من الفتوى رقم 7701
السؤال: الكلمة الطيبة كما قال رسول الثقلين صلى الله عليه وسلم الحديث: «من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة (1) » ، هذه الكلمة التامة مع الجزأين أي لا إله نفي وإلا الله إثبات، وذلك دال على وحدانية الله تعالى، والجزء الثاني الدال على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم في أي كتاب
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (29) ، سنن الترمذي الإيمان (2638) ، مسند أحمد بن حنبل (5/318) .(29/76)
أجدها وإن كانت مع الجزأين في كتاب الله تعالى علمه على حدة وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ما سواهما في أي كتاب ما جمعا مع الجزأين؟
الجواب: ورد الركن الأول من أركان الإسلام بجزأيه في القرآن كثيرا، فالجزء الأول كقوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) وقوله: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (2) وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (3) والجزء الثاني كقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (4) وقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (5)
وأما السنة ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بني الإسلام على خمس شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت (6) » وفي صحيح مسلم عن عمر رضي الله عنه قال: «بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الساعة. قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أماراتها. قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، ثم انطلق فلبث مليا، ثم قال لي: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة محمد الآية 19
(3) سورة الأنعام الآية 102
(4) سورة الفتح الآية 29
(5) سورة آل عمران الآية 144
(6) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .(29/77)
ورسوله أعلم. قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم (1) » .
وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل (2) » وفي البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها وصلوا صلاتنا واستقبلوا قبلتنا وذبحوا ذبيحتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله (3) » .
وفي الصحيحين من حديث عتبان رضي الله عنه مرفوعا: «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله (4) » .
وقد فسر أهل العلم هذه الأحاديث وما جاء في معناها بأن من تلفظ بهاتين الشهادتين، والتزم بحقهما من أداء الفرائض، وترك المحرم وإخلاص العبادة لله وحده، فإن الله يدخله الجنة من أول وهلة. أما من مات على شيء من المعاصي دون الشرك، ولم يتب منها، فهو تحت مشيئة الله، إن شاء سبحانه غفر له وأدخله الجنة على ما كان عليه من عمل، وإن شاء عذبه على قدر معصيته، ثم يدخله الجنة، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن يفسر بعضه بعضا وهكذا السنة.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (5) وهذه الآية في غير التائبين.
وأما قوله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (6) فهي في التائبين بإجماع أهل العلم وهذا قول أهل السنة والجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (8) ، سنن الترمذي الإيمان (2610) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (4990) ، سنن أبو داود السنة (4695) ، سنن ابن ماجه المقدمة (63) ، مسند أحمد بن حنبل (1/52) .
(2) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3435) ، صحيح مسلم الإيمان (28) ، سنن الترمذي الإيمان (2638) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) .
(3) صحيح البخاري الصلاة (393) ، سنن الترمذي الإيمان (2608) ، سنن النسائي تحريم الدم (3967) ، سنن أبو داود الجهاد (2641) ، مسند أحمد بن حنبل (3/225) .
(4) صحيح البخاري الصلاة (425) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (33) .
(5) سورة النساء الآية 48
(6) سورة الزمر الآية 53(29/78)
سار على نهجهم من أهل العلم والإيمان، كالأئمة الأربعة وأتباعهم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود(29/79)
من الفتوى رقم 6149
السؤال: أريد تفسير كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ؟
الجواب: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله هي الركن الأول من أركان الإسلام، ومعنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله، وهي نفي وإثبات. لا إله نافيا جميع العبادة لغير الله، إلا الله مثبتا جميع العبادة لله وحده لا شريك له، ونوصيك بمراجعة كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن؛ لأنه قد بسط الكلام في ذلك في باب تفسير التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله، وأما كلمة محمد رسول الله فمعناها الإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بها والانقياد لها قولا وفعلا واعتقادا، واجتناب ما ينافيها من الأقوال والأعمال والمقاصد والتروك، وبعبارة أخرى معناها طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود(29/79)
من الفتوى رقم 1988
السؤال: ما هي حقيقة الإسلام؟
الجواب: حقيقة الإسلام جاءت في جواب الرسول صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام حينما سأله عن الإسلام فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، ويدخل في ذلك الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، كما يدخل في ذلك الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك؛ لأن الإسلام متى أطلق شمل هذه الأمور لقول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (1) وحديث جبرائيل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان أجابه بما ذكر وأخبر صلى الله عليه وسلم عن أن جبرائيل سأل عن هذه الأمور لتعليم الناس دينهم، ولا يخفى أن هذا يدل على أن دين الإسلام هو الانقياد لأوامر الله ظاهرا وباطنا، وترك ما نهى عنه ظاهرا وباطنا، وهذا هو الإسلام الكامل.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود
__________
(1) سورة آل عمران الآية 19(29/80)
من الفتوى رقم 4150
السؤال: ما هي العبودية الحقيقية؟ أهي جعل المرء غيره عبدا ولو كان على غير طريقة الإسلام؟
الجواب: العبودية أنواع:
1 - عبودية حقيقية عامة لجميع الخلق في كل زمان، وهذه ليست لأحد إلا الله وحده، كما في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (1) {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} (2) {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (3) مريم الآيات 93-95، وكما في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله تعالى: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (4) » . الحديث. وكما في الحديث النبوي في الدعاء المشهور: «اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي (5) » . فهذه عبودية كونية قدرية حقيقية عامة، مقتضاها تصرف الله في خلقه كيف يشاء، وانقيادهم له طوعا وكرها، لا معقب لحكمه وهو اللطيف الخبير، لا شريك له في شيء من ذلك.
2 - عبودية تشريف وتكريم لأصفيائه وأوليائه من أنبيائه وملائكته وسائر الصالحين من عباده، كما في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (6) الآيات.
__________
(1) سورة مريم الآية 93
(2) سورة مريم الآية 94
(3) سورة مريم الآية 95
(4) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2577) ، سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2495) ، سنن ابن ماجه الزهد (4257) ، مسند أحمد بن حنبل (5/154) ، سنن الدارمي الرقاق (2788) .
(5) مسند أحمد بن حنبل (1/391) .
(6) سورة الإسراء الآية 1(29/81)
وقوله تعالى في الملائكة: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} (1) الأنبياء 26. وقوله تعالى في عموم الصالحين: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (2) إلى الآية الأخيرة من سورة الفرقان.
هذه عبودية حقيقية خاصة اختص الله تعالى بها الصالحين الأخيار من عباده تشريفا لهم وتكريما.
3 - عبودية بين مخلوق ومخلوق وهذه عبودية خاصة محدودة مؤقتة وهي إما شرعية إن كانت عن حرب إسلامية للكفار، خولها الله للغانمين، ولمن اشترى منهم، وجعل لها حقوقا. وإما غير شرعية وهي التي تكون عن سرقة أحرار، أو التسلط عليهم ظلما وعدوانا، أو تكون بشراء من هؤلاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي، ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه، ولم يعطه حقه (3) » متفق عليه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 26
(2) سورة الفرقان الآية 63
(3) صحيح البخاري البيوع (2227) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2442) ، مسند أحمد بن حنبل (2/358) .(29/82)
من الفتوى رقم 7150
السؤال: من المعلوم البين والواضح المتعين أن الإسلام جاء لتحرير الناس والحرية في الإسلام - كما وصفها أحد العلماء الربانيين أنها -: أن تكون عبدا لله وحرا لسواه. فالرجاء منكم أن توضحوا لنا باختصار مفهوم العبودية في الإسلام، وكيف يتم تحرير العبد من سيده؟ وكل ما تفرع من ذلك إضافة إلى(29/82)
ذلك تفسير الحكمة من اتخاذ الرسول صلى الله عليه وسلم لأنس كخادم واتخاذ عمر للغلام. . . إلخ.
الجواب: معنى العبودية الخضوع والتذلل والانقياد لله تعالى بطاعة أوامره وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده تقربا إليه سبحانه، ورغبة في ثوابه، وحذرا من غضبه وعقابه، فهذه هي العبودية الحقة، ولا تكون إلا لله. وأما عبودية الرق فهي عبودية طارئة لأسباب، كثيرة أصلها، تلبس الشخص بالكفر فيسبى من الكفار بالجهاد الشرعي.
أما كيف يتحرر العبد من سيده فلذلك أسباب أوضحها العلماء في كتاب العتق، منها أن يعتقه سيده على سبيل التقرب إلى الله سبحانه، ومنها أن يعتقه عن كفارة قتل أو ظهار أو نحوهما. وأما اتخاذ الخادم فجائز؛ لما ثبت في حديث أنس وغيره من الأحاديث، ومن الحكمة في ذلك قضاء حوائج النبي صلى الله عليه وسلم ومساعدته في لوازمه الخاصة، ومعرفة الآداب والأخلاق التي كان يتحلى بها، وليس في ذلك معارضة للعبودية الخاصة لله وحده.
وبالله التوفيق.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود(29/83)
من الفتوى رقم 7559
السؤال: أسلم كافر فهل ينطق بالشهادتين أو يتوضأ أولا؟
الجواب: ينطق بالشهادتين أولا، ثم يتطهر للصلاة، ويشرع له الغسل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعض الصحابة بذلك لما أسلم.(29/83)
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود(29/84)
من الفتوى رقم 8897
السؤال: المسائل يطرحها المسلمون من أمكنة كثيرة لمجالس التوعية، وهم يريدون الإجابة العقلية السفسطائية المسايرة لعقلهم، الذين لا يؤمنون بالقرآن ولا بالسنة، بل يستندون إلى العقل، أي أنهم ممن يستحسنون العقل فقط؛ ولهذا يريدون الإجابة العقلية المقنعة لهم، وهم سائرون للترويج لغرض التشويش وتشكيك الجهلاء من المسلمين، منهم من يحسنون المجاملة مع المسلمين كالصينيين الماليزيين، ومنهم من لهم السلطة والسياسة كالبوذيين، بفطاني: وما الإجابة عما يأتي:
1 - إنه لا يختلف في شيء حيث إننا نعبد ونسجد لأحجار التماثيل في ماليزيا، بينما أنتم تذهبون بنفقات باهظة تبيعون لهم العقارات، وما إلى ذلك من النفيسات لديكم ذاهبون إلى مكة، أنتم هناك تركعون وتسجدون وتطوفون أحجار الكعبة بالمسجد الحرام، وقد شاهدناها من خلال التلفاز في مواسم الحج وقالوا: الكل على كل حال أحجار بغض النظر عن معتقداتكم، غير هذا الظاهر والمقدم أو المروج لهذه مجوسيون صينيون ماليزيون؟
2 - إن مثل الأديان كمثل الأنهار العديدة المختلفة المنابع، أقصاها من منبع واحد في أراض عالية، والكل جرين إلى بحر واحد. يريدون منها: أن الأديان تعلم معتنقيها الأخلاق الحسنة والأعمال النافعة والهادفة لصلاح بني(29/84)
البشر وفلاحهم دنيويا وأخرويا. . وأخيرا يحشرهم أمام الله ذلك المقصود منهم: من المنبع الواحد إلى البحر الواحد.
3 - بمعنى فمن تمسك بأي دين من الأديان فهو ناج؛ لأنه حق الله وإلى الله، سواء بدين إسلامي أو بوذي أو مسيحي. ذلك للتشويش أو للتشكيك في صفوف المسلمين، وخصوصا في أبنائهم نرجو الإخطار سريعا بوصول المراقب لديكم.
إننا ننتظر ساعة بساعة نشكركم على ذلك مقدما. هذا ومع العلم هذا قول أو فلسفة رهبان البوذيين التايلنديين، قام رجال سياسيون تايلنديون بزرع الأفكار في صفوف أبناء المسلمين، الذين يتعلمون في مدارسهم الحكومية، فيؤمنون بها أغلبيتهم؛ ذلك لغرض سياسة الانضمامية الإسلام إلى بوذيهم وملايويتهم في سيامميتهم. . . وهكذا. . . وكذلك يفعلون.
وتقول الطائفة الشيعية في تأويلهم قول الله سبحانه وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (1) فمن ذكر الله في قبله فلا صلاة له بكيفياتها المعروفة. ومن المعروف أن معتقديها قاموا بالصلاة الباطنية، وهو أن يغمضوا البصر برهة، يبصر من خلالها عملية صلاته في ذهنهم، وقالوا: وبهذا قد قامت الصلاة.
قالوا: إن الصلاة الباطنية أقوى وأبقى من أعمال الظاهرية، أي بكيفياتها المعروفة مستدلون بقوله: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (2) أي ما عندكم هو عملية الصلاة بالظاهرية بالأعضاء وهي ذاهبة بعد العمل مباشرة {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (3) أي وهو القلب الذي كمنتم بأبي فيكم صوته وصورته تجيء إليكم على الدوام. تعملون للصلوات مرة يوميا إما من أول النهار وهو في الصبح وإما آخره وهو في وقت المغرب، والأفضل أن تفعلوا الكل في أوقاتها حيث أينما وحيثما كنتم وحتى في المراحيض وأثناء الأكل وإيتاء النساء، هذا ما أفيد مضمون كلام الشيخ الذي حضر التوعية، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
الجواب: الفرق بيننا وبين ما ذكرت عن الملاحدة عظيم فالمسلمون يعبدون الله وحده على ما جاء به كتابه العظيم القرآن ورسوله محمد صلى
__________
(1) سورة طه الآية 14
(2) سورة النحل الآية 96
(3) سورة النحل الآية 96(29/85)
الله عليه وسلم الذي بعثه الله إلى الجن والإنس والعرب والعجم والرجال والنساء وجعله خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وأوجب على الثقلين اتباعه والتمسك بما جاء به صلى الله عليه وسلم، أما الملحدون فيتبعون أهواءهم وعقولهم، والعقول والأهواء لا تنجي أهلها من عذاب الله ولا ترشدهم إلى الأعمال والأقوال التي ترضي الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} (1) .
وأما قولهم: إن الأديان كلها من منبع واحد، فهو باطل بل الإسلام الذي بعث الله به الرسل هو دين الحق ومنبعه من الله سبحانه، الذي خلق من أجله الثقلين، وأنزل به الكتب التي أعظمها القرآن الكريم وأرسل به الرسل الذين ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأما الأديان الأخرى فمنبعها آراء الناس وعقولهم، وهي غير معصومة، ولا يصح منها، ولا يعتبر إلا ما وافق الشرع الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وبعد بعث محمد صلى الله عليه وسلم لا يقبل من آراء الناس وعقولهم ولا ما في الكتب السابقة التي قبل القرآن إلا ما وافق شرعه عليه الصلاة والسلام. . . قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (2) ، وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (3) وقال سبحانه وتعالى في شأن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4) . وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} (5) {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (6) ،
__________
(1) سورة القصص الآية 50
(2) سورة آل عمران الآية 31
(3) سورة الأنعام الآية 155
(4) سورة النساء الآية 65
(5) سورة الأعراف الآية 156
(6) سورة الأعراف الآية 157(29/86)
ثم قال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار (2) » ، والأحاديث في هذه المعنى كثيرة، فالواجب نصيحة هؤلاء الملاحدة ودعوتهم إلى الحق وتذكيرهم بمغبة كفرهم وأن مصيرهم النار إن لم يؤمنوا بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتبعوا ما جاء به ولكم من الله الأجر العظيم وحسن العاقبة، وأما زعم من ذكرت أنهم لا يقبلون إلا ما يقتضيه العقل، فينبغي أن يبين لهم بلغتهم التي يفهمونها أن العقل غير معصوم وأن عقول الناس مختلفة؛ فلهذا جاء شرع الله المطهر ليوم الاعتماد عليها، وإنما يعتمد على ما دل عليه كتاب الله لكونه الحق الذي ليس بعده حق؛ ولأنه لا أصدق من الله سبحانه؛ ولأنه أعلم بأحوال عباده ثم ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3) ولأن كتاب الله {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (4) ؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ في كل ما يبلغه عن الله سبحانه؛ ولهذا أمر الله عز وجل بكتابه العظيم بالرجوع إلى حكمه عند الاختلاف، وإلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (5) . وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (6) .
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) صحيح مسلم الإيمان (153) ، مسند أحمد بن حنبل (2/350) .
(3) سورة النجم الآية 4
(4) سورة فصلت الآية 42
(5) سورة الشورى الآية 10
(6) سورة النساء الآية 59(29/87)
ولم يأمر سبحانه ولا رسوله بالرجوع إلى العقول وتحكيمها وما ذلك إلا لعجزها عن حل المشاكل واختلافها.
نسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه وأن يعين الجميع للفقه في دينه والثبات عليه وترك ما خلافه إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود(29/88)
الفتوى رقم 11110
السؤال: إن الكلمة الطيبة أحد الأسس الخمسة التي بني عليها الإسلام، علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم الكلمة المذكورة كما نقولها (لا إله إلا الله محمد رسول الله) أم علمنا هكذا (لا إله إلا الله) ؟ وماذا ورد في ذلك في القرآن الكريم وكتب الأحاديث الصحيحة، وإذا كان في كتاب الله ففي أي سورة، وما رقم الآية الواردة في ذلك؟ وإذا كان في كتاب الحديث المعتمد عليه ففي أي صفحة، وهو أي قسم من أقسام الحديث، وهل منحت للأمة الإسلامية حقوق إضافة أي لفظ أو جملة إلى أي آية قرآنية أو حديث صحيح، ولو كان ذلك حسنا وطيبا وما حكم الشرع في ذلك؟
الجواب: الكلمة الطيبة (لا إله إلا الله) هي كما ذكرت في السؤال أحد الأسس الخمسة التي بني عليها الإسلام، بل هي الركن الأول من أركانه وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم تلك الكلمة الطيبة.(29/88)
وسائر الأركان الخمسة في قوله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت وصوم رمضان (1) » رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (2) » رواه الستة.
وفيما رواه ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: «إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله (3) » وفي رواية «أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب (4) » رواه البخاري ومسلم.
وقد أمرنا الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به من التشريع كتابا وسنة فقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (5) سورة آل عمران آية 32، وقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (6) وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (7) سورة الحشر آية 7.
وليس للأمة أن تضيف حكما أو لفظا أو جملة تزيد شيئا في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل ذلك بدعة وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (8) » وفي رواية «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (9) » .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/93) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (25) ، صحيح مسلم الإيمان (22) .
(3) صحيح البخاري الزكاة (1458) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(4) صحيح البخاري الزكاة (1496) ، صحيح مسلم الإيمان (19) ، سنن الترمذي الزكاة (625) ، سنن النسائي الزكاة (2435) ، سنن أبو داود الزكاة (1584) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1783) ، مسند أحمد بن حنبل (1/233) ، سنن الدارمي الزكاة (1614) .
(5) سورة آل عمران الآية 32
(6) سورة النساء الآية 80
(7) سورة الحشر الآية 7
(8) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(9) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(29/89)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان(29/90)
من الفتوى رقم 5318
السؤال: من مات وله خمس نسوة أو زائد أهو مسلم لنصلي عليه بعد موته، وقد علمنا قول الله جل شأنه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (1) البقرة 85.
الجواب: لا يثبت الإيمان لمن قال لا إله إلا الله إلا إذا قالها خالصا من قلبه، ولا تعتبر عند الله إلا إذا كانت كذلك، أما في الدنيا فيعامل من قالها معاملة المسلمين مطلقا، ولو كان غير مخلص فيها؛ لأنا إنما نأخذ بالظاهر والله هو الذي يتولى السرائر، ومن قالها وأتى بما ينقضها كفر، كمن يستحل ما علم من الدين بالضرورة بعد البلاغ، مثل مستحل الزنا ونكاح المحارم، ومن نواقضها ترك الصلاة عمدا مع إبلاغه وأمره والنصح له، على الصحيح من أقوال العلماء، ومنها تعليق الحجب والتمائم من غير القرآن مع اعتقاد تأثيرها، أما إذا اعتقد أنها سبب للشفاء، أو حفظه من الجن والعين، فهي محرمة ولا تنقض الإسلام، ولكنها من أنواع الشرك الأصغر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (2) » .
وأما تعليق التمائم من القرآن ففي جوازه خلاف بين العلماء، والأرجح تحريم ذلك؛ لعموم الأدلة ولسد الذريعة المفضية إلى تعليق غيره. ومن نواقض الإسلام الاستغاثة بالأموات والأصنام ونحوها من الجمادات، أو بالغائبين من الجن والإنس، أو بالأحياء الحاضرين فيما لا يقدر عليه إلا الله، ونحو ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 85
(2) مسند أحمد بن حنبل (4/154) .(29/90)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن قعود(29/91)
من الفتوى رقم 3716
السؤال: إنني أسمع وأرى بعيني من يقولون بأن الأولياء عندهم التصرف في الدنيا في العبد، ويقولون بأنهم عندهم أربعون وجها. . . تراه رجلا وتراه ثعبانا وأسدا وغير ذلك، ويذهبون عند المقابر وينامون هناك ويدلجون هناك ويقولون بأنه يقف عندهم في المنام ويقول لهم: اذهبوا، فإنكم شفيتم، فهل هذا الكلام صحيح أم لا؟
الجواب: ليس للأولياء تصرف في أحد وما آتاهم الله من الأسباب العادية التي يؤتيها الله لغيرهم من البشر، فلا يملكون خرق العادات، ولا يمكنهم أن يتمثلوا في غير صور البشر من ثعابين أو أسود أو قرود، أو نحو ذلك من الحيوان، إنما ذلك أعطاه الله للملائكة والجن، وخصهم به، ويشرع الذهاب إلى القبور لزيارتها والدعاء بالمغفرة والرحمة لأهلها، ولا يجوز الذهاب إليها لطلب البركة والشفاء من أهلها والاستغاثة بهم في تفريج الكربات، وقضاء الحاجات، بل هذا شرك أكبر، كما أن الذبح لغير الله شرك أكبر، سواء كان عند قبور الأولياء، أم غيرهم، فما حكيته عنهم مخالف للشرع، بل من البدع المنكرة والعقائد الشركية.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(29/91)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود(29/92)
الفتوى رقم 4154
السؤال: إن رجلا خطيب مسجد بإحدى قرى بلادنا التي نعيش فيها نحن، وهو من الصوفية والطريقة الشاذلية التي يسمونها على أنفسهم. وهذا الرجل يدعو الناس ويعلمهم التوسل بمخلوقات الله، مثل الأنبياء والأولياء، ويدعوهم إلى زيارة الأضرحة (القباب) ، ويحل لهم الحلف بالنبي والولي، والكفارة في هذا الحلف إذا حنث الحالف. ونحن جماعة من الجماعات الإسلامية ناظرناه في ذلك الخطأ الذي يفعله ويعلمه للناس، ولكنه مصر على ذلك ويستدل بأحاديث ضعيفة وموضوعة، فهل هذا يصلى وراءه؛ لأننا لم نتم بناء المسجد؛ لأننا جمعنا تبرعات لبناء هذا المسجد، ولكن لم ينشأ إلى الآن. فنرجو فتواكم على هذا السؤال وفقنا ووفقكم الله تعالى. وغير هذا أنه كفر شيوخ الإسلام مثل شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رضي الله عنهم ورحمهم الله.
الجواب: إن الاستغاثة بالأموات ودعاءهم من دون الله أو مع الله شرك أكبر، يخرج من ملة الإسلام، سواء كان المستغاث به نبيا أم غير نبي، وكذلك الاستغاثة بالغائبين شرك أكبر، يخرج من ملة الإسلام والعياذ بالله، وهؤلاء لا تصح الصلاة خلفهم لشركهم. أما من استغاث بالله وسأله سبحانه وحده متوسلا بجاههم أو طاف حول قبورهم دون أن يعتقد فيهم تأثيرا، وإنما رجا أن تكون منزلتهم عند الله سببا في استجابة الله له، فهو مبتدع آثم، مرتكب لوسيلة من وسائل الشرك، ويخشى عليه أن يكون ذلك منه ذريعة إلى وقوعه(29/92)
في الشرك الأكبر. ونسأل الله أن يعينكم على نشر التوحيد ونصرة الحق وجهاد المبتدعين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود(29/93)
من الفتوى رقم 5553
السؤال: الاستغاثة بالأنبياء والأولياء والصالحين في حياتهم وبعد مماتهم في كشف السوء وجلب الخير والتوسل بهم أيضا في الحالتين لقضاء الحوائج والمآرب أيجوز ذلك أم لا؟
الجواب: أما الاستغاثة بالأموات من الأنبياء وغيرهم فلا تجوز، بل هي من الشرك الأكبر، وأما الاستغاثة بالحي الحاضر والاستغاثة به فيما يقدر عليه فلا حرج؛ لقول الله سبحانه في قصة موسى {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (1) أما التوسل بالأنبياء وغيرهم بذواتهم أو جاههم أو حقهم فلا يجوز، بل هو من البدع ووسائل الشرك.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود
__________
(1) سورة القصص الآية 15(29/93)
فتوى رقم 9582
السؤال: فيه هجوم شديد على السلفيين وأنهم منكرون ولا يحبون الأولياء، ومن ضمن الأدلة التي استدلوا بها على أن الاستغاثة بالميت جائزة حديث الرجل الأعمى الذي استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وقد علمت أن هذا الحديث صحيح مما يسبب لبعض الناس حيرة شديدة، فأرجو إفادتنا في هذا الأمر الهام؟
الجواب: وبعد دراسة اللجنة للاستفتاء أجابت بأن حديث الأعمى أخرجه الإمام الترمذي بسنده عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ادع الله أن يعافيني قال إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في (1) » وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر الخطمي.
والحديث على تقدير صحته ليس فيه دعاء الأعمى للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فيه دعاء الله تعالى بتوجهه بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، كما دعا الله تعالى أن يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم لتقضى حاجته.
وليس في الحديث ما يدل على جواز دعاء الموتى، وقد تكلم أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في هذا الحديث كلاما طيبا، وأوضح معناه في كتابه القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة (2) وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) الترمذي ج5 ص569.
(2) القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة ص92 طبعة رئاسة البحوث.(29/94)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان(29/95)
فتوى رقم 6972
السؤال: رجل يصلي ويصوم ويفعل جميع أركان الإسلام ومع ذلك كله يدعو غير الله حيث إنه يتوسل بالأولياء وينتصر بهم ويعتقد أنهم قادرون على جلب المنافع ودفع المضار، أخبرونا جزاكم الله خيرا هل يرثهم أولادهم الموحدون بالله الذي لا يشركون مع الله شيئا وأيضا ما هو حكمهم؟
الجواب: من كان يصلي ويصوم ويأتي بأركان الإسلام إلا أنه يستغيث بالأموات والغائبين وبالملائكة ونحو ذلك فهو مشرك، وإذا نصح ولم يقبل وأصر على ذلك حتى مات فهو مشرك شركا أكبر يخرجه من ملة الإسلام، فلا يغسل ولا يصلى عليه صلاة الجنازة، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يدعى له بالمغفرة، ولا يرثه أولاده ولا أبواه ولا إخوته الموحدون، ولا نحوهم ممن هو مسلم؛ لاختلافهم في الدين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (1) » رواه البخاري (2) ومسلم (3) .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الفرائض (6764) ، صحيح مسلم الفرائض (1614) ، سنن الترمذي الفرائض (2107) ، سنن أبو داود الفرائض (2909) ، سنن ابن ماجه الفرائض (2730) ، مسند أحمد بن حنبل (5/208) ، موطأ مالك الفرائض (1104) ، سنن الدارمي الفرائض (2998) .
(2) ج8 ص11.
(3) شرح النووي على مسلم ج11 ص52.(29/95)
من الفتوى رقم 7308
السؤال: يقول أرباب الصوفية: إنهم يستعينون ويستغيثون بعباد صالحين مجازا، والله عز وجل هو المستعان حقيقة، فكيف ترد على هؤلاء؟ ثم إنهم يقولون حجة لهم في الاستعانة بالصالحين: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} (1) إلى آخر الآية الكريمة حجة لهم فكيف ترد على هذا؟
الجواب: أولا: الاستعانة والاستغاثة بغير الله من الأموات والغائبين والأصنام ونحوها شرك بالله عز وجل، وهكذا الاستغاثة والاستعانة بغير الله من الأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام.
ثانيا: الاستدلال على مشروعية الاستعانة والاستغاثة بغير الله بقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (2) استدلال باطل، فإن معناها وما أصبت عيون الكفار في غزوة بدر مع كثرتهم وانتشارهم في ميدان القتال بما حذفتهم به من الحصى مع ضعفك وقلة ما بيدك من الحصى، ولكن الله تعالى هو الذي أوصله إليهم فأصاب أعينهم جميعا بقدرته سبحانه، فليس في الآية استغاثة بغير الله، وإنما فيها الأخذ بالأسباب، ولو ضعيفة وهو حذف الحصى مع الضراعة لله واللجوء إليه، فكانت النتائج بفضل الله وقدرته عظيمة، وكان مع حذف الحصى أيضا دعاء الرسول عليهم وطلبه النصر من الله وحده على أعدائه لا دعاء الصالحين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(1) سورة الأنفال الآية 17
(2) سورة الأنفال الآية 17(29/96)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة ... عضو ... عضو
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد الله بن غديان ... عبد الله بن قعود(29/97)
من الفتوى رقم 9272
السؤال: هل الاستغاثة بالغائب أو الميت كفر أكبر؟
الجواب: نعم الاستغاثة بالأموات أو الغائبين شرك أكبر يخرج من فعل ذلك من ملة الإسلام لقوله سبحانه: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (1) وقوله عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (2) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (3) .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الرئيس ... نائب رئيس اللجنة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 117
(2) سورة فاطر الآية 13
(3) سورة فاطر الآية 14(29/97)
صفحة فارغة(29/98)
من فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
حكم البناء على القبور والكتابة عليها
السؤال: لاحظت عندنا على بعض القبور عمل صبة بالإسمنت بقدر متر طولا في نصف متر عرضا مع كتابة اسم الميت عليها وتاريخ وفاته وبعض الجمل كـ (اللهم ارحم فلان بن فلان. . .) وهكذا فما حكم مثل هذا العمل؟
الجواب: لا يجوز البناء على القبور لا بصبة ولا بغيرها ولا تجوز الكتابة عليها؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عن البناء عليها والكتابة عليها، فقد روى مسلم رحمه الله من حديث جابر رضي الله عنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (1) » وخرجه الترمذي وغيره بإسناد صحيح وزاد «وأن يكتب عليه (2) » ؛ ولأن ذلك نوع من أنواع الغلو فوجب منعه؛ ولأن الكتابة ربما أفضت إلى عواقب وخيمة من الغلو وغيره من المحظورات الشرعية، وإنما يعاد تراب القبر عليه ويرفع قدر شبر تقريبا حتى يعرف أنه قبر، هذه هي السنة في القبور التي درج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا يجوز اتخاذ المساجد عليها ولا كسوتها ولا وضع القباب عليها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (3) » متفق على صحته.
ولما روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال سمعت
__________
(1) صحيح مسلم الجنائز (970) ، سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن أبو داود الجنائز (3225) ، مسند أحمد بن حنبل (3/339) .
(2) سنن الترمذي الجنائز (1052) ، سنن النسائي الجنائز (2027) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1563) .
(3) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .(29/99)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: «إن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (1) » . . . والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
ونسأل الله أن يوفق المسلمين للتمسك بسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، والثبات عليها والحذر مما يخالفها.
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(29/100)
معنى نقص العقل والدين عند النساء
السؤال: دائما نسمع الحديث الشريف: «النساء ناقصات عقل ودين (1) » ويأتي به بعض الرجال للإساءة للمرأة. نرجو من سماحتكم توضيح معنى هذا الحديث؟
الجواب: معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم من إحداكن، فقيل: يا رسول الله ما نقصان عقلها؟ قال: أليست شهادة المرأتين بشهادة رجل؟ قيل: يا رسول الله ما نقصان دينها؟ قال: أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم (2) » بين عليه الصلاة والسلام أن نقصان عقلها من جهة ضعف حفظها وأن شهادتها تجبر بشهادة امرأة أخرى؛ وذلك لضبط الشهادة بسبب أنها قد تنسى فتزيد في الشهادة أو تنقصها كما قال سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (3) . الآية.
وأما نقصان دينها فلأنها في
__________
(1) صحيح البخاري الحيض (304) ، صحيح مسلم الإيمان (80) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1576) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1288) ، مسند أحمد بن حنبل (3/42) .
(2) صحيح البخاري الحيض (304) ، صحيح مسلم الإيمان (80) .
(3) سورة البقرة الآية 282(29/100)
حالة الحيض والنفاس تدع الصلاة وتدع الصوم ولا تقضي الصلاة، فهذا من نقصان الدين. ولكن هذا النقص ليست مؤاخذة عليه، وإنما هو نقص حاصل بشرع الله عز وجل، هو الذي شرعه عز وجل رفقا بها وتيسيرا عليها؛ لأنها إذا صامت مع وجود الحيض والنفاس يضرها ذلك، فمن رحمة الله شرع لها ترك الصيام وقت الحيض والنفاس والقضاء بعد ذلك.
وأما الصلاة فإنها حال الحيض قد وجد منها ما يمنع الطهارة، فمن رحمة الله جل وعلا أن شرع لها ترك الصلاة، وهكذا في النفاس. ثم شرع لها أنها لا تقضي؛ لأن في القضاء مشقة كبيرة؛ لأن الصلاة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات. والحيض قد تكثر أيامه، فتبلغ سبعة أيام أو ثمانية أيام أو أكثر، والنفاس قد يبلغ أربعين يوما، فكان من رحمة الله لها وإحسانه إليها أن أسقط عنها الصلاة أداء وقضاء، ولا يلزم من هذا أن يكون نقص عقلها في كل شيء ونقص دينها في كل شيء، وإنما بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن نقص عقلها من جهة ما قد يحصل من عدم الضبط للشهادة، ونقص دينها من جهة ما يحصل لها من ترك الصلاة والصوم في حال الحيض والنفاس. ولا يلزم من هذا أن تكون أيضا دون الرجل في كل شيء، وأن الرجل أفضل منها في كل شيء. نعم، جنس الرجال أفضل من جنس النساء في الجملة؛ لأسباب كثيرة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (1) لكن قد تفوقه في بعض الأحيان في أشياء كثيرة، فكم لله من امرأة فوق كثير من الرجال في عقلها ودينها وضبطها، وإنما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جنس النساء دون جنس الرجال في العقل وفي الدين من هاتين الحيثيتين اللتين بينهما النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تكثر منها الأعمال الصالحات فتربو على كثير من الرجال في عملها
__________
(1) سورة النساء الآية 34(29/101)
الصالح وفي تقواها لله عز وجل وفي منزلتها في الآخرة، وقد تكون لها عناية في بعض الأمور فتضبط ضبطا كثيرا أكثر من ضبط بعض الرجال في كثير من المسائل التي تعنى بها وتجتهد في حفظها وضبطها. فتكون مرجعا في التاريخ الإسلامي وفي أمور كثيرة، وهذا واضح لمن تأمل أحوال النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك، وبهذا يعلم أن هذا النقص لا يمنع من الاعتماد عليها في الرواية، وهكذا في الشهادة إذا انجبرت بامرأة أخرى، ولا يمنع أيضا تقواها لله وكونها من خيرة عباد الله ومن خيرة إماء الله، إذا استقامت في دينها، وإن سقط عنها الصوم في الحيض والنفاس أداء لا قضاء، وإن سقطت عنها الصلاة أداء وقضاء، فإن هذا لا يلزم منه نقصها في كل شيء من جهة تقواها لله، ومن جهة قيامها بأمره، ومن جهة ضبطها لما تعتني به من الأمور، فهو نقص خاص في العقل والدين، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي للمؤمن أن يرميها بالنقص في كل شيء، وضعف الدين في كل شيء، وإنما ضعف خاص بدينها، وضعف في عقلها فيما يتعلق بضبط الشهادة ونحو ذلك، فينبغي إنصافها وحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على خير المحامل وأحسنها، والله تعالى أعلم.(29/102)
ما صحة حديث من سن سنة حسنة فله أجرها؟
السؤال: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة (1) » هل هذا حديث؟ وإذا كان حديثا فهل الرسول صلى الله عليه وسلم ترك شيئا لأحد حتى يسن به سنة في الإسلام؟ نرجو أن توضحوا لنا هذا المقام بالتفصيل.
الجواب: هذا الحديث صحيح وهو يدل على شرعية إحياء السنن والدعوة إليها والتحذير من البدع والشرور؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول: «من سن
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (512) .(29/102)
في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا (1) » . خرجه مسلم في صحيحه.
ومثل هذا الحديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (2) » ، وهكذا حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله أجر فاعله (3) » . خرجهما مسلم في صحيحه.
ومعنى «سن في الإسلام (4) » يعني: أحيا سنة وأظهرها وأبرزها مما قد يخفى على الناس فيدعو إليها ويظهرها ويبينها، فيكون له من الأجر مثل أجور أتباعه فيها، وليس معناها الابتداع في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن البدع وقال: «كل بدعة ضلالة (5) » وكلامه - صلى الله عليه وسلم - يصدق بعضه بعضا، ولا يناقض بعضه بعضا، بإجماع أهل العلم، فعلم بذلك أن المقصود من الحديث إحياء السنة وإظهارها.
مثال ذلك أن يكون العالم في بلاد ما يكون عندهم تعليم للقرآن الكريم وما عندهم تعليم للسنة النبوية فيحيي هذه السنة بأن يجلس للناس يعلمهم القرآن، ويعلمهم السنة، أو يأتي بمعلمين أو في بلاد يحلقون لحاهم، أو يقصونها، فيأمر هو بإعفاء اللحى وإرخائها، فيكون بذلك قد أحيا هذه السنة العظيمة في هذا البلد الذي لم يعرفها، ويكون له من الأجر مثل أجر من هداه الله بأسبابه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «قصوا الشوارب وأعفوا اللحى خالفوا المشركين (6) » متفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والناس لما رأوا هذا العالم قد وفر لحيته ودعا إلى ذلك تابعوه، فأحيا بهم السنة، وهي سنة واجبة لا يجوز تركها، عملا بالحديث المذكور وما جاء في معناه، فيكون له مثل
__________
(1) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(2) صحيح مسلم العلم (2674) ، سنن الترمذي العلم (2674) ، سنن أبو داود السنة (4609) ، مسند أحمد بن حنبل (2/397) ، سنن الدارمي المقدمة (513) .
(3) صحيح مسلم الإمارة (1893) ، سنن الترمذي العلم (2671) ، سنن أبو داود الأدب (5129) ، مسند أحمد بن حنبل (4/120) .
(4) صحيح مسلم الزكاة (1017) ، سنن الترمذي العلم (2675) ، سنن النسائي الزكاة (2554) ، سنن ابن ماجه المقدمة (203) ، مسند أحمد بن حنبل (4/359) ، سنن الدارمي المقدمة (514) .
(5) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/311) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(6) مسند أحمد بن حنبل (2/229) .(29/103)
أجورهم. وقد يكون في بلاد يجهلون صلاة الجمعة ولا يصلونها فيعلمهم ويصلي بهم الجمعة، فيكون له مثل أجورهم، وهكذا لو كان في بلاد يجهلون الوتر فيعلمهم إياه ويتابعونه على ذلك، أو ما أشبه ذلك من العبادات والأحكام المعلومة من الدين، فيطرأ على بعض البلاد أو بعض القبائل جهلها، فالذي يحييها بينهم وينشرها ويبينها يقال: سن في الإسلام سنة حسنة، بمعنى أنه أظهر حكم الإسلام، فيكون بذلك ممن سن في الإسلام سنة حسنة.
وليس المراد أن يبتدع في الدين ما لم يأذن به الله، فالبدع كلها ضلالة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة (1) » ، ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أيضا: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » ، وفي اللفظ الآخر: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (3) » متفق عليه.
ويقول في خطبة الجمعة عليه الصلاة والسلام: «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة (4) » خرجه مسلم في صحيحه. فالعبادة التي لم يشرعها الله لا تجوز الدعوة إليها، ولا يؤجر صاحبها، بل يكون فعله لها ودعوته إليها من البدع، وبذلك يكون الداعي إليها من الدعاة إلى الضلالة، وقد ذم الله من فعل ذلك بقوله سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (5) . الآية.
__________
(1) سنن الترمذي العلم (2676) ، سنن الدارمي المقدمة (95) .
(2) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .
(3) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .
(4) صحيح مسلم الجمعة (867) ، سنن النسائي صلاة العيدين (1578) ، سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2954) ، سنن ابن ماجه المقدمة (45) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي المقدمة (206) .
(5) سورة الشورى الآية 21(29/104)
حكم الأخطاء التي ارتكبت قبل الهداية
السؤال _ يقول السائل:. . . إنه كان جاهليا ولقد من الله عليه بالإسلام وكان قبل ذلك قد ارتكب بعض الأخطاء، ويقول: سمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم (1) » كيف تنصحونني والحالة هذه؟
الجواب: قد شرع الله سبحانه وتعالى لعباده التوبة، فقال سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (3) وقال جل وعلا: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (4) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له (5) » .
فمن اقترف شيئا من المعاصي فعليه بالبدار بالتوبة والندم والإقلاع والحذر والعزم أن لا يعود في ذلك. والله يتوب على التائبين سبحانه وتعالى، فمتى صدق العبد في التوبة بالندم على ما مضى، والعزم أن لا يعود، وأقلع منها تعظيما لله وخوفا من الله، فإنه يتوب عليه، ويمحو الله عنه ما مضى من الذنوب فضلا منه وإحسانا سبحانه وتعالى. لكن إن كانت المعصية ظلما للعباد، فذلك يحتاج إلى أداء الحق الذي عليه بالتوبة مما وقع والندم والإقلاع، والعزم أن لا يعود، وعليه مع ذلك أداء الحق لمستحقه أو تحلله من ذلك، كأن يقول: سامحني يا أخي، أو اعف عني، أو ما أشبه ذلك، أو يعطيه حقه للحديث الذي ذكره السائل، وغيره من الأحاديث والآيات. والرسول صلى الله عليه
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2449) ، مسند أحمد بن حنبل (2/435) .
(2) سورة النور الآية 31
(3) سورة التحريم الآية 8
(4) سورة طه الآية 82
(5) سنن ابن ماجه الزهد (4250) .(29/105)
وسلم يقول: «من كان عنده لأخيه مظلمة فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ من حسناته بقدر مظلمته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه (1) » خرجه البخاري في صحيحه. فينبغي للمؤمن أن يحرص على البراءة والسلامة من حق أخيه فإما أن يؤديه إليه أو يتحلله منه، وإذا كان عرضا فلا بد من تحلله إن استطاع، فإن لم يستطع أو خاف من مغبة ذلك وأن يترتب على إخباره شر أكثر، فإنه يستغفر له، ويدعو له، ويذكره بالمحاسن التي يعرفها عنه بدلا مما ذكره بالسوء، يعني عليه أن يغسل السيئة الأولى بالحسنات الأخيرة، فيذكره بالخير الذي يعلمه عنه، وينشر محاسنه ضد السيئات التي نشرها سابقا ويستغفر له، ويدعو له وبهذا ينتهي من المشكلة.
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2449) ، مسند أحمد بن حنبل (2/435) .(29/106)
تربية ثلاث بنات
السؤال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن وسقاهن وكساهن كن له حجابا من النار (1) » هل يكن حجابا من النار لوالدهن فقط أم حتى الأم شريكة في ذلك؟
الجواب: الحديث عام للأب والأم بقوله صلى الله عليه وسلم: «من كانت له ابنتان فأحسن إليهما كن له سترا من النار (2) » وهكذا لو كان له أخوات أو عمات أو خالات أو نحوهن، فأحسن إليهن، فإنا نرجو له بذلك الجنة. فإنه متى أحسن إليهن فإنه بذلك يستحق الأجر العظيم، ويحجب من النار، ويحال بينه وبين النار؛ لعمله الطيب. وهذا يختص بالمسلمين، فالمسلم إذا عمل هذه الخيرات ابتغاء وجه الله يكون قد تسبب في نجاته من النار، والنجاة من النار والدخول في الجنة لها أسباب كثيرة فينبغي للمؤمن أن يستكثر منها، والإسلام نفسه هو الأصل الوحيد، وهو السبب الأساسي
__________
(1) سنن ابن ماجه الأدب (3669) ، مسند أحمد بن حنبل (4/154) .
(2) سنن ابن ماجه الأدب (3670) ، مسند أحمد بن حنبل (1/363) .(29/106)
لدخول الجنة والنجاة من النار، وهناك أعمال إذا عملها المسلم دخل بهن الجنة ونجا من النار، مثل من رزق بنات أو أخوات، فأحسن إليهن كن له سترا من النار، وهكذا «من مات له ثلاثة أفراط لم يبلغوا الحنث كانوا له حجابا من النار، قالوا: يا رسول الله، واثنان؟ قال: واثنان (1) » ، ولم يسألوه عن الواحد، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله عز وجل: ما لعبدي المؤمن جزاء إذا أخذت صفيه من أهل الدنيا فاحتسب إلا الجنة (2) » فبين سبحانه وتعالى أن ليس للعبد المؤمن عنده جزاء إذا أخذ صفيه أي محبوبه من أهل الدنيا فصبر واحتسب إلا الجنة، فالواحد من أفراطنا يدخل في هذا الحديث إذا أخذه الله وقبضه إليه، فصبر أبوه أو أمه أو كلاهما واحتسبا فلهما الجنة، وهذا فضل من الله عظيم، وهكذا الزوج والزوجة وسائر الأقرباء والأصدقاء إذا صبروا واحتسبوا دخلوا في هذا الحديث، مع مراعاة سلامتهم مما قد يمنع ذلك من الموت على شيء من كبائر الذنوب، نسأل الله السلامة.
__________
(1) صحيح البخاري العلم (102) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2634) ، سنن الترمذي الجنائز (1060) ، سنن النسائي الجنائز (1876) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1603) ، مسند أحمد بن حنبل (2/510) ، موطأ مالك الجنائز (554) .
(2) صحيح البخاري الرقاق (6424) ، مسند أحمد بن حنبل (2/417) .(29/107)
ما معنى الإحسان إلى البنات
السؤال الأول: ما معنى الإحسان إلى البنات في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كانت له ابنتان فأحسن إليهما كن له سترا من النار (1) » ؟
الجواب: الإحسان للبنات ونحوهن بتربيتهن التربية الإسلامية، وتعليمهن وتنشئتهن على الحق، والحرص على عفتهن وبعدهن عما حرم الله من التبرج وغيره، وهكذا تربية الأخوات والأولاد الذكور إلى غير ذلك من وجوه الإحسان، حتى يتربى الجميع على طاعة الله ورسوله والبعد عن محارم الله والقيام بحق الله سبحانه وتعالى، وبذلك يعلم أنه ليس المقصود مجرد الإحسان بالأكل والشرب والكسوة فقط، بل المراد ما هو أعم من ذلك من الإحسان إليهن في عمل الدين والدنيا.
__________
(1) سنن ابن ماجه الأدب (3670) ، مسند أحمد بن حنبل (1/363) .(29/107)
السؤال الثاني: هل يشترط اجتناب الكبائر كما هو معلوم في الحصول على هذا الوعد؟
الجواب: نعم، وهذه قاعدة عظيمة مجمع عليها عند أهل السنة وهي أن الوعد من الرب جل وعلا أو من الرسول صلى الله عليه وسلم بالمغفرة أو الجنة أو النجاة من النار مقيد باجتناب الكبائر؛ لأن الله سبحانه يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (1) .
بين سبحانه أن من شرط دخول الجنة وتكفير السيئات اجتناب الكبائر فقال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (2) فدل ذلك على أن من لم يجتنبها لا يحصل له هذا الجواب وذلك لأن كلمة {إِنْ تَجْتَنِبُوا} (3) شرط، والجواب {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (4) وهذه قاعدة أن الجواب مرتب على الشرط، فمتى وجد الشرط وجد الجواب والجزاء، وإلا فلا، فعلى المؤمن أن يبتعد عن الكبائر ويحذرها وكذلك المؤمنة.
والكبائر: المعاصي العظام التي جاء فيها الوعيد بلعنة أو غضب أو نار، أو التي جاء فيها حد في الدنيا مثل الزنا والسرقة والعقوق للوالدين، وقطيعة الرحم والربا وأكل مال اليتيم، والغيبة والنميمة والسب والشتم، إلى غير هذا من الكبائر.
فالواجب الحذر منها غاية الحذر والتوبة مما سلف منها ومن هذا ما ورد في الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن، ما لم تغش الكبائر (5) » . وفي لفظ آخر «إذا اجتنبت الكبائر (6) » خرجه مسلم في صحيحه. فدل ذلك على أن هذه العبادات العظيمة تكفر بها السيئات إن اجتنبت الكبائر، فهذا الحديث يطابق الآية الكريمة. ولما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة الوضوء الشرعي ذكر أنه من توضأ فأحسن وضوءه غفر له ما تقدم من ذنبه ما لم تصب المقتلة وهي الكبيرة.
__________
(1) سورة النساء الآية 31
(2) سورة النساء الآية 31
(3) سورة النساء الآية 31
(4) سورة النساء الآية 31
(5) صحيح مسلم الطهارة (233) ، سنن الترمذي الصلاة (214) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1086) ، مسند أحمد بن حنبل (2/400) .
(6) صحيح مسلم الطهارة (233) ، سنن الترمذي الصلاة (214) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1086) ، مسند أحمد بن حنبل (2/359) .(29/108)
فينبغي للمؤمن وهكذا المؤمنة أن يجتهد كل منهما في اكتساب الخيرات، والمنافسة في الأعمال الصالحة مع الحذر من السيئات وعدم تعاطيها، ولا سيما الكبائر فإن خطرها عظيم، ما لم يعف الله عن صاحبها، إذا كانت دون الشرك؛ لقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) .
__________
(1) سورة النساء الآية 48(29/109)
تبادل الزيارات بين المسلمات وغير المسلمات
السؤال: لدي بعض الجارات من غير المسلمات ومسلمات أيضا، لكن لي عليهن بعض الملحوظات، ما حكم تبادل الزيارات فيما بيننا؟
الجواب: تبادل الزيارات في مثل هذا إذا كان للتوجيه والنصح والتعاون على البر والتقوى طيب مأمور به، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين في والمتزاورين في، والمتجالسين في والمتباذلين في (1) » أخرجه الإمام مالك رحمه الله بإسناد صحيح. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم رجلين تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، (2) » مثل بالرجلين، والحكم يعم الرجلين والمرأتين، فإذا كانت الزيارة لمسلمة أو نصرانية أو غيرهما لقصد الدعوة إلى الله وتعليم الخير والإرشاد إلى الخير، لا لقصد الطمع في الدنيا والتساهل بأمر الله، فهذا كله طيب، فإذا زارت المسلمة أختها في الله ونصحتها عن التبرج والسفور وعن التساهل بما حرم الله من سائر المعاصي، أو زارت جارة لها نصرانية أو غير نصرانية كبوذية أو نحو ذلك لتنصحها
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/233) ، موطأ مالك الجامع (1779) .
(2) صحيح البخاري الأذان (660) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، موطأ مالك الجامع (1777) .(29/109)
وتعلمها وترشدها فهذا شيء طيب ويدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، فإن قبلت فالحمد لله وإن لم تقبل تركت الزيارة التي لم تحصل منها فائدة.
أما الزيارة من أجل الدنيا أو اللعب أو الأحاديث الفارغة أو الأكل أو نحو ذلك، فهذه الزيارة لا تجوز للكافرات من النصارى وغيرهن؛ لأن هذا قد يجر الزائرة إلى فساد دينها وأخلاقها؛ لأن الكفار أعداء لنا وبغضاء لنا، فلا ينبغي أن نتخذهم بطانة ولا أصحابا، لكن إذا كانت الزيارة للدعوة إلى الله والترغيب في الخير والتحذير من الشر، فهذا أمر مطلوب كما تقدم، وقد قال الله سبحانه وتعالى في سورة الممتحنة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (1) الآية.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 4(29/110)
مصرف المؤلفة قلوبهم
بقلم الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة
الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه وبعد:
المؤلفة قلوبهم جمع مؤلف اسم مفعول من ألف على وزن فعل وهو من ثلاثي ألف يألف إلفا على وزن علم يعلم قال في الصحاح: وفلان قد ألف هذا الموضع بالكسر يألفه إلفا. . . اهـ.
والمؤلفة قلوبهم هم الصنف الرابع من أهل الزكاة الوارد حصرها فيهم في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (1) .
وهم السادة المطاعون في عشائرهم أو مجتمعاتهم أو مراكز انتمائهم، ممن يرجى بعطائه إسلامه، أو كف شره، أو يرجى بعطيته قوة إيمانه، أو إسلام نظيره، أو يسر جباية الزكاة ممن يمنعها، أو يرجى بعطائه دفعه عن المسلمين الشر أو نحو ذلك، مما يعود على الإسلام والمسلمين بالمصلحة، سواء كان من يعطى
__________
(1) سورة التوبة الآية 60(29/111)
لتأليف قلبه مسلما، أو كان كافرا، فقد ألف صلى الله عليه وسلم قلوب كفار بالعطاء فأسلموا. قال الطبري في تفسيره عن قتادة: إن المؤلفة قلوبهم أناس من الأعراب، ومن غيرهم، كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا. اهـ (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والمؤلفة قلوبهم نوعان كافر ومسلم، فالكافر إما أن يرجى بعطيته منفعة كإسلامه أو دفع مضرته إذا لم يندفع إلا بذلك، والمسلم المطاع يرجى بعطيته المنفعة أيضا؛ لحسن إسلامه أو إسلام نظيره، أو جباية المال ممن لا يعطيه إلا لخوف أو لنكاية في العدو، أو كف ضرره عن المسلمين إذا لم ينكف إلا بذلك (2) .
وقد ذكر فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي متعه الله بحياته مجموعة من المؤلفة قلوبهم ما بين مسلم وكافر ويحسن بنا إيراد ما ذكره فضيلته قال: والمؤلفة قلوبهم أقسام ما بين كفار ومسلمين:
(أ) فمنهم من يرجى بعطيته إسلامه أو إسلام قومه وعشيرته، كصفوان بن أمية الذي وهب له النبي صلى الله عليه وسلم الأمان يوم فتح مكة، وأمهله أربعة أشهر؛ لينظر في أمره بطلبه، وكان غائبا فحضر وشهد مع المسلمين غزوة حنين قبل أن يسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم استعار سلاحه منه لما خرج إلى حنين، وقد أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم إبلا كثيرة محملة، كانت في واد. فقال هذا عطاء من لا يخشى الفقر.
وروى مسلم والترمذي عن طريق سعيد بن المسيب عنه قال: والله لقد أعطاني النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) تفسير الطبري ج14 ص314.
(2) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج28 ص290.(29/112)
وإنه لأبغض الناس إلي فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي. وقد أسلم وحسن إسلامه. ومن هذا القسم ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه، قال فأتاه رجل فسأله فأمر له بشاء كثيرة بين جبلين من شاء الصدقة، قال فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة (1) » .
(ب) ومنهم من يخشى شره ويرجى بإعطائه كف شره وشر غيره معه، كما جاء عن ابن عباس: «أن قوما كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أعطاهم من الصدقات مدحوا الإسلام، وقالوا: هذا دين حسن، وإن منعهم ذموا وعابوا» .
(ج) ومنهم من دخل في الإسلام حديثا فيعطى إعانة له على الثبات على الإسلام. سئل الزهري عن المؤلفة قلوبهم، فقال: من أسلم من يهودي أو نصراني، وإن كان غنيا. قال: وإن كان غنيا. وكذلك قال الحسن: هم الذين يدخلون في الإسلام، وذلك أن الداخل حديثا في الإسلام قد هجر دينه القديم، وضحى بما له عند أبويه وأسرته، وكثيرا ما يحارب من عشيرته، ويهدد في رزقه، ولا شك أن هذا الذي باع نفسه، وترك دنياه لله تعالى جدير بالتشجيع والتثبيت والمعونة.
(د) ومنهم قوم من سادات المسلمين وزعمائهم، لهم نظراء من الكفار، إذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم، واستشهد لذلك بإعطاء أبي بكر رضي الله عنه لعدي بن حاتم والزبرقان بن بدر، مع حسن إسلامهما؛ لمكانتهما في أقوامهما.
(هـ) ومنهم زعماء ضعفاء الإيمان من المسلمين، مطاعون في أقوامهم، ويرجى بإعطائهم تثبيتهم وقوة إيمانهم، ومناصحتهم في الجهاد وغيره، كالذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم العطايا الوافرة من غنائم هوازن، وهم بعض الطلقاء من أهل مكة، الذين أسلموا، فكان منهم المنافق، ومنهم ضعيف الإيمان
__________
(1) صحيح مسلم كتاب الفضائل (2312) ، مسند أحمد بن حنبل (3/284) .(29/113)
وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم.
(و) ومنهم قوم من المسلمين في الثغور وحدود بلاد الأعداء، يعطون؛ لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو.
(ز) ومنهم قوم من المسلمين يحتاج إليهم لجباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا بنفوذهم وتأثيرهم، إلا أن يقاتلوا فيختاروا بتأليفهم وقيامهم بهذه المساعدة للحكومة أخف الضررين وأرجح المصلحتين.
وهذا سبب جزئي قاصر فمثله ما يشبهه من المصالح العامة.
وكل هذه الأنواع تدخل تحت عموم لفظ المؤلفة قلوبهم، سواء كانوا كفارا أو مسلمين. اهـ (1)
__________
(1) فقه الزكاة ج2 ص 595-596.(29/114)
وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في بقاء هذا الصنف من أهل الزكاة، فذهب محققوهم إلى أن حكمهم باق متى وجدت الحاجة إلى العطاء من الزكاة للتأليف، وأن منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إعطاءهم لم يكن على سبيل انتفاء الحكم عنهم بالنسخ، وإنما كان لانتفاء الحاجة إلى إعطائهم للتأليف، حيث أعز الله الإسلام والمسلمين، ودخل الناس في دين الله أفواجا، قانعين مقتنعين وتتابعت الفتوحات الإسلامية حتى صارت الدولة الإسلامية هي الدولة الأولى في المعمورة مهيبة الجانب مرفوعة الأعلام. قال في الروض المربع:
ويعطي ما يحصل من التأليف عند الحاجة فقط، فترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم؛ لعدم الحاجة إليه في خلافتهم، لا بسقوط سهمهم. اهـ (1)
__________
(1) الروض المربع ج3 ص 315.(29/114)
وقال في الحاشية لابن قاسم:
فإن حكمهم باق لإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة من المسلمين والمشركين، وكذلك أبو بكر رضي الله عنه، وخير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم، وأعدل السياسة سياسته صلى الله عليه وسلم، ومنع وجود الحاجة على ممر الزمان، واختلاف أحوال النفوس في القوة والضعف لا يخفى فساده، واتباع سيرته صلى الله عليه وسلم أحق.
قال الشيخ: ويجوز بل يجب الإعطاء لتأليف من يحتاج إلى تأليف قلبه، وإن كان لا يحل له أخذ ذلك، كما في القرآن العزيز، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة من الفيء. اهـ (1) .
وقال ابن قدامة في كتابه المغني في معرض ذكره الخلاف بين أهل العلم في سقوط سهم المؤلفة قلوبهم أو بقاء حكم وجوده عند الحاجة ورده على القائلين بسقوط سهمهم على سبيل النسخ بالإجماع فقال:
وأحكامهم كلها باقية، وبهذا قال الحسن والزهري وأبو جعفر محمد بن علي. وقال الشعبي ومالك والشافعي وأصحاب الرأي: انقطع سهم المؤلفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أعز الله الإسلام وأغناه عن أن يتألف عليه رجال، فلا يعطى مشرك تألفا بحال. قالوا: وقد روي هذا عن عمر رضي الله عنه، ولنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى سمى المؤلفة في الأصناف الذين سمى الصدقة لهم والنبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء، وكان يعطي المؤلفة قلوبهم كثيرا في أخبار مشهورة، ولم يزل كذلك حتى مات، ولا يجوز ترك كتاب الله ولا سنة رسوله إلا بنسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ثم إن النسخ إنما يكون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن النسخ إنما يكون بنص، ولا يكون النص بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وانقراض زمن الوحي ثم إن القرآن
__________
(1) حاشية ابن قاسم على الروض المربع ج3 ص315.(29/115)
لا ينسخ إلا بقرآن، وليس في القرآن نسخ كذلك ولا في السنة، فكيف يترك الكتاب والسنة بمجرد الآراء والتحكم أو بقول صحابي أو غيره؟! على أنهم لا يرون قول الصحابي حجة يترك لها قياس، فكيف يتركون به القرآن والسنة؟! . قال الزهري: لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة، على أن ما ذكروه من المعنى لا خلاف بينه وبين الكتاب والسنة، فإن الغنى عنهم لا يوجب رفع حكمهم، وإنما يمنع عطيتهم حال الغنى عنهم، فمتى دعت الحاجة إلى إعطائهم أعطوا، وكذلك جميع الأصناف، إذا عدم منهم صنف في بعض الزمان سقط حكمه في ذلك الزمن خاصة، فإذا وجد عاد حكمه كذا هنا. اهـ (1) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ردا على القائلين بسقوط سهم المؤلفة قلوبهم على سبيل النسخ قال:
وما شرعه النبي صلى الله عله وسلم شرعا معلقا بسبب، إنما يكون مشروعا عند وجود السبب، كإعطاء المؤلفة قلوبهم، فإنه ثابت بالكتاب والسنة، وبعض الناس ظن أن هذا نسخ؛ لما روي عن عمر أنه ذكر أن الله أغنى عن التأليف، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا الظن غلط، ولكن عمر استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم، فترك ذلك؛ لعدم الحاجة إليه، لا لنسخه، كما لو فرض أنه عدم في بعض الأوقات ابن السبيل والغارم ونحو ذلك. اهـ (2) .
وذهب بعض أهل العلم إلى القول بانتهاء سهم المؤلفة قلوبهم إلى الانقطاع على سبيل النسخ؛ لعزة الإسلام ومنعته وقوة المسلمين وانتفاء العلة الموجبة لإعطائهم، وهذا هو المشهور في المذاهب الثلاثة الحنفي والمالكي والشافعي، وننقل نصا من بدائع الصنائع للكاساني يمثل وجهة نظر القائلين بذلك، قال في البدائع:
__________
(1) المغني ج4 ص124-125 مطبعة هجر للطباعة والنشر، القاهرة.
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج33 ص94.(29/116)
وهو الصحيح لإجماع الصحابة على ذلك، فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ما أعطيا المؤلفة قلوبهم شيئا من الصدقات، ولم ينكر أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فإنه روي أنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا أبا بكر وسألوه أن يكتب لهم خطا كتابة رسمية بسهامهم، فأعطاهم ما سألوه، ثم جاءوا إلى عمر، وأخبروه بذلك، فأخذ الخط من أيديهم ومزقه، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطيكم ليؤلفكم على الإسلام، فأما اليوم فقد أعز الله دينه، فإن ثبتم على الإسلام، وإلا فليس بيننا وبينكم إلا السيف، فانصرفوا إلى أبي بكر فأخبروه بما صنع عمر رضي الله عنه، وقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟ قال: هو إن شاء الله، ولم ينكر أبو بكر قوله وفعله، وبلغ ذلك عامة الصحابة، فلم ينكروا؛ فيكون ذلك إجماعا على ذلك؛ ولأنه ثبت باتفاق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام؛ ولهذا أسماهم الله المؤلفة قلوبهم. والإسلام يومئذ في ضعف وأهله في قلة. وأولئك كثر ذوو قوة وعدد، واليوم بحمد الله عز الله الإسلام وكثر أهله، واشتدت دعائمه ورسخ بنيانه، وصار أهل الشرك أذلاء، والحكم متى ثبت منقولا بمعنى خاص ينتهي بذهاب ذلك المعنى اهـ (1) .
ويظهر مما تقدم أن حجة القائلين بانقضاء حكم سهم المؤلفة قلوبهم وسقوطه هو نسخ ذلك الحكم بإجماع الصحابة، وبانتفاء معنى حكم ذلك حيث إن حكم التأليف ثبت لمعنى معقول هو الحاجة إلى تأليف القلوب إلى الإسلام، وقد زالت الحاجة إلى ذلك بقوة الإسلام وعزته وتمكين المسلمين من إظهار دينهم والدعوة إليه والثبات عليه والأخذ بمقتضياته.
ولئن اتفق عامة أهل العلم على جواز النسخ من حيث الجملة، وعلى أن القرآن ينسخه قرآن مثله، واختلفوا في جواز نسخ القرآن بالسنة، فقد اتجه عامة أهل العلم ومحققوهم إلى منع نسخ القرآن بإجماع على فرض حصوله.
__________
(1) نقلا عن فقه الزكاة بدائع الصنائع ج2 ص45.(29/117)
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام في رد القول بنسخ القرآن لغيره حتى لو كان الناسخ سنة، يحسن بنا إيراده قال رحمه الله:
ومما يدل على المسألة أن الصحابة والتابعين الذين أخذ عنهم علم الناسخ والمنسوخ، إنما يذكرون نسخ القرآن بقرآن، لا يذكرون نسخه بلا قرآن بل بسنة، وهذه كتب الناسخ والمنسوخ المأخوذة عنهم، إنما تتضمن هذا، وكذلك قول علي رضي الله عنه للقاضي: هل تعرف الناسخ من المنسوخ في القرآن؟
فلو كان ناسخ القرآن غير القرآن لوجب أن يذكر ذلك أيضا. وأيضا الذين جوزوا نسخ القرآن بلا قرآن من أهل الرأي والكلام، إنما عمدتهم أنه ليس في العقل ما يحيل ذلك، وعدم المانع الذي يعلم بالعقل لا يقتضي الجواز الشرعي، فإن الشرع قد يعلم بخبره ما لا يعلم بالعقل وقد يعلم من حكمة الشارع التي علمت بالشرع ما لا يعلم بمجرد العقل؛ ولهذا كان الذين جوزوا ذلك عقلا مختلفين في وقوعه شرعا.
وأيضا فإن الناسخ مهيمن على المنسوخ قاض عليه مقدم عليه، فينبغي أن يكون مثله أو خيرا منه كما أخبر بذلك القرآن؛ ولهذا لما كان القرآن مهيمنا على ما بين يديه من الكتاب بتصديق ما فيه من حق وإقرار ما أقره ونسخ ما نسخه، كان أفضل منه، فلو كانت السنة ناسخة للكتاب لزم أن تكون مثله أو أفضل منه.
وأيضا فلا يعرف في شيء من آيات القرآن أنه نسخه إلا قرآن، والوصية للوالدين والأقربين منسوخة بآية المواريث كما اتفق على ذلك السلف. اهـ (1) .
وذكر مكي بن أبي طالب في كتابه "الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" أقسام النسخ التي ذكرها أهل العلم ومنها نسخ القرآن بالإجماع. فقال:
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج17 ص197-198.(29/118)
الرابع نسخ القرآن بالإجماع وعلى منعه أكثر أهل العلم وأجازه بعضهم ومثله نسخ القرآن بالقياس. اهـ (1) .
وفي رسالة جامعية للدكتور مصطفى زيد بعنوان (النسخ في القرآن الكريم) قال بعد أن استعرض مجموعة من وقائع جرى نسخها في القرآن ما نصه:
من هذه الوقائع الثابتة للنسخ في القرآن، وهي كل ما صح لدينا، نستطيع أن نستخلص حقيقة هامة هي أن القرآن لا ينسخه إلا قرآن مثله، كما هو مذهب الإمامين الشافعي وأحمد. إلى أن قال: وأما نسخ القرآن بالسنة فلم نجد له واقعة واحدة فيما أسلفنا، ومن هنا نرى أن الخلاف الذي قام حول جوازه خلاف نظري يحسم الواقع الحكم عليه؛ إذ يرفضه بجملته وتفصيله. اهـ (2) .
وبما ذكرنا من نصوص لأهل العلم والتحقيق يتضح بطلان القول بنسخ حكم سهم المؤلفة قلوبهم من كتاب الله بالإجماع، فما دام أهل التحقيق من العلماء منعوا نسخ القرآن بالسنة، وكلاهما وحي من الله تعالى. قال تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم وما ينطق به من سنة قال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (3) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (4) مع ملاحظة الفارق بينهما إلا أنها المصدر الثاني للتشريع فلا يأتي قبلها غير كتاب الله.
وما دام أهل التحقيق منعوا نسخ القرآن بالسنة، فإن منع نسخ القرآن بغيرها من إجماع أو قياس أولى بالمنع وعدم الاعتبار.
وقد أجاب عن المعنى الآخر لسقوط حكم سهم المؤلفة قلوبهم من كتاب
__________
(1) الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص70 نشر جامعة الإمام محمد بن سعود.
(2) النسخ في القرآن الكريم ج2 ص838.
(3) سورة النجم الآية 3
(4) سورة النجم الآية 4(29/119)
الله بانتفاء الحاجة إليهم بقوة الإسلام وبعزته، وتمكن أهله من إظهار دينهم، والتقيد بمقتضياته ومستلزماته والدعوة إليه، وبتطبيق هذا الواقع في خلافة عمر رضي الله عنه، وما تلاها من ولايات عزيزة، وبإجماع الصحابة على سلامة ما فعله عمر من منع العطاء للتأليف، أجاب عن هذا المعنى فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الزكاة فقال:
فإن عمر إنما حرم قوما من الزكاة كانوا يتألفون في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ورأى أنه لم يعد هناك حاجة لتأليفهم، وقد أعز الله الإسلام، وأغنى عنهم، ولم يجاوز الفاروق الصواب فيما صنع، فإن التأليف ليس وصفا ثابتا دائما، ولا كل من كان مؤلفا في عصر يظل مؤلفا في غيره من العصور، وإن تحديد الحاجة إلى التأليف وتحديد أشخاص المؤلفين أمر يرجع إلى أولي الأمر وتقديرهم لما فيه خير الإسلام ومصلحة المسلمين، ولقد قرر علماء الأصول أن تعليق الحكم بوصف مشتق يؤذن بعلية ما كان منه الاشتقاق، وهنا علق صرف الصدقة بالمؤلفة قلوبهم، فدل على أن تأليف القلوب هو علة صرف الصدقات إليهم، فإذا وجدت هذه العلة وهي تأليف قلوبهم أعطوا، وإن لم توجد لم يعطوا. اهـ (1) .
