من مهمة الجهاد في سبيل الله، حسبما تعنيه دلالة الكلمة من مقصد كريم هي المقصد الذي اشرأبت إليه أعناقهم.
وقد تأسى بهم من جاء بعدهم في الفهم وحسن التطبيق، فحقق الله على أيديهم النصر والتأييد كما حصل لصلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين، ولذا نص بعض العلماء على أن القرون الثلاثة الأولى هي المعنية بالخيرية في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير أمتي القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - والله أعلم: أذكر الثالث أم لا؟ - قال: ثم يخلف قوم يحبون السمانة، يشهدون قبل أن يستشهدوا (1) » ، وهم أكثر من أدرك المغزى الكبير لمفهوم الجهاد نحو النفس، ودوره في أداء الأمانة بنشر دين الله في الآفاق، وما يجب أداؤه نحو أمم الأرض قاطبة، سواء أكانوا قادة أو مقودين، وسواء أكانوا علماء أو متعلمين. . حيث لا يزهد في الجهاد إلا خاسر، ولا يحرص عليه إلا من عرف حقيقة دينه، وأداء واجباته عملا بصدق وإخلاص نية، فاتسعت رقعة الإسلام في المعمورة، وتزايد عدد الداخلين في دين الله عن رغبة ومحبة.
وبهذا المفهوم انتشر دين الله، ودخلت أمم الأرض في الإسلام، وأحبته وجاهدت من أجل نشره لدى غيرهم، لأن من حقائقه أن يكون الراغب في
__________
(1) انظر جامع الأصول 8: 550.(32/169)
الإسلام، له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، دون تفريق ولا تحيز، فالهدف هداية الناس إلى دين الله، وتحبيبهم فيه، والبعد عن الفوارق.
ومن هذا المنهج، ومن المحبة المتمكنة التي تتأصل في قلب كل مسلم نحو الجهاد، مهما كان موقعه وأصله، لأن الإسلام لا يمايز بين أبنائه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) سورة الحجرات، آية 13. . «ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى (2) » . من هذا ندرك السر الكبير في اتساع المعرفة، بما بسط في الكتب من دراسات حول مكانة الجهاد، وأن عز الإسلام الذي مكنه الجهاد بفضل الله في مثل هذا النص: «ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا» وما ذلك إلا أن «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة (3) » . ما هو إلا دور يجب ألا يغيب عن المسلمين في أي عصر ومصر.
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/411) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1873) ، سنن الترمذي الجهاد (1694) ، سنن النسائي الخيل (3575) ، سنن ابن ماجه التجارات (2305) ، مسند أحمد بن حنبل (4/376) ، سنن الدارمي الجهاد (2427) .(32/170)
شبهات الأعداء:
ولقد كان أعداء الإسلام قد حاولوا الدس بشبهات منها: أن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، وأن القصد من فرض الجزية الطمع المالي، وما يرددونه من شبهات حول كثير من القادة كخالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من أهمية الحصول على النساء المشهورات في المغنم للاستئثار بهن. وما علق بسيرة هارون الرشيد والمعتصم، وهما من هما في مقارعة الرومان، وكسر شوكتهم، فكل هذه شبهات يريد بها المستشرقون والمنافقون، وأعداء الإسلام في كل زمان ومكان، أن يغيروا الصورة الحقيقية لمفهوم الجهاد، وأن يثيروا البلبلة نحو رسالته ومكانته في قمع الشر، وترد عليهم أحكام الإسلام في أهل الذمة، والوفاء بالعهود وتقسيم الغنائم (1) . وأسلوب الدعوة لدين الإسلام، ووصايا رسول الله وخلفائه ثم من بعدهم لقادة الجيوش، ورأفة الإسلام بالأمم المغلوبة، ونظرته نحو الرق والكفارات الكثيرة التي أول جزاء فيها العتق. ومعاملة الأسرى، ومنع قتل المدبر والطفل والمرأة ومن لم يقاتل. وهذا من نظرة الإسلام
__________
(1) انظر كشاف القناع - مثلا - في أحكام أهل الذمة والأسرى وقسم الغنيمة جـ 3 ص 46 - 134.(32/170)
العادلة، وحكمة الله البالغة في المصالح العظيمة من وراء مشروعية الجهاد، التي ستبقى إلى أن تقوم الساعة، كما روى سلمة بن نفيل الكندي رضي الله عنه قال: «كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله، أذال الناس الخيل، ووضعوا السلاح، قالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، وقال: كذبوا، الآن جاء القتال، ولا تزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام، ويرزقهم منهم، حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وهو يوحى إلي: إني مقبوض غير ملبث، وأنتم تتبعوني، ألا فلا يضرب بعضكم رقاب بعض، وعقر دار المؤمنين الشام (1) » رواه النسائي.
وبعد غزوة تبوك - إن صح ما يروى عنه صلى الله عليه وسلم: «عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر (2) » فلعله يعني به مجاهدة النفس والهوى والشيطان، فإن هذه الأمور تحتاج إلى مغالبة كبيرة حتى لا يتزحزح الثبات عن مبدأ الإسلام وحقيقته.
وبعد: فإن مكانة الجهاد عظيمة، ومنزلته رفيعة، كيف لا وقد ورد في فضله أحاديث كثيرة توجب على كل مسلم أن يهتم به. فقد «سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال الصلاة على وقتها. قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله (3) » ولا يطيق المرء عملا يعدل الجهاد في سبيل الله، لصعوبة ذلك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صدقة حتى يرجع المجاهد إلى أهله (4) » .
وبر الوالدين من الجهاد الذي حث عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) انظر جامع الأصول 2: 570.
(2) ضعف هذا القول كثير من أهل العلم منهم ابن القيم رحمه الله.
(3) مصنف ابن أبي شيبة 5: 286.
(4) مصنف ابن أبي شيبة: 5: 287.(32/171)
في أكثر من موضع، والحج والعمرة يعتبران جهادا لعظم نفعهما. وإن من يتابع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي الصحابة الكرام في توضيح مكانة الجهاد، وأثره على الفرد جزاء وتوجيها، ومكانة عند الله، ليدرك المفهوم الحقيقي الذي أولاه الإسلام لهذه الشعيرة، والأجر العظيم الذي يحظى به المجاهد الذي يبذل أغلى ما يملك وهو روحه، رخيصة في سبيل الله.
والسنة هي التي توضح الترغيبات الكثيرة والمكانة العالية للجهاد في كتاب الله الكريم. . والمرابطة في الثغور لحماية جنبات دولة الإسلام من غدر الأعداء، لا تقل أهمية عن فضل الجهاد في سبيل الله، لأن المرابط قد حبس نفسه دفاعا من أجل دينه، احتسابا لما أعد الله، وحمية على دين الإسلام من أن يؤتى على غرة، روى عبد الرزاق أن سلمان الفارسي مر بشرحبيل بن السمط وهو مرابط على قلعة بأرض فارس، فقال له سلمان: ألا أحدثك حديثا لعله أن يكون عونا لك على ما أنت فيه؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطا في سبيل الله أجير من عذاب القبر، ونمى له صالح عمله إلى يوم القيامة (1) » أخرجه مسلم. فالغبار في سبيل الله ودخان جهنم لا يجتمعان في منخر عبد أبدا.
وقد أوضح خالد بن معدان قولا لأبي أمامة وجبير بن نفير: بأنه يأتي على الناس زمان أفضل الجهاد الرباط، قيل: وما ذلك؟ فقال: إذا انخفض الغزو، وكثرت الغرائم، واستحلت المغانم، فأفضل الجهاد يومئذ الرباط (2) .
ومكانة الجهاد لا تقف على المجاهد وحده، ومن يقتل في المعركة شهيدا، بل يتعدى الفضل إلى من يشارك في الجهاد بالبذل من ماله، والتوضيح من لسانه، والفتوى من علمه، والسلاح بصناعته وتجهيزه ورعاية أسرة المجاهد،
__________
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه، انظر مصنف عبد الرزاق 5: 281.
(2) مصنف ابن أبي شيبة 5: 328.(32/172)
والقيام على أهله بخير. كما يؤجر أهل الشهيد إذا امتثلوا لأمر الله واحتسبوه عنده. وغير هذا من أمور تعين على رفع راية الجهاد، والإعانة عليه، إذا قصد بذلك حسن النية، وصدق العزم مع الله، ففضل الله واسع، ذلك أن «الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى (1) » .
فليحسن العبد ثقته بربه، وليصدق في عمله ونيته، وليحافظ على أوامر ربه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فهو سبحانه لا يكلف إلا ويعين، ويعطي الكثير ولا يطلب من عباده إلا القليل، وما تستطيعه نفوسهم. والله الهادي سواء السبيل.
__________
(1) من حديث متفق عليه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(32/173)
صفحة فارغة(32/174)
بحث
تلبيس مردود
إعداد
د. صالح بن عبد الله بن حميد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد. .
فقد وصلتني أسئلة من أحد المراكز الإسلامية في بلاد الغرب أثارتها مؤسسة صليبية تنصيرية تسمي نفسها " الآباء البيض ".
وحينما اطلعت عليها ما وسعني إلا القيام بالإجابة عليها.
وطبيعة الأسئلة وما يقرأ فيها مما بين السطور في الظروف التي تعيشها التوجهات الإسلامية في أوساط الشباب وغير الشباب أشعرتني بلزوم الإجابة.
كما أن هذا التوجه الكنسي في إثارة هذه الأسئلة وأمثالها له أبعاد لا تخفى، وحلقة في سلسلة لا تنقطع يدركها القارئ للتاريخ والمعايش للتحركات النصرانية والتطويرات المتسارعة لجهودهم وتنوع أساليب هجومهم على الأصعدة كافة. فاستعنت بالله الكريم، رب العرش العظيم، على ذلك نصرة لدين الله، وغيرة على أهل الإسلام، وجهادا بالقلم واللسان إن شاء الله.(32/175)
والقضايا المثارة في الأسئلة يمكن تصنيفها حسب المواضيع الرئيسية التالية:
- المساواة.
- الحرية " حرية الدين - الرق ".
- المرأة.
- تطبيق الشريعة.
- الجهاد.
توطئة:
1 - هذه الأسئلة المثارة لم تكن وليدة الساعة، ولكنها أسئلة وشبه قديمة قدم الهجوم على الإسلام.
وإن المطلع عليها وعلى أمثالها مما هو مبثوث هنا وهناك يدرك أن واضعيها على مختلف أعصارهم وأغراضهم لا يريدون الجواب ولا يقصدون تلمس الحق، ولكنهم يلقونها في وسط ضجيج كبير، يثيرونه في عمق المجتمع وفي ساحاته الفكرية، ثم يفرون بسرعة خاطفة. وقد وضعوا أصابعهم في آذانهم خوفا من أن يسمعوا أو يدركوا جوابا سليما، فكأن مبتغاهم إلقاء متفجرات موقوتة في أشد الساحات ازدحاما، ثم يفرون على عجل قبل أن تنفجر فيصيبهم شيء من شظاياها.
2 - كم هو جميل أن يتفق على مسلمات بين المتحاورين؛ ليكون منها المنطلق وإليها المرد. ولكن إحساس الباحث أن المقصد من وراء إثارة هذه الأسئلة هو التشكيك وزرع الشبه، بل من أجل استعداء الآخرين باسم الانتصار للمرأة ومحاربة التفرقة العنصرية، والدندنة حول المساواة وحقوق الإنسان وغير ذلك من الدعاوى العريضة، وأنت خبير بأنها مبادئ، بل دعاوى لها بريقها عند المستضعفين والمغلوبين على أمرهم، ولكنها عند التحقيق والتدقيق سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، بل يجد كبيرا مستكبرا يحتضن صغيرا محقورا يربت على كتفه ليأكله حالا أو يحتفظ به ليسمن فيأكله مآلا.(32/176)
إنها شريعة الغاب مغلفة بأغلفة رقيقة من القانون والمدنية أفرزتها التقنية المعاصرة في جملة ما أفرزته.
3 - عند الحوار يجب أن يتقرر النموذج الأمثل الذي ينبغي أن يحتذى ليكون مرجعا في التمثيل وهدفا يسعى إلى بلوغه.
وحيث إن هذه الأسئلة صدرت من مؤسسة تنصيرية اسمها " الآباء البيض " هل تريد أن تكون المبادئ النصرانية هي الأنموذج المحتذى؟ لا أظن ذلك، لأن الجميع من النصارى وغيرهم يعلم واقع النصرانية من خلال كتابها المقدس، ومن خلال ممارسات البابوات والرهبان والراهبات في الماضي والحاضر. وفي ثنايا إجاباتي هذه قد ألمح إلى نموذج من الانحرافات النصرانية والكنسية.
وإن كانت اليهودية هي الأنموذج، فحقيقة النصرانية وبابواتها وأحبارها ومراجعها يرون أن اليهودية محرفة وغير صالحة.
أما إذا كان الأنموذج هو الحضارة الغربية المعاصرة فما شأن البابوات وأتباعهم؟ وإن كانوا معجبين بها وعندهم قناعة بها ليعرضوها على الناس ويدعوهم إليها، فهذه تبعية مخجلة لأن هذه الحضارة - كما يعلم القاصي والداني - من أهم الأسباب المقررة في ازدهارها بعدها عن الكنيسة وبابواتها، وقد شردت هاربة هروبا لا رجوع بعده، إلا إذا أرادت هذه الحضارة أن تنتكس في رجعية القرون الوسطى كما يقولون.
أما الكاتب هنا فلا يرى نموذج هذه الحضارة صالحا ليكون المرجع المحتذى، إذ أن فيه انحرافا ظاهرا وبؤسا على البشرية يحيط العالم بسببه خوف وإرهاب وتوتر وقلق، يوشك أن ينتهي إلى تدمير حقيقي شامل يعم الحضارة وصناعها.
وفيه غير الانحراف مبادئ جوفاء من حقوق الإنسان، والمساواة لا واقع لها، وإن كان لها شيء من الواقعية فهو مختص بالرجل الأبيض، أما من عداه فليس إلا قانون الغاب أو قانون " الغاية تبرر الوسيلة ".
وبهذا يتقرر - مع الأسف - أنه ليس ثمة أرضية مشتركة مقنعة ننطلق(32/177)
منها لنصل إلى نتيجة مقنعة.
4 - جميع الأسئلة المثارة لا يوجد لها جواب في الديانة النصرانية والعقيدة المسيحية، فكيف تثيرها مؤسسة تنصيرية؟
فقضايا الرق وقضايا المرأة والحروب المقدسة والتفرقة بين معتنقي النصرانية وغيرهم، كلها مقررة في الديانة النصرانية ومن حق القارئ أن يعرف ما هو جواب المسيحية على ذلك.
وحيث أن الجواب بالسلب فلماذا لا يتركون الدعوة إلى النصرانية؛ لأنها تتبنى كل هذه القضايا المثارة؟
ولكنها أثيرت هذه الأيام باعتبارها معايب ونقائص يقصد منها النيل من الإسلام والمسلمين.
5 - وأمر أدهى وأمر وهو شعور المطلع على هذه الأسئلة بعدم التجرد من قبل واضعيها.
فاتباع الهوى فيها هو المسيطر على مجريات الأسئلة مع تبني أحكام وتصورات مسبقة لديهم.
6 - إنه ليحزنني أن تكون هذه هي المقدمة التي أدخل بها إلى هذا الموضوع وأجوبته، ومع هذا فليعلم كل مطلع وليستيقن كل ناظر أني سأبذل قصارى الجهد في قصد الحق والتماسه، خوفا من الله عز وجل، ورجاء فيما عنده، وأداء للأمانة، ونصحا للبشرية كلها.
7 - وأنبه المطلع الكريم أن هذه الإجابة قصد بها خطاب غير المسلمين ممن لا يدينون بالاستدلال بالنصوص الشرعية - كتابا وسنة - ومن ثم جاءت المناقشة والحوار أقرب لمخاطبة العقل ومحاورة الفكر والنظر من أي شيء آخر.
على أنه قد جرى إيراد حشد من النصوص الشرعية حين اقتضى الأمر ذلك كما يلحظ في موضوع الرق وغيره.(32/178)
وأقول بكل ثقة واعتزاز إن ديني هو الإسلام وإيماني به لا يتزعزع، والقرآن كلام الله حقيقة، ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين وهو رسول الله إلى الناس كافة، وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام من أنبياء الله، ومن أولي العزم من الرسل، والله قد بعث في كل أمة رسولا، والإسلام هو دين الله الخاتم الذي لا يقبل دينا غيره، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذا وقد أجريت تغييرا في ترتيب الأسئلة صنفتها حسب موضوعاتها، ولم ألتزم ترتيبها الأصلي، وسوف أثبت في آخر الأجوبة مجموعة الأسئلة حسب ترتيب واضعيها.(32/179)
المساواة:
المساواة في البشر ترجع إلى مدى تطابقهم وتماثلهم في الصفات الخلقية والخلقية، فكلما تطابقت هذه الصفات أو تقاربت كانت المساواة والمماثلة أدق وأقرب، وإذا تفاوتت لزم التفاوت في الآثار.
وأخذا من هذه المقدمة فمن المتعذر الجزم بالتساوي المطلق بين بني البشر، غير أننا نقول: إن الأصل هو التساوي في الحقوق والواجبات لوجود الحد الأدنى من التماثل في القدرات البدنية والكفاءات الذهنية، التي تجعلهم قادرين على فهم النظم والقوانين، واستيعابها وتطبيقها والاستجابة لها والمحاسبة عليها، ولكن من المعلوم أن أصل خلقة البشر جاءت على التفاوت في المواهب والأخلاق مما يجعل هناك موانع جبلية واجتماعية وسياسية على نحو ما هو مثار في الأسئلة.
وبعض هذه الموانع قد يكون مؤقتا، وقد يكون دائما، وبعضها قد يكون قليل الحصول وقد يكون أغلبيا.
غير أن أثر كل مانع مقصور على نفسه فلا يمنع من المساواة في الحقوق(32/179)
الأخرى، فصاحب الخلق الفاضل لا يساوي دنيء الخلق في مجاله، لكنه لا يمنع التساوي في الحقوق الأخرى، والذكي لا يساوي الغبي، والمرأة ليست كالرجل في صفاتها ومواهبها وقدراتها، وسيأتي للكلام على المرأة موضع مستقل إن شاء الله، هذه بعض الموانع الجبلية الخلقية.
ومن الموانع الاجتماعية - أي الموانع التي اتفق عليها المجتمع نتيجة للخبرة وممارسة الحياة، وهي في حقيقتها راجعة إلى القناعة العقلية المؤكدة للتفاوت في هذه الصفات - منع التساوي بين العالم والجاهل، فإن الناس متفقون على أن الجاهل لا يستحق الصدارة في المسئوليات والاعتماد عليه في قضايا الأمة وشئون المجتمع.
ومن الموانع السياسية ما يتفق عليه أهل الحكم والإدارة من منع بعض الفئات من تولي مسئوليات في الدولة لأسباب سياسية أو عسكرية، وهو أمر معترف به بين الأمم من غير إنكار، وذلك كمنع الأجنبي من تولي مسئولية من مسئوليات الحكم في الدولة حيث تقصر هذه الولايات والوظائف على الوطنيين، ومثله حق الانتخاب والمنع من بعض الحرف والاستثمار.
والتنظيم الخاص بالعسكريين والدبلوماسيين ومنعهم من الزواج بالأجنبيات، وأمثال ذلك كثير، ويندرج في ذلك منع الذميين في دولة الإسلام من تولي بعض الولايات.
ومثله منع أهل الذمة من الزواج بالمسلمات مما سيأتي له مزيد تفصيل.
ويمكن اعتبار هذين المثالين الأخيرين من الموانع الشرعية؛ لأن هذه أحكام مقررة في الشريعة الإسلامية وهي ترجع - كما يلاحظ القارئ - إلى أمور منطقية وأعراف اجتماعية صحيحة.
هذه أمثلة يمكن من خلالها فهم الضوابط، ومن ثم القناعة العقلية بعدم إمكان المساواة المطلقة بين الناس.(32/180)
بل لو قيل بالمساواة المطلقة لترتب على ذلك أمور لا يطيقها البشر، ولأدى بالناس إلى إهمال مواهبهم وإهدار طاقاتهم، وذلك فساد قبيح ظاهر يئول إلى اختلال نظام العالم في إلغاء المميزات والحقوق التي تقود إلى البناء والإصلاح وتقدم العالم، وانهيار الشيوعية الذي نشهده هذه الأيام برهان ماثل لأهل العقل والحكمة.
وإذا كان الأمر كذلك، فإن التفاوت في المواهب واستغلالها وطريقة الاستفادة منها يترتب عليه تفاوت مادي فيما يستحقه كل صاحب موهبة، يفيد منها أهله ومجتمعه. ومن أجل هذا برز الترتيب الوظيفي في رؤساء المصالح ومديريها ومن دونهم.
والشريعة الإسلامية - وتمشيا مع الفطرة السليمة - لا يمكن أن تدعو إلى مساواة تلغى فيها هذه الفروق الفردية والمواهب الشخصية والتمايز الموجود بين بني الإنسان، مما له أثر في صلاح العالم أفرادا ومجموعات، وذلك الصلاح والإصلاح هو غاية الشريعة ومقصدها.
إذن هذا هو التفاوت المؤثر والمقتضي للمنع من المساواة عند وجوده.
أما التمايز بسبب الجنس أو اللون أو اللغة فهو غير مؤثر في شريعة الإسلام ألبتة، لكنه مشار إليه في الشريعة على أنه آية من آيات الله الدالة على عظمته وكمال قدرته واستحقاقه للعبادة سبحانه.
ولهذا النوع من التمايز وظيفة أخرى نبه إليها دين الإسلام، وهي وظيفة التعارف والتآلف، وفي النص القرآني الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (1)
يؤكد ذلك في دين الإسلام أنه من المتقرر عند المسلمين أن الله لم يخلق شعبا فوق الشعوب، ولم يميز قوما على قوم، وقيمة الإنسان عند الله وعند الناس ما يحسنه ويقوم به من عمل صالح وجهد طيب في طاعة الله واتباع أمره وهو
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13(32/181)
ما يصطلح عليه في الشريعة " التقوى " وفي النص القرآني: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1)
ويقرر ذلك نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: «أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى (2) » . . أخرجه أحمد والترمذي عن أبي نضرة، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: «أي الناس أحب إلى الله؟ قال أنفع الناس للناس» أخرجه الطبراني وغيره بألفاظ متقاربة. وهذا لفظ الطبراني من حديث ابن عمر (3) .
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2) مسند أحمد بن حنبل (5/411) .
(3) انظر المقاصد الحسنة ص 200 - 201.(32/182)
الحرية:
سوف يكون الكلام في هذا المقام من عدة جوانب:
1 - لا إكراه في الدين.
2 - الحرية الدينية لغير المسلمين في بلاد الإسلام.
3 - حكم الردة.
4 - الرق.
مقدمة: حرية الفكر لا حرية الكفر:
جاء في صيغة السؤال الأول حول الحريات العبارة التالية: " كيف يمكن التوفيق بين حرية التفكير والاعتقاد التي منحها الله للإنسان. . إلخ ".
والذي نقوله: إن حرية التفكير مكفولة، وقد منح الله الإنسان الحواس من السمع والبصر والفؤاد ليفكر ويعقل ويصل إلى الحق، وهو مسئول عن(32/182)
التفكير الجاد السليم، ومسئول عن إهمال حواسه وتعطيلها. كما أنه مسئول عن استخدامها فيما يضر.
أما حرية الاعتقاد فلم يمنحها الله سبحانه مطلقة، بحيث يعتقد كل إنسان كما يشاء، بل الله سبحانه يلزم العقلاء البالغين من البشر باعتقاد ربوبيته وألوهيته وطاعته والخضوع له وحده، ولا يقبل منهم غير ذلك.
برهان ذلك: أن هذا العالم الرحب الذي نعيش فيه لم تبن جنباته كيفما اتفق، ولم تركم مواده بعضها فوق بعض بطريق الجزاف، بل هو مخلوق مصنوع وفق نظام محكم وقانون دقيق، فما يطير في الجو انخفاضا وارتفاعا محكوم بقانون وما يلقى في الماء من أجسام غوصا وطفوا وسبحا مضبوط بقانون، وما ينبت في الأرض من نبات فيختلف طعمه ولونه وثمره خاضع لقانون، فكل ما في السماء وما في الأرض قد خلق مقرونا بالحق، وما على من ينشد الحق والحقيقة إلا أن يتصفح صفحات هذا الكون الفسيح ليعرف من حقائقه ما يزيده بالخالق إيمانا، وبخلق هذا العالم دقة وإتقانا.
والإنسان لا يولد عالما ولا عارفا، ولكنه يولد مزودا بوسائل العلم والمعرفة عقلا وسمعا وبصرا.
خلق ليعرف الحق ويستدل له ويستدل عليه، لا ليعيش على الباطل ويسير في مسالكه المعوجة.
والحرية في هذا الميدان مطلقة ما دام أنها في الكون وآياته، وفيما تناله وسائل الإنسان وقدراته. وبهذا الضابط نقول: إن حرية الفكر والتفكير مكفولة مطلقة، ولكن حرية الشهوة مقيدة، فمن غير المقبول في العقول الاندفاع وراء الرغبات والغرائز، لأن طاقة الإنسان محدودة، فإذا استنفدت في اللهو والعبث والمجون لم يبق فيها ما يدفعها إلى الطريق الجاد، ويدلها على مسلك الحق والخير، وبناء عليه فإن ما يرى في عالمنا المعاصر وحضارته المادية من إيجابيات خيرة(32/183)
فهي من حسن استخدام حرية الفكر والنظر، وما يرى من أضرار وانتكاسات وقلاقل نفسية وغير نفسية فهي من إطلاق حرية الهوى والعبث.
ومن أجل هذا، فإننا نقول بكل قوة وثقة: " في الوقت الذي يطلق فيه للفكر حريته: يجب أن تحجز النفوس عن أهوائها ".
فعلينا ونحن نتحدث عن الحرية أن نفرق بين الأمرين، ونميز بين المنهجين.(32/184)
الحرية الحقيقية:
حينما قلنا: إن الإنسان ليس حرا في الاعتقاد، بل يجب أن ينحصر اعتقاده في الله وحده ربا ومعبودا، لا يجوز أن يخضع لغيره أو يطيع سواه فيما يخالف أمر الله.
نقول ذلك لأن هذا هو ضامن الحرية الحقيقية على هذه الأرض. . لماذا؟ لأن البشرية منذ القدم وحتى اليوم وهي تعاني كثيرا في ديارها من طواغيت متنوعة خضعت لها رءوسها وذلت لها رقابها، حتى اندثر كل معنى للحرية، وغاب كل أثر للكرامة الإنسانية في نفوس هؤلاء الخاضعين لغير الله.
فالخضوع والخوف والرهبة والانقياد والاستسلام لا يكون إلا لله الذي له صفات الكمال المطلق، فهو وحده الغني القادر المسيطر القاهر الحكم العدل الذي لا يجوز عليه الظلم، لأن الظلم أثر من آثار الضعف والحاجة والله منزه عن كل ذلك.
أما من خضع لغير الله فقد انتقص من حرية نفسه بمقدار خضوعه وذلته لغير ربه.
والطواغيت التي سلبت الناس حرياتهم كثيرة من أمثال علماء السوء والأحبار والرهبان والكهان والحكام والدرهم والدينار، وترقى الأمر عند هذه الفئات حتى حرفوا الكتب المنزلة على الرسل لتتمشى مع أهوائهم وأدخلوا فيها ما ليس منها، وترقى بهم الأمر إلى أن جعلوا لأنفسهم صلاحية منح الثواب(32/184)
وإنزال العقاب، وإعطاء صكوك غفران بمحو الذنوب، ودخول الفردوس الأعلى، ومن صور ذلك في وقتنا المعاصر الطغيان المادي والتفسير المادي للتاريخ والحوادث واستعباد الشهوات والملذات.
ومن هنا فإن الدعوة إلى التوحيد والخضوع لله وحده دعوة لإقامة صرح الحرية، ورفض ورفع قيود الظالمين عن أعناق البشر.
وبهذا تحمى حرية الإنسان من أن يسلبها أولئك المتطاولون المغرورون، فلا يحني الإنسان رأسه أو تذل هامته لأحد من بني البشر أيا كان على الإطلاق، لأنه خضوع للباطل وتعد على الحرية.(32/185)
لا إكراه في الدين:
الإكراه في الإسلام على الدين والعقيدة منفي من عدة جهات:
الأولى:
أن من آمن مكرها، فإن إيمانه لا ينفعه ولا أثر له في الآخرة، فلا بد في الإيمان أن يكون عن قناعة واعتقاد صادق واطمئنان قلب.
وقد جاء في القرآن الكريم: عن فرعون حين أدركه الغرق أنه أعلن الإيمان والتصديق بالله ربا ومعبودا، ولكن ذلك لم ينفعه {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (1) {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (2)
وجاء في حكاية قوم آخرين: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} (3) {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} (4)
بل التوبة من الذنوب والمعاصي لا تكون مقبولة إلا إذا كانت عن اختيار وعزم صادق.
__________
(1) سورة يونس الآية 90
(2) سورة يونس الآية 91
(3) سورة غافر الآية 84
(4) سورة غافر الآية 85(32/185)
الثانية:
وظيفة الرسل والدعاة من بعدهم مقصورة على البلاغ وإيصال الحق إلى الناس، وليسوا مسئولين عن هدايتهم واعتناقهم للدين واعتقادهم الحق، فالمهمة هي البلاغ والإرشاد والمناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما الاهتداء والإيمان فليس إلى الرسل ولا الدعاة.
وهذا يؤكد جانبا من جوانب الحرية ألا وهو تحرر الإنسان من كل رقابة بينه وبين خالقه، فالعلاقة مباشرة بين الإنسان وربه من غير واسطة أو تدخل من أحد مهما كانت منزلته، سواء أكان ملكا أو نبيا أو غير ذلك.
ومما يؤكد ذلك في القرآن الكريم ما جاء في حق محمد صلى الله عليه وسلم {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} (1) {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} (2)
الثالثة:
واقع غير المسلمين في بلاد المسلمين:
عاش الذميون وغيرهم في كنف الدولة الإسلامية دون أن يتعرض أحد لعقائدهم ودياناتهم، بل لقد جاء في الكتاب الذي كتبه النبي محمد صلى الله عليه وسلم في أول قدومه المدينة ليرسم به منهجا ودستورا في التعامل: «ومن تبعنا من يهود فإنه له النصرة والأسوة. . لليهود دينهم وللمسلمين دينهم. . وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم (3) » ، وأقرهم على دينهم وأموالهم كما كان الحال مشابها مع نصارى نجران.
وصحابة الرسول من بعده ساروا على طريقه في معاملة غير المسلمين، فكان من أقوال خليفته أبي بكر رضي الله عنه لبعض قواده: " أنتم سوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ".
ومن وصايا الخليفة الثاني عمر: " أوصي بأهل الذمة خيرا أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من وراءهم، وألا يكلفوا فوق طاقتهم ".
__________
(1) سورة الغاشية الآية 21
(2) سورة الغاشية الآية 22
(3) سيرة ابن هشام جـ 2 ص 148 - 149 وتاريخ ابن كثير جـ 3 ص 246 - 247.(32/186)
ومن أقوال علي الخليفة الرابع: " من كانت له ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا " (1) .
وتاريخ الإسلام الطويل شاهد على أن الشريعة وأهلها قد كفلوا لأتباع الأديان الذين يعيشون في ظل الإسلام البقاء على عقائدهم ودياناتهم، ولم يرغم أحد على اعتناق الإسلام.
ومعلوم لدى القاصي والداني أن هذا لم يكن موقف ضعف من دولة الإسلام، بل كان هذا هو مبدأها حتى حين كانت في أوج قوتها أمة فتية قادرة.
ولو أرادت أن تفرض على الأفراد عقيدتها بالقوة القاهرة لكان ذلك في مقدورها، لكنها لم تفعل.
الرابعة:
المسلم إذا تزوج كتابية، فإنه لا يلزمها بالتخلي عن دينها والدخول في الإسلام، بل لها الحق الكامل في البقاء على ديانتها وحقوق الزوجية محفوظة لها كاملة.
__________
(1) راجع نصب الراية 3 \ 381(32/187)
حكم الردة:
الكلام على الردة ينتظم عدة جوانب:
أولها: الإيمان بالإسلام المبني على الإكراه والجبر - غير معتد به - كما سبق - أي أنه لا يدخل الداخل فيه حقيقة إلا إذا كان عن اقتناع ورضا وتبصر، ذلك أن النظرة العاقلة المنصفة تؤكد كمال هذا الدين، وتنزهه عن الباطل، وتحقيقه لحاجات البشر، وتوافقه مع الطبائع السليمة التي فطر الله الناس عليها.
الثاني: في تاريخ الإسلام الطويل لا يكاد يذكر مرتد ارتد عن هذا الدين رغبة عنه وسخطا عليه، وإن وجد فلا يخلو من أحد رجلين، إما أن يكون لمكيدة يقصد بها الصد عن دين الله، كما حصل من بعض اليهود في أول عهد الدعوة حينما تمالأ نفر منهم بأن يؤمنوا أول النهار ثم يكفروا في آخره من أجل إحداث(32/187)
البلبلة في المؤمنين؛ لأن اليهود أهل كتاب، فإذا حصل منهم هذا يختلج في بعض النفوس الضعيفة أن هؤلاء اليهود لو لم يتبينوا خطأ في هذا الدين الجديد لما رجعوا عنه، فكان مقصودهم الفتنة والصد عن دين الله. وإما أن يكون هذا المرتد رجلا يريد أن يطلق لشهواته العنان ويتحلل من ربقة التكاليف.
الثالث: الخروج عن الإسلام يعتبر خروجا على النظام العام، ذلك أن الإسلام دين كامل، كما يهتم بعلاقة الإنسان بربه فهو يهتم بعلاقته بغيره من بني جنسه؛ بين المرء وزوجه وبينه وبين أقربائه وجيرانه، وفيما بينه وبين أعدائه حربا وسلما، في شمول منقطع النظير، عبادة ومعاملة وجناية وقضاء إلى سائر ما تنقسم إليه قوانين الدنيا بل أوسع من ذلك. وبناء على هذا فيجب النظر إلى الإسلام ككل متكامل، وليس قاصرا فقط على علاقة العبد بربه كما يظنه غير المسلمين. وإذا كان ذلك كذلك فالردة تعني الخروج على النظام.
الرابع: في جعل العقوبة على الردة إباحة دم المرتد زاجر لمن يريد الدخول في هذا الدين مشايعة ونفاقا للدولة أو لأهلها، وباعث له على التثبت في أمره فلا يعتنقه إلا على بصيرة وسلطان بين، فالدين تكاليف وشعائر يتعسر الاستمرار عليها من قبل المنافقين وأصحاب المآرب المدخولة.
الخامس: للإنسان قبل أن يؤمن بالإسلام الحق في أن يؤمن أو يكفر، فإذا آثر أي ديانة من الديانات فلا اعتراض عليه، ويبقى له حق الحياة والأمن والعيش بسلام. وإذا آثر الإسلام ودخل فيه وآمن به، فعليه أن يخلص له ويتجاوب معه في أمره ونهيه وسائر هديه في أصوله وفروعه، ثم بعد ذلك نقول: هل من حرية الرأي أن يمكن صاحبها من الخروج على هذا المجتمع ونبذ قواعده ومشاقة أبنائه؟ هل خيانة الوطن أو التجسس لحساب الأعداء من الحرية؟ هل إشاعة الفوضى في جنباته والاستهزاء بشعائره ومقدساته من الحرية؟
إن محاولة إقناع المسلمين بقبول هذا الوضع مسفه. ومطالبة المسلمين بتوفير حق الحياة لمن يريد نقض بناء دينهم وتنكيس لوائه أمر عجيب!(32/188)
ونقول بكل قوة: إن سرقة العقائد والنيل من الأخلاق والمثل أضحت حرفة لعصابات وطوائف من دعاة التنصر الكارهين للإسلام وكتابه ونبيه وأتباعه، وما فتئوا يثيرون الفتن وأسبابها في كل ناحية من أجل هز كيان المجتمع وقلبه رأسا على عقب.
ويؤكد حقنا في رفع الصوت عاليا ما نرمقه من المواقف المفضوحة في بلاد الحريات - فرنسا وبريطانيا وأمريكا - من المسلمين الذين بدءوا يظهرون تمسكا بدينهم وظهورهم بالزي المحتشم رجالا ونساء مما أثار حفائظهم، وبخاصة الفرنسيين في قضية الحجاب على الرغم من أن قوانينهم فيها نصوص تعطي الحق لأهل كل ديانة أن يلتزموا بدياناتهم، ولكنهم بحجة الأمن والحفاظ على النظام العام كانت لهم تلك المواقف المكشوفة، ومن حقنا كذلك أن نتذكر ما يجري لكثير من الأقليات المسلمة في روسيا وبلغاريا مما هو معلن فكيف بغير المعلن، ثم إن عقوبة الإعدام موجودة في كثير من القوانين المعاصرة سواء لمهربي المخدرات أو غيرهم، وهم لم يقولوا بها إلا لجدواها في القضاء على الجريمة والتخفيف منها وحماية لعموم المجتمع من سوئها، ولم يقل أحد: إن تشريع عقوبة الإعدام في حق هؤلاء المفسدين مصادم لحريتهم إذا كانوا قد تجاوزوا في حرياتهم حتى سطوا على حريات الآخرين، أو نغصوا عليهم في حياتهم الطبيعية الآمنة السوية.
وهناك إعدام من أجل الخيانة العظمى أو ما يشبهها، ولم يكن هذا مصادما للحرية أو محل نقد لدى هذه المؤسسة التنصيرية وأشباهها، مما يذكر بما قلناه أول الحديث من الشك في حسن النية في إثارة مثل هذه التساؤلات.
وفي ختام هذه الفقرة عن حرية الديانة والارتداد أنقل بعض الوقائع من مواقف الديانات الأخرى نحو المسلمين، والتعسف والتعصب والحقد الدفين الذي يظهر واقعا حيا حين تتاح له فرصة الظهور.
يقول الكاتب " جيبون ": " إن الصليبيين خدام الرب يوم استولوا على بيت(32/189)
المقدس في 15 \ 7 \ 1099 م رأوا أن يكرموا الرب بذبح سبعين ألف مسلم، ولم يرحموا الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء في مذبحة استمرت ثلاثة أيام بلياليها، حطموا رءوس الصبيان على الجدران، وألقوا بالأطفال الرضع من سطوح المنازل، وشووا الرجال والنساء بالنار، وبقروا البطون ليروا هل ابتلع أهلها الذهب. . . ثم يقول الكاتب: " كيف ساغ لهؤلاء بعد هذا كله أن يضرعوا إلى الله طالبين البركة والغفران؟ " (1) .
ويقول جوستاف لوبون عن فعل الصليبيين بمسلمي الأندلس: " لما أجلي العرب - يعني المسلمين - سنة 1610 م اتخذت جميع الذرائع للفتك بهم فقتل أكثرهم، وكان من قتل إلى ميعاد الجلاء ثلاثة ملايين من الناس، في حين أن العرب لما فتحوا أسبانيا تركوا السكان يتمتعون بحريتهم الدينية، محتفظين بمعاهدهم ورئاستهم، وقد بلغ من تسامح العرب طوال حكمهم في أسبانيا مبلغا قلما يصادف الناس مثله هذه الأيام " (2) .
وفي أيامنا هذه نقرأ في وثائق اليهود نحو أهل فلسطين: " يا أبناء إسرائيل: اسعدوا واستبشروا خيرا لقد اقتربت الساعة التي سنحشر فيها هذه الكتل الحيوانية في اصطبلاتها وسنخضعها لإرادتنا ونسخرها لخدمتنا ".
وفي روسيا الشيوعية أغلقت الحكومة أربعة عشر ألف مسجد في مقاطعة تركستان، وفي منطقة الأورال سبعة آلاف مسجد، وفي القوقاز أربعة آلاف مسجد، وكثير من هذه المساجد حولت إلى دور للبغاء، وحوانيت خمر، واصطبلات خيول وحظائر بهائم، وفوق ذلك التصفية الجسدية للمسلمين، ويكفي أن نعلم أنهم قتلوا في ربع قرن ستة وعشرين مليون مسلم مع تفنن في طرق التعذيب والقتل.
__________
(1) العلاقات الدولية - لكامل الدقس ص 333
(2) حضارة العرب - جوستاف لوبون ص 279(32/190)
والدول الشيوعية الدائرة في فلك روسيا حذت حذوها، ففي يوغوسلافيا أباد تيتو ما يقارب مليون مسلم.
وفي سنواتنا الحاضرة هذه تنصب الملاحقة والمتابعة لجميع الحركات الإسلامية والتوجهات الإسلامية في الفلبين وأندونيسيا وشرق أفريقيا بصور ظاهرة مفضوحة، فضلا عن الطرق الخفية في جميع بلاد المسلمين. فيا ترى أين الحرية؟ ! ويا ترى من المتعصب ومن هو المتسامح؟(32/191)
الرق:
س: ما معنى الدفاع عن تفوق الإنسان الحر على العبد دون إدانة للعبودية أو القضاء عليها؟
ج: الخوض في الحديث عن الرق وإثارة الأسئلة حوله من قبل دعاة التنصر والصادين عن دين الإسلام، مما يثير حفيظة المتعقل، ومما يشير بأصابع الاتهام نحو الأغراض المستترة وراء إثارة هذه التساؤلات.
ذلك أن الرق في اليهودية والنصرانية مقرر ثابت على صور ظالمة، وكتبهم بتفاصيل الحديث عنه والاستحسان له طافحة.
وعليه فإن أول ما يستلفت النظر: كيف يسعى الكنسيون إلى الدعوة إلى التنصير والنصرانية تقول بالرق ومشروعيته؟ وبمعنى آخر: كيف يثيرون أمرا هم غارقون فيه إلى الأذقان؟ !
أما أمر الرق في الإسلام فمختلف تماما إذا ما قورن بين النظرتين، وإذا ما قورن كذلك بما عليه حال الرق حين مجيء الإسلام.
ولا يسع الباحث وهو ينظر في مثل هذه التساؤلات وقد بسط فيها دعاة التنصير ألسنتهم لينالوا من الإسلام ما وسعهم النيل.
أقول: لا يسعه إلا أن يبسط القول في هذا الموضوع، مشيرا إلى ما عند اليهودية والنصرانية والحضارة المعاصرة، ثم نذكر ما في الإسلام.
وإن الإسلام قد تعرض في هذا لإفك كثير على حين نجا مجرمون عريقون في الإجرام لم تشر إليهم - مع الأسف - أصابع الاتهام.(32/191)
الإسلام والرق:
يقرر الإسلام أن الله عز وجل خلق الإنسان كامل المسئولية، وكلفه بالتكاليف الشرعية، ورتب عليها الثواب والعقاب على أساس من إرادته واختياره.
ولا يملك أحد من البشر تقييد هذه الإرادة أو سلب ذلك الاختيار بغير حق، ومن اجترأ على ذلك فهو ظالم جائر.
هذا مبدأ ظاهر من مبادئ الإسلام في هذا الباب، وحينما يثار التساؤل: كيف أباح الإسلام الرق؟ نقول بكل قوة وبغير استحياء: إن الرق مباح في الإسلام، ولكن نظرة الإنصاف مع التجرد وقصد الحق توجب النظر في دقائق أحكام الرق في الإسلام من حيث مصدره وأسبابه، ثم كيفية معاملة الرقيق ومساواته في الحقوق والواجبات للحر، وطرق كسب الحرية، وكثرة أبوابها في الشريعة، وبخاصة إذا ما قورنت بغيرها مع الأخذ بالاعتبار نوع الاسترقاق الجديد في هذا العالم المتدثر بدثار الحضارة والعصرية والتقدمية، وسوف يلاحظ القارئ أنني سوف أستعين بكثير من النصوص من القرآن الكريم وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته في هذا الموضوع، نظرا لأهمية ذلك والتأكيد على أن الممارسات الخاطئة لا يجوز أن تحسب على الإسلام.