كما أجاب عن ذلك الدكتور محمد يوسف موسى فقال:
أما مسألة المؤلفة قلوبهم فلنا أن نفهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعطيهم في حياته من الصدقات بقصد إعزاز الإسلام لضعفه حينذاك، فجاء عمر ورأى في الدفع إليهم إشعارا بأن الإسلام في حاجة إليهم، وفي هذا ما قد يضعف من حمية المسلمين واعتزازهم بأنفسهم دون من في قلوبهم دخل، فكان إعزاز الإسلام حينئذ في عدم إعطائهم شيئا من الصدقات، إذ لم يكن الأمر نسخا من عمر لنص قرآني، وإنما هو تقرير لما كان يقصده الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان على وجه آخر يتفق مع ما صار إليه الإسلام
__________
(1) فقه الزكاة ج2 ص601.(29/120)
والمسلمون من القوة والعزة. اهـ (1) .
وبناء على أن حكم سهم المؤلفة قلوبهم محكم لم يتناوله نسخ ألبتة، وحيث إن المعنى المقتضي للتأليف هو حاجة الإسلام والمسلمين إلى الوقوف بجانبهم والتضامن معهم وشد أزر من أسلم حديثا أو لم يسلم، إلا أنه مطاع في قومه ومجتمعه، فمتى وجدت هذه الحاجة، كان الحكم في إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة حكما قائما ومقتضيا، ومتى انتفت الحاجة إلى ذلك كما حصل في عهد عمر رضي الله عنه ومن جاء بعده من الخلفاء والملوك، انتفى وجود من يستحق التأليف، أشبه انتفاء وجود فقراء أو مساكين أو ابن سبيل أو غيرهم ممن نصت آية الصدقة على حصرها فيهم، ولم يكن ذلك الانتفاء منهيا لأحكام استحقاقهم في الزكاة، متى وجد الوصف المقتضي للاستحقاق.
ونظرا إلى أن المسلمين الآن متفرقون في أنحاء المعمورة، وهم يختلفون في بلدانهم قوة وضعفا، وقد تمثل كل فئة منهم مجتمعا إسلاميا مستقلا، له خصائصه ومزاياه قوة وضعفا وسيادة وتسيدا، فإن القول بقيام مقتضى تأليف القلوب بصرف جزء من الزكاة لذلك المعنى قول تقتضيه مصلحة المسلمين وواقع معايشهم، لا سيما فيما بين كل مجتمع من المجتمعات الإسلامية.
ولهذا فإن حكم سهم المؤلفة قلوبهم من أهل الزكاة باق بقاء شريعة الله في أرضه، يرتفع بارتفاع مقتضيه، وهو انتفاء الحاجة إلى التأليف؛ لقوة المسلمين وعزتهم وسمو مقامهم، ويبقى ذلك الحكم ببقاء مقتضيه وموجبه، وهو الحاجة إلى إعزاز المسلمين؛ لوجود جوانب ضعف فيهم، في أي بقعة من أرض الله عليها مسلمون.
ولا شك أن أحوال المسلمين في كافة أنحاء المعمورة تقتضي النظر فيما فيه تمكينهم واحترامهم وتقوية كيانهم، والأخذ بأسباب اعتبارهم مجتمعا إنسانيا، تهدف قواعد وجوده إلى احترام الإنسان، واحترام وسائل تمتعه بما هيأ الله له من أسباب المعيشة بهناء، والتعايش بإخاء، والتعاون على البر والتقوى. .
__________
(1) البيوع والمعاملات المالية المعاصرة ص20.(29/121)
فإذا وجدنا أفرادا لهم مقامهم المحترم في المجتمع، سواء كان ذلك من حيث مكانتهم الاجتماعية، أو من حيث ثقافتهم التخصصية، أو من حيث وضعهم الاقتصادي، أو السياسي، وكان هناك أمل في إسلامهم بعد تأليف قلوبهم بالعطاء، فيعطون من الزكاة من سهم المؤلفة قلوبهم ما يحببهم في الإسلام، ويرغبهم في الانضواء مع المسلمين، كما فعل صلى الله عليه وسلم مع صفوان بن أمية وغيره، فقد أعطاهم صلى الله عليه وسلم عطاء جزلا طمعا في إسلامهم، ثم أسلموا بعد ذلك.
ففي الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «بعث علي وهو باليمن بذهيبة في تربتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة: الأقرع بن حابس الحنظلي، وعيينة بن حصن الفزاري، وعلقمة العامري سيد بني كلاب، وزيد الخير الطائي سيد بني نبهان. قال: فغضبت قريش والأنصار، فقالوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني إنما فعلت ذلك لتأليفهم (1) » .
وفي صحيح مسلم عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: «أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، كل إنسان منهم مائة من الإبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بن مرداس:
أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينة والأقرع (2)
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن يخفض اليوم لا يرفع
قال فأتم له رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة» . والعبيد اسم فرس له، ففي هذه الآثار دلالة صريحة على مشروعية إعطاء من يتألف للإسلام ممن هو مطاع في عشيرته وقومه.
__________
(1) صحيح البخاري التوحيد (7432) ، صحيح مسلم الزكاة (1064) ، سنن النسائي تحريم الدم (4101) ، سنن أبو داود السنة (4764) ، مسند أحمد بن حنبل (3/68) .
(2) صحيح مسلم الزكاة (1060) .(29/122)
وإذا وجد أن الحاجة تقتضي إيجاد مؤسسات اجتماعية تقوم برعاية حديثي العهد بالإسلام، من حيث التأهيل الاجتماعي والعلمي، وكف الأذى عنهم، وتعويضهم عما فقدوه من أهلهم ومجتمعهم بعد انتقالهم من دينهم إلى الإسلام، فلا شك أن هؤلاء يعتبرون من المؤلفة قلوبهم، والإسهام في تغطية نفقات هذه المؤسسات من سهم المؤلفة قلوبهم وجيه ومشروع فيعطون من سهم المؤلفة قلوبهم، كما يعطون من سهم سبيل الله، فإن سبيل الله عام في كل وجه من وجوه الخير والبر، كما هو اختيار مجموعة من أهل العلم، ولكن بعد توافر القناعة التامة باستقامة هذه المؤسسات، وتقييدها باختصاصها وصلاح وتقى القائمين عليها، وألا يكون هناك إسراف في المصروفات الإدارية على هذه المؤسسات؛ لأن الزكاة حق الله تعالى في أموال عباده، وهي أمانة في أيدي من وجبت عليهم في أموالهم، فحينما يدفعون جزءا من الزكاة إلى القائمين على هذه المؤسسات، فهم يدفعونها إليهم على اعتبارهم وكلاء عنهم في دفع ما دفعوه من الزكاة إلى مستحقيه، فلا تبرأ ذممهم منها حتى تصرف في مصارفها الشرعية.
وإذا وجدت أقليات إسلامية في بلد غير إسلامي تحكمه حكومة غير مسلمة، وظهر أن هذه الأقليات في وضع مقتض تأليف هذه الحكومة على العناية بوضعهم، والحفاظ على حقوقهم وحرياتهم، فإن مساعدة هذه الحكومة من سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة، بما يحقق لهذه الأقليات المسلمة عونا واحتراما واعتبارا وتمكينا متجه ومستمد جوازه من تحقيق المصلحة العامة لهذه المجتمعات الإسلامية، فإن المال وسيلة لا غاية، والغاية وجود مجتمع إسلامي متكامل متعاطف متلاحم، يتمتع بالعزة والرفعة والكرامة والحرية المتفقة مع المقتضى الشرعي وفقا لأحكام الله ورسوله.
فكل وسيلة لا تتعارض مع القواعد العامة للأخلاق وحكمة الوجود، وهي طريق لتحقيق الغاية من وجود مجتمع إسلامي عزيز، فهي وسيلة مشروعة ومعتبرة، وبهذا نستطيع القول بجواز صرف جزء من الزكاة للحكومات المذكورة بشرطه، ومن ذلك المشاركة في جمع التبرعات والإسهام في تحصيلها لمنكوبي الزلازل(29/123)
والفيضانات والمجاعات وخلفيات الفتن والقلاقل والاضطرابات واختلال الأمن؛ وذلك لإظهار الدين الإسلامي بأنه دين المحبة والمودة والرحمة والتعاون على الخير، ولإظهار المجتمع الإسلامي بالمظهر الذي هو أهله من حيث التعاطف والتراحم والتآلف والتعاون على البر والتقوى، والإسهام في إصلاح المجتمعات الإنسانية والعناية بالحقوق الإنسانية واحترامها، والبعد عن ظلم أهلها بالاعتداء عليها، سواء كانت أموالا أو أعراضا أو نفوسا.
وبالجملة فإن تأليف القلوب على الإسلام، وعلى العناية بالمسلمين، والوقوف معهم في الحفاظ على كيانهم ومقامهم - يعتبر مطلبا شرعيا يبذل في سبيل تحصيله وتأمين مستلزماته ومقتضياته الثمن الغالي، سواء كان من الصدقات، أو من الزكوات، أو من الفيء على المسلمين، أو كان من غنائم غنموها في جهادهم مع أهل الكفر والشرك والضلال، وفيما تقدم من الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفي للقناعة التامة بصحة ذلك ووجاهته، واعتباره مقصدا شرعيا يجب الأخذ به في كل حال تقتضي ذلك وتستلزمه، وأحسن الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي رسول الله، والله المستعان وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة وعضو هيئة كبار العلماء
عبد الله بن سليمان بن منيع
مكة المكرمة 4 \ 3 \ 1410هـ.(29/124)
الوقاية من الجريمة في التشريع الجنائي الإسلامي
بقلم الدكتور: محمد بن سعد الشويعر
الحمد لله الذي شرع لعباده ما تستقيم به أحوال معاشهم، ويسعدهم في معادهم بالجزاء الأوفى، الذي حد الحدود لتبعث في النفوس اطمئنانا، يمنع من الجريمة، وواقيا يحمي المجتمعات من تسلط المجرمين، والصلاة والسلام على البشير النذير، الذي أرسله ربه مقيما للعدل وموضحا للحق وحريصا على تنفيذ حدود الله، حتى لا تفسد الأمة، وعلى آله وصحابته الذين أقاموا سنته، ونشروا راية الإسلام في أرجاء المعمورة، رمزا للعدل، وتمكينا لحق لا إله إلا الله.
أما بعد: فإنها حدود وزواجر، وترغيب وترهيب، منها الوازع الديني ومراقبة النفوس، ومنها الوازع السلطاني وردع المعتدي بالقوة، حكمة أرادها الله لتحدث توازنا في المجتمع ككفتي الميزان، فالشرعة المحددة(29/125)
للعدالة هي شريعة الله، التي توازن بين الحالين، فتبين الحق وتردع الظالم، وتعين المظلوم. فالإسلام قد كفل بتعاليمه، والشرع الذي أبانه الله فيه للمجتمع الراحة والأمان، وللفرد فيه الهدوء والاستقرار بما جاء في كتاب الله. وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن فهم الصفوة الأولى من هذه الأمة للشريعة وما تدل عليه، وما اشتملت عليه من أوامر وزواجر، لمما يتلاءم مع النفس البشرية وما يردعها، وهو الدين الذي ارتضاه الله جل وعلا لخير أمة أخرجت للناس؛ لأنه المصلح لأحوال البشر والمنظم لمعيشتهم، والحال لكل معضلة تعترض مسيرتهم، فهو دين الفطرة، وهو الدين الحق، الذي لا يقبل سبحانه من البشر سواه؛ لأن سعادتهم باتباعه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) .
وهو الدين الذي بعث الله به الرسل، وأنزلت به الكتب، ودعا إليه أنبياء الله أممهم، منذ خلق الله آدم حتى أتم جل وعلا الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فهذا نبي الله نوح عليه السلام يقول: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (2) وإبراهيم الخليل قال عنه سبحانه:
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} (3) ، ويوسف عليه السلام دعا ربه قائلا: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (4) وموسى عليه السلام قال لقومه: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (5) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 85
(2) سورة يونس الآية 72
(3) سورة آل عمران الآية 67
(4) سورة يوسف الآية 101
(5) سورة يونس الآية 84(29/126)
فما من نبي إلا وقد كان الإسلام هو معتقده، وهو ما يدعو قومه إليه، وقد خص الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الدين؛ ليكون سمة لهم بين الأمم، وامتثالا لإرادة الله جل وعلا التي جاءت على لسان أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، عندما سمى خير الأمم وخاتمها أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالمسلمين فقال عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (1) ، وعندما بنى الكعبة هو وابنه إسماعيل، عليهما السلام دعا ربه قائلا: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} (2) .
ذلك أن الإسلام مع كونه دين الفطرة، وهو دين العدالة الاجتماعية، وهو دين التوازن، وأمة حباها الله بالإسلام، وشرفها بالانتماء إليه، عليها أمانة الفهم، ودراية التطبيق، وفتح الصدور لإدراك ما تنطوي عليه شريعة هذا الدين من مصالح يؤمر المرء بها، ومفاسد يدرؤها الله عن البشر بزواجر هذا الدين، وحدوده الرادعة.
والجريمة واحدة من المفاسد الاجتماعية التي جاءت تعاليم الإسلام، ترسم للناس- قادة ومرءوسين - طريقا ممهدا، تحمي به المجتمعات من آفاتها، ومن تسلط ضعفاء النفوس على الآخرين مستغلين قدرتهم وحيلهم، وغفلة الناس أو ضعفهم أمامهم، فكان لولي الأمر، وبما أعطاه الله من سلطان في التتبع والإصلاح، وبما أيد به من حكم صادر عن شرع الله - أن يعمل جاهدا في حصر نطاق الجريمة بأضيق الحدود، وأن يتابع ببذل الطاقة للقضاء عليها، في منهجين مستمدين من تربية الإسلام، وحسن رعايته للفرد والجماعة، حيث اهتم التشريع الجنائي في الإسلام بذلك، وهما:
- الطرق الوقائية.
- أسلوب المكافحة.
__________
(1) سورة الحج الآية 78
(2) سورة البقرة الآية 128(29/127)
وقبل الحديث في هذين الأسلوبين، يحسن بنا أن نعرف الجريمة، والجناية، والحدود، تعريفا لغويا، وشرعيا؛ لندرك من ذلك المقصود بالدلالة وما عليه أكثر العلماء من تعيين المراد بهذه الألفاظ، كما هي عادة الفقهاء رحمهم الله، بجعل التعريف اللغوي والشرعي مدخلا لكل موضوع يريدون التحدث عنه؛ ليكون منبئا عن الهدف الذي أرادوا به الإحاطة والشمول، ذلك أن اللغة العربية هي وعاء الدين والمفسرة لما قد يغمض من دلالات المعاني فيه.(29/128)
الجريمة:
مأخوذة من مادة جرم، وقد أطال ابن منظور في لسان العرب (1) والزبيدي في تاج العروس (2) في توضيح دلالة هذه المادة واشتقاقاتها، ويهمنا هنا ما يدل على الموضوع الذي نحن بصدده، حيث قال الزبيدي: جرم فلان جرما: أذنب كأجرم واجترم، فهو مجرم وجريم، وجرم لأهله كسب لهم، يقال: خرج يجرم لأهله، ويجرم أهله: أي يحتال ويطلب، وهو جارم أهله أي كاسبهم.
والجرائم جمع جريمة، وهي الجناية والذنب كيفما كان، سواء كان صغيرا أو كبيرا.
أما في الاصطلاح الفقهي، فمن ذلك ما حكاه الماوردي في الأحكام السلطانية بقوله: الجرائم محظورات شرعية، زجر الله عنها بحد أو تعزيز، يعني إذا كانت ممن يتعمد ارتكابها (3) .
ويظهر من دلالة الكلمة أجرم وما تدل عليه في كتاب الله جل وعلا، حيث وردت أكثر من خمسين مرة وأغلبها في حالة الجمع (مجرمين) : إن المجرم هو من ارتكب كبيرة فقط، والكبيرة في تعريف أكثر العلماء، هي:
__________
(1) جـ 14: 357-362.
(2) جـ8: 224-226.
(3) ص 216.(29/128)
ما استحق عليها عقاب أو وعيد، يدل على مثل هذه الدلالة الآيات الكريمات: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ} (1) وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (2) وقوله سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} (3) وقوله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} (4) وقوله جل وعلا: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا} (5) .
__________
(1) سورة الفرقان الآية 31
(2) سورة الزخرف الآية 74
(3) سورة القلم الآية 35
(4) سورة السجدة الآية 22
(5) سورة طه الآية 74(29/129)
الجناية:
جمعها جنايات وهي مصدر جنى يجني جناية، والقياس في اللغة العربية أن المصادر لا تجمع، وإنما ساغ جمع الجناية هنا على جنايات على النفس، ومنها ما هو غير قتل، أي جناية على ما دون النفس من الأطراف وغيرها، كالشجاج والجراحات، وغير ذلك، بل إن الجناية على النفس تختلف فقد تكون عمدا موجبة للقود، وقد تكون شبه عمد أو خطأ أو ما في معناه (1) .
قال الزبيدي في تاج العروس: جنى الذنب عليه يجنيه جناية بكسر الجيم: جره إليه. قال أبو حية النميري:
وإن دما لو تعلمين جنيته ... على الحي جان مثله غير سالم
ثم ظاهر سياق صاحب اللسان (ابن منظور) أنه حقيقة، وصرح الراغب بأنه مستعار من جنى الثمرة، كما استعير اجترم، وفي الحديث: «لا يجني جان إلا على نفسه (2) » . الجناية الذنب، والجرم ما يفعله الإنسان مما
__________
(1) فقه عمر للدكتور رويعي بن راجح 2: 6.
(2) سنن الترمذي الفتن (2159) ، سنن ابن ماجه المناسك (3055) .(29/129)
يوجب عليه العقاب، أو القصاص في الدنيا والآخرة، والمعنى أنه لا يطالب بجناية غيره من أقاربه وأباعده، فإذا جنى أحدهم جناية لا يطالب بها الآخر، قال أبو عبيدة: قولهم: جانيك من يجني عليك، يضرب مثلا للرجل يعاقب بجناية، ولا يؤخذ غيره بذنبه، وإنما يجنيك من جنايته راجعة إليك، وذلك أن الأخوة يجنون على الرجل.
ويقال للرطب جنى، والكمأة تجنى، والذهب جنى، وتجنى فلان على فلان ذنبا: إذا ادعى ذنبا لم يفعله (1) وملخص الرأي اللغوي: التعدي على بدن أو مال أو عرض، وفي العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان (2) ، يقال: جنى فلان ثمرة عمله الصالح، فالأول في الخير والثاني في الشر.
أما التعريف الشرعي، فيرى بعض الفقهاء أنها - أي الجناية - اسم لفعل محرم حل بمال أو نفس، كما قال بذلك ابن عابدين في حاشيته (3) ، ووافقه على هذا التعريف ابن خطاب من المالكية فإنه قال: الجناية ما يحدثه الرجل على نفسه أو غيره، مما يضر حالا أو مآلا (4) .
فالتعريف هنا عام في كل محرم حل بمال، كالسرقة والنصب ونحوهما، وفي كل محرم حل بالنفس كالزنا والقذف والشرب، وغير ذلك من المحرمات. والبهوتي من الحنابلة عرف الجناية: بأنها التعدي على البدن بما يوجب قصاصا أو مالا (5) ، ويعبر كثير من الفقهاء الشافعية عن الجناية بأنها الجراحات، فيقولون في كتبهم: كتاب الجراح، ويذكرون تحت ذلك بحث كل
__________
(1) راجع تاج العروس 10: 77-78، ولسان العرب 18: 167-170.
(2) حاشية الروض المربع لابن قاسم 7: 164.
(3) 6: 527.
(4) راجع مواهب الجليل 6: 277.
(5) انظر كشاف القناع 5: 585.(29/130)
الجنايات وأحكامها. . . وهذا اصطلاح، والبلاغيون قالوا: لا مشاحة في الاصطلاح، لكن الشيخ زكريا الأنصاري منهم قال: والتعبير بالجنايات أولى ليشمل التعدي بغير المحدد (1) .
وأكثر الفقهاء يقسم الجناية إلى ثلاثة أضرب:
- عمد يختص القود فيه، بشرط أن يقصد الجاني الجناية.
- شبه العمد، ويسمى بخطأ العمد، وعمد الخطأ.
- الخطأ. . . وقد اتفق على هذا التقسيم جمهور الفقهاء، وبإثباته قال عمر وعثمان وعلي وغيرهم، ولا مخالف لهم من الصحابة (2) .
ولم ترد مادة جنى في كتاب الله جل وعلا إلا مرتين بمعنى الثمر، وهو من المعاني اللغوية.
الحدود: جمع حد وهو في اللغة المنع، ومنه يقال للبواب حدادا؛ لأنه يمنع الناس من الدخول، فكل ما يحجز بين شيئين، ويمنع اختلاطهما يسمى حدا، ومثله في المحسوسات حدود الأرض، وحدود الحرم، وفي المعنويات: العقوبات. فإنها تمنع مرتكب الجريمة من العود لمثل عمله، وتمنع غيره عن طريق الخوف أو الاعتبار كذلك فهي مانعة زاجرة، والحد تأديب المذنب كالسارق والزاني وغيرهما بما يمنعهما عن المعاودة (3) .
وفي الاصطلاح الشرعي: عقوبة مقدرة شرعا في معصية، كالزنا والقذف وقطع الطريق والسرقة. لتمنع من الوقوع في مثلها (4) .
__________
(1) انظر مغني المحتاج 4: 2.
(2) حاشية الروض المربع لابن قاسم 7: 165 - 166.
(3) راجع تاج العروس 2: 331.
(4) راجع التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع ص 369.(29/131)
وقد أوجبها الله سبحانه على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع، وليس عليها وازع طبيعي، فهي من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد. بل لا تتم معايشة ملك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم، حيث يزع الله (1) .
وللفقهاء رحمهم الله اصطلاحات في تخصيص الحدود بالعقوبات:
- فالحنفية: عرفوا الحدود بالعقوبات المقدرة حقا لله عز وجل (2) فأخرجوا عقوبة التعزير؛ لأنها غير مقدرة. وأخرجوا عقوبة القصاص ونحوها؛ لأنها ليست حقا لله غالبا، بل حق لله وللعبد؛ إذ تسقط بعفو العبد.
- والحنابلة: عرفوا الحدود بالعقوبات المقدرة شرعا في معصية من الوقوع في مثلها (3) ، فأخرجوا عقوبة التعزير كالحنفية، لكنهم أدخلوا عقوبات القصاص ونحوها في مسمى الحدود؛ لأنها وإن لم تكن حقا لله خاصة، فهي مقدرة شرعا (4) .
وقد وردت الكلمة: بالحدود والمحادة في كتاب الله جل وعلا ثماني عشرة مرة، وفي ذلك أمر للفئة المسلمة عقيدة، والمؤمنة بربها سلوكا ومنهج عمل، بالتزام حدود الله، والوقوف عند شرعه الذي شرع لعباده؛ لتستقيم أحوال الناس، وينتظم معاشهم. وحدود الله هي محارمه.
- الوقاية من الجريمة:
يقول ابن تيمية رحمه الله: لولا العقوبة التي فرضها الله على الجناة والمفسدين لأهلك الناس بعضهم بعضا، وبذلك يفسد نظام العالم، وهي لا تتم إلا بمؤلم يردعهم، ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله (5) ولذا تهتم الدراسات الأمنية بالجريمة، ومعرفة المداخل التي أوصلت
__________
(1) حاشية ابن قاسم على الروض المربع 7: 300.
(2) فتح القدير 4: 112.
(3) كشاف القناع 6: 63.
(4) فقه عمر للدكتور رويعي 1: 73.
(5) حاشية ابن قاسم على الروض المربع 5: 164.(29/132)
إليها، والأسباب أو المسببات التي تدفع المجرم إلى الجريمة، وهل وراء الانسياق إلى ارتكاب الجريمة دوافع شخصية، أو مؤثرات اجتماعية، وعلى ضوء ما يسفر من نتائج تتضح المقترحات التي تبرز أمام الدارسين لذلك ليروها حلا معينا في تلافي الجريمة، ومن ثم محاولة حصرها في أضيق السبل والمختصون في الدراسات الأمنية، وحسبما يظهر أمامهم من ملابسات للجريمة، ومجريات للأمور، يدركون أن الغالبية العظمى من المجرمين، يمتازون بالذكاء، وسعة الحيلة، والمكر والمراوغة، ولكن هؤلاء يستخدمون هذه الصفات في أمور تضر بالمجتمع، وتثير القلق لدى المواطنين.
وما يرسمه المخططون للوقاية من الجريمة، من أساليب يقصد بها مكافحتها، والحد من تزايدها واتساع دائرتها في المجتمع، لا تعطي نتائج مرضية في الغالب، وليس ذلك لقصور في أفكار وتوجيهات ودراسات المهتمين بمحاصرة الجريمة، أو نقص في استعداداتهم؛ ولكن لأن ما يضعونه من حلول توجد عليه مداخل كثيرة من حيث:
- الرأفة بالمجرم.
- إعادة الجريمة لعوامل نفسية أو اجتماعية.
- تخفيف الحكم على المجرم إذا لمس منه السلوك الحسن.
- تحديد الجزاء بغرامة مالية، أو مدة زمنية قد يوقف تنفيذها.
- إتاحة الفرصة لكل مجرم أن يشتري مدة الحكم أو نوع الجزاء بمبلغ مالي.
- عدم إحصاء الجرائم السابقة التي لم يضبط متلبسا بها، وبالتالي قد لا يعطى عليها حكما ولا جزاء.
إلى غير ذلك من أسباب ومؤثرات جعلت الإجرام في بعض مناطق المعمورة يأخذ شكلا تنظيميا، يخيف المجتمعات، ويزعج رجال الأمن،(29/133)
ويؤثر على النمو الاقتصادي؛ لأن المال كما يقال: لا ينمو إلا في الجو الآمن، ولا يتسع نطاقه مع الخوف.
ولو تتبعنا بأرقام إحصائية ما تدفعه دول العالم صغيرها وكبيرها على الأمن من جهود وأموال، وما ينجم من خسارة يوقعها المجرمون يوميا على الأنفس والأموال، وسائر الممتلكات، لوجدنا أرقاما خيالية، كفيلة بتنظيم حياة الناس، وتوفير العيش الرغيد لهم براحة واطمئنان وهدوء نفس.
ولكن الضعف النفسي الذي سببه الضعف الإيماني الذي يدفع أناسا للتسلط على الآخرين، والتعدي على نفوسهم وأعراضهم وأموالهم بالحيلة أو القوة؛ ليصبح هؤلاء المجرمون عالة على المجتمع، مفسدين بين أفراد الأمة متسلطين على حقوق غيرهم، حاقدين على الناس عموما، كما حرص علماء النفس على تسميتهم بمصطلحات عديدة ذات دلالة في المعني: كالنرجسية والسادية والأنانية. . . صفات تنبئ عن حقيقة العمل، واتجاه صاحبه.
وفي نظري أن أهم الثغرات في دراسات وتخطيطات المهتمين بمكافحة الجريمة إغفالهم الجانب الروحاني، وإبعادهم التدين الذي يخاطب القلوب بما يؤثر فيها، وليس كل مؤثر روحاني يعطي نتيجة في هذا، ولا كل تدين يعتبر تدينا؛ لأن كل ما يرسمه البشر من سماته الخطأ والقصور، وما جاء من عند الله فهو الكامل الذي لا نقص، ولا مدخل فيه لتأويل.
ودين الإسلام الذي رضيه الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، عقيدة في القلوب، ومنهج عمل للنفس يقومها، وللمجتمع يحميه من الآفات، ويسير نظام أبنائه، هو الذي ينبعث من المؤثر الروحاني، ويتعمق مفهوم التدين، وما ذلك إلا أن تعاليمه المستقاة من كلام الله جل وعلا، تخاطب الوجدان، وتنفذ إلى القلب وتمتلك نتائجها المشاعر إحساسا ظاهرا، ونتيجة ملموسة؛ لأنه دين رضيه الله سبحانه: عقيدة ومنهج سلوك لخير أمة على وجه الأرض، بنعمة منه سبحانه وتعالى وفضل، وشيء رضيه الله، لا بد أن يكون كاملا في توجيهه، متناسقا في تنظيمه، شاملا في حمايته لأبنائه،(29/134)
ورعاية مصالحهم، كما ندرك هذا من النص الكريم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) .
فالبشر يعتريهم القصور، وتكثر المداخل عليهم وعلى أعمالهم، وينقصهم بعد النظرة، أما ما يشرعه الله - وهو سبحانه أرأف بعباده من الأم بولدها - فلا اختلاف فيه ولا تباين مع الأزمنة والأشخاص، ولا مع اختلاف البيئات والمتطلبات كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (2) .
وهذا سر من أسرار عالمية الإسلام، إذ رغم أن أنظمة البشر ووجهات نظرهم في كثير من الأمور قد تبدلت باختلاف الأمم، وتعاقب العصور، إلا أن ما شرعه الله من حدود وزواجر، وما نظمته الشريعة من جزاءات وعقوبات، فإنها قد ثبتت سلامتها في تقويم النفوس، حيث تتلاءم مع الطباع السليمة، ونجحت في حماية المجتمعات من الفوضى، فلم تكن وقتية تتلاءم مع أمة دون أمة، أو تصلح لبلد دون بلد.
ذلك أن التركيب الغريزي للنفس البشرية واحد: طبعا وتهذيبا، وتأثيرا واستجابة، كما أن الماء منذ أن خلقه الله واحد في تركيبه، وفائدته، وحاجة الجسم إليه.
والله سبحانه وتعالى هو الخالق للبشر، العالم بطبائعهم، وهو جل وعلا الذي شرع لهم الواجبات ليتبعوها، ويتعبدوه بها، وحد الحدود لئلا ينتهكوها، ويعصوه باقترافها، وبين سبحانه المحرمات حتى لا يقعوا فيها وسكت عن أشياء رحمة بعباده غير نسيان، فيجب عدم الإلحاف بالسؤال عنها؛ حتى لا يقع التشديد على الأمة، حسبما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أمته؛ لئلا يحل بها ما حل بالأمم السابقة.
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة النساء الآية 82(29/135)
والدارسون لأثر الشريعة الإسلامية في مكافحة الجريمة، من أبناء الغرب أدركوا ما اشتملت عليه أوامر الإسلام ونواهيه، من حواجز تحمي النفوس من المصائب، وتحيطها به عن التردي إلى أوحال الجريمة، وما ينجم عن ذلك من الإضرار بالأفراد والمجتمعات، فقال أحدهم في مؤتمرات الاستشراق: لو طبق المسلمون تعاليم دينهم، وحرصوا عليها عملا، فإن دور الشرطة والمحاكم والسجون ستغلق؛ لأنه لن يبقى لها عمل، وبذلك يوجد المجتمع الصالح الذي رسم الإسلام معالمه، وتتشوق لمثله شعوب الأرض، وسوف تنساق أوروبا بأكملها للإسلام، وبمثل هذا المفهوم قال الشاعر العربي:
لو أنصف الناس استراح القاضي ... وجنح الجميع للتراضي
وما ذلك إلا أن تعاليم الإسلام قد جاءت لمداخل الجريمة بتعليمات تسد منافذها، فالأموال والأعراض والنفوس هي وسائل يطمع بواسطتها بعض الناس للتعدي على بعض، والتسلط عدوانا وبغيا، رغبة في الاستئثار أو التكبر أو الظلم، فجاء تنظيم مداخلها ومخارجها في شرع الله الذي شرع لعباده، ورسم المنهج الذي يجب أن تلتزم به النفس المعتدلة، حتى لا يبغي أحد على أحد، وحتى لا يتسلط قوي على ضعيف، رحمة من الله بعباده، وإحسانا منه إليهم. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الحدود صادرة عن رحمة الخلق، وإرادة الإحسان إليهم، وينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم. . . والرحمة بهم، كما يقصد الوالد لتأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض (1) ، فالقسوة هنا ليست ظلما، ولكنها عدل ورأفة؛ لأن الأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع.
ذلك أن الأموال التي هي محك النفوس، ومنزلة الترابط والتآخي في المجتمع، قد تولى الله جل وعلا تقسيمها بين الناس، وأبان مداخلها
__________
(1) حاشية ابن قاسم على الروض المربع 5: 300.(29/136)
الشرعية: من ميراث وغنيمة ومصرف زكاة، وبيع وشراء، ومداينة وصداق للنساء، وهبات وغير ذلك. فكان الحق واضحا، ومداخل الاعتداء فيها بينة، وعليها تشفق النفوس: طمعا وخوفا، وزكاة للنفوس تبرز بالحرص عليها أداء، وتنقية من أمانات وحقوق، ووقاية النفس منها تعديا واستضعافا، فكان الحلال منها بينا وواضحا أثره في العمل، والعلامات عليه في الأعمال التعبدية متميزة بالدليل العقلي والنقلي.
والحرام منها فيه علامات تميزه أيضا، وتوضيحات تقطع الحجة على كل متقول، كما نجد في مثل هذا النص الكريم الذي قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم لمن سأله بأن يدعو الله له بأن يكون مستجاب الدعوة: «أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة» رواه الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم: «لحم نبت من السحت فالنار أولى به (1) » رواه الدرامي في مسنده.
وبعد المال يهتم الإنسان بعرضه دفاعا ومحافظة؛ لأن التطاول على الأعراض، مما يهدد كيان الأسرة، وينخر في سوس المجتمع، فالعرض هو السمعة وهو الكرامة؛ لذا حرصت تعاليم الإسلام على حمايته وصيانته عن التطاول والاعتداء. ولحرص العرب على حماية الأعراض كانت الحروب تدور من أجله، وكانت الدماء تراق، والغارات تتتابع من أجل كلمة، ووقاية من مسبة، خوفا من العار، وتوجسا من فضيحة اجتماعية صحيحة أو مفتعلة. فجاءت تعاليم هذا الدين تضع الحواجز، وتردع المعتدي، وتحمي الضعيف، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (2) » متفق عليه. . . وأكد هذه الدلالة صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وفي خطبته صلى الله عليه وسلم البليغة، والتي تعتبر من أسس الأمور التشريعية في كثير من القضايا الإسلامية.
والعرض والمال عند الإنسان يعادلان النفس التي قد يتجرأ بعض الناس بالتطاول عليها بالقتل أو الإعاقة، أو الإضرار بأي نوع من الجروح، فأحاطها التشريع الإسلامي بسياج من الحماية والمدافعة لتبقى في مأمن من التسلط،
__________
(1) سنن الترمذي الجمعة (614) .
(2) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، مسند أحمد بن حنبل (2/277) .(29/137)
مع الوعيد الشديد بعقاب دنيوي، وجزاء أخروي لمن في قلبه وازع إيماني حتى لا يقدم، ولمن لم يبق محافظا على حرمة الآخرين، أما من مات وازعه الديني، فإن السلطة التي جعلها الله للولي بواسطة الحاكم الشرعي القائم على حدود الله - قوة دافعة للعمل، وحجاب يحمي عن التطاول والانتهاك حيث يبرز أثرها الرادع لمن يفكر بالإقدام على مثل ذلك العمل.
هذه الأمور الثلاثة، هي في الغالب أقوى الركائز المحركة للإجرام، والتي من أجلها يكثر التنازع بين الناس، وتتكالب الفتن في المجتمعات، مستشرية بين صفوفهم.
فكان للتشريع الجنائي في الإسلام طرق في التضييق على الجريمة، ومكافحتها إذا وقعت، تتمثل في مثل:
- تهذيب النفوس، وتهيئتها للاستعداد قبولا وإدراكا.
- إبانة الحق من الباطل بعلاماتها ومميزاتها، وتحريك ملكة العقل لاتباع الحق بمنافعه، والابتعاد عن الباطل لمساوئه.
- وضع المعالم الزجرية كحواجز تكبح جماح النفوس، وتردها عن غيها.
- تطبيق الحدود، وتنفيذ القصاص.(29/138)
وغير هذا من أمور يمكن إجمالها في منهجين فقط:
1 - الطرق الوقائية.
2 - الطرق الزجرية.
وكل رادع نفسي أو اجتماعي، أو مؤثر بيئي أو سلطوي، استجابة أو قناعة أو خوفا، فإنه داخل تحت هذين المنهجين مهما كان سببه أو أثره.
فالعقاب في الشريعة الإسلامية بطريقيه: الوقائي والزجري، مبعثه المحافظة على الضرورات الخمس:(29/138)
النفس والعقل والدين والعرض والمال.
وهذه الأمور الخمسة هي دعائم حياة الجنس البشري على الأرض، فمتى اختل واحد منها اضطرب ميزان الأمن والاستقرار.
الطرق الوقائية:
طرق الوقاية من الإضرار بالمجتمع وأهله، أنفسا أو أموالا أو أعراضا، أو وقاية اجتماعية، مما تحرص الأديان كلها عليه، وقد أبان الله في كتابه الكريم، وسنة رسوله المصطفى عليه الصلاة والسلام أن الفساد في الأمم السابقة، ما جاء إلا من إخلالهم بالنصوص، وتحايلهم على ما بين أيديهم من تشريع، ومفاضلتهم في الأحكام بين الشريف القوي وبين الضعيف الوضيع، ممن لا سند له من جاه أو مال أو عشيرة.
فالأول: يعفى من الإيقاع أو التشهير، أما الثاني: فيضاعف الجزاء عليه ويذل. كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (1) » حيث قال ذلك لأسامة بن زيد عندما جاء ليشفع في أمر المخزومية التي سرقت، وأهم الناس أمرها (2) .
وإذا كان الناس يلمسون الأثر الوقائي في الأمور الصحية، ودوره المحسوس في المحافظة على الأجسام عن كثير من الأوبئة، حيث اختفت بعض الأمراض التي كانت تفتك بالناس، وخاصة الأطفال كالجدري والسعال الديكي، والدفتريا والحصباء، والدرن وغيرها، إيمانا بالهدف القائل: الوقاية خير من العلاج، فكانت اللقاحات في وقت معين، وبمقدار معين، مفيدة في إعطاء الجسم مناعة - وبتوفيق من الله - عن كل مرض يلقح
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3475) ، صحيح مسلم الحدود (1688) ، سنن الترمذي الحدود (1430) ، سنن النسائي قطع السارق (4903) ، سنن أبو داود الحدود (4373) ، سنن ابن ماجه الحدود (2547) ، مسند أحمد بن حنبل (6/162) ، سنن الدارمي الحدود (2302) .
(2) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود جامع الأصول 3: 561.(29/139)
الجسم عنه، ذلك أن الأمراض أوبئة يحتاج الجسم إلى أن يحافظ صاحبه عليه، ويهتم به، ويراعي الجو المحيط به، ويقسر القادرون الناس - الذين لا يدركون البعد الصحي لأنفسهم - على ضرورة المحافظة على أجسامهم وأولادهم، الذين هم أمانة في أعناقهم؛ لأن الولاية والمسئولية في مناحي الحياة، لا تقل أهمية عن الناحية الصحية، وذلك باتباع أساليب السلامة التي تعين في الوقاية من المخاطر.
وأساليب السلامة كثيرة ومتنوعة، منها الصحي والمروري ومخاطر الطريق والحريق، وحماية الأطفال من الأمور الضارة التي لا يدركون خطرها كالأدوية والغازات والسموم؛ ولذا أنشئت لها في كثير من دول العالم مؤسسات، وعقدت الندوات، واهتم المختصون بتنظيمها، ووضع جزاءات رادعة لمن لم يبد اهتماما ومتابعة.
والجريمة آفة اجتماعية أكثر خطرا من الآفة الجسمانية، فكان اهتمام الإسلام بالوقاية منها أكثر من الأساليب الزجرية؛ لأن الزجر جزاء يوقع على من فسد ضميره، وعمي قلبه، فكان بمثابة تكثيف الدواء للجسم، أو إجراء العملية، بعدما استفحل المرض، فقد تكون النتائج إيجابية أو سلبية، وقد تكون بعض النتائج استرشادات يأخذ بها الأصحاء في تلافي أسباب المرض.
أما الوقاية فهي اهتمام فردي لمعرفة الأثر السيئ، وما يترتب عليه، ثم تهذيب النفس، ومدافعة نوازعها عن الانجذاب إلى الشر، وهذا الاهتمام الفردي يأتي من تفهم النصوص الشرعية لمن أعطاه الله قدرة وعلما، واستفادة من مجالس العلماء وحلقات الذكر، حيث أمر الله بالسؤال في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) . وبالاستجابة
__________
(1) سورة النحل الآية 43(29/140)
للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث ينظر رجال الحسبة للمجتمع وما فيه بميزان التوجيه والنصح؛ غيرة عليهم، وحمية لدين الله.
وللوقاية من الإجرام ومراقبة المجتمع عن أن تستشري فيه ثلاثة خطوط متوازية لا يؤدي أحدها الدور الكامل، إلا بتكامل هذه الثلاثة، من حيث الإحاطة والشمول، والحرص والتطبيق.
ذلك أن المجتمع مكون من فرد وأسرة وجماعة، كما أن الجسم مكون من أعضاء متعددة، ومرض العضو الواحد من الجسم يعوق الجسم كله، فكذلك المجتمع لا تستقيم أحوال الأمة فيه، ولا ينتظم معاشهم، إلا بسلامته كله، ومعالجة الخلل الذي نجم في أحد أطرافه.(29/141)
الرقابة الذاتية:
ما أكثر التوجيه القرآني الكريم للنفس البشرية، حتى تستعمل العقل في التبصر، وحتى تدرك ما تدل عليه الحواس التي وهبها الله للإنسان، فتميز الخير من الشر، والنافع من الضار؛ لأن الإنسان سوف يحاسب على سرائر أعماله كما قال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1) ورسول الله صلى الله عليه وسلم مكث في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاما، يرسخ في الناس القاعدة الأساسية التي عليها مدار الأمور؛ لأن سلامة الجوهر في صفاء العقيدة، وصحة الأعمال في صدق المأخذ، وترسيخ قاعدة الإسلام التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة تزيد عن 56 % من مدة مكثه صلى الله عليه وسلم يبلغ رسالة ربه، كانت في تأصيل الوحدانية مع الله: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. التي هي أول أركان الإسلام، وتأكيد حقها على الفرد المسلم؛ لأن هذه الكلمة إذا تمكنت من النفوس فهما وعملا، وسيطرت على الأحاسيس إدراكا وتشبعا، كانت
__________
(1) سورة الكهف الآية 49(29/141)
حصنا منيعا يحمي الله به النفوس من مسارب الشرور والآفات، ويقف عمق معناها دون الانحدار إلى الرذيلة والاستسلام للجريمة.
فمن أدرك هذه الدلالة لا بد أن يحافظ على شعائر دينه، كما أمر الله من صلاة وزكاة، وصوم وحج، وإيمان بالله، ووقوف عند حدوده التي أبانها لعباده سبحانه وبحمده.
وكل أمر تشريعي في الإسلام يلمس من المستقرئ تحليلا يقي النفس أو المجتمع ضررا، تبين نتائجه بمعرفة المداخل عليه.
- فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يعطي مفهومها إدراك حقيقة الوحدانية مع الله فتمنح النفس البشرية رقابة تحجز عن الوقوع فيما يناقضها، فلا يصرف العمل لغير الله ولا يعبد بحق إلا الله، ولا يشرك معه غيره، فيما لا يصح صرفه إلا له سبحانه، كالدعاء والذبح والخوف والرجاء وغير ذلك من أنواع العبادات، كما قال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (1) .
فمشاركة المخلوق للخالق في العمل المصروف، ينفي تحقيق الوحدة لله جل وعلا، كما جاء في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه (2) » .
والمشاركة مع الله في العبادة شرك حذر الله منه، وجعله البارئ جل وعلا من أشد العقوبات، كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (3) .
والرقابة الذاتية في المحافظة على النفس، من إدراك دلالة كلمة الوحدانية
__________
(1) سورة الجن الآية 18
(2) صحيح مسلم الزهد والرقائق (2985) ، سنن ابن ماجه الزهد (4202) ، مسند أحمد بن حنبل (2/301) .
(3) سورة النساء الآية 48(29/142)
مع الله سبحانه، والعمل بمقتضاها، واليقين بما تدل عليه، والصدق والمحبة في ذلك، وأنه الإله الحق ومصرف الأمور، خالق الخلق، وكافل أرزاقهم، فلا يجب أن تتعلق القلوب إلا به، ولا تنقاد الجوارح إلا لشرعه الذي شرع لعباده، مع القناعة بأن ما جاء من عند الله فهو المصلح لمعاشهم، والمسعد لهم في معادهم، وأن على الخلق الامتثال له، إذا كانوا يريدون السعادة والفوز والخلاص من كل مشكلة.
وإن من مهمات الوقاية العقدية قناعة النفس بأن محمدا هو آخر رسل الله، وأن الديانة التي جاء بها من عند الله، هي الديانة الحق، الذي لا يقبل الله من البشر سواه، فهو رسول الله يقينا، نشهد أنه قد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.
فاليقين بذلك عصمة للنفس من اتباع الطرق المتشعبة، أو اللجوء إلى تحكيم القوانين الوضعية؛ لأن في رسالته صلى الله عليه وسلم، وتبليغه ما أوحي إليه غنى عن كل بديل وضعته الأمم التي لا تؤمن بذلك، ولم تتمثل لشرع الله الذي شرع لعباده، أو ترضى به دستورا في تصريف شئون حياتها.
ورقابة النفس في ذلك، مما يطرد الوساوس، ويقضي على التشكيك والرياء في الأعمال؛ إذ سوف تحرص بما تشبعت به على أداء حق هذا الإحساس الوجداني بالمتابعة، والابتعاد عما ينافي مدلول كلمة الإخلاص.
- وإقامة الصلاة مما يعطي النفوس- فردية أو جماعية - حبا للنظام وتقيدا بالطهارة، وانقيادا للسلطة؛ لأنها طهارة البدن والثوب والبقعة للصلاة، مما يعطي أهمية في تربية النفس للاهتمام بالطهارات الأخرى، في تنقية الأعمال والبعد عما فيه إضرار بالنفس أو المجتمع مما حذر منه التشريع، والجريمة في مقدمة ذلك.
فالنظام في الأوقات، والتهيؤ للصلاة، والتقيد بعدد الركعات المفروضة،(29/143)
بدون زيادة أو نقص، حيث المسلم المصدر في ذلك عن كيفية صلاته بحسن الاستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي (1) » فهو صلى الله عليه وسلم مشرع للأمة، ومبلغ عن الله، ذلك أن الصلاة خضوع أمام الله، واستجابة لأمره؛ ولذا كانت من أعظم العبادات، المهذبة للطباع، والناهية عن المنكر، والرادعة عن طرق الغواية، كما قال جل وعلا: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (2) وإدراك حقيقتها، واستحضار القلب عند أدائها، ثم أخذها سلاحا تحارب به النفس الشرور المحيطة، والآثام المتسلطة، ومنها الجريمة التي لا تتحرك في النفس، إلا من مدخل ضعف جاء من الإخلال بفرضية الصلاة، ونقص في مراقبة ما يجب أن تنتهي عنه النفس، من أمور تتباين مع منزلة الصلاة، ودورها في حماية النفس، ووقاية المجتمع من كل ما يضر به، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لا يطع الصلاة» ، قال ابن كثير: وطاعة الصلاة أن تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وقال سفيان: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} (3) قال: فقال سفيان: إي والله تأمره وتنهاه (4) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، فقال: إنه سينهاه ما تقول (5) » .
ولما كان القلب كما يقال: هو ملك الجوارح، والمسيطر على أفعالها وتوجيهها، فإن القلب الخاشع في الصلاة، هو الذي يتشبع بدلالة الآية، وهو الذي يعطي الرقابة للمفهوم الوقائي عن كل منكر وفاحشة، والجريمة من ذلك سواء كان مردودها على الفرد، أو بان أثرها في المجتمع.
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (631) .
(2) سورة العنكبوت الآية 45
(3) سورة هود الآية 87
(4) تفسير ابن كثير 3: 414.
(5) تفسير ابن كثير ص 415.(29/144)
- وإيتاء الزكاة: طهرة للمال، ومشاركة للفقير في حق فرضه الله له في مال الغني؛ لأن بذله بسخاء وطيبة نفس مما يغني نفوس الفقراء، ويهدئ قلوبهم فلا تتطاول أيديهم على ما في أيدي الآخرين، ولا يحقدون على الأغنياء المتنعمين بالمال، وهم محرومون منه.
وإذا كان البدن يتطهر بالماء وضوءا واغتسالا من أجل الصلاة، التي يجب أن تستقبل بالطهارة الحسية الظاهرة ليتهيأ الجسم بحواسه كلها للطهارة المعنوية التي توجبها الصلاة، وتنعكس آثارها على الأعمال، ومسيرة الفرد والمجتمع. فإن الزكاة تحصن المال، وتطهر قلب صاحبه؛ ليحرص على تجنب كل مدخل حرام، أو أن يصرف ذلك المال في الحرام، حيث إن المال مال الله، وما صاحبه إلا مستحفظ عليه؛ لينظر جل وعلا ماذا يعمل فيه أخذا وإنفاقا، وماذا يؤدي منه حقا وإحسانا؛ لأنه نعم المال الصالح عند الرجل الصالح.
فالإنفاق منه على النفس، وعلى من تلزم نفقته شرعا من أداء حق المال، لما فيه من كفاية عن التطاول على ما في أيدي الآخرين بسرقة أو غيرها، والتصدق منه برا وإحسانا على القريب والمحتاج وسبل الخير الأخرى، ومن تزكية النفس وتعويدها على السخاء بأحب شيء إليها، وترضيته للنفس المدفوع إليها بما يعفها ويشعرها بالترابط الاجتماعي. أما الزكاة فهي حق لله في مال الغني، تولى الله جل وعلا تسمية أهلها الثمانية؛ ليكون في ذلك إعانة على الرقابة الذاتية للنفس جودا بالعطاء، وتنقية للمال، وتلمسا لمن يستحقها حتى تبرأ بها الذمة، وكلما كان بذل المال للآخرين خافيا، كان الأثر أبلغ في المعطي تزكو نفسه، ويرتاح قلبه.
وفي الآخذ حيث يرتفع به عن ذل السؤال، وكشف الحال، وفي كليهما ترضى النفوس، وتحمى من الاندفاع إلى الجريمة، يقول جل وعلا: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية 271(29/145)
لأن في إبدائها إظهارا للإحسان ومدافعة للنفس وتحبيبا للآخرين في الاقتداء، وفي إخفائها منزلة إيمانية عميقة، وبعدا عن الرياء، وعفافا للآخرين وصونا لماء وجوههم، وقطعا للألسنة عن الإساءة، والأيدي عن التطاول.
- ومثل ذلك يستنتج من حكمة أداء الصيام، وكبح رغبات النفس، وتعويدها منهجا خاصا في العمل والالتزام ومنعها من الطعام والشراب والجماع في نهار شهر رمضان؛ لتأخذ من ذلك درسا عمليا في الابتعاد عن الشر، وسبل الإضرار بالنفس أو بالآخرين، حيث تندفع النفس إلى الترويض على صيانة اللسان من الغيبة والنميمة، وفحش القول، وللبدن بمغالبة الشهوات، وذلك أن اللسان هو الذي يورد النفس المهالك، ويوقعها في الموبقات، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه ضمن وصيته له ضرورة حفظ اللسان، «ولما سأل معاذ: أنحن مؤاخذون يا رسول الله بما نقول؟ أجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم (1) » ، وفي رواية «على مناخرهم (2) » متفق عليه.
فالصيام ترويض بدني وكبح للشهوات، وهو رقابة ذاتية، فإذا لم ترسخ في الوجدان إحساسا وإيمانا وينعكس أثرها على المرء عملا ويقينا، فإن المرء لا يلتزم بهذا الركن على الوجه المطلوب، ولا انتهى عما يحدثه الصيام من أثر في البعد عن المنكرات، والمقترنة بإحساس الصوم، ولا الجرائم التي رسخ ضررها من تفاعل الصوم في النفس، مع مغالبة الحواس بترك كل ما يفسده.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2616) ، سنن ابن ماجه الفتن (3973) ، مسند أحمد بن حنبل (5/237) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2616) ، سنن ابن ماجه الفتن (3973) ، مسند أحمد بن حنبل (5/237) .(29/146)
وقول الزور، الذي هو مدخل الجريمة، وأخذ أموال الناس، والتعدي على أعراضهم بالباطل، هو من فلتات اللسان الذي جاء الصوم ليهذب النفوس عنها، مثل الكذب، والشتم والسب، والكلام القبيح الذي هو رمي أعراض الناس بالمعايب، وثلبهم وذكرهم بقبيح القول، في حضورهم أو غيابهم، نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حذر من كل ذلك، في وجوب إعطاء الصوم حقه، لنخرج منه بنفس مهذبة، وإحساس عميق، وأعمال مستمرة وزاكية، يقول صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه (1) » .
-والحج الذي هو عبادة مالية وبدنية، يدفع المرء إلى الحرص على جمع المال الحلال، وتقوية البدن على أداء تلك الشعيرة، والمجيء في وقت مخصوص، وبلباس متميز، وإلى أماكن موحدة، تجمع المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها على اختلاف ألسنتهم وألوانهم؛ ليكون في مجتمعهم عبرة، وفي التقائهم درسا من دروس الحياة المهمة، كأهمية التعارف والتدارس، ومراقبة النفس عن الوقوع في المحظورات الإجرامية، وفداء كل عمل يخل بالحج السليم بما يلائم ذلك من الكفارات البدنية والمالية، وحتى لا تكون تلك الكفارات مربحا شخصيا نلمس رقابة ذاتية جاء بها التشريع في الجزاءات والكفارات، بأن يكون النسك لفقراء الحرم، ولا يأكل منها صاحبها شيئا، وأن يكون بعض الصيام في أيام الحج، وهي ثلاثة لمن لم يستطع الفداء، وسبعة إذا رجع إلى أهله تلك عشرة كاملة.
وإن تتبع أحكام الحج والحرص عليها أداء وعملا لمما يعطي المسلم درسا في معرفة السبل التي يتقي بها المرء ارتكاب ما يؤثر في هذه الشعيرة، والمنهج السلوكي الذي يجب أن يسير عليه أثناء تأديتها، أدبا وحسن تعامل واهتماما بإخوانه المسلمين، الذين تقاطر جمعهم على بيت الله
__________
(1) رواه البخاري وأحمد وأبو داود.(29/147)
الحرام، استجابة لأمر الله، وتلبية لنداء إبراهيم الخليل، عندما أذن في الناس بالحج.
ولولا مراقبة الله، والحرص على امتثال أمره الذي شرعه لعباده، والقدوة برسوله الكريم صلى الله صلى عليه وسلم الذي قال: «خذوا عني مناسككم (1) » لكان كل فرد يعمل ما يشاء، فلا يلتزم بميقات، ولا يتقيد بلباس، ولا يتجنب محظورا ولا يصرف الكفارة لمستحقها، إلى غير ذلك من أمور هي في صحة وسلامة الحج، لكن الوازع الإيماني، والرقابة الذاتية، جعلتها على النفس حارسا، يأخذ بها إلى العمل المفيد، ويوجهها إلى الصواب، ويدفعها إلى السؤال استرشادا، ورغبة في الخير، فعرفت الحق بعلاماته، واتجهت إليه محبة فيه، وأدركت الشر بالتحذير منه؛ لأنه محظور يجب اجتنابه، والتفكير عنه إذا تم الوقوع فيه.
وجميع فرائض الإسلام، إذا حرص المرء فيها على معرفة الحلال من الحرام: بأن حرص على الحلال فألزم نفسه به؛ لأنه هو المنهج السليم الذي وجهه دينه إليه، ورغب فيه بالاندفاع إليه، بأمر يجب احترامه لقدسية مصدره، فإنه بذلك يجد الفضيلة التي تتوقد إليها النفوس، ويرتاح للعمل الذي يتفق مع الفطرة. والنصوص الشرعية التي توضح الحلال من الحرام، فترغب في الحلال، وتجازي عليه، وتنهى عن الحرام الذي يمثل الشر وآثاره، فتعاقب عليه، وعلى فعله، هي زواجر وحدود تقوي الرقابة بالوقوف عند النص واتباعه في الحلال، والتبصر في دلالته، والابتعاد عما حذر منه من حرام. ذلك أن الحرام هو كل ما فيه ضرر بالنفس أو المجتمع، سواء أدرك الإنسان النتيجة أو خفي السر عنه.
وإذا كانت أنظمة البشر تعطي طابعين في المتابعة والتقويم: ذاتي بإحساس النفس، ورقابي مدفوع بقوة النظام، فإن الذاتي، يحرص عليه التربويون والإداريون، لإشعار أهل هذين التخصصين بأن القناعة العلمية
__________
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062) .(29/148)
والارتباط المعرفي هما الدافع لإجادة العمل، ومحاسبة النفس، واتخاذ ميزان تقاس به الأعمال وتقوم به النتائج.
أما الرقابي المدفوع بقوة النظام، فهو سلطة قوية، يستعملها الرقابيون بأساليبها الرادعة، مع المقصرين في العمل، المتراخين في متابعة الواجبات الملقاة عليهم.
ومن هذا الأمر المحسوس في حياة الناس، نقارن النظرة الشرعية في مكافحة الجريمة، فالطريقة الوقائية: هي منهج يحرص عليه الإسلام في تحصين النفس، وتزويدها بالطاقة الإيمانية، المكافحة للجريمة قبل وقوعها، من حيث إدراك كنهها، وتجسم ضررها، ومداخل وطرق الوقاية منها، ويتعاون عليها ثلاث فئات: الفرد والأسرة، ثم المجتمع. ولكل من هذه الفئات الثلاث مداخل للمعرفة، ومسارب لتمكين الهدف في معرفة الجريمة ورسم الطريق الموصل إلى مكافحتها، وحصرها في نطاق الكراهية والتنفير.(29/149)
رقابة الفرد:
رقابة الفرد على نفسه أولا، وتوجيهه لغيره ثانيا بتوسيع المدارك، وزيادة التمكين في أخذ المعرفة من مصادرها الصحيحة الثابتة، وغرس الفضيلة، ومقاومة الرذيلة، كما يستفاد من هذا النص الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (1) ، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا سمعت يا أيها الذين آمنوا، فأصغ لها سمعك، فهي إما أن تأمرك بخير تتبعه، أو تحذرك من شر فتجتنبه، قال ابن كثير في تفسيره: يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ومخبرا لهم أنه من أصلح أمره، لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريبا منه أو بعيدا.
__________
(1) سورة المائدة الآية 105(29/149)
قال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: يقول تعالى: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال، ونهيته عنه من الحرام فلا يضره من ضل بعده، إذا عمل بما أمرته به. وعندما سئل أبو ثعلبة الخشني عن دلالة هذه الآية قال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام (1) » . . . الحديث. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (2) .
__________
(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3058) ، سنن ابن ماجه الفتن (4014) .
(2) تفسير ابن كثير 2: 109.(29/150)
رقابة الأسرة:
والأسرة عندما يدرك أفرادها ما يجب عليهم فهمه من نصوص شرعهم، ودلالات دينهم، ويحرصون على ذلك عملا، فإن نتيجة ذلك الالتزام بالأخلاق، ومراقبة الأعمال لتزنها من منطلق الفهم الصحيح، حتى توجه الأبناء منذ حداثة أعمارهم التوجيه السليم، وتغرس في نفوسهم حب الفضيلة لفضلها، وعمق أثرها، وكراهية الرذيلة لسوئها، وآثار نتائجها؛ لأن الرذيلة يتمثل فيها شبح الجريمة التي يحسن بالأسرة تجسيمها لدى الناشئة، وإيصاد الطرق المؤدية إليها؛ ليكبر هذا الإحساس معهم، فيرونها شبحا مخيفا، وعملا رذيلا، تكبر أحاسيسهم حياله مع الأيام، حتى إذا كبروا، وصاروا في موطن المسئولية، وعمق الفهم، أدركوا بالدليل الشرعي سر ما رسخ في قلوبهم، ودور ما أنشئوا عليه من أعمال وأفكار، حيث أدرك ذلك المفهوم التربوي الشاعر العربي في قوله:
وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عوده أبوه
وأسوة المسلمين في ذلك منهج الصحابة، وفهم التابعين في حسن توجيههم لأبنائهم، وتلقينهم الفضيلة طبعا وخلقا وتعويدهم الأعمال الحميدة(29/150)
ترويضا ومتابعة، حيث تابعوا التطبيق مع أقرب الناس إليهم، ونشئوا محبين لكل عمل مستحسن، آلفين كل منهج سليم، سائرين على الفطرة السليمة، التي هي تعاليم الإسلام الصحيحة؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة، والإسلام وتشريعاته هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فالأسرة المسلمة في كل عصر ومصر عندما يهتم أربابها بأبنائهم تربية وحسن خلق، وإنكارا للمنكر، وتحذيرا من الصغائر، التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إياكم ومحقرات الذنوب (1) » أي ما تحتقره النفس ويصغر في العين. فإن هذا من أسباب توفر البيئة الصالحة، التي تبغض الجريمة، وتنكر الجنوح إليها؛ لأن صلاح الأحداث، وتعظيمهم شرائع الله، والوقوف عند حدوده، دافعه الزاجر الإيماني، والتربية السليمة التي حرصت الأسرة على تمكينه في جوانب البيت، ضمن التربية الأولية التي يلقنها الآباء والأمهات لأبنائهم، فالكبير يمتثل ويوجه ويضرب النموذج الصالح بالقدوة والالتزام، أما الصغار فيبين لهم أن ذلك العمل ما هو إلا استجابة لشرع الله الذي جاء به الإسلام تربية وتوجيها وتعليما وتطبيقا. فالصغير عندما يتعود ذلك عملا، وتنطبع به أخلاقه سلوكا، فإن الأمر سيعظم في قلبه، والمصدر الذي جاء منه وهو كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي استجاب من أجلها، سيكون له مكانة راسخة في أعماقه؛ لأن هذا من تعظيم حرمات الله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (2) .
وقوله سبحانه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (3) إن الأسرة التي تحرص على غرس الروح الإيمانية في قلوب أبنائها، منذ تفتح براعمهم، فإنما تحصنهم لمجابهة الحياة، والاستعداد لإدراك المخاطر؛ لأن
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (1/403) .
(2) سورة الحج الآية 30
(3) سورة الحج الآية 32(29/151)
الإيمان بالله وبكتبه وبملائكته وبرسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، ترسيخ هذا الإيمان يعطي الأبناء سلاحا قويا يدفعهم للعمل، وينمي عندهم بغض الشر، وإدراك خطره، ويحبب إليهم الخير، ويرغبهم في البحث عن مداخله، والاستئناس بأهله؛ لأن من شب على شيء شاب عليه، وبذلك يسلم الأحداث- بتوفيق من الله- من الجنوح في صغرهم، ومن ثم الابتعاد عن الجريمة في كبرهم؛ لأنها لم تجد في قلوبهم بابا مفتوحا، ولا ارتياحا يدفعها للاستقرار.
ومعلوم أن من يركب مخاطر اليم، إذا لم يكن قادرا على السباحة، فإنه يعرض حياته للموت، ونفسه للخطر، بل أبسط ما يقال عنه: إنه قد ألقى بنفسه إلى التهلكة؛ لأنه لم يستعد من قبل بما يعينه على مصارعة الأخطار، والقدرة على توقي أضرارها.(29/152)
رقابة المجتمع:
ثم يتبع ذلك رقابة أوسع، ونظرة أشمل، هي عين المجتمع الفاحصة، وانتقاداته لكل أمر خارج عن المألوف في البيئة الإسلامية، حيث إن البيئة الإسلامية يجب ألا يؤلف فيها إلا ما يتمشى مع منهج دين الإسلام، كما جاء في الأثر: ما رآه المؤمنون حسنا فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحا فهو قبيح (1) . فإيمانهم القوي يردعهم عن تغيير النظرة للأمور الحسنة أو القبيحة، فالحسن عندهم ما أباحه شرع الله والقبيح في نظرهم ما حذر منه الشرع وحرمته تعاليم الإسلام.
وأهمية الجار والمحافظة عليه سمعة ونصحا من أساسيات دين الإسلام، حيث وردت أحاديث تدل على أن الجار يتعلق بعنق جاره يوم القيامة؛ ليحاجه أمام خالقه جل وعلا؛ لأنه رآه يعمل المنكر فلم ينهه، واستحق بنو إسرائيل اللعن في كتاب الله على ألسنة أنبيائهم؛ لتركهم التناصح والأمر
__________
(1) يروى موقوفا على ابن مسعود.(29/152)
بالمعروف، كما قال جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (1) {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (2) فحق عليهم - بعدم التناصح، وراحة النفس بالجريمة التي يعملها الآخرون - أن وجب عليهم لعن الله، وهو الطرد من رحمته جل وعلا.
والعصيان والاعتداء جريمة؛ لأن في ذلك مجاوزة لحدود الله التي حد لعباده، وأعظم الجرائم عصيان الله في أمره، والاستكبار على شرعه، كما فعل إبليس- لعنه الله- حيث أخرجه ذلك من رحمة الله واستحق مقته وغضبه إلى الأبد، فأعظم بها من خسارة، قال ابن كثير في تفسيره: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم (3) » قال يزيد، وأحسبه قال: «في أسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال: لا والذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطرا (5) » وفي رواية ابن مسعود رضي الله عنه: «كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو تقصرنه على الحق قصرا (6) » .
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأسس المتينة، التي تقي المجتمعات من الجريمة، وبهيمنة الرجال العارفين لما يدعون إليه المدركين حقيقة ما ينهون عنه بحكمة وموعظة حسنة يمكن بتوفيق من الله، وبالنية المخلصة، والصدق في القول والعمل - حماية للأمة من تسلط فئة نبت الشر في قلوبهم، وفقدوا هيمنة الرقابة الذاتية لنقص إيمانهم، والرقابة الأسرية
__________
(1) سورة المائدة الآية 78
(2) سورة المائدة الآية 79
(3) سنن الترمذي تفسير القرآن (3047) ، سنن أبو داود الملاحم (4336) ، سنن ابن ماجه الفتن (4006) .
(4) سنن الترمذي تفسير القرآن (3047) ، سنن أبو داود الملاحم (4336) ، سنن ابن ماجه الفتن (4006) .
(5) سورة البقرة الآية 61 (4) {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}
(6) تفسير ابن كثير 2: 83.(29/153)
لعدم توجيههم وقت التهيؤ الذهني، والاستعداد العقلي للقبول؛ لأن أمثال هؤلاء في المنزلة الثالثة، بحيث تردعهم السلطة، وتؤثر فيهم التوجيهات، وتخوفهم الجزاءات الملائمة معهم، ذلك أن سلطة الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر يجب أن تكون مستندة إلى قاعدة صلبة من الإيمان، الذي يملأ النفس بحرارة اليقين، ويمدها بالشحنات الدافعة إلى العمل، كما يجب أن تدعم بالسلطة الشرعية، لينزجر المعاندون، ويقمع المكابرون، ويجازى المتجاوزون المصرون؛ لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن (1) ، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
لقد جعل الله جل وعلا في شرائع دين الإسلام، وفي كل أمر ونهي حكمة بالغة، تنصلح بها الحياة في كل زمان ومكان، فالزواجر والحدود التي شرعها الله، ونظمتها تعاليم الإسلام، ليست إلا وقاية للمجتمع من تسلط فئة على فئة، وحماية لأفراده وأمنه من أصحاب النزعات الشريرة، أو الإغراءات المادية.
ولما كان الدين النصيحة والتوجيه، فإن الفرد مسئول بأن يكون عينا تراقب الأضرار؛ للتنبيه عليها والتساند مع الجهات المعينة في إنكار المنكر، والترغيب في المعروف، كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم (2) » . رواه مسلم.
فنصح العامة يتم بالتوعية والتنبيه على الأخطاء برفق ولين؛ لأن الثمرة لا تتم إلا بهما. أما إذا خيف اتساع النطاق، واستمراء الباطل، فيجب على الجهة المعنية أخذهم على الحق بالقوة، كما جاء في الحديث الذي ساقه ابن كثير في تفسيره، ومر بنا آنفا. ذلك أن رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم الذين عرفوا في تاريخ دولة الإسلام برجال الحسبة،
__________
(1) من كلمات عثمان بن عفان رضي الله عنه.
(2) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(29/154)
وأخذ فكرتهم وجزءا من مهماتهم رجال الغرب، وسموهم برجال الآداب، أو بوليس الآداب، وعنهم أخذت هذه الفكرة بعض الدول العربية والإسلامية، لكن ذلك سار في درب يختلف عما عهد عن المسلمين في أعمال الحسبة، حيث عرف عنهم أعمال كثيرة منها:
- الحرص على متابعة صغائر الشر حتى لا يستفحل خطرها.
- مراقبة المكاييل والموازين، والاهتمام بالأسعار ومنع الغش.
- المحافظة على الأمن، وذلك بمتابعة الجانحين من الشباب، وتتبع أصحاب الجرائم الأخلاقية.
- منع النساء من مخالطة الرجال في الأماكن العامة، ومزاحمتهم في الأسواق.
- الاهتمام بمداخل الفتنة، والنصح والتوجيه لكل من يتجرأ على حدود ومحارم الله.
- الاهتمام بتأمين الطرق، والقضاء على شتى صور التعدي فيها على الفرد أو الجماعة (1) .
- منع الجار من الاعتداء على جاره، وردع القوي من التسلط على الضعيف.
وغير هذا من أعمال، كلها تدعو إلى الاهتمام بما يصلح المجتمع الإسلامي، وإغلاق منافذ الشر فيه، والمفضية إلى الجريمة؛ لأن في متابعة تلك الأمور حصرا للشرور قبل حدوثها، وحجزا بالحدود، حتى يمتنع الناس من التحايل على بعضهم، وحتى يشعر من لديه ريبة بأن هناك أعينا يقظة، ترصد أحوال الشرور، وتتابع المنتمين إليها؛ لتقضي عليها قبل بروزها، مما
__________
(1) راجع كتاب الحسبة لابن تيمية. نشر دار الكاتب العربي ص8-43.(29/155)
يجعل للمجتمع شخصية آمرة، ولرجال الحسبة الذين هم عين المجتمع مهابة وردعا لما يجب أن يتصفوا به من علم وحسن سيرة وسلوك، ويقظة التشريع الإسلامي، حتى يكون الآمر والناهي عالما بما يأمر به، عالما فيما ينهى عنه، حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه، وأن تهيأ لذلك البيئة الصالحة، والظروف الطيبة؛ لأن رجال الحسبة عليهم دور مهم في الاضطلاع بالمحافظة على الدين، الذي هو قوام المجتمع، والمصلح لما فيه من اعوجاج، حفاظا عن التعدي على الحرمات، لما في ذلك من حصانة للإسلام، وسلامة لأهله.
وهذا من حماية المجتمع عن كل عمل يجر إلى الجريمة؛ لأن معظم النار من مستصغر الشرر، والسكوت عن الصغائر يجعلها تستشري وتكبر، وسد الذرائع مما يوصي به كثير من الفقهاء رحمهم الله، مخافة اتساع النطاق، والإفضاء إلى ما هو أشمل وأكبر حيث يرى الأصوليون بأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح.
والمجتمع بالتكافل والتعاطف، والراحة النفسية والهدوء والاستقرار، فإنه بإذن الله، سيقضي على الجريمة، بالقضاء على أسبابها، وحصر المؤثر فيها، وبكبت صغائرها قبل التفاقم، ما دام فيه من يمثل رجال الحسبة بالأمر والنهي، والنصح والتبيين، ورجال في المجتمع يتقبلون منهم التوجيه، ويستجيبون للنصح، ويمتثلون بالتطبيق، وهذا يمثل الأخذ والعطاء، أو(29/156)
السالب والموجب، اللذين بهما يتكامل المجتمع، ويتراحم أبناؤه، ويردع قادرهم المعتدي، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع المؤمن بالترابط والمحافظة على مداخل الشر فيه من أن تنتهك، حيث جعله بمثابة الجسد الذي يتألم من أي طارئ يحس أي عضو فيه فقال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه شيء، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (1) » رواه البخاري وأحمد في مسنده.
وقد رسم صلى الله عليه وسلم في أصول تربيته للمجتمع المسلم، وتوجيهاته لأبناء الأمة المسلمة، طرقا يستنير بها أبناء المجتمع في التوجيه والعمل، وتعينهم في رسم المنهج لبيئة الإسلام، من حيث الحصانة الفردية، والوقاية الجماعية، حيث أبان صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن المرء في توقيه الشبهات والمحارم كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه وأن حمى الله محارمه، ولكي يستبرئ المرء لدينه وعرضه، ويتجنب المحارم التي نهى التشريع الإسلامي عنها، فإن عليه أن يتقي الشبهات وأن يقف عند حدود الله، وبذلك يقي نفسه مسارب الجريمة، ويقوده القلب السليم إلى العمل الحسن، حيث إنه ملك الجوارح، وهو الموجه للخير إن صلح، وللشر إذا هو فسد، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب (2) » . وكان الدعاء المأثور: «اللهم أصلح لي قلبي الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر (3) » . وفي البعض: ديني بدل قلبي.
وروي الدارقطني وغيره من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» .
__________
(1) صحيح البخاري الأدب (6011) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2586) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) .
(2) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .
(3) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2720) .(29/157)
الطريقة الزجرية:
والمرتبة الرابعة التي تستنتج من استقراء التوجيه الشرعي، للوقاية من الجريمة، هي القوة التي تحد من استشراء الجريمة، وتغلبها على فئة من المجتمع لتفسده، وتدك دعائمه التي يقوم عليها بنيانه، تلك هي الطريقة الزجرية التي يلجأ إليها ولي الأمر عند استنفاد فرص الإصلاح، فالقلب له حالة الانطماس، والذهن له مرتبة في الانغلاق. فمن انطمس قلبه فإنه لا يفيد فيه نصح ولا توجيه؛ لأنه أصبح كالصخرة الصماء التي لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. والذهن إذا انغلق أصبح كالباب الموصد، لا يدخل معه أحد، ولا يخرج منه أحد، والمعاندون لشرع الله المتجاوزون لحدوده سبحانه، ممن طبع الله على قلوبهم، فلا يفيد فيهم توجيه، ولا يردعهم نصح، كهذا الباب لا يتحقق النفع إلا بكسره، أو كالجسم المريض بمرض خبيث لا يرجى برء الجسم منه إلا بقطع العضو الموبوء، ولو أنه جزء من الجسم، إلا أن الإبقاء على الجسم لا يتم إلا بذلك، ومن أجل المحافظة على الجسم يحرص الطبيب على المبادرة باستئصال العضو المصاب الذي لا يرجى شفاؤه؛ لأن نزعه من الجسم، فيه مطمع بسلامة باقي الجسم، والإبقاء على صاحبه ممتعا بصحة وسلامة ليعيش ما شاء الله له.
وقد شبه بعض العلماء حوزة الإسلام بدائرة، تحيط بها من جوانبها الحدود، التي بالمحافظة عليها تسلم للإسلام نقاوته، وبتجاوزها يتخلل أمن المجتمع، ويدب الفساد في أرجائه.
ولأهمية أمن المجتمع في البيئة الإسلامية، فإنه قد جاء ذكر هذه المادة ومشتقاتها في كتاب الله أكثر من أربعمائة مرة، واشتق الإيمان منها، الذي هو راحة النفس، بصدق العقيدة؛ ولذا جاء الحديث: «لا إيمان لمن لا أمانة له (1) » . ومن الأمانة معرفة واجبات شرع الله، والوقوف عند حدود
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/135) .(29/158)
الله، وذلك بالفقه في الدين، الذي هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلته التفصيلية (1) .
ذلك أن العلم بالأحكام الشرعية، يستوجب إدراك كنهها، سواء أخذت من الشرع تصريحا أو استنباطا؛ وذلك من أجل الوقوف عند حدودها، وزجر من يتجاوز هذه الأحكام الشرعية، بما يمكن السلطة، ويؤمن المجتمع، ومن أجل ذلك جاءت الأحكام الزاجرة المانعة، لكي تردع المجرمين عن الاسترسال في الجريمة، وحددت عقوبات كل جرم بما يتناسب مع مكانة ونوعية ذلك الجرم، والأثر الذي يتركه في البيئة الإسلامية، من قتل وقطع، إلى سجن وجلد، أو غرامة في الجناية، أو قصاص لعضو بدل عضو، أو تغريب عن البلد الذي أوقع فيه الجرم، إلى غير ذلك مما بسط في كتب الفقه، في أبواب الحدود والجنايات والقصاص، ومن النصوص الشرعية التي ورد فيها القول الثابت، ندرك أن فساد الأمم السابقة جاء من تركهم حدود الله ورغبتهم عن حكمه إلى أحكام البشر، كما حكى الله عن بني إسرائيل بقوله جل وعلا: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (2) .
وهذا في معرض التبكيت لهم، ومجانبتهم للمنهج الذي رسمه لهم شرع الله، ثم ابتغوا عنه بديلا، يتفق مع الأهواء البشرية، وتركوا حكم الله الذي أبانه لهم في التوراة التي أنزلها الله جل وعلا على موسى عليه السلام، فغيروا فيها، وبدلوا ورغبوا عن حكم الله إلى أحكام أخرى، من وضع البشر زادت مجتمعاتهم جريمة وتطاولا، فوصفهم الله بعدم الإيمان، وبالكفر والظلم والفسوق.
__________
(1) راجع في هذا التعريف شرح مراقي السعود. ص 10-11.
(2) سورة المائدة الآية 45(29/159)
والقرآن الكريم الذي هو المصدر الأول في شريعة الإسلام، قد مكن هذه الأحكام بما يخيف المجرمين؛ لأن في القصاص حياة لأولي الألباب ورغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة الحدود، حتى تحرص الفئة المؤمنة على التطبيق والملاحقة، فقال عليه الصلاة والسلام: «إقامة حد من حدود الله، خير من أن تمطروا أربعين سنة (1) » . لأن هذا الحد يمثل الغيرة لله، والاهتمام بشرعه الذي شرع لعباده، ومن قصة المخزومية التي سرقت، حيث غضب الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام عندما جاء إليه من يتشفع فيها. وقال: «أتشفع في حد من حدود الله؟ ثم قام خطيبا فقال: إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها (2) » .
ومن هنا تشدد علماء المسلمين رحمهم الله في تحريم الشفاعة في الحدود، إذا وصلت القضية إلى السلطان، وفي تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله تعالى، وأن الشفاعة الجائزة فيما يمكن إصلاحه قبل الوصول إلى الحاكم الشرعي، أو من يمثل ولي الأمر.
والحدود الزاجرة أهمها:
- الزنا وله حكمان إذا ثبت بالبينة الشرعية إقرارا أو شهودا: الجلد والتغريب سنة لغير المحصن، والرجم للمحصن. ويقام الحد في مشهد طائفة من المسلمين؛ ليكون لذلك صدى في النفوس، وتشهير بالفاعلين، وهذا من خزي الدنيا.
- وحد القذف يتم بعبارات صريحة أو كنايات دالة على المقصود، ليحدد الحاكم الشرعي نوعية القذف، وما يستوجب من التعزير. وللمقذوف
__________
(1) سنن ابن ماجه الحدود (2537) .
(2) إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 2: 266.(29/160)
التنازل وإسقاط الحق؛ لأن هذا حق فردي، يدخل في ترويع المسلم، والإضرار به، وهو صاحب الحق في المطالبة أو عدمها.
- وحد السكر عند ثبوت ذلك بالبينة القطعية كالإقرار أو شهادة عدلين، من الروادع عن استشراء هذه الآفة الاجتماعية وقد يكون من القياس في هذا وغيره، إقامة الحدود في أمور جدت على الفقهاء الأوائل وما مر عليهم، كالمخدرات بأنواعها، وقياسها هي أو غيرها على ما يلائمها من الجرائم والحرابة، ونتائج الأضرار. . . كما في قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة رقم 138 تاريخ 20 \ 6 \ 1407 هـ حول المخدرات.
- وقد «ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جلد في الخمر أربعين جلدة (1) » ، وقال في حديث صحيح: «من شرب الخمر فاجلدوه (2) » . إلى أن قال الثالثة أو الرابعة: «ثم إن شرب الخمر فاقتلوه (3) » وجلد أبو بكر رضي الله عنه. وفي عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثر شرب الخمر بسبب كثرة الفتوحات فتشاور الصحابة في ذلك. فاجتهدوا بالجلد ثمانين؛ لأن المرء إذا سكر هذى، وإذا هذى قذف، فقاسوا الحكم على أثر القذف وحكمه.
- حد السرقة وذكر ما يتم القطع به، بعد معرفة ملابسات السرقة، والدوافع إليها، وهل المسروق في حرز مثله، حيث يشترط الفقهاء في القطع للسرقة شروطا بسطت في كتب الفقه (4) وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تساهل في حد السرقة عام الرمادة؛ لأن الدافع إليها المجاعة التي حصلت للناس.
وعندما استهزأ المتقولون على الإسلام بحد السرقة، كما قال شاعرهم:
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار
__________
(1) صحيح البخاري الحدود (6773) ، صحيح مسلم الحدود (1706) ، سنن الترمذي الحدود (1443) ، سنن أبو داود الحدود (4479) ، سنن ابن ماجه الحدود (2570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) ، سنن الدارمي الحدود (2311) .
(2) سنن أبو داود الحدود (4485) .
(3) رواه أبو داود 4: 4485.
(4) انظر على سبيل المثال حاشية ابن قاسم على الروض المربع 7: 353-376.(29/161)
وهو الحد الأدنى للقطع كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين بذلك، فرد عليه ابن القيم رحمه الله:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ... ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
فالحدود والتجرؤ عليها، وعدم الوقوف عند شرع الله الذي شرع لعباده، هذه الأمور هي التي تذل صاحبها، فيستوجب الحد الذي يزجره، ويخيف غيره مما قد تسول له نفسه، بعد ما يعرف المصير.
- حد القتل عمدا، وتوضيح حقيقة العمد، حيث أفاض المفسرون والفقهاء في ملابسات القتل، ومعرفة الدوافع إليه، والتمييز بين القتل عمدا، والقتل خطأ، وما يدخل في عمد الخطأ، وخطأ العمد، وما يستوجب قصاصا، أو يفادى عنه بدية، إلى غير ذلك من تفاصيل أوضحها الفقهاء أحكاما تزجر النفوس عن العدوان، وتشفي غيظ المجني عليه، وتحفظ النفوس والأطراف، وطهرة للمقتول، وحياة للنوع الإنساني، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} (1) .
كما أوضح الله سبحانه وتعالى في سورة النساء قيمة النفس البشرية، وحرمتها وجزاء الاعتداء عليها: جزاء دنيويا وجزاء أخرويا، فقال جل وعلا: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} (2) إلى آخر الآية، ثم يقول سبحانه في الآية بعدها مشددا في عقوبات القاتل المتعمد: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 179
(2) سورة النساء الآية 92
(3) سورة النساء الآية 93(29/162)
- أما الجنايات المختلفة التي يتسبب عنها أضرار وجروح، ففي بعضها أرش عن الجناية، وفي بعضها قصاص، وفي بعضها مبادلة شيء من الأعضاء تالف بالجناية، بمقابله من أعضاء الجاني، وقد يصطلح الطرفان على الدية التي حددها الشارع، بحسب العضو المجني عليه، والضرر الذي أصابه، أو أعاقه عن العمل، والديات والأرش تتفاوت بحسب نوعية الجناية، وباختلاف الزمان والمكان، وحال المجني عليه. ذكرا كان أو أنثى، مسلما أو كافرا، جنينا أو صبيا متكاملا (1) .
- وقطاع الطرق المحاربون لله ولشرعه، المخيفون للناس الآمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وقد أوضح الله في سورة المائدة حكمهم، ونوعية العقاب الشديد الذي يجب أن يحل بهم، جزاء وفاقا؛ لتماديهم في الجريمة، وإخافة لمن تسول له نفسه أن يعمل عملهم، ويستهين بالسلطة الحاكمة، ويتجرأ على حدود الله وشرعه، حيث حرم صلى الله عليه وسلم على المسلمين دماء بعضهم البعض، وأموالهم وأعراضهم فقال في حجة الوداع، مؤكدا ذلك الحكم: «أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر العيد الأكبر، فقال: أي شهر هذا؟ قالوا: شهر الله الحرام، قال: أي بلد هذا؟ قالوا بلد الله الحرام، فقال صلى الله عليه وسلم: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، اللهم بلغت اللهم فاشهد (2) » . ويقول صلى الله عليه وسلم: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (3) » رواه مسلم.
وقد أعطى جل وعلا في التشريع الإسلامي لولي الأمر سلطة تنفيذية؛ لإقامة حكم الله في الفئات المخالفة، إذا لم تتب من عملها قبل أن يقدر عليهم، فقال سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (4) .
__________
(1) انظر المعنى والشرح الكبير ج 12 الجنايات والحدود.
(2) صحيح البخاري الحج (1739) ، سنن الترمذي الفتن (2193) ، مسند أحمد بن حنبل (1/230) .
(3) صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2564) ، سنن الترمذي النكاح (1134) .
(4) سورة المائدة الآية 33(29/163)
قال كثير من أهل العلم: يطبق الجزاء الوارد في الآية، كحد من حدود الله الرادعة والمريحة، حتى يستتب الأمن في المجتمع الإسلامي، بحسب نوعية الحرابة، من سطو وقتل وسرقة، أو شهر سلاح، أو تعد على السلطة، أو إخافة للآمنين، فهي جزاءات خمسة للولي الشرعي أن ينفذ منها ما يزجر ويؤمن المجتمع بدون مثلة أو تعذيب، ولكل جريمة ما يماثلها من الجزاء.
- ومقاتلة البغاة الخارجين على السلطة أو إخافة للآمنين من الروادع ذات الأثر؛ لأن منهج الإسلام الالتفاف حول قيادة موحدة، وهو من يرتضيه المسلمون إماما لهم، حيث يحرم الخروج عليه؛ لما في ذلك من فتح باب الإجرام والفوضى والقتل والهتك، وقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من خرج على بيعة الإمام، أو من جاء ينازع من في أعناق الناس له بيعة.
ومن حرص الإسلام على الإمامة يؤكد المصطفى صلى الله عليه وسلم على أهميتها حتى في السفر، بضرورة تنصيب أمير من المسافرين، حتى ولو كان عددهم ثلاثة؛ إذ عليهم أن يؤمروا أحدهم والصدور عن أمره، كما جاء في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم (1) » «وأن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية (2) » ؛ وذلك لأهمية الجماعة في الإسلام، وضرورة السمع والطاعة للإمام، وتمثل ذلك الصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام، بانقياد المصلين للإمام، وسيرهم خلفه.
__________
(1) أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر.(29/164)
يقول صلى الله عليه وسلم: «إن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ شذ في النار (1) » .
- أما من ارتد عن دينه، فإنه مجرم يجب محاربته، بعد إتاحة الفرصة له بالاستتابة، فإن تاب وإلا نفذ فيه حكم المرتد بالقتل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (2) » . وقوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق لجماعة المسلمين (3) » . متفق عليه.
__________
(1) سنن الترمذي الفتن (2167) .
(2) رواه النسائي عن ابن عباس.
(3) صحيح البخاري الديات (6878) ، صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1676) ، سنن الترمذي الديات (1402) ، سنن النسائي تحريم الدم (4016) ، سنن أبو داود الحدود (4352) ، سنن ابن ماجه الحدود (2534) ، مسند أحمد بن حنبل (1/465) ، سنن الدارمي الحدود (2298) .(29/165)
الحكمة:
- ويبرز من حكمة العقوبات المفروضة في الإسلام قوة هذا الدين في إسناد السلطة؛ لإيقاع الجزاء الوفاق على كل عمل ينافي سلامة وحوزة الإسلام، مهما كان نوع هذا التعدي؛ إذ لكل ما يسيء للمجتمع أو يضر بالفرد ما يلائمه من الزواجر؛ لكي يشعر المجتمع الإسلامي بقوة السلطة التي جعلها الله لولي الأمر، في ملاحقة المجرمين، واستئصال شأفة المفسدين، بما يشفي الصدور، ويؤمن الخائف، ويردع من لا وازع له، وبهذا يسعد المجتمع بالأمن، ويحيا الأفراد بالقصاص، وبدون ذلك يتحول المجتمع إلى الفوضى، ثم يلي ذلك طغيان القوي على الضعيف، وانتهاك الأعراض، وتنظيم عصابات البغي والعدوان. ومن أصدق من الله حكما، فالله الرءوف الرحيم بعباده، هو جل وعلا أعلم بما يصلح أحوالهم، وأدرى بما تستقيم به حياتهم، وبما ترتدع به نفوسهم.
وإذا كانت أكثر العقوبات جاءت من تجاوز الناس بعضهم على بعض، أو من ظلم الإنسان لنفسه، بالاستهانة بالحرمات، فإن في الكفارات عن كثير من الذنوب والمعاصي كالظهار، ومواقعة الزوجة في نهار رمضان، والنذر والقتل الخطأ، وغير ذلك مما أبانه كتاب الله جل وعلا، أو شرحته سنة(29/165)
رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلا آخر على صيانة حرمات التشريع، وإذاقة النفس ألم التراخي، وتسليم القيادة للشهوات والرغبات.
وما حرص المسلم على السؤال عن هذه الكفارات، إلا رغبة في إبراء الذمة، والحرص على التوبة مما اقترفت النفس، وتنمية القوة الإيمانية بالامتثال، وتوعية الآخرين بحسن الاستجابة والقناعة.
والبشر طباعهم تختلف، وشعورهم يتباين، ونظرتهم للحدود والزواجر تختلف أيضا بحسن فهمهم ووقوفهم عند النص الشرعي بحسب قوة الإيمان، وسلامة النية.
فقد تقام الزواجر والحدود، ولا يرعى القلب، ولا يرتدع الفاعل عن تكرار أعماله؛ ولذا جاء الحكم بتشديد العقوبة، أو استئصال الشأفة؛ لأن حماية المجتمعات أمكن من وقاية الأفراد.
ولن تبقى للإسلام مهابة، ولمجتمعه أمن، إلا بالصدور عن حكم الله في ملاحقة المجرمين، وردعهم بسلطة التشريع، وقوة حكم الله، حيث يتميز المجتمع الإسلامي في كل عصر مصر بالمكانة الأمنية المرموقة، كلما حرص ولاة الأمر على الاهتمام بشرع الله، وتطبيق حدوده.
أما عندما يأتي التراخي في ذلك، ووصف أحكام الله بالشدة والقوة، فإن المجتمع سيجني ثمار ذلك قلقا اجتماعيا، وجريمة منظمة، وخوفا مستمرا على النفس والمال والولد، كما يلمس هذا في المجتمعات التي لم ترض بحكم الله، ولم تحرص على حدوده.
إن المجرم مع جرأته جبان إذا أدرك ما ينتظره من جزاء عادل، ولكنه شرير مخيف إذا عرف أنه لن يمس بأذى، أو أنه سيمكث في السجن أو الإصلاحية فترة وجيزة، يثبت فيها حسن سيرته، وتأدبه مع نظرائه في السجن، ليخرج بعد ذلك بأسلوب جديد، وعمل منظم، مما يجعل رواد السجون في نظر رجال البوليس في بعض الجهات أناسا ثابتين، وإذا(29/166)
كان الإمام مالك بن أنس رحمه الله قد قال: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها. فأولها صلح بالإسلام، وآخرها لا يصلحه إلا الإسلام؛ ولذا فإن أهل الحل والعقد من المسلمين عليهم دور مهم في المحافظة على شرائع الله، وبالذات في الجنايات والحدود، وترسيخ العقيدة في القلوب، حيث يضمن للمجتمع الاطمئنان، ورخاء العيش، وإلا حل بالمسلمين ما وقع بغيرهم من الخوف والقلق، والفزع والتعدي، وتفشي أمراض لم تعرف فيمن قبلهم، وذلك بما كسبت أيدي الناس، مع أن ما يعفو الله عنه كثير، وكثير جدا.
والله الموفق.(29/167)
صفحة فارغة(29/168)
حتمية تطبيق شرع الله
في الأرض
إعداد الدكتور صالح بن غانم السدلان (1)
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالرياض
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الحمد لله الذي اختار لنا الإسلام شرعة ومنهاجا، وأنزل الفرقان هدى ورحمة وتفصيلا؛ فأمر سبحانه فيه ونهى، ودعا فيه إلى الحق واجتناب الهوى، فقال جل وعلا: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (2) .
وأشهد أن لا إله إلا الله واحد في ربوبيته، وألوهيته وأسمائه وصفاته وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه، وأمينه على وحيه القائل: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به (3) » .
__________
(1) انظر التعريف بالكاتب في آخر البحث
(2) سورة المائدة الآية 49
(3) أخرجه الخطيب في تاريخه (4\491) ، والبغوي في شرح السنة (ح\104) ، والحسن بن سفيان كما في فتح الباري، وقال ابن حجر: رجاله ثقات، وقد صححه النووي في آخر الأربعين. انظر: فتح الباري (13\289) .(29/169)
اللهم صل وسلم على من بعثته رحمة للعالمين ورسولا إلى الناس أجمعين وحجة على المخالفين والمعاندين وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين: أما بعد.
فيسعدني جدا أن ألتقي بك أيها القارئ الكريم في هذه الأسطر وذلك لنبحث معا أمرا يهم الجميع، وخاصة من ولاهم الله أمر المسلمين وهو " حتمية تطبيق شرع الله في الأرض " في كل أمور الحياة صغيرها وكبيرها، ما يتعلق منها بالأفراد وما يتعلق بالجماعات وكذلك علاقة الفرد بالحاكم، وعلاقة الحاكم بالمحكومين وعلاقة المحكومين بعضهم ببعض، فما دمنا قد آمنا بالإسلام دينا وعقيدة، فلا بد أن نرضى به حكما وتشريعا ومنهجا في كل جوانب الحياة، ولا نرضى به بديلا أو عنه تحويلا، وإلا كان هذا تناقضا منا وتجاهلا لما هو واجب علينا، وانحرافا عن جادة الحق والصواب؛ لأن أوامر الله ونواهيه تنتظم حياة الفرد في جانبها الخاص، وأسرته ومجتمعه وأمته ودولته، فاقتضى التوحيد الكامل احترام هذه الأوامر وإقامتها في ظل هذه الجوانب جميعا أي في نفس الإنسان وأسرته ومجتمعه وأمته ودولته، وفي كل الأصعدة وعلى جميع المستويات، الصعيد السياسي والثقافي والاجتماعي والدولي والاقتصادي وفي كل شأن من شئون المسلمين، ولا يمكن الاستجابة لذلك إلا بأمور أهمها:(29/170)
أولا: الإيمان بالله تعالى:
إن الإيمان بالله هو المحرك الأساسي والعنصر الفعال في امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، ومن ثم الاستجابة لتحكيم شرعه. ويعني الإيمان به الإيمان بأنه الرب الخالق الحكيم المدبر لهذا الكون كله. قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (1)
__________
(1) سورة الأعراف الآية 54(29/170)
فلزام على البشر- كل البشر- أن يعلموا أن الله عز وجل خالق الخلق ومدبر شئونهم، وهو وحده أعلم بما يصلحهم وما يصلح لهم؛ فتجب طاعته ويتحتم التزام أمره والوقوف عند حدوده، ويجب التحرر المطلق من كل عبودية للأوهام والأشخاص والنظم والأساطير والبدع والخرافات، والخروج عن دواعي النفس والهوى، والدخول بالكلية تحت سلطان الله رب العالمين.
والإيمان بالله تعالى لا يتم إلا باستلام الكيان الإنساني كله قلبا وعقلا وسلوكا لحكم الله وهيمنته على خلقه. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) .
إن الإيمان بالله عقيدة يختزنها الجنان وكلمة يرددها اللسان وعمل يصطبغ به السلوك الإنساني كله باتباع مرضاة الله عز وجل والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه.
إن الإيمان بالله قوة عاصمة من الدنايا دافعة إلى المكرمات، ومن ثم فإن الله تعالى عندما يدعو عباده إلى خير أو ينفرهم من شر، يجعل ذلك مقتضى الإيمان المستقر في قلوبهم، وما أكثر ما ينادي الله عباده بوصف الإيمان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} (3) ثم يذكر بعد ما يكلفهم به: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (4) الآية (5) إن لكل شيء علامة تدل عليه ويعرف بها، ومن علامات الإيمان الصادق: أن يكون الله ورسوله أحب إلى الإنسان من كل شيء، وأن يظهر ذلك في جميع تصرفاته فيصاحبه طاعة الله وطاعة رسوله وعمل بشرع الله الذي يحمله الرسول والاستجابة التامة لأوامره ونواهيه قال تعالى:
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الأنفال الآية 24
(4) سورة الأنفال الآية 24
(5) انظر: خلق المسلم للغزالي- ص 9-ط التاسعة 1394هـ الدوحة - قطر.(29/171)
{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (2) .
إذن فليس الإيمان مجرد المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد، والتزام طاعة الله، ودينه ظاهرا وباطنا.
وليس حب الله دعوى باللسان ولا هياما بالوجدان إلا أن يصاحبه الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسير على طريقته والعمل بسننه. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (4) .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: (هذه الآية الكريمة حاكمة على من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (5) » .
قال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية فقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (6) ثم قال تعالى آمرا لكل أحد من خاص وعام {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} (7) الآية، أي تخالفوا عن أمره فإن الله لا يحب الكافرين فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر والله لا يحب من اتصف
__________
(1) سورة النور الآية 51
(2) سورة النور الآية 52
(3) سورة آل عمران الآية 31
(4) سورة آل عمران الآية 32
(5) صحيح مسلم ج3 \ 1344 حديث رقم 1718- كتاب 30 باب 8.
(6) سورة آل عمران الآية 31
(7) سورة آل عمران الآية 32(29/172)
بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويقترب إليه حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه.
ويقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودا وسننا فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان (1) .
نعم إن الإيمان الحق عقيدة ثابتة تنسب الخلق والأمر جميعا إلى الله وحده، وعلم موحد يتسع لأبعاد الوجود غيبه ومشهوده، ولأوامر الله في الطبيعة والشريعة ولمراحب الحياة أولاها وأخراها، وموقف في الحياة لا يختلف يتخذ لقاءه تعالى غاية مجردة، وعبادته وسيلة مخلصة ويجعل هديه المنزل صراطا إليه مستقيما (2) .
إن الإيمان معنى يتخلل كل وجود المؤمن وينبغي أن يتمثل في كل لحظة ولمحة من حياته، فالعقائد مرتبطة بالأعمال، والأعمال مرتبطة بالمشاعر والنيات وليس مؤمنا من اعتقد أن التكاليف والعبادات والأوامر والنواهي ليس مطلوبا منه أن يعمل بها، وإنما يكفي التصديق بها فحسب. وليس مؤمنا من فرق بين الصوم والصلاة والجهاد وسائر العبادات في لزومها وفرضيتها، أو جحد لزوم حد من الحدود، وشأن من اعتقد ذلك شأن من كفر بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا. قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (3)
__________
(1) صحيح البخاري ج 1 \ 8 كتاب الإيمان باب (1) .
(2) الإيمان - أثره في حياة الإنسان- د. حسن الترابي ص 279 ط الأولى 1394 هـ دار القلم بالكويت.
(3) سورة البقرة الآية 177(29/173)
وبعد: فكل من انحرف عن هذا الخط المستقيم وانخرط في سلك شهواته ونزواته، فقد انحرف عن طريق الجادة وانصاع لأهوائه وأمانيه واستوحى منهما ضوابط سلوكه في حياته، وعندها سيسقط في مهاوي الهلكة تمزقه الأهواء وتورثه الشهوات الحيرة والفزع والخلل والاضطراب، ويضل سعيه في الحياة الدنيا ويحشر يوم القيامة أعمى، وبهذا يكون قد ظلم نفسه، ولم يجن في الحياتين إلا الذل والشقاء والضياع والهوان. نسأل الله تعالى أن يرزقنا إيمانا صادقا وأن يلهمنا عملا صالحا متقبلا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(29/174)
ثانيا: الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين:
لقد من الله على عباده ورحمهم بإرسال رسله إليهم، حتى يكونوا على بينة من أمرهم، وحتى لا يقولوا ما ندري ما أراده الله منا، وما جاءنا من بشير ولا نذير فقطع الله المعذرة وأقام الحجة بإرسال الرسل وإنزال الكتب؛ لبيان حكم الله تعالى فيما اختلف فيه خلق الله، وإيضاح شرعه فيما جهلوه، وأمرهم بالتزام حكمه تعالى والوقوف عند حدوده والبعد عما يضرهم في العاجل والآجل. قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (1) .
واختار الله عز وجل رسله من بين خلفه؛ ليكونوا نموذجا للكمال وعنوانا للفضل وحملة لمشعل النور والضياء، وقادة لركب الحضارة الإنسانية على
__________
(1) سورة النساء الآية 165(29/174)
مدى الأزمان والدهور واصطفاهم المولى- جلت حكمته- ليكونوا دعاة الحق وهداة الخلق، فاختارهم من بين خلقه وصنعهم على عينه وشرفهم بأكمل الأوصاف، فجعلهم أئمة الدنيا والدين ورزقهم قوة العقل واليقين؛ ليكونوا وسطاء بينه وبين خلقه في تبليغ أوامره والتحذير من غضبه وعقابه، والإرشاد إلى ما فيه سعادة البشر في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (1) .
وكان ختام المسك محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه أفضلهم وإمامهم وخاتمهم، آمن بما آمنوا به، ودعا إلى ما دعوا إليه. قال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (2) فكان صلوات ربي وسلامه عليه أعلى ما يكون هداية وإرشادا، وكان ما جاء به أسمى ما يكون تشريعا وتبصيرا، ختم الله به الرسالة وأتم به النعمة وجعله للعالمين بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} (3) {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} (4) وجعل دينه دين القوة والرحمة، ودين الحياة، ودين الكفاح والجهاد ودين التمكين والعزة والنظافة والطهارة والإخاء والمساواة والهناء والرخاء قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (5) قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية:. . . فهذه الآية
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 73
(2) سورة الأحقاف الآية 9
(3) سورة الأحزاب الآية 45
(4) سورة الأحزاب الآية 46
(5) سورة الأحزاب الآية 40(29/175)
نص في أنه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده، فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة فكل رسول نبي ولا ينعكس، وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم اهـ (1) أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال فوا ببيعة الأول فالأول أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم (2) » وأخرج الحاكم في مستدركه عن العرباض بن سارية قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني عند الله في أول الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بتأويل ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام (3) » .
وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (4) » ففي هذا الحديث وما سبقه إشارة إلى فضل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر النبيين وأن الله ختم به المرسلين وأكمل به شرائع الدين وأن حملة
__________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 3 \ 493.
(2) صحيح البخاري ج 4 \ 143 باب 50 كتاب 60.
(3) المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ج2 \ 600.
(4) صحيح البخاري ج 4 \ 162، 163 كتاب 61 باب 18.(29/176)
الشرائع السماوية بناة بيت واحد يؤسس سابقهم للاحقهم ويشيد لاحقهم على أساس سابقهم يصور ذلك: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا. فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (1) » وهكذا كان صلوات الله وسلامه عليه برسالة الإسلام اللبنة المتممة لهذا البناء الشامخ، وكانت رسالته آخر لبنة وضعت فيه، واحتاج إليها هذا البناء الشامخ من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فلا بد في الإيمان من أن تؤمن أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لا نبي بعده. وأن الله أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، فكل من لم يؤمن بما جاء به فليس بمؤمن، فضلا عن أن يكون من أولياء الله المتقين ومن آمن ببعض ما جاء به وكفر ببعض فهو كافر ليس بمؤمن. كما قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} (2) {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (3) {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (4) ومن الإيمان به الإيمان بأنه الواسطة بين الله وخلقه في تبليغ أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحلاله وحرامه، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقا إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو كافر من أولياء الشيطان (5) وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (6) الآية
__________
(1) صحيح البخاري المناقب (3535) ، صحيح مسلم الفضائل (2286) ، مسند أحمد بن حنبل (2/312) .
(2) سورة النساء الآية 150
(3) سورة النساء الآية 151
(4) سورة النساء الآية 152
(5) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ج 11 \ 170.
(6) سورة الحشر الآية 7(29/177)
وغير ذلك من الآيات الدالة على وجوب طاعة الرسول مقترنة بطاعة رب العزة والجلال في أكثر من أربعين موضعا من القرآن الكريم.
إذن فماذا يجب علينا نحن المسلمين نحو من أرسله ربه رحمة للعالمين؟ يجدر بنا ونحن في هذا المقام أن ننقل ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ترغيبا في اتباع الرسول وتحذيرا من مخالفته وعصيان أمره قال رحمه الله تعالى: أما بعد: فإنه لا سعادة للعباد، ولا نجاة في المعاد إلا باتباع رسوله. قال تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (1) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (2) .
فطاعة الله ورسوله قطب السعادة الذي عليه تدور، ومستقر النجاة الذي عنه لا تحور. وقد ذكر الله طاعة الرسول واتباعه في نحو أربعين موضعا من القرآن الكريم - كقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3) وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (4) محبة العبد لربه موجبة لاتباع الرسول وجعل متابعة الرسول سببا لمحبة الله.
فجعل عبده. . فبمحمد صلى الله عليه وسلم تبين الكفر من الإيمان والربح من الخسران والهدى من الضلال والنجاة من الوبال والغي من الرشاد والزيغ من السداد، وأهل الجنة من أهل النار، والمتقون من الفجار وإيثار سبيل من أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من سبيل المغضوب عليهم والضالين، فالنفوس أحوج إلى معرفة ما جاء به واتباعه منها إلى الطعام والشراب، فإن هذا إذا فات حصل الموت في الدنيا، وذاك إذا فات حصل العذاب في الآخرة فحق على كل أحد بذل جهده واستطاعته في
__________
(1) سورة النساء الآية 13
(2) سورة النساء الآية 14
(3) سورة النساء الآية 80
(4) سورة آل عمران الآية 31(29/178)
معرفة ما جاء به وطاعته إذ هذا هو طريق النجاة من العذاب الأليم والسعادة في دار النعيم (1) نعم: إن من الأسس التي يقوم عليها التحاكم إلى شرع الله في الأرض أن يبذل المسلم وسعه في معرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم والعمل به وتقديمه على غيره ورد كل ما سواه. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد (2) وقال ابن عبد البر وابن تيمية رحمهما الله تعالى: لا قول لأحد مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالأخذ والعمل بها، وهذا شأن كل مسلم ومن هنا تتبين مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدين ومنزلته بين المرسلين، وعظم ما جاء به عن رب العالمين، فطاعته والانقياد لما جاء به حتم على جميع العالمين بل على الثقلين الجن والإنس أجمعين.
والمسلم حقا هو الذي يقتفي أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتمثل أمره ويتجنب نهيه ويهتدي بسنته. {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ} (3) إذا تقرر هذا فإن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس قصة تتلى في يوم ميلاده كما يفعل الناس اليوم إلا من رحم الله، وليس التنويه به يكون في
__________
(1) انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ج 1 ص 4، 260.
(2) هدية السلطان إلى مسلمي بلاد جابان ص 20.
(3) سورة آل عمران الآية 101(29/179)
الصلوات المخترعة التي تضم إلى ألفاظ الأذان في كثير من بقاع الأرض، ولا إكنان حبه يكون بتأليف مدائح وقصائد يتلوها العاشقون ويتأوهون ويتوجعون، وهم عن شرعه واتباع أمره ناكبون!! كلا كلا: إن رباط المسلم برسوله صلى الله عليه وسلم أقوى وأعمق من هذه الروابط المكذوبة الملفقة على الدين، وأنه رباط ينهض المرء فيه إلى تقويم نفسه وإصلاح شأنه، حتى يكون على هدى من سنة محمد صلى الله عليه وسلم في معاشه ومعاده وحربه وسلمه وعلمه وعمله وعاداته وعباداته (1)
__________
(1) انظر فقه السيرة للغزالي ص 5 مطابع علي بن علي على الدوحة \ قطر(29/180)
ثالثا: الإيمان بعموم الشريعة الإسلامية وشمولها وصلاحيتها لكل زمان ومكان
إن التشريع الإسلامي تشريع مثالي محكم وعام وخالد أتى بالمبادئ التشريعية والخلقية، التي تسمو بالإنسان إلى أعلى درجات الكمال، جاء من عند الله لكل أجناس البشر جنهم وإنسهم، لا يختص بقوم دون قوم أو جيل دون جيل، موجه إلى الناس كافة، باعتبار إنسانيتهم التي ميزهم الله بها عن سائر الحيوان، يحقق مصالحهم في كل عصر ومصر، ويفي بحاجتهم ولا يضيق بها ولا يتخلف عن أي مستوى عال يبلغه أي مجتمع من المجتمعات، ومع عمومية التشريع الإسلامي، فإنه شامل كذلك لكل جوانب الحياة ومناحي الاجتماع، لم يترك شاردة ولا واردة إلا ذكر فيها خبرا أو شملها حكما، أو أدرجها تحت أصل أو قاعدة، فالشريعة الإسلامية منذ نشأتها الأولى كذلك رسالة العالمين، طبيعتها عالمية شاملة، ووسائلها وسائل إنسانية كاملة، وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إلى عهد، ومن نهج إلى نهج عن طريق مصدرين أساسين هما: القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.(29/180)
وقد تضافرت النصوص على تأكيد عمومها وشمولها، فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على ذلك كثيرة ومنها. قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) نعم: لقد وسعت الشريعة الإسلامية بمبادئها وأحكامها الفرعية جميع شئون الحياة، واستوعبت حاجات الإنسان كافة، ووفقت بين مقاصده جميعا، وبينت تحديد الغاية من خلقه قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (2) وقال تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} (3) {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} (4) وتناولت بيان وظيفته في الحياة ومركزه في هذا الكون الفسيح قال تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (5) وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (6) ونظمت علاقة الإنسان بربه وصلته بإخوانه والمجتمع الذي يعيش فيه، وحددت الحقوق والواجبات، ووضعت أصولا لفض المنازعات وإيصال كل ذي حق حقه، وأرست قواعد العدل بين الناس في كل جانب من جوانب حياتهم ونشاطاتهم وأعمالهم، فهي عامة في جميع المكلفين، وجارية على مختلف أحوالهم، وإليها يرد كل أمر جاءنا ظاهرا أو باطنا، ولا نبالغ إذا قلنا: إن الشريعة الإسلامية تعد منهج حياة كلي، جمع بين الدنيا والدين والعمل والعبادة، وبين الظاهر والباطن، فضمن بذلك للإنسان خيري الدنيا والآخرة.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة الذاريات الآية 56
(3) سورة الزمر الآية 11
(4) سورة الزمر الآية 12
(5) سورة هود الآية 61
(6) سورة الملك الآية 15(29/181)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن رسالة محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - لجميع الناس: عربهم وعجمهم، وملوكهم وزهادهم وعلمائهم وعامتهم، وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، بل عامة للثقلين الجن والإنس، وأنه ليس لأحد من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته، وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين. وما سنه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات، بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته ومطاوعته (1) .
إن القرآن الكريم يحكي رسالات الأنبياء السابقين بعنوان القومية الخاصة قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرهُ} (2) وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُُهُ} (3) وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرهُ} (4) وقال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} (5) وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرهُ} (6) وقال تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} (7) ويقول تعالى في عيسى: {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (8)
__________
(1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 11 \ 422، 423.
(2) سورة الأعراف الآية 59
(3) سورة الأعراف الآية 65
(4) سورة الأعراف الآية 73
(5) سورة الأعراف الآية 80
(6) سورة الأعراف الآية 85
(7) سورة الأعراف الآية 103
(8) سورة آل عمران الآية 49(29/182)
ولكن رسولنا محمدا صلى الله عليه وسلم يعلن عالمية دعوته ونبوته للعالمين وختمه للنبيين. قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (1) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2) .
ففي ذلك دليل على إثبات عالمية هذه الرسالة منذ أيامها الأولى لا كما يدعي بعض المؤرخين - غير المسلمين - أن الدعوة الإسلامية نشأت محلية.
ثم طمحت بعد اتساع رقعة الفتوحات الإسلامية أن تكون عالمية، كلا إنها عالمية منذ نشأتها الأولى، رسالة عامة موجهة إلى جميع الناس، مهما اختلفت ألسنتهم وألوانهم وأجناسهم في كل زمان وفي كل مكان، ابتداء من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ويقوم الناس لرب العالمين. قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (3) .
ومن الأحاديث الدالة على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم:
ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (4) » .
وما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا
__________
(1) سورة الفرقان الآية 1
(2) سورة الأنبياء الآية 107
(3) سورة سبأ الآية 28
(4) صحيح البخاري، كتاب التيمم باب 1 ج 1 \ 86(29/183)
رسول بعدي ولا نبي (1) » . . . الحديث (2) .
وروى مسلم في صحيحه: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون (3) » .
ولمسلم أيضا عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم (4) » . . . الحديث (5) .
ولأحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود وكان النبي إنما يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (6) » الحديث (7) ولأحمد أيضا عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا: بعثت إلى الأحمر والأسود (8) » . . . الحديث.
وغير ذلك من الأحاديث الدالة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وبعد: فإن شرع الله الذي حواه كتابه وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم هديا جامعا، يفصل كل قضية ويبين كل شيء. قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (9) .
__________
(1) صحيح البخاري التعبير (6983) ، صحيح مسلم الرؤيا (2264) ، سنن الترمذي كتاب الرؤيا (2272) ، سنن ابن ماجه تعبير الرؤيا (3893) .
(2) مسند الإمام أحمد ج 3 \ 267.
(3) صحيح مسلم ج 1 \ 371، كتاب المساجد ومواضع الصلاة حديث رقم 523.
(4) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .
(5) صحيح مسلم ج 1 \ 370، حديث 521 كتاب المساجد.
(6) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .
(7) مسند الإمام أحمد ج 3 \ 3046.
(8) مسند أحمد بن حنبل (4/416) .
(9) سورة النحل الآية 89(29/184)
ويحقق العدل المطلق في حياة البشر: قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (1) .
ويشمل الوجود كله والحياة بعقيدة كلية تنبثق عنها مبادئ الشريعة وأحكامها الفرعية فتعم الحياة بمنطق عملي واحد.
__________
(1) سورة المائدة الآية 50(29/185)
رابعا: الإيمان بكمال الشريعة الإسلامية ومرونتها وصلاحها للخلود إلى يوم القيامة
إن شريعة الله تعالى تمثل منهجا متكاملا شاملا لشعب الحياة الإنسانية كلها في العقيدة والعبادة والسياسة والسلوك وحتى أمور الغيب ومشاهد القيامة وأحوالها والتطبيق العملي لأحكامها، والالتزام بما جاءت به، والوقوف على حدودها وامتثال أوامرها واجتناب نواهيها، هو المحرك لعوامل النصر والثبات والسعادة والاستقرار.
وأحكام الشريعة نظم متكامل متسق، لا يعتوره التخليط أو التناقض، بل يشتمل على مصالح كلية في الجملة، وعلى مصلحة جزئية في كل مسألة على وجه الخصوص، ولا مكان لعنصر ناشز غريب فيه من ابتداع أهواء البشر، بل خطة ثابتة أبدا يعتنقها المرء على وجه القطع لا التجريب، ويتخذها منهجا دائما لا تدبيرا موقوتا لبعض مراحل حياته أو ظروفها.
أما المصالح الكلية فهي أن يكون كل مكلف تحت قاعدة معينة من تكاليف الشرع في جميع حركاته وأقواله واعتقاداته؛ إذ ليس الإنسان كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها، بل هو مكلف يرتاض بلجام الشرع، فإذا سار المكلف تبعا لهواه فقد خلع ربقة التقوى من عنقه، وتمادى في متابعة هواه، ونقض ما أبرمه الشارع وأخر ما قدمه وقدم ما أخره، وأما المصلحة الجزئية فما يعرب عنها كل دليل لحكم في خاصته.
وقد توافرت نصوص كثيرة من القرآن والسنة؛ لتدل على وحدة الشريعة ووحدة العقيدة، وأنها السبيل القاصد إلى رب العالمين، وكل سبيل غيره(29/185)
جائر. قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1) .
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2) بتمام النصر، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، والأصول والفروع؛ ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية في أحكام الدين وأصوله وفروعه، فكل متكلف يزعم أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم، غير علم الكتاب والسنة من علم الكلام وغيره، فهو جاهل مبطل في دعواه، قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه (3) .
وقال جلت حكمته: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (4) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} (5) قال: إن القرآن الكريم قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله، وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بيانا وتفصيلا، وبين الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعث بها الرسل كلهم. . . ومن تأمل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين والعلوم الإلهية وأمور
__________
(1) سورة المائدة الآية 3
(2) سورة المائدة الآية 3
(3) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للشيخ عبد الرحمن السعدي ج 2 \ 242 ط الدجوي بالقاهرة.
(4) سورة المائدة الآية 48
(5) سورة المائدة الآية 48(29/186)
المعاد، والنبوات، والأخلاق والسياسات والعبادات، وسائر ما فيه كمال النفوس وصلاحها وسعادتها ونجاتها، لم يجد عند الأولين والآخرين من أهل النبوات، ومن أهل الرأي كالمتفلسفة وغيرهم إلا بعض ما جاء به القرآن. . .؛ ولهذا لم تحتج الأمة مع رسولها وكتابها إلى نبي آخر وكتاب آخر فضلا عن أن تحتاج إلى شيء لا يستقل بنفسه غيره (1) .
نعم إن القرآن الكريم الذي أنزله الله على نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام هو منبع الخير كله، ومطلع الهداية التي أشرق نورها على قلوب الناس، فبدد منها الظلمات وأستأصل منها الضلالات، فمن تمسك به فقد استمسك بالعروة الوثقى، التي لا انفصام لها، فهو كلام الله رب العالمين. {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} (2) .
فما أحوج من لم يحكم بما أنزل الله اليوم إلى عودة حميدة إلى القرآن من جديد وبناء هيكل حياته على أسس أصيلة متينة من تعاليمه، سواء ما يتصل منها بالعقيدة أو العبادات أو الأخلاق أو المعاملات أو السياسة والاقتصاد، أو الأدب أو الثقافة، أو الاجتماع، فالقرآن الذي أنزله الله؛ ليسطع على العالم ما بقي الدهر، وليقود الإنسانية إلى الرشد، لا يضيق بأي شيء من أطوار الزمن، ولا بأية مشكلة تفرزها الحياة، وصدق الله العظيم إذ يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (3) الآية.
وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (4) .
فهذه الآية خوطب بها جميع العالم؛ لبيان أن القرآن الكريم من عند الله، وأنه موعظة للعالمين، وشفاء للمؤمنين، وأنه اشتمل على ما لهم، وما عليهم
__________
(1) انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 17 \ 44، 45.
(2) سورة فصلت الآية 42
(3) سورة الأنعام الآية 38
(4) سورة يونس الآية 57(29/187)
وأنه من عند الله تعالى لم يختلقه محمد صلى الله عليه وسلم ولا غيره، بل هو من عند الله عز وجل، فيه دواء لما في الصدور من العقائد الفاسدة والشكوك الواهية.
قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى:
فلرسالته صلى الله عليه وسلم عمومان محفوظان، لا يتطرق إليهما تخصيص: عموم بالنسبة إلى المرسل إليهم، وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه من بعث إليه في أصول الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة، لا تحوج إلى سواها، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولا يخرج فرع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به.
وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علما، وعلمهم كل شيء حتى آداب التخلي وآداب الجماع والنوم والقيام والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول والسفر والإقامة والصمت والكلام والعزلة والخلطة، والغنى والفقر والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسي، والملائكة والجن والجنة والنار ويوم القيامة وما فيه، حتى كأنه رأي عين، وعرفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف، حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله، ونعوت جلاله، وعرفهم الأنبياء وأممهم وما جرى إليهم، وما جرى عليهم معهم، حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها، ما لم يعرفه نبي لأمته قبله. . . وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من أمور معايشهم ما لو علموه وعملوه؛ لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة، وبالجملة فقد جاءهم بخير الدنيا والآخرة برمته ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه.
فكيف يظن أن(29/188)
شريعته الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها - ناقصة تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها، أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها؟ ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده، وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك وقلة نصيبه من الفهم، الذي وفق الله له أصحاب نبيه، الذين اكتفوا بما جاء به، واستغنوا به عما سواه، وفتحوا به القلوب والبلاد، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا وهو عهدنا إليكم. . . وقد قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (1) .
إن القرآن الكريم الذي تعبدنا الله بتلاوته وأمرنا باتباعه ولزوم أحكامه تناول في نحو خمسمائة آية جملة القواعد والأصول التشريعية وبعض الأحكام العقدية والخلقية والعملية وعكف العلماء على تفصيل آياته هذه وقسموها باعتبار موضوعها إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول: العبادات وتشمل نحوا من أربعين ومائة آية:
القسم الثاني: المعاملات: وتتفرع إلى سبعة أقسام:
القسم الأول: يمكن إدراجه في الفقه العام وهو:
1 - الأحكام الدستورية الضابطة لنظام الحكم وأصوله، المحددة للعلاقة بين الحاكمين والمحكومين، والمقررة لحقوق الأفراد والجماعة وهي عشر آيات تقريبا.
2 - الأحكام الدولية المنظمة للعلاقة بين الدولة الإسلامية، وبين غيرها من الدول في حالتي السلم والحرب، وهي خمس عشرة آية تقريبا.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 51(29/189)
القسم الثاني:
النظم الاقتصادية التي شرعها الإسلام أو ما يتصل بها مما يسمى عند الفقهاء بالمعاملات وهي:
1 - الأحكام الاقتصادية والمالية القائمة على تنظيم العلاقة المالية من موارد وطرق إنفاق وغيرها وهي نحو عشر آيات تقريبا.
2 - الأحكام المتعلقة بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع وإجارة ورهن وكفالة وشركة ومداينة وغير ذلك وهي نحو من سبعين آية.
القسم الثالث:
الحدود والقصاص: وهي الأحكام الجنائية المتعلقة بما يصدر عن المكلفين من جنايات وجرائم، وما يترتب على ذلك من عقوبات تحفظ على الناس أنفسهم وأعراضهم وحقوقهم، وهي نحو من ثلاثين آية تقريبا.
القسم الرابع:
نظام الأسرة وما يتصل بوضع الأفراد فيها: كالأحوال الشخصية المتناولة للزواج والطلاق والإرث والوصية والحجر وغير ذلك مما يتصل بأحكام الأسرة، ويشمل هذا القسم نحوا من سبعين آية تقريبا.
القسم الخامس:
الأحكام الشرعية المتصلة بالقضاء والشهادة واليمين وغير ذلك من الإجراءات الشرعية والترتيبات التي تمكن كل ذي حق من حقه ويشمل القسم نحوا من ثلاث عشرة آية.
القسم السادس:
الآيات الدالة على التيسير ورفع الحرج عن المكلفين وهي كثيرة كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (1) وكقوله تعالى:
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(29/190)
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (1) وكقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (2) .
القسم السابع:
القواعد العامة الكلية والأصول الثابتة الشرعية ومنها:
1 -الآيات الواردة بشأن التصرفات المالية كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (3) وكقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (4) .
2 -الآيات المتعلقة بلزوم العدل وتقوى الله عند رد العدوان مثل قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} (5) .
3 -الآيات المحددة للمسئولية وما ينتج عنها من جزاء كقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (6) وغيرها من الآيات الدالة على ذلك.
4 -الآيات المتعلقة بالتكليف بما في الطاقة والوسع مثل قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (7) وغيرها من الآيات الدالة على ذلك.
5 -الآيات الدالة علي الوفاء بالعهد والعدل. كقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (8) وقوله تعالى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (9) .
__________
(1) سورة النساء الآية 28
(2) سورة البقرة الآية 286
(3) سورة النساء الآية 29
(4) سورة النساء الآية 4
(5) سورة البقرة الآية 194
(6) سورة فاطر الآية 18
(7) سورة الطلاق الآية 7
(8) سورة الحج الآية 29
(9) سورة النحل الآية 91(29/191)
6 -الآيات الدالة على رفع الحرج ودفع الأذى ومنها قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (1) وغير ذلك من الآيات الدالة على ذلك وجميع الآيات الواردة فيما سبق جئنا بها على سبيل الاستشهاد لا الحصر.
هذا ومن الأمور المقررة شرعا أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع وعلى هذا لا ينبغي أن يفوتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بين جميع أصول الدين وفروعه وظاهره وباطنه علمه وعمله، وجاءت سنته صلى الله عليه وسلم وافية شافية كافية فيها كل ما يحتاج إليه البشر في دينهم ودنياهم. فقد جاءت إما مؤكدة لأحكام القرآن فيما هو قطعي الدلالة من نصوص لا تقبل التغيير والتبديل والتعميم والتخصيص. مثل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والحج، والنهي عن الشرك بالله وعقوق الوالدين وشهادة الزور وقتل النفس بغير حق، وغير ذلك من النواهي.
وإما: مفسرة ومفصلة كبيان صفة الصلاة، ومقادير الزكاة، وتقييد المطلق كبيان أن الحد في السرقة القطع من الرسغ، وتخصيص العام كمنع الولد القاتل لأبيه من الميراث.
وإما قواعد عامة اعتبرت أساسا تشريعيا وأصلا من أصول الدين اعتمده الفقهاء في ضبط الأحكام وتفريعها عنه وتلك أقوال كثيرة من كلامه صلى الله عليه وسلم منها.
«لا ضرر ولا ضرار (2) » ، و «الولد للفراش (3) » ، و «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (4) » وغير ذلك.
__________
(1) سورة البقرة الآية 173
(2) انظر المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ج 2 \ 57 ط بيروت \ لبنان.
(3) انظر سنن النسائي ج 6 \ 180 حديث رقم 3484 بترتيب عبد الفتاح أبو غدة الطبعة الأولى بيروت لبنان 1406 هـ.
(4) انظر سنن ابن ماجه ج 1 \ 659 حديث رقم 2043 باب 16 كتاب 10 طبع دار إحياء التراث العربي سنة 1395 هـ.(29/192)
ومن السنة ما ليس تفسيرا ولا تأكيدا، وإنما مرجعه إما وحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند البعض، وإما اجتهاد منه صلى الله عليه وسلم عند البعض الآخر؛ كتحريمه صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع، وتحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وجواز خيار الشرط وجواز الرهن وما إلى ذلك مما أساسه القرآن، أو مرجعه تطبيق الأحكام العامة والمبادئ الأساسية لشريعة القرآن، التي ملأت نفسه صلى الله عليه وسلم، وكانت له أصلا يقيس عليه ويعتمده فيما يأمر به أو ينهى عنه، وصدق الله إذ يقول {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (1) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) ، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3) .
ومع الإيمان المطلق بكمال هذا الدين، وفهم هذه الحقيقة بجانب الإيمان بقاعدة الوجود الكبرى وفهمها وهي قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) يتلخص مما سبق أن الإطار العام للشريعة، والدائرة الشاملة للحياة البشرية لا تزيد على ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
جوانب ثابتة متعلقة بحقيقة الإنسان أنى وجد في أي زمان ومكان، تلك الحقيقة التي لا تتغير ولا تتبدل على الإطلاق، وهذه جاءت الشريعة لها بأحكام تفصيلية ثابتة كثباتها، وقد فصلها الله تفصيلا كالشعائر التعبدية من صلاة وصيام وحج وكأحكام الطهارة، وأحكام الأسرة، والمحرمات الرئيسة من زنا وخمر وسرقة وخيانة. . إلخ فهذه فصلت بمقتضى الحكمة والهداية الربانية التي لا يملكها البشر ولو وكل إليهم منها شيء لضلوا وتاهوا.
__________
(1) سورة النجم الآية 3
(2) سورة النجم الآية 4
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) سورة الذاريات الآية 56(29/193)
القسم الثاني:
جوانب ثابتة الجوهر والهدف، لكنها متجددة الصورة متغيرة الأساليب، حسب سنة الله في الكون: مثل نوع الحكم وطريقته ومنهج الحياة الاقتصادية والخطط التعليمية وغيرها، وهذه وضعت لها الشريعة قواعد وضوابط عامة، لا يصح أن تخرج عنها، ولكن تركت تفصيلاتها - رحمة من غير نسيان - إلى اجتهاد الأمة في حدود تلك القواعد وتيك الضوابط الشرعية.
القسم الثالث:
الأمور الدنيوية المحضة وقد اقتضت حكمة الله أن توكل إلى سعي الإنسان وخبرته كي يحقق بنفسه معنى استخلافه في الأرض واستعماره فيها، كالضرب في الأرض وشئون الزراعة والصناعة والعمارة، وكل مظاهر الحياة المادية.
وبما أنه ليس في الحياة البشرية شيء يبقى بعد هذه الأقسام أو يخرج عنها، فلم يعد هنالك ما يبرر أية شبهة حول إسلام الحياة كلها لله خالصة له وحده، مستقيمة على حكمه وشرعه.
وبعد فإن منهج الإسلام كل متكامل يشد بعضه بعضا، ونظم متناسق تتحد معانيه، وتلتقي فيما يحقق سعادة البشرية، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (1) .
وكل زيادة أو إضافة يتكلفها المرء ليست من الشريعة، بل هي بدعة
__________
(1) سورة البقرة الآية 85(29/194)
مردودة. قال صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (1) » فإذا صح عزم المرء وخلصت نيته في التوجه إلى الله، فإن في أحكام الشريعة دليلا له إلى معالم الصراط المستقيم قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (2)
__________
(1) رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها ـ صحيح مسلم ج 3 \ 1343 رقم الحديث 1718، باب8 كتاب 30.
(2) سورة الأنعام الآية 153(29/195)
خامسا: الإيمان بأن الشريعة الإسلامية ناسخة لجميع الشرائع السابقة
إن ثمة حقيقة لا ريب فيها وهي: (إن دين الله واحد، جاءت به الرسل جميعا، وتعاقبت عليه الرسل جميعا، وعهد الله واحد، أخذه على كل رسول من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم. ولكن كما كان دين الأنبياء والمرسلين دينا واحدا، وأمتهم أمة واحدة، كان لكل واحد منهم شرعة ومنهاج. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (1) .
فهذه الحقيقة أعلنها القرآن وهي تدحض شبه المارقين والماديين الذين ينكرون الأديان بسبب اختلافها في جوهرها وأصولها، ويدعون وهم الظالمون بأن كل نبي يأتي من عنده بدين يناقض سابقيه، وهذا ادعاء كاذب مجاف للواقع، ولا يمت إلى حقيقة الأديان بصلة، فالدين واحد في أصوله،
__________
(1) سورة المائدة الآية 48(29/195)
ولكن تختلف الأديان في تشريعاتها لاختلاف أحوال الأمم الاجتماعية ودرجة استعدادها العقلي. لقد كانت الرسالات قبل الرسالة المحمدية رسالات محلية، قومية، محدودة بفترة من الزمان - ما بين عهدي رسولين - وكانت كل رسالة تتضمن تعديلات وتحويرا في الشريعة، يناسب تدرج البشرية، وكانت البشرية تخطو على هدى هذه الرسالات خطوات محدودة، حتى جاءت رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إلى الإنسانية كلها، وختم الله سبحانه بها جميع الرسالات السماوية، وجعلها ناسخة لها، وأتم بها نعمته على العالمين، واختار الأمة المسلمة؛ لتتلقى تراث الرسالة كله، وتقوم على دين الله في الأرض) (1) .
قال تعالى: {وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (2) الآية وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت، ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار (3) » .
وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} (4) {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (5)
__________
(1) انظر الرسل والرسالات لعمر سليمان الأشقر ص 239 ط الثالثة 1405 هـ مكتبة الفلاح بالكويت.
(2) سورة الحج الآية 78
(3) صحيح مسلم ج 1 \ 134 باب 70 حديث رقم 153 مسلسل 240.
(4) سورة آل عمران الآية 81
(5) سورة آل عمران الآية 82(29/196)
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية:
(يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم عليه الصلاة السلام إلى عيسى عليه الصلاة والسلام لما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة، وبلغ أي مبلغ، ثم جاء رسول من بعده - ليؤمنن به ولينصرنه، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته؛ ولهذا قال تعالى وتقدس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} (1) الآية وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما: ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه. وقال طاوس والحسن البصري وقتادة: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا، وهذا لا يضاد ما قاله علي وابن عباس ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه) (2) .
ويروي الإمام أحمد في مسنده بسنده عن عبد الله بن ثابت قال: «جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، قال: فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى - عليه السلام - ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين (3) » .
وللحافظ أبي يعلى: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق، وإنه والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني (4) » .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 81
(2) تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير رحمه الله تعالى ج 1 \ 377، 378.
(3) مسند الإمام أحمد ج 3 ص 471.
(4) مسند أحمد بن حنبل (3/338) .(29/197)
وروى الإمام أحمد رحمه الله بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: الحنيفية السمحة (1) » .
نعم، لقد جمعت الشريعة الخاتمة محاسن الرسالات السابقة، وفاقتها كمالا وجلالا. قال الحسن البصري رضي الله عنه: (أنزل الله مائة وأربعة كتب، أودع علومها أربعة: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان (القرآن) ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان) (2) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
(إن القرآن قرر ما في الكتب المتقدمة من الخبر عن الله وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك بيانا وتفصيلا، وفصل الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعث بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم، ونصره لأهل الكتب المتبعين لها، وبين ما حرف منها وبدل، وما فعله أهل الكتاب في الكتب المتقدمة. وبين أيضا ما كتموه مما أمر الله ببيانه، وكل ما جاءت به النبوات بأحسن الشرائع والمناهج، التي نزل بها القرآن، فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة، فهو شاهد بصدقها وشاهد بكذب ما حرف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله، ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات حاكم في الأمريات، ومن تأمل ما تكلم به الأولون والآخرون في أصول الدين والعلوم الإلهية، وأمور المعاد والنبوات والأخلاق والسياسات والعبادات، وسائر ما فيه كمال النفوس وصلاحها وسعادتها ونجاحها، لم يجد عند الأولين والآخرين من أهل النبوات ومن أهل الرأي كالمتفلسفة وغيرهم إلا بعض ما جاء به القرآن) (3) .
__________
(1) مسند الإمام أحمد ج1 ص 236.
(2) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ج3 \ 336.
(3) انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله ج17 \ 44، 45.(29/198)
نستخلص مما سبق أن الإسلام هو آخر الشرائع الإلهية إلى البشر، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأن شريعة الإسلام ودعوته خالدتان، فليست شريعة الإسلام موقوتة بوقت مستقبل محدود، يقف عنده وجوب تطبيقها لإصلاح الحياة البشرية، بل هي رسالة عامة للبشرية كلها، رسالة خاتمة أنزلت على خاتم الأنبياء والرسل. رسالة تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور، ولا ينالها التغيير {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (1) وقد فصلت هذه الرسالة شريعة تتناول حياة الإنسان من جميع أطرافها، وفي كل جوانب نشاطها تحتوى على كل ما يحتاج إليه، منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان.
وبرهان آخر على نسخ الشريعة الإسلامية للشرائع السابقة، قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (2) {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} (3) الآية.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} (4) الآية.
فأهل الكتاب مأمورون بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبالكتاب الذي أنزل عليه، وألا يسارعوا إلى الكفر به، فيصبحوا أول الكافرين، وكان ينبغي أن يكونوا أول المؤمنين. ولا يحكم عليهم بالكفر إلا إذا كانت الشريعة الإسلامية ناسخة لشرائعهم، وقد أمر الله تعالى بقتالهم حتى يؤمنوا بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى:
__________
(1) سورة الروم الآية 30
(2) سورة البقرة الآية 40
(3) سورة البقرة الآية 41
(4) سورة النساء الآية 47(29/199)
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (1) .
وبعد فتلك ملامح شريعتنا الغراء بوجهها المشرق الوضيء، وآثارها الطيبة في سعادتنا وعزنا ومرضاة ربنا جل وعلا.
فإيمان بالله يتخلل كل وجود المؤمن، ويتغلغل في سويداء قلبه، فيتذوق حلاوته، ولا يرضى به بديلا، وعقيدة راسخة في القلب، يعبر عنها اللسان، وتسري في دم الإنسان المسلم، وتخالط وجدانه وتمتزج بمشاعره، وعمل ينبثق من صدق الإيمان وبواعثه؛ مسارعة إلى الخير وإذعانا لله وانقيادا لشريعته، فيرى الناس فيه الواقع الحي للإيمان ومقتصياته.
وإيمان بأن محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا نبي بعده، قد اصطفاه ربه لإبلاغ آياته وحمل رسالته، وأن أقواله وأفعاله وتقريراته وأخلاقه بل ونواحي حياته كلها تعد ركنا في الدين وشريعة للمؤمنين، والمسلم مكلف بأن يبذل وسعه في معرفة ما جاء به والعمل به، وتقديمه على غيره، ورد كل ما سواه، وإيمان بأن الشرعية الإسلامية هي الرسالة الأخيرة إلى البشر، بل إلى الثقلين جميعا، أراد بها منزلها جل وعلا أن تكون كذلك شريعة عامة خالدة، وشريعة مثالية محكمة، قد أتت بالمبادئ التشريعية والخلقية، التي تسمو بالإنسان إلى أعلى درجات الكمال، وتضمن له إن هو عمل بمقتضاها وسار على منهجها خيري الدنيا والآخرة.
وإيمان بأن الشريعة الإسلامية نظم متكامل متسق، لا يعتوره نقص ولا يشوبه خلل، شامل لشعب الحياة كلها: في العقيدة والعبادة والسياسة والسلوك، وحتى أمور الغيب، ومشاهد القيامة وأحوالها، والتطبيق العملي لأحكامها ومبادئها، والوقوف عند حدودها، والالتزام بما جاءت به هو المحور المحرك لعوامل النصر والثبات والسعادة والاستقرار، وإيمان بأن الشريعة
__________
(1) سورة التوبة الآية 29(29/200)
الإسلامية شريعة خاتمه ناسخة لما قبلها من الشرائع، متضمنة خلاصة الرسالات السابقة، بل وزائدة عليها ما به كمال الإنسانية وسعادتها.
وبعد: فإن الإيمان بهذه الأصول والأسس للدين الإسلامي، يحتم على المسلم العمل بمقتضاها، والسير على نهجها، وألا يكون إيمانه بها مجرد شعار زائف، وادعاء يزيد في قيام الحجة، وثقل المسئولية عليه يوم القيامة، وتعريض نفسه لعذاب الله ونكاله. إلى جانب أن حاجة الناس إلى شرع الله ضرورة حتمية تلزم كل حاكم تنفيذها في محكوميه ومن ولاه الله عليهم.(29/201)
حاجة الناس إلى شرع الله تعالى
إن حاجة الناس إلى تطبيق شرع الله تعالى تفوق حاجتهم إلى ما يقيم صلبهم من طعام وشراب، فكما يعنى الحكام بتوفير الأمن والاستقرار والرفاهية لشعوبهم ودفع الجهل والفقر والمرض عنهم، فلزم عليهم كذلك أن يعنوا بإقامة شرع الله بينهم، وتمكينهم من العمل به، وإلا فسلبية العمل بغير ما أنزل الله ومضارها ستنتهي بهم إلى عواقب وخيمة، تفقدهم الحياة السعيدة التي هي وسيلة إلى السعادة في الآخرة؛ لأنهم سيحيون حياة بؤس وشقاء وفراغ روحي، قال تعالى {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (1) {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} (2) {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (3) إن حاجة الإنسان إلى ما يهذب روحه ويسمو بها تفوق حاجته إلى ما يحفظ جسده من طعام وشراب وملبس ومسكن؛ لأن النفس الإنسانية إذا لم تكن عامرة بالإيمان بالله تعالى وحده خاضعة لشريعته، مزقتها الأهواء والشهوات، وأورثتها الخلل والاضطراب والحيرة والفزع وباتت على شفا جرف هار يوشك أن ينهار بها في مهاوي الهلكة والخسران.