وفي هذا الصدد نقول: إن الإسلام يقف من الرقيق موقفا لم يقفه غيره من الملل والنحل، ولو سارت الأمور على وجهها بمقتضى ذلك النهج لما كانت تلك الإشكالات وعلى رأسها استرقاق الأحرار عن طريق الخطف والغصب والاستيلاء بقوة أو بخدعة في القديم وفي الحديث، مما استفحل معه الرق بطريقة شائنة ووجه قبيح، وما انتشر الرق ذلك الانتشار الرهيب في قارات الدنيا إلا عن طريق هذا الاختطاف، بل كان المصدر الأعظم في أوروبا وأمريكا في القرون الأخيرة.
والإسلام يقف بنصوصه من هذا موقفا حازما حاسما جاء في حديث(32/192)
قدسي: «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه العمل ولم يعطه أجره (1) » أخرجه البخاري.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: من تقدم قوما وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارا - يعني بعد خروج وقتها - ورجل اعتبد محررا (2) » رواه أبو داود وابن ماجه، كلاهما من رواية عبد الرحمن بن زياد الأفريقي.
ومن الطريف أنك لا تجد في نصوص القرآن والسنة نصا يأمر بالاسترقاق، بينما تحفل آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بالمئات من النصوص الداعية إلى العتق والتحرير.
كانت مصادر الرق ومنابعه كثيرة عند ظهور الإسلام، بينما طرق التحرر ووسائله تكاد تكون معدومة، فقلب الإسلام في تشريعاته النظرة، فأكثر من مصارف الحرية والتحرر، وسد مسالك الاسترقاق، ووضع من الوصايا ما يردم تلك المسالك.
ولقد كان الأسر في الحروب من أظهر مظاهر الاسترقاق، وكل حرب لا بد فيها من أسرى، وكان العرف السائد يومئذ أن الأسرى لا حرمة لهم ولا حق، وهم بين أمرين: إما القتل وإما الرق.
ولكن الإسلام حث على طريق ثالث من حسن معاملة الأسير وفك أسره.
في القرآن الكريم: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (3) {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (4) والآية في رقتها وحثها لا تحتاج إلى تعليق، ونبي الإسلام عليه السلام في ميدان مكارم الأخلاق يقول: «عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني (5) » رواه البخاري.
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2227) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2442) .
(2) سنن أبو داود الصلاة (593) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (970) .
(3) سورة الإنسان الآية 8
(4) سورة الإنسان الآية 9
(5) صحيح البخاري الجهاد والسير (3046) ، سنن أبو داود الجنائز (3105) ، مسند أحمد بن حنبل (4/394) ، سنن الدارمي السير (2465) .(32/193)
وفي أول مواجهة بين المسلمين وأعدائهم في معركة بدر انتصر فيها المسلمون ووقع فيها أسرى من كبراء العرب، لقد سقطوا في الأسر كما يسقط الكبراء والأشراف في معارك الدول الكبرى من القياصرة والأكاسرة، لو عوقبوا بعقاب شديد لكانوا له مستحقين، فقد آذوا المسلمين أشد الإيذاء في أول قيام الدعوة الإسلامية، غير أن القرآن الكريم يوجه النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2)
لقد كان هؤلاء الأسرى قبل هذه المعركة ومن أول عهد البعثة يوقعون المظالم الفاجعة بجمهور المسلمين، يريدون إفناءهم أو احتلالهم. فهل يا ترى من حسن السياسة أن يطلق سراح الأسرى فورا؟
معلوم أن هذا يتعلق بمصالح الدولة العامة والعليا، ولهذا تجد أن المسلمين في بدر قبلوا الفداء، وفي الفتح قيل لأهل مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وفي غزوة بني المصطلق تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم أسيرة من الحي المغلوب؛ ليرفع من مكانتها حيث كانت ابنة أحد زعمائه. . فما كان من المسلمين إلا أن أطلقوا سراح جميع هؤلاء الأسرى.
ومن هذا ندرك الصور المحدودة والمسالك الضيقة التي يلجأ إليها في الرق، وهو لم يلغه بالكلية؛ لأن هذا الأسير الكافر المناوئ للحق والعدل كان ظالما أو معينا على ظلم أو أداة في تنفيذه أو إقراره، كانت حريته فرصة لفشو الطغيان والاستعلاء على الآخرين.
ومع كل هذا، فإن فرصة استعادة الحرية لهذا وأمثاله في الإسلام كثيرة وواسعة.
كما أن قواعد معاملة الرقيق في الإسلام تجمع بين العدالة والرحمة.
فمن وسائل التحرير: فرض نصيب في الزكاة لتحرير العبيد وكفارات
__________
(1) سورة الأنفال الآية 70
(2) سورة الأنفال الآية 71(32/194)
القتل الخطأ والظهار والأيمان والفطر في رمضان، إضافة إلى مناشدة عامة في إثارة للعواطف من أجل العتق والتحرير ابتغاء وجه الله.
وهذه إشارات سريعة لبعض قواعد المعاملة المطلوبة عدلا وإحسانا لهؤلاء.
1 - ضمان الغذاء والكساء مثل أوليائهم:
روى أبو داود عن المعرور بن سويد قال: دخلنا على أبي ذر بالربذة (1) ، فإذا عليه برد، وعلى غلامه مثله، فقال: يا أبا ذر، لو أخذت برد غلامك إلى بردك فكانت حلة. وكسوته ثوبا غيره؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يكتسي، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه (2) » رواه البخاري.
2 - حفظ كرامتهم:
روى أبو هريرة قال: قال أبو القاسم نبي التوبة: «من قذف مملوكه بريئا مما قال، أقيم عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال (3) » رواه البخاري.
وأعتق ابن عمر مملوكا له، ثم أخذ من الأرض عودا أو شيئا فقال: ما لي فيه من الأجر ما يساوي هذا، سمعت رسول الله يقول: «من لطم مملوكا له أو ضربه فكفارته عتقه (4) » رواه أبو داود ومسلم.
3 - يتقدم العبد على الحر فيما يفضله فيه من شئون الدين والدنيا. وقد صحت إمامته في الصلاة، وكان لعائشة أم المؤمنين عبد يؤمها في الصلاة، بل لقد أمر المسلمون بالسمع والطاعة إذا ملك أمورهم عبد ما دام أكفأ من غيره، إن الحرية حق أصيل للإنسان، ولا يسلب امرؤ هذا الحق إلا لعارض نزل به، والإسلام - عندما قبل الرق في الحدود التي أوضحناها - فهو قيد على إنسان استغل حريته أسوأ استغلال، فإذا سقط أسيرا إثر حرب عدوان انهزم فيها، فإن إمساكه بمعروف مدة أسره تصرف سليم.
__________
(1) قرية قرب المدينة.
(2) صحيح البخاري الأدب (6050) ، صحيح مسلم الأيمان (1661) ، سنن الترمذي البر والصلة (1945) ، سنن ابن ماجه الأدب (3690) .
(3) صحيح البخاري الحدود (6858) ، صحيح مسلم الأيمان (1660) ، سنن الترمذي البر والصلة (1947) ، سنن أبو داود الأدب (5165) ، مسند أحمد بن حنبل (2/431) .
(4) صحيح مسلم الأيمان (1657) ، سنن أبو داود الأدب (5168) ، مسند أحمد بن حنبل (2/61) .(32/195)
وإذا حدث لأمر ما أن استرق، ثم ظهر أنه أقلع عن غيه، ونسي ماضيه وأضحى إنسانا بعيد الشر قريب الخير، فهل يجاب إلى طلبه بإطلاق سراحه؟ الإسلام يرى إجابته إلى طلبه، ومن الفقهاء من يوجب ذلك، ومنهم من يستحبه! !
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالرقيق كثيرا، فقد ثبت أنه لما وزع أسرى بدر على الصحابة قال لهم: «استوصوا بالأسرى خيرا» .
وروي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه دعك أذن عبد له على ذنب فعله، ثم قال له عثمان بعد ذلك: تقدم واقرص أذني، فامتنع العبد، فألح عليه، فبدأ يقرص بخفة، فقال له: اقرص جيدا، فإني لا أتحمل عذاب يوم القيامة، فقال العبد: وكذلك يا سيدي: اليوم الذي تخشاه أنا أخشاه أيضا.
وكان عبد الرحمن بن عوف إذا مشى بين عبيده لا يميزه أحد منهم، لأنه لا يتقدمهم، ولا يلبس إلا من لباسهم.
ومر عمر يوما بمكة فرأى العبيد وقوفا لا يأكلون مع سادتهم، فغضب وقال لمواليهم: ما لقوم يستأثرون على خدامهم؟ ثم دعا الخدم فأكلوا معهم.
ودخل رجل على سلمان رضي الله عنه فوجده يعجن، فقال له: يا أبا عبد الله ما هذا؟ فقال: بعثنا الخادم في شغل، فكرهنا أن نجمع عليه عملين.
هذا مما أسداه الإسلام للرقيق من أياد!(32/196)
موقف اليهود من الرقيق:
ينقسم البشر عند اليهود إلى قسمين: بنو إسرائيل قسم، وسائر البشر قسم آخر.
فأما بنو إسرائيل فيجوز استرقاق بعضهم حسب تعاليم معينة نص عليها العهد القديم.
وأما غيرهم، فهم أجناس منحطة، يمكن استعبادها عن طريق التسلط والقهر، لأنهم سلالات كتبت عليها الذلة باسم السماء من قديم، جاء في(32/196)
الإصحاح الحادي والعشرين من سفر الخروج 2 - 12 وما نصه: " إذا اشتريت عبدا عبرانيا فست سنين يخدم، وفي السابعة يخرج حرا مجانا، إن دخل وحده، فوحده يخرج، إن كان بعل امرأة تخرج امرأته معه، إن أعطاه سيده امرأة وولدت له بنين وبنات، فالمرأة وأولادها يكونون للسيد، وهو يخرج وحده، ولكن إذا قال العبد: أحب سيدي وامرأتي وأولادي لا أخرج حرا، يقدمه سيده إلى الله، ويقربه إلى الباب أو إلى القائمة، ويثقب سيده أذنه بالمثقب يخدمه إلى الأبد، وإذا باع رجل ابنته أمة لا تخرج كما يخرج العبيد، إن قبحت في عين سيدها الذي خطبها لنفسه يدعها تفك، وليس له سلطان أن يبيعها لقوم أجانب لغدره بها، وإن خطبها لابنه فبحسب حق البنات يفعل لها، إن اتخذ لنفسه أخرى لا ينقص طعامها وكسوتها ومعاشرتها، وإن لم يفعل لها هذه الثلاث تخرج مجانا بلا ثمن ".
أما استرقاق غير العبراني فهو بطريق الأسر والتسلط؛ لأنهم يعتقدون أن جنسهم أعلى من جنس غيرهم، ويلتمسون لهذا الاسترقاق سندا من توراتهم فيقولون: إن حام بن نوح - وهو أبو كنعان - كان قد أغضب أباه، لأن نوحا سكر يوما، ثم تعرى وهو نائم في خبائه، فأبصره حام كذلك، فلما علم نوح بهذا بعد استيقاظه غضب، ولعن نسله الذين هم كنعان، وقال - كما في التوراة في سفر التكوين إصحاح 9: 25، 26: " ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته، وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدا لهم " وفي الإصحاح نفسه 27: ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام، وليكن كنعان عبدا لهم ".
وقد اتخذت الملكة " اليزابيث " الأولى من هذا النص سندا يبرر تجارتها في الرقيق التي كانت تساهم فيها بنصيب كبير كما سيتبين قريبا.(32/197)
موقف النصرانية من الرقيق:
جاء الدين المسيحي فأقر الرق الذي أقره اليهود من قبل، فليس في الإنجيل نص يحرمه أو يستنكره.(32/197)
والغريب أن المؤرخ " وليم موير " يعيب نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبطل الرق حالا، مع تغاضيه عن موقف الإنجيل من الرق، حيث لم ينقل عن المسيح، ولا عن الحواريين ولا عن الكنائس شيئا في هذه الناحية.
بل كان بولس يوصى في رسائله بإخلاص العبيد في خدمة سادتهم، كما قال في رسالته إلى أهل أفسس.
وأضاف القديس الفيلسوف " توما الأكويني " رأي الفلسفة إلى رأي الرؤساء الدينيين، فلم يعترض على الرق بل زكاه، لأنه على رأي أستاذه أرسطو حالة من الحالات التي خلق عليها بعض الناس بالفطرة الطبيعية.
وأقر القديسون أن الطبيعة جعلت بعض الناس أرقاء.
وفي المعجم الكبير للقرن التاسع عشر " لاروس ": " لا يعجب الإنسان من بقاء الرق واستمراره بين المسيحيين إلى اليوم، فإن نواب الدين الرسميين يقرون صحته ويسلمون بمشروعيته " وفيه: " الخلاصة أن الدين المسيحي ارتضى الاسترقاق تماما، إلى يومنا هذا، ويتعذر على الإنسان أن يثبت أنه سعى في إبطاله ".
وجاء في قاموس الكتاب المقدس للدكتور " جورج يوسف ": " إن المسيحية لم تعترض على العبودية من وجهها السياسي ولا من وجهها الاقتصادي، ولم تحرض المؤمنين على منابذة جيلهم في آدابهم من جهة العبودية، حتى ولا على المباحثة فيها، ولم تقل شيئا ضد حقوق أصحاب العبيد، ولا حركت العبيد إلى طلب الاستقلال، ولا بحثت عن مضار العبودية، ولا عن قساوتها، ولم تأمر بإطلاق العبيد حالا، وبالإجمال لم تغير النسبة الشرعية بين المولى والعبد بشيء، بل بعكس ذلك فقد أثبتت حقوق كل من الفريقين وواجباته ".
وندعو جميع الآباء البيض النصارى والقارئ الكريم ليقارنوا بين تعاليم الإسلام وبين هذه التعاليم.(32/198)
أوروبا المعاصرة والرقيق:
من حق القارئ أن يسأل - وهو في عصور النهضة والتقدم - عن رائدة التقدم في هذه العصور - كما يقال - ماذا صنعوا بالرقيق؟
عندما اتصلت أوروبا بأفريقيا السوداء كان هذا الاتصال مأساة إنسانية، تعرض فيها زنوج هذه القارة لبلاء عظيم طوال قرون خمسة، لقد نظمت دول أوروبا وتفتقت عقليتها عن طرق خبيثة في اختطاف هؤلاء واستجلابهم إلى بلادهم؛ ليكونوا وقود نهضتها وليكلفوهم من الأعمال ما لا يطيقون، وحينما اكتشفت أمريكا زاد البلاء لينوءوا بعبء الخدمة في قارتين بدلا من قارة واحدة.
تقول دائرة المعارف البريطانية ج 2 ص 779 مادة slauery: " إن اصطياد الرقيق من قراهم المحاطة بالأدغال كان يتم بإيقاد النار في الهشيم الذي صنعت منه الحظائر المحيطة بالقرية، حتى إذا نفر أهل القرية إلى الخلاء تصيدهم الإنجليز بما أعدوا لهم من وسائل.
وعدا من كانوا يموتون بسبب طرق الاصطياد هذه، وفي الطريق إلى الشواطئ التي ترسو عليها مراكب الشركة الإنجليزية وغيرها، فإن ثلث الباقين يموتون بسبب تغير الطقس، ويموت 4. 5 % أثناء الشحن و 12 % أثناء الرحلة، فضلا عمن يموتون في المستعمرات.
ومكثت تجارة الرقيق في أيدي شركات إنجليزية حصلت على حق احتكار ذلك بترخيص من الحكومة البريطانية، ثم أطلقت أيدي جميع الرعايا البريطانيين في الاسترقاق، ويقدر بعض الخبراء مجموع ما استولى عليه البريطانيون من الرقيق واستعبدوه في المستعمرات من عام (1680 - 1786 م) حوالي "2130000" شخص.
ومن قوانينهم السوداء في ذلك: من اعتدى على سيده قتل، ومن هرب قطعت أذناه ورجلاه وكوى بالحديد المحمي، وإذا أبق للمرة الثانية قتل.(32/199)
ولا أدري كيف سيهرب بعدما نكل به وقطعت رجلاه؟
ولكن الذي يبدو أن الجحيم الذي يعيشه أشد عليه من قطع يديه ورجليه مما يدعوه إلى محاولة الهرب مرة أخرى.
ومن قوانينهم: يحرم التعليم على الرجل الأسود، ويحرم على الملونين وظائف البيض.
وفي قوانين أمريكا: إذا تجمع سبعة من العبيد عد ذلك جريمة، ويجوز للأبيض إذا مر بهم أن يقبض عليهم ويجلدهم عشرين جلدة.
ونص قانون آخر: إن العبيد لا نفس لهم ولا روح، وليست لهم فطانة ولا ذكاء ولا إرادة، وأن الحياة لا توجد إلا في أذرعهم فقط.
والخلاصة في ذلك أن الرقيق من جهة الواجبات والخدمة والاستخدام عاقل مسئول يعاقب عند التقصير. ومن جهة الحقوق شيء لا روح له ولا كيان، بل أذرعة فقط.
وهكذا لم تستفق ضمائرهم إلا في هذا القرن الأخير، وأي منصف يقارن بين هذا وبين تعاليم دين محمد الذي مضى له أكثر من 14 قرنا يرى أن إقحام الإسلام في هذا الموضوع أحق بالمثل السائر: " رمتني بدائها وانسلت ".(32/200)
المرأة:
ما يقال في الرق يقال في المرأة، فليس من حق اليهودية ولا النصرانية الحديث عن المرأة، فما في دياناتهم في حق المرأة شيء نكر، فقد هضموها حقوقها واعتبروها مصدر الخطيئة في الأرض، وسلبت حقها في الملكية والمسئولية فعاشت بينهم في إهانة وإذلال واحتقار، واعتبروها مخلوقا نجسا. وما الزواج عندهم إلا صفقة مبايعة تنتقل فيه المرأة لتكون إحدى ممتلكات الزوج، حتى انعقدت بعض مجامعهم لتنظر في حقيقة المرأة وروحها هل هي من البشر أو لا؟
بل لعل الجاهلية العربية الأولى كانت أخف وطأة على المرأة من هذه النظرة(32/200)
اليهودية النصرانية المنسوبة إلى تعاليم السماء - معاذ الله.
ومن هنا يثور عجبنا من النصارى ليسألوا عن المرأة في الإسلام وموقعها من تشريعه ومجتمعه؟
فحضارة الغرب وما فيها من بهارج وبوارق تخدع الناظرين ليس للنصرانية ولا لليهودية صنع فيها.
ومع هذا فنحن - المسلمين - لا نجري خلف كل ناعق، ولسنا بالراضين على ما عليه المرأة المعاصرة.
إن المرأة في ديانتنا محل التقدير والاحترام من حيث هي الأم والأخت والبنت.
ونصوص الديانة عندنا صحيحة صريحة في بيان موقع المرأة وموضعها جاءت واضحة جلية منذ أكثر من أربعة عشر قرنا، حين كانت الجاهليات تعم الأرض شرقا وغربا على نحو مظلم، وبخاصة في بخس المرأة حقها، بل عدم الاعتراف بأي حق لها.
ويتأكد هنا ما قلته في مقدمة الإجابة على هذه التساؤلات. . ما هو الأنموذج الذي نتفق عليه؟
اليهودية والنصرانية معلوم ما فيهما، وهو غير مرضي من الجميع، لأن الأسئلة المثارة ليس في الديانتين إجابة عنها.
أما الحضارة المعاصرة ففيها - وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة - شر كثير غير موجود في ديننا، وما فيها من أمور مستحسنة فديننا لا يعارضها.
ومن أجل مزيد من الإيضاح لنخض في ميدان التعليم.
إن من أكثر ما تميزت به هذه الحضارة الاهتمام بالعلم والتعليم، والدعوة إلى ذلك، والإكثار من البرامج والوسائل مما هو معروف، ونقول وبكل صراحة: إن التعليم في ديننا محمود مطلوب، بل منه ما هو فرض عين يأثم تاركه سواء كان ذكرا أو أنثى.
المرأة في التعليم كالرجل مما يحقق وظيفة كل جنس على نحو ما ذكرنا في(32/201)
الكلام على المساواة.
ولكن من حقنا أن نتساءل: ما هي العلاقة بين التعليم والتبرج وإبداء الزينة وإظهار المفاتن، وكشف الصدور والأفخاذ؟
هل من وسائل التعليم لبس الملابس الضيقة والشفافة والقصيرة؟
ميدان آخر: أية كرامة حين توضع صور الحسناوات في الدعاية والإعلان وفي كل ميدان، ولا يروج عندهم إلا سوق الحسناء فإذا استنفدت السنون جمالها وزينتها أهملت كأي آلة انتهى مفعولها.
ما نصيب قليلة الجمال في هذه الحضارة؟ وما نصيب الأم المسنة والجدة العجوز؟ ملجؤها دور الملاجئ حيث لا تزار ولا يسأل عنها، وقد يكون لها نصيب من راتب تقاعد أو تأمين اجتماعي تأكل منه حتى تموت، ولا رحم ولا صداقة ولا ولي حميم، ولكن المرأة في الإسلام إذا تقدم بها السن زاد احترامها وعظم حقها، أي أنها أدت ما عليها. وبقي الذي لها عند أبنائها وأحفادها وأهلها والمجتمع.
أما حقها في المال والملك والمسئولية والثواب والعقاب الدنيوي والأخروي فيستوي فيه الرجال والنساء، وأما ما اختلف فيه الرجل والمرأة في بعض الأحكام، فأمر طبيعي متقرر فيما قلناه في الحديث عن المساواة، على أننا سوف نفصل هنا في بعض ما أثير من أسئلة في قضايا الميراث والوصايا وغيرهما.(32/202)
الميراث:
إن نصيب الذكر في الميراث يختلف عن نصيب الأنثى، وذلك يرجع لعدة أمور:
1 - الميراث من جملة النظام العام في الإسلام، فهو خاضع لعموم المسئوليات والأحكام المناطة بالذكر والأنثى، وما اختلف فيه من أحكام فهو راجع إلى القاعدة العامة في عدم لزوم إطراد المساواة بين العاملين، لأن لهم حسب أعمالهم ومسئولياتهم، فالرجال وهم جنس واحد ليسوا بمتساوي(32/202)
الدخول والمرتبات لدى الجهات الحكومية أو غيرها في جميع الأنظمة، وإنما التفاوت راجع إلى طبيعة أعمالهم ومؤهلاتهم وكفاءاتهم، ولا تقوم الحياة إلا بهذا، ولا يعتبر هذا مؤثرا في أصل المساواة.
2 - زيادة الذكر في نصيبه راجعة إلى طبيعة التكاليف المناطة به في النظام الإسلامي، فهو المسئول وحده عن تكاليف الزواج من مهر وسكن، ومن أجل مزيد إيضاح لهذا النظام لنفرض أن رجلا مات وخلف ابنا وبنتا، وكان للابن ضعف نصيب أخته ثم أخذ كل منهما نصيبه وتزوجا، فالابن مطالب بالتكاليف السابقة من المهر والسكن والنفقة مدى الحياة.
أما أخته فسوف تأخذ المهر من زوجها حين زواجها وليست محتاجة إلى شيء من نصيبها لتصرفه في زواجها أو نفقة بيتها.
ثم إن دية قتل الخطأ يتحمل الرجال من العصبة والأقارب مساعدة القاتل في دفعها دون النساء.
ومن هذا يتضح ما على الرجال من تكاليف مالية ليست على النساء في نظام الإسلام.
من أجل هذا يجب أن نعلم أن الشريعة الإسلامية تختلف عن أنظمة البشر الجائرة التي تحكم كثيرا من بقاع العالم اليوم، حيث فيها يتبرأ الأب من ابنته حين تبلغ سن الثامنة عشرة لتخرج باحثة عن لقمة العيش، وكثيرا ما يكون ذلك على حساب الشرف ونبيل الأخلاق.
أما الفتاة في الإسلام فهي مرعية في كنف أبيها أو من يقوم مقامه شرعا حتى تتزوج.
إن منهج الإسلام أحكاما وأخلاقا لا يجوز أن يكون تأمين العيش فيه على حساب العرض والشرف، فما ضياع الشرف إلا ضياع للعالم كله، ولئن وجد الشاب والشابة في نزواته وصبواته وفترة طيشه لذة عاجلة، فإن عاقبتها الدمار والتشتت الأسري وتقطيع الأرحام وانتشار الفساد في الأرض، وما نساء الشوارع وفتيات المجلات والأفلام في أوروبا وأتباع(32/203)
أوروبا إلا نتائج ذلك النظام الخاسر، فهن إفرازات أخطاء البيوت الخربة والمسئولية الضائعة حينما ألقاها الرجال عن كواهلهم فوقعن حيث وقعن، وتبع ذلك التنصل من مسئولية النسل والتربية الصحيحة، وأصبح الفرد ذكرا أو أنثى لنفسه لا لأمته، ولشهواته القريبة لا للهمم العليا، وبهذا يسرع الفساد إلى المجتمع ويعم الخراب الديار.
3 - الميراث ملحوظ فيه الجانب المادي، فهو مرتب على نظام الزواج، فهو كعملية الطرح بعد عملية الجمع لإخراج نتيجة صحيحة.
أي أن الزيادة في الميراث ليست تفضيلا ولكنها تعويض مادي بحت.
وبالنسبة للسؤال حول حق المرأة في الزواج من غير المسلم، فهذا خاضع لعموم النظام التشريعي الإسلامي، وكما قلنا في المساواة: إن بعض الفئات من المجتمع قد تمنع من الزواج من فئات أخرى كالعسكري والدبلوماسي؛ لأسباب تتعلق بالمصلحة العامة، فلا غرابة في أنظمة الدنيا أن تشتمل على نوع التفرقة في الحكم والتي لا تعني الإخلال بعموم مبدأ المساواة كما هو مشروح مفصل في جوابنا عن المساواة.(32/204)
الطلاق:
لم يعد أحد ينازع في العصر الحاضر بفاعلية الطلاق وحاجة الزوجين إليه، حينما يتعذر بينهما العيش تحت سقف واحد بعد المحاولات الجادة في الإصلاح والتوفيق.
ويكفي الإسلام فخرا ومنقبة أنه شرع الطلاق وفصل أحكامه، وأعطى فرص الرجعة في طلاق ثلاث متفرقات يتخلل كل طلقة عدة معدودة بحساب مفصل في أحكام الشريعة، مما يعجز أي نظام بشري أن يأتي بمثله حكما وحكمة ونظرا في طبيعة البشر والعلاقة بين الذكر والأنثى والعيش في البيوت والروابط الاجتماعية.(32/204)
وكل القوانين المتمدنة المعاصرة قالت بالطلاق وأخذت به رغما عن النصرانية المحرفة التي زعمت أن الزواج عقد ربط في السماء فلا يحل إلا في السماء.
إننا لا ننكر أن هناك أخطاء في التطبيق يزاولها بعض الأزواج وبخاصة في المجتمعات التي يسود فيها الجهل والأمية، ولا يجوز أن تنسحب أخطاء التطبيق على أصل النظام وقواعده وأحكامه، ألا ترى أن في دنيا الناس من يصف له الطبيب دواء بمقادير محددة ومواعيد معينة، ثم يخالف المريض التعليمات ويسيء الاستعمال، والمسئولية حينئذ تقع كاملة على المريض ما دام عاقلا راشدا.
أما ما قيل في الأسئلة بإمكانية هجر الرجل لزوجته دون أن يقدم تبريرا لعمله ودون أن يعاني من أية نتائج لعمله هذا، فهذا غير صحيح وليس بموجود في الإسلام ولا في تشريعاته، وإذا رأت المرأة من زوجها نشوزا أو إعراضا، فإما أن تعالجه مباشرة مع زوجها بمصالحة أو أي طريق من طرق العلاج الذي يبقي على الحياة الزوجية ويحفظ للبيت تماسكه. وإذا لم تجد كل هذه السبل فتلجأ للقضاء، وإذا تبين للقاضي وجهة الحق مع المرأة فإنه يحكم بفسخ النكاح وافتراق الزوجين وإن لم يرض الزوج.(32/205)
الحضانة:
ما ورد في التساؤل من أن للأب حق الوصاية أو الولاية على الأبناء دائما وإن كان الأطفال في حضانة الأم. فهذا غير سديد وليس من حكم الشريعة، وذلك لأمرين أساسيين:
أولهما:
ليس في القرآن الكريم ولا في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم نص عام ينص على تقديم أحد الأبوين دائما ولا في تخيير أحد الأبوين دائما.
ثانيهما:
العلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقا. وقد ترتب على ذلك(32/205)
خلاف في المدارس الفقهية مبني على النظر في مصلحة الطفل، وعلى صلاحية الأبوين للحضانة والوصاية وقدرتهما على القيام بهذه المسئولية.
وهم متفقون على أنه لو كان أحدهما غير صالح لذلك فلا يجوز أن يتولى الحضانة أو الوصاية.(32/206)
تعدد الزوجات:
جاء في التساؤلات أن من مظاهر تفوق جنس على آخر قبول تعدد الزوجات مع تحريم تعدد الأزواج، وإيضاح الموقف من وجهين:
أولهما:
إن اختلاف الجنس من كل شيء إلى ذكر وأنثى ترتب عليه اختلاف في الطبائع والقدرات. وهذا الاختلاف الذي لا ينكر لا يجوز أن يكون دليلا على تفوق جنس على آخر، كما قررناه في الكلام على المساواة.
ثانيهما:
جاءت الشريعة الإسلامية بإباحة تعدد الزوجات، لأنه منسجم مع مجموعة تعاليمها وهو منسجم كذلك مع الطبيعة البشرية في كل من الذكر والأنثى.
أما أنه منسجم مع عموم تعاليم الشريعة، فلأنها حرمت الزنا وشددت في تحريمه ثم فتحت بابا مشروعا من وجه آخر ألا وهو النكاح. وأباحت التعدد فيه، ولا شك أن المنع من تعدد الزوجات يدفع إلى الزنا؛ لأن عدد النساء يفوق عدد الرجال ويزداد الفرق كلما نشبت الحروب. وفي وقتنا الحاضر تنوعت الأسلحة بحيث تقضي على المتحاربين بالعشرات، بل المئات في هجمة واحدة أو طلقة مدفعية واحدة، بل ينال ذلك حتى غير المتحاربين، فقصر الزواج على امرأة واحدة يؤدي إلى بقاء عدد كبير من النساء دون زواج، وحرمان المرأة من الزواج، وبقاؤها عانسا ينتج عنه سلبيات كبيرة من الضيق النفسي وبيع الأعراض وانتشار السفاح وضياع النسل.(32/206)
ومن جهة أخرى، فإن الرجل والمرأة مختلفان من حيث استعدادهما في المعاشرة. فالمرأة غير مستعدة كل وقت للمعاشرة. ففي الدورة الشهرية مانع قد يصل إلى عشرة أيام أو أسبوعين كل شهر، وفي النفاس مانع هو في الغالب أربعون يوما. والمعاشرة في هاتين الفترتين محظورة شرعا، وفي حال الحمل يضعف استعداد المرأة لذلك. أما الرجل فاستعداده واحد طوال الشهر والعام، فإذا منع الرجل من الزيادة على الواحدة كان في ذلك حمل على الزنا في أحوال كثيرة.
ومما سبق يكون التشريع قد قدر قوة الغرائز حق قدرها حسب الظروف من نقص الرجال وزيادة عدد النساء والأحوال التي تعترض المرأة فتقلل من استعدادها واستجابتها.
ومقصد آخر من مقاصد الزواج وهو حفظ النوع الإنساني واستمرار التناسل البشري وتكوين الأسرة المستقرة، فإذا تزوج امرأة عقيما ولم يبح له أن يتزوج غيرها فقد تعطلت الوظيفة عن أداء غرضها وتعطل الغرض من الزواج. وإذا كان ذلك كذلك فإن بقاءها معه والإذن له بالزواج من أخرى خير من طلاقها ليتزوج أخرى ابتغاء الولد.
ثم إن قدرة الرجل على الإنجاب أوسع بكثير من قدرة المرأة، فالرجل يستطيع الإنجاب إلى ما بعد الستين من العمر. أما المرأة فيقف الإنجاب عندها في حدود الخمسين سنة، فلو حرم على الرجل الزيادة على الواحدة لتعطلت وظيفة النسل أكثر من نصف العمر.
هذه هي النظرة في إباحة الشريعة للتعدد جاءت لدفع ضرر ورفع حرج ولتحقيق المساواة بين النساء ورفع مستوى الأخلاق.
ونحن أهل الشريعة نعلم أن القوانين الوضعية لم تعترف بهذا، بل إنها جعلته محل تندر واستهجان ومجال طعن على الإسلام.(32/207)
ولكننا بدأنا نلمس ظهور بعض القبول في نفوس مفكريهم ودعاة الإصلاح منهم، وبخاصة مع انتشار الحروب المدمرة وترمل الأعداد الكبيرة من النساء وزيادة أعداد النساء على الرجال. ويكفي برهانا لنا وردا عليهم انتشار الخليلات فيما بينهم إذ يكون للرجل عدد من الخليلات يشاركن زوجته رجولته وعطفه وماله، بل قد يكون لإحداهن في هذا كله أكثر من نصيب الزوجة.
يضم إلى ذلك شيوع الزنا وما ترتب عليه من أمراض وكثرة أبناء السفاح وقتل الأجنة في بطون الأمهات.
بل لقد بنوا علاقاتهم الجنسية على فوضى رهيبة، فأولاد الزنا ولقطاء الفواحش تتفاحش نسبتهم حتى قاربوا في بعض أقطارهم نسبة الأولاد الشرعيين.
وحينما يرفعون عقيرتهم في النيل من تشريع التعدد، فإن تنقل الرجل عندهم بين لفيف من النساء أمر مفهوم مقبول في أمزجتهم الفاسدة، وقد ذكرت امرأة كيندي - رئيس أمريكا السابق- أنه كان لزوجها بين 200 إلى 300 صديقة.
وطبقة الصعاليك عندهم يستطيعون السطو على المئات من النساء فما بالك بمن فوقهم.
والرجل عندهم يدور بين جيش من العشيقات دون حرج، فإذا دار بين بضع زوجات داخل سياج من الأخلاق المحكمة والعيشة الكريمة وضع في قفص الاتهام بل الإجرام.
إن جورج كلمنصوا، نمر السياسة في فرنسا في وقته 1841- 1929م وأحد رجالات أوروبا المعدودين له عندهم في السياسة قدم راسخة وتغلب على خصوم كثيرين حظي بهذه المنزلة الدولية عندهم مع استفاضة خبثه وشهرته في نسبة الخنا إليه، وكل ذلك لم يخدش شيئا من عظمته عندهم.(32/208)
لقد كانت له ثمانمائة عشيقة وكان له أربعون ابنا غير شرعي. ويقال: إنه عندما علم أن زوجته الأمريكية خانته نهض عند منتصف الليل ورماها في الشارع تهيم على وجهها في الليل البهيم.
وتعجبوا لماذا حرم هذا الرجل على غيره ما استباحه لنفسه؟
ويقول بعض المعلقين على هذه القصة: كلمنصوا - مثل كل الذئاب البشرية- من أكثر الناس احتقارا للمرأة، ولم يقل أحد في المرأة أسوأ ولا أبشع مما قاله هو سواء على فراش اللهو أو على فراش المرض (1) .
بقي أن نشير في خاتمة هذا الحديث إلى أن الشريعة حين أباحت التعدد اشترطت فيه وجوب العدل بين الزوجات في السكن والنفقة وكل مظاهر العلاقات وإذا لم يقم بالعدل أو خشي الظلم، فإنه لا يجوز له أن يقدم على الزواج من أخرى.
كما أنه لا يجوز أن يتزوج الرجل بأكثر من أربع وهذا تحديد ظاهر لفوضى التعدد التي كانت سائدة في عصور الجاهلية. وأخيرا "فإن التعدد لمن استطاع العدل بين الزوجات جائز مشروع وليس بواجب متحتم".
__________
(1) صحيفة الأهرام 13 \ 9 \ 1979 م الكاتب أنيس منصور.(32/209)
تطبيق الشريعة:
النظر في تطبيق الشريعة بالنسبة لغير المسلمين في بلاد الإسلام منظور إليه من شقين:
الأول: فيما يتعلق بالأحوال الشخصية وأحوال الأسرة، فلكل ملة ما يعتقدون، وتاريخ الإسلام الطويل عاش فيه اليهود والنصارى وغيرهم، ولم يكن ثمة مشكلة قطعا. لا في حال ضعف الدولة الإسلامية ولا في قوتها وكل الشعوب استقبلت المسلمين الفاتحين خير استقبال بدليل أنه عند ضعف الدولة لم يخرج أحد منهم عن إسلامه، بل لا زال إلى يومنا هذا مستمسكا به مدافعا عنه غيورا عليه بما في ذلك الهندي والتركي والمغربي والعربي وسائر الأجناس.(32/209)
بخلاف مواقفهم من الاستعمار الأوروبي، فكان الصراع على أشده منذ دخوله إلى خروجه ويسمى التخلص منه حرية واستقلالا، ولم يكن ذلك يوما ما من الشعوب الإسلامية نحو الإسلام.
الثاني: فيما عدا الأحوال الشخصية، فالنظرة المنصفة تقتضي أن ينظر إلى بقية الأحكام كسائر الأحكام في القوانين الأخرى من المعاملات والجنايات، وهل القانون بجميع مواده إلا منع وإباحة ويدلك على التجني الظاهر أن واضع الأسئلة وصف تطبيق الشريعة بأنه دكتاتوري.
بينما كل القوانين حينما تطبق يجب أن تطبق بقوة وهو ما يسمى في مصطلحهم "باحترام القانون" فحين تحزم الدولة أو الحكومة بتطبيق النظام هل يكون هذا دكتاتورية.
وإنني أتساءل عن تطبيق الشريعة في مصر أو السودان مثلا، ومن جملة الشعبين نصارى وحينما تكون لهم أحكامهم الشخصية وشئونهم الأسرية بمقتضى ديانتهم كما أن للمسلمين أحكامهم الأسرية ماذا يريد النصارى في البلدين من قانون بعد ذلك- أي فيما عدا الأحوال الشخصية- هل يريدون قانونا فرنسيا أو ألمانيا أو إيطاليا أو إنجليزيا.
النظرة المنصفة والنظرة الوطنية المعقولة البعيدة عن التحيز أن يميلوا إلى ما هو وطني مصري أو سوداني إن كانوا وطنيين. فما الداعي لأن يفضل نصراني مصري القانون الفرنسي أو النصراني السوداني القانون الإنجليزي. ففيما عدا الأحوال الشخصية وأمور العبادات، فإن أحكام الأنظمة والقانون في مدنيها وتجاريها وعقوباتها تختلف من قانون إلى قانون وقد تتفق في بعض المواد والأحكام. ولعلك تدرك بهذا مدى التحيز والعنصرية ضد الشريعة الإسلامية والانحياز لحضارة الرجل الأبيض.
إن اختلاف قوانين الدول فيما بينها أمر معروف مألوف، ولكن الإلحاح بالمطالبة بإبعاد الشريعة عن الحكم لا يخلو من أحد سببين:(32/210)
إما لأنها تعطي أتباعها الاستقلالية التامة والحرية المنشودة مع ما فيها من كمال وشمول وصلاح ومصلحة.
وإما أنه تسلط محض يراد به الإثارة والبلبلة في المنطقة حتى لا تستقر ويسهل الاصطياد في الأجواء المتعكرة المضطربة.
وأي دكتاتورية في تطبيق الشريعة والكل يعلم من القاصي والداني أنه ما جرى استفتاء في تطبيق الشريعة إلا وكانت الأغلبية تنادي به، ولكن الرجل الأبيض وحده لا يريد ذلك بدعوى حفظ حقوق الأقلية. ويتساءل المتسائل. . أين حقوق الأكثرية في كثير من الدول الأفريقية التي يحكمها أقلية نصرانية متمكنة مسيطرة مدعومة من القوى الخارجية.(32/211)
الحدود والعقوبات الجسدية:
إن الحدود والعقوبات الجسدية ما هي إلا أحكام تنص عليها الشريعة. كما ينص على مثلها أي قانون في الدنيا باعتبارها جزاءات توقع على المخالفين. ويبقى النظر في المصالح المتحققة من جراء القانون ومدى إعطائه أثره ونتيجته كحافظ للأمن مثبت لاستقرار الناس في معاشهم وتنقلاتهم وأخلاقهم.
وليس من الإنصاف انتزاع مادة من قانون أو حكم من شريعة وإبرازه وكأنه مثلبة في هذا القانون أو ذاك. ولكن نظرة الإنصاف تقتضي النظر إلى النظام كله: شروط الجريمة وتحققها وشروط إيقاع الجزاء وأسباب ذلك. على سبيل المثال في هذه العقوبات المذكورة من القطع والرجم لن تجد في تاريخ الإسلام الطويل تنفيذا لها إلا بعدد لا يجاوز أصابع اليد الواحدة ليس لأنها غير عملية، وإنما من أجل الأمان الذي تحققه الشريعة في صرامة العقوبة ثم الشروط الموضوعة لتطبيقها حيث تدرأ الحدود بالشبهات.
وحتى يكون الأمر أكثر واقعية نستشهد بالواقع المعاصر بقوانينه ونظمه.
إن الأمم المعاصرة وبخاصة دول الغرب قد ملكت أسلحة فتاكة وأجهزة نفاذة(32/211)
وتقنيات متقدمة ووسائل دقيقة واستكشافات باهرة وبخاصة في مجال الجريمة بحوثا ودراسات وطرقا في الملاحقات وتتبع المجرمين، إضافة إلى التوعية الإعلامية الواسعة للجمهور والاستنارة بالثقافة والتقدم العلمي والوعي المعرفي للأفراد والجماعات. وعلى الرغم من كل ذلك فإن الجريمة تستفحل ويزداد المجرمون عتوا وطغيانا هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن تركيزهم منصب على استصلاح المجرمين وتهذيب الأشرار وقد أرادوا أن يجعلوا من السجون أماكن تهذيب وعنابر إصلاح واعتبروا المجرمين مرضى أحق بالعلاج منهم بالعقاب وألقوا باللائمة على عوامل الوراثة والبيئة والفساد الاجتماعي، وهذا حق لا ينكر، ولكن الأمر ليس مقصورا على هذا الجانب وحده ذلك أن العضو المريض قد تكون المصلحة في بتره حتى لا يسري مرضه إلى الجسم كله وهذا أمر مقرر عقلا وواقعا، والفساد الاجتماعي ما هو إلا من مجموع فساد الأفراد.
أما السجون فقد غلظت فيها قلوب كثير من المجرمين وخرجوا منها في ضراوة أشد وشقاوة أعظم. ومن اليسير أن يتعاون اللصوص والقتلة في رسم الخطط ويجعلوا من السجن مساحات ممهدة للتدارس وتقاسم المهمات يشاركهم في ذلك إخوان لهم في الغي خارج القضبان.
وأنت ملاحظ مدرك أن فكرة الهدف الإصلاحي للمجرمين والمعالجات اللينة قد مضى عليها أكثر من نصف قرن، ومع هذا فالإجرام في تزايد مطرد فما كان هذا الهدف إلا وهما وسرابا.