__________
(1) سورة طه الآية 124
(2) سورة طه الآية 125
(3) سورة طه الآية 126(29/201)
إن تطبيق شريعة الله سيحول دون صرف الناس عن التصورات الخاطئة فكرا وسلوكا، تلك التصورات التي يروج لها دعاة الفساد في كل زمان ومكان ويتخذونها وسيلة من وسائل محاربة الإسلام، وأداتهم في ذلك تسخير وتشجيع فئات تدخل في المفاهيم الإسلامية أغاليط وأكاذيب وتلفيقات ومبتدعات ما أنزل الله بها من سلطان، ولم يعرفها الصدر الأول من المسلمين. إن تطبيق الشريعة الإسلامية لا يعد نفلا ولا تطوعا ولا محض اختيار، إنما هو الإيمان أو فلا إيمان قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1) الآية وما نشاهده في مجتمعاتنا المعاصرة اليوم من الويلات المتلاحقة والنكبات المروعة والمشاكل المحزنة والأوضاع المخزية التي لا حصر لها، لا مصدر لها سوى البعد عن الله والصد عن الحكم بما أنزل الله وصدق الله العظيم القائل:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (2) إننا إذ نقرر هذا ونحن نتحدث عن هذا الوضع المزري لكثير من الدول التي تنتسب للإسلام وقلوبنا تعتصر ألما لما يشهده العالم الإسلامي من ضياع وتمزق وتفكك ومحن وإحن، لنا إذن أن نتساءل ما الذي أدى بنا إلى هذا الحد؟ ولماذا آل أمر المسلمين إلى هذا الوضع من التمزق والتناحر والمصائب والكوارث، على الرغم من تلك المؤتمرات التي تعقد والندوات الإسلامية التي تقام إلى جانب البحوث المتخصصة، والتي كلها تنادي بضرورة تحكيم شرع الله في أرض الله، وحمل الناس على العمل به، ولكن تذهب مع الريح أو يزج بها في زوايا النسيان، ولا تخرج عن حيز التوصيات التي لا تعدوها إلى التنفيذ؟ إن لذلك أسبابا عدة:
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) سورة الأعراف الآية 96(29/202)
أولا: ضعف الوازع الديني لدى الكثير من المسلمين والذي بدا ظاهرة فاشية عندما انتشر الجهل بأحكام الإسلام، وانعدمت التربية الدينية في مختلف الأوساط، وتزعزع كيان الأمة الإسلامية، وسيطر الظلم وانتشر الجور، واستبدت بالحاكمين الأهواء، وسيطر عليهم أعداء الإسلام، واستدرجوهم حتى ركنوا إليهم في جانب من أهم جوانب حياتهم، وراحوا يستبدلون بشرع الله القوانين الوضعية، التي هي معول هدم وأداة دمار وشنار على الأمة الإسلامية، فبدل أن يكون الحق وحده ملزما والنظام الخير الكامل الشامل متبعا ومطبقا، تكون العادات السيئة محكمة والأعراف البائدة مملية للتشاريع، وما دامت تتفق ومصالح الإنسان العاجلة فسيعلن رضاه عنها وتجاوبه معها وقبوله لها، وإن أحس منها تعارضا مع مصلحته وحائلا لتحقيق رغباته ونزواته، ألقاها عن عاتقه وطرحها معلنا براءته منها، وإن حاد به ذلك عن الحق وخالف به ناموس العدالة.
إن نقل الأمة عن مثل هذه المهازل والترهات أمل حتمي على كل من تولى أمر المسلمين وصارت إليه قيادتهم وريادتهم، وإلا فماذا يقول غدا بين يدي جبار السماوات والأرض سائلا له عن تفريطه وضياعه لرعيته وتقصيره في سعادة من ولاه الله عليهم، حقا سيندم ولات ساعة مندم.
ثانيا: ما يثار حول تطبيق الشريعة الإسلامية من شبه يقصد منها تعطيلها، وأول هذه الشبه اتهام التشريع الإسلامي بالجمود وعدم مسايرته لتطورات العصر، وتلك فرية دبرها أعداء الإسلام للنيل منه، وأنى لهم ذلك! وهذا دليل على مدى الحقد الدفين للإسلام وأهله، وهو منهم تصور خاطئ ينهض على ركام كبير من الجهالة بأحكام الإسلام وشريعة الإسلام. فقد مضى بنا أن شريعة الإسلام ما جمدت في عصر أو تخلفت عن ركب التقدم في دولة، وإنما هم أنفسهم الذين جمدت عقولهم وعميت أبصارهم عن الحق والصواب {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (1) .
إن
__________
(1) سورة الكهف الآية 5(29/203)
الشريعة السمحة دين ودولة واقع ونظام، ماض وحاضر، علم وثقافة، سياسة واجتماع، إنها لم تكن أبدا كما يتوهمون مجرد عقائد فردية يدين بها الأفراد، لا إنما هي نظام كامل شامل مستقل له أسلوبه المعين وأحكامه الخاصة به وتوجيهاته التي لا يتقبلها إلا من هدي إلى الصراط المستقيم.
ثالثا: يزعمون أن تطبيق الشريعة الإسلامية يثير المشاعر السلبية لدى الأقليات غير المسلمة، وهذه فرية أخرى يفوح منها العداء للإسلام والمسلمين فهم يقولون، قاتلهم الله: إن تطبيق الشريعة الإسلامية يثير المشاعر السلبية لدى الأقليات غير المسلمة - في البلاد التي يعيش فيها أناس غير مسلمين - ويهيج النوازع والأحقاد الطائفية في نفوسهم، مما يعرض الأمة لخطر التدابر والانقسام ويهدد وحدتها وتألفها، ويزعمون أن الأمة تكون في مأمن من هذا الخطر عندما تلتقي على شرعة وضعية لا صلة لها بالعقيدة أو الدين مما يتخالف الناس فيه، ولكن على هؤلاء أن يعلموا أن الأقليات غير المسلمة لم تنعم بجزء من العدل والأمن والطمأنينة بمثل ما تنعم به في بلاد الإسلام.
فالإسلام لا يكره أحدا على الدخول فيه {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (1) والإسلام لم ينهنا عن بر غير المسلمين والإحسان إليهم إذا كفوا أيديهم عنا، وأعلنوا الانضواء تحت سلطان المسلمين. وهل من منكر أنهم يمارسون شعائر دينهم في بلاد الإسلام، ويتصرفون بإرادتهم في أحوالهم الشخصية وغيرها؟ وهل من منكر ينكر ما نسمع عنه ونشاهده من التفرقة العنصرية والاحتكام إلى الأغلبية في كثير من البلدان؟ إن الإسلام لا يطلب من هؤلاء سوى الانتظام في سلك العدالة والحق في بلد هم أحق بالانتظام فيه من غيرهم، باعتبارهم بعض رعاياه أو مواطنيه.
وفي ختام بحثي هذا أقولها باسمي وباسم كل مسلم غيور يعيش في مشارق الأرض ومغاربها: تنبهوا حماة الإسلام واحذروا أن يفتنكم هؤلاء المغرضون أو يثنوكم عن عزيمتكم ويصدوكم عن دينكم، وعن الحكم بما أنزل
__________
(1) سورة البقرة الآية 256(29/204)
الله بشبه يقصد منها إماتة حماسكم وإطفاء جذوة الدعوة إلى تحكيم شرع الله بينكم، وليأخذ كل قادر على الإصلاح في علاج القلوب والعقول مما ران عليها من سنة الغفلة، ومن تقاليد وعادات تنزل بالإنسان إلى مزالق الشر وحضيض الهوان والخسران. وليق كل منا ما استرعاه الله عليه من الانحرافات العقدية والفكرية والنفسية والتحلل السلوكي والأخلاقي، ولتكن القناعة تامة بأن التشريع الإسلامي إنما هو حكم الله لا تقوم في سبيل تطبيقه عقبة، ولا يعاني الناس حياله من وهم أو تخليط، بل هو شرع ومنهج لازم على المسلمين اتباعه، وفي اتباعه يكون الخير والهدى والبركة، وبالصد عنه يكثر الهرج والمرج وتلتبس المسالك وتستبد بالناس الأهواء، نسأل الله العون والهداية ونستهديه أقوم طريق ونستمد منه الهدى والرشاد والنصر والتوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(29/205)
صالح بن غانم بن عبد الله السدلان.
- من مواليد مدينة بريدة عام 1362 هـ.
- حصل على الشهادة الجامعية في الشريعة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1386 هـ، ثم حصل على درجة الماجستير في الفقه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1391 هـ، ثم حصل على درجة الدكتوراه من المعهد العالي للقضاء عام 1403 هـ.
- عمل مدرسا بوزارة المعارف عام 1386 هـ، ثم محاضرا بكلية الشريعة عام 1395 هـ، ثم أستاذا مشاركا في الكلية عام 1403 هـ وهو عمله الحالي.
- له من المؤلفات:
1 -النية وأثرها في الأحكام الشرعية (رسالة دكتوراه) .
2 -الإيضاح في الشروط في النكاح (رسالة ماجستير) .
3 -التوبة إلى الله تعالى.
4 -الرهص والوقص لمستحلي الرقص من الصوفية.
5 -زكاة الأسهم والسندات والورق النقدي.
6 -وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية.
7 -القواعد الفقهية وشرح القواعد الخمس الكلية.
8 -مقدمات طلب النكاح (تحت الطبع) .
9 -أحكام صلاة الجماعة (تحت الطبع) .
10 -القرائن ودورها في الإثبات (تحت الطبع) .
- كما أن له بحوثا ودراسات ومقالات أخرى متنوعة منشورة في الصحف والمجلات المحلية والإسلامية.
- له مشاركات عديدة في المحاضرات والندوات والمؤتمرات الدينية محليا وخارجيا.
- شارك في أعمال عديدة في جهات مختلفة بجانب عمله الأصلي وله خبرات استشارية قدمت لهيئات في الداخل والخارج.(29/206)
النسخ في القرآن الكريم
إعداد: الشيخ عبد الله بن حمد بن عبد الله الشبانة (1)
الأمين العام المساعد لهيئة كبار العلماء
مقدمة:
الحمد لله الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله جل جلاله، وأحسن الحديث حديثه عز وجل، فلا غرو إذا أن يكون الاشتغال به تعلما وتعليما ودراسة وتفهما أشرف ما عمرت به الأوقات، وأعظم ما اشتغل به الأفراد والجماعات؛ ذلك أنه الدليل إلى كل خير، والعاصم من كل شر؛ لأنه حبل الله المتين الذي من تمسك به نجا وسعد في الدارين، ومن أعرض عنه فإن له معيشة ضنكا، ويحشر يوم القيامة أعمى، فيكون نصيبه والعياذ بالله خسارة الحال وخسارة المآل. وقد اشتغل بكتاب الله الكريم وتفسيره وسائر علومه نفر غير قليل من العلماء قديما وحديثا فألفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة، وكتبوا البحوث المستفيضة في تفسير كلام الله تبارك وتعالى، وإيضاح مبهمه وتفصيل مجمله، وشرح ألفاظه وبيان معانيه، واستنباط الأحكام من آياته وبيان ناسخه
__________
(1) انظر التعريف بالكاتب في آخر البحث.(29/207)
ومنسوخه ومكيه ومدنيه، وغير ذلك مما يندرج تحت ما يسمى بعلوم القرآن الكريم.
وقد عد الدكتور حاتم صالح الضامن محقق كتاب (الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى) لقتادة بن دعامة السدوسي واحدا وسبعين مؤلفا في هذا الباب (1) مما يدل على عظم شأن هذا العلم من علوم كتاب الله العزيز، وأنه مدخل من أهم مداخل تفسيره، والبحث في لجته والغوص في أعماقه.
يدل على ذلك ما ذكره العلماء اتفاقا من أن معرفة هذا العلم واجبة على كل من تصدى لتفسير القرآن الكريم، أو استنباط الأحكام منه، أو تصدى للإفتاء أو للقضاء بين الناس؛ لئلا يوجب على خلق الله ما لم يوجبه الله عليهم، أو يسقط عنهم أمرا أوجبه عليهم. فقد روى ابن عبد البر بسنده عن يحيى بن أكثم قال: (ليس من العلوم كلها علم هو واجب على العلماء وعلى المتعلمين وعلى كافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه؛ لأن الأخذ بناسخه واجب فرضا، والعمل به واجب ديانة، والمنسوخ لا يعمل به ولا ينتهى إليه، فالواجب على كل عالم علم ذلك؛ لئلا يوجب على نفسه وعلى عباد الله أمرا لم يوجبه الله، أو يضع عنهم فرضا أوجبه الله) (2) اهـ.
وقال الإمام العلامة مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه (الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه) ص 45 (نشر دار المنارة) : (وإن من آكد ما عني أهل العلم والقرآن بفهمه وحفظه والنظر فيه من علوم القرآن، وسارعوا إلى البحث عن فهمه وعلمه وأصوله علم ناسخ القرآن ومنسوخه، فهو علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله) . اهـ.
وقد قال علي رضي الله عنه: (لا يفتي الناس إلا من عرف الناسخ والمنسوخ) (3) . وروي عنه رضي الله عنه أنه دخل المسجد فرأى رجلا يذكر
__________
(1) كتاب الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى ص 10.
(2) الناسخ والمنسوخ لعبد القاهر البغدادي ص 11.
(3) الناسخ والمنسوخ لعبد القاهر ص 33.(29/208)
الناس فقال له: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه. وفي لفظ آخر أنه قال له: من أنت؟ قال: أنا أبو يحيى قال: بل أنت أبو اعرفوني (1) وجاء عنه في خبر آخر أنه رضي الله عنه مر بقاض فقال له: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت (2) وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالحكمة في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} (3) هو معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره ونحو ذلك (4) وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي (ابن راهويه) رحمه الله: (من لم يعرف الصحيح والسقيم من الحديث والناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة لم يكن عالما) (5) وقال أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهم الله فيمن يتصدر لمهمة الإفتاء: (لا يحل له أن يفتي حتى يعرف أحكام الكتاب والسنة والناسخ والمنسوخ وأقاويل الصحابة والمتشابه ووجوه الكلام) (6) .
فمن ذلك تظهر لنا قيمة هذا العلم وأهميته البالغة لعموم المسلمين، ولمن تصدى منهم لتفسير كتاب الله أو للقضاء، أو لفتيا على وجه الخصوص؛ إذ حاجة هؤلاء إليه أمس، وضرورة إحاطتهم به أشد.
وسأحاول في هذه العجالة المتمثلة في هذا البحث المتواضع عن (النسخ في القرآن الكريم) أن ألم بكامل الموضوع إلمامة عجلى، فأوضح معنى النسخ في اللغة وفي الاصطلاح، ثم أذكر الفرق بينه وبين التخصيص. ثم أشير إلى
__________
(1) مقدمة الدكتور حاتم الضامن في تحقيقه لـ (ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه) لابن البارزي ص 5.
(2) مقدمة الدكتور حاتم الضامن في تحقيقه لـ (ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه) لابن البارزي ص 5.
(3) سورة البقرة الآية 269
(4) زاد المسير لابن الجوزي ج 1 ص 324.
(5) الناسخ والمنسوخ للبغدادي ص 34.
(6) هامش محقق الناسخ والمنسوخ ص 34.(29/209)
شروط النسخ التي ذكرها العلماء، ثم أعرج على بيان آراء العلماء في حكم النسخ ووقوعه أصلا من عدمه، مع مناقشتها وترجيح ما يترجح لدي منهما. بعد ذلك سأورد تفسيرا تحليليا للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم. ثم أبين ما يقع فيه النسخ في القرآن، ثم أتحدث عن أنواع النسخ في القرآن الكريم، مختتما ذلك بإيراد أمثلة للنسخ في القرآن، وأمثلة لما قيل أنه نسخ وليس كذلك، جاعلا الحديث عن كل قسم من ذلك في فصل مستقل إيضاحا له، وتركيزا عليه، وفي نهاية البحث سأورد خاتمة له تتضمن نتائج البحث وخلاصة له.
وأرجو من الله سبحانه العون وأستمد التوفيق. وهو المسئول سبحانه أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا من لدنه علما.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(29/210)
الفصل الأول
النسخ لغة واصطلاحا
قال الجوهري في الصحاح: نسخت الشمس الظل وانتسخته: أزالته ونسخت الريح آثار الدار: غيرتها ونسخت الكتاب وانتسخته واستنسخته كله بمعنى. والنسخة بالضم: اسم المنتسخ منه، ونسخ الآية بالآية إزالة مثل حكمها، فالثانية ناسخة والأولى منسوخة، والتناسخ في الميراث: أن يموت ورثة بعد ورثة، وأصل الميراث قائم لم يقسم (1) اهـ.
وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: النون والسين والخاء أصل واحد إلا أنه مختلف في قياسه. قال قوم: قياسه رفع شيء وإثبات غيره
__________
(1) الصحاح ج 1 ص 433.(29/210)
مكانه وقال آخرون: قياسه تحويل شيء إلى شيء: قالوا: النسخ: نسخ الكتاب والنسخ: أمر كان يعمل به من قبل ثم ينسخ بحادث غيره كالآية ينزل فيها أمر ثم تنسخ بآية أخرى. وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه وانتسخت الشمس الظل والشيب الشباب. وتناسخ الورثة: أن يموت ورثة بعد ورثة وأصل الإرث قائم لم يقسم، ومنه تناسخ الأزمنة والقرون.
قال السجستاني: النسخ: أن تحول ما في الخلية من العسل والنحل في أخرى قال ومنه نسخ الكتاب (1) اهـ.
وجاء في المعجم الوسيط الذي وضعه مجمع اللغة العربية بالقاهرة في مادة نسخ: نسخ الشيء نسخا أزاله يقال: نسخت الريح آثار الديار ونسخت الشمس الظل ونسخ الشيب الشباب. ويقال: نسخ الله الآية: أزال حكمها وفي التنزيل العزيز {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (2) ويقال: نسخ الحاكم الحكم أو القانون: أبطله. والكتاب: نقله وكتبه حرفا بحرف.
انتسخ الشيء: نسخه والكتاب نسخه وتناسخ الشيئان: نسخ أحدهما الآخر يقال: أبلاه تناسخ الملوين. وتناسخت الأشياء: تداولت فكان بعضها مكان بعض. . . (3) إلى آخر ما قال في ذلك مما لا يعنينا إيراده هنا.
وجاء في المصباح المنير للمقري الفيومي في مادة نسخ. قوله: نسخت الكتاب نسخا من باب نفع: نقلته، وانتسخته كذلك، ثم نقل عن ابن فارس قوله المتقدم: إن كل شيء خلف شيئا فقد انتسخه. إلى أن قال المقري: و (النسخ) الشرعي إزالة ما كان ثابتا بنص شرعي، ويكون في اللفظ والحكم وفي أحدهما، سواء فعل كما في أكثر الأحكام أو لم يفعل كنسخ ذبح إسماعيل بالفداء؛ لأن الخليل عليه السلام أمر بذبحه ثم (نسخ) قبل وقوع الفعل. (4) إلى آخر ما أورده مما مر ذكره فيما قدمنا.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة ج 5 ص 424.
(2) سورة البقرة الآية 106
(3) المعجم الوسيط ج 2 ص 917.
(4) المصباح المنير ج 2 ص 602.(29/211)
وعلى هذا فيكون معنى النسخ في اللغة دائرا حول ثلاثة أوجه:
أولها: أن يكون بمعنى النقل (نسخت الكتاب) أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر فهذا لم يغير المنسوخ منه وإنما صار نظيرا له أي نسخة ثانية منه، وهو بهذا المعنى لا يدخل في النسخ الذي هو موضوع بحثنا.
وثانيها: أن يكون بمعنى الإزالة وحلول المزيل محل المزال كقولهم (نسخت الشمس الظل) إذا أزالته وحلت محله، وهذا المعنى هو الذي يدخل في موضوع ناسخ القرآن ومنسوخه الذي هو مدار بحثنا.
وثالثها: أن يكون بمعنى الإزالة مع عدم حلول المزيل محل المزال فكأنه بمعنى المحو كقولهم (نسخت الريح الآثار) إذا أزالتها فلم يبق منها عوض ولا حلت الريح محل الآثار فهذا هو معنى النسخ في اللغة وأما في الاصطلاح فإن معناه (رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر) ، فالحكم المرفوع يسمى (المنسوخ) والدليل الرافع له يسمى (الناسخ) ، ويسمى الرفع (النسخ) ، فالنسخ إذا يقتضي (منسوخا) وهو الحكم الذي كان مقررا سابقا وهو الدليل اللاحق (1) .
وعرف الإمام العلامة مكي بن أبي طالب النسخ في الاصطلاح بأنه (إزالة حكم المنسوخ كله بغير حرف متوسط ببدل حكم آخر أو بغير بدل في وقت معين فهو بيان الأزمان التي انتهى إليها العمل بالفرض الأول، ومنها ابتدأ الفرض الثاني الناسخ للأول) (2) وعرفه العلامة عبد القاهر البغدادي بقوله (وقال أصحابنا: إن النسخ بيان انتهاء مدة التعبد) (3) وعرفه ابن حزم في الإحكام بأنه بيان انتهاء
__________
(1) مقدمة الدكتور حاتم الضامن في تحقيق كتاب (الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى) لقتادة السدوسي ص 6.
(2) الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص85.
(3) الناسخ والمنسوخ ص 40.(29/212)
زمان الأمر الأول فيما لا يتكرر. وهو قريب من تعريف البغدادي. وإليه ذهب الجصاص وأبو إسحاق الإسفرائيني وغيرهم وتابعهم القرافي حيث عرفوه بأنه (بيان لانتهاء مدة الحكم) زاد الجصاص (والتلاوة) (1) وهناك تعريفات أخرى كثيرة غير ما أوردنا تقترب مما أوردناه حينا وتبتعد عنه أحيانا، ولا نرى المجال يتسع لسردها جميعا وفيما ذكرناه غنية وكفاية.
__________
(1) الناسخ والمنسوخ هامش المحقق ص 40.(29/213)
الفصل الثاني
الفرق بين النسخ والتخصيص
سبق أن عرفنا النسخ في الاصطلاح بأنه رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي في حين أنهم يعرفون التخصيص بأنه (قصر العام على بعض أفراده) (1) أو أنه (إزالة بعض الحكم بغير حرف متوسط فهو بيان الأعيان) وأنه إنما يجوز على قول من أجاز تأخير البيان، وهو أن يأتي لفظ ظاهره العموم لما وقع تحته، ثم يأتي لفظ نص آخر أو دليل أو قرينة أو إجماع يدل على أن ذلك اللفظ الذي ظاهره عام ليس بعام، والتخصيص إنما هو بيان اللفظ الأول أنه ليس بعام في كل ما تضمنه ظاهر اللفظ، فهو بيان الأعيان، فهذا هو الأصل الذي يعتمد عليه في الفرق بين النسخ والتخصيص. فالنسخ بيان الأزمان التي انتهى إليها العمل بالفرض الأول، وابتدأ منها الفرض الثاني، والتخصيص بيان الأعيان الذين عمهم اللفظ أن بعضهم غير داخل تحت ذلك اللفظ، فالنسخ لا يكون إلا منفصلا من المنسوخ، والتخصيص يكون منفصلا ومتصلا بالمخصص (2) وقد ذكر العلماء عددا من الفروق بين النسخ والتخصيص يجعلها بعضهم خمسة ويوصلها آخرون إلى سبعة فروق نجملها فيما يلي:
__________
(1) مناهل العرفان ج 2 ص 184.
(2) الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص86.(29/213)
الأول: إن العام بعد تخصيصه خاص، لأن مدلوله وقتئذ بعض أفراده مع أن لفظه موضوع للكل والقرينة هي المخصص، وكل ما كان كذلك فهو خاص. أما النص المنسوخ فما زال كما كان مستعملا فيما وضع له، غايته أن الناسخ دل على أن إرادة الله تعلقت أزلا باستمرار هذا الحكم إلى وقت معين، وإن كان النص المنسوخ متناولا جميع الأزمان، ويظهر ذلك جليا فيما إذا قال الشارع مثلا: افعلوا كذا أبدا، ثم نسخه بعد زمن قصير، فإنه لا يعقل أن يكون مدلوله ذلك الزمن القصير دون غيره، بل هو ما زال كما كان مستعملا في جميع الأزمان نصا بديل قوله (أبدا) غير أن العمل بهذا النص الشامل لجميع الأزمان لفظا قد أبطله الناسخ؛ لأن استمرار العمل بالنص مشروط بعدم ورود ناسخ ينسخه أيا كان ذلك النص وأيا كان ناسخه. فإن سأل سائل ما حكمة تأبيد النص لفظا بينما هو مؤقت في علم الله أزلا؟ أجبناه بأن حكمته ابتلاء الله لعباده أيخضعون لحكمه مع تأبيده عليهم هذا التأبيد الظاهري أم لا؟ فإذا ماز الله الخبيث من الطيب والمطمئن لحكمه من المتمرد عليه، جاء النسخ لحكمة أخرى من التخفيف ونحوه.
الثاني: إن حكم ما خرج بالتخصيص لم يك مرادا من العام أصلا، بخلاف ما خرج بالنسخ، فإنه كان مرادا من المنسوخ لفظا.
الثالث: إن التخصيص لا يتأتى أن يأتي على الأمر لمأمور واحد، ولا على النهي لمنهي واحد، أما النسخ فيمكن أن يعرض لهذا كما يعرض لغيره، ومن ذلك نسخ بعض الأحكام الخاصة به صلى الله عليه وسلم.
الرابع: إن النسخ يبطل حجية المنسوخ، إذا كان رافعا للحكم بالنسبة إلى جميع أفراد العام، ويبقى على شيء من حجيته إذا كان رافعا للحكم عن بعض أفراد العام دون بعض، أما التخصيص فلا يبطل حجية العام أبدا، بل العمل به قائم فيما بقي من أفراده بعد تخصيصه.
الخامس: إن النسخ لا يكون إلا بالكتاب والسنة بخلاف التخصيص، فإنه يكون بهما وبغيرهما كدليل الحس والعقل فقول الله سبحانه:(29/214)
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (1) قد خصصه قوله صلى الله عليه وسلم «لا قطع إلا في ربع دينار (2) » . وهذا قوله سبحانه: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (3) قد خصصه ما شهد به الحس من سلامة السماء والأرض وعدم تدمير الريح لهما.
السادس: إن النسخ لا يكون إلا بدليل متراخ عن المنسوخ أما التخصيص فيكون بالسابق واللاحق والمقارن، وقال قوم: لا يكون التخصيص إلا بمقارن فلو تأخر عن وقت العمل بالعام كان هذا المخصص ناسخا للعام بالنسبة لما تعارضا فيه، كما إذا قال الشارع: (اقتلوا المشركين) وبعد وقت العمل به قال: (ولا تقتلوا أهل الذمة) ، ووجهة نظر هؤلاء أن المقصود بالمخصص بيان المراد بالعام، فلو تأخر وقت العمل به لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وذلك لا يجوز، فلم يبق إلا اعتباره ناسخا.
السابع: إن النسخ لا يقع في الأخبار بخلاف التخصيص فإنه يكون في الأخبار وفي غيرها (4) .
وقد نقل الشيخ محمد حمزة في كتابه (دراسات في الإحكام والنسخ) عن الإمام الغزالي أنه حصر الفرق بين التخصيص والنسخ في خمسة أمور. ولا نجد فيها غير ما أورده غيره من الفروق التي أجملناها آنفا إلا ما كان من قوله الخامس: إن تخصيص العام المقطوع بأصله جائز بالقياس وبخبر الواحد وسائر الأدلة، ونسخ القاطع لا يجوز إلا بقاطع (وقد علق الشيخ محمد حمزة على ذلك بقوله: أقول تفريق ممتاز على ما في ذلك من الخلاف، فإن الأحناف اشترطوا المقارنة في المخصص للعام، فإذا تراخى عنه فهو نسخ لا تخصيص، كما تقدم ولا يجوز عند الأحناف تخصيص الكتاب بخبر الواحد؛
__________
(1) سورة المائدة الآية 38
(2) موطأ مالك كتاب الحدود (1586) .
(3) سورة الأحقاف الآية 25
(4) مناهل العرفان ج 2 ص 184 - 186 وانظر نظرية النسخ في الشرائع السماوية ص 12.(29/215)
لأن دلالة العام على عمومه قطعية عندهم وخبر الآحاد ظني، أما الحديث المشهور فهو عندهم قطعي الثبوت كالمتواتر، فيجوز تخصيص الكتاب به وتقييد مطلقه) (1) اهـ.
__________
(1) انظر دراسات في الإحكام والنسخ ص 129.(29/216)
الفصل الثالث
شروط النسخ
للنسخ شروط لا بد من توافرها لكي يعتبر من قبيل النسخ لا من قبيل غيره كتخصيص العام أو تقييد المطلق أو الاستثناء. . . إلخ. وكل ما لم تتوافر فيه هذه الشروط التي سنذكرها هنا أرجع إلى نوع من تلك الأنواع التي ذكرناها أو إلى غيرها.
وما توافرت فيه تلك الشروط اعتبر نسخا. وشروط النسخ نوعان:
أحدهما: شروط متفق عليها والنوع الثاني: شروط مختلف فيها.
فأما الشروط المتفق عليها فمنها:
1 - أن يكون المنسوخ حكما شرعيا؛ لأن الأمور العقلية التي مستندها البراءة الأصلية لم تنسخ وإنما ارتفعت بإيجاب العبادات.
2 - أن يكون النسخ بخطاب شرعي لا بموت المكلف؛ لأن الموت مزيل للحكم لا ناسخ له.
3 - ألا يكون الحكم السابق مقيدا بزمان مخصوص نحو قوله عليه الصلاة والسلام «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس (1) » .
فإن الوقت الذي يجوز فيه أداء النوافل التي لا سبب لها مؤقت، فلا يكون نهيه عن هذه النوافل في الوقت المخصوص نسخا لما قبل ذلك من الجواز؛ لأن التوقيت يمنع النسخ.
__________
(1) صحيح البخاري الحج (1864) ، سنن النسائي المواقيت (567) .(29/216)
4 - أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ.
وأما الشروط المختلف فيها فمنها:
1 - أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه لا دونه؛ لأن الضعيف لا ينسخ القوي.
2 - أن يكون ناسخ القرآن قرآنا وناسخ السنة سنة.
3 - أن يكون قد ورد الخطاب الدال على بيان انتهاء الحكم بعد التمكن من الفعل.
4 - أن يكون الناسخ مقابلا للمنسوخ مقابلة الأمر للنهي والمضيق للموسع.
5 - أن يكون الناسخ والمنسوخ نصين قاطعين.
6 - أن يكون النسخ ببدل مساو أو مما هو أخف منه.
7 - أن يكون الخطاب المنسوخ حكمه مما لا يدخله الاستثناء أو التخصيص.
وقد نقل صاحب كتاب (نظرية النسخ في الشرائع السماوية) عن الآمدي في الإحكام والزرقاني في مناهل العرفان أن الراجح كونه لا داعي لهذه الشروط السبعة (1) .
وقد عد صاحب (الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه) من شروط الناسخ (2) أن يكون منفصلا من المنسوخ منقطعا منه، فإن كان متصلا به غير منقطع عنه لم يكن ناسخا لما قبله مما هو متصل به، نحو قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} (3) فليس قوله {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} (4) ناسخا لقوله {حَتَّى يَطْهُرْنَ} (5) في قراءة من خفف {يَطْهُرْنَ} (6) ؛ لأنه متصل به، فالأول يراد به ارتفاع الدم والثاني التطهير بالماء.
__________
(1) نظرية النسخ في الشرائع السماوية ص 123.
(2) ص108 وما بعدها.
(3) سورة البقرة الآية 222
(4) سورة البقرة الآية 222
(5) سورة البقرة الآية 222
(6) سورة البقرة الآية 222(29/217)
كما عد من شروط المنسوخ أن يكون غير متعلق بوقت معلوم لا يعلم انتهاء وقت فرضه إلا بنص ثان يبين أن فرض الأول إلى الوقت الذي فرض فيه الثاني ولذلك قيل في قوله تعالى {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (1) : إنه غير منسوخ بالأمر بالقتال في (براءة) ؛ لأن الله جعل له أجلا ووقتا وهو إتيان أمره بالقتال وترك الصفح والعفو، وإنما كان يكون منسوخا بالقتال لو قال: فاعفوا واصفحوا أمرا غير مؤقت، كما قال: فاعف عنهم واصفح. فهذا منسوخ بالقتال وقيل: إنه منسوخ بالقتال؛ لأن الأجل غير معلوم، ولو قال: فاعفوا واصفحوا إلى وقت كذا. وذكر الأمر لكان النسخ غير جائز فيه، ولكنه أبهم الوقت ولم يحده، فالنسخ فيه جائز وعلى ذلك أكثر العلماء.
ومضى صاحب الإيضاح يعدد شروطا للنسخ فقال: ومن شروط الناسخ أن يكون موجبا للعلم والعمل كالمنسوخ ومن هاهنا منع نسخ القرآن بخبر الآحاد؛ لأن أخبار الآحاد توجب العمل ولا توجب العلم والقرآن يوجبهما جميعا. وإنما وقع الاختلاف في جواز نسخ القرآن بالأخبار المتواترة التي توجب العلم والعمل كالقرآن.
وقد عد الإمام العلامة مكي بن أبي طالب جواز نسخ الأثقل بالأخف من شروط الناسخ، ومثل لذلك بتخفيف قوله تعالى {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (2) بقوله سبحانه: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (3) وأنه لذلك قال تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (4) أي بأخف منها عليكم أو مثلها في الثقل وأعظم في الأجر.
وكذلك نسخ الأخف بالأثقل نحو نسخ صيام يوم عاشوراء أو صيام ثلاثة أيام من كل شهر بصوم شهر رمضان
__________
(1) سورة البقرة الآية 109
(2) سورة الأنفال الآية 65
(3) سورة الأنفال الآية 66
(4) سورة البقرة الآية 106(29/218)
وقال بعد أن ساق أمثلة أخرى لهذا الوجه (وقد ذهب بعض المؤلفين للناسخ والمنسوخ إلى أنه لا يجوز أن ينسخ الأخف بالأثقل وتأول فيما ذكرنا تأويلات تخرجه من النسخ، والعمل عند أكثرهم على ما بيناه) (1) كما عد الإمام العلامة أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه (الناسخ والمنسوخ) من شرط الناسخ والمنسوخ أن يكونا شرعيين يجوز في العقل ورود الأمر بكل واحد منهما على البدل، فأما الذي لا يجوز ورود الشرع بخلافه؛ كاعتقاد توحيد الصانع واعتقاد صفاته وعدله وحكمته، واعتقاد فساد الكفر فلا يجري في هذا النوع نسخ ولا تبديل، وكذلك كل ما دل العقل على كونه على وجه مخصوص، فلا يجوز أن يكون الناسخ والمنسوخ كلاهما منصوصا عليه أو مدلولا عليه بدليل الخطاب أو مفهومه، فأما الذي ثبت بالإجماع فلا يجوز نسخه؛ لأن الإجماع إنما يستقر بعد انقضاء زمان النسخ، فإذا اجتمعت الأمة على حكم ووجد خبر بخلافه استدللنا بالإجماع على سقوط الخبر أو نسخه، أو تأويله على غير ظاهره (2) .
__________
(1) انظر الإيضاح ص110، 111.
(2) الناسخ والمنسوخ ص 45.(29/219)
الفصل الرابع
الآراء في حكم النسخ ومناقشتها
هنالك إجماع من علماء المسلمين بل أجمعت الأمة كلها على جواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا، كما أن جميع الملل تكاد تتفق على ذلك، إلا من بعض الطوائف التي أنكرت ذلك وأوردت شبها كثيرة لمنعه، واستدلت بأدلة لا تقوى على الصمود عند مناقشتها، وسنفصل القول في بيان ذلك في ثنايا هذا الفصل إن شاء الله تعالى، وقد عني كثير من العلماء ببيان وجه الحق في(29/219)
ذلك وقرروا إمكان وقوع النسخ في شريعة الإسلام، وكذلك في الشرائع السابقة، وقاموا بتفنيد شبه المنكرين للنسخ والرد عليها وإبطالها.
فقد استدلوا على جواز وقوع النسخ في القرآن بقوله تعالى {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (1) قال ابن عباس وغيره: معناه يمحو ما يشاء من أحكام كتابه، فينسخه ببدل أو بغير بدل، ويثبت ما يشاء فلا يمحوه ولا ينسخه، ثم قال: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (2) قال ابن عباس: معناه عنده ما ينسخ ويبدل من الآية والأحكام، وعنده ما لا ينسخ ولا يبدل، كل في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ، ومثل هذا المعنى قال قتادة وابن زيد وابن جريج وغيرهم في هذه الآية، وقد قيل غير ذلك. فهذا يدل على جواز النسخ بنص القرآن (3) .
وقد اعترض مكي بن أبي طالب على استدلال جماعة على جواز النسخ في القرآن بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} (4) قائلا: إن هذا إنما يدل على جواز النسخ فيما يزيد الشيطان في تلاوة النبي أو الرسول من الباطل، خاصة وليس يدل علي جواز النسخ فيما ينزله الله ويأمر به، فلا حجة فيه لمن استدل به على جواز نسخ ما هو من عند الله من الحق (5) .
ومضى مكي يستعرض الأدلة القرآنية على جواز النسخ في القرآن فقال:
(ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضا قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (6) (101) النحل فهذا نص ظاهر في جواز زوال حكم آية ووضع أخرى موضعها. إلى أن قال:
__________
(1) سورة الرعد الآية 39
(2) سورة الرعد الآية 39
(3) الإيضاح ص 60.
(4) سورة الحج الآية 52
(5) الإيضاح ص 61.
(6) سورة النحل الآية 101(29/220)
ويدل على جواز النسخ للقرآن أيضا قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (1) (106) البقرة. فهذا نص ظاهر في جواز النسخ للقرآن بالقرآن. إلى أن قال: ويدل على جواز النسخ أيضا قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2) (48) المائدة. فمعلوم أن شريعة كل رسول نسخت شريعة من كان قبله.
ورد مكي كذلك استدلال من استدل بقوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (3) (86) الإسراء على جواز النسخ بقوله: فهذا إنما يراد به إذهاب ما لا يجوز نسخه من الأخبار وغيرها. وما لا يجوز نسخه لو شاء الله لأذهب حفظه كله من القلوب بغير عوض (4) وما تقدم واقع في دائرة الاستدلال القرآني بيد أن هناك استدلالات عقلية أوردها المثبتون للنسخ القائلون بجوازه وقد أجملها صاحب (مناهل العرفان) في الأدلة الأربعة التالية:
أولا: إن النسخ لا محظور فيه عقلا وكل ما كان كذلك جائز عقلا. أما الكبرى فمسلمة وأما الصغرى فيختلف دليلها عند أهل السنة عن دليلها عند المعتزلة تبعا لاختلاف الفرقتين في أن أحكام الله تعالى يجب أن تتبع المصلحة لعباده أو لا يجب أن تتبعها، فأهل السنة يقولون: إنه لا يجب على الله تعالى لعباده شيء بل هو سبحانه الفاعل المختار والكبير المتعال، وله بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته أن يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما شاء، وأن يبقي من أحكامه على ما شاء وأن ينسخ منها ما شاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، ولا ملزم يلزمه برعاية مصالح عباده، ولكن ليس معنى هذا أنه عابث أو مستبد أو ظالم، بل إن أحكامه وأفعاله كلها جل جلاله لا تخلو عن حكمة بالغة وعلم واسع وتنزه عن البغي والظلم {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (5) (46 فصلت) . {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (6) (49) الكهف.
__________
(1) سورة البقرة الآية 106
(2) سورة المائدة الآية 48
(3) سورة الإسراء الآية 86
(4) الإيضاح ص 62-64.
(5) سورة فصلت الآية 46
(6) سورة الكهف الآية 49(29/221)
{إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (1) (83) و (128) الأنعام. والمعتزلة يقولون: إنه تعالى يجب أن يتبع في أحكامه مصالح عباده فما كان فيه مصلحة لهم أمرهم به وما كان فيه مضرة عليهم نهاهم عنه. وما دار بين المصلحة تارة والمفسدة تارة أمرهم به تارة، ونهاهم عنه أخرى. وإذا تقرر هذا فإن صغرى ذلك الدليل نستدل عليها من مذهب أهل السنة هكذا: النسخ تصرف في التشريع من الفاعل المختار الكبير المتعال، الذي لا يجب عليه رعاية مصالح عباده في تشريعه، وإن كان تشريعه لا يخلو من حكمه، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا.
وأما على مذهب الاعتزال فننظم الدليل هكذا: النسخ مبني على أن الله تعالى يعلم مصلحة عباده في نوع من أفعالهم وقتا ما، فيأمرهم به في ذلك الوقت ويعلم ضرر عباده في هذا النوع نفسه من أفعالهم ولكن في وقت آخر، فينهاهم عنه في ذلك الوقت الآخر، وكل ما كان كذلك لا محظور فيه عقلا. وكيف يكون محظورا عقلا ونحن نشاهد أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحوال. إلى أن قال: وإلى هذا الدليل تشير الآية الكريمة {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (2) (106) البقرة. . . إلخ.
ثانيا وهو دليل إلزامي للمنكرين: إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما جوزوا أن يأمر الشارع عباده بأمر مؤقت ينتهي بانتهاء وقته، لكنهم يجوزون هذا عقلا، ويقولون بوقوعه سمعا، فليجوزوا هذا؛ لأنه لا معنى للنسخ إلا انتهاء الحكم الأول لميقات معلوم عند الله، بيد أنه لم يكن معلوما لنا من قبل ثم أعلمنا الله إياه بالنسخ، وهذا ليس بفارق مؤثر، فقول الشارع مثلا أول يوم من رمضان: (صوموا إلى نهاية هذا الشهر) مساو لأن يقول أول يوم من رمضان: (صوموا) من غير تقييد بغاية حتى إذا ما انتهى شهر رمضان، قال أول يوم شوال: (أفطروا) ، وهذا الأخير نسخ لا ريب فيه وقد جوز منكروه المثال الأول فليجوزوا هذا المثال الثاني لأنه مساويه
__________
(1) سورة الأنعام الآية 83
(2) سورة البقرة الآية 106(29/222)
والمتساويان يجب أن يتحد حكمهما وإلا لما كانا متساويين.
ثالثا: إن النسخ لو لم يكن جائزا عقلا وواقعا سمعا لما ثبتت رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، لكن رسالته العامة للناس ثابتة بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة التي يطول شرحها. إذن فالشرائع السابقة ليست باقية بل هي منسوخة بهذه الشريعة الختامية. وإذن فالنسخ جائز وواقع. أما ملازمة هذا الدليل فنبرهن عليها بأن النسخ لو لم يكن جائزا وواقعا، لكانت الشرائع الأولى باقية، ولو كانت باقية ما ثبتت رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة.
رابعا: ما يأتي من أدلة الوقوع السمعي؛ لأن الوقوع يستلزم الجواز وزيادة، والأدلة السمعية على وقوع النسخ نوعان: أحدهما: تقوم به الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى من غير توقف على إثبات نبوة الرسول لهم. والثاني: تقوم به الحجة على من آمن بنبوته صلى الله عليه وسلم كأبي مسلم الأصفهاني من المسلمين، وكالعيسوية من اليهود، فإنهم يعترفون برسالته عليه الصلاة والسلام، ولكن يقولون: إلى العرب خاصة، وهؤلاء تلزمهم بأنهم متى سلموا برسالته وجب أن يصدقوه في كل ما جاء به، ومن ذلك عموم دعوته، والنسخ الوارد في الكتاب والسنة.
فأمثلة النوع الأول كثيرة منها:
1 - ما جاء في السفر الأول من التوراة أن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من السفينة: (إني جعلت كل دابة حية مأكلا لك ولذريتك وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه) ثم اعترفوا بعد ذلك بأن الله حرم كثيرا من الدواب على أصحاب الشرائع من بعد نوح ومنهم موسى نفسه كما جاء في السفر الثالث من توراتهم.
2 - جاء في التوراة أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه وورد أنه كان يولد في كل بطن من البطون ذكر وأنثى فكان يزوج توأمة هذا للآخر(29/223)
ويزوج توأمة الآخر لهذا، وهكذا إقامة لاختلاف البطون مقام اختلاف الآباء والأمهات والأنساب، ثم حرم الله ذلك بإجماع المتدينين من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم.
3 - إن الله تعالى أمر إبراهيم بذبح ولده - عليهما السلام - ثم قال الله له لا تذبحه وقد اعترف منكرو النسخ بذلك.
4 - إن عمل الدنيا كان مباحا يوم السبت لليهود ومنه الاصطياد ثم حرم الله الاصطياد على اليهود باعترافهم.
5 - إن الله أمر بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم أمرهم برفع السيف عنهم (1) إلى غير ذلك من الأدلة السمعية التي تقوم بها الحجة على منكري النسخ من اليهود والنصارى.
وأما أمثلة النوع الثاني وهو الذي تقوم به الحجة على منكري النسخ من المسلمين ومن يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم كالعيسوية من اليهود فهي كثيرة أيضا، وأوردنا طرفا منها في مستهل هذا الفصل نقلا عن الإمام العلامة مكي بن أبي طالب القيسي في كتابه (الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه) (2) .
ويتبين مما ذكرناه أن أهل الأديان على مذاهب ثلاثة في النسخ:
أولها: إنه جائز عقلا وواقع سمعا. وعليه إجماع المسلمين من قبل أن يظهر أبو مسلم الأصفهاني ومن شايعه، وعليه أيضا إجماع النصارى من قبل معاصريهم الذين خرقوا الإجماع وركبوا رءوسهم فأنكروا النسخ؛ ليصلوا من هذا الإنكار إلى بقاء ديانتهم بجانب الديانة الإسلامية بدعوى أن الشريعة لا تنسخ الشريعة قبلها، وهو رأي العيسوية إحدى طوائف اليهود الثلاث.
__________
(1) مناهل العرفان ج 2 ص 191.
(2) انظر الفصل الرابع من هذا البحث.(29/224)
ثانيها: إن النسخ ممتنع عقلا وسمعا وهو ما جنح إليه نصارى هذا العصر وتقول به أيضا الشمعونية، وهم طائفة ثانية من طوائف اليهود.
ثالثها: إن النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا وبه تقول العنانية وهي الطائفة الثالثة من طوائف اليهود. كما يعزى هذا الرأي إلى أبي مسلم الأصفهاني من المسلمين، ولكن على اضطراب في النقل عنه وعلى تأويل يجعل خلافه لجمهور المسلمين أشبه بالخلاف اللفظي إن لم يكن كذلك فعلا (1) .
كما يتبين أيضا أن النسخ مجمع على جوازه عقلا ولم يخرج عن هذا الإجماع إلا " الشمعونية " إحدى فرق اليهود وبعض نصارى هذا الزمان، ولا شك أن مذهب هؤلاء المنكرين هو أخطر المذاهب وأشنعها في هذا الباب وأبعدها عن الحق وأكثرها مجانبة للصواب وولوغا في الباطل. إذ إن مجرد إنكار الجواز العقلي إنكار للوقوع الشرعي بالضرورة؛ إذ لا يمكن أن يقع في الوجود ما أحاله العقل.
__________
(1) مناهل العرفان ج2 ص 186-187.(29/225)
شبهات المنكرين للجواز العقلي وإبطالها
وسنستعرض فيما يلي أبرز شبهات أولئك المنكرين مع تفنيدها وإبطالها فنقول وبالله التوفيق:
1 - الشبهة الأولى التي يسوقونها لتمسكهم بمنع النسخ أن النسخ إما لحكمة ظهرت بعد أن لم تكن فيكون بداء، وإما أن يكون لغير حكمة فيكون عبثا، وكلا البداء والعبث على الله تعالى مستحيل. والرد عليهم إنما هو من خلال ما أثبتناه في بداية هذا المبحث من أدلة عقلية وسمعية على جواز النسخ عقلا، وأنه لا يترتب على النسخ محال عقلي؛ إذ هو فعل من أفعال الله الذي يفعل ما يشاء سبحانه، وليس النسخ من قبيل البداء، بل الفرق بينهما ظاهر، فالبداء تبديل في العلم بينما النسخ تبديل في المعلوم (1) .
__________
(1) انظر دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم ص 76 - 77.(29/225)
وبعد أن أورد الشيخ محمد حمزة في كتابه (دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم) رأي كل من اليهود والمعتزلة والماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي ومن أخذ برأيه من جمهور الأحناف ومن تبعهم، قال: وبعد ما تقدم نجيب بجواب محكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين فنقول: إنما يكون كل من العبث والبداء من لوازم النسخ إن ورد النسخ على حسن لا يقبل حسنه القبح، أو قبيح لا يقبل قبحه الحسن، كالإيمان والكفر، أما في الأفعال التي حسنها وقبحها باعتبار ما يترتب عليها من المصالح المختلفة باختلاف الأزمان والأمم، فإن الله تعالى يبدل ما شاء من الأحكام؛ رعاية لتلك المصالح التي يعلمها، ولا يلزم من ذلك بداء ولا عبث، وعلى ضوء ما تقدم أيضا يبطل قول المنكرين أن ما طلبه الله لحسنه، فلو نهى عنه لأدى إلى أن ينقلب الحسن قبيحا وهو محال، فنقول: إن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد، وفرض المسألة غير ذلك فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات، كشرب الدواء فإنه قد يكون نافعا في وقت دون وقت، فيختلف حسن الشيء وقبحه باختلاف الأوقات، وباختلاف الأشخاص أيضا، فالشرع للأديان كالطب للأبدان (1) .
2 - ويثيرون شبهة أخرى فيقولون لو جاز على الله تعالى أن ينسخ حكما بحكم للزم على ذلك أحد باطلين: جهله جل وعلا، وتحصيل الحاصل.
وبيان ذلك أن الله تعالى إما أن يكون قد علم الحكم الأول المنسوخ على أنه مؤبد، وإما يكون قد علمه على أنه مؤقت. فإن كان قد علمه على أنه مستمر إلى الأبد ثم نسخه وصيره غير مستمر انقلب علمه جهلا والجهل عليه تعالى محال، وإن كان علمه على أنه مؤقت بوقت معين ثم نسخه عند ذلك الوقت، ورد عليه أن المؤقت ينتهي بمجرد انتهاء وقته فإنهاؤه بالنسخ تحصيل للحاصل وهو باطل، وتدفع هذه الشبهة بأن الله تعالى قد سبق في علمه أن الحكم
__________
(1) دراسات في الإحكام والنسخ ص80.(29/226)
المنسوخ مؤقت لا مؤبد، ولكنه علم بجانب ذلك أن توقيته إنما هو بورود الناسخ، لا بشيء آخر كالتقييد بغاية في دليل الحكم الأول، وإذن فعلمه بانتهائه بالناسخ لا يمنع النسخ بل يوجبه. وورود الناسخ محقق لما في علمه لا مخالف له شأنه تعالى في الأسباب ومسبباتها، وقد تعلق علمه بها كلها مع ملاحظة أن النسخ بيان بالنسبة إلى الله تعالى ورفع بالنسبة إلينا (1) .
3 - والشبهة الثالثة التي يثيرونها هي قولهم لو جاز النسخ للزم أحد باطلين وما هو في معناه.
وبيان ذلك أن الحكم المنسوخ إما أن يكون دليله قد غياه بغاية ينتهي عندها أو يكون قد أبد نصا، فإن كان قد غياه بغاية، فإنه ينتهي بمجرد وجود هذه الغاية، وإذن لا سبيل إلى إنهائه بالنسخ وإلا لزم تحصيل الحاصل. وإن كان دليل الحكم الأول قد نص على تأبيده، ثم جاء الناسخ على رغم هذا التأبيد لزم المحال من وجوه ثلاثة:
أ- التناقض؛ لأن التأبيد يقتضي بقاء الحكم ولا ريب أن النسخ ينافيه.
ب- تعذر إفادة التأبيد من الله للناس؛ لأن كل نص يمكن أن يفيده تبطل إفادته باحتمال نسخه، وذلك يفضي إلى القول بعجز الله وعيه عن بيان التأبيد لعباده فيما أبده لهم تعالى الله عن ذلك.
ج- استلزام ذلك لجواز نسخ الشريعة الإسلامية مع أنها باقية إلى يوم القيامة عند القائلين بالنسخ ويمكن دفع هذه الشبهة بما يلي:
أولا: بأن حصر الحكم المنسوخ في هذين الوجهين اللذين ذكرهما المانع غير صحيح؛ لأن الحكم المنسوخ يجوز ألا يكون مؤقتا ولا مؤبدا، بل يجيء مطلقا عن التوقيت والتأبيد كليهما، وعليه فلا يستلزم طروء النسخ عليه شيئا من المحالات التي ذكروها، وإطلاق هذا الحكم كاف في صحة نسخه؛ لأنه يدل على الاستمرار بحسب الظاهر وإن لم يعرض له النص.
__________
(1) مناهل العرفان ج2 ص199.(29/227)
ثانيا: إن ما ذكروه من امتناع نسخ الحكم المؤبد غير صحيح أيضا وما استندوا إليه منقوض لوجوه ثلاثة:
الأول منها: إن استدلالهم بأنه يؤدي إلى التناقض مدفوع بأن الخطابات الشرعية مقيدة من أول الأمر بألا يرد ناسخ، كما أنها مقيدة بأهلية المكلف للتكليف، وألا يطرأ عليه جنون أو غفلة أو موت، وإذن فمجيء الناسخ لا يفضي إلى تناقض بينه وبين المنسوخ بحال.
والثاني: إن استدلالهم بأنه يؤدي إلى أن يتعذر على الله بيان التأبيد لعباده مدفوع بأن التأبيد يفهمه الناس بسهولة من مجرد خطابات الله الشرعية المشتملة على التأبيد، وهو ما يشعر به كل واحد منا؛ ذلك لأن الأصل بقاء الحكم الأول وما اتصل به من توقيت أو تأبيد، وطرد الناسخ احتمال مرجوح، واستصحاب الأصل أمر يميل إليه الطبع كما يؤيده العقل والشرع.
والثالث: إن جواز نسخ الشريعة الإسلامية إن لزمنا معاشر القائلين بالنسخ، فإنه يلزمنا على اعتبار أنه احتمال عقلي لا شرعي بدليل أننا نتكلم في الجواز العقلي لا الشرعي. أما نسخ الشريعة الإسلامية بغيرها من الشرائع فهو من المحالات الظاهرة بتضافر الأدلة على أن الإسلام دين خالد عام، ولا يضير المحال في حكم الشرع أن يكون من قبيل الجائز في حكم العقل (1) .
4 - وشبهتهم الرابعة هي قولهم:
إن النسخ يستلزم اجتماع الضدين واجتماعهما محال، وبيان ذلك أن الأمر بالشيء يقتضي أنه حسن وطاعة ومحبوب لله، والنهي عنه يقتضي أنه قبيح ومعصية ومكروه له تعالى فلو أمر الله بالشيء ثم نهى عنه، أو نهى عن الشيء ثم أمر به لاجتمعت هذه الصفات المتضادة في الفعل الواحد الذي تعلق به الأمر والنهي.
وندفع هذه الشبهة بأن الحسن والقبح وما اتصل بهما ليست من صفات الفعل الذاتية حتى تكون ثابتة فيها لا تتغير بل هي تابعة لتعلق أمر الله
__________
(1) مناهل العرفان ج2 ص199- 201.(29/228)
ونهيه بالفعل وعلى هذا يكون الفعل حسنا وطاعة ومحبوبا لله ما دام مأمورا به من الله، ثم يكون هذا الفعل نفسه قبيحا ومعصية ومكروها له تعالى ما دام منهيا عنه منه سبحانه، وحتى القائلون بالحسن والقبح العقليين من المعتزلة يقرون بأنهما يختلفان باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال، وبهذا التوجيه ينتفي اجتماع الضدين لاختلاف الوقت الذي يكون فيه الفعل حسنا عن الوقت الذي يكون فيه الفعل نفسه قبيحا، فلم يجتمع الحسن والقبح في وقت واحد على فعل واحد (1) .
وقريب من هذا ما نقلناه فيما تقدم من كلام الشيخ محمد حمزة في كتابه (دراسات في الإحكام والنسخ) من جوابه المحكم على فرية اليهود وشبهة المستشبهين وما انتهى إليه من أن قول المنكرين: إن ما طلبه الله لحسنه، فلو نهى عنه لأدى ذلك إلى أن ينقلب الحسن قبحا، وهو محال مردود - بأن الإحالة إنما تكون إذا اجتمع الأمر والنهي في فعل واحد من مأمور واحد في زمن واحد، وفرض المسألة غير ذلك، فإن المصالح تختلف باختلاف الأوقات. . . إلخ (2) .
__________
(1) مناهل العرفان ج2 ص199- 201.
(2) راجع ص18- 19 من هذا البحث.(29/229)
شبهات المنكرين للنسخ سمعا (1)
1 - شبهة العنانية والشمعونية:
وتتمثل شبهتهم في قولهم: إن التوراة التي أنزلها الله على موسى لم تزل محفوظة لدينا منقولة بالتواتر فيما بيننا وقد جاء فيها (هذه شريعة مؤبدة ما دامت السماوات والأرض) وجاء فيها أيضا (الزموا يوم السبت أبدا) وذلك يفيد امتناع النسخ؛ لأن النسخ لشيء من أحكام التوراة - لا سيما تعظيم يوم السبت - إبطال لما هو من عنده تعالى وتدفع هذه الشبهة بوجوه خمسة:
أولها: إن شبهتهم هذه أقصر من مدعاهم قصورا بينا؛ لأن قصارى ما تقتضيه - إن سلمت - هو امتناع نسخ شريعة موسى عليه السلام لشريعة أخرى. أما تناسخ شرائع سواها فلا تدل هذه الشبهة على امتناعه، بل يبعد أن ينكر اليهود انتساخ شرائع الإسرائيليين قبل اليهودية بشريعة موسى. فكان المنظور أن تجيء دعواهم أقصر مما هو محكي عنهم بحيث تتكافأ ودليلهم الذي زعموه، أو أن يجيء دليلهم الذي زعموه أعم من هذا حتى يتكافأ ودعواهم التي ادعوها.
ثانيها: إنا لا نسلم لهم ما زعموه من أن التوراة لم تزل محفوظة في أيديهم حتى يصح استدلالهم بها بل الأدلة متضافرة على أن التوراة الصحيحة لم يعد لها وجود، وأنه أصابها من التغيير والتبديل والتحريف ما جعلها في خبر كان.
__________
(1) نقلنا هذا المبحث بطوله عن مناهل العرفان للزرقاني لدقته وشموله.(29/230)
من تلك الأدلة أن نسخة التوراة التي بأيدي السامريين تزيد في عمر الدنيا نحوا من ألف سنة على ما جاء في نسخة العنانيين، وأن نسخة النصارى تزيد ألفا وثلاثمائة سنة. ومنها أن نسخ التوراة التي بأيديهم تحكي عن الله وعن أنبيائه وملائكته أمورا ينكرها العقل ويمجها الطبع ويتأذى بها السمع مما يستحيل معه كونها صادرة عن مؤمن، فضلا عن ولي، فضلا عن نبي، فضلا عن نسبتها إلى الله رب العالمين. من مثل ندم الله على إرسال الطوفان إلى العالم، وأنه بكى حتى رمدت عيناه، وأن يعقوب صارعه فصرعه، تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا. وأن لوطا سكر فثمل فزنى بابنتيه، وأن هارون هو الذي اتخذ العجل لبني إسرائيل ودعاهم لعبادته من دون الله.
ومن الأدلة أيضا على فساد دعوى بقاء التوراة وحفظها ما ثبت بالتواتر عند المؤرخين، بل عند اليهود أنفسهم من أن بني إسرائيل - وهم حملة التوراة وحفاظها - قد ارتدوا عن الدين مرات كثيرة، وعبدوا الأصنام، وقتلوا أنبياءهم شر تقتيل، ولا ريب أن هذه مطاعن شنيعة جارحة لا تبقي لأي منهم أي نصيب من عدالة أو ثقة، ولا تحمل لهذه النسخ التي زعموا أنها التوراة أقل شيء من القيمة أو الصحة.
ثالثها: إن التواتر الذي خلعوه على التوراة لا يسلم لهم أيضا؛ لأنها لو كانت متواترة لحاجوا بها أفضل الرسل صلى الله عليه وسلم، ولعارضوا دعواه عموم رسالته بقول التوراة التي يؤمن بها ولا يجحدها، بل يجهر بأنه جاء مصدقا لها، ولكن ذلك لم يكن ولو كان لنقل واشتهر، بل إن الذي نقل واشتهر هو إسلام كثير من أحبار اليهود وعلمائهم، كعبد الله بن سلام وغيره واعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي بشرت به التوراة والإنجيل.
رابعها: إن لفظ التأبيد الذي اعتمدوا عليه فيما نقلوه لا يصح حجة لهم؛ لأنه يستعمل كثيرا عند اليهود معدولا به عن حقيقته، من ذلك ما جاء في البقرة التي أمروا بذبحها: (هذه سنة لكم أبدا) وما جاء في القربان: (قربوا(29/231)
كل يوم خروفين قربانا دائما) مع أن هذين الحكمين منسوخان باعتراف اليهود أنفسهم رغم التصريح فيهما بما يفيد التأبيد.
خامسها: إن نسخ الحكم المؤبد لفظا جائز على الصحيح، فلتكن هاتان العبارتان اللتان اعتمدوا عليهما منسوختين أيضا، وشبهة التناقض تندفع بأن التأبيد مشروط بعدم ورود ناسخ، فإذا ورد الناسخ انتفى ذلك التأبيد.(29/232)
2 - شبهة النصارى:
يقولون إن المسيح عليه السلام قال: (السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول) وهذا يدل على امتناع النسخ سمعا وندفع هذه الشبهة أولا: بأنا لا نسلم أن الكتاب الذي بأيديهم هو الإنجيل الذي أنزل على عيسى، وإنما هو قصة تاريخية وضعها بعض المسيحيين يبين فيها حياة المسيح وولادته ونشأته ودعوته. . . إلخ. ورغم أنها قصة فقد عجزوا عن إقامة الدليل على صحتها وعدالة كاتبها وأمانته وضبطه، كما أعياهم اتصال السند وسلامته من الشذوذ والعلة. بل ثبت علميا تناقض نسخ هذه القصة التي أسموها الإنجيل، مما يدل على أنها ليست من عند الله، وصدق الله في قوله في القرآن الكريم: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (1)
ثانيا: إن سياق هذه الكلمة في إنجيلهم يدل على أن مراده بها تأييد تنبؤاته، وتأكيد أنها ستقع لا محالة، أما النسخ فلا صلة لها به نفيا ولا إثباتا.
ثالثا: إن هذه الجملة على التسليم بصحتها وصحة رواتها وكتابها الذي جاءت فيه لا تدل على امتناع النسخ مطلقا، وإنما تدل على امتناع نسخ شيء من شريعة المسيح فقط فشبهتهم على ما فيه قاصرة قصورا بينا عن مدعاهم.
__________
(1) سورة النساء الآية 82(29/232)
3 - شبهة العيسوية:
يقول هؤلاء اليهود أتباع أبي عيسى الأصفهاني: لا سبيل إلى إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى قد أيده بالمعجزات الكثيرة القاهرة(29/232)
ولأن التوراة قد بشرت بمجيئه ولا سبيل أيضا إلى القول بعموم رسالته؛ لأن ذلك يؤدي إلى انتساخ شريعة إسرائيل بشريعته. وشريعة إسرائيل مؤبدة بدليل ما جاء في التوراة من مثل. " هذه شريعة مؤبدة عليكم ما دامت السماوات والأرض " وإنما هو رسول إلى العرب خاصة. وعلى هذا فالخلاف بينهم وبين من سبقهم أن دعواهم مقصورة على منع انتساخ شريعة موسى بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وشبهتهم التي ساقوها متكافئة مع دعواهم هذه، ويفهم من اقتصارهم على هذا أنهم يجوزون تناسخ الشرائع سمعا فيما عدا هذه الصورة. وندفع شبهتهم هذه بأمرين:
أولهما: إن دليلهم الذي زعموه هو دليل العنانية والشمعونية من قبلهم وقد أشبعناه تزييفا وتوهينا بالوجوه التي أسلفناها آنفا فالدفع هنا هو عين الدفع هناك فيما عدا الوجه الأول.
ثانيهما: إن اعترافهم بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول أيده الله بالمعجزات وجاءت البشارة به في التوراة يقضي عليهم لا محالة أن يصدقوه في كل ما جاء به، ومن ذلك أن رسالته عامة وأنها ناسخة للشرائع قبله حتى شريعة موسى نفسه الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم «لو كان أخي موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي (1) » أما أن يؤمنوا برسالته ثم لا يصدقوه في عموم دعوته، فذلك تناقض منهم لأنفسهم ومكابرة للحجة الظاهرة لهم.
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (3/387) ، سنن الدارمي المقدمة (435) .(29/233)
4 - شبهة أبي مسلم:
النقل عن أبي مسلم مضطرب: فمن قائل: إنه يمنع وقوع النسخ سمعا على الإطلاق، ومن قائل: إنه ينكر وقوعه في شريعة واحدة، ومن قائل: إنه ينكر وقوعه في القرآن خاصة، ورجحت هذه الرواية الأخيرة بأنها أصح الروايات، وبأن التأويلات المنقولة عنه لم تخرج عن حدود ما نسخ من القرآن، وأبعد الروايات عن الرجل هي الرواية الأولى؛ لأنه لا يعقل أن مسلما فضلا عن عالم كأبي مسلم ينكر وقوع النسخ جملة، إلا إذا كانت المسألة ترجع إلى التسمية فقط، فإنها تهون حينئذ على معنى أن ما نسميه نحن نسخا يسميه(29/233)
هو تخصيصا بالزمان مثلا، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين. قال التاج السبكي: (إن أبا مسلم لا ينكر وقوع المعنى الذي نسميه نحن نسخا، ولكنه يتحاشى أن يسميه باسمه، ويسميه تخصيصا) اهـ.
وقد احتج أبو مسلم بقوله سبحانه: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (1) وشبهته في الاستدلال أن هذه الآية تفيد أن أحكام القرآن لا تبطل أبدا، والنسخ فيه إبطال لحكم سابق. وندفع مذهب أبي مسلم وشبهته بأمور أربعة. . .
أولها: أنه لو كان معنى الباطل في الآية هو متروك العمل به مع بقاء قرآنيته، لكان دليله قاصرا عن مدعاه؛ لأن الآية لا تفيد حينئذ إلا امتناع نوع خاص من النسخ، وهو نسخ الحكم دون التلاوة، فإنه وحده هو الذي يترتب عليه وجود متروك العمل في القرآن، أما نسخ التلاوة مع الحكم، أو مع بقائه، فلا تدل الآية على امتناعه بهذا التأويل.
ثانيها: إن معنى الباطل في الآية ما خالف الحق، والنسخ حق، ومعنى الآية أن عقائد القرآن موافقة للعقل، وأحكامه مسايرة للحكمة، وأخباره مطابقة للواقع، وألفاظه محفوظة من التغيير والتبديل، ولا يمكن أن يتطرق إلى ساحته الخطأ بأي حال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2) {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (3) وتفسير الآية بهذا المعنى يجعلها أقرب إلى إثبات النسخ ووقوعه منها إلى نفيه وامتناعه؛ لأن النسخ كما تقرر تصرف إلهي حكيم تقتضيه الحكمة وترتبط به المصلحة.
__________
(1) سورة فصلت الآية 42
(2) سورة الحجر الآية 9
(3) سورة الإسراء الآية 105(29/234)
ثالثها: إن أبا مسلم على فرض أن خلافه مع الجمهور لفظي لا يعدو حدود التسمية نأخذ عليه أنه أساء مع الله في تحمسه لرأي قائم على تحاشي لفظ اختاره جلت حكمته، ودفع عن معناه بمثل قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (1) وهل بعد اختيار الله اختيار؟ وهل بعد تعبير الله تعبير؟ .
رابعا: إن هناك فروقا بين النسخ والتخصيص وقد فصلناها فيما سبق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 106(29/235)
الفصل الخامس
تفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم.
يستدل المجيزون للنسخ عقلا القائلون بوقوعه سمعا ببعض الآيات التي وردت فيها الإشارة إلى ذلك إما صراحة أو ضمنا.
فمما أشار إلى النسخ صراحة قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} (1) (البقرة: 106) وما أشار إليه ضمنا قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2) (المائدة: 48) . وقوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (3) (الرعد: 39) ، وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (4) (النحل: 101) فهذه أربع آيات دلت إحداها دلالة صريحة على النسخ بمعنى أنها اشتملت على لفظه ودلت الثلاث الباقية عليه دلالة ضمنية.
وسنستعرض -تتميما للفائدة- ما قاله في تفسيرها بعض المفسرين لزيادة إيضاح المقصود من الاستدلال بها على جواز وقوع النسخ فنبدأ بالآية الأولى وهي آية البقرة (106) حيث يقول تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (5) فنبين أنهم اختلفوا في قراءتها في موضعين:
__________
(1) سورة البقرة الآية 106
(2) سورة المائدة الآية 48
(3) سورة الرعد الآية 39
(4) سورة النحل الآية 101
(5) سورة البقرة الآية 106(29/235)
أحدهما: في قوله {مَا نَنْسَخْ} (1) فإنهم اختلفوا فيه على وجهين فقرأ عبد الله بن عامر الشامي وحده (ما ننسخ) بضم النون وكسر السين. وقرأ الباقون {مَا نَنْسَخْ} (2) بفتح النون والسين.
والموضع الثاني: قوله تعالى {أَوْ نُنْسِهَا} (3) وقد اختلفوا في قراءته على خمسة أوجه بعضها معروف وبعضها شاذ. فقرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه (أو ننساها) . بألف وكذلك قرأ النخعي ومجاهد وعبيد بن عمير وعبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء وقرأها علي رضي الله عنه {أَوْ نُنْسِهَا} (4) بنون مضمون من غير ألف ومن غير همزة وبه قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب الحضرمي وهي أيضا قراءة الحسن وسعيد بن المسيب وقتادة.
وقرأ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (تنساها) بالتاء لقوله عز وجل: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} (5) وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (6) ، وكذلك رواه شبابة عن أبي عمرو بن العلاء البصري وقرأها أبي بن كعب رضي الله عنه (أو ننسك) وحده. وقرأها عطاء بن أبي رباح (أو ننسئها) بياء مهموزة مكان الألف واختلاف هذه القراءة كلها معروفها وشاذها إن صحت الروايات فيها لاختلاف الغرض فتكون هذه الآية نازلة على هذه الوجوه كلها ويكون حكم ما اختلف لفظه واتفق معناه منها كقوله تعالى {فَانْفَجَرَتْ} (7) و" انبجست " وما اختلف لفظه ومعناه منها كقوله تعالى {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (8) بالضاد واتفق معناه: البخيل. و (بظنين) بالظاء ومعناه المتهم (9) ومعنى هذه الآية على قراءة الجماعة أن الله جل ذكره يخبر عن نفسه يقول ما نرفع من حكم آية ونبق تلاوتها أو ننسكها يا محمد لا تحفظ تلاوتها نأت بخير منها لكم أي نأت بآية أخرى هي أصلح لكم وأسهل في التعبد أو نأت بمثلها
__________
(1) سورة البقرة الآية 106
(2) سورة البقرة الآية 106
(3) سورة البقرة الآية 106
(4) سورة البقرة الآية 106
(5) سورة الأعلى الآية 6
(6) سورة الكهف الآية 24
(7) سورة البقرة الآية 60
(8) سورة التكوير الآية 24
(9) الناسخ والمنسوخ للبغدادي ص 57- 60.(29/236)
في العمل وأعظم في الأجر فهذا قول صحيح معروف وقد قيل: إن معناها: ما نرفع من حكم آية وتلاوتها نأت بخير منها أي أصلح لكم منها: وقال ابن زيد: إنساؤها محوها وتركها (1) .