إن المجتمع الإنساني المعاصر بما فيه من العالم المتحضر قد بلغ ذروة من الاستهتار والاستباحة والاسترخاص للدماء والأموال والأعراض جعلت العقوبات في التشريعات الوضعية ضعيفة هزيلة بجانب سوء صنائع هؤلاء العتاة المجرمين. أي رحمة أو تهذيب يستحقها هؤلاء القتلة والسفاكون، وهل كان هؤلاء رحماء بضحاياهم الأبرياء؟ وهل كانوا رحماء بالمجتمع كله، بل تطور الأمر كما هو مشاهد إلى تطور المجرمين في وسائلهم فصاروا يشكلون العصابات(32/212)
التي تفوق أحيانا في إمكاناتها ووسائلها وتجهيزاتها الدول والحكومات، ولا أدري أي عقاب سوف ينزله هؤلاء الرحماء بتجار المخدرات الذين لا نزال نسمع ازدياد أخبارهم واستفحال إجرامهم حتى أصبحوا ظاهرين غير متسترين، بل صاروا يفاوضون الحكومات والجهات المختصة علنا؟
وبناء على ما سبق، فإن العلم والثقافة والحضارة في صورتها الراهنة عاجزة عن دفع الأخطار عن الإنسان الذي يعيش حياة الخوف والإرهاب على الأرض وفي الجو والبحر وفي المنزل والمكتب والمصنع والشارع. ومجرم اليوم كما أسلفت مزود بالعلم والمعرفة، ويتطور مع تطور أنظمة الشرطة وتجدد أساليب الملاحقة والمتابعة ويخطط كما يخطط رجال الأمن، والكل في صراع لا يفصله إلا العقاب الزاجر العادل أفلا يفقهون. وأخيرا فإن هناك عقوبات جسدية تطبقها بعض القوانين المعاصرة وأبرزها عقوبة الإعدام، بل هذه العقوبة كانت ملغاة في بعض القوانين، ثم عادوا إليها، وفي كتابنا نحن المسلمين عبارة جامعة قاطعة {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1)
__________
(1) سورة المائدة الآية 50(32/213)
الجهاد في سبيل الله:
الكلام في الجهاد سوف يتضمن حديثا عن القوة وضرورتها للفرد والمجتمع والأمة، ويتضمن كذلك بيان طبيعة الإسلام وافتراقه عن الديانات الأخرى ومفهوم الأمة الإسلامية واختلافها عن مفهوم الأمة السائد لدى كتاب الاجتماع ودارسي التاريخ، ثم التنبيه كذلك على مغزى الجهاد في الإسلام واختلافه عن مفهوم كلمة الحرب أو القتال المجرد وسر اقتران لفظة "الجهاد" بلفظة أخرى تحدد مفهوما وهي "في سبيل الله ".
القوة:
القوة شيء محمود وأمر مطلوب وهي صفة تتعلق بها النفس البشرية وتحبها. والإنسان حينما يأخذ أموره بحزم وينجز أعماله ويدير شئونه بقوة، فإنه منجز(32/213)
ما يريد سواء في ذلك القوة الفكرية أو القوة العلمية أو القوة المادية. فالبدن القوي والرأي القوي والشخصية القوية كلها صفات مستحبة. ومعلوم أن وجه الاستحباب والاستحسان إذا كان في طرق الخير ووجوه المنفعة للنفس والناس أجمعين.
والدولة القوية تحفظ مهابتها ما دامت هذه الصفة ملازمة لها.
وهذه سنة إلهية من السنن التي تبنى عليها الحياة فلا خير في حق لا نفاذ له ولا يقوم حق ما لم تسانده قوة تحفظه وتحيط به.
وما فتئت أمم الدنيا ودولها تعد لنفسها القوة بمختلف الأساليب والأنواع حسب ظروف الزمان والمكان وعصرنا الحاضر تفتقت أذهان أبنائه عن أنواع من القوى وأساليب من الاستعداد فاقت كل تصور هذه مقدمة في القوة وأهميتها.
ومقدمة أخرى تتعلق بطبيعة الإسلام وأهله. أما الإسلام فيخطئ غير المسلمين ومنهم النصارى والغربيون من بعدهم حين يظنون أن الإسلام ملة مقصورة على مجموعة من العقائد الغيبية والشعائر التعبدية، مما يجعل الإسلام في مفهومهم لا يعدو أن يكون مسألة شخصية يختار الإنسان لنفسه ما شاء من عقيدة وديانة يعبد ربه بأي طريق رضيها لنفسه لا يعدو الأمر عندهم غير ذلك، ولكن الإسلام في معناه ومرماه غير ذلك، فهو اعتقاد صحيح في القلب إيمان بالله الواحد لا يستحق العبادة سواه موصوف بصفات الكمال منزه عن كل عيب ونقص وهو إلى جانب ذلك شريعة حاكمة شاملة لكل ما يحتاجه البشر في نفسه ومجتمعه في سلمه وحربه، في تعامله مع أهله والقريب والبعيد والعدو والصديق، في شرائع وأحكام وآداب تشمل النظم السياسية والاجتماعية والخلقية والاقتصادية وسائر شئون الدنيا.
وأما أهل الإسلام فليسوا أمة على المعنى المصطلح عندهم والذي يعني طائفة من الناس توافقت فيما بينها وتألفت في خصائص معينة، ولكن أمة الإسلام تضم كل من اعتنق الدين من أي جنس أو لون أو قطر في الشرق وفي الغرب.(32/214)
حقيقة الجهاد:
انطلاقا من هذا الإيضاح لمفهوم النحلة والأمة. يتبين أن الإسلام ليس بتلك النحلة الضيقة وأهل الإسلام ليسوا بتلك الأمة المنحصرة في نفسها، وبناء عليه، فإن الجهاد مشروع لنشر الحق وليدخل الناس في الإسلام كافة.
وفي هذا الصدد يحسن التنبيه إلى أن المصطلح الإسلامي هو " الجهاد" وليس الحرب أو القتال.
فلفظ الحرب غالبا ما يراد بها القتال الذي يشب لهيبه وتستعر ناره بين الرجال والأحزاب والشعوب لمآرب شخصية وأغراض ذاتية وأهداف مادية، والقتال المشروع في الإسلام ليس من هذا القبيل وليس لهذه الأغراض ولا لتلك الأهداف.
الإسلام لا ينظر إلى مصلحة أمة دون أمة ولا يقصد إلى النهوض بشعب دون شعب ولا يهمه في قليل ولا كثير أن يتملك أرضا ويستولي عليها هذا القائد أو ذاك، ولكن المقصود هو سعادة البشر وفلاحهم، فكل توجه غير هذا وكل أهداف سوى هذا فلا اعتبار له في الإسلام، بل لا بد من مقاومتها حتى يكون الدين كله لله والأرض كلها لله ويرثها الصالحون من عباد الله. والجهاد الإسلامي يتوجه من أجل ذلك كله لا لتستبد أمة بالخيرات أو ينفرد شعب بالثروات، بل ليتمتع الجنس البشري كله بأجمعه بالسعادة البشرية تحت راية الإسلام.
ومن هنا فتستخدم القوى والوسائل لتحقيق ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ثم الجهاد بمعناه العميق.
بعد هذا الإيضاح لمعنى الجهاد وسر اختيار هذه الكلمة على غيرها من مرادفاتها والتي تعني بذل الجهد والطاقة لا بد من التنبيه إلى كلمة لصيقة بها في المصطلح الإسلامي ألا وهي عبارة "في سبيل الله ".(32/215)
إنها تحدد بجلاء المقصود من هذه القوة الإسلامية أنه شرط لا ينفك عنه أبدا، بل لو انفك عنه لبطل المصطلح ولفسد الأمر واضمحل الهدف، إن معنى "في سبيل الله " أن كل عمل يقوم به المسلم يقصد به وجه الله، ثم المصالح العامة وسعادة الأمة فهو في سبيل الله، فإنفاق المال في وجوه الخير والبر إذا قصد به المنفق منافع دنيوية أو ثناء الناس فهو ليس في سبيل الله حتى ولو دفعه إلى مسكين أو معوز. إن كلمة "في سبيل الله" مصطلح يطلق على الأعمال التي تؤدى خالصة لوجه الله من غير أن يشوبها شيء من شوائب الأهواء والشهوات. والجهاد ما قيد بهذا القيد إلا للدلالة على هذا المعنى.
فالجهاد الإسلامي الحق لا بد أن يكون مجردا من كل غرض مبرءا من كل هوى أو نزعات شخصية لا يقصد إلا تأسيس نظام عادل يقوم عليه الناس بالقسط، ينشر الحق وينصر العدل. وفي النص القرآني: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} (1)
وفي النص النبوي: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (2) » البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد.
والقرآن والسنة مملوآن ببيان هذا المعنى وتأكيده وضرورة التزامه.
__________
(1) سورة النساء الآية 76
(2) صحيح البخاري العلم (123) ، صحيح مسلم الإمارة (1904) ، سنن الترمذي فضائل الجهاد (1646) ، سنن النسائي الجهاد (3136) ، سنن أبو داود الجهاد (2517) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2783) ، مسند أحمد بن حنبل (4/417) .(32/216)
أمم الأرض والقوة:
إذا كان هذا هو مفهوم الإسلام وأمة الإسلام ومفهوم الجهاد في سبيل الله. وكانت القوة أمرا لازما للأمة والأفراد لتستقيم الحياة بمادياتها ومعنوياتها، فلا غرو أن تكون الأمم والشعوب على طول التاريخ تحب القوة وتستعد بها لتحفظ مكانتها وتعيش حياتها كريمة مصانة.
وأحب أن أنبه في خاتمة المطاف إلى تلك القوى الشريرة التي صحبت الاستعمار في كل تاريخه، تلك القوى والحروب التي أثارها المستعمرون على الأمم المستضعفة في مشارق الأرض ومغاربها وجاسوا خلال الديار يبحثون عن أسواق لبضائعهم وأراض لاستعمارهم ليستبدوا بمنابع الثروات ويفتشوا عن(32/216)
المناجم والمعادن وما تغله أرض الله الواسعة من حاصلات: غذاء لبطونهم ومددا لمصانعهم ومعاملهم دون أصحابها الأصليين، يبحثون عن ذلك وقلوبهم ملأى بالجشع ونفوسهم مفتوحة بالشره تتقدمهم دبابات مجنزرة وفوق رءوسهم طائرات في جو السماء محلقة بآلات مؤلفة من العساكر المدربة يقطعون على البلاد سبل رزقها وعلى أهاليها الوادعين طريقهم إلى الحياة الكريمة. لم تكن حروبهم في سبيل الله، ولكنها في سبيل الشهوات الذاتية والأهواء الأنانية حملات وغارات على شعوب وادعة آمنة لم يكن ذنبها إلا أن الله قد أنعم عليهم بمعادن الأرض وكنوزها، معادن في الباطن وخصبا في الظاهر أو أن تكون سوقا لبضائعهم ومتنزها لبني جلدتهم الذين لفظتهم أرضهم. والأدهى والأمر أنهم قد يغيرون على بلاد آمنة لمجرد أنها تقع في طريق بلاد قد استولوا عليها من قبل.
ولكن أظهروا في هذه الأيام تحضرا واستمساكا بالقوانين الدولية والمواثيق، فإنهم ما اطمئنوا إلى ذلك إلا بعد ما ثبتوا أقدامهم ورتبوا أنفسهم ولو اختل شيء من ذلك لما حفظوا عهدا ولما التزموا بقانون وإن لهم من البراعة في تفسير القوانين والتواءات العبارات ما يجعل لهم ألف مخرج وألف معبر ناهيك بما أعدوا به أنفسهم من فنون الأسلحة الفتاكة مما لا يخطر على بال الشيطان الرجيم من متفجرات نووية وهيدروجينية وجرثومية وكيميائية. ومع هذا تجد من يثير قضية الجهاد الإسلامي مصحوبة بتلفيق من صور شراسة الطبع والخلق والهمجية وسفك الدماء وما ألقى القنبلة الذرية في هيروشيما إلا أكبر دوله متقدمة. فيا ليت أنهم قالوا كلمة صادقة لوجه الله وفي سبيل الله.
والله ولي التوفيق وهو يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.(32/217)
أهم المصادر
1 - سيرة ابن هشام.
2 - مجموع فتاوى ابن تيمية.
3 - تاريخ ابن كثير "البداية والنهاية".
4 - حقوق الإنسان لمحمد الغزالي.
5 - حقوق الإنسان وحرياته الأساسية د. عبد الوهاب عبد العزيز الشيشاني.
6 - أصول النظام الاجتماعي في الإسلام- محمد الطاهر بن عاشور.
7 - هذا ديننا- محمد الغزالي.
8 - التشريع الجنائي- عبد القادر عودة.
9 - الجهاد في سبيل الله- أبو الأعلى المودودي.
15 - القرآن الكريم معجزة ومنهج- محمد متولي الشعراوي.
11 - هذه مشكلاتهم- محمد سعيد رمضان البوطي.
12 - الكشاف الفريد عن معاول الهدم ونقائض التوحيد- خالد محمد علي الحاج.(32/218)
أسئلة حول الحريات:
كيف يمكن التوفيق بين حرية التفكير والاعتقاد التي منحها الله للإنسان وبين منعه (مع استخدام العقوبة القصوى وهي القتل) من تغيير دينه وإن كان هذا التغيير قد نجم عن قرار شخصي نابع عن تفكير عميق ولأسباب جدية؟
المسلمون يعتبرون من الطبيعي جدا أن يعترف النصارى بحق إخوتهم في العقيدة في اعتناق الإسلام. . ألا يمكن للمسلمين الراغبين في دخول النصرانية من التمتع بالحق نفسه، إقرارا للحرية التي منحها الله للإنسان؟
هل الإسلام على استعداد- في البلاد الإسلامية- لمنح المسيحيين تلك الحريات التي يتمتع بها المسلمون في البلاد المسيحية، بما في ذلك دخول المساجد(32/218)
والتعبير الحر عن دينهم ودعوة الجماهير لاعتناق العقيدة المسيحية؟
كيف يكون منطقيا التأكيد بأن الله قد منح الحرية بالتساوي للرجل والمرأة، ثم تمنع المرأة المسلمة من اختيار الرجل الذي ترغب في الزواج منه، إن لم يكن مسلما؟
كيف يمكننا تفسير العقوبات الجسدية كقطع يد السارق أو الجلد أو الرجم، وهي المبينة في بعض الآيات القرآنية؟
أسئلة حول المساواة:
ما معنى الدفاع عن تفوق الإنسان الحر على العبد، دون إدانة للعبودية أو القضاء عليها؟
لماذا يقال: إن الله قد خلق البشر سواسية في الحقوق والواجبات، بينما تقبل عدم المساواة لأسباب دينية؟ كما يعلن عن تفوق المسلم على غير المسلم وإن كان الأخير من (أهل الكتاب) أو من أتباع الديانات الأخرى أو من غير المؤمنين؟
ونجد هذه اللا مساواة في الميادين الحقوقية والاجتماعية، اعتمادا على العقائد الدينية، ونحن بدورنا نتساءل، هل يتعارض التعايش- بالحقوق نفسها- بين المسلمين والنصارى واليهود وبقية الناس، مؤمنين أم غير مؤمنين، مع العقيدة الإسلامية، وبخاصة بالنسبة لقضية تطبيق الشريعة دون تمييز على المسلمين وغير المسلمين؟
ولماذا يقبل تفوق جنس على آخر؟ وهو أمر نراه من خلال النقاط التالية:
أ- قبول تعدد الزوجات مع تحريم تعدد الأزواج.
2 - إمكانية هجر الرجل لزوجته دون أن يقدم تبريرا لعمله ودون أن يعاني من أية نتائج لعمله هذا، بينما لا تستطيع المرأة سوى الحصول وبصعوبة على الطلاق وعن الطريق القانوني فقط.(32/219)
3 - للأب حق الوصاية أو الولاية على الأبناء دائما وإن كان الأطفال في حضانة الأم.
4 - بالنسبة للمواريث نجد أن نصيب المرأة، وفي أغلب الأحيان، هو أقل من نصف حصة الرجل.
وأخيرا، أين نجد الترابط المنطقي لله والذي خلق البشر وأحبهم جميعا، بينما نجد -كما في النصوص القرآنية- يحث على قتال الكفار؟
وفي الدولة الإسلامية التي تطبق فيها الشريعة. . هل التعددية (في كافة صورها الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية والعائلية) ، هل ستعتبر هذه التعددية رحمة إلهية تضمن الحرية والمساواة، أم أنه ستفرض الشريعة على الجميع بشكل ديكتاتوري، كما نراها حاليا في كثير من الدول الإسلامية؟(32/220)
المخدرات والعقاقير النفسية
أضرارها وسلبياتها السيئة على الفرد والمجتمع
وطرق مكافحتها والوقاية منها
إعداد الدكتور: صالح بن غانم السدلان.
الحمد لله الذي أحل لعباده الطيبات وحرم عليهم الخبائث وشرع لهم من الدين ما يقيهم كل ما يلحق الضرر بنفوسهم وعقولهم ومجتمعاتهم ويحميهم من الشقوة والضياع في الدنيا والحسرة والندم في الآخرة، وفتح باب التوبة لعباده الذين أسرفوا على أنفسهم ليستعيدوا سكينة النفس ويستأنفوا استقامة السلوك. وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين وحجة على الخلق أجمعين وسلم تسليما كثيرا. . أما بعد:
فإن المخدرات وسائر المسكرات من أكبر الجرائم المؤدية بحد ذاتها إلى جرائم خطيرة، فهي أم الخبائث، ومورثة المفاسد، وما وجدت في مجتمع وانتشرت بين أفراده إلا رمتهم في جحيم الشهوات العارمة ومضمار اللذات الهمجية التي سرعان ما تضمحل لتعقبها الأوبئة السارية، والأمراض المعدية إضافة إلى فساد الأخلاق وانتشار الفوضى وكثرة الجرائم المتعددة.(32/221)
ولا ريب أن ظاهرة الإدمان على المخدرات جائحة تعم العالم بأسره، فلم تعد قاصرة على بلد دون بلد، أو قطر دون قطر، بل عمت بها البلوى وأخذ كل بلد وكل قطر نصيبه من هذا الداء الوبيل! وأصبحت المجتمعات المعاصرة تعاني ما تعاني من هذه الظاهرة التي باتت تزعزع أمن الدول وتعرض سلامة أبنائها للخطر، بل وأصبحت سببا مباشرا في انتشار أنواع كثيرة من الجرائم.
حقا إنها آفة هذا العصر ومشكلة المشاكل في هذا القرن وإن رياحها العاتية لتعصف بالعقول والنفوس والمجتمعات باذرة الخراب وزارعة المرض وحاصدة الأرواح.
حقا إنها لغم يهدد الحضارة بالتفجير والقيم بالزوال والأخلاق بالفوضى والفساد. إنها الموت والفناء معبأ في أقراص وحقن والسم متنكرا في ألف شكل وشكل، أما الضحايا فهم من جميع الأجناس والأعمار والأديان.
لذلك فقد نالت هذه الظاهرة - وما زالت - تنال اهتمام وعناية كافة الدول والهيئات الدولية وتشغل مكافحتها أذهان المصلحين في العالم للوقاية منها ودرء شرورها وأخطارها عن المجتمعات! وعقد لهذا الغرض الكثير من المؤتمرات والاجتماعات وأبرم لأجله الكثير من الاتفاقيات وكلها تؤكد عزم البشرية على محاربة ومقاومة هذه الآفة المستشرية في جسم الكثير من أبنائها.
نعم إن مقاومة هذا الخطر المحدق مسئولية تضامنية لا تهم فردا دون فرد أو تعني دولة دون أخرى، بل لا بد من تضافر كل الجهود وحشد كل الطاقات كل في موقعه وحسب إمكاناته وقدراته.
وإسهاما منا في هذا الواجب العظيم الذي يمليه علينا ديننا وأمانتنا وتأدية لواجب النصح لإخواننا المسلمين، أرى أن ألقي الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة وسلبياتها المدمرة للفرد، بل وللأسرة والمجتمع أجمع، وذلك من جميع النواحي حتى نكون على بينة من أمرها فالذكرى تنفع المؤمنين، والعاقل من اتعظ بغيره، والشقي من أتبع نفسه هواها وكانت العظة فيه لغير.(32/222)
أولا: تعريف المخدرات:
في مقدمة الكلام عن المخدرات يجدر بنا أولا أن نعرف بها حتى نتصورها تصورا صحيحا، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره:
(أ) التعريف اللغوي:
المخدرات من العقاقير جمع عقار، والتعريف العلمي الأساسي للعقار أنه: مادة تؤثر بحكم طبيعتها الكيميائية في جسم الكائن الحي أو وظيفته (1) . ولفظة المخدرات تحتاج إلى إيضاح مفاهيمها من الناحية اللغوية.
مادة هذه الكلمة في اللغة العربية: نزل على السترة والظلمة والفتور. فالخدر: ستر يمد للجارية في ناحية البيت، ثم صار كل ما واراك من بيت ونحوه خدرا. والخدر: الكسل والفتور. والخادر: الفاتر الكسلان، وخدر: خدرا: من باب فرح: عراه فتور واسترخاء، وخدر العضو إذا استرخى فلا يطيق الحركة ومنه خدر جسمه وخدرت يداه أو رجله. والمخدر: مادة تسبب في الإنسان والحيوان فقدان الوعي بدرجات متفاوتة كالحشيش والأفيون والجمع مخدرات (2) .
وفي ضوء هذا المعنى اللغوي يتبين لنا أن لفظ: الخدر الذي هو الضعف والفتور يصيب البدن والأعضاء كما يصيب الشارب قبل السكر. هذا اللفظ هو أصل اشتقاق المخدرات، وبناء على هذا فالمخدر: هو ما يترتب على تناوله كسل وفتور وضعف واسترخاء في الأعضاء وفيه معنى الستر والتغطية (3) . والمخدرات في الاصطلاح اللغوي: مواد نباتية أو كيماوية لها تأثيرها العقلي والبدني على من يتعاطاها فتصيب جسمه بالفتور والخمول ويشل نشاطه
__________
(1) المخدرات والعقاقير المخدرة ص 5.
(2) ندوة عن أخطار المخدرات على الشباب ص 69، 70.
(3) ندوة عن أخطار المخدرات ''المرجع السابق '' ولسان العرب مادة خدر، والموسوعة الميسرة 1666.(32/223)
وتغطي عقله كما يغطيه المسكر وإن كانت لا تحدث الشدة المطربة التي هي من خصائص المسكر المائع (1) .
(ب) وفي الاصطلاح الطبي:
المخدر: كل مادة خام أو مستحضر تحتوي على عناصر مسكنة أو منبهة من شأنها إذا استخدمت في غير الأغراض الطبية المخصصة لها وبقدر الحاجة إليها دون مشورة طبية أن تؤدي إلى حالة من التعود والإدمان عليها مما يضر بالفرد والمجتمع (2) .
وتعرف المخدرات علميا بأنها: مادة كيميائية تسبب النعاس أو النوم، وغياب الوعي المصحوب بتسكين الألم، وكلمة مخدر ترجمة لكلمة ناركوتك Narcotic والمشتقة من اللاتينية ناركوزيس Narkosis التي تعني يخدر أو يجعل مخدرا.
وتعرف المخدرات قانونيا بأنها: [مجموعة من المواد تسبب الإدمان وتسمم الجهاز العصبي ويحظر تداولها أو زراعتها أو تصنيعها إلا لأغراض يحددها القانون، ولا تستعمل إلا بواسطة من يرخص له بذلك، (3) .
وإضافة إلى ما أوضحناه من تعاريف ومفاهيم "المخدرات " نشير إلى أن الاتفاقيات الدولية لم تحدد تعريفا واضحا للمخدرات وذلك لصعوبة التعريف الجامع المانع لها، والسبب في ذلك أن أغلب المخدرات مثل الأفيون ومشتقاته والكوكاكئيين والمواد المؤثرة على الحالة النفسية إذا أسيء استخدامها تؤدي إلى حالة من الاعتماد الجسمي عليها والنفسي أيضا [الإدمان] ولا بد من البرء من الإدمان على المخدرات من علاج نفسي وعلاج جسمي، ولكن في بعض المخدرات مثل "الحشيش " يؤدي إلى حالة من التعود أو الإغماء النفسي. ومن ثم لا يحتاج البرء منها سوى إرادة قوية وعلاج نفسي، لذلك لم تحدد الاتفاقيات
__________
(1) المخدرات من القلق إلى الاستبعاد ص 5
(2) تعاطي المخدرات في دول مجلس التعاون ص 16
(3) المخدرات والعقاقير المخدرة ص 19، 20 انظره في تعريف المخدرات علميا وقانونيا(32/224)
الدولية تعريفا واضحا للمخدرات واكتفت بحصر المواد المخدرة متدرجة حسب درجة خطورتها في جداول أربعة ملحقة بكل اتفاقية: الأخطر في الجدول الأول ثم الأقل خطورة في الجدول الثاني وهكذا. . ولكل دولة الحق في نقل مادة من جدول أقل خطورة إلى جدول أكثر خطورة. كما أن لكل دولة الحق في أن تدرج في جداولها مادة ليست مندرجة في جداول الاتفاقيات. وهذا مما يجعلنا نقول: إن المواد المخدرة التي تخدر الإنسان وتفقده وعيه وتغيبه عن إدراكه ليست كلها نوعا واحدا، وإنما هي بحسب مصادرها وأنواعها متعددة، لذلك يتحتم علينا معرفة أنواع المخدرات والعقاقير المخدرة.(32/225)
ثانيا: أنواع المخدرات والعقاقير المخدرة:
[تحدثت كثير من الكتب القديمة والحديثة عن أنواع من المخدرات، ولا تزال معامل الأدوية تخرج إلى العالم كل يوم مستحضرات جديدة تؤدي نفس المفعول المخدر، وذلك باستخلاص المواد الفعالة منها مع غيرها من المواد المشابهة أو بتهيئة بعضها بشكل سوائل تؤخذ عن طريق الحقن أو بشكل كبسولات تؤخذ بالفم أو بشكل مساحيق تستعمل كسعوط يؤخذ عن طريق الأنف بالشم أو على شكل حبوب بمقاسات متعددة وأشكال متنوعة وألوان مختلفة، وربما استحضروا بعض المواد من بعض المعادن والأكاسيد والأحماض والقلويات وغيرها] .
وبهذا يتضح [أن إحصاء جميع المواد المسكرة والمخدرة أمر غير ممكن في الواقع. فقد جاء في إحصاء أخير عمل أخيرا في فرنسا أن المواد المخدرة يفوق عددها "500" خمسمائة مركب، تتصف جميعها بالسيطرة على المتعاطي لها تؤدي إلى الانهيار النفسي والبدني والعقلي المؤكد] (1) .
__________
(1) انظر كتاب: المخدرات من القلق إلى الاستعباد د \ محمد الهواري ص23(32/225)
ولكن يمكن تقسيم أنواع المواد المخدرة عموما إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: مواد مخدرة طبيعية: وهي من أصل نباتي مثل الحشيش والأفيون والكوكا والقات.
النوع الثاني: مواد مخدرة تصنيعية: وهي التي تستخلص من المواد المخدرة الطبيعية وتجري عليها عمليات كيميائية لتصبح في صورة أخرى أشد تركيزا وأثرا مثل: المورفين والهروين والكوكايين وغيرها.
النوع الثالث: مواد مخدرة تخليقية: وهي عقاقير من مواد كيميائية لها نفس تأثير المواد المخدرة الطبيعية والتصنيعية وتصنع على شكل كبسولات أو حبوب أو أقراص أو حقن وأشربة ومساحيق. ومنها ما هو منوم مثل كبسولات السيكنال أو منبه مثل حبوب الكبتاجون والأمفيتامين أو مهدئ مثل الفاليوم، ومنها ما هو مهلوس مثل عقار "إل. إس. دي " (1) .
__________
(1) انظر: سلسلة منشورات الإدارة العامة لمكافحة المخدرات بالمملكة العربية السعودية ص 8(32/226)
ثالثا: تصنيف المخدرات والعقاقير المخدرة:
نظرا لوفرة المواد المخدرة، واختلاف مصادرها، وتعقيد تركيبها فقد كان من العسير الاعتماد على تصنيف مبسط يجمع بينها جميعا، ولكن يمكن تصنيفها تبعا لطريقة تأثيرها والأضرار الناجمة عنها أو على أساس لونها وتفاوت خطورتها. وبهذا يكون هناك أكثر من تصنيف للمخدرات والعقاقير المخدرة، فمن الممكن تصنيفها على أساس لونها، حيث تصنف المخدرات إلى:
(أ) المخدرات البيضاء: مثل الكوكايين والهيروين.
(ب) المخدرات السوداء: مثل الأفيون والحشيش.
ويمكن تصنيفها على أساس كثرة خطورتها وقلتها، حيث تصنف المخدرات إلى:(32/226)
(1) المخدرات الكبرى: وهي التي لها خطورة كبيرة على متعاطيها عند استخدامها والإدمان عليها مثل: الأفيون، المورفين، الكوكايين، الهيروين، الحشيش، المارجوانا، الهندباء البري.
(ب) المخدرات الصغرى: وهي التي خطورتها أقل من سابقتها، وتمثل جانبا كبيرا من العقاقير المستخدمة كعلاج طبي، وإن كانت تسبب التعود، والإدمان والأضرار الجسمية والصحية لمتعاطيها، مثل:
المنبهات، المهدئات، المسكنات، المنومات، القات، الكوكا، جوزة الطيب، النباتات المكسيكية، المذيبات الطيارة، البربشيورات.
ويمكن تصنيفها على أساس الأضرار الناجمة عنها صحيا ونفسيا. . إلخ، حيث تصنف المخدرات إلى:
(أ) المواد المهبطة وتشمل:
أ- الأفيون، المورفين، الهيروين حقنا واستنشاقا، الكوريين والمشتقات الأخرى من المورفين.
2 - المسكنات المخدرة كالأفيون والمورفين.
3 - المنومات والمهدئات.
4 - المذيبات الطيارة كالغراء والمواد اللاصقة الأخرى.
(ب) المنشطات:
كالكوكا، والكوكايين، الأمفيتامينات وغيرها. وتعرف أيضا بالمنبهات والمحفزات ومضادات الكآبة وأشيعها استخداما النيكوتين والكافين.
(جـ) المهلوسات:
وتشمل الميسكالين وفطر البيتول والقنب الهندي وبعض نباتات الفصيلة الباذنجانية كالبنج واللقاح والهارمين والهارملين وجميع قلوانيات بذور نبات الحرجل وغيرها. . إلخ.(32/227)
(د) الحشيش.
ويضم الأوراق المزهرة والقمم النامية وحشيش كاراس ومن حشيش الأوراق المزهرة ماريجوانا، بهانج، كيف، داجا. . . إلخ. ويعتبر الحشيش من أهم عقاقير الهلوسة في الاستخدام والإدمان.
(هـ) القات.
(و) التبغ.
هذا ومما تجدر الإشارة إليه أن أنواع المخدرات ذكرت في كتب الفقه وفق ظهورها التاريخي وتناولت مثلا: البنج، والشيكران، والأفيون، والحشيش، وجوزة الهند، والقات، والعنبر، والقنقيط، وعسل البلادر والداتورة [الطاطورة] والعقاقير الأخرى كالمورفين والهيرويين وغيرهما، مما شاع في هذا العصر وهي معدودة من المخدرات في الأبحاث الفقهية الحديثة. والتتن والتبغ والدخان والقات وقهوة البن. وقد ذكر علماء الشريعة الإسلامية هذه المخدرات وأنواعها وتسميتها حسب ظهورها في عصر كل منهم، وجاء المتأخرون فأضافوا إلى ذلك ما ظهر في عصورهم من الأنواع الأخرى وبينوا حكم الشرع فيها بالنظر إلى الآثار المترتبة على تناولها.(32/228)
رابعا: حكم تناول المخدرات في الشريعة الإسلامية:
اتفق العلماء في مختلف المذاهب الإسلامية على حرمة تناول القدر المؤثر على العقل من المواد والعقاقير المخدرة، فيحرم تعاطيها بأي وجه من الوجوه سواء كان بطريق الأكل أو الشراب أو التدخين أو السعوط أو الحقن بعد إذابتها، أو بأي طريق كان. واعتبر العلماء ذلك كبيرة من كبائر الذنوب(32/228)
يستحق مرتكبها المعاقبة في الدنيا وفي الآخرة. . وهاك بعضا من كلامهم في ذلك:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مجيبا لمن سأله عن حكم تناول الحشيش [هذه الحشيشة الصلبة حرام سواء سكر منها أو لم يسكر. والسكر منها حرام باتفاق المسلمين. ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتدا لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين] (1) . وقال في موضع آخر: [وهى بالتحريم أولى من الخمر، لأن ضرر آكل الحشيشة على نفسه أشد من ضرر الخمر] (2) .
وقال الذهبي رحمه الله: " والحشيشة المصنوعة من ورق القنب حرام كالخمر يحد شاربها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر " (3) . ونقل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله عن ابن حجر الهيثمي تحريمها عند الأئمة الأربعة فقال:
["فثبت بما تقرر أنها حرام عند الأئمة الأربعة: الشافعية، والمالكية، والحنابلة بالنص والحنفية بالاقتضاء "] (4) .
وقال البهوتي رحمه الله: [ولا يباح أكل الحشيشة المسكرة] (5) وقال ابن حجر في الزواجر: " وحكى القرافي وهو من أئمة المالكية وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيش وقال: (من استحلها كفر) (6) .
وقال ابن شهاب الدين الرملي في: [نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج] :
__________
(1) فتاوى ابن تيمية جـ 34 \ 210
(2) فتاوى ابن تيمية جـ 36 \ 224
(3) الكبائر \ 86 للحافظ الذهبي
(4) فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله جـ 12 \ 102
(5) كشاف القناع للبهوتي جـ 6 \ 188
(6) الزواجر عن اقتراف الكبائر جـ 1 \ 213(32/229)
الحشيش حالة إسكار وتحريم.
وقال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (1) : "واستدل بمطلق قوله صلى الله عليه وسلم «كل ما يسكر حرام (2) » على تحريم المسكر ولو لم يكن شرابا فيدخل في ذلك الحشيشة. . إلخ " ما قال ابن حجر رحمه الله.
وقال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" ما خلاصته: إن الخمر يدخل فيها كل مسكر مائعا كان أو جامدا عصيرا أو مطبوخا، فيدخل فيها لقمة الفسق والفجور- ويعني بها الحشيش- لأن هذا كله خمر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصريح الصحيح الذي لا مطعن في سنده إذ صح عنه قوله: «كل مسكر خمر (3) » وصح عن أصحابه الذين هم أعلم الأمة بخطابه ومراده أن الخمر ما خامر العقل، على أنه لو لم يتناول لفظه صلى الله عليه وسلم "كل مسكر" لكان القياس الصريح الذي استوى فيه الأصل والفرع من كل وجه حاكما بالتسوية بين أنواع المسكر، فالتفريق بين نوع ونوع تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه". اهـ (4) .
وقال الصنعاني في سبل السلام: " إنه يحرم ما أسكر من أي شيء وإن لم يكن مشروبا كالحشيشة ".
والفقهاء يرون أنه لا فرق في الحكم بين المواد السائلة والمواد الجامدة وأنه يحرم تعاطيها جميعها إذا أسكرت أو خدرت.
والواقع أن البيئة الإسلامية ظلت نظيفة من المسكرات والمخدرات قرونا عديدة ولم يعرف المسلمون النباتات المخدرة إلا بعد أن وفدت بها شعوب أخرى إليهم. فلما عرفها الفقهاء أفتوا فيها بتحريم تعاطيها حيث قال صاحب تهذيب الفروق والقواعد السنية (5) .
__________
(1) جـ 10 \ 38
(2) صحيح البخاري الأشربة (5586) ، صحيح مسلم الأشربة (2001) ، سنن الترمذي الأشربة (1866) ، سنن النسائي الأشربة (5591) ، سنن أبو داود الأشربة (3687) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3386) ، مسند أحمد بن حنبل (6/226) ، موطأ مالك الأشربة (1595) ، سنن الدارمي الأشربة (2097) .
(3) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(4) زاد المعاد في هدي خير العباد جـ 5 \ 747، ط مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1407هـ
(5) جـ 1 \ 214 (انظر: المخدرات والعقاقير المخدرة ص 230)(32/230)
: " اعلم أن النبات المعروف بالحشيشة لم يتكلم عليه الأئمة المجتهدون ولا غيرهم من علماء السلف، لأنه لم يكن في زمانهم، وإنما ظهر في أواخر المائة السادسة، وانتشر في دولة التتار. هذا ولم يستخدم الفقهاء لفظ المخدرات إلا في القرن العاشر الهجري. أما قبل ذلك فقد تحدثوا عن الحشيش والأفيون وغيرهما من المواد وذكروهما ضمن المواد المفترة أو المواد المسكرة، وقد حفلت كتب الفقه الإسلامي بآرائهم واجتهاداتهم في تحريم الحشيش والأفيون تحريما قاطعا وقد نقلنا نماذج منها.
أما المخدرات سواء كانت طبيعية أو مصنعة أو تخليقية وما يندرج تحت تعدد أنواعها فلم يرد نص في القرآن الكريم أو السنة على حكمها، ولكن هل عدم ورود النص بتحريمها يعني أنها مباحة كما حاول بعض المفترين ادعاء ذلك؟ كلا كلا.
إن الحكم يمكن أن يكون مصدره النص كما يمكن أن يكون مصدره الإجماع أو القياس إذ هما مصدران من مصادر الأحكام في الإسلام.
وبناء على هذا فإن الحكم الشرعي للمخدرات أنها "حرام " ودليل هذا الحكم النص، لأنها داخلة في عموم المسكرات أو بالقياس على الخمر لاتحادهما في علة الحكم وهي الإسكار أو لما في المخدرات من الأضرار الفردية والاجتماعية. ودخولها في عموم المسكرات قائم على أساس أن كثيرا من العلماء والأطباء يؤكد أن تأثير المخدرات كتأثير الخمر على العقل من ناحية الإسكار. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (1) » .
__________
(1) صحيح مسلم حديث رقم 03 / 20 كتاب الأشربة، ومسند الإمام أحمد 2جـ \ 16، 29.(32/231)
لهذا تكون المخدرات بذلك داخلة في عموم تحريم الخمر، وحتى لو قيل: إنها مفترة وليست مسكرة. فقد روي عن أم سلمة رضي الله عنها «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر (1) » .
وعلينا أن ندرك أن المخدرات كالخمر، حيث إن كليهما يخامر العقل ويحجبه، وأركان القياس على المخدرات تتماثل مع ما ينطرح على الخمر. فالمخدرات كالخمر في الإسكار وحجب العقل والذهاب به، تلك هي علة تحريم الخمر. لذلك ينسحب حكم الخمر - وهو التحريم - على المخدرات، لاشتراكهما في علة الحكم.
كذلك فإن في المخدرات من المفاسد والأضرار مثل ما في الخمر، من حيث إضاعة المال وإثارة العداوة والبغضاء بين الناس، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة. . فمتعاطي الخمر أو المخدرات كلاهما يفقد وعيه ويتصرف تصرفات طائشة تثير الشقاق والخلاف والعداوة والبغضاء، وكلاهما يكون في غفلة عن الصلاة وسائر التكاليف أثناء فقده الوعي، وفي ضوء ذلك فإن علة الحكم في الخمر وهي الإسكار تكون قد توفرت في المخدرات، لأنها تفعل فعل الخمر في حجب العقل وإذهابه، ويكون حكم الخمر وهو التحريم هو حكم المخدرات أيضا، فتكون المخدرات بجميع أنواعها حراما، لذلك فالنصوص التي تحرم كل مسكر ومفتر تنطرح على المخدرات مثلما تنطرح على أحكام المسكرات. وبهذا يتبين غلط من زعم عدم وجود نص في الكتاب والسنة يقتضي تحريم الحشيش وسائر المخدرات والعقاقير المخدرة الأخرى. . قال ابن تيمية رحمه الله: (وأما قول القائل أن هذه ما فيها آية ولا حديث فهذا من جهله، فإن القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة هي قواعد عامة وقضايا كلية تتناول كل ما دخل فيها، فهو مذكور في القرآن والحديث باسمه العام وإلا فلا يمكن ذكر
__________
(1) سنن أبي داود جـ 4 \ 90 كتاب الأشربة حديث رقم 3686.(32/232)
كل شيء باسمه الخاص) (1) .
وقال الإمام القرطبي رحمه الله: (. . لو التزمنا ألا نحكم بحكم حتى نجد فيه نصا لتعطلت الشريعة، فإن النصوص قليلة. وإنما هي الظواهر والعموميات والأقيسة) (2) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية رحمه الله جـ 34 صفحة 206، 207.
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.(32/233)
خامسا: أدلة تحريم المخدرات والمفترات والعقاقير النفسية وغيرها:
بعد أن بينا حكم تناول المخدرات في الشريعة الإسلامية، يمكن أن نلخص ما اعتمد عليه الفقهاء من أدلة عند الحكم بتحريمها:
الدليل الأول: قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (1) الآية، فكل طيب مباح وكل خبيث محرم، والمخدرات بمختلف أنواعها خبيثة من أشد الخبائث وأعظمها ضررا، فيكون تحريمها منصوصا عليه في هذه الآية.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (3) .
وقد تقدم أن متعاطي الخمر أو المخدرات كلاهما يفقد وعيه ويتصرف تصرفات طائشة تثير الشقاق والخلاف والعداوة والبغضاء وكلاهما يكون في
__________
(1) سورة الأعراف الآية 157
(2) سورة المائدة الآية 90
(3) سورة المائدة الآية 91(32/233)
غفلة عن الصلاة وسائر التكاليف أثناء فقده الوعي؛ فيكون هذا دليلا على تحريم المخدرات. قال الذهبي في معرض حديثه عن الحشيشة: " وبكل حال فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله من الخمر المسكر لفظا ومعنى " (1) .
الدليل الثالث: ما رواه أبو داود في سننه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام (2) » . فقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث كل مسكر قليلا كان أو كثيرا وهو بعمومه يتناول المخدرات، لأنها مسكرة على ما ذكره أكثر المحققين من علماء الدين والطب.
هذا، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم كل مادة مسكرة خمرا سواء سميت بذلك في لغة العرب أو لم تسم به، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام ومن مات وهو يشرب الخمر يدمنها لم يشربها في الآخرة (3) » .
قال ابن تيمية رحمه الله: " ومذهب جمهور المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر العلماء أن كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام، وهذا مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل وأصحابه، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة وهو اختيار محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة واختيار طائفة من المشايخ " (4) .
وقال رحمه الله في كتابه " السياسة الشرعية ": [. . والأحاديث في هذا الباب كثيرة مستفيضة جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أوتي من جوامع الكلم كل ما غطى العقل وما أسكر ولم يفرق بين نوع ونوع، ولا تأثير لكونه مأكولا أو مشروبا. . وقد حدثت أشربة كثيرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الكبائر ص 97 ط بيروت 1985م.
(2) سنن أبي داود جـ 4 \ 87 كتاب الأشربة حديث رقم 3681.
(3) سنن أبي داود جـ 4 \ 85، 86 كتاب الأشربة حديث رقم 3679.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 34 \ 186.(32/234)
وكلها داخلة في الكلم الجوامع من الكتاب والسنة " (1) . اهـ.
الدليل الرابع: ما رواه ابن عمر عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر (2) » .
فهذا الحديث أصرح في الدلالة على تحريم المخدرات مما سواه، ذلك أن المخدرات إما أن تكون مسكرة أو مفترة أو جامعة بين الأمرين، وعلى جميع هذه الاحتمالات فإن الحديث نص في النهي عنها، والنهي يقتضي التحريم.
قال في عون المعبود عند كلامه عن هذا الحديث:
قال الطيبي: لا يبعد أن يستدل به على تحريم البنج والشعثاء ونحوهما مما يفتر ويزيل العقل، لأن العلة وهي إزالة العقل مطردة فيها، وقال في مرقاة الصعود: "إن رجلا من العجم قدم القاهرة وطلب الدليل على تحريم الحشيشة، وعقد لذلك مجلسا حضره علماء العصر فاستدل الحافظ زين الدين العراقي بهذا الحديث فأعجب الحاضرين " (3) .
الدليل الخامس: (أنه لا يشك شاك ولا يرتاب مرتاب في أن تعاطي هذه المواد حرام، لأنها تؤدي إلى مضار ومفاسد كثيرة فهي تفسد العقل وتفتك بالبدن، وتصيب متعاطيها بالتبلد وعدم الغيرة، وتصده عن ذكر الله وعن الصلاة وتمنعه من أداء الواجبات الشرعية من صيام وحج وزكاة. . إلخ. وفي ذلك اعتداء على الضرورات الخمس: الدين، والنفس، والعرض، والمال، والعقل إلى غير ذلك من المفاسد والمضار) (4) .
الدليل السادس: أنه لا يحل لمسلم أن يتناول من الأطعمة أو الأشربة شيئا يقتله بسرعة أو ببطء - كالسم بأنواعه - أو يضره ويؤذيه؛ قال تعالى:
__________
(1) السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص 91، 92، 93.
(2) سنن أو داود جـ 4 \ 90 كتاب الأشربة حديث رقم 3686.
(3) عون المعبود شرح سنن أبي داود جـ 10 \ 127.
(4) بتصرف من المخدرات والعقاقير المخدرة ص 246.(32/235)
{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (1) وقال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) الآية. والقاعدة الشرعية المقررة في الشريعة الإسلامية: أنه لا ضرر ولا ضرار (3) . روى الحاكم في مستدركه (4) . عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار من ضار ضاره الله ومن شاق شاق الله عليه (5) » .
قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات (6) .
"هذا الحديث " دليل ظني داخل تحت أصل قطعي، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات وقواعد كليات. . ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض وعن الغصب والظلم وكل ما هو في المعنى إضرار أو ضرار، ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل أو النسل أو المال فهو معنى في غاية العموم في الشريعة لا مراء فيه ولا شك. وقد أثبتت التحاليل الطبية والتجارب العلمية أن المخدرات بأنواعها هي مصدر العلل والأمراض العقلية والنفسية والاجتماعية المنتشرة في أنحاء العالم.
الدليل السابع: أنه فضلا عما تحدثه المخدرات والعقاقير النفسية من آثار مدمرة للصحة وفتور في الجسد؛ فإن ما ينفق من المال على شرائها يعتبر إضاعة له فيما لا ينفع في الدين أو الدنيا. وقد دلت الآيات القرآنية العديدة والأحاديث المستفيضة على استعمال المال في الأمور النافعة في الدين والدنيا وتجنب الأمور الضارة، وذلك أن الله تعالى جعل المال قواما للعباد به تقوم مصالحهم الخاصة والعامة الدينية والدنيوية فهو ضرورة طبيعية في حياة الإنسان وهو أمانة بيد من يحوزه، فمن تناوله من حله ووضعه في حقه واستعان به
__________
(1) سورة النساء الآية 29
(2) سورة البقرة الآية 195
(3) القواعد الفقهية للندوي ص 295 ط دار القلم \ دمشق.
(4) 2 \ 57 \ 58 وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني جـ 1 \ 100 حديث رقم 250 ط المكتب الإسلامي \ دمشق.
(5) سنن ابن ماجه الأحكام (2340) ، مسند أحمد بن حنبل (5/327) .
(6) جـ 3 \ 8، 9، 10.(32/236)
على ما خلق له من القيام بعبودية الله وإخراجه في الطرق التي تنفع العبد ويبقى له ثوابها وخيرها؛ فقد أفلح ونجح، ومن لم يبال من أين اكتسبه واستعان به على الفسوق والعصيان وتمادى بسببه في الظلم والبغي والعدوان، وأطاع نفسه وهواه والشيطان، فقد تعس وضل وباء بالخسران. قال الله تعالى:
{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (1) وقال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} (2) الآية، وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (3) {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (4) . والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وروى البخاري في صحيحه. عن المغيرة بن شعبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنع وهات وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال (5) » . وروى البخاري (6) معلقا من رواية المستملي والسرخسي (7) : قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة (8) » وقال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما خطئتك اثنتان سرف أو مخيلة. وهذا هو العدل في تدبير المال أن يكون قواما: أي وسطا بين رتبتي البخل والتبذير وما سوى هذا فإثم وضرر ونقص في العقل والحال (9) .
الدليل الثامن: أن المخدرات والعقاقير النفسية وغيرها من الموبقات تتوافر فيها كل أسباب التحريم الشرعي، فهي فوق أنها مفسدة للصحة مضيعة للمال
__________
(1) سورة الأعراف الآية 31
(2) سورة النساء الآية 5
(3) سورة الإسراء الآية 26
(4) سورة الإسراء الآية 27
(5) جـ 3 \ 86، 87 كتاب الاستقراض باب 19.
(6) جـ 7 \ 33 كتاب اللباس.
(7) انظر: عمدة القاري شرح صحيح البخاري للبدر العيني جـ 21 \ 294 ط دار الفكر \ لبنان.
(8) جـ 7 \ 33 كتاب اللباس.
(9) بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار للسعدي ص 245 ط الثانية 1389هـ \ 1969 م.(32/237)
تهدد العلاقات الاجتماعية وتخل بالنظم المرعية والأمن العام، لأن كل من يقبل على المخدرات وقد حظرتها الدولة وحرمتها يكون خارجا عن الطاعة الواجبة لولي الأمر بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (1) الآية.
نداء للمؤمنين بوصف الإيمان أن يطيعوا الله ابتداء، وأن يطيعوا الرسول بما له من صفة الرسالة، وطاعة أولي الأمر؛ لأن طاعتهم مستمدة من طاعة الله ورسوله، وأولو الأمر المقصودون بالخطاب هم: "الولاة على الناس من الأمراء والحكام والعلماء المفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم طاعة لله ورغبة فيما عنده " (2) . ولا يسع أحدا أن يربأ بنفسه وينسلخ من طاعتهم وامتثال أوامرهم إذا وجدها لا تتفق ونزواته وأهوائه الشخصية. روى مسلم في صحيحه (3) . عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة (4) » .
الدليل التاسع: وهو خاص ببعض أنواع المخدرات والمفترات والتي منها: الدخان بجميع أنواعه واستعمالاته سواء أكان مضغا بالفم أو تدخينا عن طريق السيجارة أو الشيشة والغليون أو استنشاقه مسحوقا أو غير ذلك وقد ذهب إلى تحريمه جمع من أكابر العلماء وجهابذة الفقهاء وجميع الأطباء المعتبرين. وقد أورد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله نقولا كثيرة عن أرباب المذاهب الأربعة وغيرهم تدل على خبثه ونتنه وإسكاره أحيانا وتفتيره، وذلك في فتوى سماحته رحمه الله في حكم شرب (5) . الدخان، قال وممن ذهب إلى تحريمه من علماء الحنفية: أبو الحسن المصري الحنفي قال ما نصه: (الآثار النقلية الصحيحة
__________
(1) سورة النساء الآية 59
(2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي جـ 2 \ 89.
(3) جـ 3 \ 1469 كتاب الإمارة حديث رقم 1839.
(4) صحيح البخاري الجهاد والسير (2955) ، صحيح مسلم الإمارة (1839) ، سنن الترمذي الجهاد (1707) ، سنن أبو داود الجهاد (2626) ، سنن ابن ماجه الجهاد (2864) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك الجامع (1841) .
(5) ص 3، 4 وهى مطبوعة صمن مجموعة رسائل بمطابع السفراء للأوفست بالرياض- السعودية.(32/238)
والدلائل العقلية الصريحة تعلن بتحريم الدخان. . وقد نهى الله عن كل مسكر، وإن قيل إنه لا يسكر فهو يخدر ويفتر أعضاء شاربه الباطنة والظاهرة. والمراد بالإسكار مطلق تغطية العقل وإن لم تكن معه الشدة المطربة ولا ريب أنها حاصلة لمن يتعاطاه أول مرة، وإن لم يسلم أنه يسكر فهو يخدر ويفتر. . وقد روى الإمام أحمد (1) . وأبو داود (2) . عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ينهى عن كل مسكر ومفتر (3) » . قال العلماء: المفتر ما يورث الفتور والمخدر في الأطراف وحسبك بهذا الحديث دليلا على تحريمه، وأنه يضر بالبدن والروح ويفسد القلب ويضعف القوى ويغير اللون بالصفرة، والأطباء مجمعون على أنه مضر ويضر بالبدن والمروءة والعرض والمال وفيه التشبه بالفسقة لأنه لا يشربه غالبا إلا الفساق والأنذال ورائحة فم شاربه خبيثة) اهـ.
وفي موضع آخر (4) . من فتوى سماحته رحمه الله قال: وممن ذكر تحريمه من فقهاء الحنفية أيضا الشيخ محمد العيني ذكر في رسالته: تحريم الدخان والتدخين من أربعة أوجه:
أحدها كونه مضرا للصحة بإخبار الأطباء المعتبرين وكل ما كان كذلك يحرم استعماله اتفاقا.
ثانيها: كونه من المخدرات المتفق عليها عندهم المنهي عن استعمالها شرعا لحديث أم سلمة السابق (5) .
ثالثها: كون رائحته الكريهة تؤذي الناس الذين لا يستعملونه وعلى وجه الخصوص في مجامع الصلاة ونحوها، بل وتؤذي الملائكة المكرمين؛ روى مسلم في صحيحه (6) عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أكل من هذه البقلة الثوم، وقال مرة من أكل البصل والثوم والكرات فلا يقربن مسجدنا، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم (7) » .
__________
(1) في المسند جـ 5 \ 96.
(2) سبق تخريجه من أبي داود ص 11 هامش 4.
(3) سنن أبو داود الأشربة (3686) ، مسند أحمد بن حنبل (6/309) .
(4) انظر ص 2 من الرسالة.
(5) انظر هامش 2، 3 نفس الصفحة.
(6) جـ 1 \ 395 كتاب المساجد ومواضع الصلاة حديث رقم 564 مسلسل 74.
(7) صحيح البخاري الأذان (854) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (564) ، سنن الترمذي الأطعمة (1806) ، سنن النسائي المساجد (707) ، سنن أبو داود الأطعمة (3822) ، مسند أحمد بن حنبل (3/387) .(32/239)
ومعلوم أن رائحة المدخن ليست بأقل كراهية من رائحة من أكل ثوما أو بصلا. وبهذا يتقرر أن المخدرات والمفترات والعقاقير النفسية والدخان والقات وما يلحق بها خبائث محرمة بالأدلة النقلية والعقلية الصريحة الواضحة. تتوافر فيها كل أسباب التحريم الشرعي وفيها من المفاسد والمضار الدينية والدنيوية ما يجعل بعضا منها كافيا في تحريمها والزجر عنها وعقاب متعاطيها والله أعلم.(32/240)
سادسا: حكم تعاطي المخدرات للعلاج ومدى مشروعية التداوي بها:
نقلت اتفاق العلماء على حرمة تناول المخدرات وأقمت الأدلة على ذلك، كما اتفقوا أيضا على حرمة تناول اليسير منها إذا كان بقصد اللهو أو اللذة أو المتعة أو غير ذلك من المقاصد التي لا يعتبرها الشارع. ولكنهم اختلفوا في حكم التداوي بها خاصة وأنه قد ثبت أن لبعض العقاقير المخدرة آثارا دوائية ممتازة. وقد تكون هناك بعض الأمراض التي لا يفيد فيها إلا هذا المخدر أو تكون هناك بعض الآلام الشديدة التي لا تسكن إلا بالمورفين ونحوه. فهذه الفائدة المحدودة في حالات معينة لا ينبغي أن تدفعنا لأن نترك الحبل على الغارب، وأن نلجأ إلى هذه المركبات بلا مراقبة ولا مسئولية مما يستوجب بيان آراء الفقهاء في حكم تناول هذه المواد من حيث الحل والحرمة.
فإذا أشار بعض الأطباء من ذوي المهارة في الطب والثقة في الدين على بعض المرضى بتناول قدر يسير من المواد المخدرة بقصد علاج بعض الحالات كتسكين بعض الآلام. . إلخ، فهل يباح ذلك أم لا؟
والجواب: أن الفقهاء اختلفوا في حكم التداوي بهذه المواد المخدرة بناء على اختلافهم في حكم التداوي بالخمر.
فمن يرى أنها مسكرة ويعطيها حكم الخمر في الحرمة، فإنه لا يبيح التداوي(32/240)
بها مهما كانت ضآلة القدر المستعمل في ذلك للأحاديث الكثيرة الواردة في عدم جواز التداوي بالخمر وأنها داء لا دواء.
وهذا ما يقتضيه كلام ابن تيمية وابن حجر العسقلاني وابن حجر الهيثمي المكي ومن يرى رأيهم.
ومن يرى أن الحرمة إنما هي لضررها أو لإفسادها العقل، فإنه يبيح القدر اليسير منها إذا كان بقصد التداوي وذلك لانتفاء علة الحرمة وهي الضرر والإفساد وذلك قياسا على حرمة الميتة، فإنها تنتفي عن المضطر. . قال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) ولا شك أن المريض مضطر وهذا رأي أكثر الفقهاء.
وترتيبا على هذا فإذا ثبت أن ضررا ما، حق وقوعه بمريض ولم يكن بد من تناول قدر يسير منها بقدر العلاج أجاز مداواته؛ لأن ذلك ضرورة ولا إثم في الضرورات متى روعيت شروطها بأن:
1 - يقتصر على القدر الذي يزول به المرض وتعود به الصحة ويتم به العلاج.
2 - أن يكون ذلك بمعرفة طبيب مسلم خبير بمهنة الطب معروف بالصدق والأمانة والتدين. وعلى الدولة أن تضع ضوابط خاصة تكفل بيعها في أماكن محدودة كالصيدليات.
3 - ألا يوجد دواء غير المحرم ليكون التداوي بالمحرم متعينا ولا يكون القصد من تناوله التحايل لتعاطي المحرم.
هذا. . ومع التقدم العلمي في كيمياء الدواء لم تعد حاجة ملحة للتداوي بالمخدرات، لوجود البديل الكيميائي المباح.
إذن فلا حاجة إلى استعمال هذه المواد نظرا لما ستؤدي إليه من تعريض
__________
(1) سورة الأنعام الآية 145(32/241)
المريض لمخاطر الإدمان والأمراض العقلية والجسمية والنفسية المترتبة على استعمالها.(32/242)
سابعا: حكم الإعانة على تناول المخدرات:
اتضح لنا مما سبق أن حرمة تناول المخدرات صارت واضحة لكل ذي لب وأن تعاطيها للتداوي مشروط بالضوابط التي تقدمت قريبا. وبناء على ذلك: فإن الإعانة على التعاطي تكون أيضا محرمة، لأن الوسيلة إلى فعل المعصية تكون معصية كذلك. كما أن الوسائل إلى الطاعات تكون طاعات كذلك. وهذه قاعدة إسلامية عظيمة حيث تأخذ الوسائل حكم الغايات فبيع السلاح وقت الفتنة حرام كحرمة بيع أرض للنصارى بقصد بنائها كنيسة وبيع العنب لمن يعصره خمرا ونحو ذلك (1) .
والإعانة المحرمة تشمل: زارعي هذه المواد المخدرة والمتجرين فيها والمشترين لها والوسطاء فيها والحاملين لها لتوصيلها إلى الشاربين وصانعي مشتقاتها التي يقصد بها الاستعمال في التخدير بقصد تغييب العقل أو الحصول على شيء من النشوة والمرح، كما أن الثمن الناتج عن بيعها حرام والصدقة به (2) . لا تجوز.
وقد تضافرت النصوص الشرعية على ذلك منها:
قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (3)
__________
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد جـ 5 \ 747.
(2) المخدرات بين الطب والفقه د \ أحمد طه ريان ص 98.
(3) سورة المائدة الآية 2(32/242)
[ب] حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1) » . . الحديث (2) . وبيع هذه المواد يدخل في تحريم بيع الخمر بطريق القياس بجامع تغييب العقل في كل.
[جـ] حديث أنس رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة له (3) » . فاللعن هنا واقع على جميع الأطراف المتعاونة على فعل المحرم.
[د] وروى مالك في موطئه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رجالا من أهل العراق قالوا له يا أبا عبد الرحمن إنا نبتاع من ثمر النخل والعنب فنعصره خمرا فنبيعها فقال عبد الله بن عمر "إني أشهد الله عليكم وملائكته ومن سمع من الجن والإنس أني لا آمركم أن تبيعوها ولا تبتاعوها ولا تعصروها ولا تشربوها ولا تسقوها فإنها رجس من عمل الشيطان" (4) .
[هـ] حديث أبي هريرة رضي الله عنه «أن رجلا أراد أن يهدي النبي صلى الله عليه وسلم خمرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها قد حرمت. فقال الرجل: أفلا أبيعها؟ فقال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها، فقال الرجل: أفلا أكارم بها اليهود؟ فقال: إن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود. قال: فكيف أصنع بها؟ قال شنها في البطحاء (5) » .
إن الخمر وسائر المخدرات والمسكرات بكافة أنواعها وأسمائها يحرم تعاطيها بأي وجه من وجوه التعاطي. كما يحرم تصنيعها وزراعتها وإنتاجها وتهربيها والاتجار فيها وبيعها وإهداؤها والتعامل بها على أي وجه كان وعلى أي صفة، والإعانة على ذلك إعانة على معصية محرمة لا شبهة في حرمتها. . يقول الله
__________
(1) صحيح البخاري البيوع (2236) ، صحيح مسلم المساقاة (1581) ، سنن الترمذي البيوع (1297) ، سنن النسائي البيوع (4669) ، سنن أبو داود البيوع (3486) ، سنن ابن ماجه التجارات (2167) ، مسند أحمد بن حنبل (3/324) .
(2) رواه مسلم حديث رقم 1581.
(3) سنن أبي داود جـ 2 ص 292.
(4) تنوير الحوالك شرح موطأ مالك بن أنس رحمه الله جـ 2 \ 58 كتاب الأشربة.
(5) المسند للحميدي جـ 2 \ 448 حديث رقم 1034.(32/243)
تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) الآية.
فكل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها أو خصلة من خصال الشر المأمور بتركها، فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه وبمعاونة غيره عليها من إخوانه المؤمنين بكل قول يبعث عليها وينشط لها وبكل فعل كذلك، وكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه، ثم إعانة غيره على تركه (2) .
وروى مسلم في صحيحه عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء (3) » . ولمسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (4) » . قال النووي في شرح مسلم (5) : (هذان الحديثان صريحان في الحث على استحباب سن الأمور الحسنة وتحريم سن الأمور السيئة، وأن من سن سنة حسنة كان له مثل أجر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها إلى يوم القيامة، وأن من دعا إلى هدى كان له مثل أجور متابعيه، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقا إليه وسواء كان ذلك تعليم علم أو عبادة أو أدب أو غير ذلك وسواء كان العمل في حياته أو بعد موته) .
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن السعدي جـ 2 ص 238، 239.
(3) صحيح مسلم جـ 4 \ 2059، 2060 كتاب العلم برقم 1017.
(4) صحيح مسلم جـ 4 \ 2058 كتاب العلم برقم 2674.
(5) جـ 16 \ 226، 227.(32/244)
فيحرم على المسلم أن يتملك شيئا من هذه السموم المهلكة من المخدرات والمسكرات وأن يملكها غيره بأي سبب من أسباب الملك من البيع والشراء والهبة والهدية وغيرها (1) .، كما لا يحل له أن يعاونه على شربها أو حيازتها وإحرازها، فإن فعل فقد ضره والضرر منفي شرعا "فلا ضرر ولا ضرار" (2) . في الإسلام، فلا يحل لمسلم أن يضر أخاه المسلم بقول أو فعل أو سبب بغير حق، وسواء كان له في ذلك نوع منفعة أو لا وهذا عام في كل حال على كل أحد" (3) .
كما يعتبر الزارع والمروج والمهرب والتاجر لهذه السموم عاصيا، لأنه يرضى لغيره أن يتعاطاها والإعانة على الطاعة طاعة والإعانة على المعصية معصية. روى مسلم في صحيحه عن أبي مسعود الأنصاري قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني "أبدع بي ". فاحملني فقال ما عندي. فقال رجل يا رسول الله أنا أدله على من يحمله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من دل على خير فله مثل أجر فاعله (5) » . وهذا يقتضي من دل على شر، فعليه مثل وزر فاعله، فكل من عاون غيره على البر والتقوى فهو من الدالين على الخير الداعين إلى الهدى، وكل من أعان غيره على الإثم والعدوان فهو من الدالين على الشر الداعين إلى الضلالة.
فلنكن دعاة خير وهدى ولنجتهد في مطاردة متعاطي هذه الآفات المدمرة وجميع من يعاونونهم على شربها أو ترويجها والاتجار فيها. والله المستعان.
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته د \ وهبة الزحيلي جـ 6 \ 156، 157.
(2) رواه أحمد وغيره من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(3) القواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة للسعدي ص 52 ط المدني بالقاهرة 1375هـ.
(4) صحيح مسلم جـ 3 \ 1506 حديث رقم 1893.
(5) أي هلكت دابتي وهي مركوبي [صحيح مسلم هامش 1 جـ 3 \ 1506] . (4)(32/245)
حكم من استحل تناول المخدرات
والعقاقير المخدرة
ذكرت فيما سبق الحكم الشرعي لتناول المخدرات وأنها داخلة في عموم تحريم الخمر، إما بالنص أو بالقياس على الخمر أو لما فيها من الأضرار الفردية، والاجتماعية وغيرها. وأقمت الأدلة على حرمتها ثم (1) .؛ وبناء عليه فما يثبت من أحكام على متناول الخمر يثبت تبعا على متناول هذه المواد المخدرة. قال ابن حجر الهيثمي في الزواجر (2) .
الكبيرة السبعون بعد المائة: أكل المسكر الطاهر كالحشيشة والأفيون والشيكران بفتح الشين المعجمة وهو البنج وكالعنبر والزعفران وجوزة الطيب فهذه كلها مسكرة كما صرح به النووي في بعضها وغيره في باقيها ولا ينافي أنها تسمى مخدرة. وإذا ثبت أن هذه كلها مسكرة أو مخدرة فاستعمالها كبيرة وفسق كالخمر، فكل ما جاء في وعيد شاربها يأتي في مستعمل شيء من هذه المذكورات، لاشتراكهما في إزالة العقل المقصود للشارع بقاؤه لأنه الآلة للفهم عن الله تعالى وعن رسوله والمتميز به الإنسان عن الحيوان والوسيلة إلى إيثار الكمالات عن النقائص فكان في تعاطي ما يزيله وعيد الخمر.
فمن تعمد شرب القليل من الخمر وكذا المخدرات بأنواعها مع علمه بالتحريم فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، بل ذهب بعضهم إلى أن ذلك من أكبر الكبائر (3) . ولا ريب أن كل ما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة من أخبث الخبائث وفاعله مستحق للعن والطرد من رحمة الله تعالى إلا أن يتوب، روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى
__________
(1) انظر ما سبق في هذا الحديث حول أدلة تحريم المخدرات من هذا البحث.
(2) جـ 1 \ 212 ط دار المعرفة \ لبنان.
(3) الكبائر للحافظ الذهبي ص 90.(32/246)
الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا ومات ولم يتب منها وهو مدمنها لم يشربها في الآخرة (1) » ، وروى الحاكم في مستدركه (2) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر (3) » وروى الحاكم في مستدركه (4) أيضا بسنده: أن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم فيها علم ينتهون إليه فأرسلوا إلى عبد الله بن عمرو يسألونه عن ذلك فأخبرهم أن أعظم الكبائر شرب الخمر وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن ملكا من ملوك بني إسرائيل أخذ رجلا فخيره بين أن يشرب الخمر أو يقتل نفسا أو يزني أو يأكل لحم خنزير أو يقتلوه إن أبى فاختار أن يشرب الخمر وأنه لما شربها لم يمتنع من شيء أرادوه منه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا مجيبا ما من أحد يشربها فيقبل الله له صلاة أربعين ليلة ولا يموت وفي مثانته منها شيء إلا حرمت عليه بها الجنة، فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية» .
وقد وردت الأحاديث الكثيرة في تحريم هذه الخبائث والتحذير منها والوعيد لشاربها وتوعده بالعقوبة في الدنيا والآخرة إلا أن يتوب فمن تاب. . تاب الله عليه. روى الحاكم في مستدركه وصححه (5) . عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من شرب الخمر شربة لم تقبل توبته أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل توبته أربعين صباحا فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: فإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من ردغة. الخبال يوم القيامة (6) » وردغة الخبال:
__________
(1) صحيح مسلم الأشربة (2003) ، سنن الترمذي الأشربة (1861) ، سنن أبو داود الأشربة (3679) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3390) ، مسند أحمد بن حنبل (2/98) .
(2) جـ 4 \ 145 ط دار الكتاب العربي، بيروت \ لبنان.
(3) سنن ابن ماجه الأشربة (3371) .
(4) جـ 4 \ 147.
(5) جـ 1 \ 30.
(6) الردغة: طين ووحل كثير: المستدرك المرجع السابق.(32/247)
أي طينة الخبال أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى «حين سئل وما طينة الخبال؟ فقال: عصارة أهل النار (1) » . أعاذنا الله من شرها وحرها وعصارة أهلها.
وهذا الذي تقدم فيمن شربها معتقدا حرمتها، أما من شرب الخمر وسائر المسكرات والمخدرات مستحلا لها معتقدا أنها له حلال، فقد ذهب بعض الفقهاء إلى تكفيره وإباحة قتله إن لم يتب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد سئل عمن يأكل الحشيشة فأجاب: (الحمد لله هذه الحشيشة الصلبة حرام سواء سكر منها أو لم يسكر والسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك وزعم أنها حلال فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتدا لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين) (2) . وبهذا أفتى بعض فقهاء الحنفية كنجم الدين الزاهدي وغيره، وعللوا ذلك بأن مفاسدها [أي الحشيشة] أعظم من مفاسد الخمر (3) .
وذهب أكثر الفقهاء إلى أن مستحل ذلك فاسق زنديق تلزمه أحكام الفسقة في رد شهادته وعدم صلاحيته لتولي الوظائف العامة في الدولة ونحو ذلك والذي يظهر- والله أعلم- أن القول بكفر مستحل المخدرات والمسكرات أيا كان نوعها وجنسها هو الأقرب للصواب وهو الذي يتفق مع القواعد العامة في الشريعة الإسلامية التي تقضي بكفر من أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة. قال شارح الطحاوية: " لا خلاف بين المسلمين أن الرجل إذا أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا ".
__________
(1) سنن أبي داود.
(2) مجموع فتاوى شيح الإسلام ابن تيمية جـ 34، ص 186 وما بعدها.
(3) رسائل ابن عابدين.(32/248)
"وروي عن علي رضي الله عنه أن قوما شربوا بالشام وقالوا: هي لنا حلال وتأولوا قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} (1) الآية، فأجمع علي وعمر أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا" (2) . "ولقد ثبتت حرمة الخمر بدليل قطعي وهو القرآن الكريم والسنة والإجماع فمن استحلها فهو كافر مرتد حلال الدم والمال" (3) .
"وفي المخدرات من المفاسد ما ليس في الخمر فهي أولى منها بالتحريم، وقد أجمع العلماء على حرمة تعاطي هذه السموم، وزراعتها والتجارة فيها وإجماع العلماء حجة شرعية يجب العمل بها ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب، فإن تاب فبها ونعمت، وإلا قتل مرتدا لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين؛ ذلك لأنه قد استحل حراما مجمعا على تحريمه " (4) .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
(والحشيشة المسكرة حرام، ومن استحل السكر منها فقد كفر وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام (5) » يتناول ما يسكر، ولا فرق بين أن يكون المسكر مأكولا أو مشروبا أو جامدا أو مائعا. فلو اصطبغ كالخمر كان حراما، ولو أماع الحشيشة وشربها كان حراما، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعث بجوامع الكلم، فإذا قال كلمة جامعة كانت عامة في كل ما يدخل في لفظها ومعناها سواء كانت الأعيان موجودة في زمانه أو مكانه أو لم تكن) (6) .
إن العجب كل العجب أن بعض المدمنين والمهربين وتجار المخدرات يجادلون
__________
(1) سورة المائدة الآية 93
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي المالكي جـ 6 \ 299.
(3) المغني لابن قدامة 8 \ 303، 304.
(4) أضرار المخدرات وحوار مع حشاش \ عمران عبد الكريم ص 46، 47 مطابع السلام العالمية بالقاهرة.
(5) صحيح مسلم حديث رقم 03 / 20 كتاب الأشربة، ومسند الإمام أحمد 2جـ \ 16، 29.
(6) فتاوى ابن. تيمية جـ 34 \ 204، 205.(32/249)
من غير خجل ولا حياء ويقولون وقولهم النكر والضلال بأنه لم يرد نص صريح من الكتاب والسنة بتحريم هذه السموم الضارة الخطيرة التي هي سم قاتل وداء عضال وجرثومة تستشري في جسم الأغبياء والجهلاء والمخدوعين {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (1) .
إن من يقول بحل شيء من هذه السموم، فلا يخلو إما أنه مخدوع جاهل أو مكابر معاند، وعلى كل حال، فإنه يستتاب فإن تاب ورجع إلى الله وأناب وإلا فسيحفر قبره بيده ويلقى حتفه بنفسه جزاء وفاقا.
__________
(1) سورة الكهف الآية 5(32/250)
تاسعا: حكم تصرفات من يتناول المخدرات:
"إذا تناول المسلم شيئا من هذه المواد المخدرة باختياره وكان عالما بها وبحرمتها وسكر منها، فقد يحدث منه طلاق لزوجته أثناء غياب عقله من أثر تناوله لهذه المواد. وقد يتصرف تصرفا خاطئا يؤدي إلى إزهاق الأرواح وإتلاف الأموال وقد يتفوه وهو في نشوة السكر وغيبوبة العقل بكلمة الكفر. وقد يقذف غيره وقد يعتق ويقر وينفي ويثبت فهل يؤاخذ بهذا كله؟ أم أن هذا من قبيل الأقوال وما كان كذلك فليس مؤاخذا به إلا ما كان من قبيل الأفعال" (1) . وقبل أن نحرر الكلام في هذا المقام يجب أن نميز بين السكران الفاقد للتكليف الذي لا نية له ولا إرادة، وبين من لم يصل في سكره إلى هذه الحالة، بل له تمييز وقصد وإرادة وبناء على هذا فإن السكران له حالتان:
الحالة الأولى: ألا يتكلم إلا بما يعقل ويتحفظ عن كثير من الكلام ويسمع الخطاب ويرد الجواب.
الحالة الثانية: أن يخلط في كلامه ويتصرف تصرفات تضر بنفسه وبالآخرين ولا يفرق بين العدو والصديق ويغمى عليه ولا يعلم بما يقول.
__________
(1) النية وأثرها في الأحكام الشرعية د \ صالح الغانم السدلان جـ 2 \ 890.(32/250)
وأحسن ما قيل في حد السكران الذي لا يميز أنه الذي لا يعلم ما يقول لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (1) الآية 43 سورة النساء.
والذي يتناول من هذه المواد والعقاقير المخدرة لا يخلو حاله من واحدة من هاتين الحالتين، بل إن الحالة الأولى بهم أغلب وبحالهم أنسب فإننا نرى أن أكثر المتعاطين لهذه المواد والمدمنين عليها يشربون ويباشرون الأعمال ويتصرفون مع وجود نشوة السكر التي تظهر على أحدهم عدم الانضباط في بعض الكلام والحركات وملامح الوجه. وبما أن الأمر كذلك فإنهم مؤاخذون بما يتكلمون به من طلاق وعتاق وإقرار ونفي وإثبات وإن تعدوا في خلال سكرهم هذا فقتلوا أو جرحوا لزم القود منهم والقصاص (2) والدليل على ذلك:
(1) أن أكثر أهل العلم جعلوا جميع تصرفات السكران الفاقد للعقل القولية والفعلية لازمة له، مؤاخذا بما يترتب عليها (3) فأولى أن يؤاخذ من لم يصل في سكره إلى حد سقوط التكليف.
(2) أن البعض ممن يشرب المخدرات بل أكثرهم يشربها بقصد أن تكسبه قدرة على ارتكاب المحرمات وفعل المنكرات، فالأولى أن يؤدب هؤلاء بمؤاخذتهم بكل تصرفاتهم جزاء وفاقا.
(3) أن هذا الصنف من السكارى هم الذين حصلت بسببهم كثير من المصائب الفادحة: انتهاك للأعراض وسفك الدماء وتعد على الأبرياء.
بقي أن نبين حكم تصرفات من غاب عقله وفقد التمييز بين حقائق الأشياء بسبب تناوله لهذه المواد. وسيشمل الكلام المسائل الآتية:
1 - حكم طلاق السكران بسبب تناوله شيئا من هذه المواد.
2 - حكم معاملات من غاب عقله بتناوله لهذه المواد.
__________
(1) سورة النساء الآية 43
(2) انظر النية وأثرها في الأحكام الشرعية د \ صالح السدلان المرجع السابق في هامش '' 1 '' جـ 2 ص892.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي 11 \ 200.(32/251)
3 - حكم من يؤدي الصلاة وهو تحت تأثير المخدر.
4 - جناية متناول المخدرات على غيره.
5 - الإقرار بالقتل أو الحد.(32/252)
المسألة الأولى: حكم طلاق السكران بسبب تناوله شيئا من هذه المواد المخدرة عالما مختارا:
اختلف أهل العلم في طلاق السكران بسبب محرم هل يقع أم لا؟ على قولين:
القول الأول: أن طلاقه يقع وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وميمون بن مهران والحكم ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي في أحد قوليه وأبو حنيفة وصاحباه وسليمان بن حرب وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، (1) واستدلوا.
(1) بعموم قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (2) من غير تفريق بين السكران وغيره إلا من خص بدليل.
(2) ولأن عقله زال بسبب معصية فينزل قائما وعقوبة عليه وزجرا له عن ارتكاب المعصية.
(3) أنه مكلف يؤاخذ بجنايته.
(4) ما ورد من الآثار: «لا قيلولة في الطلاق (3) » ، «كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه (4) » وغير ذلك من الآثار.
القول الثاني: لا يقع طلاقه، وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز والقاسم وطاوس وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري والليث
__________
(1) المغني لابن قدامة 7 \ 114.
(2) سورة البقرة الآية 229
(3) المصنف لعبد الرزاق الصنعاني جـ 7 \ 78.
(4) المصنف لعبد الرزاق الصنعاني جـ 7 \ 78. قال ابن حزم في المحلى جـ 1 \ 257 '' لا قيلولة في الطلاق '' حديث موضوع، وقال: أثر: '' كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه '' خبر مكذوب.(32/252)
وإسحاق وأبي ثور والمزني وهو مذهب الظاهرية والشافعي في أحد قوليه وهو رواية في مذهب أحمد واستقر عليها مذهبه مستدلين:
1 - بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (1) فجعل سبحانه قول السكران غير معتبر، لأنه لا يعلم ما يقول.
2 - صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالمقر بالزنا أن يستنكه ليعتبر قوله الذي أقر به أو يلغى.
3 - ولأنه مفقود الإرادة أشبه المكره.
4 - ولأنه زائل العقل أشبه المجنون والنائم.
5 - ولأن العقل شرط التكليف ولا يتوجه التكليف إلى من لا يفهمه.
الترجيح: والراجح القول الثاني وهو أنه لا يقع طلاق السكران وهو ما رجحه ابن حزم الظاهري وابن تيمية وابن القيم رحمهم الله تعالى، وذلك للأسباب الآتية:
1 - قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (2) الآية. ففي هذا النهي إشارة إلى أن ما يقوله السكران- وهو في حالة سكره- غير معتد به.
2 - قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (3) سورة المائدة آية 89. ولا شك أن الطلاق يمين واليمين لا يعتد بها إلا إذا كانت صادرة عن عزيمة بقصد الحمل على فعل شيء أو تركه وهذا ما يشير إليه قوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (4) وطلاق السكران لا يمكن أن يقال عنه: إنه صادر عن عزيمة وإرادة حقيقية، فحمل ما تلفظ به في هذا الصدد على اللغو أقرب، وقد رفعت المؤاخذة عن اللغو بنص القرآن الكريم.
__________
(1) سورة النساء الآية 43
(2) سورة النساء الآية 43
(3) سورة المائدة الآية 89
(4) سورة المائدة الآية 89(32/253)
3 - قوله صلى الله عليه وسلم في حق ماعز الأسلمي: «أشرب خمرا (1) » بعد قوله صلى الله عليه وسلم «أبه جنون؟ (2) » يومئ إلى أن السكر يترتب عليه إبطال الإقرار الذي صدر منه أثناءه فكذلك يبطل به لفظ الطلاق إذ كل منهما قول.
4 - ليس في الموضوع نص صريح والأصل بقاء ما كان على ما كان " حتى يرتفع حكم الأصل بدليل. والأصل هو وجود الرابطة الزوجية فلا ينبغي أن يرتفع هذا الحكم إلا بدليل صحيح صريح. وبهذا يترجح عدم وقوع طلاق السكران بسبب تناوله شيئا من هذه المواد المخدرة. . والله أعلم (3) .
__________
(1) صحيح مسلم الحدود (1695) .
(2) صحيح مسلم الحدود (1695) .
(3) انظر: النية وأثرها في الأحكام الشرعية للمؤلف جـ 2 \ 890.(32/254)
المسألة الثانية: حكم معاملات من غاب عقله بتناوله لهذه المواد:
إذا حدث تصرف من بيع أو شراء أو هبة أو غيرها من أنواع المعاوضات المالية أثناء فقده لتمييزه من شرب هذه المواد المخدرة. . فما الحكم؟
انقسم جمهور الفقهاء في هذه القضية إلى قسمين:
أحدهما: يرى عدم صحة تصرفات من سكر بسبب تناوله لهذه المواد فيما يتعلق بالمعاوضات من بيع وشراء وإجارة وهبة. . إلخ، وهو ما يستفاد من كلام علماء المالكية والحنابلة وبعض الشافعية وابن حزم الظاهري.
ثانيهما: يرى صحة هذه العقود وهم علماء الحنفية والصحيح من مذهب الشافعية وقول عند الحنابلة.
والراجح: القول الأول: وهو عدم صحة تصرفات السكران في المعاوضات المالية لما يلي:
1 - أن الأصل في فاقد العقل عدم مؤاخذته بأقواله وأفعاله.
2 - أن القول بصحة تصرفاته يعتبر عقوبة أخرى تضاف إلى العقوبة على السكر، لكنها هنا لا ينحصر أثرها على الجاني نفسه، بل سيمتد أثرها(32/254)
إلى أهله ومن يعولهم، لأن المال الذي بيده ليس له وحده، بل تتعلق منافعه به وبأهله فتصرفاته فيه حال سكره فيها ضياع لهم.
3 - أن من لازم بطلان إقراره- كما رأينا بطلان تصرفاته والمعاوضة نوع من التصرفات والله أعلم.(32/255)
المسألة الثالثة: من يؤدي الصلاة وهو تحت تأثير المخدر:
لا مراء في أن المخدرات تورث الفتور والخدر في الأطراف، ولذلك يكثر النوم لمتعاطيها. ومن أجل تأثير المخدرات وإصابتها عقل متعاطيها فإنه لا يحسن المحافظة على وضوئه فتفلت بطنه دون أن يدري أو يتذكر. ولهذا أجمع الفقهاء على أن من نواقض الوضوء أن يغيب عقل المتوضئ بجنون أو صرع أو إغماء أو يتعاطى ما يستتبع غيبة العقل من خمر أو حشيش أو أفيون أو غير هذا من المخدرات المغيبات، وإذا انتقض وضوءه بطلت صلاته وهو بهذه الحال. ولا فرق في هذا بين خمر وسكر بخمر سائل أو مشموم أو مأكول أو محقون وخلافه.
وقد أمر الله عباده ألا يقربوا الصلاة حين سكرهم فقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (1) الآية.
وهذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر حتى يزول أثره وهو برهان قاطع على بطلان صلاة السكران بأي نوع من أنواع المسكرات والمخدرات
__________
(1) سورة النساء الآية 43(32/255)
المسألة الرابعة: جناية متناول المخدرات على غيره:
إن أخطر أثر من آثار المسكرات والإدمان على المخدرات هو ما يقع منهم على غيرهم من الاعتداءات سواء كانوا من ندمائهم أو من أخدانهم أو من عائلاتهم وأسرهم أو من غير هؤلاء وأولئك فمتى يعاقبون على ما ارتكبوا جرائم وما اقترفوا من جنايات؟ ومتى لا تقع عليهم المسئولية الجنائية فلا يعاقبون؟ فنقول:
1 - إذا تناول السكران المادة المسكرة مكرها أو تناولها مختارا وهو لا يعلم أنها مسكر أو شرب دواء للتداوي فأسكره أو شربها مضطرا لدفع غصة فارتكب جناية موجبة للحد أو القصاص، فإنه لا يعاقب لأنه ارتكب الجريمة وهو زائل العقل فيكون حكمه حكم المجنون أو النائم وما أشبهه وهذا هو الرأي الراجح في كل من المذاهب الأربعة.
2 - أما من يتناول المسكر مختارا بغير عذر عالما بذلك فإنه مسئول عن كل جريمة يرتكبها أثناء سكره سواء ارتكبها عامدا أو مخطئا ويعاقب بعقوبتها، لأنه أزال عقله بنفسه وبسبب هو في ذاته جريمة فيتحمل العقوبة زجرا له (1) فضلا عن أن إسقاط العقوبة عنه يفضي إلى نتيجتين كلتيهما أخطر من الأخرى:
الأولى: انتشار المسكرات على نطاق واسع وتشجيع المجرمين على اقتراف جرائمهم نظرا لما يبعثه إسقاط العقوبة عنهم من الشعور بالقوة في نفوسهم والشجاعة والاستهانة بالغير.
الثانية: إشاعة الفوضى الأخلاقية وعدم الاستقرار الأمني. وفي كل من المذاهب الأربعة رأي آخر مرجوح بل مهجور وهو أن السكران لا يسأل عن تصرفاته سواء تناول المسكر مختارا أو مكرها أو غير عالم بأنه مسكر؛ لأن
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي د \ عبد القادر عودة جـ 2 \ 582، 583.(32/256)
عقله كان زائلا وقت إتيان الفعل فلم يكن مدركا، والإدراك أساس المسئولية الجنائية فإذا فقد انعدمت المسئولية، ومصدر هذا الرأي عثمان رضي الله عنه. وقد أخذ به قلة من الفقهاء في كل مذهب، ولكنه رأي مهجور. وبهذا يترجح القول الأول وهو أخذ السكران القاتل بالقصاص والمرتكب ذنبا موجبا للحد بالعقوبة المقررة في ذلك، لأنه إذا علم من تسول له نفسه الاقتراب من المسكرات أنه مؤاخذ بجرمه معاقب بذنبه لتردد ألف مرة قبل إقدامه على تناولها، وبذلك يكون عامل ردع له ولغيره، وذلك من أهم الأغراض التي شرعت العقوبات لتحقيقها (1) والله أعلم.
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي د \ عبد القادر عودة المرجع السابق.(32/257)
الإقرار بالقتل أو الحد:
إذا أقر السكران بجناية قتل أو إصابة ذنب موجب للحد وحدث منه هذا الإقرار حال سكره، فإنه لا يعتد بهذا الإقرار، لأنه صدر من شخص لا يدري ما يقول، فهو كالمجنون. . وهذا هو قول الجمهور.
ويرى بعض الفقهاء أنه يؤاخذ بإقراره في القتل والحدود.
والراجح ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا يؤاخذ بإقراره ولا يعتد به للحديث الصحيح الوارد في قصة ماعز الأسلمي، فهو حجة على عدم الأخذ بإقرار السكران في الحدود والدماء (1) والله أعلم.