فأما قراءة من قرأ (أو ننساها) بالألف والنون فمعناه نؤخرها ويقال نسأت إذا أخرت ومنه قوله تعالى {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} (2) وإنما أراد به تأخيرهم الوقوف بعرفة عن ذي الحجة في كل عام بعشرة أيام ليقع حجهم أبدا في الربيع ويقال: أنسأت الشيء أنسأ، والنسيء اسم وضع موضع المصدر، ونسأ الله في أجله، وأنسأ الله أجله، أي أخره، وفي الحديث «من أحب أن ينسأ الله في أجله فليصل رحمه (3) » والنسأ التأخير وفي حديث عمر (ارموا فإن الرمي عدة، فإذا رميتم فانتسئوا عن البيوت) أي تأخروا عن البيوت. والمنسأة العصا لأنه يوخز بها الدابة يقال: نسأت الدابة إذا ضربتها بالمنسأة. قلت: ومنه قوله تعالى في عصا سليمان عليه السلام {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} (4) ونسأت اللبن إذا جعلت فيه الماء ليكثر وهو النسوء وامرأة نسوء إذا كان مظنونا بها الحمل ونسوة نساء وإنما قيل لها نسوء؛ لأن الحمل زيادة فيها وإنما قيل نسأت اللبن؛ لأن الماء زيادة فيه.
والتأخير زيادة في أجل الشيء ومدته فقوله (ننسأها) معناها نؤخرها كما بينا ومن قرأ {نُنْسِهَا} (5) بضم النون وكسر السين فمعناه ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما (كان القرآن ينزل فيثبت الله منه ما يشاء وينسخ منه ما يشاء وعنده أم الكتاب) .
ومن قرأ (أو تنساها) بالتاء أو قرأ (أو ننسك) أراد به نسيان النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النسيان جائز عليه في صفته وغير جائز في صفة الله تعالى، ومن قرأها بياء مهموزة بدل الألف أراد به التأخير أيضا لأنه قرأها بالإمالة (6) .
__________
(1) الإيضاح ص62.
(2) سورة التوبة الآية 37
(3) صحيح البخاري البيوع (2067) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2557) ، سنن أبو داود الزكاة (1693) ، مسند أحمد بن حنبل (3/247) .
(4) سورة سبأ الآية 14
(5) سورة البقرة الآية 106
(6) الناسخ والمنسوخ ص 61 - 62.(29/237)
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (1) ما نبدل من آية. وقال ابن جريج عن مجاهد: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (2) أي ما نمحو من آية. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (3) قال: نثبت خطها ونبدل حكمها. حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية محمد بن كعب القرظي نحو ذلك. وقال الضحاك {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (4) ما ننسك. وقال عطاء أما {مَا نَنْسَخْ} (5) فما نترك من القرآن. وقال ابن أبي حاتم يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم وقال السدي {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (6) نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم: يعني قبضها رفعها مثل قوله (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) وقوله «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا (7) » وقال ابن جرير {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (8) ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها وكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة. وأما علماء الأصول فاختلفت عبارتهم في حد النسخ، والأمر في ذلك قريب؛ لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أنه رفع الحكم بدليل شرعي متأخر فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله ولم يشأ رحمه الله أن يتوسع في تفصيل ذلك فقال وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه. ثم قال: وقوله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (9) يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها وقال عطية العوفي: أو ننسأها نؤخرها فلا ننسخها. وقال السدي مثله أيضا، وكذا الربيع بن أنس وقال الضحاك: (ما ننسخ من آية أو ننسأها) يعني الناسخ من المنسوخ. وقال أبو العالية: (ما ننسخ من آية أو ننسأها) نؤخرها
__________
(1) سورة البقرة الآية 106
(2) سورة البقرة الآية 106
(3) سورة البقرة الآية 106
(4) سورة البقرة الآية 106
(5) سورة البقرة الآية 106
(6) سورة البقرة الآية 106
(7) صحيح البخاري الرقاق (6439) ، صحيح مسلم الزكاة (1048) ، سنن الترمذي الزهد (2337) ، مسند أحمد بن حنبل (3/122) ، سنن الدارمي الرقاق (2778) .
(8) سورة البقرة الآية 106
(9) سورة البقرة الآية 106(29/238)
عندنا. وروى ابن جرير عن الحسن أنه قال في قوله {أَوْ نُنْسِهَا} (1) إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه وعن قتادة أيضا أنه قال: كان الله عز وجل ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء.
وقوله تعالى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (2) أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} (3) يقول: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وقال أبو العالية: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (4) فلا نعمل بها (أو ننساها) أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها. وقال السدي {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (5) يقول: نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه. وقال قتادة {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (6) يقول آية فيها رخصة فيها أمر فيها نهي (7) اهـ.
وقال الإمام أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره (زاد المسير) : قوله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (8) سبب نزولها أن اليهود قالت لما نسخت القبلة: إن محمدا يحل لأصحابه إذا شاء ويحرم عليهم إذا شاء فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: النسخ في اللغة إبطال شيء وإقامة آخر مقامه تقول العرب: نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله وفي المراد بهذا النسخ ثلاثة أقوال: أحدها: رفع اللفظ والثاني: تبديل الآية بغيرها رويا عن ابن عباس، والأول قول السدي والثاني قول مقاتل، والثالث: رفع الحكم مع بقاء اللفظ رواه مجاهد عن أصحاب ابن مسعود وقال أبو العالية: وقرأ ابن عامر (ما ننسخ) بضم النون وكسر السين. قال أبو علي: أي ما نجده منسوخا كقولك: أحمدت فلانا أي وجدته محمودا وإنما يجده منسوخا بنسخه إياه. قوله تعالى {أَوْ نُنْسِهَا} (9) قرأ ابن كثير وأبو عمرو (ننسأها) بفتح النون مع الهمزة والمعنى نؤخرها. قال أبو زيد: نسأت الإبل عن الحوض فأنا أنسأها إذا أخرتها، ومنه النسيئة في البيع وفي معنى نؤخرها ثلاثة أقوال: أحدها: نؤخرها عن
__________
(1) سورة البقرة الآية 106
(2) سورة البقرة الآية 106
(3) سورة البقرة الآية 106
(4) سورة البقرة الآية 106
(5) سورة البقرة الآية 106
(6) سورة البقرة الآية 106
(7) تفسير ابن كثير ج1 ص 149-15.
(8) سورة البقرة الآية 106
(9) سورة البقرة الآية 106(29/239)
النسخ فلا ننسخها قاله الفراء. والثاني: نؤخر إنزالها فلا ننزلها ألبتة. والثالث: نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها حكاهما أبو علي الفارسي. وقرأ سعد بن أبي وقاص (تنسها) بتاء مفتوحة ونون وقرأ سعيد بن المسيب والضحاك (تنسها) بضم التاء وقرأ نافع (أو ننسها) بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة أراد (أو ننسكها) من النسيان. قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} (1) قال ابن عباس بألين منها وأيسر على الناس. قوله تعالى {أَوْ مِثْلِهَا} (2) أي في الثواب والمنفعة فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار. اهـ (3) وجاء في تفسير العلامة أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم) في تفسير هذه الآية قوله رحمه الله: ما ننسخ من آية أو ننسها. كلام مستأنف مسوق لبيان سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاغين فيه إثر تحقيق حقيقة الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا، قيل: نزلت حين قال المشركون أو اليهود: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه. والنسخ في اللغة الإزالة والنقل يقال: نسخت الريح الأثر أي أزالته، ونسخت الكتاب أي نقلته، ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بهما جميعا.
وإنساؤها إذهابها من القلوب و (ما) شرطية جازمة (لننسخ) منتصبة به على المفعولية، وقرئ (ننسخ من انسخ) أي: نأمرك أو جبريل بنسخها أو تجدها منسوخة، وننسأها من النسيء أي نؤخرها، وننسها بالتشديد وتنسها وتنسها على خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم مبنيا للفاعل وللمفعول، وقرئ (ما ننسخ من آية أو ننسكها) وقرئ (ما ننسك من آية أو ننسخها) والمعنى: عن كل آية نذهب بها على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إزالة لفظها أو حكمها أو كليهما معا إلى بدل أو إلى غير بدل.
__________
(1) سورة البقرة الآية 106
(2) سورة البقرة الآية 106
(3) زاد المسير ج1 ص107 - 108.(29/240)
{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} (1) أي نوع آخر هو خير للعباد، وبحسب الحال في النفع والثواب من الذاهبة، وقرئ بقلب الهمزة ألفا {أَوْ مِثْلِهَا} (2) أي فيما ذكر من النفع والثواب وهذا الحكم غير مختص بنسخ الآية التامة فما فوقها بل جار فيما دونها أيضا، وتخصيصها بالذكر باعتبار الغالب. والنص كما ترى دال على جواز النسخ، كيف لا وتنزيل الآيات التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية إنما هو بحسب ما يقتضيه من الحكم والمصالح، وذلك يختلف باختلاف الأحوال ويتبدل حسب تبدل الأشخاص والأبصار كأحوال المعاش فرب حكم تقتضيه الحكمة في حال تقتضي في حال أخرى نقيضه، فلو لم يجز النسخ لاختل ما بين الحكمة والأحكام من النظام. اهـ (3) وقال العلامة الشوكاني في تفسيره (فتح القدير) في معرض تفسيره لهذه الآية بعد أن عدد وجوه القراءات في {نُنْسِهَا} (4) وقرأ الباقون {نُنْسِهَا} (5) بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها ومنه قوله تعالى {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} (6) أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وحكى الأزهري أن معناه نأمر بتركها، يقال: أنسيته الشيء أي أمرته بتركه ونسيته تركته ومنه قول الشاعر:
إن علي عقبة أقضيها ... لست بناسيها ولا منسيها
أي ولا آمر بتركها. وقال الزجاج: إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك. لا يقال أنسي بمعنى ترك، قال: وما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {أَوْ نُنْسِهَا} (7) قال: نتركها لا نبدلها فلا يصح. والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى {أَوْ نُنْسِهَا} (8) نبح لكم تركها، من نسي إذا ترك ثم تعديه، ومعنى {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (9) نأت بما هو أنفع للناس منها في العاجل والآجل أو في أحدهما أو بما هو مماثل لها من غير زيادة، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ، فقد يكون الناسخ أخف فيكون
__________
(1) سورة البقرة الآية 106
(2) سورة البقرة الآية 106
(3) تفسير أبي السعود ج1 ص 233- 234.
(4) سورة البقرة الآية 106
(5) سورة البقرة الآية 106
(6) سورة التوبة الآية 67
(7) سورة البقرة الآية 106
(8) سورة البقرة الآية 106
(9) سورة البقرة الآية 106(29/241)
أنفع لهم في العاجل، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر فيكون أنفع لهم في الآجل، وقد يستويان فتحصل المماثلة. وقوله {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) يفيد أن النسخ من مقدوراته وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية. وهكذا قوله {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) أي له التصرف في السماوات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها وشرعها لهم، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص، وهذا صنع من لا ولي لهم غيره ولا نصير سواه، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال. ثم قال رحمه الله في آخر تفسيره لهذه الآية: وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس: «أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة (أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا (3) » ثم نسخ. وهكذا ثبت في مسلم وغيره، عن أبي موسى قال: كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها (ولو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ جوفه إلا التراب) وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات أولها (سبح لله ما في السماوات) فأنسيناها غير أني حفظت منها (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة) وقد روي مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر (4) اهـ.
__________
(1) سورة البقرة الآية 106
(2) سورة البقرة الآية 107
(3) صحيح البخاري المغازي (4091) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (677) ، سنن النسائي كتاب التطبيق (1077) ، مسند أحمد بن حنبل (3/215) .
(4) فتح القدير للشوكاني ج1 ص 125-127.(29/242)
وقال العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تفسيره الموسوم (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) عند تفسيره لهذه الآية: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (2) النسخ هو النقل، فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم
__________
(1) سورة البقرة الآية 106
(2) سورة البقرة الآية 107(29/242)
مشروع إلى حكم آخر أو إلى إسقاطه وكان اليهود ينكرون النسخ ويزعمون أنه لا يجوز، وهو مذكور عندهم في التوراة، فإنكارهم له كفر وهوى محض، فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ فقال: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (1) أي ننسها العباد فنزيلها من قلوبهم، نأت بخير منها وأنفع لكم {أَوْ مِثْلِهَا} (2) فدل على أن النسخ لا يكون لأقل مصلحة لكم من الأول؛ لأن فضله تعالى يزداد خصوصا على هذه الأمة التي سهل عليها دينها غاية التسهيل، وأخبر أن من قدح في النسخ قدح في ملكه وقدرته، فقال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (3) {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (4) فإذا كان مالكا لكم متصرفا فيكم تصرف المالك البر الرحيم في أقداره وأوامره ونواهيه، فكما أنه لا حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من أنواع التقادير، كذلك لا يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الأحكام، فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية فما له والاعتراض، وهو أيضا ولي عباده فيتولاهم في تحصيل منافعهم وينصرهم في دفع مضارهم، فمن ولايته لهم أن يشرع لهم من الأحكام ما تقتضيه حكمته ورحمته بهم. ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ عرف بذلك حكمة الله ورحمته عباده وإيصالهم إلى مصالحهم من حيث لا يشعرون بلطفه (5) اهـ.
2 - والآية الثانية التي سنذكر ما قاله بعض المفسرين في تفسيرها مما استدلوا به على جواز وقوع النسخ هي قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (6) الآية.
وشاهدنا منها قوله عز وجل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (7) قال ابن
__________
(1) سورة البقرة الآية 106
(2) سورة البقرة الآية 106
(3) سورة البقرة الآية 106
(4) سورة البقرة الآية 107
(5) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ج1 ص58.
(6) سورة المائدة الآية 48
(7) سورة المائدة الآية 48(29/243)
الجوزي رحمه الله في تفسيره عند كلامه على هذه الآية وللمفسرين في معنى الكلام قولان: أحدهما: لكل ملة جعلنا شرعة ومنهاجا فلأهل التوراة شريعة ولأهل الإنجيل شريعة ولأهل القرآن شريعة. هذا قول الأكثرين. قال قتادة: الخطاب للأمم الثلاث أمة موسى وعيسى وأمة محمد فللتوراة شريعة وللإنجيل شريعة وللفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء بلاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به الرسل. والقول الثاني: إن المعنى لكل من دخل في دين محمد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا. هذا قول مجاهد (1) .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2) وقال ابن أبي حاتم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سبيلا وعنه أيضا " منهاجا " قال سنة. وكذا رواه العوفي عن ابن عباس {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (3) سبيلا وسنة وكذا روي عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحاق السبيعي أنهم قالوا في قوله: {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (4) أي سبيلا وسنة. إلى أن قال رحمه الله بعد أن نقل قولا حكاه ابن جرير عن مجاهد: إن المخاطب بهذه الآية هذه الأمة، ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا أي هو لكم كلكم تقتدون به. . . إلخ. قال: (والصحيح القول الأول) ويعني به ما قاله قبل ذلك من أن هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد، ويدل على ذلك قوله تعالى بعده: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (5) فلو كان هذا الخطاب لهذه الأمة لما صح أن يقول {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (6) وهم أمة واحدة ولكن هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها، ولكنه تعالى شرع
__________
(1) زاد المسير ج2 ص 372- 373.
(2) سورة المائدة الآية 48
(3) سورة المائدة الآية 48
(4) سورة المائدة الآية 48
(5) سورة المائدة الآية 48
(6) سورة المائدة الآية 48(29/244)
لكل رسول شريعة على حدة ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم (1) اهـ.
وقال العلامة الشوكاني في تفسير هذه الآية: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2) الشرعة والشريعة في الأصل: الطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى الماء ثم استعملت فيما شرعه الله لعباده من الدين. والمنهاج: الطريقة الواضحة البينة. وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد. الشريعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستمر ومعنى الآية أنه جعل التوراة لأهلها والإنجيل لأهله والقرآن لأهله وهذا قبل نسخ الشرائع السابقة بالقرآن وأما بعده فلا شرعة ولا منهاج إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم (3) اهـ.
وقال العلامة ابن سعدي في تفسيره لهذه الآية {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ} (4) أيها الأمم {شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (5) أي سبيلا وسنة وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان فإنها لا تختلف فتشرع في جميع الشرائع (6) اهـ.
وقال صاحب تفسير المنار محمد رشيد رضا رحمه الله في تفسيره عند كلامه على هذه الآية {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (7) فهذه الجملة بيان لتعليل الأمر والنهي قبلها أي لكل رسول أو كل أمة منكم أيها المسلمون والكتابيون أو أيها الناس جعلنا شريعة أوجبنا عليهم إقامة أحكامها وطريقا للهداية فرضنا عليهم سلوكه لتزكية أنفسهم وإصلاحها؛ لأن الشرائع العملية وطرق التزكية الأدبية تختلف باختلاف أحوال الاجتماع واستعداد البشر،
__________
(1) تفسير ابن كثير ج2 ص 66.
(2) سورة المائدة الآية 48
(3) فتح القدير ج2 ص48.
(4) سورة المائدة الآية 48
(5) سورة المائدة الآية 48
(6) تيسير الكريم الرحمن ج2 ص141.
(7) سورة المائدة الآية 48(29/245)
وإنما اتفق جميع الرسل في أصل الدين وهو توحيد الله وإسلام الوجه له بالإخلاص والإحسان. ثم استعرض معاني الشرعة والمنهاج في اللغة واستعرض ما أخرجه غير واحد من رواة التفسير المأثور في تفسير الآية إلى أن قال رحمه الله: وظاهر من قول قتادة أن الشريعة أخص من الدين إن لم تكن مباينة له وأنها الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ لاحقها سابقها وأن الدين هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء (1) اهـ.
3 - الآية الثالثة التي نريد استعراض أقوال بعض المفسرين في تفسيرها مما استدلوا به على جواز وقوع النسخ هي قوله تعالى في سورة الرعد آية 39 {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (2) فقد قال أبو الفرج بن الجوزي عند تفسيره لهذه الآية: قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (3) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويثبت ساكنة الثاء خفيفة الباء. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي (ويثبت) مشددة الباء مفتوحة الثاء قال أبو علي: المعنى ويثبته فاستغنى بتعدية الأول من الفعلين عن تعدية الثاني.
واختلف المفسرون في المراد بالذي يمحو ويثبت على ثمانية أقوال، ثم مضى رحمه الله يعدد تلك الأقوال الثمانية وكلها لا صلة لها بمبحثنا إلا الثاني منها فهو المتعلق بموضوعنا حيث قال: والثاني أنه الناسخ والمنسوخ فيمحو المنسوخ ويثبت الناسخ روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والقرظي وابن زيد وقال ابن قتيبة يمحو الله ما يشاء أي ينسخ من القرآن ما يشاء ويثبت أي يدعه ثابتا لا ينسخه وهو المحكم (4) اهـ.
وقال الحافظ أبو الفداء بن كثير في تفسيره عند كلامه على هذه الآية
__________
(1) تفسير المنار ج6 ص413.
(2) سورة الرعد الآية 39
(3) سورة الرعد الآية 39
(4) زاد المسير ج4 ص 337.(29/246)
يمحو الله ما يشاء منها، أي من الكتب المنزلة من السماء من عند الله حيث نقل في تفسيره للآية التي قبلها وهي قوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (1) قول الضحاك بن مزاحم: أي لكل كتاب أجل يعني لكل كتاب أنزله من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين فلهذا يمحو الله ما يشاء منها ويثبت يعني حتى نسخت بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه، ثم أورد رحمه الله اختلافات المفسرين في تفسير الآية التي نحن بصددها إلى أن قال: ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء. ثم مضى بعد ذلك إلى أن قال: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يمحو الله ما يشاء ويثبت يقول يبدل ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (2) وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب.
وقال قتادة في قوله يمحو الله ما يشاء ويثبت كقوله {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (3) (4) الآية اهـ.
وقال أبو السعود في تفسيره لهذه الآية يمحو الله ما يشاء أي ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت ويثبت بدله المصلحة أو يبقيه على حاله غير منسوخ (5) اهـ.
وكذلك أورد الشوكاني في (فتح القدير) ما أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره الذي نقلناه آنفا عن ابن عباس للآية من أن المراد: يبدل ما يشاء فينسخه. . . إلخ. وقد قال في إسناده: وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في المدخل عن ابن عباس ثم حكاه (6) اهـ.
__________
(1) سورة الرعد الآية 38
(2) سورة الرعد الآية 39
(3) سورة البقرة الآية 106
(4) تفسير ابن كثير ج2 ص 519-520.
(5) تفسير أبي السعود ج3 ص232.
(6) فتح القدير ج3 ص89.(29/247)
4 - والآية الرابعة والأخيرة من الآيات التي استدلوا بها على جواز النسخ هي قوله سبحانه {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (1) النحل (101) والمعنى وإذا نسخنا آية بآية إما نسخ الحكم والتلاوة أو نسخ الحكم مع بقاء التلاوة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} (2) من ناسخ ومنسوخ وتشديد وتخفيف فهو عليم بالمصلحة في ذلك {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (3) أي كاذب {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (4) فيه قولان: أحدهما: لا يعلمون أن الله أنزله. والثاني: لا يعلمون فائدة النسخ (5) اهـ.
وقال الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم وأنه لا يتصور منهم الإيمان وقد كتبت عليهم الشقاوة وذلك أنهم إذا رأوا تغير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (6) أي كذاب وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقال مجاهد: {بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} (7) أي رفعناها وأثبتنا غيرها. وقال قتادة هو كقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} (8) الآية (9) وقال العلامة أبو السعود بن محمد العمادي الحنفي في تفسيره عند هذه الآية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} (10) أي إذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} (11) أولا وآخرا وبأن كلا من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن كل وقت له مقتضى غير مقتضى الآخر فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخر مفسدة وبالعكس لانقلاب الأمور الداعية إلى ذلك وما الشرائع إلا مصلحة للعباد في المعاش والمعاد تدور حسبما تدور المصالح. والجملة إما
__________
(1) سورة النحل الآية 101
(2) سورة النحل الآية 101
(3) سورة النحل الآية 101
(4) سورة النحل الآية 101
(5) زاد المسير ج4 ص491.
(6) سورة النحل الآية 101
(7) سورة النحل الآية 101
(8) سورة البقرة الآية 106
(9) تفسير ابن كثير ج2 ص586.
(10) سورة النحل الآية 101
(11) سورة النحل الآية 101(29/248)
معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم. وفي الالتفات إلى الغيبة مع إسناد الخبر إلى الاسم الجليل المستجمع للصفات ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية وقرئ بالتخفيف من الإنزال قالوا أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (1) أي متقول على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وحكاية هذا القول عنهم هاهنا للإيذان بأن ذلك كفرة ناشئة من نزغات الشيطان وأنه وليهم {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (2) أي لا يعلمون شيئا أصلا أو لا يعلمون أن في النسخ حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى الأكثر لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكره عنادا (3) اهـ.
وقال العلامة الشوكاني في تناوله لتفسير هذه الآية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} (4) هذا شروع منه سبحانه في حكاية شبه كفرية ودفعها ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه. وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها وهي نسخها بآية سواها. وقد تقدم الكلام في النسخ في البقرة قالوا أي كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ: إنما أنت يا محمد مفتر أي كاذب مختلق على الله متقول عليه بما لم يقل حيث تزعم أنه أمرك بشيء ثم تزعم أنه أمرك بخلافه فرد الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم فقال {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (5) شيئا من العلم أصلا أو لا يعلمون الحكمة في النسخ فإنه مبني على المصالح التي يعلمها الله سبحانه، فقد يكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره. لو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعرفوا أن ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف ثم بين سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله وأن رسوله صلى الله عليه وسلم افتراه فقال {قُلْ نَزَّلَهُ} (6) أي القرآن المدلول عليه بذكر الآية {رُوحُ الْقُدُسِ} (7) أي جبريل والقدس التطهير والمعنى: نزله الروح المطهر من أدناس البشرية فهو من إضافة
__________
(1) سورة النحل الآية 101
(2) سورة النحل الآية 101
(3) تفسير أبي السعود ج3 ص400-401.
(4) سورة النحل الآية 101
(5) سورة النحل الآية 101
(6) سورة النحل الآية 102
(7) سورة النحل الآية 102(29/249)
الموصوف إلى الصفة من ربك أي ابتداء تنزيله من عنده سبحانه و {بِالْحَقِّ} (1) في محل نصب على الحال أي متلبسا بكونه حقا ثابتا لحكمة بالغة {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} (2) على الإيمان فيقولون: كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا ولأنهم أيضا إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم (3) اهـ.
وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} (4) الآية. يذكر تعالى أن المكذبين بهذا القرآن يتتبعون ما يرونه حجة لهم وهو أن الله تعالى هو الحاكم الحكيم الذي يشرع الأحكام ويبدل حكما مكان آخر لحكمته ورحمته فإذا رأوه كذلك قدحوا في الرسول وبما جاء به و {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (5) قال الله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (6) منهم جهال لا علم لهم بربهم ولا بشرعه. إلى أن قال رحمه الله عند تفسير قوله تعالى بعد ذلك {لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا} (7) عند نزول آياته وتواردها عليهم وقتا بعد وقت فلا يزال الحق يصل إلى قلوبهم شيئا فشيئا حتى يكون إيمانهم أثبت من الجبال الرواسي وأيضا فإنهم يعلمون أنه الحق وإذا شرع حكما من الأحكام ثم نسخه علموا أنه أبدله بما هو مثله أو خير منه لهم وأن نسخه هو المناسب للحكمة الربانية والمناسبة العقلية (8)
__________
(1) سورة النحل الآية 102
(2) سورة النحل الآية 102
(3) فتح القدير ج3 ص194.
(4) سورة النحل الآية 101
(5) سورة النحل الآية 101
(6) سورة النحل الآية 101
(7) سورة النحل الآية 102
(8) تيسير الرحمن ج4 ص 118.(29/250)
الفصل السادس
ما يقع فيه النسخ في القرآن
قال بدر الدين الزركشي في (البرهان) : الجمهور على أنه لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي وزاد بعضهم الأخبار وأطلق وقيدها آخرون بالتي يراد بها الأمر والنهي (1) .
وقال أبو محمد مكي بن أبي طالب القيسي في (الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه) اعلم أنه جائز أن ينسخ الله جل ذكره جميع القرآن بأن يرفعه من صدور عباده ويرفع حكمه بغير عوض وقد جاءت في ذلك أخبار كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم دليله قوله تعالى {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (2) . وقد كان من ذلك بعضه على ما روي من سورة الأحزاب، وإنما يؤخذ ما كان من ذلك من طريق الأخبار والله أعلم بصحته ومنه ما رفع لفظه أن يتلى وبقي حفظه غير متلو على أنه قرآن وثبت حكمه بالإجماع كآية الرجم فالرواية المشهورة أنه كان فيما يتلى (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) فرفع رسم ذلك من المصحف المجمع عليه ولم تثبت تلاوته وبقي حكمه ولم ينس لفظه.
والذي هو عمدة هذا الباب هو ما يزيل الله جل ذكره حكمه ويبدله بغيره من حكم متلو ويبقى المنسوخ متلوا غير معمول به وقد ذكرنا مثاله، أو يزيل حكمه ولفظه بحكم آخر متلو، وهذا كله إنما يجوز في الأحكام والفرائض والأوامر والنواهي والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا فهذا قول عامة العلماء وعليه العمل عند فقهاء الأمصار وهو الذي لا يجوز في النظر غيره، فأما ما لا يجوز نسخه فهو كل ما أخبرنا الله تعالى عنه أنه سيكون أو أنه كان أو وعدنا به أو قص علينا من أخبار الأمم الماضية وما قص علينا من
__________
(1) البرهان ج2 ص23.
(2) سورة الإسراء الآية 86(29/251)
أخبار الجنة والنار والحساب والعقاب والبعث والحشر وخلق السماوات والأرضين وتخليد الكفار في النار والمؤمنين في الجنة هذا كله وشبهه من الأخبار لا يجوز نسخه؛ لأنه يتعالى أن يخبر عن الشيء على غير ما هو به. وكذلك ما أعلمنا به من صفاته لا يجوز في ذلك كله أن ينسخ ببدل منه فأما جواز أن ينسخ ذلك كله بإزالة حفظه من الصدور -ونعوذ بالله من ذلك- فذلك جائز في قدرته تعالى يفعل ما يشاء (1) وقال الزرقاني في مناهل العرفان: إن تعريف النسخ بأنه (رفع حكم شرعي بدليل شرعي) يفيد في وضوح أن النسخ لا يكون إلا في الأحكام وذلك موضع اتفاق بين القائلين بالنسخ لكن في خصوص ما كان من فروع العبادات والمعاملات أما غير هذه الفروع من العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات. . . ومدلولات الأخبار المحضة فلا نسخ فيها على الرأي السديد الذي عليه جمهور العلماء.
أما العقائد فلأنها حقائق صحيحة ثابتة لا تقبل التغير والتبديل فبدهي ألا يتعلق بها نسخ، وأما أمهات الأخلاق فلأن حكمة الله في شرعها ومصلحة الناس في التخلق بها أمر ظاهر لا يتأثر بمرور الزمن ولا يختلف باختلاف الأشخاص والأمم حتى يتناولها النسخ بالتبديل والتغيير. وأما أصول العبادات والمعاملات فلوضوح حاجة الخلق إليها باستمرار لتزكية النفوس وتطهيرها ولتنظيم علاقة المخلوق بالخالق والخلق على أساسهما فلا يظهر وجه من وجوه الحكمة في رفعها بالنسخ.
وأما مدلولات الأخبار المحضة فلأن نسخها يؤدي إلى كذب الشارع في أحد خبرية الناسخ أو المنسوخ وهو محال عقلا ونقلا. أما عقلا فلأن الكذب نقص والنقص عليه تعالى محال. وأما نقلا فلمثل قوله سبحانه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (2) . {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (3) .
__________
(1) الإيضاح ص65، 66.
(2) سورة النساء الآية 122
(3) سورة النساء الآية 87(29/252)
نعم إن نسخ لفظ الخبر دون مدلوله جائز بإجماع من قالوا بالنسخ ولذلك صورتان: إحداهما: أن تنزل الآية مخبرة عن شيء ثم تنسخ تلاوتها فقط.
والأخرى: إن يأمرنا الشارع بالتحدث عن شيء ثم ينهانا أن نتحدث به.
وأما الخبر الذي ليس محضا بأن كان في معنى الإنشاء ودل على أمر ونهي متصلين بأحكام فرعية عملية فلا نزاع في جواز نسخه والنسخ به؛ لأن العبرة بالمعنى لا باللفظ، مثال الخبر بمعنى الأمر {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا} (1) فإن معناه ازرعوا. ومثال الخبر بمعنى النهي قوله سبحانه: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} (2) فإن معناه لا تنكحوا مشركة ولا زانية (بفتح التاء) ولا تنكحوا زانيا ولا مشركا (بضم التاء) لكن على بعض وجوه الاحتمالات دون بعض والفرق بين أصول العبادات والمعاملات وبين فروعها أن فروعها هي ما تتعلق بالهيئات والأشكال والأمكنة والأزمنة والعدد أو هي كمياتها وكيفياتها وأما أصولها فهي ذوات العبادات والمعاملات بقطع النظر عن الكم والكيف.
واعلم أن ما قررناه هنا من قصر النسخ على ما كان من قبيل الأحكام الفرعية العلمية دون سواها هو الرأي السائد الذي ترتاح إليه النفس ويؤيده الدليل وقد نازع في ذلك قوم لا وجه لهم فلنضرب عن كلامهم صفحا.
ويتصل بما ذكرنا أن الأديان الإلهية لا تناسخ بينها فيما بيناه من الأمور التي لا يتناولها النسخ بل هي متحدة في العقائد وأمهات الأخلاق وأصول العبادات والمعاملات وفي صدق الأخبار المحضة فيها صدقا لا يقبل النسخ
__________
(1) سورة يوسف الآية 47
(2) سورة النور الآية 3(29/253)
والنقض (1) اهـ. فالذي يقع عليه النسخ إذا هو الحكم الشرعي العملي الذي لم يلحقه تأبيد ولا توقيت كالأحكام التكليفية من وجوب وندب وإباحة وتحريم وكراهة (2) .
وقال صاحب التقرير والتحبير: (محل النسخ عند الحنفية حكم شرعي فرعي يحتمل في نفسه الوجود والعدم وعند طائفة منهم غير مقيد بتأبيد ولا توقيت قبل مضيه خلافا للآخرين) (3) وقد اتفقت كلمة القائلين بالنسخ المجيزين لوقوعه على عدم وقوعه في الأحكام العقلية كلمة القائلين بالنسخ المجيزين لوقوعه على عدم وقوعه في الأحكام العقلية وهي الأحكام التي يدركها العقل بنور البصيرة ويأتي الشرع مؤيدا لها كالإيمان بواحدانية الله تعالى وحسن الصدق والوفاء بالعهد وقبح الكفر والكذب وإخلاف الوعد (4) .
وفي معرض حديثه عن نسخ الأخبار يقول الآمدي في الإحكام: (إن الخبر إما أن تنسخ تلاوته أو تكليفنا بأن نكون قد كلفنا أن نخبر بشيء فينسخ عنا التكليف بذلك الإخبار) (5) ويقول البدخشي في ذلك أيضا (لا خلاف في أن التكليف بالأخبار بشيء من عقلي أو عادي أو شرعي ثم نسخه بعد ذلك جائز) (6) .
وقد ذهب ابن حزم رحمه الله إلى أن النسخ لا يقع إلا في الأوامر والنواهي فأما الأخبار فلا يقع فيها النسخ إطلاقا ولا يصح أن يقع في مدلول الخبر إلا إن كان المراد من الخبر والأخبار الأمر والنهي. وقد قسم حين تكلم عن نسخ الأخبار الكلام إلى أربعة أقسام أمر ورغبة وخبر واستفهام وبين أن
__________
(1) مناهل العرفان ج2 ص 211- 212.
(2) النسخ في دراسات الأصوليين. د. نادية شريف العمري ص 363.
(3) التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام 3 \ 57.
(4) النسخ في دراسات الأصوليين ص363، 365.
(5) الأحكام للآمدي 3 \ 144.
(6) شرح البدخشي مع شرح الإسنوي على منهاج الأصول للبيضاوي 2 \ 176.(29/254)
القسم الأول هو الذي يقع فيه النسخ أما ما سواه فلا يقع فيها. وقد سمى الرجوع عن الأمر بإحداث أمر غيره نسخا وإذا ورد لفظ الكلام كلفظ الخبر ومعناه معنى الأمر جاز النسخ فيه مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (1) وقوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (2) (3) .
وإذا كان مضمون الخبر مما يتغير جاز نسخه مطلقا وإليه يذهب أبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وهو المختار عند الآمدي، سواء كان ماضيا أو مستقبلا وقد علل هذا الاختيار بقوله: (وذلك لأنه إذا ما دل عليه كان الإخبار متكررا والخبر عام فيه فأمكن أن يكون الناسخ مبينا لإخراج بعض ما تناوله اللفظ وأن المراد بعض ذلك المذكور كما في الأوامر والنواهي) (4) واختار هذا القول ابن تيمية أيضا (5) وذهب فخر الدين الرازي إلى جواز النسخ في مدلول الخبر الذي يتغير. أما أبو الحسين البصري فيجيز نسخ تلاوة الخبر كنسخ تلاوة أخبار التوراة كما يجيز نسخ الابتداء بالخبر نحو أن يأمرنا الله سبحانه أن نخبر عن شيء فيجوز أن ينسخ عنا وجوب الإخبار عنه سواء كان الخبر مما يجوز أن يتغير أو مما لا يجوز أن يتغير كالإخبار عن صفات الله سبحانه؛ لأنه لا يمتنع أن يكون في الإخبار عن ذلك مفسدة كما كان في تلاوة الجنب والحائض للقرآن مفسدة (6) أما ابن أمير الحاج صاحب (التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام) فيقسم مدلول الخبر إلي قسمين:
__________
(1) سورة البقرة الآية 240
(2) سورة آل عمران الآية 97
(3) انظر الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 4 \ 448- 449.
(4) انظر الإحكام للآمدي 3 \ 145.
(5) انظر المسودة لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 197.
(6) المعتمد لأبي الحسين البصري 1 \ 421.(29/255)
الأول: إن ترتب على جواز نسخه الكذب والخلف في حق من لا يجوز عليه ذلك فلا يجوز نسخه ويلحق هذا القسم بالأخبار التي يوجبها العقل في عدم جواز نسخها.
الثاني: أنه إن لم يترتب على نسخه الكذب فلا يكون خبرا ويجوز نسخه.
ولقد لخص ابن أمير الحاج موقف العلماء من وقوع النسخ في الأخبار بقوله:
قال الجمهور: لا يجري النسخ في الأخبار سواء كانت ماضية أو مستقبلة؛ لأن النسخ فيها هو الكذب والشارع منزه عنه والحد فيه أن النسخ لا يجري في واجبات العقل بل في جائزاتها وتحقق المخبر به في خبر من لا يجوز عليه الكذب والخلف من الواجبات والنسخ فيه يؤدي إلى الكذب فلا يجوز. ثم ذكر أن هناك من العلماء من قال بجواز نسخ الأخبار مطلقا سواء كانت ماضية أو مستقبلة وعدا أو وعيدا ونسب هذه القول إلى الإمام الرازي والآمدي إذا كان مدلول الخبر مما يتغير. كما ذكر أن صاحب (كشف الأسرار) قد أسند هذا القول إلى بعض المعتزلة والأشعرية إذا كان مدلوله متكررا والإخبار عنه عاما. وهناك من العلماء من فرق بين أخبار الوعد وأخبار الوعيد فمنع النسخ في خبر الوعد؛ لأن فيه إخلافا في الإنعام والخلف في الإنعام محال على الله تبارك وتعالى. وأما الوعيد ففي جواز وقوع النسخ فيه حكمة بالغة وهو دليل على عفو الله وكرمه لا على خلفه (1) وخلاصة القول فيما يقع فيه النسخ في القرآن الكريم أنه يقع في الأحكام والفرائض والأوامر والنواهي والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا باتفاق عامة العلماء وهو الذي عليه العمل عند فقهاء الأمصار وأما الأخبار فإن لعلماء الأصول في وقوع النسخ فيها من عدمه ثلاثة مذاهب:
__________
(1) التقرير والتحبير 3 \ 55-56.(29/256)
1 - منع نسخها مطلقا.
2 - جواز نسخها مطلقا.
3 - التفصيل في ذلك على الوجه الذي أسلفناه مجملا. .(29/257)
الفصل السابع
أنواع النسخ في القرآن
يقرر الباحثون في علوم القرآن باتفاق أن أنواع النسخ في القرآن الكريم ثلاثة هي:
الأول: ما نسخ رسمه وبقي حكمه كآية الرجم ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لولا أن يقول الناس زاد ابن الخطاب في كتاب الله لكتبت في حاشيته (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) رواه أحمد ومالك في الموطأ وأبو داود. وكذلك آية الرضاع في قول أصحاب الشافعي رحمه الله وقد قالت عائشة رضي الله عنها: (كان فيما أنزل الله تعالى عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات) . رواه مالك في الموطأ ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارمي. فالخمس منها منسوخ الرسم ثابت الحكم عند الشافعي وأصحابه. وقال مالك وأصحاب الرأي بنسخها بالرضعة الواحدة.
والقسم الثاني: ما نسخ حكمه ورسمه معا كالعشر من الرضعات عند الشافعي وأصحابه.
والقسم الثالث: ما نسخ حكمه وبقي رسمه كالآيات المنسوخة أحكامها مع بقاء نظمها في القرآن (1)
__________
(1) الناسخ والمنسوخ للبغدادي ص52-54.(29/257)
وقال الزركشي في البرهان حين كر القسم الأول: (فيعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول) فجعل شرط العمل به أن يكون مجمعا عليه. ثم قال بعد أن أورد خبر عمر رضي الله عنه الذي ذكر أن البخاري رواه في صحيحه معلقا: (وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بن كعب: كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور فكان فيها (الشيخ والشيخة) . . . إلخ. إلى أن قال: وذكر الإمام المحدث أبو الحسين أحمد بن جعفر المنادي في كتابه (الناسخ والمنسوخ) مما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه سورتا القنوت في الوتر قال: ولا خلاف بين الماضين والغابرين أنهما مكتوبتان في المصاحف المنسوبة إلى أبي بن كعب وأنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقرأه إياهما وتسمى سورتي الخلع والحفد. . .) اهـ.
ثم افترض سؤالا هو: ما الحكمة في رفعه التلاوة مع بقاء الحكم وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟ وذكر أن أبا الفرج بن الجوزي قد أجاب على هذا السؤال المفترض في كتابه (فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن) بقوله: إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام والمنام أدنى طرق الوحي.
وقد ذكر الزركشي أن النوع الثاني من الأنواع الثلاثة ورد في ثلاث وستين سورة (1) ثم عاد إلى الأسئلة الافتراضية فقال بعد إيراده بعض الأمثلة على نسخ الحكم وبقاء التلاوة والجواب من وجهين:
أحدهما: إن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيتلى لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
__________
(1) البرهان ج2ص37.(29/258)
وثانيهما: إن النسخ غالبا يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيرا بالنعمة ورفع المشقة وأما حكمة النسخ قبل العمل كالصدقة عند النجوى فيثاب على الإيمان به وعلى نية طاعة الأمر. وعند كلامه على نسخ الحكم والتلاوة معا قال رحمه الله تعليقا على قول عائشة رضي الله عنها في حديث الرضعات: فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن حسب رواية مسلم رحمه الله وقد تكلموا في قولها (وهي مما يقرأ) فإن ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك. فمنهم من أجاب بأن المراد قارب الوفاة. والأظهر أن التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي وبعض الناس يقرؤها.
وقال أبو موسى الأشعري: نزلت ثم رفعت (1) اهـ وعلق على خبر عائشة أيضا مكي بن أبي طالب بقوله: (فهذا قول عائشة غريب في الناسخ والمنسوخ، والناسخ غير متلو والمنسوخ غير متلو وحكم الناسخ قائم) (2) .
وهذه الأنواع الثلاثة التي ذكرناها إنما هي للنسخ في القرآن الكريم من حيث هو بيد أن مكي بن أبي طالب رحمه الله تعالى قد ذكر في (الإيضاح) (3) تقسيما آخر للنسخ باعتبار المنسوخ فأثبت ستة أقسام للمنسوخ من القرآن فيما يلي بيانها:
الأول: ما رفع جل ذكره رسمه من كتابه بغير بدل منه وبقي حفظه في الصدور ومنه الإجماع على ما في المصحف من تلاوته على أنه قرآن وبقي حكمه مجمعا عليه نحو آية الرجم التي تقدم ذكرها.
الثاني: ما رفع الله حكمه من الآي بحكم آية أخرى وكلاهما ثابت في المصحف المجمع عليه متلو وهذا هو الأكثر في المنسوخ ولا يكون في الأخبار
__________
(1) البرهان ج2 ص39.
(2) الإيضاح ص 50.
(3) الإيضاح ص 67-70.(29/259)
على ما قدمنا وقد مضى تمثيله في آية الزواني المنسوخة بالجلد المجمع عليه في سورة النور كلاهما باق متلو كله.
الثالث: ما فرض العمل به لعلة ثم زال العمل به لزوال تلك العلة وبقي متلوا ثابتا في المصحف نحو قوله {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} (1) الآية وقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} (2) {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا} (3) وقوله: {فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} (4) أمروا بذلك كله وفرض عليهم بسبب المهادنة التي كانت بين النبي - عليه الصلاة والسلام- وبين قريش في سنة ست في غزاة الحديبية إذ صدوه عن البيت فلما ذهبت المهادنة وزال وقتها سقط العمل بذلك كله وبقي اللفظ متلوا وثابتا في المصحف الرابع: ما رفع الله رسمه وحكمه وزال حفظه من القلوب. وهذا النوع إنما يؤخذ بأخبار الآحاد وذلك نحو ما روى عاصم ابن بهدلة المقري - وكان ثقة مأمونا- عن زر أنه قال: قال لي أبي: يا زر إن كانت سورة الأحزاب لتعدل سورة البقرة. ومنه ما روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: نزلت سورة نحو سورة براءة ثم رفعت وذكر أنه حفظ منها شيء. يقول مكي: أضربت أنا عن ذكره؛ لأن القرآن لا يؤخذ بالأخبار وقد ذكر من نحو هذا أشياء كثيرة اخترت أنا الإضراب عن نصها إشفاقا والله أعلم بذلك كله.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 11
(2) سورة الممتحنة الآية 10
(3) سورة الممتحنة الآية 10
(4) سورة الممتحنة الآية 11(29/260)
الخامس: ما رفع الله -جل ذكره- رسمه من كتابه فلا يتلى وأزال حكمه ولم يرفع حفظه من القلوب ومنع الإجماع من تلاوته على أنه قرآن. وهذا أيضا إنما يؤخذ من طريق الأخبار نحو ما ذكرنا من حديث عائشة رضي الله عنها في العشر الرضعات والخمس فالأمة مجمعة على أن حكم العشر غير لازم ولا معمول به عند أحد. وإنما وقع الاختلاف في التحريم برضعة على نص القرآن في قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (1) أو بخمس رضعات على قول عائشة أنها نسخت العشر وكانت مما يتلى وقد ذكرنا هذا.
السادس: ما حصل من مفهوم الخطاب فنسخ بقرآن متلو وبقي المفهوم ذلك منه متلوا نحو قوله {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (2) فهم من هذا الخطاب أن السكر في غير وقت الصلاة جائز فنسخ ذلك المفهوم قوله {فَاجْتَنِبُوهُ} (3) إلى قوله {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (4) فحرم الخمر والسكر مثل الخمر وبقي المفهوم ذلك منه متلوا قد نسخ أيضا بما نسخ ما فهم منه فيكون فيه نسخان: نسخ حكم ظاهر متلو ونسخ حكم ما فهم من متلوه. وكما قسم مكي رحمه الله النسخ باعتبار المنسوخ فقد قسمه أيضا من حيث الناسخ إلى ثلاثة أقسام هي:
الأول: أن يكون الناسخ فرضا نسخ ما كان فرضا ولا يجوز فعل المنسوخ نحو قوله تعالى {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} (5) فرض الله فيها حبس الزانية حتى تموت أو يجعل الله لها سبيلا ثم جعل السبيل بالحدود في سورة النور بقوله {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (6) فكان الأول فرضا فنسخه فرض آخر ولا يجوز فعل الأول المنسوخ وكلاهما متلو مدني.
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) سورة النساء الآية 43
(3) سورة المائدة الآية 90
(4) سورة المائدة الآية 91
(5) سورة النساء الآية 15
(6) سورة النور الآية 2(29/261)
الثاني: أن يكون الناسخ فرضا ونحن مخيرون في فعل الأول وتركه وكلاهما متلو وذلك نحو قوله تعالى {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا} (1) ففرض الله على الواحد المؤمن ألا ينهزم لعشرة من المشركين ثم نسخ ذلك بقوله {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} (2) ففرض على الواحد المؤمن ألا ينهزم لاثنين من المشركين فنسخ فرض فرضا وكلاهما متلو ولو وقف الواحد لعشرة من المشركين فأكثر لجاز فنحن مخيرون في فعل المنسوخ وتركه.
الثالث: أن يكون الناسخ أمر بترك العمل بالمنسوخ الذي كان فرضا من غير بدل ونحن مخيرون في فعل المنسوخ وتركه وفعله أفضل وذلك كنسخ الله-جل ذكره- قيام الليل وقد كان فرضا فنسخه بالأمر بالترك تخفيفا ورفقا بعباده ونحن مخيرون في قيام الليل وتركه وفعله أفضل وأشرف وأعظم أجرا. ثم ذكر مكي أن قوما قد زادوا في أقسام الناسخ قسما رابعا وهو أن يكون الناسخ فرضا نسخ ما كان ندبا غير فرض كالقتال كان ندبا ثم صار فرضا (3)
__________
(1) سورة الأنفال الآية 65
(2) سورة الأنفال الآية 66
(3) الإيضاح ص 72-76.(29/262)
آراء العلماء في أنواع النسخ
أما نسخ التلاوة والحكم معا فمما اتفق عليه سائر مجيزي النسخ. وأما نسخ الحكم وبقاء التلاوة فهو رأي الجمهور ومنعه بعض المعتزلة لعدم إدراكهم الحكمة في ذلك. وأما نسخ التلاوة مع بقاء الحكم فهو رأي الجمهور أيضا مع خلاف بعض المعتزلة. كما خالف رأي الجمهور أيضا في هذا النوع الشيخ محمد الخضري في كتابه (الأصول) حيث يقول: أنا لا أفهم معنى آية(29/262)
أنزلها الله لتفيد حكما ثم يرفعها مع بقاء حكمها فما هي المصلحة في رفع آية مع بقاء حكمها؟ إن ذلك غير مفهوم. وفي رأيي ليس هناك ما يلجئني إلى القول به ثم قال (وحجة الجمهور أخبار آحاد لا يقوم برهانا على ذلك) وقد رد صاحب كتاب (دراسات في الإحكام والنسخ في القرآن الكريم) الشيخ محمد حمزة على استشكال الخضري بعد إيراده له بقوله: حجة الجمهور أحاديث صحيحة مشهورة لا يبعد أن يدعى تواترها. كما قال شارح مسلم الثبوت وهي تكفي حجة في كل حكم شرعي بل إن آية الرجم ثابتة بالتواتر؛ لأن الإجماع ظاهرها وليس بعد ذلك قول لقائل؛ لأن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعلن ذلك على المنبر على مسمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخالفه أحد، وعدم مخالفة أحد من الصحابة يعد إجماعا سكوتيا (1) كما اختلفوا في الاحتجاج بحديث الرضعات الخمس الذي روته عائشة رضي الله عنها ومثلنا به لما نسخ حكمه وتلاوته معا حيث إنه آحاد وإذا كان كذلك فإنه لا يثبت به قرآن ناسخا أو منسوخا. وإذا لم يثبت به قرآن فهل يجوز الاحتجاج به أم لا؟ قولان. فالشافعية قالوا نعم والأحناف قالوا: لا (2) وقال الذين يرون الاحتجاج به أنه قد عمل به من الصحابة ابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهما وعمل به من الأئمة الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى (3) .
__________
(1) دراسات في الإحكام والنسخ ص124.
(2) دراسات في الإحكام والنسخ ص125.
(3) النسخ في دراسات الأصوليين ص508.(29/263)
الفصل الثامن
أمثلة للنسخ وما قيل إنه نسخ وليس بنسخ
أولا: أمثلة للنسخ:
1 - قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} (1) منسوخة قيل بآية المواريث وقيل بحديث «ألا لا وصية لوارث (2) » وقيل بالإجماع حكاه ابن العربي.
2 - قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} (3) منسوخة بقوله تعالى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (4) أخرجه ابن جرير عن عطاء بن ميسر.
3 - قوله تعالى {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} (5) منسوخة بقوله بعده {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (6) .
4 - قوله تعالى {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} (7) منسوخة بقوله سبحانه {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (8) .
5 - قوله تعالى {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} (9)
__________
(1) سورة البقرة الآية 180
(2) سنن ابن ماجه الوصايا (2714) .
(3) سورة البقرة الآية 217
(4) سورة التوبة الآية 36
(5) سورة البقرة الآية 284
(6) سورة البقرة الآية 286
(7) سورة النساء الآية 33
(8) سورة الأنفال الآية 75
(9) سورة النساء الآية 15(29/264)
الآية منسوخة بآية النور {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (1) الآية.
6 - قوله تعالى {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} (2) في آية المائدة منسوخة بإباحة القتال فيه.
7 - قوله تعالى {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} (3) الآية منسوخة بالآية بعدها.
8 - قوله تعالى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (4) منسوخة بقولة تعالى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (5) الآية.
9 - قوله تعالى {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (6) منسوخ بقوله {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} (7) .
10 - قوله تعالى {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} (8) منسوخة بآيات العذر كقوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} (9) الآية. وقوله {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} (10) ومنسوخة كذلك بقوله تعالى {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} (11) .
__________
(1) سورة النور الآية 2
(2) سورة المائدة الآية 2
(3) سورة الأنفال الآية 65
(4) سورة المائدة الآية 42
(5) سورة المائدة الآية 49
(6) سورة المائدة الآية 106
(7) سورة الطلاق الآية 2
(8) سورة التوبة الآية 41
(9) سورة النور الآية 61
(10) سورة التوبة الآية 91
(11) سورة التوبة الآية 122(29/265)
11 - قوله تعالى {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} (1) منسوخة بقوله سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} (2) الآية.
12 - قوله تعالى {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} (3) منسوخة بقوله تعالى بعدها {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} (4) الآية.
13 - قوله تعالى {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (5) منسوخة بقوله {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (6) على رأي ابن عباس (7) ثانيا: ما توهم أنه نسخ وليس كذلك.
هناك آيات ذكرها بعض من ألفوا في علم الناسخ والمنسوخ على سبيل التوهم منهم إذ لا يصح أن تكون منسوخة ولا علاقة لها بالنسخ يوجه من الوجوه وسنذكر فيما يلي أمثلة لما توهم أنه نسخ وليس كذلك:
1 - قوله تعالى {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (8) وقوله سبحانه {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} (9) ونحو ذلك. قالوا: إنه منسوخ بآية الزكاة وليس كذلك بل هو باق.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 52
(2) سورة الأحزاب الآية 50
(3) سورة المجادلة الآية 12
(4) سورة المجادلة الآية 13
(5) سورة البقرة الآية 115
(6) سورة البقرة الآية 144
(7) الإتقان ج3ص65- 68.
(8) سورة البقرة الآية 3
(9) سورة الرعد الآية 22(29/266)
أما الأولى فإنها خبر في معرض الثناء عليهم بالإنفاق وذلك يصلح أن يفسر بالزكاة وبالإنفاق على الأهل وبالإنفاق في الأمور المندوبة كالإعانة والإضافة وليس في الآية ما يدل على أنها نفقة واجبة غير الزكاة والآية الثانية يصح حملها على الزكاة وقد فسرت بذلك.
2 - قوله تعالى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} (1) . قيل: إنها مما نسخ بآية السيف وليس كذلك لأنه تعالى أحكم الحاكمين أبدا لا يقبل هذا الكلام النسخ وإن كان معناه الأمر بالتفويض وترك المعاقبة.
3 - قوله تعالى {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (2) عده بعضهم من المنسوخ بآية السيف وقد غلطه ابن الحصار بأن الآية حكاية عما أخذه على بني إسرائيل من الميثاق فهو خبر لا نسخ فيه.
4 - قوله تعالى {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (3) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (4) الآية. وكذلك قوله تعالى {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} (5) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (6) الآية وكذلك قوله تعالى {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (7) وهذه الآيات ليس فيها نسخ وليست من بابه وإنما هي من قبيل التخصيص باستثناء أو غاية. وقد أخطأ من أدخلها في المنسوخ.
5 - وكذلك قوله تعالى {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (8) . قيل: إنه نسخ بقوله {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} (9) . وليس كذلك وإنما هو مخصوص به (10) .
__________
(1) سورة التين الآية 8
(2) سورة البقرة الآية 83
(3) سورة العصر الآية 2
(4) سورة العصر الآية 3
(5) سورة الشعراء الآية 224
(6) سورة الشعراء الآية 227
(7) سورة البقرة الآية 109
(8) سورة البقرة الآية 221
(9) سورة المائدة الآية 5
(10) انظر الإتقان ج3 ص63-64.(29/267)
6 - قوله تعالى {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} (1) . الآية. توهم قوم أن هذا منسوخ بقوله تعالى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (2) . وليس الأمر كذلك وإنما هو على أحد وجهين:
الأول: أن يكون تحريم وطء الحائض نزل قبل إباحة الوطء ليلة الصيام فنزل ذلك وقد استقر في أنفسهم تحريم وطء الحائض فصارت المباشرة المباحة مخصوصة ليل الصوم في غير الحائض من زوجة وأمة.
الثاني: أن يكون تحريم وطء الحائض نزل بعد هذه الآية فتكون مبينة لها ومخصصة أنها في غير ذوات الحيض فلا يجب أن يدخل هذا في الناسخ والمنسوخ (3) وممن وهم في هذا الباب ابن خزيمة في كتابه (الناسخ والمنسوخ) فقد اشتبه عليه التخصيص بالنسخ فعد كثيرا منه نسخا كاعتباره آية {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (4) . الآية منسوخة بالاستثناء كلها؛ لأن الله تعالى حرم جميع ذلك ثم أباحها للمضطر بقوله {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (5) . وهذا تخصيص لا نسخ كما عد الاستثناء في مواضع كثيرة نسخا أيضا مثل ما جاء في قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} (6) {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (7) وهو كسابقه من قبيل التخصيص لا النسخ وقد عقد ابن خزيمة بابا خاصا في كتابه المومى إليه لذكر المنسوخ بالاستثناء فحصر الآيات من هذا القبيل بثلاث وعشرين آية.
__________
(1) سورة البقرة الآية 187
(2) سورة البقرة الآية 222
(3) انظر الإيضاح ص154-155.
(4) سورة النحل الآية 115
(5) سورة النحل الآية 115
(6) سورة البقرة الآية 159
(7) سورة البقرة الآية 160(29/268)
كما عقد بابين في كتابه المذكور أحدهما لذكر الآيات المنسوخة بآية السيف وهي قوله تعالى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (1) فعد في هذا مائة وثلاثا وعشرين آية لا تصح دعوى النسخ في واحدة منها.
قال الإمام الفخر الرازي في التفسير الكبير: وأكثر المفسرين يقولون إن كل ما في القرآن من قوله فأعرض منسوخ بآية القتال. وهو باطل؛ لأن الأمر بالإعراض موافق لآية القتال فكيف ينسخ بها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم في الأول كان مأمورا بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة فلما عارضوه بأباطيلهم أمر بإزالة شبههم والجواب عنها فقيل له {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (2) ثم لما لم ينفع ذلك فيهم قيل له أعرض عنهم ولا تقابلهم بالدليل والبرهان فإنهم لا ينتفعون به وقاتلهم. والإعراض عن المناظرة شرط لجواز المقاتلة فكيف يكون منسوخا بها. والباب الثاني الذي عقده ابن خزيمة في كتابه هو باب ما نسخ من القرآن بآية القتال وذكر فيه تسع آيات لا تصح دعوى النسخ في أي منها كذلك (3) .
ولعل من المناسب بعد أن ذكرنا بعض الأمثلة لما توهم أنه نسخ وليس بنسخ أن نشير بإيجاز إلى أبرز أسباب توهم النسخ فيما توهموه فيه فنقول:
أولا: اشتباه التخصيص بالنسخ عليهم وقد تقدم مثاله.
ثانيا: ظنهم أن ما شرع لسبب ثم زال لزوال سببه من المنسوخ فعدوا الآيات التي وردت في الحث والصبر وتحمل أذى الكفار أيام ضعف المسلمين منسوخة بآيات القتال وليس الأمر كذلك تحقيقا.
__________
(1) سورة التوبة الآية 5
(2) سورة النحل الآية 125
(3) دراسات في الإحكام والنسخ ص190-194 بتصرف.(29/269)
ثالثا: اعتبروا كل قيد لآية من قبيل النسخ كقوله تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} (1) . فعده ابن خزيمة وغيره ناسخا لعموم المشركين في قوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (2) مع أنه تخصيص بالقيد.
رابعا: إدخال كثير من الآيات الخبرية في باب المنسوخ مع أنه لا يجوز نسخ الخبر إلا إذا تضمن حكما شرعيا أما إذا كان خبرا محضا فلا، كما تقدم في موضعه من هذا البحث ومثاله ما قدمناه من اعتبارهم قوله تعالى {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (3) و {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} (4) منسوخا بآية الزكاة وليس كذلك ومثله أيضا قوله تعالى {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} (5) حيث عدها هبة الدين بن سلامة منسوخة بقوله {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (6) وليس كذلك إذ هما خبران محضان لا يجري النسخ فيهما.
خامسا: اشتباه البيان بالنسخ عليهم كقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} (7) حيث عدها هبة الله بن سلامة منسوخة بقوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} (8) الآية. ثم اعتبر هذه أيضا منسوخة بقوله: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (9) حيث قال: فصارت هذه ناسخة لقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} (10) الآية. وليس هذا بنسخ وإنما هو بيان لما ليس بظلم، وببيان ما ليس بظلم يتبين الظلم.
__________
(1) سورة التوبة الآية 6
(2) سورة التوبة الآية 5
(3) سورة البقرة الآية 3
(4) سورة البقرة الآية 254
(5) سورة الشورى الآية 5
(6) سورة غافر الآية 7
(7) سورة النساء الآية 10
(8) سورة البقرة الآية 220
(9) سورة النساء الآية 6
(10) سورة النساء الآية 10(29/270)
سادسا: توهم وجود تعارض بين نصين ولا تعارض بينهما في الحقيقة كتوهم التعارض بين آية الزكاة وآيات الصدقات الواردة في القرآن الكريم مما حدا بابن سلامة في الناسخ والمنسوخ وابن الجوزي في نواسخه أن يقولا: قال أبو جعفر يزيد بن القعقاع: (نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن فصارت آية الزكاة ناسخة لكل صدقة) . مع أنه لا يوجد في الواقع تعارض ولا تناف بين هذه وتلك حيث يصح حمل الإنفاق في آيات الصدقات على ما يشمل الزكاة وصدقة التطوع ونفقة الأهل والأقربين ونحو ذلك وتكون آيات الزكاة من قبيل ذكر فرد من أفراد العام بحكم العام وهذا لا يخصص العام ولا ينسخه وذلك لعدم وجود تعارض حقيقي لا بالنسبة إلى كل فرد من أفراد العام حتى يكون ناسخا ولا بالنسبة إلى بعضها حتى يكون مخصصا (1) .
هذه أبرز أسباب توهم من توهم ما ليس بنسخ نسخا وإلا فإن هناك أسبابا أخرى لا يتسع المجال لذكرها.
__________
(1) دراسات في الإحكام والنسخ للشيخ محمد حمزة ص189-199 بتصرف واختصار.(29/271)
خاتمة البحث
وهكذا يتبين لنا بعد التجوال في ميدان هذا العلم من علوم القرآن الكريم أعني (الناسخ والمنسوخ) أنه علم من آكد العلوم وأوجبها تعلما وحفظا وبحثا وفهما وخاصة لمن أراد أن يخوض غمار تفسير كتاب الله تعالى وأن يغوص في لجته لاستخراج الدرر الثمينة والجواهر النفيسة. بل إنه علم لا يسع كل من تعلق بأدنى علم من علوم الديانة جهله كما قال ذلك مكي بن أبي طالب القيسي رحمه الله تعالى.
وإن مما يدل على عظم شأن هذا العلم وجليل خطره أن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه عداه شرطا لكون الإنسان عالما. وأن أبا يوسف صاحب أبي حنيفة اعتبره شرطا للإفتاء بل قال: إنه لا يحل لأحد أن يفتي حتى يعرفه.
وتبين لنا من خلال بحثنا أن النسخ في اللغة معناه الإزالة والتغيير تقول (نسخت الشمس الظل) أي أزالته (ونسخت الريح آثار الدار) أي غيرتها كما يأتي بمعنى النقل كقولك (نسخت الكتاب) إذا نقلت ما فيه. وهو بهذا دائر في ثلاثة أوجه هي: النقل، والإزالة مع حلول المزيل محل المزال، والإزالة مع عدم حلول المزيل محل المزال فكأنه بمعنى المحو.
وأنه في الاصطلاح (رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر) كما هو عند جمهور المحققين.
وهنالك تعريفات اصطلاحية أخرى للنسخ أثبتناها في موضعها لا تخرج في جملتها عن مضمون هذا التعريف.(29/272)
كما بينا في ثنايا هذا البحث الفرق بين النسخ والتخصيص وقلنا: إن هنالك فروقا سبعة بينهما ذكرناها في موضوعها بالتفصيل مع أمثلتها التي توضحها.
ثم عرجنا على ما يتعلق بشروط النسخ فبينا في الفصل الثالث أن شروط النسخ نوعان: نوع متفق عليه. ونوع مختلف فيه وذكرنا أربعة من الشروط المتفق عليها وسبعة من الشروط المختلف فيها وذكرنا أن صاحب (نظرية النسخ في الشرائع السماوية) قد نقل عن الآمدي في (الأحكام) والزرقاني في (مناهل العرفان) أن الراجح كونه لا داعي لهذه الشروط السبعة المختلف فيها.
ونقلنا عن كل من مكي بن أبي طالب وعبد القاهر بن طاهر البغدادي عددا من الشروط التي يشترطانها لتحقيق النسخ.
ثم انتقلنا إلى استعراض آراء العلماء أفرادا وطوائف في حكم النسخ مع مناقشة تلك الآراء وتفنيد ما تستدعي الحال تفنيده منها وبيان وجه الحق في ذلك مستعرضين أدلة وحجج المجيزين والمانعين له على السواء وقد رأينا أن أدلة المجيزين له هي الأظهر وأن حجتهم هي الأبلغ والأقوى لانطلاقها من كون الله تعالى هو الفعال لما يريد يأمر عباده بما شاء وينهاهم عما يشاء يبقي من أحكامه على ما يشاء وينسخ منها ما يشاء بناء على اختياره ومشيئته وكبريائه وعظمته سبحانه إذ لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ولا ملزم يلزمه جل وعلا.
وقلنا: إن مذهب هؤلاء المنكرين للنسخ هو أخطر المذاهب وأشنعها في هذا الباب وأبعدها عن الحق وأكثرها مجانبة للصواب وولوغا في الباطل.
واتضح لنا أن هنالك إجماعا على جواز النسخ عقلا ووقوعه سمعا لم يخرج عليه سوى من لا يعتد به كالشمعونية إحدى فرق اليهود الثلاث وبعض نصارى هذا الزمان وأبي مسلم الأصفهاني ومن شايعه الذي يرى أن(29/273)
النسخ جائز عقلا ممتنع سمعا في حين يرى بعض النصارى المعاصرين وكذلك الشمعونيون من اليهود استحالة النسخ وامتناعه عقلا وسمعا.
ورأينا كيف يثير المانعون شبها كثيرة تولى العلماء المختصون رحمهم الله ردها وتفنيدها وإبطالها بكل جلد وقوة وعلم.
أما في الفصل الخامس فقد قمنا بتفسير تحليلي للآيات الدالة على النسخ في القرآن الكريم معتمدين في ذلك على النقل عن بعض التفاسير المعتمدة والمعتبرة مشيرين إلى الاختلاف الواقع في قراءة الآية إن وجد موضحين دلالة كل آية منها على النسخ مشيرين إلى الأوجه اللغوية وما حكاه أئمة اللغة وأئمة التفسير معا في إيضاح وبيان معاني تلك الآيات بتفصيل واف لكافة وجوهها وناقشنا بعد ذلك ما يقع فيه النسخ في القرآن الكريم فخلصنا إلى أنه لا يقع إلا في الأوامر والنواهي والأحكام والفرائض والحدود والعقوبات من أحكام الدنيا وهو قول عامة العلماء والذي عليه العمل عند فقهاء الأمصار. وأما الأخبار المحضة وما قص الله علينا من أخبار الجنة والنار والحساب والعقاب والبعث والحشر ونحو ذلك من الأخبار فلا يجوز نسخه؛ لأن الله سبحانه يتعالى أن يخبر عن الشيء على غير ما هو به.
وقد أطلنا في بيان عدم وقوع النسخ في الأخبار المحضة وذكرنا آراء من شذ عن الإجماع فأجاز النسخ في الأخبار سواء من قيد ذلك بما إذا كان مدلول الخبر مما يتغير كالرازي والآمدي. أو من لم يقيد ذلك بشيء بل أجاز وقوعه فيها مطلقا كأبي الحسين البصري.
وفي الفصل السابع من هذا المبحث تناولنا أنواع النسخ في القرآن وتقرر أنها ثلاثة هي:
ما - نسخ تلاوة وبقي حكما.
ما - نسخ تلاوة وحكما.
ما - نسخ حكما وبقي تلاوة.(29/274)
كما استعرضنا تقسيما للنسخ باعتبار آخر هو اعتبار المنسوخ فرأينا أن مكي بن أبي طالب قد عد بهذا الاعتبار ستة أقسام.
وكذلك قسم رحمه الله النسخ باعتبار الناسخ إلى ثلاثة أقسام:
وختمنا هذا الفصل ببيان أراء العلماء في أنواع النسخ حيث اتفق سائر مجيزي النسخ على نسخ التلاوة والحكم معا بينما منع بعض المعتزلة نسخ الحكم وبقاء التلاوة وهو النوع الذي يراه الجمهور وكذلك يرى الجمهور أيضا نسخ التلاوة مع بقاء الحكم في الوقت الذي نجد الشيخ محمد الخضري في كتابه (الأصول) يخالف رأي الجمهور في ذلك قائلا: (إن ذلك غير مفهوم وفي رأيي ليس هناك ما يلجئني إلى القول به) ورد حجة الجمهور في إثبات ذلك النوع بأنها أخبار آحاد لا تقوم برهانا على ذلك.
وقد نقلنا رد الشيخ محمد حمزة في كتابه (دراسات في الإحكام والنسخ) على ما أورده الشيخ الخضري.
وأخيرا ختمنا هذا البحث بإيراد أمثلة للنسخ في كتاب الله تعالى وكذلك لما توهم أنه نسخ وليس بنسخ فذكرنا للنسخ ثلاثة عشر مثالا ولما توهموه نسخا وليس كذلك ستة أمثلة.
وأشرنا إلى أن ابن خزيمة ممن وهم في كتابه (الناسخ والمنسوخ) فأورد شيئا كثيرا مما عده نسخا وليس به لاشتباه التخصيص والاستثناء لديه بالنسخ.
وأنهينا الفصل الثامن والأخير الذي اشتمل على الأمثلة للنسخ الصحيح والنسخ المتوهم بذكر أبرز أسباب توهم النسخ وقد عددنا منها ستة أسباب رئيسة وأشرنا إلى أن الحيز يضيق عن استقصاء جميع أسباب ذلك التوهم.
والخلاصة أن علم الناسخ والمنسوخ أحد علوم القرآن الكريم التي ينبغي العناية بها وأنه غير التخصيص وأن له شروطا وأنواعا وأن الناس قد اختلفوا حوله بين مجيز ومانع وأن ما عليه جمهور العلماء المحقيقين أنه لا يقع إلا في(29/275)
الأمر والنهي لا في الخبر المحض وأن من توهم في النسخ ما ليس منه إنما توهم ذلك بسبب من أسباب عديدة بينها أهل الاختصاص. . .