__________
(1) المخدرات بين الطب والفقه ص 97 د \ أحمد ريان.(32/257)
عاشرا: عقوبة المخدرات في الشريعة الإسلامية:
العقوبة هي الجزاء المقرر لمصلحة الجماعة على عصيان أمر الشارع، والمقصود من فرض عقوبة على عصيان أمر الشارع هو إصلاح حال البشر وحمايتهم من المفاسد واستنقاذهم من الغواية وإرشادهم من الضلالة وكفهم(32/257)
عن المعاصي وبعنهم على الطاعة وانتشالهم من الوقوع في مهابط الرذيلة والخروج عن الطريق المستقيمة (1) فالعقوبة مصلحة لا لذاتها، ولكن باعتبار ما يترتب عليها من المصالح، قال الإمام عز الدين بن عبد السلام:
" إن العقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد، بل لكون المصلحة هي المقصودة من شرعها كقطع السارق وقاطع الطريق وقتل الجناة ورجم الزناة وجلدهم وتغريبهم، وكذلك التعزيرات، كل هذه مفاسد أوجبها الشرع لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقية " (2) .
وقبل أن أوضح آراء الفقهاء في عقوبة المخدرات أقرر حقيقة لا ريب فيها وهي: أنه لا خلاف بين العلماء في حرمة تناول المخدرات بجميع أسمائها وأنواعها، كما أنه لا خلاف بينهم أيضا في أن تعاطي المخدرات ذنب تجب عليه العقوبة، بل يجب تشديد العقوبة على فاعل ذلك، ولكن تختلف عقوبة المخدرات باختلاف الجريمة المعاقب عليها وهي لا تخلو إما أن تكون تناولا للمادة المخدرة أو إتجارا وترويجا لها.
أولا: عقوبة تناول المادة المخدرة:
لما كان متناول المخدرات والعقاقير المخدرة يشترك مع متعاطي الخمر في بعض الخصائص- كما بينا سابقا- كفقد التمييز، وعدم القدرة على الامتناع عنها بعد تناولها، وفي الصد عن الذكر وعن الصلاة وغير ذلك من الخصائص كما أن هذه المواد تتميز عن الخمر ببعض الخصائص كتناول كثير منها وهي جامدة أو تناولها عن طريق الحقن وعدم هياج متناولها، وعدم قدرته على البطش غالبا لتخدر حواسه وغير ذلك.
لذلك اختلف أهل العلم في تقييم وتصنيف هذه المواد وبالتالي اختلف
__________
(1) انظر: صور من سماحة الإسلام د \ عبد العزيز الربيعة ص 111.
(2) قواعد الأحكام في مصالح الأنام جـ 1 \ 12.(32/258)
آراؤهم في تحديد العقوبة على متناول هذه المواد المخدرة على قولين:
القول الأول: أن المواد المخدرة مواد مسكرة، لذا تعتبر أنواعا من الخمر ويستدل على تحريمها وإثم متناولها بأدلة تحريم الخمر من الكتاب والسنة ويجب أن تطبق على متناولها جميع الأحكام التي تطبق على شارب الخمر لاشتراكها معها في علة الحرمة وهي الإسكار. وبما أن الخمر يجب فيها الحد فكذلك هذه المواد، وممن قال بهذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن حجر العسقلاني وابن حجر الهيثمي المكي والزركشي والذهبي يرحمهم الله تعالى.
قال ابن تيمية رحمه الله: (حد الشرب ثمانون سوطا أو أربعون إذا كان مسلما يعتقد تحريم المسكر) (1) وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: (. . . واستدل بمطلق قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مسكر حرام (2) » على تحريم ما يسكر ولو لم يكن شرابا فيدخل في ذلك الحشيشة وغيرها. وقد جزم النووي وغيره بأنها مسكرة وجزم آخرون بأنها مخدرة وهو مكابرة، لأنها تحدث بالمشاهدة ما يحدث الخمر من الطرب والنشوة والمداومة عليها والانهماك فيها) (3) وقال ابن حجر المكي: (. . . فاستعمالها كبيرة وفسق كالخمر، فكل ما جاء في وعيد شاربها يأتي في مستعمل شيء من هذه المذكورات، لاشتراكها في إزالة العقل المقصود للشارع بقاؤه، فكان في تعاطي ما يزيله وعيد الخمر) (4) وقال الزركشي تعقيبا على ما ذكره العلامة القسطلاني من بعض المسكرات كالحشيش والأفيون وجوزة الطيب والبنج وغيرها. . قال:
(إن هذه الأمور المذكورة تؤثر في متعاطيها المعنى الذي يدخله في حد
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 34 صفحة 212.
(2) سنن الترمذي الأشربة (1866) ، سنن أبو داود الأشربة (3687) .
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري جـ 10 \ 44، 45.
(4) الزواجر عن اقتراف الكبائر جـ 1 \ 212.(32/259)
السكران، فإنهم قالوا: السكران هو الذي اختل كلامه المنظوم وانكشف في المكتوم أو هو الذي لا يعرف السماء من الأرض ولا الطول من العرض) (1) وقال الذهبي رحمه الله: (والحشيشة المصنوعة من ورق القنب- حرام بالإجماع يحد شاربها كما يحد شارب الخمر) (2) .
ولم يفرق جمهور الفقهاء بين شرب الخمر وغيرها؛ فقالوا: " كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام، وهو خمر حكمه حكم الخمر في تحريمه ووجوب الحد على شاربه " (3) .
" وينسب هذا القول أيضا لابن قيم الجوزية، وابن حزم، والأمير الصنعاني ومن تابعهم من الفقهاء المحدثين" (4) ويقاس على الحشيش سائر المخدرات الأخرى.
والخلاصة: أنه إذا ثبت تناول المسكر خمرا أو غيره، فلا بد أن يعاقب فاعل ذلك دنيويا، وهذا أمر مسلم به بين المسلمين جميعا ولا خلاف بينهم في ذلك، فقد ثبت تحريم الخمر بالقرآن الكريم، وأما العقاب على شربها فمصدره السنة النبوية المطهرة. وأما نوع العقوبة فمصدره الإجماع فقد أجمع الصحابة ومن بعدهم على جلد شارب الخمر ثم اختلفوا في مقداره ما بين أربعين أو ثمانين جلدة (5) وسبب هذا الاختلاف هو أن القرآن الكريم لم يذكر العقوبة وأن السنة النبوية غير صريحة ولا قاطعة في تحديدها وكذلك
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيثمي جـ 1 \ 213 وعون المعبود شرح سن أبي داود 10 \ 232.
(2) الكبائر 86.
(3) بداية المجتهد 2 \ 434، المغني 8 \ 304، المهذب 2 \ 286.
(4) المخدرات الخطر الداهم د \ محمد علي البار ص53.
(5) الموسوعة الفقهية ج 5 \ 22، 23 ط وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت.(32/260)
الآثار الواردة عن الصحابة، ولم يثبت لديهم نص ملزم في ذلك. لهذا تغير حكمهم واختلفت فتواهم بتغير الزمن واختلاف الأحوال.
وإليك طرفا من الأحاديث والآثار التي وردت في هذا الصدد منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم يتلو ذلك بيان آراء الفقهاء قديما وحديثا مع ترجيح الرأي المختار منها وبيان ذلك على النحو التالي:
روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال (1) » وفي رواية: «أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين (2) » وفي لفظ للترمذي «ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بنعلين أربعين (3) » وأخرج مسلم في صحيحه من طريق حضير [مصغر] ، ابن المنذر أن عثمان أمر عليا بجلد الوليد بن عقبة في الخمر، فقال لعبد الله بن جعفر: اجلده فجلده، فلما بلغ أربعين قال: أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين وكل سنة وهذا أحب إلي " (4) قال ابن حجر العسقلاني في الفتح (5) " فيه الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين وسائر الأخبار ليس فيها عدد إلا بعض الروايات الماضية عن أنس ففيها "فجلده نحو أربعين " والجمع بينها أن عليا أطلق الأربعين فهو حجة على من ذكرها بلفظ التقريب ".
وروى أبو داود في سننه (6) بسنده عن علي رضي الله عنه قال: " لا أدي (7) أو ما كنت لأدي من أقمت عليه حدا إلا شارب الخمر، فإن
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6773) ، صحيح مسلم الحدود (1706) ، سنن الترمذي الحدود (1443) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .
(2) صحيح مسلم الحدود (1706) ، سنن الترمذي الحدود (1443) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .
(3) صحيح البخاري وسنن الترمذي.
(4) صحيح مسلم.
(5) فتح الباري شرح صحيح البخاري جـ 12 \ 70ط السلفية.
(6) سنن أبي داود ج 4 \ 626 حديث رقم 4486.
(7) مضارع أداه يديه إذا أعطى ديته.(32/261)
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسن فيه شيئا، إنما هو شيء قلناه نحن ". قال ابن حجر في الفتح (1) : " والجمع بين حديث علي المصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم جلد أربعين وأنه سنة وبين حديثه المذكور في هذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه بأن يحمل النفي على أنه لم يحد الثمانين: أي لم يسن شيئا زائدا على الأربعين.
يؤيده قوله: "وإنما هو شيء قلناه نحن " وفي بعض الروايات: وإنما هو شيء صنعناه نحن، يشير إلى ما أشار به على عمر. وعلى هذا فقوله: " لو مات لوديته " أي في الأربعين الزائدة وبذلك جزم البيهقي وابن حزم ". وروى البيهقي في سننه (2) عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الشراب كانوا في خلافة أبي بكر أكثر منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبو بكر رضي الله عنه: "لو فرضنا لهم هذا! فتوخى لهم نحوا مما كانوا يضربون في عهد، النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أبو بكر رضي الله عنه يجلدهم أربعين حتى توفي ".
ولما كان عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور الناس في جلد شارب الخمر وقال: إن الناس قد شربوها واجترءوا عليها! فقال علي: إن السكران إذا سكر هذى وإذا هذى افترى " قذف الأبرياء " فاجعله حد الفرية [أي القذف] فجعله عمر حد الفرية ثمانين (3) وورد أن عليا رضي الله عنه زاد على الثمانين في بعض الأحوال.
روى البيهقي في سننه (4) عن سفيان عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه قال: " أتي علي رضي الله عنه بالنجاشي قد شرب خمرا في رمضان فأفطر فضربه
__________
(1) فتح الباري جـ 12 \ 71، 72.
(2) سنن البيهقي جـ 8 \ 320.
(3) المصنف لعبد الرزاق الصنعاني جـ 7 \ 379.
(4) جـ 8 \ 321.(32/262)
ثمانين ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين، وقال: إنما ضربتك هذه العشرين لجرأتك على الله وإفطارك في شهر رمضان".
وروى أبو داود في سننه (1) عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاقتلوهم (2) » .
وأخرج عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن ابن جريج سئل ابن شهاب: كم جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر؟ قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض فيها حدا كان يأمر من حضره يضربون بأيديهم ونعالهم حتى يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفعوا.
بل قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضربه أصلا وذلك فيما أخرجه أبو داود في سننه بسند قوي (3) : عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يوقت في الخمر حدا، قال ابن عباس وشرب رجل فسكر فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما حاذى دار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك ولم يأمر فيه بشيء (4) » .
وبعد: فهذا ما ورد من الروايات في حد شرب الخمر ويتحصل من مجموعها أن في المسألة ستة أقوال أشار إليها ابن حجر رحمه الله في الفتح (5) قال رحمه الله: والذي تحصل لنا من الآراء في حد الخمر ستة أقوال:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل فيها حدا معلوما، بل كان يقتصر في ضرب الشارب على ما يليق به. قال ابن المنذر: قال بعض أهل العلم أتي النبي بسكران فأمرهم بضربه وتبكيته، فدل على ألا حد في السكر،
__________
(1) جـ 4 \ 623، 624 كتاب الحدود حديث رقم 4482
(2) سنن أبو داود الحدود (4482) ، مسند أحمد بن حنبل (4/95) .
(3) جـ 4 \ 619، 620.
(4) سنن أبو داود الحدود (4476) ، مسند أحمد بن حنبل (1/322) .
(5) جـ 12 \ 74.(32/263)
بل فيه التنكيل والتبكيت، ولو كان ذلك على سبيل الحد لبينه بيانا واضحا قال: فلما كثر الشراب في عهد عمر استشار الصحابة، ولو كان عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء محدود لما تجاوزوه كما لم يتجاوزوا حد القذف ولو كثر القاذفون وبالغوا في الفحش، فلما اقتضى رأيهم أن يجعلوه كحد القذف، واستدل علي بما ذكر من أن في تعاطيه ما يؤدي إلى وجود القذف غالبا أو إلى ما يشبه القذف، ثم رجع إلى الوقوف عند تقدير ما وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، دل على صحة ما قلناه، لأن الروايات في التحديد بأربعين اختلفت عن أنس وكذا عن علي، فالأولى ألا يتجاوز أقل ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ضربه، لأنه المحقق سواء كان ذلك حدا أو تعزيرا.
الثاني: أن الحد فيه أربعون ولا تجوز الزيادة عليها.
الثالث: مثله لكن للإمام أن يبلغ به الثمانين وهل تكون الزيادة من تمام الحد أو تعزيرا قولان.
الرابع: أنه ثمانون ولا تجوز الزيادة عليها.
الخامس: أنه ثمانون وتجوز الزيادة تعزيرا.
السادس: إن شرب فجلد ثلاث مرات فعاد الرابعة وجب قتله، وقيل إن شرب أربعا فعاد الخامسة وجب قتله.
وقد جمع القرطبي رحمه الله بين الأخبار الواردة في عدم معاقبة شارب الخمر بشيء والواردة في معاقبته حدا أو تعزيرا فقال رحمه الله:
"لم يكن أولا في شرب الخمر حد وعلى ذلك يحمل حديث ابن عباس السابق في الذي استجار بالعباس، ثم شرع فيه التعزير على ما في سائر الأحاديث التي لا تقدير فيها، ثم شرع الحد ولم يطلع أكثرهم على تعيينه صريحا مع اعتقادهم أن فيه الحد المعين ومن ثم توخى أبو بكر ما فعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقر عليه الأمر ثم رأى عمر ومن وافقه الزيادة على الأربعين إما حدا بطريق الاستنباط وإما تعزيرا ".(32/264)
والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم تساهل في أول الأمر لقرب عهدهم من حل الخمر حتى إذا استقر التشريع ضرب وجلد وإن لم يوقت حدا. وأما ما رواه أبو داود من حديث معاوية بن أبي سفيان السابق من أن شارب الخمر يقتل في المرة الرابعة أو الخامسة وهو ما ذهب إليه بعض فقهاء الظاهرية والإمامية فهو منسوخ بما رواه عبد الرزاق في مصنفه (1) وغيره:
عن قبيصة بن ذؤيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه. . ثم إذا شرب الرابعة فاقتلوه، قال فأتي برجل قد شرب فجلده ثم أتي به قد شرب فجلده ثم أتي به وقد شرب فجلده ثم أتي به في الرابعة قد شرب فجلده فرفع القتل عن الناس وكانت رخصة (2) » .
ومال الخطابي (3) إلى تأويل الحديث في الأمر بالقتل فقال: " قد يرد الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل وإنما قصد به الردع والتحذير. ثم قال: ويحتمل أن يكون القتل في الخامسة كان واجبا، ثم نسخ بحصول الإجماع من الأمة على أنه لا يقتل ". وقال ابن المنذر (4) : " كان العمل فيمن شرب الخمر أن يضرب وينكل به ثم نسخ بالأمر بجلده، فإن تكرر ذلك أربعا قتل ثم نسخ ذلك بالأخبار الثابتة وبإجماع أهل العلم إلا من شذ من لا يعد خلافه خلافا ". وبناء عليه فيمكن إرجاع الآراء الثاني والثالث والرابع والخامس إلى رأيين فقط:
الرأي الأول: " أن حد الشرب والسكر ثمانون جلدة وهذا هو ما يراه الفقهاء: مالك وأبو حنيفة والشافعي في رواية عنه وأحمد في رواية عنه والثوري والأوزاعي وابن المنذر " (5) ويرى بعض الفقهاء أن حد الشرب والسكر
__________
(1) جـ 7 \ 78، 79، 80.
(2) سنن النسائي الأشربة (5662) ، سنن أبو داود الحدود (4484) ، سنن ابن ماجه الحدود (2572) ، مسند أحمد بن حنبل (2/280) ، سنن الدارمي الأشربة (2105) .
(3) انظر: سنن أبي داود جـ 4 \ 624 هامش '' معالم السنن الخطابي ''.
(4) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني جـ 12 \ 80، 81.
(5) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد القرطبي المالكي ج 2 \ 435.(32/265)
أربعون جلدة. وهذا هو ما يراه أبو ثور وداود والشافعي وأحمد بن حنبل في رواية ثانية عنه (1) قال القاضي عياض: "أجمعوا على وجوب الحد في الخمر واختلفوا في تقديره فذهب الجمهور إلى الثمانين وقال الشافعي في المشهور عنه وأحمد في رواية وأبو ثور وداود: أربعين. وتبعه على نقل الإجماع ابن دقيق العيد والنووي ومن تبعهما" (2) .
الرأي الثاني: يرى بعض العلماء من القدامى والمحدثين أن عقوبة شرب الخمر ليست من عقوبات الحدود، وإنما هي من عقوبات التعزير حكى هذا الطبري وابن المنذر عن طائفة من أهل العلم قديما (3) مستدلين بأحاديث كثيرة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصرح فيها بتعيين عدد الضرب وأصرحها حديث أنس ولم يجزم فيه بالأربعين في أرجح الطرق عنه (4) واستدلوا أيضا بما رواه ابن شهاب حين سئل: كم جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر؟ . . الحديث. وبما رواه ابن عباس فيمن شرب فسكر فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما حاذى دار العباس انفلت. . الحديث، وبما رواه الطبري عن ابن عباس أيضا، «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر إلا أخيرا ولقد غزا تبوك فغشي حجرته من الليل سكران فقال: ليقم إليه رجل فيأخذ بيده حتى يرده إلى رحله (5) »
وممن رأى ذلك من العلماء المحدثين (6) د. عبد العظيم شرف الدين في كتابه " العقوبة المقدرة لمصلحة المجتمع الإسلامي " ود. محمد سليم العوا في كتابه " أصول النظام الجنائي " والشيخ محمود شلتوت في كتابه " الإسلام عقيدة وشريعة" وغيرهم.
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني ج 7 \ 155.
(2) فتح الباري جـ 12 \ 72.
(3) نيل الأوطار للشوكاني 7 \ 150.
(4) قلت: نعم إن كان حديث أنس لم يصرح بتعيين عدد الضرب، فحديث علي صرح به.
(5) فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر جـ 12 \ 72.
(6) المسكرات والمخدرات بين الشريعة والقانون، المستشار \ عزت حسنين ص61 ط الأولى 1984م.(32/266)
الرأي الراجح:
والرأي الراجح عند عامة أهل العلم: أن العقوبة "ثمانون جلدة" وأنه لم يحدد مقدارها بهذا العدد إلا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث استشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حد شارب الخمر، فأفتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأن يحد ثمانين جلدة ووافق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الرأي (1) وأرى أنه مادام قد ثبت حد الشرب للخمر وتغيرت فتوى الصحابة رضي الله عنهم في مقدار الحد من عصر لعصر، ومن حال لحال، فيكون مرجع ذلك إلى نظر الإمام أو الحاكم؛ فإذا رأى أن يجلده (2) عددا معينا إلى حد الثمانين جلدة فله بما وقع من الصحابة أسوة. وإن رأى أن يأمر بمطلق الضرب له من غير تعيين فله برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة.
قال الشوكاني رحمه الله: " من شرب مسكرا مكلفا مختارا جلد على ما يراه الإمام إما أربعين جلدة أو أقل أو أكثر ولو بالنعال " (3) القول الثاني: أن المخدرات مواد مخدرة فقط وليست مسكرة. وبناء عليه فإن عقوبة متعاطيها عقوبة تعزيرية فقط يترك تحديد نوعها ومقدارها لولي الأمر حسبما يرى أن المصلحة تقتضيه مراعيا في ذلك مدى انتشار الجريمة وحال المجرم، وما إلى ذلك من الاعتبارات على أن تكون العقوبة التي يقدرها ولي الأمر عقوبة رادعة حتى قال بعض العلماء: إن التعزير من الممكن أن يصل إلى حد الإعدام.
ويرى جمهور الفقهاء أن التعزير بما دون حد الخمر (4) .
وجاء في مجلة " اللواء الإسلامي " (5) عن د. عبد الصبور شاهين قوله:
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، عبد القادر عودة ص 649.
(2) أي يجلد الشارب الخمر وبالقياس عليها المخدرات بجميع أنواعها وأصنافها الحديثة.
(3) الدرر البهية.
(4) المؤتمر السادس لمكافحة المخدرات جـ 3 \ 72: 103.
(5) العدد 195 في 3 \ 2 \ 1406 هـ الموافق 17 \ 10 \ 1985م ط دار القلم دمشق 1408هـ.(32/267)
يجب تنفيذ حد الحرابة من القتل والتصليب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف ليس فقط للمهرب أو التاجر، بل ينبغي أن يشمل ذلك المتعاطي. ولم يوجد من الفقهاء من رأى هذا سواه (1) .
والراجح: أن التعزير مفوض إلى ولي الأمر يقدره حسبما يرى فيه المصلحة، فله أن يعزر بالقتل وبما دون القتل ولو استوجب مصلحة الردع الزيادة على حد السكر، كما هو رأي الإمام مالك ولفيف من الفقهاء يقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعقيبا على حد تعزيري أصدره أحد القضاة: (ونحيطكم علما بأن باب التعزير واسع يستطيع ولي الأمر عن طريقه أن يفرض من العقاب ما يكون كافيا للزجر مانعا للإجرام، لأن الشريعة لم تحدد عقوبة معينة، وإنما هو يقوى ويضعف بسبب عظم الجناية وصغرها.) (2)
__________
(1) المخدرات الخطر الداهم، د \ محمد علي البار 52، 53.
(2) فتاوى ورسائل الشيح محمد بن إبراهيم حـ 2 \ 116.(32/268)
ثانيا: عقوبة الإتجار بالمخدرات وتهريبها والترويج لها:
لم يكتف الإسلام بفرض عقوبة الجلد لشارب المسكر فحسب، بل شمل ذلك أيضا كل من أسهم في تهيئتها للمتعاطين لها.
روى أبو داود في سننه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه (1) » هذا ولم يرد في كتب الفقهاء المتقدمين عقوبة محددة على المهرب والمروج والتاجر " ومال بعض الفقهاء المحدثين إلى تشديد العقوبة على المهرب والمروج والتاجر حتى وصلت إلى حد الحرابة وهو القتل أو التصليب أو تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف ". ولولي الأمر أن يتخذ من الوسائل ما يكفل سلامة المجتمع وحمايته من الضرر وأن يسن ما يراه من عقوبات رادعة
__________
(1) سنن أبي داود 4 \ 81، حديث رقم 3674.(32/268)
للأخذ على يد هؤلاء بالسجن والغرامة والمصادرة وكل ما يحقق مصلحة الأمة ومطاردة المفسدين واستتباب الأمن في البلاد ولو أدى إلى قتلهم سياسة إذا رأى المصلحة تدعو إلى ذلك.
والدليل على هذا:
1 - ما قرره كثير من الفقهاء من أن لولي الأمر أن يقتل الساعي بين الناس بالفساد تعزيرا وسياسة.
2 - ولأنه إذا عوقب بما دون القتل واستمر في فساده أصبح كالصائل الذي لا يندفع شره إلا بالقتل، فيجوز لولي الأمر أن يقتله حينئذ سياسة وتعزيرا.
3 - ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر بقتل شارب الخمر في المرة الرابعة إذا أقيم عليه الحد في كل مرة ولم يجد ذلك في ردعه عنها.
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاجلدوه فإن عاد فاقتلوه (1) » فهذا الحديث ظاهر الدلالة على قتل من تكرر منه شرب الخمر على رأي من يرى قتله بعد الرابعة أو الخامسة مع أن ضرره مقصور على نفسه لا يتعداه إلى غيره، فلأن يكون القتل مشروعا بالنسبة للمتاجر بالمخدرات والمروج لها ونحوهما من باب أولى إذ الضرر المترتب على ذلك ضرر عام، لا تقتصر آثاره على فرد معين.
4 - أن التجربة أثبتت عدم نجاعة العقوبات التي طبقت على هؤلاء ومن على شاكلتهم في كثير من البلدان التي لم تصل إلى حد القتل بينما نجحت عقوبة القتل التي طبقت في بلاد أخرى في الحد من هذه الظاهرة وحصرها في أضيق نطاق طبقا لما كشفت عنه الإحصائيات الصادرة عن تلك البلاد
__________
(1) مسند الإمام أحمد جـ 2 \ 280.(32/269)
وقد أفتى بذلك مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في قراره الصادر برقم 138 وتاريخ 20 \ 6 \ 1407 هـ متضمنا ما يلي:
أولا: بالنسبة لمهرب المخدرات فإن عقوبته القتل لما يسببه تهريب المخدرات وإدخالها البلاد من فساد عظيم لا يقتصر على المهرب نفسه وأضرار جسيمة وأخطار بليغة على الأمة بمجموعها ويلحق بالمهرب الشخص الذي يستورد أو يتلقى المخدرات من الخارج يمون بها المروجين.
ثانيا: أما بالنسبة لمروج المخدرات فقد أكد المجلس قراره رقم (85) بتاريخ 11 \ 11 \ 1401هـ الذي نص على أن: " من يروج المخدرات فإن كان للمرة الأولى فيعزر تعزيرا بليغا بالحبس أو الجلد أو الغرامة أو بها جميعا حسبما يقتضيه النظر القضائي، وإن تكرر منه ذلك فيعزر بما يقطع شره عن المجتمع ولو كان بالقتل، لأنه بفعله هذا يعتبر من المفسدين وممن تأصل الإجرام في نفوسهم ".
وبناء عليه فقد صدر أمر خادم الحرمين الشريفين المبلغ لكل من وزارة العدل ووزارة الداخلية برقم 4 \ ب \ 9666 وبتاريخ 10 \ 7 \ 1407 هـ بالعمل بموجبه وتعميمه على المحاكم.
ووفق النظام الخاص بجرائم المخدرات المعمول به حاليا فإن العقوبة:
1 - بالنسبة للاتجار والترويج والإهداء: السجن خمسة عشر عاما وغرامة عشرين ألف ريال إلى جانب العقوبة التعزيرية التي يقررها الحاكم الشرعي.
بالنسبة للاشتراك وتسهيل التهريب: السجن سبع سنوات والفصل من الخدمة إن كان موظفا.
بالنسبة للاستعمال: السجن سنتان إلى جانب العقوبة التعزيرية التي يقررها الحاكم الشرعي (1)
__________
(1) انظر: سلسلة منشورات الإدارة العامة لمكافحة المخدرات بالسعودية ص 19.(32/270)
حادي عشر: الواجب الشرعي على المسلم إزاء مدمني ومهربي ومروجي المخدرات:
كرم الله الإنسان ونأى به عن مواطن الريب والمهانة، وامتدح عباده المؤمنين الذين تجنبوا مجالس اللغو وأعرضوا عن عمل الجاهلين فقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (1) .
وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} (2) وروى أبو داود في سننه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة وإني أنهاكم عن كل مسكر (3) »
ويستفاد من هذه النصوص أنه يحرم مجالسة مقترفي المعاصي أيا كان نوعها، لأن في مجالستهم إهدارا لحرمات الله وإعراضا عن شرعه؟ ولأن من يجلس مع العصاة يتخلق بأخلاقهم ويجري على لسانه ما يتناقلونه من ساقط القول وقبيح العبارات ويعتاد ما يفعلون من مآثم كشرب المسكرات والمخدرات ويشاركهم في عمل المنكرات. ومن هنا كان على الإنسان أن ينأى عن مجالس الشرب المحرم خمرا سائلا أو مخدرات مطعومة أو مشروبة أو مشمومة أو محقونة، فإنها مجالس الفسق والفساد وإضاعة الصحة والمال وعاقبتها الندم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (4) فمن جلس مع المدمن أو المهرب أو التاجر أو كل من له سبب في إشاعة
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 3
(2) سورة القصص الآية 55
(3) سنن أبي داود جـ 4 \ 84 حديث رقم 3677 كتاب الأشربة.
(4) سورة الزخرف الآية 36(32/271)
هذه المنكرات فقد رضي بمنكرهم وأقر فعلتهم. والمؤمن الحق مأمور بإزالة الباطل متى استطاع بالوسيلة المشروعة.
وقد أفتى مجلس هيئة كبار العلماء بدورته السابعة والعشرين بتاريخ 6 \ 6 \ 1406هـ بأن الإخبار عن مهربي المخدرات ومروجيها وغيرهم من المفسدين واجب على كل من عرف ذلك، وأنه من التعاون على البر والتقوى المأمور به في الكتاب العزيز والسنة المطهرة. فقد قال الله جل شأنه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) »
فلا يجوز للمسلم أن يتخلف عن أداء هذا الواجب تعاونا مع إخوانه في مكافحة هذه الجريمة الخطيرة والقضاء على هذا الشر المستطير، وبهذا يعلم أن السكوت عنهم أو التستر عليهم يعتبر من أعظم التعاون على الإثم والعدوان. وبهذا فإن عليك يا أخي المسلم أن تبلغ السلطات بالمعلومات التي تتوافر لديك عن أولئك المفسدين في الأرض من مهربي ومروجي ومدمني وتجار المخدرات والمسكرات والدلالة عليهم للإحاطة بهم والقضاء على شرهم وتضييق الخناق عليهم والله نسأل أن يوفق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لما يحبه ويرضاه.
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) صحيح مسلم جـ 1 \ 69 كتاب الإيمان حديث رقم 49 مسلسل 78.(32/272)
ثاني عشر: أسباب تعاطي المخدرات وانتشارها (1) :
هناك أسباب كثيرة قد تدفع إلى تعاطي المخدرات، وفي الغالب يكون هناك أكثر من سبب واحد يشكل مشكلة نفسية أو مرضية تعترض الإنسان وتشجعه
__________
(1) انظر: سلسلة منشورات الإرادة العامة لمكافحة المخدرات ص 13.(32/272)
على تعاطي المخدر أو العقار لأول مرة ثم يعتاده ويتعود عليه، من هذه الأسباب:
أولا: تأثير الحالة الاقتصادية وضغوط المعيشة، فالفقر والحرمان والجوع قد يدفع أحيانا بالإنسان إلى تعاطي المخدر هربا من الآلام وقسوة الحياة.
ثانيا: وفرة المال مع الشباب قد تدفعه إلى تعاطي المخدر من قبيل البذخ واللهو.
ثالثا: حب الاستطلاع والتجربة، ولكن حذار فالتجربة هنا مدمرة.
رابعا: قد يكون السبب في ذلك حب الظهور والميل إلى تقليد الرجال.
خامسا: شغل أوقات الفراغ ومجاراة أصدقاء السوء والصحبة السيئة.
سادسا: المعالجة لبعض الأمراض دون مشورة طبية.
سابعا: الرغبة في زيادة القدرة على العمل أو السهر للمذاكرة وغيرها.
ثامنا: الاعتقاد الخاطئ بعلاقة المخدرات بالجنس.
تاسعا: الاعتقاد الخاطئ بأن المخدرات ليست محرمة شرعا.
عاشرا: وهو السبب الأهم. . ضعف الوازع الديني وعدم اللجوء إلى الله في الشدائد والمحن، فلو تمسك المسلم بدينه وقوي إيمانه بالله لما أقدم على ارتكاب هذه المعصية مهما كانت الظروف ومهما اعترضه من مشاكل الحياة، ففي الإسلام الدواء الناجع لكل مشكلة والشفاء لكل داء.(32/273)
ثالث عشر: الآثار السلبية المترتبة على تعاطي المخدرات:
المخدرات داء وبيل وشر مستطير وسم ناقع، يفترس كل من يقع في حبائله ويقضي على كثير من مقدرات الأمة وينشر فيها الشر والفساد. ولم يعد خافيا ما أحدثته المخدرات من آثار سلبية في المجتمعات التي استشرت فيها وسوف نوضح في هذه العجالة الآثار الناجمة عن تعاطي المخدرات على الأفراد دينيا واجتماعيا وسلوكيا وصحيا واقتصاديا. ثم الآثار الناجمة عن تعاطي المخدرات على الأسرة، ومن ثم على المجتمع كله.
أولا: الآثار الناجمة عن تعاطي المخدرات على الأفراد دينيا: جنح الإسلام(32/273)
في أصوله إلى التزام مبدأ العناية بتهذيب الفرد خاصة حتى يكون مصدر خير للجماعة؛ لأنه إذا صلح الفرد صلحت الجماعة. يقول تعالى مخاطبا رسوله وأنصاره: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) .
وعنوان صلاح الفرد المسلم إنما يكون بامتثاله الأوامر واجتنابه النواهي: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) .
وتناول المخدرات يعطل القيام بهذا الأمر العظيم إذ هي صادة عن ذكر الله مانعة من أداء الواجبات الشرعية من صلاة وصيام وغيرهما:
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (3) .
فأي ضرر أعظم من هذا الضرر الذي يصيب الإنسان في دينه ويصده عن عبادة ربه؟ ويكفي متناول المخدرات عقوبة وذنبا أنه لا يحل له قربان المسجد حتى يصحو ولا تصح صلاته حتى يعلم ما يقول، ولا تقبل منه حتى يتوب. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحا فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد في الرابعة لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحا فإن تاب لم يتب الله عليه وسقاه من نهر الخبال (4) » قيل: يا أبا عبد الرحمن وما نهر الخبال؟ قال: نهر من صديد أهل النار. أخرجه الترمذي وقال حديث حسن (5) .
__________
(1) سورة هود الآية 112
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة المائدة الآية 91
(4) سنن الترمذي الأشربة (1862) ، مسند أحمد بن حنبل (2/35) .
(5) جامع الأصول في أحاديث الرسول جـ 5 \ 106 حديث رقم 3128.(32/274)
إن الدين أعز ما يملكه الإنسان؛ لأنه الثروة الحقيقية التي ينال بها الإنسان سعادة الدنيا ونعيم الآخرة، والإنسان الذي يعتني بدينه ويحافظ عليه سيكون في منأى عن تأثير الشيطان وأعوانه، ولا يمكن أن يقع في شرك المخدرات إلا إنسان ضعفت صلته بالله عز وجل، فإذا سقط في مستنقعها أفسدت عليه دينه وعقله، لأنه وقع فريسة لإبليس الذي يحرص على إغوائه فيصبح شخصا لا خلاق له ولا دين له، لأن عقله بات أسير شهواته فلا يردعه وازع من دين أو ضمير لأن إحساسه يتلاشى، وغيرته الدينية تموت بمخالفته أمر الله تعالى وتنكبه الطريق السوي الذي كان يجب عليه أن يسلكه.
ولا ريب أن الدين والعقل من أهم الضرورات التي يحافظ عليها الإسلام، فكل منهما مرتبط بالآخر، فباستقامة العقل يستقيم للإنسان دينه فإذا فسد العقل أدى ذلك بالضرورة إلى فساد الدين، وإذا فسد دين الإنسان لم يعد له وازع يزعه ولا منهج سليم يسلكه ويختل تفكيره ولا يتورع أن يرتكب أية جريمة أو يمارس أية معصية في سبيل إشباع نزواته.
روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال:
"اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم يتعبد فعلقته امرأة أغوته، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنها تدعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها فطفق كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر. فقالت: والله ما دعوتك للشهادة ولكن دعوتك لتقع علي أو تشرب من هذه الخمر كأسا أو تقتل هذا الغلام. قال فاسقيني من هذه الخمر كأسا فسقته كأسا فقال زيدوني فلم يرم حتى وقع عليها وقتل الغلام. . فاجتنبوا الخمر فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ويوشك أن يخرج أحدهما صاحبه ". . أخرجه النسائي موقوفا على عثمان بن عفان وإسناده(32/275)
صحيح (1) وإذا كان هذا من تأثير الخمر، فإن المخدرات تأثيرها على العقل أبشع من تأثير الخمر وما في الخمر من مضار دينية وفكرية يوجد في المخدرات ما هو أشد وأنكى.
__________
(1) جامع الأصول في أحاديث الرسول جـ 5 ص 13 حديث رقم 3130.(32/276)
ثانيا: الآثار الناجمة عن تعاطي المخدرات على الأفراد اجتماعيا:
"إن تعاطي المخدرات يؤدي إلى نتائج سيئة للفرد بالنسبة لإرادته وعمله وإنتاجه ووضعه الاجتماعي وثقة الناس به. والأفراد الذين اعتادوا النشاط وكانوا موضع الثقة بغيرهم، تتأثر أخلاقهم وتضعف كفايتهم الإنتاجية يتحولون بفعل المخدر إلى أفراد يفتقرون إلى الكفاية الإنتاجية والمهنية وتقل لديهم الإرادة ويضعف الحماس وينعدم النشاط اللازم لتحقيق واجباتهم العادية المألوفة، لأن تعاطي المخدرات يجعلهم كسالى، تفكيرهم سطحي لا يوثق فيهم، يهملون أداء مسئولياتهم، انفعالاتهم سريعة لأتفه الأسباب. منحرفون في أمزجتهم وفي تعاملهم مع الناس وغالبا ما يتم طرد المتعاطي من عمله أو يجازى ماديا أو يقل دخله وإيراده " (1)
__________
(1) المخدرات والعقاقير المخدرة ص 193، 194.(32/276)
ثالثا: الآثار الناجمة عن تعاطي المخدرات على الأفراد سلوكيا:
لتعاطي المخدرات والعقاقير المخدرة آثار سلبية سيئة على السلوك الإنساني نتج عنها كثير من الانحرافات، وارتكاب كثير من الجرائم، ومنها:
1 - ازدياد العلاقة بين تعاطي المخدرات وجريمة إزهاق الأرواح وجرائم هتك الأعراض، والسرقة والغش، والتزوير والنصب والاحتيال واقتراف أبشع الجرائم (1) .
2 - نقص الشعور بالمسئولية أو انعدامه بالمرة وإيجاد ميل قوي إلى الكذب
__________
(1) المسكرات والمخدرات بين الشريعة والقانون \ المستشار عزت حسنين ص 92.(32/276)
والنفاق وفتور الهمة وعدم الاكتراث بالواجبات وقلة الرغبة في الحياة وانهيار الحياة الزوجية خاصة، وقد يدفع إدمان هذه السموم إلى الانتحار في كثير من الأحيان أو الزج بالمدمن في أحد السجون أو أحد مستشفيات المجاذيب (1) .
3 - فساد الطباع والغرائز وشراسة الخلق ومعاشرة الأدنياء والسفهاء وفقد الغيرة على العرض، وسوء السلوك بين الفرد المتعاطي للمخدرات والمسكرات وبين رؤسائه في العمل مما يؤثر على مستقبله الوظيفي.
4 - لا يقتصر الضرر على الفرد المتعاطي وحده، وإنما يشمل بقية أفراد المجتمع ذلك أنه إذا تعاطى المخدرات واعتاد عليها سهل عليه ارتكاب أبشع الجرائم كما أسلفت وهنا يتزعزع الأمن ويضطرب الاستقرار في نفوس الأفراد وتكثر الخصومات والمنازعات لأتفه الأسباب مما يخلخل قاعدة المجتمع ويفكك بنيته ويجعل أبناءه غير مترابطين. وبذا تسود الفوضى وتعم البلوى.
5 - تعاطي المخدرات بين صفوف الطلبة يؤدي إلى التدهور في التحصيل العلمي ويبعث على القلق. وقد أثبتت الدراسات التي أجريت على الطلبة أن الذين يتعاطون المخدرات أكثر قلقا وانفعالا من الطلاب الذين لا يتعاطونها، واتضح أيضا وجود ارتباط بين هؤلاء المتعاطين والتردد على الأطباء النفسيين للعلاج (2) .
6 - ومن الآثار الضارة الناجمة عن تعاطي المخدرات كذلك الاضطرابات العاطفية والعقلية والسلوكية، حيث إن المخدرات تخرب الشخصية وتشوش الإدراك وتبدل الألفة وتزعزع الملكات العقلية، حيث أثبت بعض العلماء أن العقار المخدر يحرر الإنسان من بعض الاعتبارات التي
__________
(1) انظر: الدخينة في نظر طبيب د \ دانيال هـ: كرش. مطابع دار الشعب بمصر ص77.
(2) الإدمان: مظاهره وعلاجه لـ ''عادل الدمرداش'' ط 1982م، المجلس الوطني للثقافة بالكويت.(32/277)
تحدد صفاته الشخصية مما يؤدي إلى الاضطراب الفكري والعاطفي والسلوكي (1) .
ونخلص من هذا أن السلوك الاجتماعي لدى الأفراد عند تعاطيهم للمخدرات يتغير تغيرا جذريا مقارنا بحالات عدم التعاطي ويبرز النواحي الشريرة ومكامن حب الجريمة في النفس وممارسة الأفعال الشاذة والتصرفات المشينة. ومن هنا كانت المخدرات تمثل خطرا داهما على الأمم والشعوب والعلاقات الإنسانية والاجتماعية بين الأفراد (2)
__________
(1) المخدرات من القلق إلى الاستعباد، د \ محمد محمود الهواري ص 94، 95.
(2) تعاطي المخدرات في بعض دول مجلس التعاون \ سيف الإسلام بن سعود بن عبد العزيز ص 105، 106.(32/278)
رابعا: الآثار الناجمة عن تعاطي المخدرات على الأفراد صحيا:
يؤدي تعاطي المخدرات إلى عدة أمراض نفسية وعقلية وبدنية للشخص المتعاطي أو المدمن، وتفاصيل تلك الأضرار وما تنطوي عليه من أخطار تهدد كيان البشرية أفرادا ومجتمعات قد تحدث عنها بإسهاب كثير من الباحثين المتخصصين في المجالات الصحية. ولكن نظرة فاحصة في أبحاثهم التي أعدوها وبينوا فيها أخطار المخدرات وما تحويه من نتائج مرعبة كفيلة بمعرفة الخطر الداهم والمستقبل المظلم الذي ينتظر كل من سقط في هوة المخدرات ووقع في شراكها، وقد أجمعت كل الدراسات على أن المخدرات تؤثر في أجهزة البدن من حيث القوة والحيوية والنشاط. ومن حيث المستوى الوظيفي لأعضاء الجسم وحواسه المختلفة وأن التأثير يتفاوت مداه وقوته تبعا لاختلاف المخدرات ودرجة وطريقة تعاطيها مع اشتراكها في بعض خصائص التأثير، وفي إيضاح الآثار الصحية وغيرها للمخدرات يقول الدكتور علي البدري: هناك آثار بعيدة المدى للمخدرات في التدمير والتخريب لعقول مدمنيها وصحتهم النفسية والجسمية؛ إذا سقطوا عبيدا للمسكرات والمخدرات، حيث يفقد المريض عقله ولا يرى لنفسه قدرة على العمل والإنتاج فيترك المدرسة- إن كان طالبا أو مدرسا- ويترك تجارته إن كان تاجرا- ويترك عمله بصفة عامة- إن كان(32/278)
عاملا- ثم ينتابه شعور بأنه مسحور وأن الآخرين يحاربونه بالسحر ويشك في أقرب الناس إليه ويصل به الأمر إلى الشك في أمه التي ولدته وفي أبيه الذي رباه وفي الواقع ما لديه إلا الجنون وهلوسة المخدرات المدمرة الساحقة الماحقة (1) .
كما تؤثر المخدرات تأثيرا ضارا بالغا في الوظائف العقلية لمتعاطيها من حيث الإدراك والتفكر والتذكر والتخيل والقدرة على الابتكار، كما تؤثر على حواس الإنسان وعلى انفعاله الوجداني وعلاقته مع نفسه ومع الآخرين (2) .