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
المراجع
1 - كتاب الناسخ والمنسوخ في كتاب الله تعالى لقتادة بن دعامة السدوسي تحقيق د \ حاتم صالح الضامن، الطبعة االثانية 1406هـ الناشر مؤسسة الرسالة.
2 - الناسخ والمنسوخ من كتاب الله عز وجل لهبة الله بن سلامة بن نصر المقري تحقيق زهير الشاويش ومحمد كنعان الطبعة الثانية 1406هـ الناشر المكتب الإسلامي.
3 - الناسخ والمنسوخ للإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي تحقيق د \ حلمي كامل أسعد عبد الهادي. الطبعة الأولى سنة 1407هـ الناشر دار العدوي عمان الأردن.
1 - الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي بن أبي طالب. الطبعة الأولى سنة 1406هـ تحقيق الدكتور أحمد حسن فرحات. الناشر دار المنارة بجدة.
2 - ناسخ القرآن العزيز ومنسوخه لابن البارزي. تحقيق د \ حاتم الضامن. الطبعة الثالثة 1405 هـ مؤسسة الرسالة.
3 - الموافقات للشاطبي. نشر المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
4 - البرهان في علوم القرآن للزركشي. الطبعة الثالثة. نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
5 - الإتقان في علوم القرآن للسيوطي تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. الطبعة الثالثة 1405 هـ. نشر وتوزيع دار التراث بالقاهرة.
6 - مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني. الطبعة الثالثة مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه.
10 - مباحث العرفان في علوم القرآن للشيخ مناع القطان. الطبعة التاسعة عشرة 1406 هـ مؤسسة الرسالة.(29/276)
11 - نظرية النسخ في الشرائع السماوية لشعبان إسماعيل. مطابع الدجوي القاهرة. عابدين.
12 - دراسات في الإحكام والنسخ لمحمد حمزة. الطبعة الأولى. نشر دار قتيبة.
13 - تفسير ابن الجوزي (زاد المسير) الطبعة الثالثة 1404هـ. المكتب الإسلامي.
14 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير نشر دار المعرفة. بيروت. لبنان سنة 1401هـ.
15 - تفسير أبي السعود. الناشر مكتبة الرياض الحديثة سنة 1401هـ نشر وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
16 - فتح القدير للشوكاني. الناشر دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع سنة 1401هـ.
17 - تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار لمحمد رشيد رضا. الطبعة الثانية. الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر. بيروت. لبنان.
18 - تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لابن سعدي. طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد. الرياض سنة 1404هـ.
19 - معجم مقاييس اللغة لابن فارس. تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون. الناشر دار الفكر سنة 1399هـ.
20 - الصحاح للجوهري. الطبعة الثانية 1399هـ. الناشر دار العلم للملايين بيروت.
21 - المصباح المنير للمقري الفيومي. نشر المكتبة العلمية. بيروت. لبنان.
22 - المعجم الوسيط من وضع وإعداد مجمع اللغة العربية بالقاهرة الطبعة الثانية. مطابع دار المعارف بمصر 1393 هـ. توزيع دار الباز بمكة.
23 - التقرير والتحبير على تحرير الكمال بن الهمام.
24 - شرح البدخشي على شرح الإسنوي على منهاج الأصول للبيضاوي. مطبعة محمد علي صبح بمصر.
25 - الإحكام للآمدي. الطبعة الأولى 1378هـ.
26 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم. تحقيق أحمد شاكر. مطبعة العاصمة بالقاهرة.
27 - المسودة لابن تيمية. مطبعة المدني بالقاهرة 1384 هـ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.
28 - المعتمد لأبي الحسين البصري تحقيق محمد حميد الله طبع دمشق 1384 هـ.
29 - النسخ في دراسات الأصوليين. الطبعة الأولى 1405هـ الناشر مؤسسة الرسالة.(29/277)
عبد الله بن حمد بن عبد الله الشبانة.
- من مواليد مدينة المجمعة عام 1367 هـ.
- حصل على شهادة الابتدائية في الرياض عام 1379 هـ.
- تخرج من معهد الرياض العلمي عام 1384 هـ.
- تخرج من كلية اللغة العربية عام 1389هـ.
- عمل بالتدريس في المعاهد العلمية مدة ثلاث سنوات، ثم التحق بديوان الموظفين العام (ديوان الخدمة المدنية - حاليا - عام 1393هـ، ثم التحق بوزارة الإعلام عام 1394هـ، ثم التحق للعمل في مجال الدعوة بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، مديرا لمركز الدعوة والإرشاد بظفار في المنطقة الجنوبية لسلطنة عمان عام 1399هـ ثم مديرا لمركز الدعوة والإرشاد بالفجيرة بدولة الإمارات العربية المتحدة عام 1401هـ، ثم رشح مديرا عاما للرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عام 1403هـ، ثم عين أمينا عاما مساعدا لهيئة كبار العلماء عام 1406هـ وهو عمله الحالي.
له من المؤلفات:
1- كتاب: موجز القول.
2- كتاب: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء.
3- كتاب: خطرات ونظرات.
4- كتاب: المسلمون وظاهرة الهزيمة النفسية.
5- الزفرات الحرى " ديوان شعر ".
6- تحية للوطن " ديوان شعر ".
كما أن له بعض البحوث والمقالات المنشورة في الصحف والمجلات المحلية والإسلامية.(29/278)
مخطوطة
الجواب الفاصل بتمييز
الحق من الباطل
تأليف: شيخ الإسلام ابن تيمية
تحقيق: الدكتور عواد بن عبد الله المعتق (1)
تقديم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فإلى القارئ الكريم فتوى من فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية المولود في 10 وقيل 12 ربيع الأول، وقيل في ذي الحجة سنة 661هـ، بحران، ثم انتقل مع والده إلى دمشق بسبب اجتياح التتار لبلادهم، وفي دمشق نشأ في أسرة تعنى بالعلم، فتعلم ونبغ في كثير من العلوم، وتميز عن كثير من العلماء المعاصرين له بالتزامه طريقة السلف ومحاربته للبدع، كما تميز أنه يجهر بالحق ولا تأخذه في الله لومة لائم.
__________
(1) انظر التعريف بالكاتب في آخر البحث.(29/279)
ولذا تعرض لكثير من الأذى واعتقل عدة مرات حتى أنه توفي في قلعة دمشق سجينا- رحمه الله- ليلة الاثنين لعشرين من شهر ذي القعدة سنة 728هـ وخلف - رحمه الله- مصنفات كثيرة منها هذه الفتوى، وهي: إجابة على سؤال عن رجلين اختلفا في الاعتقاد، فقال أحدهما: من لم يعتقد أن الله في السماء فهو ضال.
وقال الآخر: إن الله سبحانه وتعالى لا يحصر في مكان.
وهما شافعيان. فبينوا لنا ما نتبعه من عقيدة الشافعي - رحمه الله - وما الصواب في ذلك؟ فأجاب بهذه الفتوى المسماة بـ (الجواب الفاصل بتمييز الحق من الباطل) - رحمه الله رحمة واسعة- مؤيدا فتواه بالكتاب والسنة، وأقوال السلف والأئمة رحمة الله عليهم.
ونظرا لأهمية هذه الفتوى وخصوصا في هذا الزمان الذي تكالب فيه أعداء الله على الإسلام والمسلمين بوسائلهم المختلفة، ولأنه لم يسبق تحقيقها؛ لذا رأيت إخراجها للقارئ الكريم مستعينا بالله سبحانه وتعالى ثم متبعا المنهج الآتي:(29/280)
منهج التحقيق:
لقد قمت بالتحقيق معتمدا بعد الله على ثلاث نسخ خطية:(29/280)
الأولى: وقد رمزت لها بحرف (أ) عنوانها: (الجواب الفاصل بين الحق والباطل) مكانها: المكتبة السعودية رقمها 70 \ 86.
تاريخ النسخ: وافق الفراغ من نسخها 16 ذي الحجة سنة 1337هـ وتقع في (10) ورقات =18 صفحة، في الصفحة 18 سطرا. السطر = 9 كلمات.
الثانية: ورمزت لها بحرف (ب) عنوانها: (القول الفاصل بين الحق والباطل) مكانها: مكتبة جامعة الملك سعود ضمن مجموع من ص 126-135، رقمها: 2263 \ 3م. تاريخ النسخ: في القرن الثالث عشر الهجري تقديرا، وتقع في (10) صفحات، في الصفحة: 25 سطرا. السطر= 11 كلمة.
الثالثة: ورمزت لها بحرف (ج) عنوانها: الجواب الفاصل بتمييز الحق من الباطل مكانها: مكتبة جامعة الملك سعود - رقمها: 1639 \ 20م. وتقع ضمن مجموع (من ص 447 - 456) = 10 صفحات - الصفحة 25 سطرا، السطر = 10 كلمات، تم نسخها في 23 شعبان 1350هـ بخط عبد الله بن إبراهيم بن محمد المعروف (بالربيعي) .(29/281)
أما المنهج:
فقد اعتمدت منهج النص الوافي المختار في الأصل وخلافه في الحاشية؛ لأني أبحث عن نص المؤلف- رحمه الله- ففي أي نسخة وجدت النص الوافي الصحيح أثبته في الأصل، وأشرت إلى النسخ الأخرى في الحاشية للتوضيح.
نسبت الآيات القرآنية إلى أماكنها من كتاب الله، كما قمت بتخريج الأحاديث والآثار.
وثقت أقوال الأئمة التي استشهد بها المؤلف بإرجاعها إلى مصادرها أو مصادر أخرى موثوقة.(29/281)
عرفت بالأعلام الواردة في هذه الفتوى.
قمت بالتعليق على بعض الكلمات التي فيها غموض وتحتاج إلى توضيح، كما عرفت بالفرق الواردة.
وأخيرا أسأله تعالى أن يتقبل صوابه ويتجاوز عن خطئه إنه سميع مجيب وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
سئل (1) العالم العلامة تقي الدين أحمد ابن تيمية رحمه الله تعالى عن رجلين اختلفا في الاعتقاد (2) ، فقال أحدهما: من لم يعتقد أن الله في السماء فهو ضال وقال آخر: إن الله سبحانه وتعالى لم ينحصر في مكان، وهما شافعيان (3) ، فبينوا لنا ما نتبعه من عقيدة الشافعي رضي الله عنه وما الصواب في ذلك (4) (أفتونا مأجورين رحمكم الله) (5) فقال: الجواب (6) : الحمد لله اعتقاد الشافعي رضي الله عنه هو اعتقاد سلف الأمة أئمة
__________
(1) وفي (ب) ''ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم في رجلين''.
(2) وفي (ب) (في العقيدة) .
(3) أي على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله.
(4) وفي (ب) (فيه) .
(5) ما بين قوسين زيادة من (ب) .
(6) وفي (ج) (في الجواب) .(29/282)
الإسلام (1) كمالك، والثوري والأوزاعي وابن المبارك، وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشائخ المقتدى بهم كالفضيل
__________
(1) قوله (أئمة الإسلام) زيادة من (ج) .(29/283)
بن عياض، وأبي سليمان الداراني (1) ،، وسهل (2) بن عبد الله التستري وغيرهم، فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة -رحمة الله عليه- فإن الاعتقاد الثابت عنه (3) في التوحيد والقدر ونحو ذلك موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقاد هؤلاء هو ما كان (4) عليه الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب (5) ، والسنة، قال الشافعي - رضي الله عنه- في أول خطبة الرسالة: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه (6) فبين -رحمه الله- أن الله موصوف بما وصف به نفسه في كتابه (7) ، وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- وكذلك قال أحمد بن حنبل رحمه الله: لا يوصف الله إلا
__________
(1) (الداراني) ساقطة من (ب) .
(2) وفي (أ) (عبد الله بن سهيل التستري) والصواب ما هو مثبت، كما في: (ب، ج) وكما في الأعلام 3 \ 143.
(3) (عنه) زيادة من (ب، ج) .
(4) (كان) زيادة من (ب، ج) .
(5) القرآن الكريم.
(6) انظر: الرسالة للشافعي الخطبة ص8.
(7) (و) ساقطة من (ب) .(29/284)
بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا يتجاوز القرآن والحديث (1) ، وكذلك (2) مذهب سائرهم أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما (3) وصفه به رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف (4) ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل بل يثبتون له (5) ما أثبته
__________
(1) انظر لمعة الاعتقاد لابن قدامة ص9.
(2) وفي (ح) (وكذا) .
(3) وفي (أ) (أو وصفه) وما هو مثبت أظهر كما في (ب، ج) .
(4) التحريف لغة: التغيير والتبديل، والمراد به هنا: تغيير ألفاظ الأسماء الحسنى، والصفات، أو معانيها.
(5) (له) زيادة من (ج) .(29/285)
لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العليا ويعلمون أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله فإنه كما أن ذاته ليست كالذوات المخلوقة فصفاته (1) ليست كالصفات المخلوقة بل هو -سبحانه -موصوف بصفات الكمال، منزه عن كل نقص وعيب، وهو -سبحانه (2) وتعالى -في صفات الكمال لا يماثله شيء فهو حي قيوم سميع بصير عليم قدير رءوف رحيم، وهو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما (3) في ستة أيام ثم استوى على العرش، وهو الذي كلم موسى تكليما، وتجلى للجبل فجعله دكا، ولا يماثله شيء من الأشياء (4) في شيء من صفاته، فليس كعلمه علم أحد، ولا كقدرته (5) قدرة أحد ولا كرحمته (6) رحمة أحد ولا كاستوائه استواء أحد، ولا كسمعه وبصره (7) سمع أحد ولا بصر أحد، ولا كتكليمه تكليم (8) أحد، ولا كتجليه تجلي (9) أحد، والله سبحانه قد (10) أخبرنا أن في الجنة لحما
__________
(1) وفي (ب) (وصفاته) ولعله سهو من الناسخ.
(2) (سبحانه) ساقطة من (أ) .
(3) (وما بينهما) ساقطة من (ب) .
(4) (في) ساقطة من (أ) .
(5) وفي (أ-ح) (ولا قدرته) والأولى ما هو مثبت كما في (ب) .
(6) وفي (أ) (ولا رحمته) والأولى ما هو مثبت كما في (ب-ج) .
(7) وفي (أ) (ولا سمعه وبصره كسمع أحد وبصره) وما هو مثبت أظهر كما في (ب، ج) .
(8) وفي (أ) (ولا تكليمه كتكليم أحد) وما هو مثبت أظهر كما في (ب، ج) .
(9) وفي (أ) (ولا تجليه تجلي أحد) وما هو مثبت أظهر كما في (ب، ج) .
(10) (قد) زيادة من (ح) .(29/286)
ولبنا وعسلا، وماء وحريرا، وذهبا وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، فإذا كانت المخلوقات الغائبة ليست كهذه (1) المخلوقات المشاهدة مع اتفاقها في الأسماء فالخالق أعظم علوا ومباينة لخلقه من مباينة المخلوق للمخلوق، وإن اتفقت الأسماء.
وقد سمى نفسه حيا عليما سميعا، بصيرا، ملكا رءوفا، رحيما، وسمى بعض مخلوقاته حيا وبعضها عليما، وبعضها سميعا بصيرا، وبعضها رءوفا رحيما (2) وليس الحي كالحي، ولا العليم كالعليم ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير ولا الرءوف كالرءوف ولا الرحيم كالرحيم، قال الله تعالى:
__________
(1) وفي (ب، ج) (مثل هذه.)
(2) من قوله (ملكا رءوفا رحيما وسمى مخلوقاته. إلى قوله وبعضها رءوفا رحيما) ساقطة من (أ) .(29/287)
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (1) ، وقال تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} (2) الآية، وقال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (3) ، وقال تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} (4) ، وقال تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} (5) ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (6) ، وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} (7) ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (8) ، وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (9) ، وهو سبحانه وتعالى قد قال في كتابه {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} (10) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 255
(2) سورة الروم الآية 19
(3) سورة التحريم الآية 2
(4) سورة الذاريات الآية 28
(5) سورة الصافات الآية 101
(6) سورة النساء الآية 58
(7) سورة الإنسان الآية 2
(8) سورة البقرة الآية 143
(9) سورة التوبة الآية 128
(10) سورة الملك الآية 17(29/288)
وثبت في الصحيح «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للجارية: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال:(29/288)
أعتقها فإنها مؤمنة (1) » وهذا الحديث رواه مالك، والشافعي (2) وأحمد (3) بن حبل، ومسلم في صحيحه وغيرهم، لكن ليس معنى ذلك (4) أن الله في جوف السماء أو أن السماوات تحصره، وتحويه، فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها بل هم متفقون على (5) أن الله فوق السماوات (6) على عرشه بائن من خلقه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وقد قال مالك بن أنس رحمه الله: إن الله في السماء وعلمه
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (537) ، سنن النسائي السهو (1218) ، سنن أبو داود الصلاة (930) .
(2) في الرسالة له ص 75، فقرة 242.
(3) في مسنده 2 \ 291، عن أبي هريرة.
(4) (ذلك) ساقط من (ب) .
(5) وفي (أ) (متفقو أن الله) والتصحيح من (ب-ج) .
(6) وفي (ب-ج) (فوق سماواته..)(29/289)
في كل مكان، وقالوا لعبد الله بن المبارك، بماذا نعرف ربنا؟ قال بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه.
وقال أحمد بن حنبل -رحمه الله- كما قال هذا، وهذا (1) (2) .
وقال الشافعي رحمه الله: خلافة أبي بكر حق قضاها الله في سمائه وجمع عليها قلوب أوليائه (3) .
وقال الأوزاعي رحمه الله: كنا - والتابعون متوافرون - نقر بأن الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته (4) فمن اعتقد أن الله في جوف السماء محصور محاط به وأنه مفتقر إلى العرش أو غير العرش من المخلوقات أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على كرسيه فهو ضال مبتدع جاهل ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يعبد ولا على العرش
__________
(1) وفي (ب-ج) (وكمال قال هذا) .
(2) انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي ص 401، 402 وإثبات صفة العلو لابن قدامة ص28.
(3) انظر: إثبات صفة العلو لابن قدامة ص31، واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص165.
(4) انظر: الأسماء والصفات للبيهقي ص408، واجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم ص213.(29/290)
إله يصلى له ويسجد وأن محمدا لم يعرج به إلى ربه، ولا نزل (1) القرآن من عنده (2) ، فهو ضال معطل (3) فرعوني مبتدع، فإن فرعون كذب موسى في أن (4) ربه فوق السماوات، وقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ} (5) {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} (6) ومحمد صلى الله عليه وسلم صدق موسى في أن (7) ربه فوق السماوات فلما كان ليلة المعراج وعرج به إلى الله وفرض عليه ربه خمسين صلاة ذكر أنه رجع إلى موسى وأن (8) موسى قال له ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك فرجع إلى ربه فخفف عنه عشرا، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك (9) .
وهذا الحديث في الصحاح، فمن وافق فرعون وخالف موسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم فهو ضال، ومن مثل الله بخلقه فهو ضال.
__________
(1) وفي (أ) (أو أنزل) والأولى ما هو مثبت كما في (ب-ج) .
(2) أي: من عند الله سبحانه وتعالى.
(3) وفي (ب، ج) (فهو معطل فرعوني ضال مبتدع) .
(4) في (أ) (بأن ربه) ، وفي (ب) (أن ربه) وما هو مثبت أظهر كما في (ج) .
(5) سورة غافر الآية 36
(6) سورة غافر الآية 37
(7) وفي (أ) (بأن ربه) وما هو مثبت أظهر كما في (ب، ج) .
(8) (أن موسى) ساقط من (أ) .
(9) من قوله (فرجع إلى ربه. إلى قوله فاسأله التخفيف لأمتك) ساقط من (أ) .(29/291)
قال نعيم بن حماد: من شبه الله بخلقه فقد كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس في (1) ما وصف الله به نفسه ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم (2) تشبيها (3) .
وقد قال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (4) ، وقال: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (5) ، وقال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (6) ،، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (7) ، وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (8) ، وقال الله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} (9)
__________
(1) (في) غير موجودة في (أ-ج) .
(2) وفي (ج) (ولا وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم) .
(3) انظر: مختصر العلو للذهبي ص 184، واجتماع الجيوش الإسلامية ص221.
(4) سورة فاطر الآية 10
(5) سورة آل عمران الآية 55
(6) سورة النساء الآية 158
(7) سورة الأنعام الآية 114
(8) سورة الزمر الآية 1
(9) سورة الأنبياء الآية 19(29/292)
وقال تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} (1) ، فدل ذلك (2) ، على أن من عنده (3) قريبون إليه (4) وإن (5) كانت المخلوقات كلها تحت قدرته فالقائل الذي قال: من لا يعتقد أن الله في السماء فهو ضال، إن أراد بذلك من لا يعتقد أن الله في جوف السماء بحيث تحصره وتحيط به فقد أخطأ، وإن (6) أراد بذلك من لا يعتقد ما جاء به الكتاب، والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها (7) من أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه فقد أصاب، فإن من (8) لم يعتقد ذلك يكون مكذبا لرسول (9) الله صلى الله عليه وسلم متبعا غير سبيل المؤمنين، بل يكون في الحقيقة معطلا لربه نافيا له فلا يكون له في الحقيقة إله يعبده، ولا رب يقصده ويسأله.
__________
(1) سورة مريم الآية 52
(2) وفي (ب-ج) (بذلك) .
(3) وفي (ب-ج) (الذين عنده) .
(4) (إليه) زيادة من (ب-ج) .
(5) (وإن) ساقطة من (ب) .
(6) وفي (أ) (فإن) .
(7) وفي (ج) (بأن الله) .
(8) (من) زيادة من (ج) .
(9) وفي (ب-ج) (للرسول.) .(29/293)
وهذا (1) قول الجهمية ونحوهم من أتباع فرعون المعطل، والله قد فطر العباد عربهم وعجمهم على أنهم إذا دعوا الله توجهت قلوبهم إلى العلو لا يقصدونه تحت أرجلهم.
ولهذا (2) قال بعض العارفين: ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه
__________
(1) وفي (أ) (.. يعبده ويصدقه فهذا قول الجهمية) وما هو مثبت أولى كما في (ب-ج) .
(2) وفي (ب) (وهذا) وهو خطأ.(29/294)
قبل (1) أن يتحرك لسانه معنى يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة، والقائل الذي قال: (2) إن الله لا ينحصر في مكان إن أراد به أن الله لا ينحصر في جوف المخلوقات وأن الله لا يحتاج إلى شيء منها، فقد أصاب، وإن أراد أن الله ليس فوق السماوات ولا هو على العرش وليس هناك إله يعبد ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله، فهذا فرعوني جهمي معطل (3) بين الضلال (4) وكذلك إذا ظن الظان أن صفات الرب كصفات خلقه فيظن أن الله سبحانه على عرشه كالملك المخلوق (5) ، على سريره، فهذا تمثيل وضلال وذلك أن الملك مفتقر إلى سريره ولو زال سريره سقط والله غني
__________
(1) (قبل) ساقط من (ب) .
(2) وفي (ب) يقول.
(3) وفي (ب-ج) (فهو جهمي فرعوني) وهو الأظهر.
(4) وفي (ب) (ومبينا لضلاله) وما هو مثبت أظهر كما في (ج) .
(5) قوله (المخلوق) ساقط من (أ) .(29/295)
عن العرش وعن كل شيء، والعرش وكل (1) ما سواه فقير إلى الله وهو حامل العرش وحملة العرش وعلوه عليه لا يوجب افتقاره إليه، فإن الله قد جعل المخلوقات عاليا وسافلا وجعل العالي غنيا عن السافل كما جعل الهوى فوق الأرض وليس هو مفتقرا إليها وجعل السماوات فوق الهوى، وليست محتاجة إليه فالعلي الأعلى رب السماوات والأرض وما بينهما أولى أن يكون غنيا عن العرش وسائر المخلوقات، وإن كان عاليا عليها سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. والأصل في هذا الباب أن كل ما ثبت في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وجب التصديق به مثل علو الرب واستوائه على عرشه ونحو ذلك.
__________
(1) (كل) ساقط من (أ) .(29/296)
وأما الألفاظ المبتدعة في النفي والإثبات مثل قول القائل هو في جهة أو ليس هو (1) في جهة، وهو متحيز أو ليس بمتحيز ونحو ذلك من (2) الألفاظ المبتدعة (3) التي تنازع فيها الناس، وليس مع أحد (4) نص (5) لا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا أئمة المسلمين، فإن هؤلاء لم يقل أحد منهم: إن الله في جهة ولا قال: ليس هو (6) في جهة ولا قال (7) هو متحيز ولا قال ليس بمتحيز، ولا (8) قال هو جسم أو
__________
(1) (هو) غير مثبتة في (ب-ج) .
(2) وفي (أ) (مثل) ولعله سهو من الناسخ.
(3) (المبتدعة) غير موجودة في (ب-ج) .
(4) وفي ج (مع أحدهما) .
(5) وفي (ب) شيء.
(6) (هو) غير مثبتة في (ب) .
(7) (قال) زيادة من (ب-ج) .
(8) في (ب-ج) (بل ولا قال هو جسم) بزيادة (بل) .(29/296)
جوهر ولا قال ليس بجسم (1) ولا جوهر، فهذه الألفاظ ليست منصوصة في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع (2) والناطقون بها قد يريدون معنى صحيحا وقد يريدون معنى فاسدا فمن أراد معنى صحيحا موافقا للكتاب والسنة، كان ذلك المعنى مقبولا منه (3) وإن أراد معنى فاسدا مخالفا (4) للكتاب والسنة كان ذلك المعنى مردودا عليه، فإذا قال ذلك القائل إن الله في جهة قيل له: ما تريد بذلك؟ أتريد بذلك أن الله في جهة موجودة تحصره وتحيط به مثل أن يكون في جوف السماء، (5) ، (6) أم تريد بالجهة أمرا عدميا وهو ما فوق العالم فإنه ليس فوق العالم شيء من المخلوقات؟ فإن أردت الجهة الوجودية (7) وجعلت الله محصورا في المخلوقات فهذا باطل، وإن أردت الجهة العدمية وأردت أن الله وحده فوق المخلوقات بائنا عنها فهذا حق ولكن ليس في هذا (8) أن (9) شيئا من المخلوقات حصره ولا أحاط به ولا علا عليه، بل
__________
(1) وفي (ب) (جسم) .
(2) وفي (أ) (والسنة والإجماع) وفي (ج) (.. والسنة ولا الإجماع) .
(3) (منه) زيادة من (ج) .
(4) وفي (ب) (.. يخالف الكتاب والسنة كان ذلك معنى مردودا عليه، فإذا قال القائل إنه في جهة) .
(5) قوله (.. أن يكون في جوف السماء) ساقط من (أ) .
(6) وفي (ج) (السماوات) .
(7) وفي (أ) (الموجودية) ولعله سهو من الناسخ.
(8) وفي (ب-ج) (وليس في ذلك أن شيئا من المخلوقات) .
(9) (أن) زيادة من (ب-ج) .(29/297)
هو العالي عليها (1) والمحيط بها وقد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (2) (3) ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن الله يقبض الأرض يوم القيامة ويطوي السماوات بيمينه ثم يهزهن ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ (4) » .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن (5) في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم وفي حديث آخر: (6) أنه يرميها كما يرمي الصبيان الكرة.
__________
(1) الواو غير مثبتة في (ب-ج) ،
(2) سورة الزمر الآية 67
(3) قوله تعالى: '' سبحانه وتعالى عما يشركون '' ساقط من (ب) .
(4) رواه البخاري في صحيحه كتاب التفسير باب (3) برقم 4812 وفي كتاب التوحيد باب (6) برقم 7382 عن أبي هريرة، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب صفات المنافقين برقم 2787 عن أبي هريرة، والنسائي وابن ماجه كنز العمال ج14 حديث رقم 38936 عن أبي هريرة بدون قوله: (ثم يهزهن) .
(5) وفي الأصل (وما بينهما) والتصحيح من (ج) .
(6) (آخر) ساقطة من (أ) .(29/298)
فمن تكون (1) جميع (2) المخلوقات بالنسبة (3) إلى قبضته في هذا الصغر والحقارة كيف تحيط (4) به وتحصره، ومن قال إن الله ليس في جهة قلنا (5) ما تريد بذلك؟ فإن أراد بذلك أنه ليس فوق السماوات رب يعبد ولا على العرش إله يصلى له ويسجد ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يعرج إلى الله تعالى والأيدي لا ترفع إلى الله في الدعاء (6) ولا تتوجه القلوب إليه، فهذا فرعوني معطل جاحد لرب العالمين وإن كان معتقدا (7) أنه مقر به (8) فهو جاهل متناقض في كلامه (9) ومن هنا دخل أهل الحلول
__________
(1) وفي (ب-ج) (يكون) وما هو مثبت أظهر كما في (أ) .
(2) (جميع) ساقطة من (أ) .
(3) (بالنسبة) ساقطة من (أ) .
(4) وفي (أ) (كيف تحصره وتحيط به) .
(5) وفي (ب-ج) (قيل له) .
(6) وفي (أ) (والأيدي في الدعاء لا ترفع إلى الله) .
(7) وفي (ج) (يعتقد) .
(8) وفي (أ) (مقتدا) والأظهر ما هو مثبت كما في (ب-ج) وكما يفهم من الكلام قبلها وبعدها.
(9) وفي (أ) (تناقض في كلامه) والأظهر ما هو مثبت كما في (ب-ج) .(29/299)
والاتحاد كابن عربي، وابن السبعين، وقالوا إن الله بذاته (1) في كل مكان وأن وجود المخلوقات هو وجود الخالق، وإن قال مرادي بقولي ليس في جهة أنه لا تحيط به المخلوقات بل هو (2) بائن عن (3) المخلوقات فقد أصاب في هذا المعنى.
__________
(1) وفي (أ) (في ذاته) وما هو مثبت أظهر كما في (ب-ج) .
(2) (هو) غير مثبتة في (ب-ج) .
(3) وفي (أ) (من)(29/300)
وكذلك من قال إن الله متحيز أو قال (1) ليس بمتحيز إن أراد بقوله متحيز أن المخلوقات تحوزه وتحيط به، فقد أخطأ، وإن أراد به (2) أنه منحاز عن المخلوقات بائن عنها عال عليها (3) ، وأنها لا تحويه فقد أصاب.
(ومن قال: ليس بمتحيز، إن أراد أن المخلوقات لا تحوزه فقد أصاب (4) ، وإن أراد أنه ليس ببائن (5) عنها: بل هو لا داخلا فيها (6) ، ولا خارجا عنها فقد أخطأ.
والناس في هذا (7) الباب ثلاثة أصناف: أهل الحلول والاتحاد، وأهل النفي والجحود، وأهل الإيمان والتوحيد والسنة.
فأهل (8) الحلول يقولون إنه بذاته في كل مكان، وقد يقولون بالاتحاد والوحدة فيقولون وجود المخلوقات وجود الخالق كما هو مذهب ابن عربي صاحب الفصوص وابن سبعين ونحوهما.
__________
(1) (قال) ساقطة من (أ) .
(2) (به) زيادة من (ب) .
(3) قوله (بائن عنها عال عليها) زيادة من (ب- ج) .
(4) ما بين قوسين ساقط من (أ) .
(5) وفى (ب-ج) (بائنا) .
(6) (فيها) ساقط من (أ) .
(7) (في هذا الباب) ساقط من (أ) .
(8) وفي (أ) (وأهل) والتصحيح من (ب-ج) .(29/301)
وأما أهل النفي والجحود فيقولون لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا مباين (1) له، ولا حال فيه ولا فوق العالم ولا فيه ولا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء، ولا يتقرب إليه ولا يدنو منه شيء ولا يتجلى لشيء (2) ولا يراه أحد ونحو ذلك.
وهذا قول متكلمة الجهمية المعطلة كما أن الأول قول عباد الجهمية، فمتكلمة الجهمية لا يعبدون شيئا ومتعبدة الجهمية يعبدون كل شيء وكلاهما مرجعه إلى التعطيل والجحود الذي هو قول فرعون.
وقد علم أن الله سبحانه وتعالى كان قبل أن يخلق السماوات والأرض، ثم خلقهما، فإما (3) أن يكون دخل فيهما وهذا حلول باطل، وإما أن يكونا دخلا وهو أبطل وأبطل (4) .
__________
(1) وفي (أ) (لا هو داخله ولا خارجه ولا بائن له) والتصحيح من (ب-ج) .
(2) قوله (ولا يتقرب إليه ولا يدنو منه شيء ولا يتجلى لشيء) غير موجود في ج.
(3) وفي (أ) (وأما) والتصحيح من (ب-ج) .
(4) وفي (ب-ج) (وهذا أيضا باطل) .(29/302)
وإما أن يكون الله بائنا عنهما لم يدخل فيهما ولم يدخلا فيه، وهذا قول أهل الحق والتوحيد والسنة، ولأهل الجحود والتعطيل في هذا الباب شبهات يعارضون بها كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها وما فطر الله عليه عباده وما دلت عليه الدلائل العقلية الصحيحة، فإن هذه الأدلة كلها متفقة على أن الله سبحانه فوق مخلوقاته عال عليها قد فطر الله على ذلك العجائز (1) ، والأعراب والصبيان في الكتاب كما فطرهم على الإقرار بالخالق تعالى، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: «كل مولود يولد على الفطرة (2) فأبواه
__________
(1) وفي (ب) (العجايم) وهو خطأ.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (1359، 1385) في الجنائز باب إذا أسلم الصبي، وباب ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم برقم (2658) في القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، ومالك في الموطأ برقم (52) ، من كتاب: الجنائز باب جامع الجنائز، والترمذي في سننه برقم (2139) في القدر باب كل مولود يولد على الملة، وأبو داود برقم (4714) في السنة باب ذراري المشركين عن أبي هريرة. ورواه الطبراني في الكبير 1 \ 259 - 261 وأبو يعلى في مسنده والبيهقي في السنن (كنز العمال حديث 1306) عن الأسود بن سريع.(29/303)
يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة (1) جمعاء (2) (3) هل تحسون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها (4) (5) » ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (6) .
__________
(1) (بهيمة) ساقطة من (أ) .
(2) جمعاء: أي لم يذهب من بدنها شيء.
(3) وفي (أ) (جماء) ولعله سهو من الناسخ.
(4) قوله (حتى تكونوا أنتم تجدعونها) غير موجودة في (ب-ج) .
(5) وفي (أ) (تجدعونه) ولعله سهو من الناسخ.
(6) سورة الروم الآية 30(29/304)
وهذا معنى قول (1) عمر بن عبد العزيز: عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتاب (2) أي (3) عليك بما فطرهم الله عليه، فإن الله فطر عباده على الحق، والرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتحويل الفطرة وتغييرها، وأما أعداء الرسل كالجهمية، و (4) الفرعونية ونحوهم فيريدون أن يغيروا فطرة الله (ودين الله) (5) ويوردون على الناس شبهات (6) بكلمات متشابهات لا يفهم كثير من الناس مقصودهم بها ولا يحسن أن يجيبهم (عنها) (7) (8) .
__________
(1) وفي (أ) (كقول ... ) وما هو مثبت أظهر كما في (ب-ج) .
(2) (3) انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 89.
(3) (أي) ساقطة من (أ-ج) .
(4) (و) غير موجودة في (ب-ج) وهو الأظهر.
(5) (ودين الله) زيادة من (ب-ج) .
(6) الشبهات: جمع شبهة، وهي الدليل الباطل.
(7) (عنها) زيادة من (ب-ج) .
(8) وفي (ج) (أن يجيبهم في الرد عنها) .(29/305)
وقد بسط الكلام (في الرد عليهم) (1) في غير هذا الموضع.
__________
(1) (في الرد عليهم) ساقط من (أ) .(29/306)
وأصل ضلالهم تكلمهم بكلمات مجملة لا أصل لها في كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا قالها أحد من أئمة المسلمين كلفظ التحيز (1) والجسم والجهة (2) ونحو ذلك فمن كان عارفا بحل (3) شبهاتهم بينها ومن لم يكن عارفا بذلك فليعرض ولا يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (4) .
ومن تكلم في الله وأسمائه وصفاته بما يخالف به الكتاب والسنة فهو من الخائضين في آيات الله بالباطل وكثير من هؤلاء ينسب إلى أئمة المسلمين (5) ما لم يقولوه فينسبون للشافعي وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة من الاعتقادات الباطلة ما لم يقولوه، ويقولون تبعهم: هذا الذي نقوله (6) اعتقاد الإمام
__________
(1) وفي (ب) (المتحيز) .
(2) سبق قريبا إجابة المؤلف على من أطلق هذه الألفاظ المجملة مميزا المعنى الصحيح من الباطل ص 16 - 21.
(3) وفي (أ) (.. عارفا بشبهاتهم) وما هو مثبت أظهر كما في (ب-ج) .
(4) سورة الأنعام الآية 68
(5) وفي (أ) (إلى أئمة الدين) وفي (ج) (لأئمة المسلمين) وما مثبت أظهر كما في (ب) .
(6) (الذي نقوله) زيادة من (ب-ج) .(29/306)
الفلاني فإذا طولبوا بالنقل الصحيح عن الأئمة تبين كذبهم في ذلك كما تبين كذبهم فيما ينقلونه (1) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويضيفونه إلى سنته من البدع والأقوال الباطلة، ومنهم من إذا طولب بتحقيق نقله، يقول هذا القول قاله العقلاء والإمام القرني لا يخالف العقلاء، ويكون أولئك العقلاء طائفة من أهل الكلام الذين ذمهم الأئمة، فقد قال الشافعي رضي الله عنه (حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل علي الكلام (2) فإذا كان (3) هذا حكمه فيمن أعرض عنهما فكيف حكمه فيمن عارضهما بغيرهما، وكذلك قال أبو يوسف القاضي: من طلب الدين بالكلام تزندق (4) ، وكذلك قال الإمام أحمد بن حنبل ما ارتدى أحد بالكلام
__________
(1) وفي (ب) (يقولونه) .
(2) انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 229، تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 82 - 83.
(3) وفي (ب) (فهذا إذا كان حكمه) .
(4) شرح الطحاوية ص 229.(29/307)
فأفلح، (1) وقال علماء (2) الكلام زنادقة (3) وكثير من هؤلاء قرءوا كتبا من كتب أهل (4) الكلام فيها شبهات أضلتهم ولم يهتدوا لجوابهم فإنهم يجدون في تلك الكتب أن الله لو كان فوق الخلق للزم التجسم (5) والتحيز والجهة وهم لا يعرفون حقائق هذه الألفاظ وما أراد بها أصحابها فإن ذكر الجسم في أسماء الله وصفاتها بدعة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا قالها أحد من سلف (6) الأمة ولا أئمتها (7) لم يقل أحد منهم (8) أن الله جسم ولا أن الله ليس بجسم ولا أن الله جوهر ولا أن الله ليس بجوهر (9) ولفظ الجسم مجمل ومعناه (10) في اللغة (هو) (11) البدن ومن قال أن الله مثل بدن الإنسان فهو مفتر علي الله بل من قال إن الله يماثل شيئا من المخلوقات فهو
__________
(1) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 83 بلفظ (لا يفلح صاحب كلام أبدا) .
(2) وفي (ج) وقال: علماء أهل الكلام. والأظهر ما هو مثبت كما في باقي النسخ. وكما في تلبيس إبليس.
(3) انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 83.
(4) (أهل) لم تذكر في (ج-ب) .
(5) وفي (ب-ج) (التجسيم) .
(6) (سلف) زيادة من (ب-ج) .
(7) وفي (ب-ج) (وأئمتها) .
(8) (منهم) لم تذكر في (ب) .
(9) قوله (ولا أن الله جوهر ولا أن الله ليس بجوهر) مكانه بياض في (ج) .
(10) وفي (أ-ج) (فمعناه) ولعله سهو من الناسخ.
(11) (هو) زيادة من (ب-ج) .(29/308)
مفتر علي الله ومن (1) قال: إن الله ليس بجسم وأراد بذلك أن الله لا يماثل شيئا من المخلوقات فالمعني صحيح وإن كان اللفظ بدعة، (وأما) (2) من قال إن الله ليس بجسم وأراد بذلك أنه لا يرى في الآخرة وأنه لم يتكلم بالقرآن (3) العربي بل القرآن العربي مخلوق أو تصنيف جبريل، أو نحو (4) ذلك فهو مفتر علي الله في ما نفاه عنه وهذا أصل ضلال الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم علي مذهبهم فإنهم يظهرون للناس التنزيه وحقيقة كلامهم التعطيل فيقولون: نحن (5) لا نجسم بل نقول (6) إن الله ليس بجسم
__________
(1) وفي (ب) (فمن) .
(2) (أما) زيادة من (ب-ج) .
(3) وفي (أ) (وأنه لا يتكلم باللسان العربي) .
(4) وفي (ب-ج) (ونحو ذلك) .
(5) وفي (أ) (إنا) .
(6) وفي (أ) (بل يقولون) وما هو مثبت أظهر كما في (ب-ج) .(29/309)
ومرادهم بذلك نفي حقيقة أسماء الله (1) وصفاته فيقولون ليس لله علم ولا قدرة ولا حياة ولا كلام ولا سمع ولا بصر ولا يرى في الآخرة ولا عرج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إليه ولا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء ولا يتجلى لشيء ولا يقرب إلى شيء ولا يقرب منه شيء (2) ، وأنه لم يتكلم بالقرآن (3) ، بل القرآن مخلوق أو كلام (4) جبريل، وأمثال ذلك من كلام (5) المعطلة الفرعونية الجهمية والله تعالى يقول في كتابه {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} (6) أي لا تحيط به فكما أنه يعلم ولا يحاط به علما، فكذلك (7) سبحانه وتعالى يرى ولا يحاط به رؤية فهو سبحانه وتعالى نفى الإدراك ولم ينف الرؤية (8) ، ونفي الإدراك يدل على عظمته وأنه (9) من عظمته لا يحاط به، وأما نفي الرؤية فلا مدح فيه، فإن المعدومات لا
__________
(1) وفي (ب-ج) (أسمائه) .
(2) ما بين القوسين زيادة من (ب-ج) .
(3) وفي (أ) (وأنه لا يتكلم بالقرآن) .
(4) وفي (ب) (وهو كلام جبريل) وفي (ج) (أو هو كلام جبريل) .
(5) وفي (ب-ج) (من مقالات) .
(6) سورة الأنعام الآية 103
(7) وفي (أ) (فكذلك أنه سبحانه) بزيادة أنه.
(8) وفي (أ) (وأن) وما هو مثبت أظهر كما في (ب-ج) .
(9) وفي (أ) (وأما مدح) ولعله سهو من الناسخ.(29/310)
ترى ولا مدح لشيء (1) من المعدومات بل المدح إنما (2) يكون في (3) الأمور الثبوتية لا بالأمور العدمية، وإنما يحصل المدح بالعدم (4) إذا تضمن ثبوتا كقوله تعالى {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} (5) فنزه نفسه عن السنة والنوم لأن ذلك يتضمن كمال حياته وقيوميته، كما قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (6) فهو سبحانه حي لا يموت قيوم لا ينام وكذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} (7) فنزه نفسه المقدسة عن مس اللغوب وهو الإعياء والتعب ليتبين (8) كمال قدرته فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال منزه عن (كل) (9) نقص وعيب موصوف بالحياة (10) والعلم (11) والقدرة والسمع والبصر والكلام منزه عن الموت والجهل والعجز والصمم والعمى (12)
__________
(1) كذا في جميع النسخ ولعل الصواب (بشيء) .
(2) وفي (أ) (إنما المدح أن يكون) وما هو مثبت أظهر كما في باقي النسخ.
(3) وفي (ب-ج) (بالأمور) .
(4) قوله (بالعدم) ساقط من (أ) .
(5) سورة البقرة الآية 255
(6) سورة الفرقان الآية 58
(7) سورة ق الآية 38
(8) وفي (ب) (ليبين) وهو أظهر وفي (ج) (لتبيين قدرته) .
(9) (كل) زيادة من (ب-ج) .
(10) (بالحياة) ساقط من (ب) .
(11) وفي (ج) (بالحياة والعز والعلم) بزيادة (والعز) .
(12) (والعمى) ساقط من (ج) .(29/311)
والبكم، وهو سبحانه لا مثل له في شيء من صفات الكمال فهو (1) منزه عن كل نقص وعيب قدوس سلام تمتنع عليه النقائص والعيوب بوجه من الوجوه وهو سبحانه لا مثل له في شيء من صفات كماله بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله. صلى الله عليه وسلم. من غير تحريف (2) ولا تعطيل ومن غير (3) تكييف ولا تمثيل فيثبتون له ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات وينزهونه عما نزه عنه (4) نفسه من (5) مماثلة المخلوقات إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل قال تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (6) (وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (7) رد على الممثلة. وقوله تعالى {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (8) ردا على المعطلة. قال (9) بعض العلماء: المعطل يعبد عدما، والممثل يعبد صنما.
__________
(1) وفي (أ-ج) (وهو) .
(2) التحريف لغة: التغيير والتبديل، والمراد به هنا: تغيير ألفاظ الأسماء الحسنى، والصفات، أو معانيها.
(3) (من غير) زيادة من (ب-ج) وفي (أ) (ولا تكييف) .
(4) وفي (ب) (عن) .
(5) وفي (أ) (وينزهونه عن مماثلة المخلوقات) .
(6) سورة الشورى الآية 11
(7) سورة الشورى الآية 11
(8) سورة الشورى الآية 11
(9) وفي (ب) (وقال) بزيادة الواو.(29/312)
الممثل: أعشى، والمعطل: أعمى (1) ، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه.
وقد (2) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (3) .
والسنة في الإسلام كالإسلام في الملل، فأهل (4) السنة وسط (5) في الصفات بين أهل التعطيل والتمثيل (6) .
وهذا هو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين (7) والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
فنسأل الله العظيم (8) أن يجعلنا وسائر إخواننا منهم بفضله ورحمته إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، والله سبحانه أعلم {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (9) {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} (10) {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (11) (12) تم الجواب الفاصل بين الحق والباطل.
__________
(1) كذا في (أ) وفي (ب-ج) (المعطل أعمى، والممثل أعشى) وهو الأظهر.
(2) (قد) زيادة من (ب-ج) .
(3) سورة البقرة الآية 143
(4) وفي (ج) (وأهل) .
(5) (وسط) ساقطة من (ب) .
(6) وفي (ب-ج) (بين أهل التمثيل وأهل التعطيل) وهو الأظهر.
(7) قوله (والصديقين) ساقط من (أ) .
(8) (العظيم) ساقط من (أ)
(9) سورة الصافات الآية 180
(10) سورة الصافات الآية 181
(11) سورة الصافات الآية 182
(12) قوله (والله سبحانه أعلم..) إلى النهاية زيادة من (ب) .(29/313)
- عواد بن عبد الله بن محمد المعتق.
من مواليد مدينة الزلفى عام 1373 هـ.
حصل على الشهادة الجامعية في الشريعة عام 96-97 هـ.
حصل على درجة الماجستير في العقيدة عام 1401هـ.
حصل على درجة الدكتوراه في العقيدة عام 1407 هـ.
عمل مدرسا في وزارة المعارف عام 1397هـ، ثم معيدا في الكلية المتوسطة لإعداد المعلمين بالرياض عام 1399 هـ. ثم محاضرا في الكلية المذكورة عام 1402هـ. ثم أستاذا مساعدا في نفس الكلية عام 1408هـ وما زال يعمل فيها حتى تاريخه.
له من المؤلفات:
المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها.
(رسالة ماجستير) .
اجتماع الجيوش الإسلامية غزو المعطلة والجهمية مع بيان موقف ابن القيم مع بعض الفرق.
(رسالة دكتوراه: تحقيق ودراسة) .(29/314)
نحو مجتمع أفضل:
من هنا يجب أن نبدأ
بقلم محمد المجذوب
لو شاء الله أن تتكرر أعجوبة الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى في المرحلة الراهنة من حياة المجتمع الإسلامي لكانت المفاجأة أكبر من سابقتها في أعين الفتية ومشاهديهم، ذلك لأن التطور الذي لابس حياة السابقين خلال تلك المئات من السنين لم يكد يتجاوز سطوح الأشياء والعادات، بخلاف التغيرات الهائلة التي أحدثتها الحقب المماثلة في حياة الأجيال المعاصرة. . . إذ الفرق بين حركة الماضي البعيد وتبدلات الحاضر العتيد هو الفرق نفسه بين عصر المطايا الحية والقوارب البدائية، وبين عصر الكهرباء والذرة والفيديو والتلفاز والماخرات الفضائية، التي يريد بها الإنسان استكشاف ما وراء الأفلاك. .
وهكذا تتعقد مشكلات الجيل على الباحث الذي يستشعر مسئوليته نحو أمته فلا يكاد يدري من أين يبدأ في علاجها ولا يستبين الطريق للوصول إلى حلولها الصحيحة.
على أن المفكر المسلم يظل أقرب إلى السداد في رؤيته للأحداث ما التزم(29/315)
سبيل المؤمنين في تصوره للواقع الكائن والذي يجب أن يكون. . . وحسبه بعد ذلك أن يكون قد أدى ما عليه من الواجب كفاء ما يملك من الجهد، وعملا بالتوجيه النبوي الذي لم يعف أحدا من المسئولية حين أوجب تغيير المنكر باليد، وهو من اختصاص ذوي السلطان، ثم باللسان، ومن أدواته هذا القلم، ثم بالقلب، وهو شأن الضعيف الذي لا يملك القدرة على البيان بالقلم أو اللسان.
وفي ضوء هذا المنهج الإسلامي سأضع بين يدي القارئ طائفة من الأفكار التي فاءت بها علي شيخوخة أوغلت في الثمانين، وتقضى نصفها في التعليم على اختلاف مراحله، وفي ممارسة الحياة بكل حلباتها، فكانت لهذا القلم الزاد الذي يمده بكل ما يتصور أن فيه خيرا للناس. . . إن شاء الله.
ومن خلال هذه الرؤية البعيدة أنظر إلى قضية هذا المجتمع المرجوج فلا أتردد في القطع بأن محنته الكبرى إنما تتركز في انصرافه عن المنهج الأصيل، الذي منح أسلافه الضوابط التي أهلتهم لمركز القيادة العالمية، فكانوا الدم الجديد في كيان الإنسانية، يعاملون الشعوب الأخرى معاملة الطبيب الشفيق، الذي يحيط خبرا بأمراض مريضه المعدية، فهو يمده بالعلاج الصالح دون أن يسمح لميكروباته القاتلة بالتسلل إليه. . .، وهكذا كانت انتصاراتهم، وهم القلة الفقيرة، على الكثرة الكاثرة، المدججة بكل وسائل الغلب والترف، انتصار الفكر الصحيح على الفاسد، واليقين المتصل بالسماء على الضياع المدمر. . . ولكن هذه المسيرة الواعية لم تلبث أن اضطربت بها الخطى، حين جاء دور الأجيال التي لم تستطع التماسك أمام بهارج الأمم المنحلة، فإذا هي تشغل بها عن رسالة ربها، ومن هنا بدأت مرحلة الهبوط في حياة المجتمعات المسلمة، إذ اتبعت سننها شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلت تلك الأمم جحور الضباب لدخلتها وراءها، متناسية منهج نبيها المعصوم الذي لم يدع خيرا إلا أرشدها إليه ولا شرا إلا حذرها منه.(29/316)
تربية الطفل قبل ولادته:
وأوجز تصوراتي عن الموضوع الذي أريده في كلمة صغيرة ستكون منطلقي لعرض ما وراءها من التفصيلات وخلاصتها أن التصحيح الحق لمسيرة المجتمع الإسلامي يجب أن يبدأ من تكوين الفرد المزود بالوعي التام لحقائق الإسلام الكبرى؛ لأن المجتمع بناء مؤلف من الأفراد، وبمقدار ما يتوافر من التماسك بين أفراده تكون قوته. . . وإنما يتم تماسكهم إذا اتحدت منطلقاتهم الفكرية، فكانوا كالطاقة الكهربائية التي انتظمت مجاريها في تناسق يجعل كل جزء من الأجهزة عونا للآخر، وكل وتخلخل في هذا التعاون مؤد إلى الخلل العام.
وهذا يعني أن على المصلحين أن يحددوا المنطلق الذي منه يبدأ بناء الفرد ولعل الإمام الغزالي رحمه الله كان أقرب المفكرين الإسلاميين إلى السداد حين يقرر أن تربية الطفل تبدأ قبل ولادته وبذلك يقطع أن أولى الخطى في هذه السبيل هي التركيز على حسن اختيار الزوجة، التي تصلح لأن تكون أم ولدك. . وهو المبدأ الذي سبق إلى تقريره نبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه وآله حين يوجه المسلم إلى إيثار ذات الدين على ذوات المال والجمال. . . لأنها تملك من المؤهلات للأمومة الصالحة ما لا يقوم به أي شيء آخر. .
ومعلوم أن الصورة الأولى التي تنطبع في ذات الطفل هي صورة أمه، وهي التي تصحبه حتى اللحظات الأخيرة من حياته، والويل لهذا المسكين إذا كانت أمه من النوع الذي لا يهمه من الحياة غير التوافه وأسعد به إذا قدر الله له الأم التي عرفت طريقها إلى الله، وأدركت مسئوليتها نحو نفسها وبعلها وولدها ومجتمعها، فكانت بذلك ينبوعا من الحكمة التي تروي وتهدي، وتقدم العطاء الذي لا ينفد. . فبالزوجة الصالحة، التي هي خير متاع الدنيا بشهادة الصادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلم، يتم تأسيس البيت المسلم، وفي هذا البيت الكريم يبدأ تكوين الفرد الذي نتطلع إليه، إذ يحمل(29/317)
في كيانه أولى البذور التي تمنحه المؤشر السليم إلى الاتجاه الأقوم، وقد رأينا ملامح ذلك الاتجاه في وصايا لقمان لابنه في صدر السورة التي تحمل اسمه من القرآن العظيم، وطبيعي أن الله لم يعرض لنا هذه الوصايا إلا لنعمل بها على أنها النموذج الأمثل للتربية التي يحبها الله. وقد رأينا مجمل هذه الملامح في دعاء امرأة عمران ربها في سورة آل عمران إذ قالت {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} (1) وهو عهد ترفعه هذه الأم الفاضلة إلي خالق السماوات والأرض بأنها ستتولى تنشئة مولودها القادم على النهج الذي يرضاه، حتى تكون حياته كلها خالصة له وحده. . . وفي هذا النهج المجمل كل ما فصله لقمان لابنه من أصول الخير والسلوك المفضل. . .
والولد غرس والديه، فإذا أحسنا رعايته وأحاطاه من صالح عملهما بالنماذج المختارة وفق التوجيه الإلهي، أخذ سبيله إلى التسامي حتى يكون هو النماذج الأمثل للإنسان الذي نكاد نفقد مثاله الحي في هذه الأيام. . . ذلك الإنسان الذي سلمت فطرته من الشوائب، وطهرت عقيدته من الزيغ، فاستقام سلوكه في الطريق المضاء بنور الله، لا يعرف انتماء إلا للإسلام، ولا ولاء إلا لله ولرسوله ولكتابه وجماعة المؤمنين. . .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 35(29/318)
تصنيف الطلاب شرط أساسي للنجاح:
ولكن هذا الفرد الرباني لن يعيش في كنف المجهول بعيدا عن المجتمع البشري فسيخالط الناس عن طريق الحي والمدرسة والشارع، ولكل من هؤلاء أثره في الإنسان، وقد يعزل هذا الإنسان إلى حد ما عن مؤثرات الحي والشارع، وتبقى المدرسة التي لا غنى له عنها، وهي المجتمع الثاني الذي يجمع أخلاط الناس على اختلاف مشاربهم وخلفياتهم، ومعهم المدرسون الذين لن يكونوا على مستوى واحد من الفكر والمنطلق والسلوك، فمن يحمي هذا البريء من سلبيات هذا المجتمع الغريب؟(29/318)
في المجتمعات الإسلامية المثالية تتقارب سلوكيات الأفراد ويقل بينهم التباين، فلا غرو أن يكون الطابع العام للمدرسة أقرب إلى الانسجام والتسامي، لوحدة التصور المهيمن على المدرسة كلها.
فإذا انتقلنا مع الزمن إلى واقع المدرسة اليوم نجد أنفسنا تلقاء شتيت من النفوس يقل فيه الانسجام الخلقي والنفسي، أشبه بسجن حشدت فيه أصناف النزلاء. . وضروب المستويات، من البرآء والصالحين، إلي الآخرين الذين ساقهم الإهمال والتخلف إلي أسوأ التصرفات. . . وليس من صلة بينهم سوى النظام الذي يفرض عليهم الاجتماع لسماع البلاغات وللقيام ببعض التمرينات.
إنها المساواة التي تفرضها " ديمقراطية التعليم " فلا مجال فيها للاختيار، والقيمة العليا فيها للموهبة المتفوقة والاجتهاد دون غيرهما، وهو وضع جميل لو خلا من التفاوت الكبير بين المستويات التربوية، أما والواقع على خلاف ذلك، فإن له سلبياته الخطيرة، إذ لا مندوحة عن تبادل المؤثرات بين التلاميذ، وقلما يكون الأفضل هو الغالب في مثل هذا الوسط، بل العكس هو الملموس في كل مكان، حتى في الحياة النباتية، حيث تكون التفاحة الفاسدة سببا لخراب صندوق من التفاح، ولم ير الناس قط تفاحة سليمة أصلحت أخرى مريضة.
ومن الأخبار التي نقلها الدكتور محمد أمين المصري رحمه الله عن أيام دراسته في أوروبا، ذلك التنظيم المنطقي الذي تقوم به المؤسسة التعليمية في بريطانيا، حيث تتولى هيئة علمية دراسة أحوال التلاميذ، فتختار منهم بعد تحقيق دقيق ذوي المواهب الفائقة، فتصنفهم حسب ميولهم الفطرية، ثم تتولى التدرج في سلم الدراسة، ومن هؤلاء تتخرج الفئة الحاكمة، وأصحاب الملامح العبقرية. . .
ولا جرم أن مثل هذا التنظيم المعقول جدير بأن يؤمن للأمة تقدمها العلمي واستقرارها السياسي، فلا تتعرض للانقلابات العسكرية، التي(29/319)
أحرقت الأخضر واليابس في الأمم المحرومة منها. . ولعل الشعوب المسلمة على إطلاقها أكثر الأمم شعورا بهذا الحرمان، وأكثرها معاناة تحت كابوس الاستبداد، الذي يوشك أن يحيل جماهيرها مجموعات من الهتافين والمصفقين والمحرومين.
وفي يقيني أن تصنيف الطلاب ذكورا وإناثا حسب مواهبهم، ووفق مستوياتهم التربوية، شرط أساسي للحصول على الثمرات المنشودة من التربية والتعليم، إذ المفروض أن يصحب هذا التصنيف تصنيف لا مندوحة عنه في خطط الدراسة والتوجيه، فيكون لكل مستوى مدرسوه ومشرفوه المتخصصون، وبذلك يتم الارتفاع بسوية الجميع، بدلا من تعريض الجميع للفوضى التي تضيع معها الجهود، وتقل بها فرص النجاح الصحيح. .
وإني إذ أعرض هذه الأفكار المباينة لواقعنا التعليمي في مختلف أرجاء الوطن الإسلامي لواثق أنها لاقية القبول عند ذوي الفكر الأصيل من رجال التربية والتعليم، وإن قوبلت بالسخرية من الآخرين الذين لا يستطيعون التخلي عن طريقة أسلافهم القائلين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} (1) .
ولكن مجرد قبول الفكرة نظريا لا يكفي للإفادة منها، بل لا بد من التحرك في محاولة صادقة لترجمة الفكر إلي واقع عملي، وليس ذلك على ذوي العزائم والمعرفة والإخلاص بعزيز إن شاء الله.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 22(29/320)
الابتعاث وأثره في وجودنا:
والحديث في موضوع التعليم يقود إلي الكلام عن شئون الابتعاث والمبتعثين، وتأثرهم بالمجتمعات الدخيلة، ثم تأثيرهم في مجتمعاتهم الأصيلة.(29/320)
وأول ما يذكر في هذا الصدد هو أن المبتعث مهاجر يفارق قوما ألفهم وألف مشاربهم على تنوعها، إلي أقوام لا عهد له بهم إلا من خلال ما يقرؤه عنهم وما يشاهده من ألوان حياتهم، عن طريق المنشورات ووسائل الإعلام المنظورة والمسموعة. . . ومهما يكن فللإقامة بين ظهراني هؤلاء الأقوام طوال سني الدراسة أثره الخاص الذي يختلف عن كل ما عرفه عنهم من قبل. . وقد أكدت تجاربنا في هذا المضمار أن تغيرا كبيرا سيعتري شخصية المبتعث فيفقد الكثير من خصائصها الأولى، ليخلي مكانها للكثير من خصائص البيئة الجديدة، حتى إذا عاد إلى أهله عاد شيئا جديدا حائرا بين الماضي والحاضر، لا يجد سبيلا للتخلص من موحيات البيئة الغربية، ولا قدرة على الانسلاخ التام من هويته الموروثة.
ولقد كتبت في أحد الفصول من مذكراتي خبر ذلك الطالب الذي كنت أحسن الظن بتصوراته الإسلامية أثناء دراسته الثانوية بطرطوس، ثم تخرج وغاب عن عيني مدة دراسته العسكرية في فرنسا، فلما عاد من رحلته تلك عجلت لزيارته، وكان مما ألقيته عليه من الاستفسارات قولي له: كيف كانت انطباعاتك وأنت تطأ أرض وطنك بعد أربع سنوات من الغربة؟ فكان جوابه العفوي (كانت انطباعاتي حزينة؛ لأني وجدت المرأة المسلمة لا تزال حبيسة التقاليد التي تحول بينها وبين السباحة المختلطة) .
وأنا لا أذكر هذا المشهد لاتهام مبتعثينا كلهم بالانحدار إلي هذا الحضيض. . . معاذ الله، فأنا أعرف بينهم شبابا عادوا خيرا منهم يوم ذهابهم، ولكنهم قلة لا يكادون يظهرون بجانب الكثرة الغالبة، وقد أسلفت مثل التفاحة الفاسدة وآثارها في إفساد الكثير، فعلى هذا المثل أعرض لذكر هؤلاء الأحبة الضائعين المضيعين.
ومن العجائب، وما أكثر العجائب في حياتنا. . . أن المؤتمرات التي تعقد في ديار المسلمين تكاد تفوت الإحصاء، وهي تكاد تتناول كل شيء، وليس بينها واحد - فيما أذكر - خصص لتقييم نتائج هذا الابتعاث في وجودنا(29/321)
ومدى انفعالنا به وأثره في مقوماتنا الشخصية والإسلامية.(29/322)
وإذا ضاقت المناسبة عن الاستقصاء فلا أقل من الإشارة إلي بعض هذه النتائج في المصير الراهن للعالم الإسلامي.
من أوائل دفعات الابتعاث وأجدرها بالتذكر والاعتبار وفود الطلاب الأتراك على باريس للدراسة في مطالع القرن العشرين، وكانت فرنسا آنذاك في ذروة التفاعل مع ثورتها التي أطاحت بالملكية، وفي هذا الحمام اللاهب من دماء ضحايا الثورة الفرنسية غسلت أدمغة أولئك الفتيان الأتراك من كل إيمان بالإسلام، وحشيت بالحقد على الخلافة الإسلامية وكل ما يمت إليها بسبب من حمية الجهاد في سبيل الله والارتباط الأخوي مع كل الأجناس التي أظلتها راية الخلافة.
وما أن وطئت أقدام هذه الناشئة المضللة شواطئ مرمرة والدردنيل، وفتحت لها أبواب الجيش بزعم تحديثه وفقا للأساليب الغربية الجديدة، حتى بدءوا في بث ألغام التدمير في أساس الجيش الذي صمد طوال خمسة قرون في معركة الدفاع عن دين الله، وعن كلمة التوحيد التي انجابت أنوارها عن الأرض، ولم يبق لها من وجود إلا في الرسالة الخاتمة التي بعث الله بها رسوله محمدا بشيرا ونذيرا ورحمة للعالمين.
وعلى يد هذه الطغمة حققت الماسونية اليهودية وحليفتها الصليبية المستشرقة ما عجزت عنه الحملات الصليبية التسع طوال قرنين من تحطيم وحدة المسلمين، وتفتيتهم إلي قوميات متناحرة تقوم بمهمة الإجهاز على بقبة الأمل في إحياء ماضي الإسلام. . ثم توالت النكبات بعضها إثر بعض حتى لم يبق جزء من الكيان الإسلامي إلا اكتسحته الراجفة تتبعها الرادفة.
ومن هنا يتبين لكل ذي بصيرة أن التعليم هو المرتكز الذي عليه المعول في عملية الهدم والبناء فبالتعليم الصحيح المنبثق من الوحي الإلهي خرج العرب(29/322)
في الصدر الأول من الظلمات إلى النور، فكانوا خير أمة أخرجت للناس وبالتعليم المستمد من فلسفات الأمم المنحلة في العصر العباسي، انحرفت مسيرة الأمة ففقدت الحصانة التي أودعت قبضتها أزمة العالم وبالتعليم الماركسي الشيطاني تدفقت سموم الشيوعية وجيوشها الهمجية على أفغانستان المسلمة، فتكاد تلتهمها كما التهمت أخوات لها من قبل، في بخارى وسمرقند والقوقاس وقازخستان وبقية الأرض المسلمة، لولا فضل من الله ثم روح العزة التي صمدت بوجه الوباء الزاحف بأحدث وسائل الدمار، فردت للعالم الإسلامي النائم يقظته، وذكرته ما نسي من معاني البطولة والجهاد الذي ما تركه قوم إلا ذلوا. .(29/323)
عبرة من القافقاس:
وفي مأساة الإسلام التي لقيتها قبائل القازاخستان من قبل، بقيادة الإمام محمد شامل على يد القياصرة الروس، دروس أخرى تزيد من معرفتنا لأخطار التعليم حين تتولاه الأيدي الشيطانية فلقد صمدت كتائب هؤلاء المجاهدين لأضعافها من فيالق الصليبية الروسية طوال عشرات السنين، حتى يئست هذه من أي مطمع بالانتصار العسكري على هذا الجيل من أبطال الإسلام، فقرر الروس توجيه اهتمامهم نحو جيل المستقبل فلجئوا إلى المهادنة وتبادل الفريقان الرهائن فكان المسلمون يختارونهم من كبار القادة الروس على حين يأخذ هؤلاء أبناء القادة المسلمين من حدثاء الأسنان فيرسلونهم إلى عاصمتهم \ سان بطرسبرغ \ حيث يلحقون بمدارس أبناء النبلاء، وما هي سوى سنوات محدودة حتى ظهر تفوق الفكر الصليبي بما لم يخطر في بال قادة الجهاد الإسلامي إذ تمكن عدوهم بالدهاء والمكر وغسل الأدمغة من اكتساب أبنائهم إلى صفهم وإذا هم في نهاية الخط ضباط في الجيش الروسي وفي مقدمتهم \ جمال الدين \ نجل الإمام محمد شامل، ومعه ابن نائب الإمام \ حجي مراد \ يقودون كتائب الكفرة لمحاربة آبائهم (1) فيحققون لأوليائهم الجدد ما عجزت عنه موجات جيوشهم على
__________
(1) اقتبسنا هذه الفقرة من مقال نشرته مجلة (الجهاد) الأفغانية في عدد رجب 1406 صـ 23.(29/323)
مدى القرون. . . وهو التخطيط نفسه الذي ينفذه اليوم غزاة الروس في أفغانستان كما أسلفنا، حيث يأخذون الألوف من أطفال المسلمين لتربيتهم في محاضن الشيوعية، وليعيدوهم فيما بعد قادة للأجيال القادمة من أمتهم التي كفروا بكل مقوماتها. . . ولا نغالي إذا قلنا أيضا: إنه المخطط نفسه الذي تواجهه الشعوب المسلمة في سائر أنحاء العالم الإسلامي عن طريق بعثاتهم التي يدفعون بها إلى مصايد الغرب والشرق، فلا تلبث أن تعود إلى أوطانها إذا عادت؛ لتحتل فيها مراكز التوجيه، ولتقوم بمهمة التدمير لمقومات هذه الشعوب وفق الخطة التي رسمها شياطين الصليبية المتهودة في دهاليز الغرب والشرق.
ومما لا يسع مفكرا تجاهله هو أن حاجة المسلمين إلى علوم الأمم الأخرى هي التي تفرض عليهم الاتجاه إلى الابتعاث للحصول على ما ينقصهم منها وهو واقع لا يقبل المراء، ولكن الذي يريده المخلصون هو الوقوف بهذا الأمر عند أضيق الحدود فلا يتجاوز نطاق الضرورات. . فعلى المسئولين عن مصير شعوبهم أن يحلوا استقدام الخبراء بقدر الحاجة وفي أضيق الحدود من تلك الأمم محل الابتعاث إليها ما أمكنهم ذلك، وعندما تقتضي الحاجة إرسال الطلبة إلى الخارج يجب اختيارهم وتنظيم شئونهم واختيار البعثات من أفاضل الطلاب وتوفير الوسط المأمون لهم في السكن والدراسة وأن يبعث معهم فقيه يساعدهم على الانضباط في حياة إسلامية سليمة لتكون عاقبة هذا التدبير الحكيم عودة البعثات في منجاة من أوبئة الغرب، حيث يحقق كل منهم النجاح المنشود في عمله بعد عودته ثم يكون كل من هؤلاء الناجحين ركنا حيا في بناء النهضة الصحيحة. .
وعلى ضوء هذا النهج الحكيم يحسن بنا أن نتساءل: هل حققنا لمبتعثينا(29/324)
شيئا من هذه الرعاية الأبوية؟ . . . وهل نحن مقتنعون بصلاحيتها ومستعدون لتحقيقها؟(29/325)
الوافدون وما أدراك ما الوافدون:
ولقد تكاثرت الظباء على خراش - حسب المثل العربي - فانضم إلى عناصر الفتنة أمواج الوافدين على بعض مجتمعاتنا المهزوزة من العمال والخدم والمربين وذوي الخبرات المتعددة، وكلهم يحمل مؤثراته المتميزة في الأخلاق والعقائد وأنواع السلوك مما زاد في مشكلاتها، وأخل بتركيبها النفسي والاجتماعي، إلى حد بتنا نلمس طلائعه جلية في واقعنا اليومي فضلا عما وراءها من تعقيدات لا ضابط لها إذا استمرت المسيرة في غفلتها الراهنة. . . ولو كان للعبرة مكانها في تفكيرنا لرأينا عواقبها فيما سبقنا إليه آباؤنا المغفلون في الشام والعراق والأندلس وغيرها من أنحاء العالم الإسلامي، عندما فتحوا أبوابهم لمواريث الأمم المنحلة، فأغرقتهم في مستنقعات الترف واللهو والمجون والفنون الشيطانية، حتى وافاهم اليوم الذي فقدوا به كل قدرة على حماية أنفسهم وأوطانهم وأعراضهم من هجمات الذئاب التي ما برحت تتربص بهم الدوائر. .
بيد أن من فضل الله أن ثغرة الوافدين هؤلاء قد بدأت تضيق تحت ضغط الظروف الاقتصادية الطارئة، ولكن بقي على المسئولين أن يعيروا ما تحتاج إليه البلاد منهم اهتماما خاصا، فلا يسمح باستقدام أحد من غير المسلمين إلا عند الضرورة القصوى، وإلا من النوعية التي يطمئن إليها، وهو أقل ما يجب من الحذر ومن العناية بمصلحة البلاد والعباد. . .(29/325)
الإعلام بين الهدم والبناء:
ولن يكون الإصلاح مستوفى العناصر إذا نحن أغفلنا جانب الإعلام، الذي أصبح من أكبر الفاعليات في حياة الإنسانية وقد كثرت المؤتمرات التي عقدت لموضوع الإعلام، وكثرت البحوث التي قدمت إليها، وبينها بحثان(29/325)
قدمتهما إلى مؤتمر (الدعوة والدعاة) الذي دعت إليه الجامعة الإسلامية في 24 \ 2 \ 1397 هـ فكل حديث في هذا الجانب سيكون إذن ضربا من التكرار، ولذلك سأكتفي منه بنقطة واحدة هي الاستفسار عن نتائج هذه المؤتمرات في مسيرة الإعلام على مستوى العالم الإسلامي.
لقد كلفت تلك الاجتماعات ملايين الدولارات وأسفرت عن العديد من التوصيات، التي استوعبت العميق من الخبرات فما الذي تحقق منها، وما الذي تأخر؟
ولست هنا في مقام التقويم لهذه النتائج لأقول فيها الكلمة الواجبة، ولكن الشيء الذي لا يصح تجاهله هو أن الإعلام الرسمي في بلاد المسلمين لا يزال حيث كان من الترويج للهو واللغو، إلى جانب مزيد من العناية بالجانب الإسلامي وكان المفروض أن يشمل التصحيح نتائج الإعلام كله، فلا يعرض فيه منظورا أو مسموعا ولا مقروءا إلا ما يتفق مع مقاصد الإسلام من الكلمة الجميلة، والموضوع الرفيع والحقائق الناصعة، ووسائل الترفيه البريء الهادف إلى ترسيخ معاني الخير في قلوب السامعين على اختلاف أسنانهم ومستوياتهم، ومقتضى ذلك أن تنقى المعروضات من كل دخيل على التصور الإسلامي، وأن تنشط حركة التأليف والإخراج التي تؤلف البديل الإسلامي الذي يتفوق بمضمونه وأشكاله على كل الأعمال الدخيلة ويحسن هنا أن نتذكر موقف المؤسسات التنصرية من الاعتماد على الفيديو في عرض المناظر والأفكار المؤثرة في المشاهدين عن طريق العرض الفني الموضوعي الذي يريدون إحلاله محل الموعظة، التي فقدت تأثيرها في الجيل المعاصر. ولا جرم أن في المعاني الإسلامية المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله، ومن تاريخ الجهاد الإسلامي وفتوحاته المحررة للعقل والروح، وأهدافه الصاعدة أبدا إلى الأعلى، ما يوفر للمبدعين من المؤمنين المدد الصالح لكتابة القصة، والمسلسل، والخواطر، والطرائف الأقدر على اجتذاب الأبصار واستقطاب الأفكار، إذا أحسن أولو المواهب عرضها وإخراجها. .(29/326)
مع غواة الغناء والموسيقى:
ولو فسح لهؤلاء مجال التصحيح الحق لقدموا من الروائع ما يغني عن ذلك الإقبال المجنون على فنون الموسيقى، التي تشغل هذه الأيام معظم ساعات العرض الإذاعي، تقليدا للغرب الذي أقفرت نفوس أهليه من النشوات الروحية فراح يتطلبها في الآلات النحاسية والوترية وما إليها. . . . وليس أعلم بحقيقة هذا الجنون من صاحب الروك أندرول الذي استولى بأغانيه وموسيقاه على قلوب الملايين من أولئك الضائعين، ونال من وراء ذلك ملايينهم التي يشترون بها مسجلاته. . . . إنه يوسف إسلام الذي شاء الله أن يهديه للإسلام، فما إن لمست أشعة القرآن عقله وقلبه حتى نفض يده من ماضيه التافه؛ ليتحول إلى داعية متوهج الروح يسهم مع إخوانه من دعاة الإسلام بنشر أنواره في ظلمات الغرب نفسه وها هو ذا يصف تجاربه مع تفاهات الأمس بهذا القول السديد: (لقد نسيت الموسيقى إذ رأيتها تشغل عن ذكر الله وهذا خطر عظيم لقد رأيت شبابا يهجرون أهلهم ويعيشون في جو الأغاني والموسيقى وهذا لا يرضاه الإسلام الذي يحث على بناء الرجال ونحن معشر المسلمين في محنة وبحاجة إلى أن نبني أسرنا وأولادنا وأزواجنا كما يريد الله تعالى لا أن نهدم الأسر والأولاد والبنات بالموسيقى والغناء، الذي يلجئون إليه عندما تعجز المعتقدات الباطلة عن توفير الطمأنينة والسعادة في نفوسهم (1) وإن في ذلك لذكر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
__________
(1) مجلة (التربية الإسلامية) عدد المحرم 1407.(29/327)
في صيدلية الإسلام علاج كل داء:
ولعلي لا أبعد عن أصل الموضوع حين أختم بحثي بلمحة موجزة عن الزواج الذي أسميته صمام الأمان، وهو الذي بلغ من التعقيد والتعسير غاية لم تكن لتتصور قبل هذه الأيام.(29/327)
إن الذي قدر بحكمته مراحل الوجود الإنساني وفق أطوار محكمة لها مواعيدها ولها وقائعها وآثارها في سيرورة الحياة، قد حدد لتفتح الحاجة الجنسية زمنها الخاص، فما إن تبلغه حتى تدفع بصاحبها إلى البحث عن الرفيق المتمم. . . وطبيعي أن كل عقبة توضع في وجه هذا الاتجاه المشروع تعتبر عدوانا على حق الإنسان، الذي هيأته الحكمة الإلهية للإسهام في عملية البناء الإنساني. .
ولقد أدرك أسلافنا الصالحون هذه الحقيقة فيسروا لراغب الزواج سبيله بكل الممكنات حتى كان بين أوقافهم الخيرية مؤسسات خاصة لهذه الغاية، إلا أن التعقيدات الطارئة على حياة المسلمين جعلت من الزواج أخيرا إحدى المشكلات التي تستعصي على الحل. . .
وفي مثل هذه الأوضاع الشاذة لا مندوحة للمفكر المسلم من العودة إلي الأصول الإسلامية للبحث عن حلها الصحيح، ثقة منه بأن في صيدلية الإسلام علاج كل داء صغر أو كبر. .
ولقد كان من رحمة الله بالشباب أن جعل أمر الزواج في غاية اليسر حتى ليسقط المهر المالي عن المعسر مقابل أن يعلم زوجه آيات من القرآن الكريم، ويعير الموظف في دولة الإسلام عناية خاصة تتيح له فرصة التفرغ لواجباته، وذلك بما قرره له رسول الله من الحق لتأمين الزوجة والسكن والمطية. . بقوله في الحديث الشريف الذي أخرجه أحمد وأبو داود «من ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا وليست له زوجة فليتزوج أو ليس له دابة فليتخذ دابة (1) » .
ومفهوم الحديث أن من واجب الموظف أن يؤمن لنفسه هذه المطالب الضرورية، فإذا أعجزه الفقر عن ذلك كان على الدولة أن توفرها له، حفاظا على الكرامة التي هي حق كل مسلم بل كل إنسان، وتحقيقا للأمن النفسي الذي لا سبيل للاطمئنان بدونه. . واعتبار الدابة إحدى الضروريات الأساسية لهذا الإنسان، عاملا أو موظفا يشمل السيارة والدراجة، وما إليهما من
__________
(1) سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2945) ، مسند أحمد بن حنبل (4/229) .(29/328)
وسائل الانتقال الضرورية، سواء منها ما كان خاصا أو داخلا في نطاق النقل الجماعي.
هذا إلي ما سنه ثاني الخلفاء الراشدين من إعطاء كل مولود في الإسلام حقه في بيت المال وحقه في التعليم وحقه في الرعاية، التي تشق له الطريق إلي أقصى ما يؤهله له طموحه ومؤهلاته ومقوماته. . .
ولا يستقيم في منطق العقل أن ترى امرأ وفرت له الدولة كل هذه الفرص ثم يقدم على قبول الرشوة أو يمد عينيه إلي أعراض الناس فيغامر بحياته لتحقيق بعض نزواته إلا إذا غلبته الخسة على الكرامة، وهيهات أن تجد مثل هذا المخلوق الملوث بين ظهراني المجتمع الإسلامي القائم على النظافة والطهر في كل جزئية من كيانه العام.
وإنما تجد ذلك الانحدار الخلقي في ظلال الأنظمة القائمة على الإلحاد والأخرى القائمة على (حرية) الشهوات. . . . وما لف لفها من الأنظمة التي انسلخت من فضائل الإسلام ورضيت أن تكون ذيلا لهذا أو ذلك من الأنظمة الطاغية الباغية المضللة.
وأخيرا. . ليت شعري هل وفيت البحث حقه؟ . . . . وهل قدمت في هذه العصارة المركزة من خبراتي الطويلة أي خير من شأنه أن ينفع الناس؟
ذلك ما أرجو والله وحده المسئول أن يقدر لما كتبته الرضى والقبول.(29/329)
من قرارات المجامع
الفقهية
القرار السادس من قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة في الفترة من 7 إلى 17 من شهر ربيع الآخر سنة 1401 هـ في دورته الرابعة.
حول رسالة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود
الموجهة إلى العلماء والحكام والقضاة في شأن رؤية الهلال.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. . . أما بعد:
فقد اطلع مجلس المجمع الفقهي الإسلامي على الرسالة الموجهة إلي العلماء والحكام والقضاة في شأن رؤية الهلال والتي كتبها رئيس المحاكم بدولة قطر الشيخ عبد الله بن زيد بن محمود وبعد الاطلاع عليها تبين أنها قد اشتملت على أغلاط عظيمة وأخطاء واضحة:(29/331)
أولا قوله: إن عيد الفطر من هذه السنة يعني سنة 1400 هـ قد وقع في غير موقعه الصحيح بناء على الشهادة الكاذبة برؤية الهلال ليلة الاثنين حيث لم يره أحد من الناس الرؤية الصحيحة لا في ليلة الاثنين ولا في ليلة الثلاثاء. . . إلخ.
فهذا الكلام الذي قاله مؤلف الرسالة تخرصا منه، جانب فيه الصواب وخالف فيه الحق، وكيف يحكم على جميع الناس أنهم لم يروه وهو لم يحط علما بذلك؟ ! والقاعدة الشرعية أن من علم حجة على من لم يعلم، ومن أثبت شيئا حجة على من نفاه. وكيف وقد ثبتت رؤيته ليلة الاثنين بشهادة الثقات المعدلين والمثبتة شهاداتهم لدى القضاة المعتمدين في بلدان مختلفة في المملكة وغيرها؛ وبذلك يعلم أن دخول شوال عام 1400 هـ ثبت ثبوتا شرعيا ليلة الاثنين مبنيا على أساس تعاليم الشرع المطهر المبلغ عن سيد البشر، فقد روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهرضي الله عنهما قال: «تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام (1) » . قال الحافظ في التلخيص: وأخرجه الدارمي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي وصححه ابن حزم.
وروى أهل السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن أعرابيا قال: يا رسول الله إني رأيت الهلال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: نعم. قال: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا (2) » . وأخرجه أيضا ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم والبيهقي وروى الإمام أحمد والنسائي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وإنهم حدثوني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فان غم عليكم فأتموا ثلاثين فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا (3) » .
وعن الحارث بن حاطب الجمحي أمير مكة قال «عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نر
__________
(1) سنن أبو داود الصوم (2342) ، سنن الدارمي الصوم (1691) .
(2) سنن الترمذي الصوم (691) ، سنن النسائي الصيام (2113) ، سنن أبو داود الصوم (2340) ، سنن ابن ماجه الصيام (1652) ، سنن الدارمي الصوم (1692) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .(29/332)
وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما (1) » . رواه أبو داود والدارقطني وقال: إسناده متصل صحيح.
وعن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال: «غم علينا هلال شوال فأصبحنا صياما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوه بالأمس فأمر الناس أن يفطروا من يومهم وأن يخرجوا لعيدهم من الغد (2) » . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، قال الحافظ في التلخيص: صححه ابن المنذر وابن السكن وابن حزم.
وعن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اختلف الناس في آخر يوم من شهر رمضان فقدم أعرابيان فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله أنهما أهلا الهلال أمس عشية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفطروا (3) » .
رواه أحمد وأبو داود وزاد أبو داود في رواية وأن يفدوا إلي مصلاهم وهذه الأحاديث تدل على وجوب الأخذ بشهادة الشهود الثقات والاعتماد عليها وأنه يكفي الشاهدان العدلان في الصوم والإفطار ويكفي العدل الواحد في إثبات دخول شهر رمضان كما دل على ذلك حديث ابن عمر وحديث ابن عباس رضي الله عنهما كما تدل على أنه لا يلزم من ذلك أن يراه الناس كلهم أو يراه الجم منهم، كما تدل أيضا على أنه ليس من شرط صحة شهادة الشاهدين العدلين أو شهادة العدل الواحد في الدخول أن يراه الناس في الليلة الثانية؛ لأن منازله تختلف وهكذا أبصار الناس ليست على حد سواء ولأنه قد يوجد في الأفق ما يمنع الرؤية في الليلة الثانية ولو كانت رؤيته في الليلة الثانية شرطا في صحة شهادة لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه المبلغ عن الله والموضح لأحكامه عليه الصلاة والسلام وحكى الترمذي إجماع العلماء على قبول شهادة العدلين في إثبات الرؤية.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى ج 25 ص 186 بعد ما ذكر اختلاف أبصار الناس في الرؤية وأسباب ذلك ما نصه: لأنه لو رآه اثنان علق الشارع الحكم بهما بالإجماع وإن كان الجمهور لم يروه. اهـ. ولعل مراده بحكاية الإجماع وقت الغيم لأن خلاف أبي حنيفة رحمه الله في عدم إثبات دخول الشهر في وقت الصحو بأقل من الاستفاضة أمر معلوم لا
__________
(1) سنن أبو داود الصوم (2338) .
(2) سنن النسائي صلاة العيدين (1557) ، سنن أبو داود الصلاة (1157) ، سنن ابن ماجه الصيام (1653) ، مسند أحمد بن حنبل (5/58) .
(3) سنن أبو داود الصوم (2339) ، مسند أحمد بن حنبل (5/363) .(29/333)
يحفى على مثله رحمه الله، وهذا كله إذا لم يحكم بذلك فإنه يرتفع الخلاف ويلزم العمل بشهادة المذكورة إجماعا كما ذكر ذلك العلامة أبو زكريا يحيى النووي في شرح المهذب ج \ 6ص313 بعدما ذكر أسباب اختلاف أبصار الناس في الرؤية وهذا نص كلامه: ولهذا لو شهد برؤيته اثنان أو واحد وحكم به حاكم لم ينقض بالإجماع ووجب الصوم بالإجماع ولو كان مستحيلا لم ينفذ حكمه ووجب نقضه. ثم قال ابن محمود بعد كلام سبق ما نصه: يا معشر العلماء الكرام ويا معشر قضاة شرع الإسلام لقد وقعنا في صومنا وفطرنا في الخطأ المنكر كل عام اهـ. ولا يخفى ما في هذا الكلام من الخطأ العظيم والجرأة على القول بخلاف الحق فأين له تكرر الخطأ في كل عام في الصوم والإفطار والقضاة يحكمون في ذلك بما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وأجمع عليه أهل العلم كما سبق بيانه.
ثم قال ابن محمود بعد كلام سبق: فمتى طلع يعني الهلال قبل طلوع الشمس من جهة المشرق فإنه يغيب قبلها فلا يراه أحد أو طلع مع الشمس فإنه يغيب معها ولا يراه أحد لشدة ضوء الشمس. اهـ. وهذا خطأ بين فقد ثبت بشهادة العدول أنه قد يرى قبل الشمس في صبيحة يوم التاسع والعشرين من المشرق ثم يرى بعد غروبها من المغرب ذلك اليوم لأن سير القمر غير سير الشمس فكل واحد يسبح في فلكه الخاص به كما يشاء الله عز وجل. وأما الآية التي استدل بها على ما ذكره من عدم إمكان رؤيته بعد الغروب إذا كان قد رئي صباح ذلك اليوم قبل طلوع الشمس وهي قوله تعالى في الآية (40) من سورة يس: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (1) فلا حجة له في ذلك؛ لأن علماء التفسير أوضحوا معنى الإدراك المذكور وأنه لا سلطان للشمس في وقت سلطان القمر ولا سلطان للقمر في وقت سلطان الشمس.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه: قال مجاهد: لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا، وإذا ذهب سلطان هذا جاء هذا إلى أن قال: وقال الثوري عن إسماعيل بن خالد عن أبي صالح لا يدرك هذا ضوء هذا ولا هذا
__________
(1) سورة يس الآية 40(29/334)
ضوء هذا وقال عكرمة في قوله عز وجل {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} (1) يعني أن لكل منهما سلطانا فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل. اهـ المقصود.
ثم قال ابن محمود بعد ما ذكر كلام فقهاء الأحناف في اشتراط الاستفاضة في الرؤية وقت الصحو وأنه لا يكتفي في رؤيته بشخص أو شخصين دون بقية الناس لاحتمال التوهم منهما إلى أن قال وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسائله المتعلقة بالهلال فقال: إنه يعتد برؤية الواحد والاثنين للهلال والناس لم يروه لاحتمال التوهم منهما في الرؤية ولو كانت الرؤية صحيحة لرآه أكثر الناس. اهـ. وهذا الكلام الذي نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن عدم الاكتفاء بشهادة الواحد والاثنين بالهلال إذا لم يره غيرهم لا أساس له من الصحة وقد سبق كلامه رحمه الله الذي نقله عنه العارفون بكلامه وهو الموجود في الفتاوى ج 25 ص 186 ونقل الإجماع على تعلق حكم الشرع بشهادة الاثنين وفيه نقل الإجماع على تعلق حكم الشرع بشهادة الاثنين.
ثم قال: «تراءى الناس هلال رمضان فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه (2) » رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان ومثله حديث ابن عباس «أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال قال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم قال: فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا (3) » . رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان وصحح النسائي إرساله. فالجواب أنه ليس في الحديثين ما يدل على حصر الرؤية على هذين الشخصين؛ إذ من المحتمل أن يكونا أول من رأيا الهلال ثم رآه غيرهما. اهـ المقصود.
__________
(1) سورة يس الآية 40
(2) سنن أبو داود الصوم (2342) ، سنن الدارمي الصوم (1691) .
(3) سنن الترمذي الصوم (691) ، سنن النسائي الصيام (2113) ، سنن أبو داود الصوم (2340) ، سنن ابن ماجه الصيام (1652) ، سنن الدارمي الصوم (1692) .(29/335)
ولا يخفى بطلان هذا الجواب وتعسفه لعدم الدليل عليه والأصل عدم وجود غيرهما إذ لو شهد غيرهما لنقل فلما لم ينقل ذلك علم عدم وقوعه لهذا احتج العلماء بهذين الحديثين على قبول شهادة الواحد في دخول شهر رمضان ووجوب العمل بها وهو أصح قولي العلماء كما تقدم بيان ذلك وقد تقدم أيضا أنه متى حكم بها حاكم شرعي وجب العمل بها إجماعا كما سبق نقل ذلك عن النووي رحمه الله في شرح المهذب فنعوذ بالله من القول عليهم بغير علم.
ثم قال ابن محمود في ختام رسالته ما نصه: ولقد تقدم مني القول برسالتي لاجتماع أهل الإسلام على عيد واحد كل عام فدعوت فيها الحكومة حرسها الله إلى تعيين لجنة عدلية استهلالية من العدول الذين لهم حظ من قوة البصر فيراقبون الهلال وقت التحري بطلوعه لخاصة شعبان وحتى إذا حصل غيم أو قتر حسبوا له ثلاثين ثم صاموا رمضان ثم يراقبون عند مستهل ذي الحجة لمعرفة ميقات الحج وهذه اللجنة لا ينبغي أن تقل عن عشرة أشخاص من العدول الثقات ولهم رئيس يرجعون إليه في لم شملهم. اهـ المقصود ولا يخفى ما في هذا الكلام من التكلف والتشريع الجديد الذي لم ينزل الله به من سلطان بل هو اقتراح في غاية الفساد لا يجوز التعويل عليه والالتفات إليه لأن الله سبحانه قد يسر وسهل وأجاز الحكم بشهادة عدلين اثنين في جميع الشهور وعدل واحد في شهر رمضان فلا يجوز لأحد أن يحدث في شرع الله ما لم يأذن به سبحانه ولم تأت به سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله عز وجل {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1) (21) من سورة الشورى. وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد (2) » أخرجه
__________
(1) سورة الشورى الآية 21
(2) صحيح البخاري الصلح (2697) ، صحيح مسلم الأقضية (1718) ، سنن أبو داود السنة (4606) ، سنن ابن ماجه المقدمة (14) ، مسند أحمد بن حنبل (6/256) .(29/336)
البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها. وفي رواية مسلم عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (1) » . وهذا ما أردنا التنبيه عليه من الأخطاء الكثيرة التي وقعت في رسالة الشيخ عبد الله بن محمود ونسأل الله أن يهدينا وإياه سواء السبيل وأن يعيذنا وإياه وسائر المسلمين من القول على الله وعلى رسوله بغير علم ومن الإحداث في دين الله ما لم يأذن به الله والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
[توقيع] ... ** ... [توقيع]
رئيس مجلس المجمع الفقهي ... ** ... نائب الرئيس
عبد الله بن حميد ... ** ... محمد علي الحركان
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد محمود الصواف ... مصطفى الزرقاء ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
مبروك العوادي ... محمد بن عبد الله السبيل ... صالح بن عثيمين
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد رشيدي ... عبد القدوس الهاشمي ... محمد الشاذلي النيفر
[توقيع] ... [توقيع] ... غائب عن التوقيع
حسنين محمد مخلوف ... أبو بكر محمود جومي ... أبو الحسن علي الحسني الندوي
[غائب] ... [غائب] ... [توقيع]
محمد سالم عدود ... محمود شيت خطاب ... محمد رشيد قباني
__________
(1) صحيح مسلم الأقضية (1718) ، مسند أحمد بن حنبل (6/180) .(29/337)
القرار السابع من قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة
في الفترة من 7 إلى 17 من شهر ربيع سنة 1401 هـ في دورته الرابعة
بيان توحيد الأهلة من عدمه
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. . . أما بعد:
لقد درس المجمع الفقهي الإسلامي مسألة اختلاف المطالع في بناء الرؤية عليها فرأى أن الإسلام بني على أنه دين يسر وسماحة تقبله الفطرة السليمة والعقول المستقيمة لموافقته للمصالح. ففي مسألة الأهلة ذهب إلى إثباتها بالرؤية البصرية لا على اعتمادها على الحساب كما تشهد به الأدلة الشرعية القاطعة كما ذهب إلى اعتبار اختلاف المطالع لما في ذلك من التخفيف على المكلفين مع كونه هو الذي يقتضيه النظر الصحيح فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما جاء شرعا وعقلا.
أما شرعا فقد أورد أئمة الحديث حديث كريب «وهو أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها فاستهل علي شهر رمضان وأنا بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. ثم ذكر(29/338)
الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه فقلت: أولا نكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) » (رواه مسلم في صحيحه) .
وقد ترجم الإمام النووي على هذا الحديث في شرحه على مسلم بقوله (باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم وأنهم إذا رءوا الهلال لبلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم ولم يخرج عن هذا المنهج من أخرج هذا الحديث من أصحاب الكتب الستة أبي داود والترمذي والنسائي في تراجمهم له) .
وناط الإسلام الصوم والإفطار بالرؤية البصرية دون غيرها لما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له (2) » . رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما. فهذا الحديث علق الحكم بالسبب الذي هو الرؤية وقد توجد في بلد كمكة والمدينة ولا توجد في بلد آخر فقد يكون زمانها نهارا عند آخرين فكيف يؤمرون بالصيام أو الإفطار أفاده في بيان الأدلة في إثبات الأهلة. وقد قرر العلماء من كل المذاهب أن اختلاف المطالع هو المعتبر عند كثير، فقد روى ابن عبد البر الإجماع على ألا تراعى الرؤية فما تباعد من البلدان كخراسان من الأندلس أو لكل بلد حكم يخصه. وكثير من كتب أهل المذاهب الأربعة طافحة بذكر اعتبار اختلاف المطالع للأدلة القائمة من الشريعة بذلك وتطالعك الكتب الفقهية بما يشفي الغليل.
وأما عقلا فاختلاف المطالع لا اختلاف لأحد من العلماء فيه لأنه من الأمور المشاهدة التي يحكم بها العقل فقد توافق الشرع والعقل على ذلك فهما متفقان على بناء كثير من الأحكام على ذلك التي منها أوقات الصلاة ومراجعة الواقع تطالعنا أن اختلاف المطالع من الأمور الواقعية. وعلى ضوء
__________
(1) صحيح مسلم الصيام (1087) ، سنن الترمذي الصوم (693) ، سنن النسائي الصيام (2111) ، سنن أبو داود الصوم (2332) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1906) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2121) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/63) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .(29/339)
ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي أنه لا حاجة إلى الدعوة إلى توحيد الأهلة والأعياد في العالم الإسلامي لأن توحيدها لا يكفل وحدتهم كما يتوهمه كثير من المقترحين لتوحيد الأهلة والأعياد. وأن تترك قضية إثبات الهلال إلى دور الإفتاء والقضاء في الدول الإسلامية لأن ذلك أولى وأجدر بالمصلحة الإسلامية العامة وأن الذي يكفل توحيد الأمة وجمع كلمتها هو اتفاقهم على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع شئونهم. والله ولي التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
[توقيع] ... [توقيع]
رئيس مجلس المجمع الفقهي ... نائب الرئيس
عبد الله بن حميد ... محمد علي الحركان
الأعضاء
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد محمود الصواف ... مصطفى الزرقاء ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
مبروك العوادي ... محمد بن عبد الله السبيل ... صالح بن عثيمين
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد رشيدي ... عبد القدوس الهاشمي ... محمد الشاذلي النيفر
[توقيع] ... [توقيع] ... غائب عند التوقيع
حسنين محمد مخلوف ... أبو بكر محمود جومي ... أبو الحسن علي الحسني الندوي
[غائب] ... [غائب] ... [توقيع]
محمد سالم عدود ... محمود شيت خطاب ... محمد رشيد قباني(29/340)
القرار السادس من قرارات مجلس مجمع الفقه الإسلامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي بشأن "توحيد بدايات الشهور القمرية"
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407 هـ \ 11 إلى 16 أكتوبر 1986 م بعد استعراضه في قضية " توحيد بدايات الشهور القمرية " مسألتين:
الأولى: مدى تأثير اختلاف المطالع على توحيد بداية الشهور.
الثانية: حكم إثبات أوائل الشهور القمرية بالحساب الفلكي.
وبعد استماعه إلى الدراسات المقدمة من الأعضاء والخبراء حول هذه المسألة قرر:
1 - في المسألة الأولى:
إذا ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها ولا عبرة لاختلاف المطالع لعموم الخطاب بالأمر بالصوم والإفطار.
2 - في المسألة الثانية:
وجوب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد مراعاة للأحاديث النبوية والحقائق العلمية. والله أعلم.(29/341)
قرار هيئة كبار العلماء رقم 108 وتاريخ 2 \ 11 \ 1403 هـ بشأن إنشاء مراصد يستعان بها عند رؤية الهلال
الحمد لله والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
ففي الدورة الثانية والعشرين لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطائف ابتداء من العشرين من شهر شوال حتى الثاني من شهر ذي القعدة عام 1403 هـ بحث المجلس موضوع إنشاء مراصد يستعان بها عند تحري رؤية الهلال بناء على الأمر السامي الموجه إلى سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برقم 4 \ ص \ 19524 وتاريخ 18 \ 8 \ 1403 هـ والمحال من سماحته إلى الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء برقم 2652 \ 1 \ د وتاريخ 1 \ 9 \ 1403 هـ واطلع على قرار اللجنة المشكلة بناء على الأمر السامي رقم 6 \ 2 وتاريخ 2 \ 1 \ 1403هـ والمكونة من أصحاب الفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي عضو هيئة كبار العلماء وأعضاء الهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى والشيخ محمد بن عبد الرحيم الخالد ومندوب جامعة الملك سعود والدكتور فضل أحمد نور محمد والتي درست موضوع الاستعانة بالمراصد على تحري رؤية الهلال وأصدرت في ذلك قرارها(29/342)
المؤرخ في 16 \ 5 \ 1403 هـ المتضمن أنه اتفق رأي الجميع على النقاط الست التالية:
إنشاء المراصد كعامل مساعد على تحري رؤية الهلال لا مانع منه شرعا.
إذا رئي الهلال بالعين المجردة فالعمل بهذه الرؤية وإن لم ير بالمرصد.
إذا رئي الهلال بالمرصد رؤية حقيقية بواسطة المنظار تعين العمل بهذه الرؤية ولو لم ير بالعين المجردة؛ وذلك لقول الله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (1) ولعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما (2) » ولقوله عليه الصلاة والسلام «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم (3) » . . الحديث حيث يصدق أنه رئي الهلال سواء كانت الرؤية بالعين المجردة أم بها عن طريق المنظار ولأن المثبت مقدم على النافي.
يطلب من المراصد من قبل الجهة المختصة عن إثبات الهلال لتحري رؤية الهلال في ليلة مظنته بغض النظر عن احتمال وجود الهلال بالحساب من عدمه.
يحسن إنشاء مراصد متكاملة الأجهزة للاستفادة منها في جهات المملكة الأربع تعين موقعها وتكاليفها بواسطة المختصين في هذا المجال.
تعميم مراصد متنقلة لتحري رؤية الهلال في الأماكن التي تكون مظنة رؤية الهلال مع الاستعانة بالأشخاص المشهورين بحدة البصر وخاصة الذين سبق لهم رؤية الهلال. اهـ.
وبعد أن قام المجلس بدراسة الموضوع ومناقشته ورجع إلى قراره رقم (2) الذي أصدره في دورته الثانية المنعقدة في شهر شعبان من عام 1394 هـ في موضوع الأهلة قرر بالإجماع الموافقة على النقاط
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) صحيح البخاري الصوم (1907) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2122) ، سنن أبو داود الصوم (2320) ، سنن ابن ماجه الصيام (1654) ، مسند أحمد بن حنبل (2/5) ، موطأ مالك الصيام (634) ، سنن الدارمي الصوم (1684) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2119) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .(29/343)
الست التي توصلت إليها اللجنة المذكورة أعلاه بشرط أن تكون الرؤية بالمرصد أو غيره ممن تثبت عدالته شرعا لدى القضاء كالمتبع وألا يعتمد على الحساب في إثبات دخول الشهر أو خروجه.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(29/344)
بطلان ما يعتقده بعض الناس من تحريم أو كراهة تزويج الهاشميات بغير الهاشميين
أو بعبارة أخرى: تزويج الشريفات بغير الأشراف
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه. أما بعد: فإن من الأمور المنكرة أن بعض من يدعي أنه من بني هاشم يقولون إنه لا يكافئهم أحد فهم لا يزوجون غيرهم ولا يتزوجون من غيرهم وهذا خطأ عظيم وجهل كبير وظلم للمرأة وتشريع لم يشرعه الله ورسوله.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (1) وقال سبحانه {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (2) وقال {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (3) وقال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (4) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا
__________
(1) سورة الحجرات الآية 13
(2) سورة الحجرات الآية 10
(3) سورة التوبة الآية 71
(4) سورة آل عمران الآية 195(29/345)
فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب (1) » وقال صلى الله عليه وسلم «إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين (2) » متفق عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض (3) » أخرجه الترمذي وغيره بإسناد حسن.
وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش الأسدية من زيد بن حارثة مولاه وزوج فاطمة بنت قيس القرشية من أسامة بن زيد وهو وأبوه عتيقان. وتزوج بلال بن رباح الحبشي بأخت عبد الرحمن بن عوف الزهرية القرشية. وزوج أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة القرشي ابنة أخيه الوليد سالما مولاه وهو عتيق لامرأة من الأنصار، وقد قال الله تعالى {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (4) .
وكذا زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه رقية وأم كلثوم عثمان وزوج أبا العاص بن الربيع ابنته زينب وهما من بني عبد شمس وليسا من بني هاشم وزوج علي عمر بن الخطاب ابنته أم كلثوم وهو عدوي لا هاشمي وتزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين بن علي وهو أموي لا هاشمي وتزوج مصعب بن الزبير أختها سكينة وليس هاشميا بل أسدي من أسد قريش وتزوج المقداد بن الأسود ضباعة ابنة الزبير بن عبد المطلب الهاشمية ابنة عم النبي صلى الله عليه وسلم وهو كندي لا هاشمي وهذا شيء كثير.
والمقصود بيان بطلان ما يدعيه بعض الهاشميين من تحريم تزويج الهاشمية بغير الهاشمي أو كراهة ذلك وإنما الواجب في ذلك اعتبار كفاءته في الدين فالذي أبعد أبا طالب وأبا لهب عدم الإسلام والذي قرب سلمان الفارسي وصهيبا الرومي وبلالا الحبشي إنما هو الإيمان والصلاح والتقوى واتباع الشرع والسير على النهج المستقيم ومما ينجم عن هذا الجهل والتصرف الباطل حبس النساء
__________
(1) مسند أحمد بن حنبل (5/411) .
(2) صحيح البخاري الأدب (5990) ، صحيح مسلم الإيمان (215) ، مسند أحمد بن حنبل (4/203) .
(3) سنن الترمذي النكاح (1084) ، سنن ابن ماجه النكاح (1967) .
(4) سورة النور الآية 26(29/346)
الهاشميات وتعطيلهن من الزواج أو تأخيره فيحصل ما لا تحمد عقباه من الفساد وتعطيل النسل أو تقليله. وقد قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1) فأمر بإنكاح الأيامى أمرا مطلقا ليعم الغني والفقير وسائر أصناف المسلمين.
وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد رغبت في الزواج وحثت عليه فإن على المسلمين أن يبادروا إلى امتثال أمر الله وأمر رسوله حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء (2) » متفق على صحته فعلى الأولياء أن يتقوا الله في مولياتهم فإنهن أمانة في أعناقهم وأن الله سائلهم عن هذه الأمانة فعليهم أن يبادروا إلى تزويج بناتهم وأخواتهم وأبنائهم حتى يؤدي كل دوره في هذه الحياة ويقل الفساد والجرائم. ومن المعلوم أن حبس النساء عن الزواج سبب في فشو الجرائم الأخلاقية وانتشارها التي هي من معاول الهدم والدمار فيا عباد الله اتقوا الله في أنفسكم وفيمن ولاكم الله عليهن من البنات والأخوات وغيرهن وفى إخوانكم المسلمين واسعوا جميعا إلى تحقيق الخير والسعادة في المجتمع وتيسير سبل نموه وتكاثره وإزالة أسباب انتشار الجرائم.
واعلموا أنكم مسئولون ومحاسبون ومجزيون على أعمالكم، قال الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (3) {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (4) وقال عز وجل {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (5) .
وبادروا إلى تزويج بناتكم وأبنائكم مقتدين بنبيكم صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم والسائرين على هديهم وطريقتهم وأوصيكم بتقليل مؤن الزواج وعدم المغالاة في المهور واقتصدوا في
__________
(1) سورة النور الآية 32
(2) صحيح البخاري النكاح (5066) ، صحيح مسلم النكاح (1400) ، سنن الترمذي النكاح (1081) ، سنن النسائي الصيام (2240) ، سنن أبو داود النكاح (2046) ، سنن ابن ماجه النكاح (1845) ، مسند أحمد بن حنبل (1/378) ، سنن الدارمي النكاح (2166) .
(3) سورة الحجر الآية 92
(4) سورة الحجر الآية 93
(5) سورة النجم الآية 31(29/347)
تكاليف الزواج والولائم واجتهدوا في اختيار الأزواج الصالحين الأتقياء ذوي الأمانة والعفة. رزق الله الجميع الفقه في الدين والثبات عليه وأعاذنا وإياكم وسائر المسلمين من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وجنبنا وإياكم مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، كما نسأله أن يصلح ولاة أمور المسلمين ويصلح بهم إنه على ذلك قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(29/348)
بيان هيئة كبار العلماء في تأييد ما اتخذه ولي الأمر من استقدام قوات مؤهلة لرد العدوان على هذه البلاد
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه ولزم سنته إلى يوم الدين وبعد:
فإنه لم يغب عن علم هيئة كبار العلماء وغيرهم في المملكة العربية السعودية ما حدث على حدودها من حشود قوات كبيرة وعدوان على دولة مجاورة لدولة العراق وقد بلغ الهيئة ما تناقلته وكالات الأنباء وبثته وسائل الإعلام ونقله الفارون من الدولة المعتدى عليها " الكويت " من أمور فظيعة وجرائم خطيرة واستهتار بالقيم وانتهاك لحرمة الجوار مما واقعة أعظم من وصفه والسعيد من وعظ بغيره وهذا هو الذي حدا بولاة الأمر في المملكة العربية السعودية إلى أن يأخذوا بأسباب حماية بلادهم وأهلها ومقوماتها من التعرض لمثل ما تعرضت له جارتهم الكويت وأن يطلبوا إعانة الدول العربية وغير العربية لدفع الخطر المتوقع والوقوف بوجه العدوان المرتقب ممن يريد مداهمة البلاد وقد حققت وقائع الأحوال في الكويت أن هذا العدو لا يوثق بوعده ولا تؤمن خيانته.
ولذا فإن بيان الحكم الشرعي في هذه المسألة أمر حتمي ليكون الناس في هذه البلاد وفى غيرها على بصيرة من الأمر ويجلى لهم الواقع عن طريق علمائهم لهذا قرر مجلس كبار العلماء عقد جلسة خاصة لإصدار هذا(29/349)
البيان ليوضح للناس فيه ضرورة الدفاع عن الأمة ومقوماتها بجميع الوسائل الممكنة وأن الواجب على ولاة أمرها المبادرة لاتخاذ كل وسيلة تصد الخطر وتوقف زحف الشر وتؤمن للناس سلامة دينهم وأموالهم وأعراضهم ودمائهم وتحفظ لهم ما ينعمون به من أمن واستقرار. .
لذا فإن مجلس هيئة كبار العلماء يؤيد ما اتخذه ولي الأمر وفقه الله من استقدام قوات مؤهلة بأجهزة قادرة على إخافة وإرهاب من أراد العدوان على هذه البلاد وهو أمر واجب عليه تمليه الضرورة في الظروف الحاضرة ويحتمه الواقع المؤلم، وقواعد الشريعة وأدلتها توجب على ولي أمر المسلمين أن يستعين بمن تتوافر فيه القدرة وحصول المقصود وقد دل القرآن والسنة النبوية على لزوم الاستعداد وأخذ الحذر قبل فوات الأوان وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(29/350)
حديث شريف
عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثني محمد بن إبراهيم، أن أبا سلمة حدثه أنه كانت بينه وبين أناس خصومة فذكر لعائشة رضي الله عنها فقالت: يا أبا سلمة اجتنب الأرض فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين (1) »
رواه البخاري
__________
(1) صحيح البخاري المظالم والغصب (2453) ، صحيح مسلم المساقاة (1612) ، مسند أحمد بن حنبل (6/252) .(29/351)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (1)
(الزمر)
__________
(1) سورة الزمر الآية 47(30/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(30/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعنى بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(30/3)
المحتويات
الافتتاحية:
واجب الشباب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد:
التقادم في مسألة وضع اليد "الجزء الثاني" اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 19
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 73
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 107
البحوث:
التبليغ خلف الإمام د. عبد الله بن محمد الطريقي 127
دفع الدعوى الشيخ مسفر بن حسين القحطاني 149(30/4)
المشكلة الاقتصادية د. حسين مطاوع الترتوري 171
الآيات والبراهين على صدق نبوة خاتم المرسلين د. ناجي محمد داود سلامة 223
انتشار ترجمات معاني القرآن الكريم السيد أحمد أبو الفضل عوض الله 257
قرارات وتوصيات المؤتمر الإسلامي 269
وثيقة مكة المكرمة 273
بيان هيئة كبار العلماء 281
من قرارات المجامع الفقهية 285
من قرارات هيئة كبار العلماء 291
وصية للمرابطين سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 293
حكم قيادة المرأة للسيارة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 297
كشاف مجلة البحوث الإسلامية (من العدد السادس عشر إلى العدد الثلاثين) إعداد أمين سليمان سيدو 301
قرارات المجلس التنفيذي للمؤتمر الإسلامي الشعبي 343(30/5)
صفحة فارغة(30/6)
الافتتاحية
واجب الشباب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فمن المعلوم أن الله عز وجل خلق الثقلين ليعبدوه وحده لا شريك له، وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام لدعوة الناس إلى هذا الواجب وتوضيح هذا الأمر العظيم وتبصيرهم في ذلك وتوجيههم إلى الخير وتحذيرهم عما سواه. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} (2) {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (3) فأبان سبحانه وتعالى أنه خلق الثقلين ليعبدوه وحده لا شريك له وأن الرزق عليه سبحانه وتعالى وليس في حاجة إلى أحد من خلقه جل وعلا بل هو الرازق سبحانه وتعالى وإنما خلقوا ليعبدوا ربهم وعبادته وتعظيمه والخضوع له سبحانه وتعالى والذل له بفعل أوامره وترك نواهيه عن محبة خاصة وعن صدق وإخلاص وعن رغبة ورهبة. هكذا تكون العبادة هي طاعة الرب عز وجل وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بفعل الأوامر وترك النواهي عن ذل وخضوع ومحبة لله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام وعن رغبة فيما عند الله من الثواب وعن حذر مما عنده من العقاب جل وعلا.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة الذاريات الآية 57
(3) سورة الذاريات الآية 58(30/7)
وهذه العبادة إنما تعرف بالتفصيل من طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام وهم الذين يشرحونها للناس ويبينونها بما أنزل الله عليهم من الكتب وبما يوحي إليهم سبحانه من أنواع الوحي فيما يأمرهم وينهاهم عنه سبحانه وتعالى كما قال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (1) وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (2) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) .
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (4) فالواجب على جميع الثقلين من الجن والإنس رجالا ونساء شيبا وشبابا أن يعبدوه وحده بطاعته سبحانه فيما أمر به وترك ما نهى عنه على حسب ما جاء به الرسل عليهم الصلاة والسلام. ومعلوم أن نصيب هذه الأمة من الرسل عليهم الصلاة والسلام محمد عليه الصلاة والسلام - فإن الله أرسله إلى هذه الأمة عامة وجعله خاتم الأنبياء وكانت الرسل قبله كثيرين وكان كل واحد منهم يرسل إلى قومه خاصة، أما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى الناس عامة كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (5) وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (6) وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (7) وتواتر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «أنا خاتم النبيين (8) » .
__________
(1) سورة الحديد الآية 25
(2) سورة النحل الآية 89
(3) سورة النحل الآية 36
(4) سورة الأنبياء الآية 25
(5) سورة سبأ الآية 28
(6) سورة الأعراف الآية 158
(7) سورة الأحزاب الآية 40
(8) صحيح البخاري المناقب (3535) ، صحيح مسلم الفضائل (2286) ، مسند أحمد بن حنبل (2/398) .(30/8)
وأجمع أهل العلم على أنه خاتم الأنبياء والرسل وأنه ليس بعده نبي ولا رسول. ولهذا جعل الله رسالته عامة لجميع الأمة عربها وعجمها وجنها وإنسها ذكورها وإناثها أسودها وأبيضها وأحمرها لا فرق في ذلك كما تقدم في قوله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (1) وفى قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (2) .
وفى الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة (3) » وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (4) وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} (5) نذير للعالمين كلهم - فالواجب على جميع الثقلين طاعة هذا الرسول عليه الصلاة والسلام والسير على منهاجه والاستقامة على طريقه قولا وعملا وعقيدة ومحبته محبة خاصة صادقة فوق محبة النفس والأهل والأولاد والناس أجمعين، فبذلك يفلح العبد غاية الفلاح وينجو في الدنيا والآخرة وتكون له السعادة والعاقبة الحميدة الأبدية كما قال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (6) فمن آمن به واتبع طريقه وانقاد لشرعه فهو المفلح وهو السعيد في الدنيا والآخرة وهو الصادق حقا في محبته لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم كما قال عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (7) الآية وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (8) {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (9) وقال عليه
__________
(1) سورة الأعراف الآية 158
(2) سورة سبأ الآية 28
(3) صحيح البخاري التيمم (335) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (521) ، سنن النسائي الغسل والتيمم (432) ، مسند أحمد بن حنبل (3/304) ، سنن الدارمي الصلاة (1389) .
(4) سورة الأنبياء الآية 107
(5) سورة الفرقان الآية 1
(6) سورة الأعراف الآية 157
(7) سورة آل عمران الآية 31
(8) سورة النساء الآية 13
(9) سورة النساء الآية 14(30/9)
السلام: «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى (1) » أخرجه الإمام البخاري في صحيحه - فالواجب على جميع المكلفين من الرجال والنساء والذكور والإناث والشباب والشيب والجن والإنس والعرب والعجم أن يعبدوا الله وحده ويخصوه بأنواع العبادة وأن يطيعوه سبحانه وتعالى، ويتبعوا شريعته وذلك بإخلاص العبادة له وحده واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في ذلك. والعبادة حق الله وحده ليس لأحد فيها شركة كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) وقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (3) وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (4) الآية وهذه العبادة هي طاعته واتباع شريعته وتعظيم أمره ونهيه وترك ما نهى عنه عن ذل وخضوع وعن محبة وانقياد وصدق ورهبة ورغبة.
ومن عبد غيره معه فقد أشرك به سبحانه كمن يعبد الشمس أو القمر أو النجوم أو الأصنام أو الجن أو الرسل أو الأنبياء أو الأولياء أو غيرهم من المخلوقين يدعوهم أو يستغيث بهم أو يطلب المدد منهم أو يذبح لهم أو يعتقد فيهم أنهم يتصرفون في الخلق بالنفع أو الضر أو شفاء المرض أو جلب الرزق أو النصر على الأعداء أو نحو ذلك، أو أنهم شركاء لله في ذلك وهذا كله من الشرك الأكبر والكفر البواح الذي يفسد العمل ويحبطه ويوجب دخول النار وتحريم الجنة والمغفرة، كما قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (5) وقال تعالى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (6) ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (7) وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (8)
__________
(1) صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (7280) ، مسند أحمد بن حنبل (2/361) .
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سورة الإسراء الآية 23
(4) سورة البينة الآية 5
(5) سورة المائدة الآية 72
(6) سورة الأنعام الآية 88
(7) سورة الزمر الآية 65
(8) سورة النساء الآية 48(30/10)
فالشرك هو صرف بعض العبادة لغير الله عز وجل جعل بعضها لله وبعضها لغيره سبحانه وتعالى من الجن أو الإنس أو الملائكة أو الأصنام أو الأشجار أو الكواكب أو الأحجار أو غير ذلك من الخلق يستغيث بهم أو ينذر لهم أو يذبح لهم أو يطلب منهم المدد أو نحو ذلك. فمن فعل ذلك فقد أشرك بالله وعبد معه سواه وأبطل بذلك شهادته أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لأن لا إله إلا الله هي كلمة التوحيد وهي أساس الدين. قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (1) وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (2) الآية. فمن أشرك مع الله غيره نقض هذه الكلمة لأن معناها لا معبود حق إلا الله. كما قال تعالى في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} (3) ومن زعم أنه يجوز أن يدعى مع الله غيره ويعبد مع الله سواه من صنم أو شجر أو حجر أو نبي أو ملك أو جن أو غير ذلك فقد أشرك بالله وكفر وأعظم على الله الفرية وإن لم يفعله ما دام يعتقد جواز هذا وأنه لا بأس به، وصار بهذا مشركا كافرا ولو لم يفعله فكيف إذا فعل. وهكذا من جحد ما أوجب الله عليه من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة يكون كافرا مشركا كمن جحد وجوب الصلاة أو الزكاة أو جحد وجوب صوم رمضان أو جحد وجوب الحج مع الاستطاعة أو جحد تحريم الزنا أو قال: إن الخمر ليس بحرام أو أحل اللواط أو الربا أو عقوق الوالدين أو ما أشبه ذلك مما هو معروف من الدين بالضرورة وجوبه أو تحريمه فإنه يصير بذلك مشركا كافرا مبطلا بذلك قوله لا إله إلا الله لأن دين الله يتضمن إخلاص العبادة لله وحده والإيمان بما شرع الله من واجبات ومحرمات. فعلى المسلم أن ينقاد لذلك ويؤمن به ويستقيم عليه. والشباب لهم شأن لأنهم عصب الأمة وقوتها بعد الله ويرجى فيهم الخير العظيم والنصر لدين الله في
__________
(1) سورة البقرة الآية 163
(2) سورة محمد الآية 19
(3) سورة لقمان الآية 30(30/11)
مستقبل الزمان إذا استقاموا وتثقفوا في الدين كما يرجى فيهم النفع للأمة والرفع من شأنها وإعلاء دين الله وجهاد أعدائه - وعلى الشباب واجب كبير في نصر الحق وأهله ومكافحة الباطل والدعاة إليه - فالواجب على كل شاب مكلف أن يهتم بدينه وأن يعتني به وأن يتفقه فيه من طريق الكتاب والسنة بواسطة العلماء المعروفين بالعلم والفضل وحسن العقيدة حتى يستقيم على دينه على بصيرة ويدعو إليه على بصيرة وحتى يدع ما حرم الله على بصيرة، وطريق ذلك العناية بالقرآن الكريم حفظا وتدبرا وتعقلا والإكثار من تلاوته لأنه صراط الله المستقيم وحبله المتين وذكره الحكيم ولأنه الهادي إلى كل الخير كما قال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} (1) {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (2) وقال جل وعلا: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (3) .
وعلى الشباب أيضا وغيرهم من المسلمين أن يعتنوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أحاديثه وسيرته، ويتفقهوا فيها ويحفظوا ما تيسر منها ويدعوا الناس إلى ذلك لأنها الوحي الثاني والأصل الثاني من أصول الشريعة بإجماع أهل العلم كما قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (4) {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (5) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} (6) {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (7) وقال سبحانه: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (8) وقال عز وجل معظما شأن الكتاب والسنة في آخر سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (9) {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (10)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 9
(2) سورة فصلت الآية 44
(3) سورة ص الآية 29
(4) سورة النجم الآية 1
(5) سورة النجم الآية 2
(6) سورة النجم الآية 3
(7) سورة النجم الآية 4
(8) سورة النور الآية 54
(9) سورة الشورى الآية 52
(10) سورة الشورى الآية 53(30/12)
فأخبر سبحانه في هذه الآية الكريمة أن القرآن والسنة روح تحصل به الحياة للعباد ونور تحصل به الهداية لمن شاء الله منهم.
فجدير بأهل العلم من الشباب وغيرهم أن يعضوا على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنواجذ وأن يتفقهوا فيهما وأن يهتدوا بهما إلى صراط الله المستقيم الموصل إليه وإلى دار كرامته وأن يسيروا على ذلك في المدارس والجامعات وفي الحلقات العلمية وغير ذلك من مجالس العلم مع سؤال علماء الحق عما أشكل عليهم في الأحكام كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (1) وعلى الشباب أن يعتنوا بالكتب التي يوكل إليهم حفظها ودراستها مع عرضها على الكتاب والسنة حتى يكونوا في ذلك على بينة وبصيرة مما يدل عليه كتاب ربهم عز وجل وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام ومما يوضح لهم أهل العلم في المدرسة والجامعة وحلقات العلم ولا يتم هذا إلا بالله سبحانه وتعالى والاستعانة به والتوجه إليه وسؤاله التوفيق والهداية ثم حفظ الوقت والعناية به حتى لا يصرف إلا فيما ينفع ويفيد ويلتحق بذلك العناية بالدروس والإقبال عليها وسؤال الأساتذة عما يشكل فيها والمذاكرة مع الزملاء في ذلك حتى يكون الطالب قد حفظ وقته واستعد لما يقوله الأستاذ ويشرح له ولا يجوز له أن يتكبر عن المذاكرة مع زميله وسؤال الأساتذة كما لا ينبغي أن يستحي في طلب العلم والسؤال عن المشكلات، قال الله تعالى في سورة الأحزاب: {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} (2) وقالت أم سليم الأنصارية رضي الله عنها: «يا رسول الله: إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم إذا هي رأت الماء (3) » متفق عليه والمراد بالماء المني، وقال مجاهد بن جبر التابعي الجليل: " لا يتعلم العلم مستح ولا مستكبر " رواه البخاري في صحيحه معلقا مجزوما به.
ومن الواجب على الشباب وغيرهم العمل بالعلم وذلك بأداء الواجبات والحذر من المحرمات لأن هذا هو المقصود من العلم ومن أسباب رسوخه وثباته في القلوب ومن
__________
(1) سورة النحل الآية 43
(2) سورة الأحزاب الآية 53
(3) صحيح البخاري كتاب الأدب (6091) ، صحيح مسلم الحيض (313) ، سنن الترمذي الطهارة (122) ، سنن النسائي الطهارة (196) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (600) ، مسند أحمد بن حنبل (6/376) ، موطأ مالك الطهارة (118) .(30/13)
أسباب رضا الله عن العبد وتوفيقه له ومن المصائب العظيمة أن بعض الناس يتعلم ولكنه لا يعمل ولا شك أن ذلك مصيبة كبيرة وتشبه بأعداء الله اليهود وأمثالهم من علماء السوء الذين غضب الله عليهم بسبب عدم عملهم بعلمهم. يقول بعض السلف رضي الله عنهم: " من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم " ويدل على هذا قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (1) وقوله عز وجل: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} (2) فمن اهتدى زاده الله هدى وزاده علما وتوفيقا. قال تعالى في أعظم سورة وهي سورة الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (3) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (4) وهم أهل العلم والعمل من الرسل وأتباعهم بإحسان - فالمنعم عليهم هم الذين عرفوا الله وعملوا بطاعته وشرعه وتفقهوا في الدين واستقاموا عليه كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (5) هؤلاء هم المنعم عليهم وهم أهل الصراط المستقيم وهم أهل العلم والعمل وأهل البصيرة ثم حذر سبحانه من المغضوب عليهم والضالين، فقال سبحانه: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (6) فالمغضوب عليهم هم الذين يعلمون ولا يعملون كاليهود وأشباههم والضالين هم النصارى وأشباههم من الجهلة يتعبدون على الجهالة - فالمؤمن يسأل ربه أن يهديه صراط المنعم عليهم من أهل العلم والعمل وأن يجنبه طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين.
فالواجب على الشباب بصفة خاصة وعلى كل مسلم بصفة عامة أن يعتني بهذا الأمر ويكون في دراسته حريصا على العلم والفقه في الدين والعمل بذلك حفاظا لوقته معتنيا بالمذاكرة والدراسة والسؤال عما أشكل عليه ناصحا لله ولعباده، يقول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين (7) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة (8) » .
__________
(1) سورة محمد الآية 17
(2) سورة مريم الآية 76
(3) سورة الفاتحة الآية 6
(4) سورة الفاتحة الآية 7
(5) سورة النساء الآية 69
(6) سورة الفاتحة الآية 7
(7) صحيح البخاري العلم (71) ، صحيح مسلم الإمارة (1037) ، سنن ابن ماجه المقدمة (221) ، مسند أحمد بن حنبل (4/93) ، موطأ مالك كتاب الجامع (1667) ، سنن الدارمي المقدمة (226) .
(8) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2699) ، سنن الترمذي القراءات (2945) ، سنن ابن ماجه المقدمة (225) ، مسند أحمد بن حنبل (2/252) ، سنن الدارمي المقدمة (344) .(30/14)
ويقول صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه (1) » متفق على صحته، فالشاب الناشئ في العبادة له شأن عظيم في فقهه وعلمه ونصحه لكونه قد تربى على العلم والفضل والعمل والعبادة والخير فيكون بذلك نافعا لنفسه نافعا لعباد الله من أساس شبابه حتى يلقى ربه.
ومن أهم الأمور بل أهم الأمور بعد الشهادتين الصلوات الخمس والمحافظة عليها وهي عماد الدين (من حفظها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع) ووصيتي لكم أيها الإخوة ولنفسي ولجميع الشباب ولكل مسلم تقوى الله في كل شيء والعناية بوجه خاص بالصلاة والمحافظة عليها في وقتها في الجماعة في المساجد مع المسلمين - وهذا من أهم واجبات الشباب وواجب كل مسلم ومسلمة - فالصلاة هي عمود الإسلام (من حفظها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع) كما تقدم، هي أول شيء يسأل عنه العبد يوم القيامة فإن صحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر يقول صلى الله عليه وسلم: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة - وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله (2) » ويقول صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت (3) » وهي الركن الثاني من أركان الإسلام - ويقول أيضا عليه الصلاة والسلام: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (4) » ويقول أيضا صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (5) » . وهكذا تجب العناية بأداء الزكاة فمن عنده مال يبلغ النصاب. وهكذا تجب العناية بصوم رمضان في وقته والحفاظ على ذلك - وكذلك يجب حج بيت الله الحرام مع الاستطاعة مرة في العمر.
ومن الواجبات العظيمة بر الوالدين والإحسان إليهما وصلة الرحم وإكرام الضيف وصدق الحديث والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء الأمانة والنصح لكل مسلم مع الحذر من جميع ما حرم مثل الزنا والسرقة وشرب المسكر وأكل الربا وسائر ما حرم الله من
__________
(1) صحيح البخاري الأذان (660) ، صحيح مسلم الزكاة (1031) ، سنن الترمذي الزهد (2391) ، سنن النسائي آداب القضاة (5380) ، مسند أحمد بن حنبل (2/439) ، موطأ مالك الجامع (1777) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2616) ، سنن ابن ماجه الفتن (3973) ، مسند أحمد بن حنبل (5/246) .
(3) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .
(4) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(5) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(30/15)
الغيبة وشهادة الزور والكذب وغير هذا مما حرم الله - فالواجب على كل مسلم ومسلمة الحذر من ذلك.
ومن واجب الشباب بصفة خاصة أن ينشأوا على ذلك وأن يوطنوا أنفسهم على الخير وأن يجاهدوها في هذا المقام حتى يؤدوا ما أوجب الله وحتى يبتعدوا عما حرم الله عليهم. ومن ذلك الحذر من المخدرات وسائر المسكرات فإن شرها عظيم وفسادها كبير. فيجب البعد عنها والحذر من مجالسة أهلها؛ لأن المجالسة تجر إلى أخلاق الجليس، فالواجب صحبة الأخيار، والحذر من صحبة الأشرار، وهكذا العناية ببر الوالدين والإحسان إليهما وعدم عقوقهما فإن حقهما عظيم - ومن الأخلاق الكريمة العناية بالزميل والإخوان وعدم التكبر عليهم والعناية بالجار والإحسان إليه لأن الله سبحانه وتعالى أوصى بذلك، وهكذا رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} (1) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه (2) » إلى غير ذلك من أخلاق المؤمنين. قال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (3) » .
ومن الأخلاق الكريمة العظيمة العناية بطاعة الله ورسوله في جميع الأوقات والمحافظة على ذلك والحفاظ على الوقت وأن يؤمر بطاعة الله وترك ما نهى عنه والعناية بالأخلاق الكريمة من بر للوالدين وصلة الرحم وإيثار للمسلم وعدم الغيبة والنميمة والحرص على حفظ اللسان عما لا ينبغي والإكثار من ذكر الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والتحذير من الشر - وهكذا المؤمن وهكذا الشاب المتعلم يجب أن يعود نفسه هذه الأخلاق الكريمة ويجب أن يعودها البعد عما حرم الله والحذر عما حرم الله، فإن العبد متى نشأ على شيء في الغالب يشيب عليه ويموت عليه في سنة الله على عباده أنه سبحانه إذا وفق العبد في شبابه على الخير والاستقامة فإن الله سبحانه يوفقه للثبات عليه والوفاة عليه. فليحرص المؤمن والشاب الصالح على الثبات على الحق والسير عليه
__________
(1) سورة النساء الآية 36
(2) صحيح البخاري الأدب (6015) ، صحيح مسلم البر والصلة والآداب (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (2/85) .
(3) مسند أحمد بن حنبل (2/381) .(30/16)
ومصاحبة الأخيار الذين يعينونه على الخير والحذر من صحبة الأشرار والزملاء الذين يعينونه على الشر.
وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا جميعا للعلم النافع والعمل الصالح وأن يسلك بنا جميعا صراطه المستقيم وأن يعيذنا وسائر المسلمين من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه والدعوة إليه على بصيرة إنه جل وعلا جواد كريم كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا إلى كل خير وأن ينصر بهم دينه ويعلي بهم كلمته وأن ييسر لهم البطانة الصالحة وأن يجعلهم هداة مهتدين كما أسأله سبحانه أن يوفق جميع ولاة أمر المسلمين وأن يعينهم على تنفيذ الحق والحكم به والحذر ممن يخالفه وأن يصلح الله لهم البطانة وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله في عباده وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان وأن يولي عليهم خيارهم وأن يفقههم في الدين وأن يكثر بينهم دعاة الهدى إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/17)
صفحة فارغة(30/18)
التقادم في مسألة
وضع اليد
" الجزء الثاني "
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
جـ - وجاء في مرشد الحيران وشرحه - باب في وضع اليد وعدم سماع الدعوى بمرور الزمن الأصل في هذا المبحث أن الولاية تتخصص بالزمان والمكان والخصومة وتقبل التقييد والتعليق بالشرط كقول الإمام لمن يريد توليته: إذا وصلت إلى بلد كذا فأنت قاضيه وتقبل الإضافة إلى زمن معلوم كقوله: جعلتك قاضيا على جهة كذا من أول سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بعد الألف، لأن السلطة مستمدة منه فلا يتجاوز المستمد قدر ما أمده به ولي الأمر واستدل على أن الولاية تقبل التعليق بقوله عليه الصلاة والسلام حين بعث البعثة إلى مؤتة (قرية من قرى البلقاء في حدود الشام من جهة بلاد العرب شمال معان) وأمر عليهم زيد بن حارثة: «إن قتل زيد بن حارثة فجعفر أميركم وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة (1) » وقد ورد نهي سلطاني للقضاة بعدم سماع الدعوى في غير الإرث، والوقف بعد مضي خمس عشرة سنة والمدعى عليه واضع يده على ما يدعيه المدعي وهو حاضر ولم يكن عنده عذر شرعي يمنعه من الخصومة لأن تركه تلك المدة أمارة على كونه غير محق وأن الشيء المتنازع فيه ملك لواضع اليد إذ العرف والعادة يقتضيان أن الشخص لا يسكت عن ملكه هذا الزمن الطويل.
ولكن مضي المدة لا يكسب واضع اليد الملك فيما وضع يده عليه لقوله عليه الصلاة والسلام «لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم» ولذلك لو أقر به للمدعى عليه تسمع
__________
(1) صحيح البخاري المغازي (4261) .(30/19)
الدعوى ولو تمسك بالمدة الطويلة ولا يلتفت إليه. وينبغي لولي الأمر أن ينظر في مثل هذه القضايا بنفسه أو يعين من يختاره للفصل فيها كي لا تضيع الحقوق، نعم لو كان بعض المدعين مشهورا بالحيل والتزوير لا يلتفت إلى قضيته أصلا لأن شهرته بالتزوير تدل على أنه مبطل في دعواه وإنما الواجب عليه النظر في قضايا من لم يشتهروا بالتزوير والاحتيال لاغتيال حقوق الناس بالباطل. وينبني على ذلك أنه إذا كان شخص واضعا يده على عين من الأعيان عقارا كانت أو منقولا والحال أنه يتصرف فيها تصرف الملاك بدون منازع ولا معارض مدة خمس عشرة سنة فلا تسمع عليه دعوى الملك بغير الإرث والوقف من أحد ليس عنده عذر شرعي كسفر أو مرض أو جنون أو صغر كما سيبين قريبا، ومحل ذلك ما إذا أنكر المدعى عليه فإن أقر للمدعي وجب على القاضي سماعها ولذلك ينبغي للقاضي أن لا يرفض القضية من أول الأمر بل ينبغي له أن يوجه إلى المدعى عليه بعض أسئلة لجواز أن يقر وإذ ذاك يبتدئ في سماعها ليفصل فيها. انظر مادة (151) .
فمما تقدم علمت أن النهي السلطاني خاص بغير الإرث والوقف فلا يسري حكم النهي إليهما بل تسمع فيهما الدعوى ولو بعد مضي خمس عشرة سنة ولكن نص الفقهاء على أن الخصم لو ترك الخصومة مدة ثلاث وثلاثين سنة في الإرث والوقف وهو يشاهد واضع اليد يتصرف في العين التي تحت يده تصرف الملاك بدون منازع ولا معارض ولم يكن له من عذر شرعي يمنعه من الخصومة فلا تسمع دعواه بعد ذلك لأن ترك الخصومة هذا الزمن الطويل يدل على أنه غير مالك لما يدعيه وهذا الحكم ليس مبنيا على نهي سلطاني بل على اجتهاد الفقهاء ولذا لا تسمع الدعوى بعدها ولو أمر ولي الأمر بسماعها. وصرح بعضهم بأن المدة في الإرث والوقف ثلاثون سنة، وصرح آخرون بأنها ست وثلاثون سنة وقال بعضهم: المستثنى من النهي السلطاني إنما هو الوقف ومال اليتيم(30/20)
والغائب في الإرث والمشهور الأول. انظر مادة (152) .
وليست المدة المانعة من سماع الدعوى قاصرة على الزمن الذي وضع يده المدعى عليه فيه بل لواضع اليد المدعى عليه أن يضم إلى مدة وضع يده وضع يد من تلقى الملك عنه مطلقا سواء كان ذلك التلقي بطريقة الشراء أو الهبة أو الوصية أو الإرث أو غير ذلك كالأخذ بالشفعة فإذا ضمت المدتان إلى بعضهما وصار المجموع مساويا للمدة المانعة من سماع الدعوى فلا تسمع على واضع اليد دعوى الملك المطلق ولا دعوى الإرث والوقف لأن علة منع سماعها الترك وقد حصل في مجموع المدتين. انظر مادة (153) .
ومحل منع سماع الدعوى بعد مضي المدة إذا لم يكن وضع اليد بطريق الإجارة أو الإعارة فإن كان واضع اليد مستأجرا أو مستعيرا أو معترفا بالإجارة أو الإعارة فليس له أن يتمسك بمضي المدة وهو واضع اليد لاعترافه بأنه ليس بمالك وأن الملك للمؤجر أو للمعير. فلو أنكر الإجارة أو الإعارة في جميع مدة وضع يده ومضت المدة المقررة لمنع سماع الدعوى والمدعي حاضر ولم يخاصم مع تمكنه من المخاصمة ووجود الداعي لها وهو إنكاره الإجارة أو الإعارة فلا تسمع دعواه بعد ذلك لأن سكوته المدة الطويلة يدل على أنه غير محق في دعواه كما تقدم، انظر مادة (155) .(30/21)
وهذا إذا ترك مدعى الملك أو الإرث أو الوقف الدعوى في المدة الطويلة وهي خمس عشرة سنة في الملك المطلق وثلاث وثلاثون سنة في الإرث والوقف) بدون عذر شرعي فإن كان عنده عذر من الأعذار الشرعية يمنعه من الدعوى كأن كان مريضا أو مسافرا أو قاصرا أو مجنونا وليس لهما ولي أو وصي جاز سماع الدعوى ولا عبرة بوضع اليد في تلك المدة لأن العلة ترك الخصومة مع التمكن وهو لم يتمكن لوجود العذر الشرعي. ومن المقرر أن المعلول يدور مع علته وجودا أو عدما.
ولهذا لو حضر المسافر وبلغ الصبي وعقل المجنون وترك كل منهم الدعوى بعد زوال العذر مدة خمس عشرة سنة في الملك المطلق ومدة ثلاث وثلاثين في الإرث والوقف لا تسمع منهم الدعوى انظر مادتى (156 - 157) .
ولو خاصم المدعي واضع اليد عند القاضي في مجلس القضاء قبل مضي المدة المانعة من سماع الدعوى ولم يفصل القاضي في الخصومة وأهملت الدعوى حتى مضى على وضع اليد المدة الكافية للمنع من سماع الدعوى جاز للقاضي سماعها ولكن محل ذلك ما لم يمض بين الدعوى الأولى والثانية المدة المقررة لعدم سماع الدعوى فإن مضت المدة بعد الدعوى الأولى ولم يكن عنده عذر يمنعه من الدعوى فلا يجوز للقاضي سماعها. هذا إذا كانت المخاصمة أمام القاضي كما تقدم فإن طلب المدعي العين من واضع اليد عليها في غير مجلس القضاء فلا تعتبر تلك المطالبة ولو حصلت وحينئذ لا تكون تلك المطالبة قاطعة للمدة بل لواضع اليد أن يضم المدة التي بعد المطالبة إلى التي قبلها فإن بلغت المدتان المدة المحددة ثم ادعى أحد على واضع اليد بعد ذلك فلا تسمع منه(30/22)
الدعوى انظر مادتي (158 - 159) .
وليس عدم سماع الدعوى قاصرا على مضي المدة الطويلة المتقدم بيانها بل يمنع المدعي من سماع دعواه إذا وجد منه ما يدل على اعترافه بالملك لواضع اليد ولو لم يمض على ذلك المدة الطويلة لأنه بدعواه الملك بعد اعترافه يعد ساعيا في نقض ما تم من جهته وكل من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه وينبني على ذلك ما يأتي:
الأول - أنه إذا ساوم شخص آخر في العين التي تحت يده بطريق البيع أو الإجارة ليبيعها له أو يؤجرها له أو طلب منه أن يعيرها إياه ثم ادعى بعد ذلك أن العين ملكه فلا تسمع دعواه بعد المساومة أو طلب الإيداع أو الإجارة أو الإعارة لاعترافه ضمنا بالملك للمدعى عليه فلا تقبل دعواه انظر مادة (154) .