ولكن ذاك التأثير يتفاوت مداه وقوته تبعا لاختلاف المخدرات ودرجة وطريقة تعاطيها كما بينا سابقا.
إن الإدمان على المخدرات يؤدي إلى اضطراب الإدراك الحسي واضطراب الشعور والتفكير والوجدان والإحساس بالتعب والجنون- والعياذ بالله- كما يؤثر تأثيرا صحيا ملحوظا على كافة أعضاء الجسم فتتأثر العيون ويتأثر الجدد والأسنان والشعر والجهاز التنفسي والجهاز الهضمي وأمراض ضغط الدم وغيرها وكذا الضعف الجنسي المزمن.
كما تحدث لمدمني الخمور والمخدرات نوبات إغماء متكررة وقرحة المعدة وسرطان المريء وسرطان المعدة والتهاب البنكرياس الدموي الحاد ومرض تشمع الكبد وأمراض القلب والدورة الدموية والتهاب عصب الرئة والمؤدي إلى العمى وأمراض السل الرئوي وأمراض فقر الدم وتشوهات الأجنة في بطون الحوامل المدمنات. كما يسبب الإدمان على المخدرات الإنتان الدموي وهو مرض خطير والأخطر من هذا كله أن المخدرات تعتبر سببا رئيسا في مرض " الإيدز" فقدان المناعة المكتسبة، هذا المرض الذي سبب من الرعب والقلق ما لم يسببه أي مرض آخر منذ قرن من الزمان (3)
__________
(1) سموم المسكرات والمخدرات أحكامها وتدميرها لأمن الشعوب د \ علي البدري ص 68.
(2) المخدرات: أنواعها ومادتها وحكمها، د \ حامد جامع ص 15.
(3) انظر: المخدرات الخطر الداهم، د \ محمد علي البار ص 166.(32/279)
خامسا: الآثار الناجمة عن تعاطي المخدرات على الأفراد اقتصاديا:
إن الإدمان على المخدرات يسبب اضطرابا في النواحي الاقتصادية بدءا من الفرد ثم الأسرة ونهاية بالمجتمع كله.
فالفرد لبنة من لبنات تكوين المجتمع وانخفاض إنتاجية الفرد يؤدي لانخفاض إنتاجية المجتمع، فإذا استسلم الفرد للمخدرات وانغمس فيها:
1 - ضعف أمام مواجهة واقع الحياة، الأمر الذي يؤدي إلى تناقص كفاءته الإنتاجية مما يعوقه عن تنمية مهاراته وقدراته.
2 - شرب المخدرات أو تعاطيها بأي شكل كان ينهك الجسم بوجه عام ويؤثر ذلك في قدرته على العمل أو الدراسة، فيعتريه حينئذ الكسل والخمول فيصبح بالتالي عاجزا عن القيام بكثير من الضروريات مما يجعله سلبيا في معظم أحواله (1) 3 - شرب المخدرات والإدمان عليها يؤدي إلى هبوط إنتاجيته كما وكيفا (2) فلقد اتضح أن أهم الاضطرابات التي تحدث لدى المتعاطي أثناء التخدير وترتبط بهبوط الجانب الكمي من الإنتاج: هي اضطراب إدراك الزمن ويليه في الأهمية اضطراب إدراك الأصوات، ثم اضطراب إدراك الألوان، ثم قلة وضوح الرؤية للأشخاص والأشياء، واضطراب إدراك المسافات واختلال إدراك الحجوم كما أن اضطراب الذاكرة وانخفاض كفاءة التفكر يرتبطان بانخفاض الجانب الكيفي من الإنتاج [جودة الإنتاج] ، (3) 4 - إن الأموال الباهظة التي ينفقها المتعاطي على شراء المخدر تمثل خسارة
__________
(1) تعاطي المخدرات في بعض دول مجلس التعاون الخليجي، سيف الإسلام آل سعود ص102.
(2) تعاطي المخدرات في بعض دول مجلس التعاون الخليجي، سيف الإسلام آل سعود المرجع السابق.
(3) سمير نعيم أحمد: تعاطي المخدرات. . آثارها الاجتماعية والاقتصادية ص 102.(32/280)
كبيرة على نفسه وعلى أسرته ومجتمعه فهو مستعد للتضحية حتى بقوته الضروري الذي يقيم صلبه وهو لا يحسن التصرف في ميزانية منزله وهدفه الوحيد والمفضل هو شراء المخدرات بأي ثمن مهما كانت حاجة الأسرة فهو مستعد كذلك بأن يضحي بقوت أولاده إرضاء لغريزته.
وتمثل المخدرات خسارة على المجتمع أيضا، وتسبب اضطرابا في جميع أجهزته ومؤسساته وكلما زادت ظاهرة استعمال المخدرات ارتفعت معدلات الجرائم الخطيرة مما يقتضي بالضرورة تدعيم أجهزة الرقابة في الدولة وتشجيعهم لمكافآت مالية وغير مالية على القيام بهذا العمل وهذا بالتالي يؤدي إلى مضاعفة الإنفاق المالي للدولة على هؤلاء العاملين في مكافحة المخدرات وهذا لا شك يشكل عبئا اقتصاديا على الدولة.
مما سبقا يتضح أن المخدرات تؤدي إلى فقد الكليات الخمس التي يحرص الإسلام على الحفاظ عليها.
أما الكليات الخمس التي اتفق الفقهاء عليها فهي:
(1) الدين (2) النفس (3) العقل (4) العرض (5) المال.
فسرعان ما يفقد متعاطي المخدرات دينه إذ يقدم على محرم شرعا ويترك الصلاة عمدا ثم تأتي بقية الأركان. وينهدم البناء من أساسه.
وثاني هذه الكليات هو الحفاظ على النفس. ولا شك أن المخدرات تؤدي إلى أضرار جسيمة بالنفس صحيا أوقد أوضحنا آثارها على الصحة، واجتماعيا، حيث الحوادث المروعة التي تؤدي إلى إزهاق الأرواح بسبب هذا الداء الخبيث.
وثالث هذه الكليات: العقل، ووظيفة المخدرات أساسا هي إزالة العقل أو المناطق العليا التي تتحكم في سلوك الإنسان وتعطيه الانضباط.
ورابع هذه الكليات هو العرض، ومدمن المخدرات وضيع المنزلة، فاقد السمعة الطيبة بين قرنائه، ليس له من تقدير الناس واحترامهم وحبهم حظ ولا نصيب.
فضلا عن أنه من الممكن أن يبيع زوجته وابنته وأخته من أجل الحصول(32/281)
على شمة أو حقنة، بل إنه يفقد غيرته مع فقدان عقله منذ اللحظات الأولى.
وأما الكلية الخامسة وهي المال: فالمخدرات تأتي عليها وتأكلها أكلا وكم من أشخاص فقدوا ثرواتهم وأعمالهم بسبب إدمانهم للمخدرات، ثم تحولوا بعد ذلك إلى الإجرام والسرقة واللصوصية من أجل الحصول على المال اللازم لشرائها.
وهكذا تؤدي المخدرات وإدمانها إلى فقدان الكليات الخمس التي يحرص الإسلام أشد الحرص على الحفاظ عليها (1)
__________
(1) المخدرات: الخطر الداهم، د \ محمد علي البار ص159، 160.(32/282)
رابع عشر: طرق الوقاية من المخدرات وعوامل مكافحتها:
ليس هناك من عمل دون هدف أو قصد. والعمل الهادف يحقق نتائج إيجابية فعالة. والوقاية من الإدمان ليست بالمشكلة الاجتماعية السهلة التي يمكن حلها دون وضع مخطط شامل تتضامن فيه الهيئات المسئولة في الدولة حتى لا يفقد العمل قيمته. والوقاية الهادفة من الإدمان على تعاطي المخدرات تتعدد أوجه سياستها وتتمثل فيما يأتي:
1 - التشريعات الوقائية.
2 - التوعية الدينية.
3 - مسئولية البيئة الاجتماعية (الأسرية- الصحية- المجتمع المحلي) .
4 - دور المؤسسات التربوية.
5 - التوعية الإعلامية (1) . سورة آية.
أولا: سن التشريعات الوقائية:
فتصدر المؤسسات الأمنية، والصحية، والهيئات القضائية، في بلد معين تشريعات لحماية أبناء ذلك البلد ومجانبة شبابه مخاطر التردي في السكر والخدر والإدمان.
__________
(1) انظر: الإدمان: أسبابه ومظاهره والوقاية والعلاج(32/282)
فالهيئات الأمنية المسئولة كوزارة الداخلية تضع الضوابط الأمنية التي تكفل عدم خروج الأفراد عن النظم المتبعة في الحظر أو التداول المشروع- للعقاقير المسموح بتداولها- أو الممنوعة منعا باتا من الاستخدام وتتضامن مع هذه الهيئات هيئات أخرى داخل الوطن تقوم بدور المراقبة لحظر دخول المخدرات والعقاقير الممنوعة إلى البلاد كسلاح الحدود، والإدارة العامة لمكافحة المخدرات ومصلحة الجمارك التي تعمل في المطارات والطرق البرية والموانئ الساحلية وغيرها مما يضمن الرقابة التامة على حماية ووقاية المجتمع من انتشار العقاقير المخدرة والمسكرات. وتتعاون هذه الهيئات فيما بينها؛ لتؤدي مهام متعددة منها:
1 - ملاحقة المهربين والتجار والمروجين والقبض عليهم وتقديمهم للمحاكمة وتطهير المجتمع من شرورها.
2 - القبض على المتعاطين لهذه السموم وتطبيق الأنظمة الصادرة في حقهم بحسب كل حالة، ثم تحويلهم إلى المستشفيات المتخصصة لمساعدتهم على التخلص من هذه السموم القاتلة.
3 - استلام البلاغات من الشعب عن أية حالة تعاطي أو تهريب أو تروج والقيام على الفور بما يتطلبه الأمر من إجراءات للقبض على المجرم وتحويله إلى الجهات المختصة بمحاكمته.
4 - مراقبة كافة المواد التجارية الواردة إلى البلد والصادرة عنه.
5 - فرض رقابة شديدة على الأماكن المتوقع وصول المخدرات منها وإليها ومعرفة أماكن تخبئتها والتعرف على كيفية التعامل مع مهربي هذه المواد.
6 - فرض رقابة شديدة على الأماكن التي يرتادها الأحداث ومداهمتها بين حين وآخر ووضع أنظمة لمعاقبة من يضبط منهم وهو يتعاطى المخدرات أو يستنشق الغازات، وكذا مراقبة الأماكن المهجورة مراقبة شديدة ووضع روادها في مؤسسات خاصة لرعايتهم.
والهيئات الوقائية الصحية والمتمثلة في وزارات: الصحة ومؤسسات الرعاية الاجتماعية التي تنشر التحذيرات الوقائية والأضرار المترتبة على تداول وتناول(32/283)
العقاقير المخدرة وتقدم أيضا الرعاية الصحية والاجتماعية للخارجين على اتباع القواعد السلوكية الاجتماعية السليمة في المجتمع، لذا يجب التوسع في فتح مصحات متخصصة لمعالجة مدمني المخدرات من الناحية الجسمية والنفسية وتشجيع المدمنين على مراجعتها بشتى الوسائل، ولا بد من وجود الهيئة الطبية والتمريضية التي لديها المهارة الطبية والتمريضية التي تمكنها من التعامل مع المدمنين.
هذا بالإضافة إلى التشريعات الوقائية الأخرى التي تتكاتف وتتعاون فجها هيئات أخرى داخل المجتمع وخارجه من أجل القضاء على هذه الآفات الخبيثة.(32/284)
ثانيا: التوعية الدينية.
إن تقوية الإيمان في نفس المسلم هي السبيل الأمثل والطريق الأقوم لتحصينه من الوقوع في شرك المخدرات والمسكرات وهي السد المنيع لحمايته من التقليد الأعمى للمدنية الوافدة الزائفة. والتوعية الدينية في المجتمعات الإسلامية تستمد من هدي النبوة وقيم الدين الإسلامي الحنيف، وتقوم على الإقناع بأن الإسلام هو طريق الحياة المستقرة الآمنة والتي لا ضرر فيها ولا ضرار، وتسعى إلى تعميق وإرساء المبادئ الأخلاقية والالتزام بالضوابط السلوكية والنفسية والاجتماعية، وترسم خطى النمو الديني في مراحل العمر وإعداد الفرد المسلم إعدادا متكاملا يتوافق سلوكه مع عقيدة الإسلام وتخضع جميع تصرفاته لقواعد الدين الحنيف.
ويتولى التوعية الدينية فريق متكامل من علماء الشريعة بالتعاون مع علماء النفس والاجتماع والأطباء وغيرهم ممن لهم صلة بهذه المشاكل الاجتماعية والصحية والاقتصادية والاجتماعية.(32/284)
والتوعية الدينية تحتاج إلى إعداد محكم وترتيب مخطط لأهداف مرجوة وعملية، كما يجب ألا تتسم التوعية الدينية بالمبالغة في التخويف والتهديد والوعيد، بل بإثارة كوامن النفس السوية باتباع ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحفز الهمم على تقوى الله وخشيته، واتباع أوامره واجتناب نواهيه والبعد عن المحرمات وتبصير الفرد بنفسه وربه ودينه والقيم والمبادئ الإسلامية والأخلاقية وضبط النفس، واحترام الذات والغير، وكثرة التوبة والاستغفار والاستقامة على الفضيلة والابتعاد عن مهاوي الرذيلة.
كما يجب أن تكون التوعية الدينية ذات طابع عام يتسم بالبساطة حتى يدركها العامة والخاصة.
كما يلزم أن تتسم بالاستمرارية مع مراعاة الأحوال. كما يجب في هذا المجال الارتفاع بمستوى الدعاة والوعاظ وأئمة المساجد وحسن اختيارهم حتى يؤدوا واجبهم في دور العلم والعبادة ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية. كما تتطلب التوعية الدينية لهذا الصنف من الناس فهم الداعية كل ما يتصل بمشكلة الإدمان على المخدرات. كما يجب التوسع في تشجيع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين أفراد المجتمع والذي يعتبر من أبرز خصائص هذه الأمة ومناط خيريتها.
إن تربية الشعور الإيماني لدى أفراد الأمة يعد عنصرا على جانب كبير من الأهمية، لأننا إذا قمنا ببناء المسلم من الداخل، فإننا بذلك نقوم بتحصينه تحصينا قويا ضد كل الشرور وبدون هذا البناء، فإن جميع المحاولات الخارجية قد تؤثر ولكنها غير مضمونة.
كما يجب أن يقوم الدعاة بتحين الفرص واستغلال منابر المساجد ووسائل الإعلام والمحاضرات المدرسية والجامعية للنصح لأبنائهم شباب الإسلام عن طريق الكلمة الطيبة الواعية المستنيرة، ويفضل أن تدعمها الحقائق العلمية حول مضار المخدرات إلى جانب الإرشادات والنصائح الدينية المبينة لعظم جرم تعاطي المخدرات وتهريبها وترويجها على أن تكون نوعية النصح والإرشاد الموجه للشباب تناسب تفكيرهم ومتطلبات العصر ومشاكله.(32/285)
ثالثا: مسئولية البيئة الاجتماعية:
(أ) الأسرة.
(ب) الأصدقاء.
(ب) المجتمع المحلي.
(أ) الأسرة هي الخلية الأولى في المجتمع.
وفي بيئتها، ينشأ الأبناء في أطوار حياتهم الأولى ويتمثلون بآبائهم عن طريق المحاكاة والتقليد، بحيث تتطبع نماذج سلوكهم بدرجة كبيرة بالدور الذي يمارسه كل من الأب والأم معهم. وإذا كانت التنشئة الاجتماعية متكاملة متوافقة مع مبادئ الإسلام وقيمه الأخلاقية وآدابه الرفيعة ومثله العليا، فإن الأبناء يستقون من الخصائص النفسية والعقلية والأخلاقية ما يمكنهم من التوافق الاجتماعي السليم.
وأهم مراحل العمر في التنشئة الاجتماعية هي: الطفولة والمراهقة ودور الأسرة في هذه المظاهر:
(1) الاهتمام بذات الطفل وإمكاناته واستعداداته وقدراته.
(2) إتاحة الفرص أمام الطفل لممارسة الأعمال الهادفة في جو يتسم بالحرية دون الفوضى والمؤازرة دون المخاذلة والحماية دون الإهمال.
ويلاحظ أن الإفراط والمغالاة في تنشئة الصغار يدفعان بالصغير إلى التقيد بالحدود أكثر من اللازم، بل قد يؤدي به الحال إلى الصلابة والجمود، كما أن التراخي في التنشئة يؤدي إلى تجاوز الصغير الحدود والآداب المرعية وعدم مراعاة الحقوق والمشاعر.
كما ينبغي على الأسرة أن تراقب أبناءها مراقبة مستمرة وأن تكون قدوة(32/286)
طيبة لهم في السلوك والأخلاق والقول والفعل وأن تتكفل بحاجات أبنائها الأساسية والضرورية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا وفي حدود إمكاناتها المتاحة. وأخيرا، على الأسرة أن تتساءل بدقة عن الدور الذي تقوم به نحو أبنائها قبل أن تلوم أحدا أو تعلق أخطاءها على غيرها.
(ب) تخير الأصدقاء وجماعة الرفاق:
ثبت من خلال الدراسات والتجارب أن المرء يتكيف سلوكه حسب المجموعة التي تحيط به وأن للصداقات الخاصة أثرا عميقا في توجيه النفس والعقل. ولها نتائج هامة فيما يصيب الإنسان، بل الجماعة كلها من تقدم أو تأخر ومن قلق أو اطمئنان.
وقد عني الإسلام بهذه الصلات التي تربطك بأشخاص يؤثرون فيك ويتأثرون بك ويقتربون من حياتك اقترابا خطيرا لأمد طويل.
إن هذه الصلات إن بدأت ونمت نبيلة باركها الله، وإن كانت رخيصة مهينة ردها في وجوه أصحابها:
{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (1) {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُُونَ} (2)
إن أثر الصديق في صديقه عميق، ومن ثم كان لزاما على المرء أن ينتقي إخوانه وأن يبلو حقائقهم حتى يطمئن إليها ويثق في معدنها!
فإن كانوا قرناء خير يعينونه على أداء الواجب وحفظ الحقوق ويحجزونه عن السوء واقتراف الحرام فهم قدوة حسنة يجب أن يستمسك بهم ويحرص على مودتهم، وإلا فليحذر الانخداع بمن يزينون له طرق الغواية أو يسترسلون معه في أسباب اللغو واللهو.
إن الطبع يسرق من الطبع وما أسرع أن يسير الإنسان في الاتجاه الذي يهواه صاحبه وللعدوى قانونها الذي يسري في الأخلاق كما يسري في الأجسام.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 67
(2) سورة الزخرف الآية 68(32/287)
وقد شوهد أن عدوى السيئات أشد سريانا وأقوى فتكا من عدوى الحسنات (1) ففي أحيان كثيرة تنتقل عدوى التدخين من المصاب بها إلى البريء منها وتنتقل حمى الإدمان على المخدرات من المبتلى بها إلى البعيد عنها ويندر أن يقع العكس لذا أمر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بتخير الجليس فقال: «ومثل الجليس الصالح كمثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه، ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكير إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه (2) » فعلى المسلم أن يتخير الأصحاب وأن ينأى بنفسه على مجالسة أصحاب المعاصي. وعلى الأسرة أن تختار وتشجع أبناءها على الصحبة الخيرة التي تعود عليهم بالخير.
(ج) مسئولية المجتمع في مكافحة هذه الآفات:
المجتمع المحلي يشمل الأسرة والمدرسة والأصدقاء والمساجد ودور الإعلام وهيئات وإدارات الدولة والهيئات الأمنية والصحية والاجتماعية وكلها مؤسسات لها دورها وكيانها ولها أولوياتها في التأثير على الأفراد (3) .
والمجتمع المسلم يمتاز بميزات لا يمكن أن تتوفر في أي مجتمع آخر، ذلك أنه يقيم أساس بنيانه على طاعة الله وطاعة رسوله والانقياد لأمر الله وتحكيم شرعه في الحياة، ثم هو بعد ذلك يتواصى أفراده فيما بينهم بالحق ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والآيات الدالة على هذا الأمر كثيرة والأحاديث النبوية وفيرة في هذا المجال، ومن ذلك:
قال تعالى: {وَالْعَصْرِ} (4) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (5) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6)
وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (7) الآية [110 من سورة آل عمران] .
__________
(1) انظر: خلق المسلم، الشيخ محمد الغزالي ص189.
(2) سنن أبي داود جـ 5 \ 166 حديث رقم 4829.
(3) الإدمان: د \ عبد المجيد سيد أحمد منصور ص288.
(4) سورة العصر الآية 1
(5) سورة العصر الآية 2
(6) سورة العصر الآية 3
(7) سورة آل عمران الآية 110(32/288)
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول له يا هذا اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. ثم قال أي قرأ من القرآن: ثم قال: [يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم،: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم (5) »
فالمجتمع الإسلامي لا يكون مجتمعا إسلاميا حقا حتى يقيم هذه الصفات الطيبة وينفذ هذه الأوامر الإلهية الصريحة. ومجتمع هذا شأنه لا بد أن يقوم بدوره في مقاومة الفساد فلا يقبل أن تنتشر في ربوعه أي نوع من أنواع الخبائث ولا يرضى أن يدخل إلى بيئته من يروجها وينشر الفساد بين أفراده، بل يزدري أصحاب المعاصي ويلفظهم ويحتقرهم ويضيق عليهم الخناق ويسرع بالتبليغ عنهم إلى السلطات المسئولة ليأخذوا جزاءهم ويكونوا عبرة لغيرهم والله من وراء القصد.
__________
(1) سن أبي داود جـ 4 \ 508 حديث رقم 4336.
(2) سورة المائدة الآية 78 (1) {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
(3) سورة المائدة الآية 79 (2) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
(4) سورة المائدة الآية 80 (3) {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ}
(5) سورة المائدة الآية 81 (4) {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}(32/289)
رابعا: دور المؤسسات التربوية في الوقاية من المخدرات ومكافحتها:
تتعدد المؤسسات التربوية ذات الأثر على الأفراد في المجتمع، فبجانب الأسرة والمسجد ودور الإعلام وغيرها فإن المدرسة والجامعة وجميع المؤسسات التعليمية تلعب دورا هاما ولها تأثيرها الفعال في مكافحة المخدرات والوقاية منها. إن المدرسة يمكنها أن تؤدي دورا بارزا بالتعاون مع الأسرة والمجتمع المحلي في معالجة مثل هذه المشاكل الاجتماعية، بل يمكن أن تساهم دور التعليم في علاج ما تعجز الأسرة عن علاجه مثل مشاكل التدخين أو تعاطي المخدرات أو الانحرافات السلوكية الأخرى.
ولكي تقوم بهذا الدور الوقائي يجب:
1 - مراعاة غرس القيم الإسلامية في نفوس الناشئة عن طريق حثهم على أداء الشعائر الدينية.
2 - إضافة المواد الدراسية ذات الصبغة الدينية إلى الجداول المعتمدة في كل عام دراسي وهذا ما تهتم به المملكة العربية السعودية أكثر من غيرها من الدول.
3 - إدماج المعلومات المطلوبة في الثقافة الإسلامية أو المواد العلمية كالكيمياء وغيرها أو الأدب أو الدراسات النفسية بالعقاقير والمواد المخدرة وكيفية انتشارها، بحيث يتواءم مستوى المعلومات مع مستويات النمو والأعمار الزمنية للطلاب.
4 - تدريب المعلمين وتلقينهم الجديد من المعلومات المتصلة بالعقاقير المخدرة وغيرها مما يقبل عليه الطلاب إبان فترات حرجة في حياتهم.
5 - ألا يقتصر دور المدارس على مواجهة هذه المشاكل وعلاجها بين الطلاب فحسب، بل يمكن أن تؤدي المدارس دورها في علاج هذه(32/290)
المشاكل في المجتمعات المحلية التي توجد فيها.
6 - مراقبة الطلاب مراقبة دقيقة حتى يتسنى من خلال ملاحظات المشرفين الاجتماعيين معالجة ما قد يبدر من أحدهم من ممارسات أخلاقية شاذة قد يكون من بينها تزويد زملائه ببعض أنواع المخدرات.
7 - إجراء بحوث على أسر المدمنين على تعاطي المخدرات ومحاولة انتشال الطلاب أو إبعادهم قدر الإمكان عن المشاكل الأسرية.(32/291)
خامسا: التوعية الإعلامية ودور وسائل الإعلام في مكافحة المخدرات والوقاية منها:
تقوم التوعية الإعلامية الهادفة بدور هام في نشر المعلومات ذات الأهمية في علاج المشاكل الحيوية الاجتماعية.
وقد استخدمت وسائل الإعلام المتعددة من صحافة وكتب ومجلات وإذاعة وبث تليفزيوني منذ أمد بعيد في تقديم المعارف والمعلومات ذات الصلة بالمسكرات والمخدرات والعقاقير المخدرة بقصد إبراز نفور المجتمع من وجود هذه المشاكل الاجتماعية وإبراز أضرارها وأعراضها وتثقيف العامة والخاصة من تعاطيها والإدمان عليها لهذا:
لا بد أن يكون لوسائل الإعلام مكانة رئيسية في حملات مكافحة المخدرات والوقاية منها، فمن الممكن:
1 - القيام بحملة دعائية بطريقة جذابة لنشر الوعي حول مخاطر المخدرات وآثارها السلبية على الفرد والمجتمع.
2 - تناول هذه المشكلة بشيء من المناقشة والتحليل الدقيق الذي يبين أضرار المخدرات وإبراز الطرق التي تساعد الأفراد على التخلص منها ويمكن(32/291)
أن يكون هذا عن طريق ندوات مرئية أو مسلسل هادف أو محاضرات دينية إذاعية وتليفزيونية أو مقالات علمية عبر الصحافة على أن تكون المعلومات الموجهة جديرة بالتصديق والثقة من قبل الأفراد الذين توجه إليهم.
3 - كذلك يجب فرض رقابة صارمة على الأفلام والمسلسلات الرديئة عربية أو أجنبية والتي يمكن أن يستشف منها أن تعرض لأمور الفجور والدعارة وممارسة الحب المكشوف أو تعاطي المخدرات والخمور بصورة شيقة ومغرية ومضللة للكثيرين من متابعيها.
4 - يجب تحديد الأهداف والوسائل ونوعية البرامج بحيث تعرض بصورة علمية ومخططة ومستنيرة على أن يلاحظ التوقيت الملائم وتوفير الجو والمناخ الملائم واختيار نوعية التخاطب وطريقة جاذبيتها.
والله نسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه والحمد لله أولا وآخرا.(32/292)
فهرس المصادر والمراجع
مسلسل ... اسم الكتاب ... اسم المؤلف ... الطبعة والناشر
1 ... الإدمان - أسبابه - مظاهره - الوقاية منه - العلاج ... د- عبد المجيد سيد منصور ... مكتبة الطالب الجامعي بمكة المكرمة
2 ... أضرار المخدرات وحوار مع حشاش ... عمران عبد الكريم ... مطابع السلام العالمية \ بالقاهرة
3 ... بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار ... الشيخ عبد الرحمن السعدي ... ط الثانية 1389 هـ \ 1969 م
4 ... التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي ... عبد القادر عودة ... ط دار الكتاب العربي \ لبنان
5 ... تعاطي المخدرات في بعض دول مجلس التعاون ... سمو الأمير سيف الإسلام ابن سعود آل سعود ... ط 1408 هـ \ 1409هـ
6 ... تنوير الحوالك شرح موطأ مالك ... الحافظ السيوطي ... ط دار إحياء الكتب العربية بمصر
7 ... تهذيب الأسماء واللغات ... لأبي زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي ... دار الكتب العلمية بيروت لبنان
8 ... تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ... الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي ... ط ونشر الرئاسة العامة للإفتاء بالسعودية
9 ... جامع الأصول في أحاديث الرسول ... ابن الأثير الجزري تحقيق عبد القادر الأرناؤوط ... ط 1392 هـ \ 1972 م
10 ... الجامع لأحكام القرآن ... القرطبي ... ط ونشر دار الكاتب العربي بمصر
11 ... حاشية ابن عابدين على الدر المختار ... ابن عابدين ... دار الفكر العربي ط ثانية 1386 هـ
12 ... خلق المسلم ... الشيخ محمد الغزالي ... مطابع قطر الوطنية ط التاسعة 1394 هـ
13 ... الخمر بين الطب والفقه ... د \ محمد علي البار ... نشر مكتبة الرياض الحديثة
14 ... رسائل ابن عابدين ... ابن عابدين ... ليس على الكتاب مكان أو زمان طبعه
15 ... زاد المعاد في هدي خير العباد ... ابن قيم الجوزية ... ط الأولى 1407 هـ مؤسسة الرسالة - لبنان
16 ... الزواجر عن اقتراف الكبائر ... ابن حجر الهيثمي ... دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت \ لبنان
17 ... سلسلة الأحاديث الصحيحة ... محمد ناصر الدين الألباني ... ط المكتب الإسلامي \ دمشق
18 ... سلسلة منشورات الإدارة العامة لمكافحة المخدرات ... مركز أبحاث مكافحة الجريمة ... ط وزارة الداخلية 1405هـ \ 1985 م
19 ... سموم المسكرات والمخدرات ... الإدارة العامة لمكافحة المخدرات ... ط وزارة الداخلية نشر مكتبة الطالب الجامعي بمكة المكرمة
20 ... سنن أبي داود ... الإمام الحافظ أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد ... ط دار الحديث بسوريا
21 ... السنن الكبرى ... أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي ... دار المعرفة للطباعة والنشر \ لبنان
22 ... السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ... شيخ الإسلام ابن تيمية ... رحمه الله دار الكتاب العربي بيروت \ لبنان
23 ... شرح صحيح مسلم ... أبو زكريا يحيى بن شرف النووي ... ط الثالثة دار الفكر \ لبنان
24 ... شرح الطحاوية في العقيدة السلفية ... علي بن أبي العز الحنفي تحقيق أحمد شاكر ... المطابع الأهلية للأوفست 1396 هـ
25 ... صحيح مسلم ... أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ... نشر وتوزيع الرئاسة العامة للإفتاء ط 1400 هـ \ 1980 م
26 ... صور من سماحة الإسلام ... د \ عبد العزيز الربيعة ... مؤسسة الرسالة \ لبنان ط الثانية 1399 هـ
27 ... نظرية الضرورة الشرعية مقارنة بالقانون الوضعي ... د \ وهبة الزحيلي ... مؤسسة الرسالة \ لبنان لعام 1402هـ
28 ... عمدة القاري شرح صحيح البخاري ... البدر العيني ... ط دار الفكر \ لبنان
29 ... عون المعبود بشرح سنن أبي داود ... محمد شمس الحق العظيم آبادي ... مطابع المعرفة بمصر \ الثانية لعام 1388 هـ.
30 ... فتاوى ورسائل ... سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ جمع وترتيب محمد بن عبد الرحمن بن قاسم ... ط الأولى 1399 هـ
31 ... فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ... محمد بن علي الشوكاني ... مطابع الحلبي بمصر سنة 1383 هـ الثانية
32 ... الفقه الإسلامي وأدلته ... د \ وهبة الزحيلي ... ط دار الفكر للطباعة والنشر
33 ... فتح الباري بشرح صحيح البخاري ... أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ... المطبعة السلفية بمصر
34 ... فتوى في حكم شرب الدخان ... الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ... مطابع السفراء للأوفست \ السعودية
35 ... قواعد الأحكام في مصالح الأنام ... عز الدين ابن عبد السلام ... دار الشرق للطباعة 1388 هـ
36 ... القواعد الفقهية ... لأبي الحسن الندوي ... ط دار القلم \ دمشق
37 ... القواعد والأصول الجامعة ... الشيخ عبد الرحمن بن سعدي ... ط المدني بالقاهرة 1375 هـ
38 ... كتاب الأشربة ... الإمام أحمد بن حنبل ... مطابع السلام بالقاهرة
39 ... الكبائر ... شمس الدين الذهبي ... مطابع بيروت 1985 م
40 ... الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار ... ابن أبي شيبة ... ط الثانية 1399 هـ
41 ... كشاف القناع عن متن الإقناع ... منصور بن يونس البهوتي ... ط الأولى 1394 هـ
42 ... كفاية الطالب الرباني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني مع حاشية العدوي عليه ... . ... .
43 ... لسان العرب المحيط ... لابن منظور، تحقيق يوسف خياط ... دار لسان العرب \ لبنان
44 ... مجلد بحوث الندوة الشاملة لدراسة الأمر السامي الخاص بتوقيع عقوبة الإعدام على مهربي المخدرات ... الرئاسة العامة لرعاية الشباب بالرياض ... الإدارة العامة لمكافحة الجريمة بوزارة الداخلية والرئاسة العامة لرعاية الشباب بالرياض
45 ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ... جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم ... نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العليمة
46 ... المجموع شرح المهذب ... للنووي والمطيعي والعقبي ... مطابع الإمام بمصر ونشر زكريا يوسف 1407 هـ
47 ... المخدرات. . آثارها السلبية وسبل مواجهتها ... محمد شوكت محمد ... مطابع الشرق الأوسط \ بالرياض 1407 هـ
48 ... المخدرات بين الطب والفقه ... د. أحمد طه علي ريان ... دار الاعتصام بالقاهرة 1407 هـ
49 ... المخدرات الخطر الداهم ... د \ محمد علي البار ... ط دار القلم بدمشق الطبعة الأولى 1408 هـ
50 ... المخدرات الخطر والمقاومة ... وزارة الإعلام \ الشئون الإعلامية ... مطابع أطلس للأوفست
51 ... المخدرات - أنواعها ... الإدارة العامة لمكافحة المخدرات ... وزارة الداخلية السعودية
52 ... المخدرات من القلق إلى الاستعباد ... د \ محمد محمود الهواري ... .
53 ... المخدرات والمؤثرات العقلية ... ياسين حسين شاهين ... مطابع العبيكان بالرياض
54 ... المخدرات والعقاقير المخدرة ... مركز أبحاث مكافحة الجريمة ... ط مركز أبحاث مكافحة الجريمة 1405 هـ
55 ... المستدرك على الصحيحين ... الحافظ النيسابوري الحاكم ... ط دار الكتاب العربي \ لبنان
56 ... المسكرات والمخدرات بين الشريعة والقانون ... المستشار عزت عطية ... الأولى 1404 هـ \ 1984 م
57 ... مسند الإمام أحمد ... فهرسة الألباني ... المكتب الإسلامي \ دمشق
58 ... مسند الحميدي ... الحميدي ... دار الكتب العلمية بيروت \ لبنان
59 ... المصنف ... الحافظ عبد الرازق الصنعاني ... ط الأولى 1392 هـ المجلس العلمي
60 ... المغني في فقه الإمام أحمد ... ابن قدامة المقدسي الحنبلي ... نشر وتوزيع مكتبة الرياض الحديثة ط 1401 هـ
61 ... الموسوعة الفقهية ... وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت ... ط وزارة الأوقاف \ الكويت
62 ... مواهب الجليل شرح مختصر خليل ... . ... .
63 ... المهذب في الفقه الشافعي ... أبو إسحاق الشيرازي ... مطابع الحلبي وشركاه بمصر. 1407 هـ \ 1987 م
64 ... ندوة عن أخطار المخدرات على الشباب ... الإدارة العامة لمكافحة المخدرات ... .
65 ... النية وأثرها في الأحكام الشرعية ... د \ صالح الغانم السدلان ... ط الفرزدق التجارية عام 1402 هـ
66 ... الوسيط في أصول الفقه ... د \ وهبة الزحيلي ... ط. جامعة دمشق عام 1385 هـ \ 1965 م(32/293)
صفحة فارغة(32/298)
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وتحقيق القول فيه
تحقيق: د \ عبد العزيز بن أحمد الجاسم.
اسمه ونسبه: هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم السهمي القرشي (1) .
كنيته: يكنى أبا إبراهيم على الصحيح (2) ويقال: أبو عبد الله (3) .
تحديد طبقته:
لقد سمع من الربيع بنت معوذ وزينب بنت أبي سلمة ولهما صحبة (4) .
وقد رأى ابن عمر وابن عباس كما صحح ذلك الحاكم وأقره الذهبي (5) .
فعلى هذا يكون من التابعين الصغار. توفي سنة 118 هـ.
أما من قال: إنه من أتباع التابعين كأبي بكر النقاش والنووي فغير صحيح (6) .
__________
(1) طبقات ابن سعد: 5 \ 243.
(2) العلل ومعرفة الرجال للإمام أحمد: 1 \ 113.
(3) الميزان للذهبي: 3 \ 263 وتهذيب التهذيب لابن حجر: 6 \ 48.
(4) التهذيب: 8 \ 51 وانظر تجريد أسماء الصحابة للذهبي: 2 \ 267 و272 وسير أعلام النبلاء 5 \ 165.
(5) انظر المستدرك على الصحيحين مع تلخيصه: 2 \ 65 وسير أعلام النبلاء: 5 \ 176.
(6) انظر التهذيب: 8 \ 50 وما بعد وتهذيب الأسماء واللغات: 2 \ 28.(32/299)
أقوال الأئمة فيه جرحا وتعديلا:
سأذكر أولا من جرحه من العلماء من غير أن أعقب على أقوالهم، ثم أذكر أقوال المعدلين له، ثم أذكر القول الراجح فيه، معقبا على أقوال مجرحيه.
أولا: الأئمة الذين جرحوه:
قال يحيى القطان: حديث عمرو بن شعيب واه عندنا (1) .
وقال أبو داود السجستاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أصحاب الحديث إذا شاءوا احتجوا بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وإذا شاءوا تركوه (2) .
وقال الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: له أشياء مناكير، وإنما يكتب حديثه يعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا (3) .
وقال الأثرم عن أحمد: أنا أكتب حديثه، وربما احتججنا به، وربما وجس في القلب منه شيء، ومالك يروي عن رجل عنه (4) .
وممن جرحه علي بن المديني.
قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سألت عليا عن عمرو بن شعيب فقال: ما روى عنه أيوب وابن جريج فذلك كله صحيح، وما روى عمرو عن أبيه عن جده، فذلك كتاب وجده، فهو ضعيف (5) .
قلت: سيأتي الكلام مفصلا على صحيفته إن شاء الله.
وقال أبو عبيد الآجري: قيل لأبي داود: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حجة؟ قال: لا! ولا نصف حجة (6) .
__________
(1) الكامل لابن عدي: 5 \ 1766 والتهذيب: 8 \ 49.
(2) الكامل لابن عدي: 5 \ 1766 والميزان: 3 \ 264.
(3) التهذيب: 8 \ 49.
(4) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 6 \ 238.
(5) سؤلات ابن أبي شيبة لابن المديني صفحة: 104.
(6) الميزان: 3 \ 264.(32/300)
وقال مغيرة بن مقسم:
ما يسرني أن صحيفة عبد الله بن عمرو عندي بتمرتين أو بفلسين (1) .
وممن جرحه أيضا أيوب السختياني، قال: كنت إذا أتيت عمرو بن شعيب، غطيت رأسي حياء من الناس (2) . وجرحه أيضا سفيان بن عيينة قال: حديثه عند الناس فيه شيء (3) .
أما يحيى بن معين فقد اختلفت الروايات عنه، والصحيح أن عمرا عنده ثقة، إلا إن روى عن أبيه عن جده فضعيف.
وممن ضعف حديثه عن أبيه عن جده ابن حبان وابن عدي، وسيأتي قولهما والكلام على حديثه عن أبيه عن جده إن شاء الله تعالى.
ومن الذين جرحوه أبو حاتم، قال عبد الرحمن: سألت أبي عن عمرو بن شعيب فقال: ليس بقوي، يكتب حديثه، وما روى عنه الثقات فيذاكر به (4) .
__________
(1) الكامل: 5 \ 1767 والميزان: 3 \ 266.
(2) الكامل: 5 \ 1766 والميزان: 3 \ 267.
(3) التهذيب: 8 \ 49.
(4) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 6 \ 239.(32/301)
ثانيا: الأئمة الذين وثقوه:
أما الذين عدلوه فكثيرون، منهم إسحاق بن راهويه قال:
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، كأيوب عن نافع عن ابن عمر (1) . فهو يريد بهذا التشبيه أنه ثقة وحديثه حجة، كما أن أيوب ثقة وحديثه عن نافع حجة باتفاق العلماء، فكذلك عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
وقال يحيى بن معين: ثقة (2) .
قال صدقة بن الفضل: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: إذا روى عنه
__________
(1) الكامل: 5 \ 1766 والمستدرك على الصحيحين: 1 \ 197 و 500 والميزان: 3 \ 264.
(2) الجرح والتعديل: 6 \ 239 وثقات ابن شاهين صفحة: 151 والمستدرك على الصحيحين: 1 \ 197.(32/301)
الثقات فهو ثقة يحتج به (1) .
قلت: هذا يعارض قوله الذي مر بنا من كونه ضعيفا، وسيأتي التوفيق بين قوليه إن شاء الله.
ووثقه أيضا صالح جزرة (2) .
والعجلي قال عنه: ثقة (3) .
وقال علي بن المديني: وعمرو بن شعيب عندنا ثقة، وكتابه صحيح (4) .
قلت: مر بنا أن ابن المديني يضعف حديثه عن أبيه عن جده أي صحيفته، وهنا صحح ذلك، فلعل له رأيين في ذلك.
قال ابن أبي حاتم: سألت أبا زرعة عن عمرو بن شعيب فقال: روى عنه الثقات، مثل: أيوب السختياني وأبي حازم والزهري والحكم بن عتيبة، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه عن جده.
وقال أي أبو زرعة: إنما سمع أحاديث يسيرة وأخذ صحيفة، كانت عنده فرواها.
وقال أيضا: ما أقل ما نصيب عنه مما روى عن غير أبيه عن جده من المنكر، وعامة هذه المناكير الذي يروى عن عمرو بن شعيب، إنما هي عن المثنى بن الصباح وابن لهيعة والضعفاء (5) .
وسئل أبو زرعة عنه فقال: مكي كأنه ثقة في نفسه، إنما تكلم فيه بسبب كتاب عنده (6) .
قال الحاكم النيسابوري: لا أعلم خلافا في عدالة عمرو بن شعيب، وإنما اختلفوا في سماع أبيه من جده (7) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء: 5 \ 166 والتهذيب: 8 \ 48.
(2) الميزان: 3 \ 263.
(3) ثقات العجلي صفحة: 365.
(4) التهذيب: 8 \ 55.
(5) الجرح والتعديل: 6 \ 239.
(6) الجرح والتعديل: 6 \ 239.
(7) المستدرك على الصحيحين: 2 \ 47.(32/302)
وقال ابن حبان: إذا روى عمرو بن شعيب عن طاوس وابن المسيب عن الثقات عن أبيه، فهو ثقة، يجوز الاحتجاج بما روى عن هؤلاء (1) .
وقال ابن عدي:
وعمرو بن شعيب في نفسه ثقة، إلا أنه إذا روى عن أبيه عن جده (2) . . .
قال الزيلعي:
وأكثر الناس يحتج بحديث عمرو بن شعيب، إذا كان الراوي عنه ثقة، وأما إذا كان الراوي عنه، مثل: المثنى بن الصباح، أو ابن لهيعة، وأمثالهما، فلا يكون حجة.
أما حديثه عن أبيه عن جده، فقد تكلم فيه من جهة أنه كان يحدث من صحيفة جده، قالوا: وإنما روى أحاديث يسيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها (3) .
ومن الذين وثقوه الإمام الناقد الذهبي، إذ ذكره في كتابه "من تكلم فيه وهو ثقة".
قال رحمه الله: صدوق في نفسه، لا يظهر تضعيفه بحال، وحديثه قوي، لكن لم يخرجا له في الصحيحين فأجادا (4) .
وقال عنه في العبر:
تابعي، وثقه يحيى بن معين وابن راهويه، وهو حسن الحديث (5) .
وقال أيضا: ولسنا نقول: إن حديثه من أعلى أقسام الصحيح، بل هو من قبيل الحسن (6) .
وقال في المغني: عمرو بن شعيب مختلف فيه، وحديثه حسن، وفوق
__________
(1) المجروحين: 2 \ 72.
(2) الكامل: 5 \ 1767.
(3) نصب الراية: 1 \ 58 وما بعد.
(4) صفحة 145.
(5) العبر: 1 \ 148.
(6) ميزان الاعتدال: 3 \ 268.(32/303)
الحسن (1) .
قلت: أي حسن لذاته.
وقال أيضا: احتج به أرباب السنن الأربعة وابن خزيمة وابن حبان في بعض الصور والحاكم (2) .
وحسن حديثه أيضا الحافظ ابن حجر في التقريب (3) .
أما في الفتح فقد أطلق عليه لفظ "ثقة" وذلك بعد أن ذكر حديثا من طريقه، قال عقبه: ورجاله ثقات (4) .
__________
(1) المغني في الضعفاء: 2 \ 484.
(2) سير أعلام النبلاء 5 \ 167.
(3) انظر التقريب: صفحة 423.
(4) فتح الباري: 1 \ 67.(32/304)
ثالثا: القول الراجح فيه:
مر بنا أقوال مجرحيه، ولنستعرض الآن تلك الأقوال، لكي نرى مدى تأثيرها فيه.
فقول يحيى القطان: حديث عمرو واه عندنا، يريد به أن حديثه عن أبيه عن جده ضعيف فقط، بدليل توثيقه له، كما مر بنا قريبا.
أما قول الإمام أحمد: " أصحاب الحديث إذا شاءوا احتجوا بعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وإذا شاءوا تركوه "فمراده بذلك كما قال الإمام الذهبي: لترددهم في شأنه (1) .
لأن العلماء اختلفوا في حديثه عن أبيه عن جده، هل هو متصل أو منقطع، وسيأتي الكلام- إن شاء الله- على هذه النقطة.
وأما قوله: "له أشياء مناكير، وإنما يكتب حديثه يعتبر به، فأما أن يكون حجة فلا".
__________
(1) الميزان: 3 \ 264.(32/304)
فقد بين لنا أبو زرعة رحمه الله أن هذه المناكير جاءت ممن روى عنه من الضعفاء وليست منه، كما مر بنا قوله فيمن وثقه، فعلى هذا لا داعي أن نجعله صاحب المناكير، ما دام هناك من هو أولى منه بها. علما أن الإمام الذهبي حمل الثقات الذين رووا عنه، بعض المناكير أيضا.
قال رحمه الله: ويأتي الثقات عنه أيضا بما ينكر (1) .
قلت: وبسبب هذه المناكير نزل حديثه من رتبة الصحيح إلى الحسن. ومعنى قوله: "فأما أن يكون حجة فلا".
أي إذا كان هناك سند أقوى منه يعارضه، فإنه في هذه الحالة لا يقوى على المعارضة، لأنه لا يساويه في القوة، بدليل أنه أي الإمام أحمد يحتج بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، إذا لم يكن في الباب غيره، نقل ذلك عنه ابن المنذر (2) .
أما قوله: "وربما وجس في القلب منه شيء " فلعله يريد أن عمرا يروي هذا وجادة، والوجادة تعتبر من المنقطع، أو أن روايته عن أبيه عن جده، منقطعة، لأن بعض العلماء يقول: المراد بجده " محمد " إذا كان كذلك فهو منقطع، وسيأتي تفصيل على هذه النقطة.
وأما تضعيف ابن المديني لعمرو فهو خاص فيما إذا روى عن أبيه عن جده، لأنه اعتبر ذلك وجادة، والوجادة من المنقطع، ولا يريد أن عمرا ضعيف في نفسه، بدليل أنه صحح حديثه إن روى عنه أيوب وابن جرير وغيرهما من الثقات، ومر بنا أيضا أن له رأيا آخر في كتابه وهو تصحيحه له.
وأما تضعيف أبي داود ومغيرة بن مقسم وغيرهما من الأئمة فهو خاص بحديثه: عن أبيه عن جده فقط، كما هو واضح من كلامهم، أما عمرو فهو ثقة عندهم. وأما جرح أيوب السختياني له فهو جرح مجمل غير مفسر، فلا يثبت بمثله جرح راو قد وثقه غير واحد من الأئمة.
__________
(1) سير أعلام النبلاء: 5 \ 169.
(2) انظر توضيح الأفكار: 1 \ 197.(32/305)
وأما قول أبي حاتم: "ليس بقوي، يكتب حديثه، وما روى عنه الثقات فيذكر به. . ".
قلت: هذا رأيه رحمه الله، والرأي الراجح فيه أنه ثقة، وهو رأي أكثر العلماء.
قال الإمام الترمذي: ومن ضعفه، فإنما ضعفه من قبل أنه يحدث من صحيفة جده عبد الله (1) .
وقال الحافظ ابن حجر:
عمرو بن شعيب ضعفه ناس مطلقا، ووثقه الجمهور، وضعف بعضهم روايته عن أبيه عن جده حسب.
ومن ضعفه مطلقا فمحمول على روايته: عن أبيه عن جده (2) .
قلت: وذلك من أجل احتمال الانقطاع أو الإرسال أو كونه صحيفة.
__________
(1) جامع الترمذي 3 \ 33
(2) التهذيب 8 \ 51.(32/306)
إلى من يعود الضمير في قوله: عن أبيه عن جده:
الضمير المتصل في "أبيه" يعود إلى شعيب، بلا خلاف بين العلماء. أما الضمير المتصل في "جده" فقد اختلف العلماء فيه إلى من يعود.
1 - الذين قالوا بانقطاعه:
ذهب ابن حبان أن عمرا إذا روى عن أبيه عن جده فهو منقطع، لا يحتج به.
قال رحمه الله: وإذا روى عن أبيه عن جده، ففيه مناكير كثيرة، لا يجوز الاحتجاج عندي بشيء رواه عن أبيه عن جده، لأن هذا الإسناد لا يخلو من أن يكون مرسلا أو منقطعا، لأنه: عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، فإذا روى عن أبيه، فأبوه شعيب، وإذا روى عن جده، وأراد: عبد الله بن عمرو، جد شعيب، فإن شعيبا لم يلق عبد الله بن عمرو، والخبر بنقله هذا منقطع.(32/306)
وإن أراد بقوله: عن جده: جده الأدنى فهو: محمد بن عبد الله بن عمرو، ومحمد بن عبد الله لا صحبة له، فالخبر بهذا النقل يكون مرسلا أو منقطعا، والمرسل والمنقطع من الأخبار لا يقوم بها حجة (1) .
وممن جعله منقطعا أيضا الإمام أحمد كما نقل ذلك ابن عدي.
قال رحمه الله: وعمرو بن شعيب في نفسه ثقة إلا إذا روى عن أبيه عن جده، على ما نسبه أحمد بن حنبل يكون ما يرويه، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، لأن جده عنده هو: محمد بن عبد الله بن عمرو، ومحمد ليس له صحبة.
وقد روى عن عمرو بن شعيب أئمة الناس وثقاتهم، وجماعة من الضعفاء، إلا أن أحاديثه عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، اجتنبه الناس مع احتمالهم إياه، ولم يدخلوه في صحاح ما خرجوه، وقالوا: هي صحيفة (2) . ومر بنا بعض أقوال الأئمة الذين وثقوه وقبلوا حديثه إلا إذا روى عن أبيه عن جده، فكانوا يجتنبون حديثه.
2 - الذين قالوا باتصاله:
قلت: الضمير في "جده " يعود على " شعيب " على الصحيح الراجح، وجد شعيب هو الصحابي الجليل: عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وقد ثبت بأسانيد صحيحة، أنه قد سمع من جده، كما قال بذلك الأئمة فمن الذين أثبتوا سماعه: علي بن المديني رحمه الله (3) .
وأحمد بن صالح قال: عمرو بن شعيب سمع من أبيه عن جده، وكله سماع، وعمرو بن شعيب ثبت، وأحاديثه تقوم مقام الثبت (4) .
وممن أثبت سماعه الإمام أحمد بن حنبل.
__________
(1) المجروحين: 2 \ 72.
(2) الكامل لابن عدي: 2 \ 1767 وما بعد.
(3) التهذيب 8 \ 54.
(4) ثقات ابن شاهين صفحة: 152.(32/307)
قال محمد بن علي الوراق: قلت لأحمد بن حنبل: عمرو بن شعيب سمع من أبيه شيئا؟ قال: يقول: حدثني أبي.
قال: قلت: فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو؟ قال: نعم، أراه قد سمع منه (1) .
قلت: أما ما نسبه ابن عدي إلى الإمام أحمد من أنه قال بانقطاعه فقد تكون رواية له والله أعلم.
وقال أبو بكر النيسابوري: وقد صح سماع عمرو بن شعيب عن أبيه شعيب، وصح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو (2) .
وأثبت سماعه أيضا أبو عبد الله الحاكم (3) .
والحافظ العلائي قال:
الخلاف فيه مشهور، هل حديثه مرسل أم لا؟ والأصح أنه- أي شعيب - سمع من جده عبد الله بن عمرو، ومن ابن عمر، وابن عباس، والضمير المتصل بجده في قولهم: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عائد إلى شعيب، لا إلى عمرو، وقد بينت ذلك وبسطت الكلام عليه، في غير هذا الكتاب، ومحمد والد شعيب، مات في حياة أبيه عبد الله بن عمرو، وشعيب صغير، فكفله جده، وسمع منه كثيرا (4) . ومن الذين أكدوا سماعه الإمام الذهبي.
قال رحمه الله:
الرجل لا يعني بجده إلا جده الأعلى عبد الله رضي الله عنه، وقد جاء كذلك مصرحا به في غير حديث، يقول: عن جده عبد الله، فهذا ليس بمرسل، وقد ثبت سماع شعيب والده، من جده عبد الله بن عمرو، ومن معاوية وابن عباس
__________
(1) سنن الدارقطني: جزء3 \ 50.
(2) سنن الدارقطني: جزء3 ص 50.
(3) المستدرك على الصحيحين: 2 \ 65.
(4) جامع التحصيل في أحكام المراسيل صفحة: 238.(32/308)
وابن عمر وغيرهم، وما علمنا بشعيب بأسا، ربي في حجر جده عبد الله، وسمع منه، وسافر معه، ولعله ولد في خلافة علي رضي الله عنه، أو قبل ذلك، ثم لم نجد صريحا لعمرو بن شعيب عن جده: محمد بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن ورد نحو من عشرة أحاديث، هيئتها عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن عبد الله بن عمرو.
وبعضها: عن عمرو عن أبيه، عن جده عبد الله، وما أدري هل حفظ شعيب شيئا من أبيه أم لا؟ وأنا عارف بأنه لازم جده، وسمع منه (1) . فهذا إمام الفن بلا منازع قد أثبت سماع شعيب من جده عبد الله، لكن ليس كل حديثه.
فعلى هذا يكون ما سمعه من جده متصلا، ليس فيه إرسال أو انقطاع. قال الحافظ ابن حجر: وأما رواية أبيه عن جده، فإنما يعني بها الجد الأعلى عبد الله بن عمرو، لا محمد بن عبد الله، وقد صرح شعيب بسماعه من عبد الله، في أماكن وصح سماعه منه (2) .
أما ابن القطان فقد جعل احتمالين في عود الضمير في "جده" إذا قال- كما في نصب الراية-.
إنما ردت أحاديث " عمرو بن شعيب " لأن "الهاء" من جده، يحتمل أن تعود على " عمرو ". فيكون الجد محمدا، فيكون الخبر مرسلا. أو تعود على " شعيب ". فيكون الجد " عبد الله " فيكون الحديث مسندا متصلا، لأن شعيبا سمع من جده عبد الله بن عمرو. فإذا كان الأمر كذلك فليس لأحد أن يفسر الجد بأنه عبد الله بن عمرو إلا بحجة.
وقد يوجد في بعض الأحاديث: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله، فيرتفع النزاع. وقد يوجد بتكرار: عن أبيه، فيرتفع النزاع أيضا (3) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء: 5 \ 173.
(2) التهذيب: 8 \ 51.
(3) لأن أبا شعيب محمد وحينئذ يكون مرسلا.(32/309)
ومن الأحاديث ما يكون من رواية عمرو بن شعيب، عن غير أبيه، وهي صحيحة (1) . فعلى هذا يكون السند منقطعا أو مرسلا على رأي ابن القطان إن روى: عن أبيه عن جده، إلا إن صرح بجده عبد الله فهو متصل.
لكن الإمام الذهبي جعله متصلا مقبولا ولو لم يصرح باسم جده عبد الله. قال- بعد أن ساق عدة أحاديث جاء فيها التصريح باسم جده عبد الله -: وعندي عدة أحاديث سوى ما مر يقول: عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، فالمطلق محمول على المقيد المفسر - بعبد الله، والله أعلم (2) .
قلت: لكن يبقى احتمال أنه أخذ بعض الأحاديث وجادة، وخاصة الأحاديث التي لم يصرح فيها - وقد قال غير واحد من العلماء بأن هذه الأحاديث صحيفة.
قال الحافظ ابن حجر: فأما روايته عن أبيه، فربما دلس ما في الصحيفة بلفظ "عن" فإذا قال حدثني أبي فلا ريب في صحتها (3) .
__________
(1) نصب الراية: 4 \ 18 وما بعد.
(2) سير أعلام البلاء: 5 \ 173.
(3) التهذيب: 8 \ 51.(32/310)
منزلة حديثه عند العلماء:
لقد صحح حديثه غير واحد من العلماء وقبلوه على سبيل الاحتجاج به في الأحكام الشرعية.
فمن الذين نصوا على قبوله ونقلوا الاحتجاج به عن الأئمة، الإمام الترمذي.
قال رحمه الله: وأما أكثر أهل الحديث فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب فيثبتونه، منهم أحمد وإسحاق وغيرهما (1) .
والحافظ الدارقطني قال رحمه الله: ولم يترك حديثه أحد من الأئمة (2) .
والحافظ ابن عبد البر قال رحمه الله بعد حديث مالك: إنه بلغه أن رسول
__________
(1) جامع الترمذي: 3 \ 33.
(2) سير أعلام البلاء: 5 \ 176.(32/310)
الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن بيع وسلف (1) » : هذا الحديث معروف مشهور من حديث، عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح لا يختلف أهل العلم في قبوله والعمل به. . وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، مقبول عند أكثر أهل العلم (2) .
ومن هؤلاء الإمام النووي، قال رحمه الله: إن الصحيح المختار صحة الاحتجاج به، عن أبيه، عن جده، كما قاله الأكثرون. كما سبق، فاختار في المهذب هذا المذهب المختار، والله أعلم (3) .
ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، قال رحمه الله: وأما أئمة الإسلام وجمهور العلماء فيحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، إذا صح النقل إليه، مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة ونحوهما، ومثل الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهم (4) .
وتلميذه ابن القيم، قال رحمه الله: فإن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، لا يعرف من أئمة الإسلام، إلا من احتج به، وبنى عليه، وإن خالفه في بعض المواضع (5) .
لكن الواقع أن حديثه فيه المقبول وفيه المردود، وقد بين الإمام الذهبي حقيقة حديثه.
قال رحمه الله: فأما المناكير في حديثه إذا كانت في روايته، عن أبيه، عن جده، فحكمه حكم الثقات، إذا رووا المقاطيع والمراسيل، بأن يترك من حديثهم المرسل، والمقطوع، ويحتج بالخبر الصحيح. . إلى أن قال: ولسنا ممن نعد نسخة عمرو عن أبيه عن جده، من أقسام الصحيح الذي لا نزاع فيه، من أجل الوجادة، ومن أجل أن فيها مناكير، فينبغي أن يتأمل حديثه، ويتحايد ما جاء منكرا، ويروى ما عدا ذلك في السنن والأحكام، محسنين لإسناده،
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4611) ، سنن أبو داود البيوع (3504) ، مسند أحمد بن حنبل (2/175) ، سنن الدارمي البيوع (2560) .
(2) تجريد التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد صفحة: 254 وما بعد.
(3) تهذيب الأسماء واللغات: 2 \ 29 وما بعد.
(4) مجموع الفتاوى لابن تيمية: 18 \ 8.
(5) زاد المعاد: 5 \ 283.(32/311)
فقد احتج به أئمة كبار، ووثقوه في الجملة، وتوقف فيه آخرون قليلا، وما علمت أحدا تركه (1) .
وقال أيضا: قد أجبنا عن روايته عن أبيه عن جده، بأنها ليست بمرسلة ولا منقطعة- يعني مطلقا- أما كونها وجادة أو بعضها سماع، وبعضها وجادة، فهذا محل نظر.
ولسنا نقول: إن حديثه من أعلى أقسام الصحيح، بل هو من قبيل الحسن (2) .
قلت: فهذا القول الفصل في حديث عمرو بن شعيب، فليس حديثه من الصحيح لذاته، وليس من الضعيف، بل هو من الحسن لذاته الذي يحتج به جمهور العلماء، ما عدا ما تبين أنه من مناكيره.
وأيضا ليس كل حديثه يحتج به، بل إن هناك أحاديث منه لا يحتج بها، لكونها منقطعة أو مرسلة والله أعلم.
ويمكن أن أجمل خلاصة ما تقدم في النقاط التالية:
1 - أن عمرا ثقة على الصحيح، وأنه من رجال الحسن لذاته، ومن غمزه فيحمل على روايته عن أبيه، عن جده.
2 - وأن أحاديثه عن أبيه عن جده، منها صحيفة ومنها سماع، فالذي صرح فيه بالسماع فهو مقبول باتفاق العلماء.
3 - وأن الضمير في "جده" يعود على " شعيب "، على الصحيح الراجح، وقد ثبت أن شعيبا سمع من جده " عبد الله " وعاش معه.
وربي في حجره، فإن صرح بجده " عبد الله " فهو مقبول باتفاق العلماء. فعلى هذا يمكن أن يقال: إن قال: "حدثني أبي عن جده " عبد الله " فهو مقبول في هذه الحالة باتفاق العلماء، وما عدا ذلك فمختلف فيه، والله أعلم.
__________
(1) سير أعلام النبلاء: 5 \ 175.
(2) ميزان الاعتدال: 3 \ 268.(32/312)
الأمثلة على مروياته والتي جاء التصريح بجده عبد الله:
1 - أخرج الإمام النسائي بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلق فقال: «ما أصاب من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج. . . الحديث (1) » . .
2 - وأخرج الإمام أحمد بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح، قام في الناس خطيبا، فقال: «يا أيها الناس إنه ما كان من حلف الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة، ولا حلف في الإسلام، والمسلمون يد على من سواهم (2) » . . الحديث (3) .
وهناك عدة أحاديث جاء التصريح فيها بجده عبد الله رضي الله عنه (4) أما أبوه " شعيب " فقد ذكره ابن حبان في الثقات (5) .، وحسن حديثه الحافظ ابن حجر (6) وصلى الله على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) سنن النسائي: كتاب قطع السارق باب: الثمر الذي يسرق بعد أن يؤديه الجرين 8 \ 85 وانظر أعلام النبلاء 5 \ 170
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/180) .
(3) المسند: 2 \ 180 وانظر السير 5 \ 171.
(4) انظر هذه الأمثلة في سير أعلام النبلاء: 5 \ 171 وما بعد. .
(5) 6 \ 437
(6) انظر التقريب صفحة 423 وانظر سير أعلام النبلاء: 5 \ 181. .(32/313)
صفحة فارغة(32/314)
نصيحة تتعلق بفضل صيام رمضان وقيامه
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يراه من المسلمين، سلك الله بي وبهم سبيل أهل الإيمان، ووفقني وإياهم للفقه في السنة والقران. أمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فهذه نصيحة موجزة تتعلق بفضل صيام رمضان وقيامه، وفضل المسابقة فيه بالأعمال الصالحة، مع بيان أحكام مهمة قد تحفى على بعض الناس.
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبشر أصحابه بمجيء شهر رمضان، ويخبرهم عليه الصلاة والسلام أنه شهر تفتح فيه أبواب الرحمة وأبواب الجنة وتغلق فيه أبواب جهنم، وتغل فيه الشياطين، ويقول صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت أول ليلة من رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب جهنم فلم يفتح منها باب، وصفدت الشياطين، وينادي مناد يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة (1) » . ويقول عليه الصلاة والسلام: «جاءكم شهر رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرا فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله» ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (2) » ، ويقول عليه الصلاة والسلام: «يقول الله عز وجل: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1899) ، صحيح مسلم الصيام (1079) ، سنن الترمذي الصوم (682) ، سنن النسائي الصيام (2106) ، سنن ابن ماجه الصيام (1642) ، سنن الدارمي الصوم (1775) .
(2) صحيح البخاري صلاة التراويح (2014) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، سنن الترمذي الصوم (683) ، سنن النسائي الصيام (2203) ، سنن أبو داود الصلاة (1372) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .(32/315)
أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي. للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه. ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك (1) » . والأحاديث في فضل صيام رمضان وقيامه وفضل جنس الصوم كثيرة.
فينبغي للمؤمن أن ينتهز هذه الفرصة وهي ما من الله به عليه من إدراك شهر رمضان فيسارع إلى الطاعات، ويحذر السيئات ويجتهد في أداء ما افترض الله عليه ولا سيما الصلوات الخمس فإنها عمود الإسلام وهي أعظم الفرائض بعد الشهادتين: فالواجب على كل مسلم ومسلمة المحافظة عليها وأداؤها في أوقاتها بخشوع وطمأنينة.
ومن أهم واجباتها في حق الرجال أداؤها في الجماعة في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كما قال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2) وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (3) وقال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (4) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (5) إلى أن قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (6) {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (7) {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (8) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (9) » .
وأهم الفرائض بعد الصلاة أداء الزكاة كما قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (10) وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (11)
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1904) ، صحيح مسلم الصيام (1151) ، سنن الترمذي الصوم (764) ، سنن النسائي الصيام (2215) ، سنن ابن ماجه الصيام (1638) ، مسند أحمد بن حنبل (2/516) .
(2) سورة البقرة الآية 43
(3) سورة البقرة الآية 238
(4) سورة المؤمنون الآية 1
(5) سورة المؤمنون الآية 2
(6) سورة المؤمنون الآية 9
(7) سورة المؤمنون الآية 10
(8) سورة المؤمنون الآية 11
(9) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(10) سورة البينة الآية 5
(11) سورة النور الآية 56(32/316)
وقد دل كتاب الله العظيم وسنة رسوله الكريم على أن من لم يؤد زكاة ماله يعذب به يوم القيامة.
وأهم الأمور بعد الصلاة والزكاة صيام رمضان، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة المذكورة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت (1) » .
ويجب على المسلم أن يصون صيامه وقيامه عما حرم الله عليه من الأقوال والأعمال، لأن المقصود بالصيام هو طاعة الله سبحانه، وتعظيم حرماته وجهاد النفس على مخالفة هواها في طاعة مولاها، وتعويدها الصبر عما حرم الله، وليس المقصود مجرد ترك الطعام والشراب وسائر المفطرات، ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم (2) » وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه (3) » .
فعلم بهذه النصوص وغيرها أن الواجب على الصائم الحذر من كل ما حرم الله عليه والمحافظة على كل ما أوجب الله عليه، وبذلك يرجى له المغفرة والعتق من النار وقبول الصيام والقيام.
وهناك أمور قد تخفى على بعض الناس: منها أن الواجب على المسلم أن يصوم إيمانا واحتسابا لا رياء ولا سمعة ولا تقليدا للناس أو متابعة لأهله أو لأهل بلده بل الواجب عليه أن يكون الحامل له على الصوم هو إيمانه بأن الله قد فرض عليه ذلك، واحتسابه الأجر عند ربه في ذلك، وهكذا قيام
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1904) ، صحيح مسلم الصيام (1151) ، سنن الترمذي الصوم (764) ، سنن النسائي الصيام (2216) ، سنن أبو داود الصوم (2363) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6057) ، سنن الترمذي الصوم (707) ، سنن أبو داود الصوم (2362) ، سنن ابن ماجه الصيام (1689) ، مسند أحمد بن حنبل (2/505) .(32/317)
رمضان يجب أن يفعله المسلم إيمانا واحتسابا لا لسبب آخر ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1) » .
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس: ما قد يعرض للصائم من جراح أو رعاف أو الماء أو ذهاب الماء أو البنزين إلى حلقه بغير اختياره، فكل هذه الأمور لا تفسد الصوم ولكن من تعمد القيء فسد صومه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء (2) » .
ومن ذلك: ما قد يعرض للصائم من تأخير غسل الجنابة إلى طلوع الفجر، وما يعرض لبعض النساء من تأخير غسل الحيض أو النفاس إلى طلوع الفجر إذا رأت الطهر قبل الفجر فإنه يلزمها الصوم ولا مانع من تأخيرها الغسل إلى ما بعد طلوع الفجر ولكن ليس لها تأخيره إلى طلوع الشمس بل يجب عليها أن تغتسل وتصلي الفجر قبل طلوع الشمس، وهكذا الجنب ليس له تأخير الغسل إلى ما بعد طلوع الشمس بل يجب عليه أن يغتسل ويصلي قبل طلوع الشمس، ويجب على الرجل المبادرة بذلك حتى يدرك صلاة الفجر مع الجماعة.
ومن الأمور التي لا تفسد الصوم: تحليل الدم، وضرب الإبر غير التي يقصد بها التغذية لكن تأخير ذلك إلى الليل أولى وأحوط إذا تيسر ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (3) » . وقوله عليه الصلاة والسلام: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (4) » .
ومن الأمور التي يخفى حكمها على بعض الناس: عدم الاطمئنان في الصلاة سواء كانت فريضة أو نافلة وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الاطمئنان ركن من أركان الصلاة ولا تصح الصلاة بدونه، وهي الركود في الصلاة والخشوع فيها وعدم العجلة حتى يرجع كل فقار إلى
__________
(1) صحيح البخاري صلاة التراويح (2014) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (760) ، سنن الترمذي الصوم (683) ، سنن النسائي الصيام (2203) ، سنن أبو داود الصلاة (1372) ، مسند أحمد بن حنبل (2/241) ، سنن الدارمي الصوم (1776) .
(2) سنن الترمذي كتاب الصوم (720) ، سنن أبو داود الصوم (2380) ، سنن ابن ماجه الصيام (1676) ، مسند أحمد بن حنبل (2/498) ، سنن الدارمي الصوم (1729) .
(3) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(4) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .(32/318)
مكانه، وكثير من الناس يصلي في رمضان صلاة التراويح صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها بل ينقرها نقرا، وهذه الصلاة على هذا الوجه باطلة، وصاحبها آثم غير مأجور.
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس: ظن بعضهم أن التراويح لا يجوز نقصها عن عشرين ركعة، وظن بعضهم أنه لا يجوز أن يزاد فيها على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وهذا كله ظن في غير محله بل هو خطاء مخالف للأدلة.
وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن صلاة الليل موسع فيها فليس فيها حد محدود لا تجوز مخالفته، بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة وربما صلى ثلاث عشرة ركعة وربما صلى أقل من ذلك في رمضان وفي غيره، ولما «سئل صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل قال: مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى (1) » متفق على صحته.
ولم يحدد ركعات معينة لا في رمضان ولا في غيره، ولهذا صلى الصحابة رضي الله عنهم في عهد عمر رضي الله عنه في بعض الأحيان ثلاثا وعشرين ركعة وفي بعضها إحدى عشرة ركعة، كل ذلك ثبت عن عمر رضي الله عنه وعن الصحابة في عهده.
وكان بعض السلف يصلي في رمضان ستا وثلاثين ركعة ويوتر بثلاث، وبعضهم يصلي إحدى وأربعين، ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- وغيره من أهل العلم، كما ذكر- رحمة الله عليه- أن الأمر في ذلك واسع، وذكر أيضا أن الأفضل لمن أطال القراءة والركوع والسجود أن يقلل العدد، ومن خفف القراءة والركوع والسجود زاد في العدد، هذا معنى كلامه رحمه الله.
ومن تأمل سنته صلى الله عليه وسلم علم أن الأفضل في هذا كله هو صلاة إحدى عشرة
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (472) ، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (749) ، سنن الترمذي الصلاة (461) ، سنن النسائي قيام الليل وتطوع النهار (1691) ، سنن أبو داود الصلاة (1326) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1175) ، مسند أحمد بن حنبل (2/102) ، موطأ مالك النداء للصلاة (269) .(32/319)
ركعة أو ثلاث عشرة ركعة في رمضان وغيره لكون ذلك هو الموافق لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أحواله، ولأنه أرفق بالمصلين وأقرب إلى الخشوع والطمأنينة ومن زاد فلا حرج ولا كراهية كما سبق.
والأفضل لمن صلى مع الإمام في قيام رمضان ألا ينصرف إلا مع الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة (1) » .
ويشرع لجميع المسلمين الاجتهاد في أنواع العبادة في هذا الشهر الكريم من صلاة النافلة، وقراءة القرآن بالتدبر والتعقل والإكثار من التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والاستغفار والدعوات الشرعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عز وجل، ومواساة الفقراء والمساكين، والاجتهاد في بر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الجار، وعيادة المريض، وغير ذلك من أنواع الخير، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: «ينظر الله إلى تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله» ، ولما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه» ، ولقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: «عمرة في رمضان تعدل حجة- أو قال- حجة معي (2) » والأحاديث والآثار الدالة على شرعية المسابقة والمنافسة في أنواع الخير في الشهر الكريم كثيرة، والله المسئول أن يوفقنا وسائر المسلمين لكل ما فيه رضاه، وأن يتقبل صيامنا وقيامنا، ويصلح أحوالنا ويعيذنا جميعا من مضلات الفتن. كما نسأله سبحانه أن يصلح قادة المسلمين، ويجمع كلمتهم على الحق إنه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء
والدعوة والإرشاد
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (806) ، سنن النسائي السهو (1364) ، سنن أبو داود الصلاة (1375) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1327) ، مسند أحمد بن حنبل (5/160) ، سنن الدارمي الصوم (1777) .
(2) سنن الترمذي الحج (939) ، سنن أبو داود المناسك (1988) ، سنن ابن ماجه المناسك (2993) ، مسند أحمد بن حنبل (6/375) ، سنن الدارمي المناسك (1860) .(32/320)
من قرارت المجامع الفقهية
من قرارت مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي
القرار السابع
بشأن الظروف الطارئة وتأثيرها في الحقوق والالتزمات العقدية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
فقد عرض على مجلس المجمع الفقهي الإسلامي مشكلة ما قد يطرأ بعد إبرام عقود التعهد ونحوها من العقود ذات التنفيذ المتراخي في مختلف الموضوعات من تبدل مفاجئ في الظروف والأحوال ذات التأثير الكبير في ميزان التعادل الذي بنى عليه الطرفان المتعاقدان حساباتهما فيما يعطيه العقد كلا منهما من حقوق وما يحمله إياه من التزامات، مما يسمى اليوم في العرف التعاملي بالظروف الطارئة.
وقد عرضت مع المشكلة أمثلة لها من واقع أحوال التعامل وأشكاله توجب التفكير في حل فقهي مناسب عادل يقضي على المشكلة في تلك الأمثلة ونظائرها الكثيرة. فمن صور هذه المشكلة الأمثلة التالية:
1 - لو أن عقد مقاولة على إنشاء بناية كبيرة يحتاج إنشاؤها إلى مدة طويلة تم بين طرفن، وحدد فيه سعر المتر المكعب من البناء وكسوته بمبلغ مائة دينار مثلا، وكانت كلفة المواد الأولية من حديد وأسمنت وأخشاب وسواها وأجور عمال تبلغ عند العقد للمتر الواحد ثمانين دينارا فوقعت حرب غير متوقعة(32/321)
أو حادث آخر خلال التنفيذ قطعت الاتصالات والاستيراد وارتفعت بها الأسعار ارتفاعا كبيرا يجعل تنفيذ الالتزام مرهقا جدا.
2 - لو أن متعهدا في عقد توريد أرزاق عينية يوميا من لحم وجبن ولبن وبيض وخضروات وفواكه ونحوها إلى مستشفى أو إلى جامعة فيها أقسام داخلية، أو إلى دار ضيافة حكومية، بأسعار اتفق عليها في كل صنف لمدى عام. فحدثت جائحة في البلاد أو طوفان أو فيضان أو زلزال، أو جاء جراد جرد المحاصيل الزراعية، فارتفعت الأسعار إلى أضعاف كثيرة عما كانت عليه عند عقد التوريد، إلى غير ذلك من الأمثلة المتصورة في هذا المجال.
فما الحكم الشرعي الذي يوجبه فقه الشريعة في مثل هذه الأحوال التي أصبحت كثيرة الوقوع في العصر الحاضر الذي تميز بالعقود الضخمة بقيمة الملايين، كالتعهد مع الحكومات في شق الطرق الكبيرة وفتح الأنفاق في الجبال، وإنشاء الجسور العظيمة، والمجمعات لدوائر الحكومة أو للسكنى، والمستشفيات العظيمة أو الجامعات. وكذا المقاولات التي تعقد مع مؤسسات أو شركات كبرى لبناء مصانع ضخمة، ونحو ذلك مما لم يكن له وجود في الماضي البعيد.
فهل يبقى المتعاقد الملتزم على حدود عقده وأسعاره قبل تبدل الظروف وطروء التغييرات الكبيرة المشار إليها مهما تكبد في ذلك من خسائر ماحقة أو ساحقة، تمسكا بمقتضى العقد وحدوده في الأسعار والكميات، أو له مخرج وعلاج من فقه الشريعة الحكيمة السمحة العادلة يعيد كفتي الميزان إلى التعادل، ويحقق الإنصاف بقدر الإمكان بين الطرفين؟
وقد نظر مجلس المجمع في النظائر الفقهية ذات الصلة بهذا الموضوع من فقه المذاهب واستعرض قواعد الشريعة ذات العلاقة مما يستأنس به ويمكن أن يوصي بالحكم القياسي والاجتهاد الواجب فقها في هذا الشأن كما رجع إلى آراء فقهاء المذاهب فوجد ما يلي:
1 - إن الإجارة يجوز للمستأجر فسخها بالطوارئ العامة التي يتعذر(32/322)
فيها استيفاء المنفعة كالحرب والطوفان ونحو ذلك، بل الحنفية يسوغون فسخ الإجارة أيضا بالأعذار الخاصة بالمستأجر، مما يدل على أن جواز فسخها بالطوارئ العامة مقبول لديهم أيضا بطريق الأولوية فيمكن القول أنه محل اتفاق، وذكر ابن رشد في بداية المجتهد (ج2 ص \ 192) من طبعة الخانجي الأولى بالمطبعة الجمالية بمصر تحت عنوان: (أحكام الطوارئ) أنه: (عند مالك أن أرض المطر- أي البعلية التي تشرب من ماء السماء فقط- إذا كريت فمنع القحط من زراعتها، أو إذا زرعها المكتري فلم ينبت الزرع لمكان القحط- أي بسببه- أن الكراء ينفسخ، وكذلك إذا استعذرت بالمطر حتى انقضى زمن الزراعة فلم يتمكن المكتري من زرعها) انتهى كلام ابن رشد.
2 - وذكر ابن قدامة المقدسي في كتاب الإجارة من المغني (المطبوع مع الشرح الكبير 6 ج ص \ 30) أنه: إذا حدث خوف عام يمنع من سكنى ذلك المكان الذي فيه العين المستأجرة، أو تحصر البلد فامتنع الخروج إلى الأرض المستأجرة للزرع أو نحو ذلك، فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ لأنه أمر غالب يمنع المستأجر من استيفاء المنفعة. فأما إذا كان الخوف خاصا بالمستأجر، مثل أن يخاف وحده لقرب أعدائه. . لم يملك الفسخ، لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية فأشبه مرضه.
3 - وقد نص الإمام النووي رحمه الله في روضة الطالبين (5 ج ص \ 239) أنه لا تنفسخ الإجارة بالأعذار، سواء أكانت إجارة عين أو ذمة، وذلك كما إذا استأجر دابة للسفر عليها فمرض، أو حانوتا لحرفة فندم، أو هلكت آلات تلك الحرفة أو استأجر حماما فتعذر الوقود. قال النووي: وكذا لو كان العذر للمؤجر بأن مرض وعجز عن الخروج مع الدابة، أو أكرى داره وكان أهله مسافرين فعادوا واحتاج إلى الدار أو تأهل قال: فلا فسخ في شيء من ذلك، إذ لا خلل في المعقود عليه. اهـ.
4 - ما يذكره العلماء رحمهم الله في الجوائح التي تجتاح الثمار المبيعة على الأشجار بالأسباب العامة كالبرد والجراد وشدة الحر والأمطار والرياح ونحو(32/323)
ذلك مما هو عام حيث يقررون سقوط ما يقابل الهالك بالجوائح من الثمن وهي قضية الجوائح المشهورة في السنة والفقه.
5 - ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مختصر الفتاوى ص \ 376 أن من استأجر ما تكون منفعة إجارته لعامة الناس، مثل الحمام والفندق والقيسارية، فنقصت المنفعة المعروفة لقلة الزبون أو لخوف أو حرب أو تحول سلطان ونحوه فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة.
6 - وقال ابن قدامة أيضا في الصفحة (29) من الجزء السابق الذكر نفسه: (ولو استأجر دابة ليركبها أو يحمل عليها إلى مكان معين، فانقطعت الطريق إليه لخوف حادث أو اكترى إلى مكة فلم يحج الناس ذلك العام من تلك الطريق فلكل واحد منهما فسخ الإجارة وإن أحب إبقاءها إلى حين إمكان استيفاء المنفعة جاز) .
وقال الكاساني من فقهاء الحنفية في الإجارة من كتاب بدائع الصنائع (ج 4 ص \ 197) (إن الفسخ في الحقيقة امتناع من التزام الضرر، وإن إنكار الفسخ عند تحقق العذر خروج عن العقد والشرع، لأنه يقتضي أن من اشتكى ضرسه، فاستأجر رجلا لقلعها، فسكن الوجع يجبر على القلع، وهذا قبيح عقلا وشرعا) .
هذا وقد ذكر فقهاء المذاهب في حكم الأعذار الطارئة في المزارعة والمساقاة والمغارسة شبيه ما ذكروا في الإجارة.
7 - قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، وقرر كثير من فقهاء المذاهب في الجوائح التي تجتاح الثمار ببرد أو صقيع، أو جراد، أو دودة، ونحو ذلك من الآفات، أنها تسقط من ثمن الثمار التي بيعت على أشجارها ما يعادل قيمة ما أتلفته الجائحة وإن عمت الثمر كله تسقط الثمن كله.
8 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه «لا ضرر ولا ضرار» وقد اتخذ فقهاء المذاهب من قوله هذا قاعدة فقهية اعتبروها من دعائم الفقه الكبرى(32/324)
الأساسية، وفرعوا عليها أحكاما لا تحصى في دفع الضرر وإزالته في مختلف الأبواب.
ومما لا شك فيه أن العقد الذي يعقد وفقا لنظامه الشرعي يكون ملزما لعاقديه قضاء؛ عملا بقوله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1)
ولكن قوة العقد الملزمة ليست أقوى من النص الشرعي الملزم للمخاطبين به كافة وقد وجد المجمع في مقاييس التكاليف الشرعية، ومعايير حكمة التشريع أن المشقة لا ينفك عنها التكليف عادة بحسب طبيعته، كمشقة القيام في الصلاة، ومشقة الجوع والعطش في الصيام، لا تسقط التكليف، ولا توجب فيه التخفيف، ولكنها إذا جاوزت الحدود الطبيعية للمشقة المعتادة في كل تكليف بحسبه، أسقطته أو خففته، كمشقة المريض في قيامه في الصلاة ومشقته في الصيام وكمشقة الأعمى والأعرج في الجهاد، فإن المشقة المرهقة عندئذ بالسبب الطارئ الاستثنائي توجب تدبيرا استثنائيا يدفع الحد المرهق منها، وقد نص على ذلك وأسهب قي بيانه، وأتى عليه بكثير من الأمثلة في أحكام الشريعة الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه (الموافقات في أصول الشريعة) .
فيتضح من ذلك أن الخسارة المعتادة في تقلبات التجارة لا تأثيرها لها في العقود لأنها طبيعة التجارة وتقلباتها التي لا تنفك عنها، ولكنها إذا جاوزت المعتاد المألوف كثيرا بمثل تلك الأسباب الطارئة الآنفة الذكر توجب عندئذ تدبيرا استثنائيا.
ويقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين) :
(إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه بالعدل الذي قامت به السماوات والأرض وكل أمر أخرج من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى عكسها فليس من شرع الله في شيء وحيثما ظهرت دلائل العدل وسفر وجهه فثم شرع الله وأمره) (إعلام الموقعين) وقصر العاقدين إنما تكشف عنه وتحدده ظروف العقد، وهذا
__________
(1) سورة المائدة الآية 1(32/325)
القصر لا يمكن تجاهله والأخذ بحرفية العقد مهما كانت النتائج فمن القواعد المقررة في فقه الشريعة أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ولا يخفى أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفا في العقود المتراخية التنفيذ لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور إنما هو من اختصاص القضاء ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة التي تنير طريق الحل الفقهي السديد في هذه القضية المستجدة الأهمية، يقرر الفقه الإسلامي ما يلي:
1 - في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلا غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغيرا كبيرا بأسباب طارئة عامة لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طرق التجارة ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحال عند التنازع وبناء على الطلب تعديل الحقوق والالتزامات العقدية بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لم يتم تنفيذه منه إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانبا معقولا الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد بحيث يتحقق عدل بينما دون إرهاق للملتزم ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعا رأي أهل الخبرة الثقات.
2 - ويحق للقاضي أيضا أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيرا بهذا الإمهال.
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من أصول الشريعة تحقيقا للعدل الواجب بين طرفي العقد، ومنعا للضرر المرهق لأحد العاقدين بسبب لا يد له فيه، وأن هذا الحال أشبه بالفقه الشرعي الحكيم، وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها. والله ولي التوفيق.(32/326)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
[توقيع] ... [اعتذر لمرضه]
نائب الرئيس ... رئيس مجلس المجمع الفقهي
محمد علي الحركان ... عبد الله بن حميد
الأعضاء
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد محمود الصواف ... صالح بن عثيمين
[توقيع] ... [تخلف عن الحضور] ... [توقيع]
محمد بن عبد الله السبيل ... مبروك العوادي ... محمد الشاذلي النفير
[توقيع] ... [توقيع]
مصطفى أحمد الزرقاء ... عبد القدوس الهامشي ... محمد رشيدي
[تخلف عن الحضور] ... [توقيع] ... [تخلف عن الحضور]
أبو الحسن على الحسني الندوي ... أبو بكر محمد جومي ... حسنين محمد مخلوف
[توقيع] ... [تخلف عن الحضور] ... [توقيع]
محمد رشيد قباني ... محمود شيت خطاب ... محمد سالم عدود
[مقرر المجمع الفقهي الإسلامي]
محمد عبد الرحيم الخالد(32/327)
من قرارات هيئة كبار العلماء
قرار رقم 33 وتاريخ 21 \ 10 \ 1399 هـ
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله. . وبعد:
ففي الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في الطائف من 10 \ 10 \ 1399هـ، حتى 21 \ 10 \ 1399 هـ نظر المجلس في الرسالة التي بعثها الشيخ \ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية بقطر إلى جلالة الملك خالد بن عبد العزيز المتضمنة جواز جعل جدة ميقاتا لركاب الطائرات الجوية والسفن البحرية والتي أحيلت إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من معالي رئيس المكتب الخاص لجلالة الملك خالد برقم 5214 \ 1 في 12 \ 5 \ 1399 هـ. وقد استعرض المجلس تلك الفتوى فوجد أنها تستند على:
1 - أن الفتوى تتغير بتغير الأحوال والأزمان.
2 - أن القضية موضع اجتهاد وتتطلب من العلماء تحقيق النظر في تعيين الميقات لهؤلاء القادمين على متون الطائرات.
3 - إن مرور الطائرات فوق سماء الميقات وهي محلقة في السماء لا يصدق على أهلها أنهم أتوا الميقات المحدد لهم لغة ولا عرفا.
4 - ما يزعمه من أن فتواه تشبه ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين وقت لأهل العراق ذات عرق.
5 - قوله "لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا ويرى كثرة النازلين من أجواء السماء إلى ساحة جدة يؤمون هذا البيت للحج والعمرة لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها لكونها من مقتضى أصوله ونصوصه. اهـ".
وإن المجلس بعد دراسة هذه الأمور الخمسة وغيرها مما ورد في الرسالة يرى أن المسوغات التي استند إليها مردودة بالنصوص الشرعية وإجماع سلف الأمة(32/328)
فقد روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهل ممن أراد الحج والعمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة (1) » . ولا يصح الاستناد في هذه المسألة إلى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان لأنها من العبادات وهي مبنية على التوقيف كما أنها ليست من مواضع الاجتهاد لتحديدها بالنص من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المعلوم عند أهل العلم أن الهواء تابع للقرار كما هو مبسوط في موضعه وإنكار ذلك منه غير مسلم. . أما احتجاجه بجعل عمر رضي الله عنه ذات عرق ميقاتا لأهل العراق فهو مردود لأن عمر رضي الله عنه لم يجعل لأهل العراق ميقاتا في الجهة الغربية أو غيرها من مكة يحرمون منه بدلا من ميقاتهم الذي يمرون به في الجهة الشرقية منها بل قال عمر رضي الله عنه انظروا حذوها من طريقكم. وأما قوله "ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا- إلى قوله- لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها لكونها من مقتضى أصوله ونصوصه" فهو قول باطل. لأن الله اكمل الدين في حياة رسوله صلى الله عليه وسلم وانتهى التشريع بوفاته كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2) المائدة الآية (3) وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (3) مريم الآية (64) وإنه ليترتب على هذا القول أمور كثيرة خطيرة.
وبناء على ما تقدم وبعد الرجوع إلى الأدلة وما ذكره أهل العلم في المواقيت المكانية ومناقشة الموضوع من جميع جوانبه فإن المجلس يقرر بالإجماع ما يلي:
1 - إن الفتوى الصادرة من فضيلة الشيخ \ عبد الله بن زيد آل محمود رئيس المحاكم الشرعية والشئون الدينية بقطر الخاصة بجواز جعل جدة ميقاتا لركاب الطائرات الجوية والسفن البحرية فتوى باطلة لعدم استنادها إلى نص من كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع سلف الأمة. ولم يسبقه إليها أحد من علماء المسلمين الذين يعتد بأقوالهم.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1524) ، صحيح مسلم الحج (1181) ، سنن النسائي مناسك الحج (2654) ، مسند أحمد بن حنبل (1/252) ، سنن الدارمي المناسك (1792) .
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) سورة مريم الآية 64(32/329)
2 - لا يجوز لمن مر بميقات من المواقيت المكانية أو حاذى واحدا منها جوا أو بحرا أن يتجاوزه من غير إحرام كما تشهد لذلك الأدلة وكما قرر أهل العلم رحمهم الله تعالى. هذا وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد.(32/330)
من قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي
القرار الثاني
حكم الإحرام من جدة للواردين إليها من غيرها
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام كل إمام المتقين وسيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد ناقش في جلسته الثالثة صباح يوم الخميس الموافق 10 \ 4 \ 1402 هـ. والمصادف 4 \ 2 \ 1982م موضوع (حكم الإحرام من جدة وما يتعرض إليه الكثير من الوافدين إلى مكة المكرمة للحج والعمرة عن طريق الجو والبحر) لجهلهم عن محاذاة المواقيت التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب الإحرام منها على أهلها ومن مر عليها من غيرهم ممن يريد الحج أو العمرة.
وبعد التدارس واستعراض النصوص الشرعية الواردة في ذلك قرر المجلس ما يأتي:
أولا: إن المواقيت التي وقتها النبي صلى الله عليه وسلم وأوجب الإحرام منها على أهلها وعلى من مر عليها من غيرهم ممن يريد الحج والعمرة وهي: ذو الحليفة لأهل المدينة ومن مر عليها من غيرهم وتسمى حاليا (أبيار علي) والجحفة وهي لأهل الشام ومصر والمغرب ومن مر عليها من غيرهم وتسمى حاليا (رابغ)(32/331)
وقرن المنازل وهي لأهل نجد ومن مر عليها من غيرهم وتسمى حاليا (وادي محرم) وتسمى أيضا (السيل) وذات عرق لأهل العراق وخراسان ومن مر عليها من غيرهم وتسمى (الضريبة) ويلملم لأهل اليمن ومن مر عليها من غيرهم.
وقرر أن الواجب عليهم أن يحرموا إذا حاذوا أقرب ميقات إليهم من هذه المواقيت الخمسة جوا أو بحرا، فإن اشتبه عليهم ذلك ولم يجدوا معهم من يرشدهم إلى المحاذاة وجب عليهم أن يحتاطوا وأن يحرموا قبل ذلك بوقت يعتقدون أو يغلب على ظنهم أنهم أحرموا قبل المحاذاة، لأن الإحرام قبل الميقات جائز مع الكراهة، ومنعقد، ومع التحري والاحتياط، خوفا من تجاوز الميقات بغير إحرام فتزول الكراهة، لأنه لا كراهة في أداء الواجب. وقد نص أهل العلم في جميع المذاهب الأربعة على ما ذكرنا، واحتجوا على ذلك بالأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في توقيت المواقيت للحجاج والعمار. واحتجوا أيضا بما ثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال له أهل العراق: إن قرنا جور عن طريقنا؟ قال لهم رضي الله عنه: انظروا حذوها من طريقكم. قالوا: ولأن الله سبحانه أوجب على عباده أن يتقوه ما استطاعوا، وهذا هو المستطاع في حق من لم يمر على نفس الميقات، إذا علم هذا فليس للحجاج والعمار الوافدين من طريق الجو والبحر ولا غيرهم أن يؤخروا الإحرام إلى وصولهم إلى جدة، لأن جدة ليست من المواقيت التي وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا من لم يحمل معه ملابس الإحرام، فإنه ليس له أن يؤخر إحرامه إلى جدة، بل الواجب عليه أن يحرم في السراويل إذا كان ليس معه إزار، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من لم يجد نعلين فليلبس الخفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل (1) » وعليه كشف رأسه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عما يلبس المحرم قال: «لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا لمن لم يجد النعلين (2) » . الحديث متفق عليه.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1842) ، صحيح مسلم الحج (1177) ، سنن الترمذي الحج (833) ، سنن النسائي مناسك الحج (2681) ، سنن أبو داود المناسك (1823) ، سنن ابن ماجه المناسك (2929) ، مسند أحمد بن حنبل (2/119) ، موطأ مالك الحج (716) ، سنن الدارمي المناسك (1798) .
(2) صحيح البخاري اللباس (5803) ، صحيح مسلم الحج (1177) ، سنن الترمذي الحج (833) ، سنن النسائي مناسك الحج (2674) ، سنن أبو داود المناسك (1823) ، سنن ابن ماجه المناسك (2929) ، مسند أحمد بن حنبل (2/119) ، موطأ مالك الحج (716) ، سنن الدارمي المناسك (1798) .(32/332)
فلا يجوز أن يكون على رأس المحرم عمامة ولا قلنسوة ولا غيرهما مما يلبس على الرأس. وإذا كان لديه عمامة ساترة يمكنه أن يجعلها إزارا اتزر بها، ولم يجز له لبس السراويل، فإذا وصل إلى جدة وجب عليه أن يخلع السراويل ويستبدلها بإزار إذا قدر على ذلك، فإن لم يكن عليه سراويل وليس لديه عمامة تصلح أن تكون إزارا حين محاذاته للميقات في الطائرة أو الباخرة أو السفينة جاز له أن يحرم في قميصه الذي عليه مع كشف رأسه، فإذا وصل إلى جدة اشترى إزارا وخلع القميص وعليه عن لبسه القميص كفارة وهي إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من تمر أو أرز أو غيرهما من قوت البلد أو صيام ثلاثة أيام، أو ذبح شاة، هو مخير بين هذه الثلاثة، كما خير النبي صلى الله عليه وسلم كعب بن عجرة لما أذن له في حلق رأسه وهو محرم للمرض الذي أصابه.
ثانيا: يكلف المجلس الأمانة العامة للرابطة بالكتابة إلى شركات الطيران والبواخر بتنبيه الركاب قبل القرب من الميقات بأنهم سيمرون على الميقات قبل مسافة ممكنة.
ثالثا: خالف عضو مجلس المجمع الفقهي الإسلامي معالي الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء في ذلك كما خالف فضيلة الشيخ أبو بكر محمود جومي عضو المجلس بالنسبة للقادمين من سواكن إلى جدة فقط وعلى هذا جرى التوقيع والله ولي التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(32/333)
[توقيع] [اعتذر لمرضه]
نائب الرئيس رئيس مجلس المجمع الفقهي
محمد علي الحركان. عبد الله بن حميد
الأعضاء
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد بن عبد الله السبيل ... مصطفى أحمد الزرقاء
[تخلف عن الحضور] ... [توقيع] ... [توقيع]
أبو الحسن علي الحسني الندوي ... محمد رشيد قباني ... محمد محمود الصواف
[تخلف عن الحضور] ... [حضر بعض الجلسات واعتذر] ... [توقيع]
مبروك العوادي ... عبد القدوس الهاشمي ... أبو بكر محمود جومي
[تخلف عن الحضور] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمود شيت خطاب ... صالح بن عثيمين ... محمد الشاذلي النيفر
[توقيع] ... [تخلف عن الحضور] ... [توقيع]
محمد رشيدي ... حسنين محمد مخلوف ... محمد سالم عدود
[مقرر المجمع الفقهي الإسلامي]
محمد عبد الرحيم الخالد(32/334)
من قرارت مجلس مجمع الفقه الإسلامي
التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي
قرار رقم (7)
بشأن
(الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8- 13 صفر 1407 هـ \ 11 إلى 16 أكتوبر 1986 م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة بخصوص موضوع "الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرة".
قرر:
أن المواقيت المكانية التي حددتها السنة النبوية يجب الإحرام منها لمريد الحج أو العمرة، للمار عليها أو للمحاذي لها أرضا أو جوا أو بحرا لعموم الأمر بالإحرام منها في الأحاديث النبوية الشريفة. والله أعلم(32/335)
صفحة فارغة(32/336)
حكم من يسخر من القرآن وأهله
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله. . والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه:
أما بعد: لقد اطلعت على ما نشرته مجلة الدعوة في عددها الصادر في يوم الاثنين الموافق 27 \ 1 \ 1397 هـ تحت عنوان "صحيفة محلية تسخر من القرآن وأهله" ثم ذكرت تحت هذا العنوان ما نصه: وطلعت علينا الصحيفة المشار إليها في عددها الصادر بتاريخ 7 \ 4 \ 1396 هـ لتسخر من القرآن وأهله ولتقول ما نصه:
"والرجال يعتقدون أن المرأة كائن آخر. والمرأة في تعبيرهم ناقصة عقل ودين وهم يعتقدون أن الرجال قوامون على النساء" انتهى ما نقلته مجلة الدعوة.
ولقد دهشت لهذا المقال الشنيع واستغربت جدا صدور ذلك في مهبط الوحي وتحت سمع وبصر دولة إسلامية تحكم الشريعة الإسلامية وتدعو إليها، وعجبت كثيرا من جرأة القائمين على هذه الجريدة حتى نشروا هذا المقال الذي هو غاية في الكفر والضلال والاستهزاء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والطعن فيهما، وليس هذا ببدع من القائمين على هذه الصحيفة، فقد عرفت بنشر المقالات الداعية إلى الفساد والإلحاد والضرر العظيم على المجتمع. كما عرفت بالحقد على علماء الإسلام والاستطالة في أعراضهم والكذب عليهم، لأنه ليس لدى القائمين عليها وازع إيماني ولم تردع بوازع سلطاني فلهذا أقدمت على(32/337)
ما أقدمت عليه من الكفر والضلال في هذا المقال الذي لا يقوله ولا ينشره من يؤمن بالله واليوم الآخر. ولا يقوله وينشره من يحترم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولمزيد التثبت والرغبة في الوقوف على أصل المقال ومعرفة من قاله، طلبت الصحيفة المذكورة المنشور فيها هذا المقال، فأحضرت لي، فألفيتها قد نشرت ما نقلته عنها مجلة الدعوة حرفيا ونسبت ذلك إلى من سمت نفسها (أمل بنت فلان) ولم تعلق الصحيفة شيئا في إنكار هذا المقال فعلم بذلك رضاها به وموافقتها عليه. ومعلوم أن الذي جعل الرجال قوامين على النساء هو الله عز وجل في قوله تعالى في سورة النساء: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (1) فالطعن في قوامة الرجال على النساء اعتراض على الله سبحانه وطعن في كتابه الكريم وفي شريعته الحكيمة وذلك كفر أكبر بإجماع علماء الإسلام كما نص على ذلك غير واحد من أهل العلم منهم القاضي عياض في كتابه (الشفاء) كما أن الذي وصف النساء بنقصان العقل والدين هو النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عليه الصلاة والسلام أن من نقصان عقلها أن شهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل الواحد وذكر أن من نقص دينها أنها تمكث الليالي والأيام لا تصلي وتفطر في رمضان بسبب الحيض، وإن كان هذا النقصان ليس عليها فيه إثم، ولكنه نقصان ثابت معقول لا شك فيه ولا اعتراض على الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك لأنه أصدق الناس فيما يقول وأعلمهم بشرع الله وأحوال عباده. فالطاعن عليه في ذلك طاعن في نبوته ورسالته ومعترض على الله سبحانه في تشريعه وذلك كفر وضلال لا ينازع فيه أحد من أهل العلم والإيمان، والأدلة النقلية والعقلية والشواهد من الواقع ومن معرفة ما جبل الله عليه المرأة وميزها به عن الرجل، كل ذلك يؤيد ما أخبر الله به سبحانه من قوامة الرجال على النساء وفضلهم عليهن، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من نقصان عقل المرأة ودينها بالنسبة إلى الرجل.
__________
(1) سورة النساء الآية 34(32/338)
ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون كل فرد من أفراد الرجال أفضل ولا أعقل من كل فرد من أفراد النساء، وكم لله من امرأة أفضل وأعلم وأعقل من بعض الرجال، وإنما المراد تفضيل الجنس على الجنس وبيان أن هذا أكمل من هذا والأدلة القطعية شاهدة بذلك كما سبق. وقد اتضح من كلام صاحبة المقال (أمل المذكورة) أنها أرادت من طعنها على قوامة الرجال على النساء ومن اعتراضها على نقصهن في العقل والدين أن ذلك يسبب انقسام المجتمع وعدم ترابطه وتعاونه وذلك يؤيد ما ذكرنا آنفا من كون المقصود بالمقال المذكور هو الطعن في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم واتهامهما بأنهما سبب التخلف وانقسام المجتمع وعدم تعاونه. ولا شك أن هذا من أوضح الكذب وأبطل الباطل. وليس في اعتقاد ما دل عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في قوامة الرجال على النساء ونقص عقول النساء ودينهن ما يوجب الضرر على المجتمع الإسلامي وانقسامه وعدم ترابطه وتعاونه، بل ذلك من تزيين الشيطان وإيحائه إلى أوليائه من الجهال والمشركين ومن سار في ركابهم، كما أنه لا يلزم من ذلك إهدار المرأة من حساب المجتمع ولا إعفاؤها من المشاركة فيما يصلح المجتمع من النصيحة لله ولعباده والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الحق وغير ذلك من الأمور الواجبة على الجميع بل هي مأمورة بذلك ومفروض عليها القيام بما تستطيع في هذا السبيل كما قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (1) وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (2) والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد قبل
__________
(1) سورة التوبة الآية 71
(2) سورة الأحزاب الآية 35(32/339)
النبي صلى الله عليه وسلم مشورة أم سلمة يوم الحديبية وحصل بذلك نفع كبير، وقصة خديجة رضي الله عنها في بدء الوحي وما حصل بها من الخير والتفريج عن النبي صلى الله عليه وسلم معروفة لدى أهل العلم والوقائع من هذا النوع في التاريخ الإسلامي كثيرة.
وإنه لعجب عظيم أن يجترئ أصحاب هذه الصحيفة على نشر هذا المقال مع انتسابهم للإسلام وقبضهم المعونات السخية من دولة الإسلام لتشجيع صحيفتهم واستمرار صدورها. ولكن لا عجب في الحقيقة فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت (1) » وفي الأمثال السائرة المتداولة: من أمن العقاب أساء الأدب، وقد روي عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قالا: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. وإن هذه الصحيفة قد تجاوزت الحدود واجترأت على محاربة الدين والطعن فيه بهذا المقال الشنيع جرأة لا يجوز السكوت عنها، ولا يحل لوزارة الإعلام ولا للحكومة الإغضاء عنها بل يجب قطعا معاقبتها معاقبة ظاهرة بإيقافها عن الصدور ومحاكمة صاحبة المقال والمسئول عن تحرير الصحيفة وتأديبهما تأديبا رادعا واستتابتهما عما حصل منهما لأن هذا المقال يعتبر من نواقض الإسلام ويوجب كفر وردة من قاله أو اعتقده أو رضي به لقول الله سبحانه: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (2) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (3) . . . الآية، فإن تابا وإلا وجب قتلهما لكفرهما وردتهما. ولا يخفى على ذوي العلم والإيمان أن هذا الإجراء من أهم الواجبات لما فيه من الحماية لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وشريعة الله الكاملة ولما في ذلك أيضا من ردع كل من تسول له نفسه أن يفعل ما فعلته هذه الصحيفة ويجترئ على ما اجترأت عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6120) ، سنن أبو داود الأدب (4797) ، سنن ابن ماجه الزهد (4183) ، مسند أحمد بن حنبل (5/273) .
(2) سورة التوبة الآية 65
(3) سورة التوبة الآية 66(32/340)
بيان لهيئة كبار العلماء بشأن ما كتب
لولي الأمر عن بعض الأمور
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. . أما بعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في دورته الاستثنائية المنعقدة في الرياض في يومي 18 و19 \ 11 \ 1411 هـ حرصا منه على خير الأمة وسعادتها وسعيا منه لدرء الأخطار والكوارث والمصائب عنها. وعملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (1) » وبما ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم (2) » وبما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم (3) » .
إن المجلس عملا بهذه الأدلة وغيرها مما هو في معناها ليؤكد على عظم أمر النصيحة والاهتمام بها والتواصي بالحق والدعوة إلى الخير وبيانه والتحذير من الشر وبواعث الفتنة وسد أبوابها وإن الواجب على كل مسلم الأخذ بمبدأ النصيحة بشروطها وآدابها والبعد عن الخروج بها إلى الطريق الوعر والمركب الصعب الذي يخرجها عن النصح الخالص إلى التهييج واستثارة المشاعر والسكوت عن المحاسن والشكر عليها. وهذا بعيد عن الأدب النبوي في النصح
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(2) صحيح البخاري الزكاة (1401) ، صحيح مسلم الإيمان (56) ، سنن الترمذي البر والصلة (1925) ، سنن النسائي البيعة (4174) ، مسند أحمد بن حنبل (4/364) ، سنن الدارمي البيوع (2540) .
(3) صحيح مسلم الأقضية (1715) ، مسند أحمد بن حنبل (2/367) ، موطأ مالك الجامع (1863) .(32/341)
والإرشاد، وإن من آداب النصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم اتباع طريق الحكمة في ذلك حتى تكون النصيحة خالصة غير خارجة عن منهج السلف الصالح مثمرة ثمراتها مؤكدة التعاون بين الأمة وقادتها موجدة محبة متبادلة وثقة بالناصحين وعملا من الولاة.
ومن المعلوم أن مقتضى النصح لعامة المسلمين أن يحب المرء لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكرهه لها وأن يشفق عليهم ويرحم صغيرهم ويوقر كبيرهم ويحزن لحزنهم ويفرح بفرحهم وأن يحب ما يصلحهم ويديم النعم عليهم والنصر لهم على عدوهم ودفع كل أذى ومكروه عنهم. كما أن النصح لأئمة المسلمين يكمن في إرشادهم سرا بينهم وبين ناصحيهم مع حب صلاحهم ورشدهم وعدلهم وحب اجتماع الأمة عليهم وكراهة افتراق الأمة عليهم. كما أن طاعتهم في المعروف طاعة لله عز وجل والتعاون معهم في طاعة الله عز للإسلام وأهله. وإن المجلس ليذكر الجميع بوجوب شكر هذه النعمة التي نعيشها من الأمن والاستقرار واجتماع الكلمة وما من الله به من دفع الشرور عن هذه البلاد وذلك مما يحتم التعاون على البر والتقوى والاستقامة على الحق.
وبناء على كل ما تقدم وأخذا بمبدأ درء المفاسد وجلب المصالح وقياما بالواجب الملقى على كل من ولاه الله مسئولية في هذه الأمة وحفظا لحق الراعي والرعية. وبعد اطلاع المجلس على ما تناقلته بعض وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة وما تداولته بعض الأيدي حول ما كتب لولي الأمر عن أمور يراد تحقيقها، فإن مجلس هيئة كبار العلماء يستنكر الطريقة التي سلكت في نشر وتوزيع ما كتب في ذلك ويحذر من مغبة تكرار مثل ذلك مستقبلا ويرى أن الطريقة التي استخدمت في نشر وتوزيع ذلك لا تخدم المصلحة ولا تحقق التعاون على البر والتقوى. وإن المجلس يوصي الجميع بتقوى الله في السر والعلن(32/342)
ومراقبته في جميع الأقوال والأفعال. ويسأل الله للجميع التوفيق والسداد في القول والعمل إنه خير مسئول. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة
عبد العزيز بن صالح
عبد الله خياط ... سليمان بن عبيد ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز (لم يحضر لظروفه الصحية لم يحضر لظروفه الصحية)
عبد الرزاق عفيفي ... إبراهيم بن محمد آل الشيخ ... محمد بن إبراهيم بن جبير (لم يحضر لظروفه الصحية)
صالح بن علي بن غصون ... عبد المجيد حسن ... راشد بن صالح بن خنين (لم يحضر لظروفه الصحية)
عبد الله بن سليمان المنيع ... صالح بن محمد اللحيدان ... عبد الله بن عبد الرحمن الغديان (لم يحضر لظروفه الصحية)
صالح بن فوزان الفوزان ... محمد بن صالح العثيمين ... عبد الله بن عبد الرحمن البسام
حسن بن جعفر العتمي ... عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ ... -(32/343)
حديث شريف
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (1) »
" رواه البخاري "
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3535) ، صحيح مسلم الفضائل (2286) ، مسند أحمد بن حنبل (2/312) .(32/344)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (1)
سورة التوبة الآية 122
__________
(1) سورة التوبة الآية 122(33/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(33/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(33/3)
المحتويات
الافتتاحية:
نصيحة مهمة عامة حول بعض الأمور المنكرة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة:
تدوين الراجح من أقوال الفقهاء لإلزام القضاة العمل به (القسم الثالث) اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 19
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 53
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 105
البحوث:
تحقيق كتاب وجوب إخراج الزكاة على الفور د. عبد الله بن محمد الطريقي 119
تفسير سورة الناس: د. فهد بن عبد الرحمن الرومي 143
فضل الزراعة في الإسلام د. أحمد عبد الغني مزهر 181(33/4)
جرير بن عبد الله البجلي اللواء محمود شيت خطاب 215
ولاية تزويج الصغيرة د. عبد الله بن عبد العزيز الجبرين 249
حكمة الزواج ومنافعه د. رجب سعيد شهوان 285
من قرارات المجامع الفقهية 321
نصح وتذكير بفريضة الزكاة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 333
وجوب التعاون على البر والتقوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 339(33/5)
صفحة فارغة(33/6)
الافتتاحية
نصيحة مهمة عامة
" حول بعض الأمور المنكرة التي وقع فيها كثير من الناس "
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه:
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين، وفقني الله وإياهم للفقه في الدين وسلك بي وبهم صراطه المستقيم.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
فهذه نصيحة أردت منها التنبيه على بعض الأمور المنكرة التي وقع فيها كثير من الناس جهلا منهم، وتلاعبا من الشيطان بأفكارهم وعقولهم، واتباعا للهوى من بعض من فعلها.
ومن تلك الأمور ما بلغني أن بعض الناس يدعو إلى عبادة نفسه، ويدعي أمورا توهم العامة أن له تصرفا في الكون وأنه يصلح أن يدعى للنفع والضر، وهذا من هؤلاء الضالين تشبه بفرعون وأشباهه من المجرمين الكافرين، والله سبحانه هو المستحق للعبادة ولا يستحقها سواه لكمال قدرته وعلمه وغناه عن خلقه. والعبادة لله وحده هي الغاية التي من أجلها أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب وخلق من أجلها الثقلان، وقام سوق الجهاد قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) وقال عز وجل:
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56(33/7)
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} (1) {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (2) ، وقال سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (3) ، وقال عز وجل: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ} (4) ، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (5) ، وقال عز وجل: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (6) ، وقال سبحانه: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (7) ، وقال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (8) ، وقال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (9) فعلم من هذه الآيات وغيرها أن عبادة غير الله أو عبادة غيره معه من الأنبياء والأولياء والأصنام والأشجار والأحجار شرك بالله عز وجل ينافي توحيده الذي من أجله خلق الله الثقلين، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب لبيانها والدعوة إليها، وهذا هو معنى لا إله إلا الله.
فإن معناها لا معبود حق إلا الله. فهي تنفي العبادة عن غير الله وتثبتها له وحده كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} (10)
__________
(1) سورة الأحقاف الآية 5
(2) سورة الأحقاف الآية 6
(3) سورة المؤمنون الآية 117
(4) سورة يونس الآية 106
(5) سورة النساء الآية 48
(6) سورة لقمان الآية 13
(7) سورة المائدة الآية 72
(8) سورة التوبة الآية 31
(9) سورة الإسراء الآية 23
(10) سورة الحج الآية 62(33/8)
وهذا هو أصل الدين وأساس الملة، ولا تصح العبادات إلا بعد صحة هذا الأصل كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) ، وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (2) ، ومن أجل هذا الأمر العظيم أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب لبيان التوحيد والدعوة إليه والتحذير من صرف العبادة لغير الله سبحانه، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) الآية، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (4) ، وقال عز وجل: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (5) ، وقال سبحانه: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (6) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه سئل أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك (7) » والند هو النظير والمثيل، فكل من دعا غير الله أو عبد غير الله أو استغاث به أو نذر له أو ذبح أو صرف له شيئا من العبادة فقد اتخذه ندا لله، سواء كان نبيا أو وليا أو ملكا أو جنيا أو صنما أو غير ذلك؛ لأن العبادة لله وحده لا يستحقها سواه. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟
__________
(1) سورة الزمر الآية 65
(2) سورة الأنعام الآية 88
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة الأنبياء الآية 25
(5) سورة هود الآية 1
(6) سورة إبراهيم الآية 52
(7) صحيح البخاري تفسير القرآن (4477) ، صحيح مسلم الإيمان (86) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3183) ، سنن النسائي تحريم الدم (4014) ، سنن أبو داود الطلاق (2310) ، مسند أحمد بن حنبل (1/434) .(33/9)
قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا (1) » فالله خلق الثقلين لهذا الأمر العظيم وهو توحيده وإفراده بالعبادة ونبذ الشركاء والنظراء والأنداد، سبحانه لا إله غيره ولا رب سواه، ومن دعا إلى عبادة نفسه أو زعم أنه يستحق العبادة فإنه كافر يجب أن يدعى إلى التوبة، فإن تاب وإلا وجب على ولي الأمر قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (2) » رواه البخاري. ومن الضلال المبين والجهل العظيم تصديق الكهان والعرافين والرمالين والمنجمين والمشعوذين والدجالين بالإخبار عن المغيبات فإن هذا منكر وشعبة من شعب الكفر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة (3) » رواه مسلم في صحيحه، وثبت عنه أنه «نهى عن إتيان الكهان وسؤالهم» . وخرج أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم (4) » والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فالواجب على المسلمين الحذر من سؤال الكهنة والعرافين وسائر المشعوذين والمشتغلين بالأخبار عن المغيبات والمتلاعبين بعقول الجهلة والتلبيس على المسلمين. فالأمور الغيبية لا يعلمها إلا الذي يعلم ما تكن الصدور ويعلم الخفايا حتى أنبياؤه ورسله وملائكته لا يعلمون شيئا من المغيبات إلا ما أخبرهم به سبحانه قال تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (5) ، وقال عز وجل آمرا لنبيه أن يبلغ الناس: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} (6) ، وقال تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (7) ،
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7373) ، صحيح مسلم الإيمان (30) ، سنن الترمذي الإيمان (2643) ، سنن ابن ماجه الزهد (4296) ، مسند أحمد بن حنبل (5/234) .
(2) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017) ، سنن الترمذي الحدود (1458) ، سنن النسائي تحريم الدم (4060) ، سنن أبو داود الحدود (4351) ، سنن ابن ماجه الحدود (2535) ، مسند أحمد بن حنبل (1/282) .
(3) صحيح مسلم السلام (2230) ، مسند أحمد بن حنبل (5/380) .
(4) سنن الترمذي الطهارة (135) ، سنن أبو داود الطب (3904) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (639) ، مسند أحمد بن حنبل (2/429) ، سنن الدارمي الطهارة (1136) .
(5) سورة النمل الآية 65
(6) سورة الأنعام الآية 50
(7) سورة الأعراف الآية 188(33/10)
وهذه الآيات وغيرها تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب وهو خير الأنبياء وأفضلهم فكيف بغيره من المخلوقين. فمن اعتقد أنه يعلم الغيب أو أحدا من المخلوقين فقد أعظم على الله الفرية، وأبعد النجعة وضل ضلالا بعيدا، وكفر بالله سبحانه فالأمور المغيبة مما استأثر الله بعلمه قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (1) قال ابن مسعود كل شيء أوتي نبيكم غير خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (2) الآية، وقال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى. ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل. فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه. ثم إن الأنبياء يعلمون كثيرا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم.
فالإيمان بالغيب من أركان الإيمان ومن صفات المؤمنين الصادقين، وادعاء علم الغيب والإخبار بالمغيبات من صفات الكهنة الزائغين عن الهدى ومن صفات الدجالين والمشعوذين والعرافين الذين ضلوا عن الصراط المستقيم وأضلوا غيرهم من جهال المسلمين، وقد قال الله سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (3) الآية. وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مفاتيح الغيب خمس، ثم قرأ قوله تعالى: (5) » الآية. فالواجب على أهل العلم أن ينبهوا على ما يقع
__________
(1) سورة لقمان الآية 34
(2) سورة لقمان الآية 34
(3) سورة الأنعام الآية 59
(4) صحيح البخاري تفسير القرآن (4778) ، مسند أحمد بن حنبل (2/52) .
(5) سورة لقمان الآية 34 (4) {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}(33/11)
فيه الناس من الخطأ العظيم في هذا الباب وغيره، لأنهم مسئولون عنهم أمام الله يوم القيامة قال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (1) ، وكذا الاعتقاد أن بني هاشم ذنبهم مغفور ولو فعلوا ما فعلوا وهذا غاية الجهل والضلال. فإن الله لا ينظر إلى الأحساب والأنساب والأموال وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال فمن امتثل أوامره واجتنب نواهيه ولازم التقوى وابتعد عن المعاصي والمخالفات فهو الكريم عند الله سواء كان عربيا أو عجميا، وسواء كان من بني هاشم أو من غيرهم فالأحساب والأنساب لا تنفع أحدا كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (2) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم (3) » ، وقال: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب (4) » وهذا أبو طالب. وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينفعه قربه من رسول الله ونسبه العريق، وقد حرص رسول الله على أن يشهد أن لا إله إلا الله حتى يحاج له بها عند الله فلم يفعل؛ لأن الله سبحانه كتب في الأزل أنه يموت على دين الآباء والأجداد وهو الشرك وعبادة الأصنام، ونهى الله نبيه عن الاستغفار له فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} (5) ، وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك هداية أحد إذا لم يهده الله فقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (6)
__________
(1) سورة المائدة الآية 63
(2) سورة الحجرات الآية 13
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، سنن أبو داود البيوع (3443) .
(4) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(5) سورة التوبة الآية 113
(6) سورة القصص الآية 56(33/12)
وهكذا أبو لهب وهو عم النبي صلى الله عليه وسلم مات على الكفر وأنزل الله في ذمه سورة تتلى إلى يوم القيامة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (1) فالمعيار الحقيقي هو اتباع ما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة قولا وعملا واعتقادا، أما الأنساب فإنها لا تنفع ولا تجدي كما قال صلى الله عليه وسلم: «من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه (2) » وقال: «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا (3) » ، وهكذا قال لعمه العباس وعمته صفية وابنته فاطمة. ولو كان النسب ينفع أحدا لنفع هؤلاء.
ومن الأمور المنكرة والاعتقاد الفاسد والضلال المبين ما يعتقده بعض المغفلين والجهال في بعض المخرفين والمشركين الضالين المضلين أنهم يشفون المرضى ويدفعون عنهم الضر ويجلبون النفع، نعوذ بالله من العمى والضلال.
وهذا ينافي الإيمان بالله وأنه النافع الضار الرازق المحيي المميت المدبر القادر، تعالى الله وتقدس عما يقوله الضالون المفترون قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} (4) .
فمن اعتقد أن أحدا ينفعه أو يضره أو يشفيه من دون الله، فقد كفر بالله وبكتابه وبملائكته ورسله، قال تعالى لأكرم خلقه: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا} (5) {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (6) {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} (7) ، وقال: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} (8) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله (9) »
__________
(1) سورة المسد الآية 1
(2) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .
(3) صحيح البخاري الوصايا (2753) ، صحيح مسلم الإيمان (206) ، سنن الترمذي تفسير القرآن (3185) ، سنن النسائي الوصايا (3646) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) ، سنن الدارمي الرقاق (2732) .
(4) سورة يونس الآية 107
(5) سورة الجن الآية 21
(6) سورة الجن الآية 22
(7) سورة الجن الآية 23
(8) سورة الأعراف الآية 188
(9) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .(33/13)
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا لغيره فغيره من باب أولى. فكل من غلا في نبي أو رجل صالح أو ولي من الأولياء وظن فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يقول: يا فلان اشفني أو انصرني أو ارزقني أو أغنني ونحو ذلك فإن هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. وكذا من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم فإنه يكفر إجماعا، فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو جني أو روح أو غير ذلك تأثيرا في كشف كربة أو قضاء حاجة أو رفع مرض أو دفع بلاء دون الله سبحانه، فقد وقع في ضلال كبير وفي واد من الجهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير لكونه قد أشرك بالله العظيم، وهكذا من ذكر أحدا من الصالحين والأولياء وغيرهم على وجه طلب الإمداد منه، فقد أشركه مع الله إذ لا قادر على الدفع والنفع غيره سبحانه وتعالى. أما دعاء الحي الحاضر القادر والاستعانة فيما يقدر عليه مما يجوز شرعا فلا حرج في ذلك وليس داخلا في أنواع الشرك بإجماع المسلمين؛ لقول الله عز وجل في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) ، ولأدلة أخرى من الكتاب والسنة في هذا المعنى، والله ولي التوفيق.
ومن الأمور المنكرة أن بعض من يدعي أنه من بني هاشم يقولون: إنه لا يكافئهم أحد، فهم لا يزوجون غيرهم، ولا يتزوجون من غيرهم، وهذا خطأ عظيم وجهل كبير وظلم للمرأة وتشريع لم يشرعه الله ورسوله، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (2) ، وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (3) ، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (4) ، وقال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (5) ،
__________
(1) سورة القصص الآية 15
(2) سورة الحجرات الآية 13
(3) سورة الحجرات الآية 10
(4) سورة التوبة الآية 71
(5) سورة آل عمران الآية 195(33/14)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب (1) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين (2) » متفق عليه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذ خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض (3) » خرجه الترمذي وغيره بإسناد حسن، وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية من زيد بن حارثة مولاه، وزوج فاطمة بنت قيس القرشية من أسامة بن زيد وهو وأبوه عتيقان. وتزوج بلال بن رباح الحبشي بأخت عبد الرحمن بن عوف الزهرية القرشية. وزوج أبو حذيفة ابن عتبة بن ربيعة القرشي ابنة أخيه الوليد سالما مولاه وهو عتيق لامرأة من الأنصار. وقد قال الله تعالى: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (4) وكذا زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه رقية وأم كلثوم عثمان، وزوج أبا العاص بن الربيع ابنته زينب وهما من بني عبد شمس وليسا من بني هاشم، وزوج علي عمر بن الخطاب ابنته أم كلثوم وهو عدوي لا هاشمي، وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين بن علي وهو أموي لا هاشمي، وتزوج مصعب بن الزبير أختها سكينة وليس هاشميا بل أسدي من أسد قريش، وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة ابنة الزبير بن عبد المطلب الهاشمية ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم وهو كندي لا هاشمي، وهذا شيء كثير. والمقصود بيان بطلان ما يدعيه بعض الهاشميين من تحريم تزويج الهاشمية بغير الهاشمي أو كراهة ذلك، وإنما الواجب في ذلك اعتبار كفاءته في الدين فالذي أبعد أبا طالب وأبا لهب عدم الإسلام، والذي قرب سلمان الفارسي وصهيبا الرومي وبلالا الحبشي إنما هو الإيمان والصلاح والتقوى
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/411) .
(2) صحيح البخاري الأدب (5990) ، صحيح مسلم الإيمان (215) ، مسند أحمد بن حنبل (4/203) .
(3) سنن الترمذي النكاح (1084) ، سنن ابن ماجه النكاح (1967) .
(4) سورة النور الآية 26(33/15)
واتباع الشرع والسير على النهج المستقيم، ومما ينجم عن هذا الجهل والتصرف الباطل حبس النساء الهاشميات وتعطيلهن من الزواج أو تأخيره فيحصل ما لا تحمد عقباه من الفساد وتعطيل النسل أو تقليله، وقد قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1) فأمر بإنكاح الأيامى أمرا مطلقا ليعم الغني والفقير وسائر أصناف المسلمين. وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد رغبت في الزواج وحثت عليه فإن على المسلمين أن يبادروا إلى امتثال أمر الله وأمر رسوله حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (2) » متفق على صحته، فعلى الأولياء أن يتقوا الله في مولياتهم؛ فإنهن أمانة في أعناقهم وإن الله سائلهم عن هذه الأمانة، فعليهم أن يبادروا إلى تزويج بناتهم وأخواتهم وأبنائهم حتى يؤدي كل دوره في هذه الحياة ويقل الفساد والجرائم. ومن المعلوم أن حبس النساء عن الزواج أو تأخيره سبب في فشو الجرائم الأخلاقية وانتشارها التي هي من معاول الهدم والدمار، فيا عباد الله اتقوا الله في أنفسكم وفيمن ولاكم الله عليهن من البنات والأخوات وغيرهن وفي إخوانكم المسلمين، واسعوا جميعا إلى تحقيق الخير والسعادة في المجتمع وتيسير سبل نموه وتكاثره وإزالة أسباب انتشار الجرائم. واعلموا أنكم مسئولون ومحاسبون ومجزيون على أعمالكم قال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (3) {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) ، وقال عز وجل: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (5) وبادروا إلى تزويج بناتكم وأبنائكم مقتدين بنبيكم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم والسائرين على هديهم وطريقتهم وأوصيكم بتقليل مؤن الزواج
__________
(1) سورة النور الآية 32
(2) صحيح البخاري النكاح (5065) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي النكاح (3211) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2165) .
(3) سورة الحجر الآية 92
(4) سورة الحجر الآية 93
(5) سورة النجم الآية 31(33/16)
وعدم المغالاة في المهور، واقتصدوا في تكاليف الزواج واجهدوا في اختيار الأزواج الصالحين الأتقياء ذوي الأمانة والعفة. رزق الله الجميع الفقه في الدين والثبات عليه وأعاذنا وإياكم وسائر المسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. وجنبنا وإياكم مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، كما نسأله أن يصلح ولاة أمور المسلمين ويصلح بهم إنه على ذلك قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والله وصحبه.(33/17)
صفحة فارغة(33/18)
تدوين الراجح من أقوال الفقهاء
القسم الثالث
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
12 - قال (1) . ابن القيم في مبحث غزوة حنين بعد كلام في حديث من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه، قال: ومأخذ النزاع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام والحاكم والمفتي وهو الرسول صلى الله عليه وسلم فقد يقول الحكم بمنصب الرسالة فيكون شرعا عاما إلى يوم القيامة كقوله: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » ، وقوله: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته (3) » ، وكحكمه بالشاهد واليمين وبالشفعة فيما لم يقسم. وقد يقوله بمنصب الفتوى كقوله لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان، وقد شكت إليه شح زوجها وأنه لا يعطيها ما يكفيها: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (4) » ، فهذه فتيا لا حكم إذ لم يدع بأبي سفيان، ولم يسأله عن جواب الدعوى، ولا سألها البينة.
وقد يقوله بمنصب الإمامة فتكون مصلحة الأمة في ذلك الوقت وذلك المكان وعلى تلك الحال فيلزم من بعده من الأئمة مراعاة ذلك على حسب المصلحة التي راعاها النبي صلى الله عليه وسلم زمانا ومكانا وحالا.
ومن ههنا تختلف الأئمة في كثير من المواضع التي فيها أثر عنه صلى الله عليه وسلم، كقوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل قتيلا فله سلبه (5) » ، هل قاله بمنصب الإمامة فيكون حكمه متعلقا بالأئمة، أو بمنصب الرسالة والنبوة فيكون شرعا عاما، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضا ميتة فهي له (6) » ، هل هو شرع عام لكل أحد أذن فيه الإمام أو لم يأذن، أو هو راجع إلى الأئمة فلا يملك بالأحياء إلا بإذن الإمام على
__________
(1) زاد المعاد جـ 2 \ 457
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(3) سنن الترمذي الأحكام (1366) ، سنن أبو داود البيوع (3403) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2466) ، مسند أحمد بن حنبل (4/141) .
(4) صحيح البخاري النفقات (5364) ، صحيح مسلم الأقضية (1714) ، سنن النسائي آداب القضاة (5420) ، سنن أبو داود البيوع (3533) ، سنن ابن ماجه التجارات (2293) ، مسند أحمد بن حنبل (6/206) ، سنن الدارمي النكاح (2259) .
(5) صحيح البخاري فرض الخمس (3142) ، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير (1751) ، سنن الترمذي السير (1562) ، سنن أبو داود الجهاد (2717) ، مسند أحمد بن حنبل (5/295) ، موطأ مالك كتاب الجهاد (990) .
(6) سنن الترمذي الأحكام (1378) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (3073) .(33/19)
القولين، فالأول للشافعي وأحمد في ظاهر مذهبهما، والثاني لأبي حنيفة، وفرق مالك بين الفلوات الواسعة وما لا يتشاح فيه الناس، وبين ما يقع فيه التشاح فاعتبر إذن الإمام في الثاني دون الأول. انتهى.
مما تقدم يتبين ما يأتي: -(33/20)