الثاني - إذا باع أحد لآخر عينا من الأعيان سواء كانت عقارا أو منقولا أمام شخص فاستلم المشترى المبيع بحضرته وتصرف فيه تصرف الملاك وهو حاضر كأن بنى في العقار أو غرس فيه أشجارا أو زرعه أو كان المبيع من الأقمشة فجعله ثوبا ثم أراد بعد ذلك مخاصمة المشتري فلا تسمع دعواه لأن حضوره وقت البيع ومشاهدته للتصرف ولم ينكر على المشتري ولم يخاصمه في ذلك الوقت بدون عذر يعد اعترافا منه بالمالك ولو مات ذلك الشخص وأراد وارثه أن يدعي فليس له ذلك لاعتراف مورثه بالملك للمشتري ضمنا. انظر مادة (160) .(30/23)
الثالث - أنه إذا باع شخص عقارا أو حيوانا أو ثوبا لآخر وكان أحد أقاربه يعلم ذلك كولده أو أبيه أو أخيه أو زوجته ثم ادعى أنه ملكه فلا تسمع دعواه بعد ذلك إذا لم يكن عنده عذر يمنعه من إقامة الدعوى وقت البيع لأن سكوته وقت البيع يعد اعترافا منه بالملك للبائع وأنه ليس له حق فدعواه بعد ذلك تعد سعيا في نقض ما تم من جهته وكل من سعى في نقض ما تم من جهته فسعيه مردود عليه كما سبق. ولا يشترط في عدم سماع دعوى القريب مشاهدته لتصرف المشتري كما تقدم في الأجنبي على الصحيح بل مجرد اطلاعه على بيع قريبه بدون مخاصمة يمنعه من سماع الدعوى. انظر مادة (161) .
فائدة
قال الإمام مالك من حاز عقار غيره عشر سنين منع الغير من سماع الدعوى وهذا إذا كان أجنبيا فإن كان قريبا سواء كان شريكا في العقار أو غير شريك فلا تعتبر الحيازة إلا إذا طال تصرف الحائز بالهدم والبناء ونحوهما مدة طويلة نحو ستين سنة وتختلف الحيازة في المنقول باختلاف حالته ففي دابة الركوب وفي نحو أثاث المنزل ثلاث سنين وفي نحو ثوب سنة.
وأما الديون الثابتة في الذمة فقيل: تسقط بمضي عشرين سنة بدون عذر وقيل: لا تسقط إلا بمضي ثلاثين سنة واختار ابن رشد أنها متى كانت ثابتة لا تسقط وإن طال الزمان وكان ربه حاضرا ساكنا قادرا على الطلب لخبر «لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم» وفوض بعضهم الأمر لاجتهاد القاضي لينظر في حال الزمن وحال الناس وهو ظاهر. اهـ. من الشرح الكبير جزء 4 صحيفة 217 - 218 (1) .
__________
(1) - مرشد الحيران وشرحه، ص (114) وما بعدها(30/24)
2 - النقول عن المذهب المالكي:
تمهيد:
بنى الإمام مالك القول بإثبات الحكم بالتقادم على اجتهاد الحاكم ولم يحدد له مدة معينة وذكر بعضهم عنه تحديده بعشر سنوات ومن المالكية من بنى قوله في ذلك على حديثين أحدهما: «لا يبطل حق امرئ وإن قدم» . والثاني: «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» .
ولقد اعتنى المالكية في تفصيل الكلام على هذه النقطة في مدونة الإمام مالك رحمه الله وفي تبصرة الحكام لابن فرحون ومختصر خليل وشرحه للحطاب وغيرها وقد رأت اللجنة الاقتصار على النقول الثلاثة المشار إليها فقط وتركت البقية اختصارا.
وفيما يلي ذكر هذه النقول:(30/25)
أ - شهادة السماع في الدور المتقادم حيازتها:
قلت: (1) أرأيت إن كانت الدار في يدي رجل قد أنسئ له في العمر أقام فيها خمسين سنة أو ستين سنة ثم قدم رجل فادعاها وأثبت الأصل فقال الذي الدار في يده اشتريتها من قوم قد انقرضوا وانقرضت البينة وجاء بقوم يشهدون على السماع أنه اشتراها (قال) سمعت مالكا يقول: إذا جاء بقوم يشهدون على السماع أنه اشترى ولم يقل لي مالك من صاحبها الذي ادعاها كان أو من غيره وقد أخبرتك بالذي سمعت منه وليس وجه السماع الذي يجوز على المدعي والذي حملنا عن مالك إلا أن يشهدوا على سماع شراء من أهل هذا المدعي الذي يدعي الدار بسببهم أو يكون في ذلك قطع لدعوى هذا المدعي بمنزلة السماع في الأحباس فيما فسر لنا مالك (قال) ومعنى قول مالك حتى يشهدوا على سماع يكون فيه قطعا لدعوى هذا المدعي إنما هو أن يشهدوا أنا سمعنا أن هذا الذي الدار في يديه أو أباه أو جده اشترى هذه الدار من هذا المدعي أو من أبيه أو من جده أو من رجل يدعي هذا المدعي أنه ورث هذه الدار من قبله (قال) نعم أو اشترى ممن
__________
(1) المدونة الكبرى الجزء الرابع ص (89) .(30/25)
اشترى من جد هذا المدعي وقد بينا لك ذلك من قول مالك (قال) وقال مالك هاهنا دور تعرف لمن أولها بالمدينة قد تداولها قوم بعد قوم في الاشتراء وهي اليوم لغير أهلها فإذا كان على مثل هذا فالسماع جائز على ما وصفت لك وإن لم تكن شهادة قاطعة (قال) ابن القاسم وكان مالك يرى الشهادة على السماع أمرا قويا (قلت) أرأيت إن أتى الذي الدار في يده ببينة يشهدون أنهم سمعوا أن هذا الرجل الذي في يده الدار اشترى هذه الدار أو اشتراها جده أو اشتراها والده إلا أنهم قالوا سمعنا أنه اشتراها ولكنا لم نسمع بالذي اشتراها منه من هو (قال) لم أسمع من مالك فيه شيئا ولا أرى ذلك يجوز حتى يشهدوا على سماع صحة أنه اشتراها من فلان أب هذا المدعي أو جده.(30/26)
ب - في الشهادة على السماع في الدار القريبة حيازتها:
قلت: (1) أرأيت إن أتى رجل فادعى دارا في يدي رجل وثبت ذلك فقال الذي في يديه الدار: أنا آتي بقوم يشهدون على السماع أن أبي اشتراها من خمس سنين أو ما أشبه ذلك أتقبل البينة في تقارب مثل هذا على السماع (قال) لا أرى أن ينفع السماع في مثل هذا ولا تنفعه شهادة السماع إلا أن يقيم بينة تقطع على الشراء وإنما تكون شهادة السماع جائزة فيما كثر من السنين وتطاول من الزمن ولقد قال مالك في الرجل يقر لقوم أن أباهم كان أسلفه مالا وأنه قد قضاه والدهم (قال) مالك وكان الذي من ذلك أمرا حديثا من الزمان والسنين لم يتطاول ذلك لم ينفعه قوله قد قضيت إلا ببينة قاطعة على القضاء وإن كان قد تطاول زمان ذلك أحلف المقر وكان القول قوله فهذا يدلك أيضا على تطاول الزمان في شهادة السماع أنها جائزة وما قرب الزمان أنها ليست على الغائب لأنه غائب لم يجز عليه شيء دونه فتكون الحيازة دونه إلا أن مالكا قال في الذي يقر بالدين فيما بلغنى عنه ولم أسمعه منه لو كان إقراره ذلك على وجه الشكر مثل ما يقول الرجل للرجل جزى الله فلانا خيرا قد جئته مرة فأسلفني وقضيته فالله يجزيه خيرا على نشر الجميل والشكر له لم أر أن يلزمه في هذا شيء مما أقر به قرب زمان ذلك أو بعد.
__________
(1) المدونة الكبرى الجزء الرابع ص (90)(30/26)
جـ - في الشهادة على الحيازة:
(قلت) : (1) أرأيت إن شهدوا على دار أنها في يد رجل منذ عشر سنين يحوزها ويمنعها ويكريها ويهدم ويبني وأقام آخر البينة أن الدار داره أيجعل مالك الذي أقام البينة على الحيازة وهي في يديه بمنزلة الذي يقيم البينة وهي في يديه أنها له فيكون أولى بها في قول مالك ويجعل مالك الحيازة وإذا شهدوا له بها بمنزلة الملك (قال) قال مالك إذا كان حاضرا يراه يبني ويهدم ويكري فلا حجة له وإن كان غائبا سئل الذي الدار في يديه فإن أتى ببينة أو سماع قد سمعوا أن أباه أو جده قد اشترى هذه الدار إذا كان أمرا قد تقادم فأراها له دون الذي أقام البينة أنها له (قال) مالك: لأن ها هنا دورا قد عرفت لمن أولها قد بيعت وتداولتها المواريث وحيزت منذ زمان فلو سئل أهلها البينة على أصل الشراء لم يجدوا إلا السماع فذا كان مثل ما وصفت لك في تطاول الزمان فأتى بالسماع مع الحيازة فأراها له كذلك قال مالك وإن لم يأت بالسماع ولا بالشهادة وكان الذي يطلب الدار غائبا فقدم فأقام البينة أنها له رأيتها له (قال) مالك وإن كان حاضرا إذ حازها المشتري دونه فلا شيء للذي يدعيها (قلت) هل كان مالك يوقت في الحيازة عشر سنين (قال) : ما سمعت مالكا يحد فيه عشر سنين ولا غير ذلك ولكن على قدر ما يرى أن هذا قد حازها دون الآخر فيما يكري ويهدم ويبني ويسكن (قلت) أرأيت الدواب والثياب والعروض كلها والحيوان كله هل كان مالك يرى أنها إذا حازها رجل بمحضر من رجل فادعاها الذي حيزت عليه أنه لا حق له فيها لأن هذا قد حازها دونه وهل كان يقول في هذه الأشياء مثل ما يقول في الدور والحيازة؟ (قال لم أسمع من مالك في هذا شيئا إلا أن ذلك عندي مثل ما قال مالك في الدور إذا كانت الثياب تلبس وتمتهن والدواب تكرى وتركب (ابن وهب) عن عبد الجبار بن عمر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حاز شيئا
__________
(1) المدونة الكبرى الجزء الرابع ص (99)(30/27)
عشر سنين فهو له» قال عبد الجبار: وحدثني عبد العزيز بن المطلب عن زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله (قال) عبد الجبار عن ربيعة أنه قال: إذا كان الرجل حاضرا وماله في يد غيره فمضت له عشر سنين وهو على ذلك كان المال الذي هو في يديه بحيازته إياه عشر سنين إلا أن يأتي الآخر ببينة على أنه أكرى أو أسكن أو أعار عارية أو صنع شيئا من هذا وإلا فلا شيء له (قال) ربيعة: ولا حيازة على غائب.(30/28)
د - ما جاء في الشهادات في المواريث:
(قلت) : (1) أرأيت إن مات عندنا ميت فجاء رجل فأقام البينة أنه ابن الميت ولم يشهد الشهود أنهم لا يعلمون له وارثا غيره أتجيز شهادتهم وتعطي هذا الميراث أم لا تعطيه من الميراث شيئا وهل تحفظ قول مالك في هذا (قال) وجه الشهادة عند مالك في هذا أن يقولوا إنه ابنه لا يعلمون له وارثا غيره فأرى أن تبطل الشهادة في ذلك ويسأل وينظر (قلت) أرأيت إن أقمت البينة أن هذه الدار دار أبي وجدي ولم يشهدوا أنه مات وتركها ميراثا لي أيقضي لي بها السلطان في قول مالك أم لا (قال) لا حتى يشهدوا أنه مات وتركها ميراثا لا يعلمون أنه أحدث فيها شيئا ولا خرجت عن يده وجل الدور تعرف لمن كان أولها ثم تداولها أقوام بعد ذلك فهم إن شهدوا يشهدون ولا علم لهم بما كان فيها ولا تجوز شهادتهم حتى يشهدوا أنه مات وتركها ميراثا لا يعلمون له وارثا غيره إذا شهدوا أن هذا وارث جده أو وارث أبيه (قلت) أرأيت إن شهدوا أن هذا وارث أبيه أو جده مع ورثة آخرين (قال) لا يعطى هذا إلا حظه (قلت) فحظوظ إخوته أتؤخذ من يد هذا الذي هي في يديه فيضعها السلطان على يدي عدل (قال) أرى أن لا يعطى لهذا منها إلا بمقدار حظه وما استحق من ذلك ويترك السلطان ما سوى ذلك في يدي المدعى عليه حتى يأتي من يستحقه ولا يخرجه من يديه (قال) سحنون: وقد كان يقول غير هذا وروى أشهب عن مالك أنه قال: ينتزع من يد المطلوب ويوقف (قلت) : أرأيت لو أن قوما شهدوا على أن هذه الدار دار جدي وأن هذا المولى مولى جدي ولم
__________
(1) تبصرة الحكام، ج 2، ص (86) .(30/28)
يحددوا المواريث لم يشهدوا أن جدي مات فورثه أبي وأن أبي مات فورثته أنا (قال) : سأل مالكا بعض أصحابنا وسمعته يسأل عن الرجل يقيم البينة أن هذه الدار دار جده ويكون فيها رجل قد حازها منذ سنين ذوات عدد (قال) مالك: أما إن كان الرجل المدعي حاضرا فلا أرى له فيها حقا لأجل حيازته إياها إذا كان قد حازها سنين ذوات عدد وأما إذا كان المدعي غائبا وثبتت المواريث حتى صارت له فإني أرى أن يسأل الذي هي في يديه من أين صارت له فإن أتى ببينة على شراء أو سماع على الاشتراء وإن لم يكن أحد يشهد على معاينة الشراء ولا من يشهد على البتات إلى على السماع فأرى الشهادة جائزة للذي هي في يديه بالسماع بالاشتراء وإن لم يكن في أصل الشهادة شهادة تقطع على البيع (قال) مالك: لأن ها هنا دورا يعرف لمن أولها قد بيعت ولا يوجد من يشهد على أصل الشراء إلا بالسماع ثم قال لنا: تلك منها هذه الدار التي أنا فيها قد باعها أهلها وليس أحد يشهد على أصل الشراء إلا بالسماع فإذا أتى الذي في يديه الدار بأصل الشراء أو بقوم يشهدون على سماع الاشتراء فذلك قلت فإن لم يأت الذي في يديه الدار بشيء من هذا لا بقوم يشهدون على السماع ولا بقوم يشهدون على الشراء أتجعلها للذي أقام البينة أنها لجده على ما ثبت في قول مالك (قال) قال مالك: نعم تكون للذي أقام بالبينة أنها لجده إذا كان غائبا (قال) وشهادة السماع هاهنا إنما هو أن يشهدوا أنهم سمعوا أن هذا اشترى هذه الدار من جد هذا المدعي (قال) : إذا تقادم ذلك جازت شهادتهم على السماع وإن كان المشتري حيا لأن المشتري يشترى ويتقادم ذلك حتى يكون لشرائه هذا أربعون سنة أو خمسون سنة أو ستون سنة أو نحو ذلك ولم أوقف مالكا على أنه هو اشتراه بعينه إلا أن الذي ذكر لي مالك إنما هو في الشراء الذي يتقادم (قال) : وأما في الولاء فإن مالكا قال: أقضي بالسماع إذا شهدت الشهود على السماع أنه مولاه بالمال ولا أقضي له بالولاء (قلت) أرأيت إن أقام البينة أن الدار دار أبيه وقالت البينة لا نعرف كم الورثة أيقضي له بشيء من الدار في قول مالك وكيف إن قال الابن إنما أنا وأخي ليس معنا وارث غيرنا أو قال أنا وحدي الوارث ليس معي وارث غيري أيصدق في قول مالك (قال) لا أقوم على حفظ قول مالك في هذا ولا أرى أن يقضي له السلطان بشيء حتى يقيم البينة على هذه الورثة (قلت) أرأيت إن أقمت البينة على دار أنها دار جدي ولم يشهد الشهود أن جدي مات وتركها ميراثا لأبي وأن أبي مات وتركها ميراثا لورثته ولم(30/29)
يحددوا المواريث بحال ما وصفت لك (قال) سألنا مالكا عنها (فقال) ينظر في ذلك فإن كان المدعي حاضرا بالبلدة التي الدار فيها وقد حيزت دونه السنين يراهم يسكنون ويحوزون بما تحاز به الدور فلا حق له فيها وإن كان لم يكن بالبلد التي الدار بها وإنما قدم من بلاد أخرى فأقام البينة على أنها دار أبيه أو دار جده وثبتت المواريث سئل من الذي الدار في يديه جيرانه أو من غير جيرانه أن جده أو والده كان اشترى هذه الدار أو هو بنفسه إذا طال الزمان فقالوا سمعنا أنه اشتراها وهاهنا دور تعرف لمن أولها وقد تقادم الزمان وليس على أصل الشراء بينة وإنما هو سماع من الناس أن فلانا اشترى هذه الدار وإن لم تثبت يعني المواريث لم يسأل الذي الدار في يديه عن شيء (قلت) أرأيت إن أتى الذي في يديه الدار ببينة يشهدون أنهم سمعوا أن هذا الرجل الذي في يديه الدار أنه اشترى هذه الدار أو اشتراها جده أو اشتراها والده إلا أنهم قالوا سمعنا أنه اشتراها ولكنا لم نسمع بالذي اشتراها منه من هو (قال) : لم أسمع من مالك فيه شيئا ولا أرى ذلك حتى يشهدوا على سماع صحة أنه اشتراها من فلان أبي هذا المدعي أو جده.(30/30)
هـ - قال ابن فرحون: (فصل في حيازة الأجنبي الحيوان والعروض) (1) قال ابن حبيب قال لي مطرف وأصبغ ما حازه الأجنبي على الأجنبي من العبيد والإماء والدواب والحيوان كله والعروض كلها فأقام ذلك في يديه يختدم الرقيق ويركب الدواب ويجلب الماشية ويمتهن العروض فذلك كله كالحائز والحيازة في ذلك أقل من عشر سنين قطع لحجة مدعيه ومثبت أصله بعد أن يحلف بالله أنه له دون مدعيه ومثبت أصله قالا والحيوان والعروض أقصر مدة وأقوى في الحيازة من الدور والأرضين التي إنما تحاز بالعمارة والسكنى قال أصبغ: ونرى في الثياب السنة والسنتين حيازة إذا كانت تحاز على وجه
__________
(1) تبصرة الحكام ج 2 ص 86(30/30)
الملك واللبس ونرى حيازة الدابة السنتين والثلاث حيازة إذا ملكها وركبها واغتلها وأعملها على وجه الملك بعلم صاحبها ونرى الأمة شبه ذلك والعبد والعروض فوق ذلك شيئا إذا حاز ذلك بالملك وأسبابه ولا يلتفت في مثل هذا وأشباهه إلى عشر سنين فيما بين الأجنبيين يعني لا يبلغ في شيء من ذلك بين الأجانب إلى عشر سنين كما يصنع في الأصول قاله ابن رشد قال ابن حبيب قال لي مطرف وأصبغ وما أحدث الحائز فيه بيعا أو عتقا أو تدبيرا أو كتابة أو صدقة أو صداقا أو وطأ في الإماء بحضرة مدعيه وبعلمه وإن لم يطل زمان ذلك قبل الوطء فذلك يوجبه لحائزه ويوهن حجة مدعيه قبل حدثان ذلك أو بعد حدثانه إذ ترك التغيير والإنكار والتكلم عند علمه بهذا الإحداث ولا يلتفت في هذا إلى عشر سنين وإلى ما ما دونها (تنبيه) وذكر ابن رشد في البيان في باب الاستحقاق أنه لا فرق في مدة حيازة الوارث على وارثه بين الرباع والأصول والثياب والحيوان والعروض وإنما يفترق في حيازة الأجنبي كما تقدم في حيازة الأجنبي على الأجنبي الحيوان والعروض فلو حاز الورثة بعضهم على بعض الإماء بالوطء والهبة وما أشبه ذلك فلا يقطع حق الورثة في ذلك طول الزمان إلا أن يطول جدا ولم نر الأربعين يطول جدا بين الورثة خاصة على ما يأتي في حيازة بعضهم على بعض ذكره في سماع ابن القاسم وبعضها في سماع يحيى فانظره.(30/31)
و - فصل في سؤال الحائز الأجنبي على الأجنبي من أين صار إليه الملك (1) .
قال ابن رشد يختلف الجواب في ذلك حسب اختلاف الوجوه فوجه لا يسأل الحائز عما في يديه من أين صار إليه وتبطل دعوى المدعي فيه بكل حال فلا يوجب يمينا على الحائز المدعي فيه إلا أن يدعي عليه أنه أعاره إياه فتجب عليه اليمين على ذلك وهذا الوجه هو إذا لم يثبت للمدعي وأقر به الحائز الذي حاز في وجهه العشرة أعوام ونحوها ولو ادعى عليه ما في يديه أنه ماله وملكه قبل أن تنقضي مدة الحيازة عليه في وجهيه لوجبت عليه اليمين ووجه يسأل الحائز عما في يديه من أين صار إليه يصدق في
__________
(1) تبصرة الحكام، ج 2 ص (87)(30/31)
ذلك مع يمينه ويكلف البينة على ذلك وهو إذا ثبت الأصل للمدعي أو أقر له به الحائز قبل أن تنقضي مدة الحيازة عليه فيجب أن يسأل من أين صار إليه ويكلف البينة على ذلك ووجه يختلف فيه فقيل: إنه لا يلزم المطلوب أكثر من أن يوقف على الإقرار أو الإنكار وقيل إنه يوقف ويسأل من أين صار إليه وهو إذا ثبتت المواريث ولم يثبت أنها لأبيه أو جده (مسألة) واختلف إذا كان الحائز وارثا فقيل إنه بمنزلة وارثه الذي ورث ذلك عنه في مدة الحيازة وفي أنه لا ينتفع بها دون أن يدعي الوجه الذي تصير به إلى مورثه وقيل يكون الوارث في الحيازة أقصر وليس عليه أن يسأل عن شيء لأنه يقول ورثت ذلك ولا أدري بم تصير ذلك إلى الذي ورثت عنه وهو ظاهر قول ابن القاسم وقول ابن الماجشون وهو عندي بين في أنه ليس عليه أن يسأل عن شيء وأما المدة فينبغي أن يستوي فيها الوارث والموروث (فرع) وتضاف مدة حيازة الوارث إلى مدة حيازة الموروث مثل أن يكون الوارث قد حاز خمسة أعوام فيكون ذلك حيازة على الحاضر.(30/32)
ز - قال ابن فرحون: (فصل في صفة الحيازات ومراتبها) (1) .
وهي على ستة أقسام لأنها على مراتب ست: الأولى: وهي أضعفها حيازة الأب على ابنه والابن على أبيه. الثانية: حيازة الأقارب الشركاء بالميراث أو بغير الميراث بعضهم على بعض وهذه المرتبة تلي التي قبلها. الثالثة: وهي تلي التي قبلها حيازة القرابة بعضهم على بعض فيما لا شركة فيه بينهم. الرابعة: حيازة الموالي والأختان. الخامسة: حيازة الأجنبيين الأشراك بعضهم على بعض. السادسة: حيازة الأجنبيين بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه وهي أقواها والحيازة تكون بثلاثة أشياء أضعفها السكنى والازدراع ويليها الهدم والبنيان والغرس والاستغلال ويليها التفويت بالبيع والصدقة والهبة والعتق والكتابة والتدبير والوطء وما أشبه ذلك مما لا يفعله الرجل إلا في ماله والاستخدام في الرقيق والركوب في الدواب كالسكنى والغرس في الدور والأرضين ونتكلم في الأقسام الستة (فأما القسم الأول) : وهو حيازة الأب على ابنه
__________
(1) تبصرة الحكام، جـ2، ص (90)(30/32)
والابن على أبيه فلا اختلاف في أنها لا تكون بالسكنى والازدراع قال ابن راشد: ولا باستخدام العبد فلو بقى العبد بيد الابن زمانا طويلا فلما مات الأب قال هو لي بوجه كذا من أبي فقال ابن القاسم لا ينتفع بطول الحيازة حتى يأتي ببينة على ما ادعاه والاتفاق على أنها تكون بالتفويت بالبيع والهبة والصدقة والعتق والتدبير والكتابة والوطء واختلف هل يحوز كل واحد منهما على صاحبه بالهدم والبنيان والغرس أم لا على قولين المشهور أنه لا يجوز عليه بذلك إن ادعاه ملكا لنفسه قام عليه في حياته أو بعد وفاته وقال ابن رشد: يريد والله سبحانه وتعالى أعلم إلا أن يطول الأمر جدا إلى ما يهلك فيه البينات وينقطع العلم والقول الثاني أنه يحوز عليه بذلك إن قام عليه في حياته أو على سائر ورثته بعد وفاته إذا ادعاه ملكا لنفسه ومثل الأب والابن الجد وابن الابن. (وأما القسم الثاني) : وهو حيازة الأقارب الشركاء بالميراث فلا اختلاف أيضا في أنها لا تكون بالسكنى والازدراع وإن طالت السنون قال مطرف إلا أن يكون مثل الخمسين سنة ونحوها وإن كان بعضهم يقبل الثمار فهو كالسكنى وأبناؤهم وأبناء أبنائهم بمنزلتهم لا حق لهم فيما عمر الأب والجد إلا أن يطول الزمان جدا ولا ينفعه أن يقول ورثت عن أبي وأبي عن جدي لا أدري كيف كان هذا الحق في أيديهم إلا أن يأتي ببينة على شراء الأصل أو عطيته وكذلك الصهر والمولى على اختلاف قول ابن القاسم فيهم ولا خلاف في أنها تكون حيازة بالتفويت من البيع والهبة والصدقة والعتق والكتابة والوطء وإن لم تطل المدة واختلف قول ابن القاسم في حيازة بعضهم على بعض بالهدم والبنيان فقال مرة إن العشر سنين حيازة وقال مرة إنها لا تكون حيازة إلا أن يطول الأمر كحيازة الابن على أبيه أزيد من أربعين سنة وما حازه بالكراء كالرجل يكري ذلك لنفسه ويقبضه بحضرة إخوته وعلمهم فهم في ذلك كالأجانب. (وأما القسم الثالث) : وهو حيازة القرابة بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه فمرة جعلهم ابن القاسم كالقرابة الأشراك ورجع عن قوله بأن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان إلا أنه لا حيازة بينهم في ذلك إلا مع الطول الكثير ومرة رآهم بخلاف الأشراك فجعل الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان حيازة فيهما جميعا. والثاني: أنها ليست بحيازة فيهما إلا مع طول المدة. والثالث: الفرق بينهما فتكون حيازة في غير الشركاء (وأما القسم الرابع) وهو حيازة الموالي والأختان والأصهار فيما لا شركة بينهم فيه(30/33)
فمرة جعلهم ابن القاسم كالأجنبيين العشرة الأعوام بينهم حيازة وإن لم يكن هدم ولا بناء ومرة جعلهم كالقرابة الذين لا شركة بينهم فيتحصل فيهم ثلاثة أقوال:: أحدها أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام وإن لم يكن هدم ولا بناء والثاني أنها لا تكون بينهم في العشرة الأعوام إلا مع الهدم والبناء والثالث أنها لا تكون بينهم بالهدم والبناء إلا أن يطول الزمان جدا قاله ابن القاسم وإليه رجع وقال أصبغ هم كالأجانب إلا من كان منهم مخالطا جدا أو وكيلا قال ابن راشد: ينبغي أن يكون الخلاف في حال فمن علم منه المسامحة أو أشكل أمره فهو على حقه وإن طالت السنون ومن علم منه المشاحة فيكون كالأجنبي وما قاله ابن راشد ذكره ابن العطار فقال وقد قيل أيضا في الأقارب إن ذلك يكون في البلدان التي يعرف من أهلها أنهم يوسعون لأقاربهم وأصهارهم ومواليهم وإن كانوا بموضع لا يعرف هذا فيه انقطعت الحجة باعتبار دون هذه المدة وكانوا كالأجنبيين وذكره ابن رشد في الاستحقاق أوضح من هذا وقال إنما الاختلاف المذكور إذا جهل حالهم على ماذا يحمل أمرهم فمرة حملهم محل القرابة ومرة حملهم محل الأجنبيين وهذا خلاف ما قاله ابن راشد وهم في البيع وما ذكره معه كالأجانب (وأما القسم الخامس) : وهو حيازة الأجنبيين الأشراك فلا حيازة بينهم في العشرة الأعوام إذا لم يكن هدم ولا بناء وتكون مع الهدم والبناء ولا يدخل اختلاف قول ابن القاسم في ذلك وقيل إنه يدخل في ذلك. (وأما القسم السادس) : وهو حيازة الأجانب بعضهم على بعض فيما لا شركة بينهم فيه فقد تقدم فيه الكلام والمشهور أن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام وإن لم يكن هدم ولا بنيان ولابن القاسم أنها لا تكون حيازة إلا مع الهدم والبنيان (تنبيه) ذكرهم الهدم والبنيان ظاهر سواء كان بناء ترميم وإصلاح أو بناء توسع وكذا الهدم سواء كان هدم ما يخشى سقوطه أو هدم مالا يخشى سقوطه ليوسع ويبنى مسكنا أو مساكن وليس كذلك والذي ينفع في الحيازة هو الهدم والبناء والتوسع وإزالة مالا يخشى سقوطه لأن عرف الناس وعادتهم أنهم يأذنون للسكان في الرم وإصلاح ما وهي من الكراء ولا يأذنون في زيادة مسكن. (من اللخمى) .(30/34)
ع - وقال ابن فرحون: (فصل في صفة الشهادة على الحيازة) (1) .
وفى فقه وثائق ابن العطار وإذا قام رجل في دار وأملاك يدعيها لنفسه أو لمورثه وأثبت الملك لها وكانت في يد معترض لها فإن توافق الطالب والمطلوب على حدودها وجب الإعذار إلى المعترض في الشهود والقضاء عليه. وإن عجز والتسجيل دون حيازة الشهود لها وإن سأل الطالب من القاضي الإنزال فيها أو وقع تخالف في بعض حدودها حازها الشهود المقبولون ولا يكلف القاضي شهود الحيازة أن يحوزوا ما شهدوا به من الرباع ولو كان الموضوع قريبا ولكن يأمر الشهود له بالرغبة إليهما في ذلك (من معين الحكام) وإذا توجه شهود الحيازة ليحوزوا الملك بعث القاضي معهم شاهدي عدل يحضران حيازة الشهود وفي (الطرر) وإنما احتيج إلى موجهي القاضي في الحيازة مخافة أن يموت شهود الحق ويعزل القاضي أو يموت فيشهد المواجهان على الحيازة فيتم القول بهما ولا تعمل الحيازة شيئا حتى يقول الشاهدان بحضرة الحائز هذا الذي شهدنا فيه عند فلان قاضي الجماعة وأن وقفا على العقار وعيناه ولم يقول هذا كان جهلا منهما ومن الحاضرين لحيازتهما ولم تعمل الحيازة والشهادة شيئا حتى يوقفا على هذا ويقولا به وتتبين به الشهادة وقال في موضع آخر ولا يحضر حيازة الشهيدين في الملك الذي شهدا فيه إلا شاهدان يعرفان عين ذلك الملك وحدوده أو يكون الملك المشهود به له حدود مشهورة لا تخفى معرفتها مثل أن يكون في القبلة منه أو ناحية غيرها فرن أو حمام أو درب أو حوانيت أو رحبة شرع بابه إليها وما أشبه ذلك من الأعلام المثبتة التي يعلم الشاهدان الحيازة بالنظر فيها أنها الحدود التي قال الشاهدان في الملك عند القاضي إنه المحدود به لأن شهادة الحاضرين للحيازة لا تتم حتى يقول إن شهيدي الملك حاز بمحضرهما هذا الملك وعينا هذه الحدود فإذا لم يعرفا الملك ولا عينا الحدود لم ينفع بمحضرهما للحيازة لأنه إذا قال الشهيدان في الملك هذا الملك الذي شهدنا فيه عند القاضي والحاضران للحيازة لا يعرفانه فهو كشهادتهما أولا عند القاضي وتكون شهادة الحاضرين زورا لأنهما يشهدان أن الشهيدين في أصل الملك حاز الدار والملك الذي شهدا فيه عند القاضي وهما لا
__________
(1) تبصرة الحكام، جـ2، ص (90)(30/35)
يعرفان إن كان ذلك هو الملك أم لا ولو قالا إن الشهيدين في الملك عينا بحضرتهما دارا قالا إنها التي شهدنا فيها عند القاضي لم تعمل شهادتهما في الحيازة شيئا حتى يقطعا أنهما حازا بحضرتهما الشيء الذي شهدا فيه عند القاضي لمعرفتهما لعين الشيء المحوز وإن كانا يعرفان ملك المشهود له فهما على صحة حدوده وباشتهار أعلامه قال وهذا من دقيق الفقه وقل من يعرفه (مسألة) وفى الطرر الموجه من قبل القاضي للحيازة بمنزلة الموجه من قبله للأعذار يجزئ فيه واحد عدل (تنبيه) الغائب وإن كانت غيبته قريبة فهو محمول على عدم العلم حتى يثبت عليه العلم والحاضر محمول على العلم حتى يتبين أنه لم يعلم قاله ابن راشد.(30/36)
ط - وقال ابن فرحون: (مسألة في الحيازة على الغائب) (1) .
وفى مختصر الواضحة قال ابن حبيب وأخبرني حسين عن ابن القاسم وابن وهب وابن نافع وأصبغ ومطرف في الغائب يحاز عليه من ماله فلم يقدم ولم يوكل حتى طال زمان ذلك فهو كالحاضر إلا أن يكون له عذر مثل أن يكون في يد عدو أو من وراء بحر أو يكون ضعيفا أو مختلا أو امرأة محجوبة أو غير محجوبة وما أشبه ذلك من العذر فيكون على حقه أبدا وأن أشهد في غيبته على عذره وأنه غير تارك لحقه إلا لما يذكره من عذره كان ذلك أوثق له عندنا وقد يكون للغائب وإن قربت غيبته معاذير يعذر بها إذا ظهرت قال ابن حبيب ثم رجع ابن القاسم فقال: أرى الغائب على مسيرة الثلاثة الأيام والأربعة معذورا في غيبته وإن علم بما حيز عليه وإن لم يكن ضعيفا في بدنه ولا مختلا في عقله وأراه على حقه أبدا ما زال غائبا لأنه قد يكون للغائب معاذير لا تعرف وقوله الأول عندي أحسن وهو الذي اجتمع عليه كبار أصحاب مالك وفي العتبية رواية عن ابن القاسم أن الثمانية أيام في حكم القريب (فرع) وفى الطرر لابن عات ومغيب المرأة على مسيرة اليوم لا يقطع حجتها لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم إلا معها ذو محرم منها (2) » قاله بعض الشيوخ المتأخرين (فرع) وإن كان غير
__________
(1) تبصرة الحكام، جـ2، ص (84)
(2) صحيح البخاري الجمعة (1088) ، صحيح مسلم الحج (1339) ، سنن الترمذي الرضاع (1170) ، سنن أبو داود المناسك (1723) ، سنن ابن ماجه المناسك (2899) ، مسند أحمد بن حنبل (2/506) ، موطأ مالك الجامع (1833) .(30/36)
عالم فهو على حقه إذا قدم ولا حيازة عليه وإن طالت الحيازة فيه كانت الغيبة قريبة أو بعيدة (تنبيه) وهو محمول على غير العلم حتى يقيم الحائز بينة أنه كان عالما في غيبته بحيازته لماله (فرع) وقال مطرف وأصبغ ونرى السبعة الأيام والثمانية وما أشبه ذلك طولا من الغيبة وعذرا في ترك القدوم والطلب والتوكيل. وإن كان عالما إلا أنا نستحب له أن يشهد في غيبته إذا علم بحيازة ماله عنه وإن ترك الإشهاد لم يوهن ذلك حجته إلا أن يطول الزمان جدا مثل السبعين سنة أو الثمانين وما قاربها ويكون مع ذلك سماع مستفيض بأنها ملك للذين هي بأيديهم تداولوها هم ومن كان قبلهم بما يحاز به الملك فيكون ذلك كالحيازة على الحاضر وإن كانت الغيبة بعيدة قال ابن حبيب وبقولهما أقول.(30/37)
كـ - وقال ابن فرحون (1) . (فصل في حيازة الأجنبي على الأجنبي الحاضر الرباع والعقار) .
وفي مختصر الواضحة قال أصبغ ما حازه الأجنبي على الأجنبي بحضرته وعلمه أي الحيازات كانت من سكنى فقط أو ازدراع أو هدم أو بنيان صغر شأنه أو عظم أو غير ذلك من وجوه الحيازات كلها فذلك يوجبه لحائزه ويقطع حجة صاحبه وهي كالشهادة على الملك كما يكون الرهن شاهدا لصاحبه بحيازته إياه وكما يكون الستر شاهدا للمرأة بإرخائه عليها وكذلك أجمع أهل العلم عليه إذا كان على هذا التفسير الذي فسرنا ورأوا العشر سنين وما قاربها يعني كالثمان والتسع حيازة فيما بين المتداعيين قال ابن القاسم وكان مالك لا يوقت الحيازة لا عشر سنين ولا غيرها وكان يرى ذلك على قدر ما ينزل من الأمر ورأى فيه الإمام رأيه وتابعه ابن الماجشون على ذلك قد يكون بعضه أقوى من بعض مثل أن يكون الطالب مجاورا لحائزه مقيما معه ببلده عالما بإحداثه في ذلك وبما هدم وبنى لا ينكر ولا يدفع فإن هذه حالة إقرار لا شيء له معها فيما ادعى من ذلك وأثبت أصله وإن لم يكن على ما وصفنا وكان غائبا عنه أو كان المطلوب مدعيا لشراء لم يثبته وما أشبه هذا فذلك للطالب الذي له البينة على أنه له أو لأبيه أو لمن
__________
(1) تبصرة الحكام، جـ2، (85)(30/37)
أخذ ذلك عنه إذا حلف أنه لم يخرج منه ولم يزل من يده أو من أخذ عنه بما يخرج به بالمال ومن يدريه يحلف على نفسه بالبت وفيما سواه بعلمه وذهب ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ إلى توقيت ذلك بعشر سنين وما قارب العشر وهذا في العقار والرباع والأرضين وسيأتي الكلام على الحيوان والعروض إن شاء الله تعالى والدليل على ما ذهب إليه ابن القاسم قوله صلى الله عليه وسلم: «من حاز على خصمه شيئا عشر سنين فهو أحق به» واستدل أئمتنا رحمهم الله تعالى بالعرف والعادة ويشترط في الحيازة أن يكون المحوز عليه غير خائف من الحائز ولا بينه وبينه قرابة ولا مصاهرة ولا مصادقة ولا شركة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى (تنبيه) وفي الطرر على التهذيب لأبي الحسن الطنجي عن أبي الحسن الصغير قال عند قوله في التهذيب ومن أقامت بيده دار سنين ذوات عدد يحوزها ويمنعها ويكريها ويهدم ويبني فأقام رجل بينة أن الدار داره وأنها لأبيه أو جده وثبتت المواريث فإن كان المدعي حاضرا يراه يبني ويهدم ويكري فلا حجة له وذلك يقطع دعواه قوله حاضرا يراه لا بد هنا من العلم بشيئين وهما العلم بأنه ملكه والعلم بأنه يتصرف فيه ولا يفيد العلم بأحدهما دون الآخر لأنه إذا علم بالتصرف قد يقول ما علمت أنه ملكي كما يقول الرجل الآن قد وجدت الوثيقة عند فلان فيقبل قوله ويحلف والعلم بهذين الوصفين قاله في الوثائق المجموعة وابن أبي جمراء (مسألة) وفى فقه وثائق ابن العطار ولا يقطع قيام البكر غير العانس ولا قيام الصغير ولا قيام المولى عليه في رقاب الأملاك ولا في أحداث الاعتمار بحضرتهم إلا أن يبلغ الصغير ويملك نفسه من الولي عليه وتعنس الجارية ويحاز عليهم عشرة أعوام من بعد ذلك وهم عالمون بحقوقهم لا يعترضون من غير عذر فينقطع حينئذ قيامهم وما لم يعوقوا بحقوقهم لم ينقطع قيامهم.(30/38)
ك - وجاء في مختصر خليل وشرحه للحطاب: (وإن حاز أجنبي (1) : غير شريك وتصرف ثم ادعى حاضر ساكت بلا مانع عشر سنين لم تسمع ولا بينة إلا بإسكان ونحوه)
ش: ختم رحمه الله كتاب الشهادات بالكلام على الحيازة لأنها كالشاهد على الملك قال
__________
(1) مواهب الجليل شرح مختصر خليل، الجزء السادس، ص (221) وما بعدها.(30/38)
ابن رشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق الحيازة لا تنقل الملك عن المحوز عنه إلى الحائز باتفاق ولكنها تدل على الملك كإرخاء الستور ومعرفة العفاص والوكاء وما أشبه ذلك فيكون القول معها قول الحائز مع يمينه لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» . لأن المعنى عند أهل العلم في قوله صلى الله عليه وسلم: فهو له أي أن الحكم يوجبه له بدعواه فإذا حاز الرجل مال غيره في وجهه مدة تكون فيها الحيازة عاملة وهي عشرة أعوام دون هدم ولا بنيان أو مع الهدم والبنيان على ما نذكره من الخلاف في ذلك بعد هذا وإدعاء ملكا لنفسه بابتياع أو صدقة أو هبة وجب أن يكون القول قوله في ذلك مع يمينه انتهى. وسواء ادعى صيرورة ذلك من غير المدعي أو ادعى أنه صار إليه من المدعي أما في البيع فلا أعلم فيه خلافا وأما إن أقر أنه ملك المدعي وصار إليه بصدقة أو هبة ففيه خلاف ذكره في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق وقول ابن رشد فيكون القول قول الحائز مع يمينه هو أحد القولين قال في الشامل وفي يمين الحائز حينئذ قولان، والقول بنفي اليمين عزاه في التوضيح لظاهر نقل ابن يونس وغيره، والقول باليمين عزاه لصريح كلام ابن رشد فهو أقوى وهو الظاهر والله أعلم. ثم قال ابن رشد والحيازة تنقسم إلى ستة أقسام أضعفها حيازة الأب عن ابنه ويليها حيازة الأقارب الشركاء بالميراث أو بغيره ويليها حيازة القرابة فيما لا شرك بينهم فيه والموالي والأختان الشركاء بمنزلتهم ويليها حيازة الموالى والأختان فيما لا شرك بينهم فيه ويليها حيازة الأجنبيين الشركاء وتليها حيازة الأجانب فيما لا شرك بينهم فيه وهي أقواها والحيازة تكون بثلاثة أشياء أضعفها السكنى والازدراع ويليها الهدم والبنيان والغرس والاستغلال ويليها التفويت بالبيع والهبة والصدقة والنحلة والعتق والكتابة والتدبير والوطء وما أشبه ذلك مما لا يفعله الرجل إلا في ماله والاستخدام في الرقيق والركوب في الدابة كالسكنى فيما يسكن والازدراع فيما يزرع والاستغلال في ذلك كالهدم والبنيان في الدور والغرس في الأرضين انتهى.
فبدأ المصنف بالكلام على القسم السادس وهي حيازة الأجنبي غير الشريك فقال وإن حاز أجنبي غير شريك واحترز بقوله أجنبي من القريب فإنه سيأتي حكمه وبقوله غير شريك من الأجنبي الشريك فإنه سيأتي أيضا حكمه ومفعول قوله حاز محذوف أي حاز عقارا من دار أو أرض وأما غير العقار فلا يفتقر في الحيازة إلى عشرة أعوام كما سيأتي(30/39)
بيانه وقوله وتصرف بمعنى أنه يشترط في الحيازة أن يكون الحائز يتصرف في العقار المحوز وأطلق التصرف لينبه على أن حيازة الأجنبي غير الشريك يكفي فيها مطلق التصرف ولو كان ذلك السكنى والازدراع الذي هو أضعف أنواع الحيازة وهذا هو المشهور وقال في الرسم المذكور المشهور في المذهب أن الحيازة بينهم يعني بين الأجانب غير الشركاء تكون في العشرة الأعوام وإن لم يكن هدم ولا بنيان وعن ابن القاسم أنها لا تكون حيازة إلا مع الهدم والبنيان ولا خلاف أنها تكون حيازة مع الهدم والبنيان انتهى. وقوله ثم ادعى حاضر يعني أنه يشترط في كون الحيازة مانعة من سماع دعوى المدعي أن يكون المدعي حاضرا واحترز بذلك مما لو كان المدعي غائبا فإن له القيام وإن طالت المدة إذا كانت غيبته بعيدة كالسبعة الأيام قال في التوضيح وإن كانت الغيبة قريبة كأربعة أيام وثبت عذره عن القدوم والتوكيل من عجز ونحوه فلا حجة عليه وإن أشكل أمره فظاهر المذهب أنه على قولين قال ابن القاسم لا يسقط حقه لأنه قد يضعف عند القدوم قيل له فإن لم يتبين عجزه عن ذلك قال قد يكون معذورا من لا يتبين عذره وذكر ابن حبيب أنه يسقط حقه إلا أن يتبين عذره انتهى وانظر رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الاستحقاق وقوله ساكت يعني أنه يشترط أيضا في الحيازة أن يكون المدعي ساكتا في مدة الحيازة واحترز بذلك مما لو تكلم قبل مضي مدة الحيازة فإن حقه لا يبطل وقوله بلا مانع يعني أن سكوت المدعي في المدة المذكورة إنما يبطل حقه إذا لم يكن له مانع يمنعه من الكلام فلو كان هناك مانع يمنعه من الكلام فإن حقه لا يبطل وفسر ابن الحاجب المانع بالخوف والقرابة والصهر وقد احترز المصنف من القرابة والصهر بقوله أولا أجنبي فيكون المراد بالمانع في كلامه الخوف أي خوف المدعي من الذي في يده العقار لكونه ذا سلطان أو مستندا لذي سلطان فإن كان سكوته لذلك لم يطلب حقه قال الجزولي وكذلك إذا كان للحائز على المدعي دين ويخاف إن نازعه أن يطلبه ولا يجد من أين يعطيه انتهى. فتأمله ويدخل في المانع ما إذا كان المدعي صغيرا أو سفيها فإن سكوته لا يقطع دعواه قال ابن فرحون في تبصرته في الباب السادس والستين قال: قال ابن العطار: ولا يقطع قيام البكر غير المعنسة ولا قيام الصغير ولا قيام المولى عليه الاعتمار المذكور بحضرته إلا أن يبلغ الصغير ويملك نفسه المولى عليه وتعنس الجارية وتحاز عنهم عشرة أعوام من بعد ذلك وهم عالمون بحقوقهم لا يعترضون من غير عذر انتهى.(30/40)
ويدخل في المانع أيضا ما إذا لم يعلم المدعي بالحيازة أو لم يعلم بأن العقار المحوز ملكه قال في الرسالة: ومن حاز دارا على حاضر عشر سنين تنسب إليه وصاحبها حاضر عالم قال الشيخ أبو الحسن الصغير في أواخر كتاب الشهادات لما تكلم على الحيازة في الرسالة وصاحبها حاضر عالم. الشيخ. أي عالم بالمعلومين بتصرف الحائز وبأنها ملكه قال في الوثائق المجموعة حاضر عالم بأنها ملكه وإذا كان وارثا ويدعي أنه لم يعلم فيحلف ويقضى له انتهى. ونقله ابن فرحون في تبصرته عن الطخيخي عن أبي الحسن الصغير بلفظ لا بد هنا من العلم بشيئين وهما العلم بأنه ملكه والعلم بأنه يتصرف فيه ولا يفيد العلم بأحدهما دون الآخر لأنه إذا علم بالتصرف قد يقول ما علمت أنه ملكي كما يقول الرجل الآن وجدت الوثيقة عند فلان فيقبل قوله ويحلف والعلم بهذين الوصفين قاله في الوثائق المجموعة وابن أبي زيد انتهى. (فرع) قال ابن ناجي في شرح الرسالة قال ابن العربي وانظر إذا قال علمت الملك ولم أجد ما أقوم به ووجدته الآن هل يعذر أم لا (قلت) اختار شيخنا أبو مهدي أنه يقبل وذلك عذر سواء كانت البينة التي وجد بينة استرعاء أم لا والصواب عندي أنه لا يقبل منه لأنه كالمقر والمعترف بأنه لا حق له فيه مدع رفعه. انتهى. زاد في شرح المدونة ثم وقعت بالقيروان بعد عشرة أعوام فكتب فيها لشيخنا أبي مهدي فأفتى بما صوبت انتهى.
قال الشيخ يوسف بن عمر في شرح قول الرسالة لا يدعي شيئا هذا إذا لم يمنعه مانع من القيام وأما إن خاف سطوة الحائز وأثبت ذلك فهو على قيامه وإن ادعى مغيب البينة وقال ما سكت إلا لانتظار بينتي فلا يقبل قوله والدعوة التي تنفعه إذا كان يخاصمه عند القاضي وأما غير ذلك فلا ينفعه انتهى ونحوه للجزولي ونصه وأما إذا قال علمت أنها ملكي ولكن منعني من القيام عدم البينة والآن وجدت البينة فإنه لا ينفعه ذلك ويقضى بها للحائز بعد يمينه إذ لا بد من يمين القضاء ثم قال بعد ذلك وأما إن قال علمت بأنها ملكي ولم أعلم بالحيازة فإنه لا يقبل قوله لأن العرف يكذبه وكذلك إن قال منعني من القيام عدم البينة والآن وجدتها فإنه لا ينفعه ولا قيام له انتهى. وفي أول مسألة من سماع أشهب من كتاب الاستحقاق ما يدل على أنه إذا ادعى عدم العلم بالحيازة ينفعه ذلك ويحلف وأنه محمول على عدم العلم وقال ابن ناجي في شرح قول الرسالة وصاحبها حاضر عالم ظاهر كلام الشيخ أن الحاضر محمول على عدم العلم بالملكية حتى يثبت(30/41)
وعزاه بعض من لقيناه لابن سهل وهو ظاهر التهذيب وقيل إنه محمول على العلم حتى يتبين خلافه وهو قول ابن رشد وقيل بالأول إن كان وارثا وبالثاني إن لم يكن قاله في الوثائق المجموعة وبه القضاء عندنا هكذا كان يتقدم لنا أنها ثلاثة أقوال والحق أن الذي في الوثائق المجموعة إنما هو التنبيه على فرع متفق عليه وهو إذا ادعى الوارث الجهل بملكية موروثه فإنه يقبل قوله مع يمينه ثم قال بعده قال ابن العربي وانظر إذا قال علمت المالك إلى آخر الفرع المتقدم ويشير بالفرع المتفق عليه إلى ما نقله أبو الحسن وابن فرحون عن الوثائق المجموعة في كلامهما المتقدم وقوله عشر سنين يعني أن مدة الحيازة التي تبطل دعوى المدعي عشر سنين وهذا التحديد يذكره في المدونة عن ربيعة ونصه ولم يحدد مالك في الحيازة في الريع عشر سنين. ولا غير ذلك وقال ربيعة حوز عشر سنين يقطع دعوى الحاضر إلا أن يقيم بينة أنه إنما أكرى أو أسكن أو أخدم أو أعار ونحوه ولا حيازة على غائب وذكر ابن المسيب وزيد بن أسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» . انتهى. قال في التوضيح وبهذا أخذ ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ ودليله ما رواه أبو داود في مراسيله عن زيد بن أسلم وذكر الحديث ثم قال ولابن القاسم في الموازية السبع والثمان وما قارب العشرة مثل العشرة انتهى.(30/42)
فتحصل في مدة الحيازة ثلاثة أقوال: الأول: قول مالك في المدونة أنها لا تحدد بسنين مقدرة بل باجتهاد الإمام وهكذا نقل ابن يونس فقال: ولم يحد مالك في الرباع عشر سنين ولا غير ذلك ولكن على قدر ما يرى أن بهذا قد حازها دون الآخر فيما يهدم ويبني ويسكن ويكري ا. هـ وهكذا نقله ابن شاس وابن عرفة وسيأتي لفظه. والقول الثاني: أن مدة الحيازة عشر سنين وهو القول الذي مشى عليه المصنف في كتاب الشهادات وعليه اقتصر في الرسالة قال في النوادر وبه أخذ ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ وهكذا عزاه ابن يونس وابن شاس وتقدم نحوه عن التوضيح ونقله ابن عرفة عن النوادر وقال ابن يونس قال ابن سحنون لما أمر الله نبيه بالقتال بعد عشر سنين كانت أبلغ شيء في الإعذار واعتمد أهل المذهب على الحديث المتقدم وعلى أن كل دعوى يكذبها العرف فإنها غير مقبولة ولا شك أن بقاء ملك الإنسان بيد الغير يتصرف فيه عشر سنين دليل على انتقاله عنه والله أعلم. والقول الثالث أن مدة الحيازة سبع(30/42)
سنين فأكثر وهو قول ابن القاسم الثاني وقد ذكر ابن عرفة هذه الثلاثة الأقوال فقال وفي تحديد مدة الحيازة بعشر أو سبع. ثالثها لا تحديد بعدة باجتهاد الإمام وقال في المسائل الملقوطة. (مسألة) في قناة تجري منذ سنة في أرض رجل والذي تجري عليه ساكت لا تكون السنة حيازة للتغافل عن مثلها وسكوت أربع سنين طول وحوز من كتاب الشهادات لابن يونس انتهى. فتأمله مع ما تقدم وهل يكون قولا رابعا أولا والله أعلم. وقوله لم تسمع ولا بينة هو جواب الشرط يعني أن الحيازة إذا وقعت على الوجه المذكور فهي مانعة من سماع دعوى المدعي والظاهر أن المراد بعدم سماعها عدم العمل بها وبمقتضاها من أنه لا يتوجه على المدعى عليه يمين إذا أنكر. أنه لا تسمع ابتداء ولا يسأل المدعى عليه عن جوابها فإن ذلك غير ظاهر لاحتمال أن يقر المدعي ويعتقد أن مجرد حوزه يوجب له الملك وقد تقدم أن الحوز وحده لا ينقل الملك وإنما هو دليل على انتقال الملك وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم» . قال ابن رشد في آخر الكلام على المسألة الرابعة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق وأن الحائز لا ينتفع بحيازته إلا إذا جهل أصل مدخله فيها وهذا أصل في الحكم بالحيازة انتهى. وسيأتي كلامه برمته في التنبيه الخامس في قول المصنف وإنما تفترق الدار من غيرها وقوله ولا بينة يعني أن الحيازة المذكورة مانعة من سماع دعوى المدعي ومن سماع بينته أيضا فإن قيل قوله لم تسمع دعواه يغني عن قوله ولا بينته لأنه إذا لم تسمع الدعوى لم تسمع البينة فالجواب والله أعلم إنما قال ولا بينته خشية أن يتوهم أن الدعوى المجردة عن البينة هي التي لا تسمع وأما إذا قامت بها البينة فتسمع كما تقول في دعوى العبد على سيده العتق والمرأة على زوجها الطلاق فإن دعواهما لا تسمع إذا كانت مجردة عن البينة أعني أنه لا يتوجه على السيد ولا على الزوج بسببهما يمين فإن أقاما البينة على دعواهما سمعت وأيضا فإنما قال ولا بينة ليفرع عليه قوله إلا بإسكان ونحوه والمعنى أنه لا تسمع بينة المدعي إلا أن تشهد البينة للمدعي بأنه أسكن الحائز أو أعمره أو ساقاه أو زارعه أو ما أشبه ذلك فإنه إذا أقام البينة على ذلك حلف المدعي على رد دعوى الحائز وقضى له هذا إن ادعى الحائز أن المالك باعه أو نحو ذلك وأما من لم يدع نقل الملك وإنما تمسك بمجرد الحيازة فلا يحتاج إلى يمين قاله في التوضيح وغيره (تنبيهات) : الأول: الهدم والبناء مقيدان بما إذا لم يهدم ما يخشى سقوطه فإن ذلك لا ينقل الملك وكذا الإصلاح(30/43)
اليسير قاله في التوضيح: الثاني) : الحيازة على النساء عاملة إن كن في البلد ذكره ابن بطال في المقنع (الثالث) تقدم أنه لا حيازة على الغائب قال ابن بطال إلا أنه يستحب له إذا علم أن يشهد أنه على حقه وقاله الرجراجي. الرابع: قال ابن رشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق وأما المدة. فينبغي أن يستوي فيها الوارث والموروث لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» وتضاف مدة حيازة الوارث إلى مدة حيازة الموروث مثل أن يكون الوارث قد حاز خمسة أعوام ما كان مورثه قد حازه خمسة أعوام فيكون ذلك حيازة عن الحاضر. (انتهى) الخامس: اختلف هل يطالب الحائز ببيان سبب ملكه. قال في التوضيح قال ابن أبي زمنين: لا يطالب وقال غيره: يطالب وقيل: إن لم يثبت أصل الملك المدعي فلا يسأل الحائز عن بيان أصل ملكه وإن ثبت الأصل للمدعي ببينة أو بإقرار الحائز سئل عن سبب ذلك وقال ابن عتاب وابن القطان، لا يطالب إلا أن يكون معروفا بالغصب والاستطالة والقدرة على ذلك انتهى باختصار وظاهر كلام ابن رشد في رسم سلف الحائز يطالب ببيان سبب ملكه لأنه حينئذ قال إذا حاز الرجل مال غيره في وجهه مدة تكون فيه الحيازة عاملة وادعاه ملكا لنفسه بابتياع أو صدقة أو هبة وجب أن يكون القول قوله في ذلك مع يمينه واختلف إذا كان هذا الحائز وارثا فقيل إنه بمنزلة الذي ورث ذلك عنه في أنه لا ينتفع بها دون أن يدعي الوجه الذي يصير به ذلك إلى مورثه وهو قول مطرف وأصبغ وقيل ليس عليه أن يسأل عن شيء لأنه يقول ورثنا. ذلك ولا أدري بماذا صار ذلك إليه وهو ظاهر قول ابن القاسم في رسم أن خرجت من سماع عيسى من هذا الكتاب وقول ابن الماجشون وقوله عندي بين فإنه ليس عليه أن يسأل عن شيء انتهى. وأفتى في نوازله بأن الحائز لا يطالب بشيء حتى يثبت القائم عليه الملك وسيأتي كلامه في التنبيه السادس وجزم في شرح آخر مسألة من نوازل عيسى بأنه إذا ثبت أصل الملك لغيره فلا بد من بيان سبب ملكه قال بأن يقول اشتريته منه أو وهب لي أو تصدق به علي أو يقول ورثته عن أبي أو عن فلان ولا أدري بأي وجه يصير إلي الذي ورثته منه وقال أما مجرد دعوى الملك دون أن يدعي شيئا من هذا فلا ينتفع به مع الحيازة إذا ثبت أصل الملك لغيره انتهى. (فرع) قال ابن سهل في مسائل الأقضية من ادعي عليه بأملاك فقال عندي وثائق غائبة ثم طولب عند حاكم آخر فأنكر تلك المقالة فقال ابن العطار ليس عليه إحضار الوثائق(30/44)
انتهى انظر تمامها فيه (الثالث لا تسقط الحيازة ولو طالت الدعوى في الحبس بذلك أفتى ابن رشد في نوازله في جواب المسألة الخامسة من مسائل الوقف وهي مسألة تتضمن السؤال عن جماعة واضعين أيديهم على أملاكهم ومورثهم ومورث مورثهم نحوا من سبعين عاما يتصرفون فيها بالبناء والغرس والتعويض والقسمة وكثيرا من وجوه التفويت فادعى عليهم بوقفيتها شخص حاضر عالم بالتفويت المذكور والتصرف هو ومورثه من قبله ونصه ولا يجب القضاء بالحبس إلا بعد أن يثبت التحبيس وملك المحبس لم حبسه يوم التحبيس وبعد أن تتعين الأملاك المحبسة بالحيازة لها على ما تصح فيه الحيازة فإذا ثبت ذلك كله على وجهه وأعذر إلى المقوم عليهم فلم يكن لهم حجة إلا من ترك القائم وأبيه قبله عليهم وطول سكوتهما عن طلب حقهما مع علمهما بتفويت الأملاك فالقضاء بالحبس واجب والحكم به لازم انتهى. وأفتى بذلك أيضا في المسألة السادسة من مسائل الدعوى والخصومات في مسألة ابن زهر وهي مسألة تتضمن أن رجلا في ملكه ضيعة ورثها عن سلفه منذ سبعين عاما هو وأبوه، وهم يتصرفون فيها تصرف المالك في ملكه فقام عليه رجل وادعى أن الضيعة رهن بيده وبذلك ملكها سلفه قبله واستدعى عقد السماع بالرهن فأثبت الذي بيده الضيعة أن جده ابتاعها من جد القائم عليه فيها فأفتى أن شهادة الشراء أعمل ثم قام ذلك الرجل المشتري المدعي الرهنية بعينه وادعى أنها حبس عليه وأثبت عقد التحبيس بالشهادة على خطوط شهدائه فهل ترى قيامه أولا بالرهن يبطل قيامه بالحبس أم لا؟ فأجاب: كان من وجه الحكم أن لا يكلف الذي بيده الضيعة من أين صارت إليه حتى يثبت القائم ملك الراهن لها ورهنه إياها وموته وأنه وارثه أو وارث وارثه وكذلك الحكم في قيامه بالحبس سواء في مذهب مالك وجميع أصحابه غير أن قول المقوم عليه أن جده ابتاعها من جد القائم عليه إقرار منه له بملكها فإن كان هو المحبس وأثبت حفيده عقد التحبيس وأنه من عقبه لا عقب له غيره بالسماع إن عجز عن البينة القاطعة وأعذر إلى المقوم عليه فيما ثبت من ذلك فلم يكن عنده فيه مدفع فالواجب أن يسأل المقوم عليه فإن أقر أنها هي التي وقع ذكرها في كتاب التحبيس لم يجب على القائم فيها حيازة لاتفاقهما عليه وانظر إلى تاريخ كتاب صاحب التحبيس وتاريخ السماع بشراء جد المقوم عليه من جد القائم فإن وجد تاريخ الحبس أقدم قضي به وبطل الشراء ووجب الرجوع بالثمن وإن وجد تاريخ السماع بالشراء أقدم أو لم يعلم(30/45)
أيهما أقدم قبل صاحبه قضي بالشراء وبطل التحبيس وهكذا الرواية في ذلك ثم قال في جواب ثان على المسألة بعينها إثر الجواب الأول - ما تضمنه عقد التحبيس الثابت لا يوجب أن يسأل من بيده شيء من ذلك من أين صار له ولا يعقل عليه ولا يكلف إثباتا ولا عقلا إلا من بعد أن يثبت القائم بالتحبيس ملك الحبس لما حبسه ويحوز ما أثبت تحبيسه حيازة صحيحة على الوجه الذي ذكرناه وهذا أصل لا اختلاف فيه أعني أن من بيده ملك لا يدعيه يكلف إثبات من صار له حتى يثبت المدعي ما ادعاه ويحوزه ولا يلزم المقوم عليه إذا أفضى ببقاء الملك بيده وحكم بقطع الاعتراض عنه بشيء من ثمن ما ادعى شراءه إذا مضى من طول المدة ما صدق فيه المبتاع على أداء ثمن ما ابتاعه في قول مالك وجميع أصحابه ولو لم يمض لم يحكم للمدعي أيضا بالثمن حتى يرجع عما ادعاه من التحبيس إلى تصديق دعوى المشتري على اختلاف أصحابنا المتقدمين أي واستفيد من هذه المسألة فوائد: منها: أنه مشى على أنه لا يسأل واضع اليد عن شيء حتى يثبت القائم الملك ومنها حكم شهادة السماع في الرهن. ومنها: القضاء بالتاريخ السابق. ومنها: إذا جهل السابق من تاريخ الشراء أو الحبس قضي بتاريخ الشراء وبطل الحبس وأفتى غيره أنه إذا جهل التاريخ قدم الحبس والله أعلم. ص (وفي الشريك القريب معهما قولان) ش يعني أنه اختلف في الشريك القريب إذا حاز العقار بالبناء والهدم هل تكون مدة الحيازة في حقه عشر سنين كالأجنبي أو لا يكفي في ذلك عشر سنين ولم يبين المصنف قدر مدة الحيازة على القول الثاني والقولان لابن القاسم ذكرهما في رسم الكبش من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق فكان أولا يقول إن العشر سنين حيازة ثم رجع إلى أن ذلك لا يكون حيازة إلا أن يطول الأمر أزيد من أربعين سنة(30/46)
(تنبيهات) الأول: ظاهر كلام المصنف وغيره أن القولين متساويان وقد علمت أن القول الذي رجع إليه ابن القاسم أن ذلك لا يكون حيازة ولا شك أن العمل على القول المرجوع إليه فتأمله (الثاني) : علم من قول المصنف معهما أنه لا تحصل الحيازة بين القرابة الشركاء إذا لم يكن هدم ولا بنيان وهو كذلك كما سيأتي في كلام ابن رشد في شرح قول المصنف وإنما تفترق الدار من غيرها ويأتي أيضا هناك بيان حكم الحيازة بين القرابة الشركاء في غير العقار والله أعلم (الثالث) : لم يذكر المصنف حكم القريب الذي ليس بشريك وذكر ابن رشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم أن قول ابن القاسم اختلف في ذلك(30/46)
فجعله مرة كالقريب الشريك فيكون قد رجع عن قوله إن الحيازة لا تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبينان إلى أنه لا حيازة بينهم في ذلك إلا مع الطول الكثير وهو نص قوله في سماع يحيى المذكور ومرة رآهم بخلاف ذلك فلم يرجع عن قوله إن الحيازة تكون بينهم في العشرة الأعوام مع الهدم والبنيان وهو دليل قوله في السماع المذكور انتهى. (قلت) فعلم من كلام ابن رشد هذا أن القول بأن حكم القريب الذي ليس بشريك كحكم القريب الشريك هو الراجح لقوله إنه نص قول ابن القاسم وأن الثاني إنما هو مفهوم من كلام ابن القاسم فتأمله وتحصل من هذا أن الحيازة بين القرابة سواء كانوا شركاء أو غير شركاء لا تكون بالسكنى والازدراع وإنما تكون بالهدم والبناء في الأمد الطويل الذي يزيد على أربعين سنة على الأرجح من القولين والله أعلم (الرابع) محصل كلام ابن رشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق وأن الحيازة لا تكون بين أب وابنه بالسكنى والازدراع والاستخدام والركوب اتفاقا وكذلك الأقارب الشركاء بميراث وغيره على الأظهر وكذا الشركاء الأجانب الذين الشركة بينهم فتكفي الحيازة عشرة أعوام وإن لم يكن هدم ولا بنيان على الشهود وإن حصل هدم وبناء وغرس فتكفي العشرة الأعوام في الشريك الأجنبي وفي الشريك القريب مع ذلك قولان وفي كون ذلك القريب غير الشريك والمولى والصهر الشريكان ثالثها في الصهر والمولى دون القريب وفي كون السكنى والازدراع في العشرة حيازة لمولى وصهر غير شريكين أو إن هدم وبنى أو إن طال جدا أقوال والله أعلم. ص (لا بين أب وابنه إلا بكهبة) ش قال ابن رشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق وتحصل الحيازة في كل شيء بالبيع والهبة والصدقة والعتق والتدبير والكتابة والولاء ولو بين أب وابنه ولو قصرت المدة إلا أنه إن حضر مجلس البيع فسكت حتى انقضى المجلس لزمه البيع في حصته وكان له الثمن وإن سكت بعد العام ونحوه حتى استحق البائع الثمن بالحيازة مع يمينه وإن لم يعلم بالبيع إلا بعد وقوعه فقام حين علم أخذ منه وإن سكت العام ونحوه ولم يكن له إلا الثمن، وإن لم يقم حتى مضت مدة الحيازة لم يكن له شيء واستحقه الحائز، وإن حضر مجلس الهبة والصدقة والتدبير والعتق فسكت حتى انقضى المجلس لم يكن له شيء وإن لم يحضر ثم علم فإن قام حينئذ كان له حقه وإن سكت العام ونحوه فلا شيء له ويختلف في الكتابة هل تحمل على البيع أو على العتق قولان انتهى. مختصرا ص(30/47)
(وإنما تفترق الدار من غيرها في الأجنبي ففي الدابة وأمة الخدمة السنتان ويزاد في عبد وعرض) ش يعني أنه إنما يفترق بين الدور وغيرها في مدة الحيازة إذا كانت الحيازة بين الأجانب وأما في حيازة القرابة بعضهم على بعض فلا يفرق بين الدور وغيرها قال ابن رشد في رسم سلف من سماع ابن القاسم من كتاب الاستحقاق إن الأقارب والشركاء بالميراث أو بغير الميراث لا خلاف أن الحيازة بينهم لا تكون بالسكنى والازدراع ولا خلاف أنها تكون بالتفويت بالبيع والصدقة والهبة والعتق والكتابة والتدبير والوطء وإن لم تطل المدة والاستخدام في الرقيق والركوب في الدواب كالسكنى فيما يسكن والازدراع فيما يزرع قال والاستغلال في ذلك كالهدم والبنيان في الدور وكالغرس في الأرضين ثم قال ولا فرق في مدة حيازة الوارث على وارثه بين الرباع والأصول والثياب والحيوان والعروض وإنما يفترق ذلك في حيازة الأجنبي بالاعتمار والسكنى والازدراع في الأصول والاستخدام والركوب واللباس في الرقيق والدواب والثياب فقد قال أصبغ إن السنة والسنتين في الثياب حيازة وإذا كانت تلبس وتمتهن وإن السنتين والثلاثة حيازة في الدواب إذا كانت تركب وفى الإماء إذا كن يستخدمن وفي العبيد والعروض فوق ذلك ولا يبلغ في شيء من ذلك كله بين الأجنبيين إلى العشرة الأعوام كما يصنع في الأصول انتهى. (تنبيهات) الأول: علم من كلام ابن رشد أن اللباس في الثياب كالسكنى في الدور وأنه لا تحصل حيازة بين الأقارب ولو طالت المدة وأن الاستقلال في الرقيق والدواب والثياب بمعنى قبض أجرة العبيد والدواب والثياب كالهدم والبنيان في العقار فلا تحصل الحيازة بين الأقارب في الرقيق والثياب والعروض إلا بالاستغلال ويختلف في مدتها على القولين السابقين اللذين أشار إليهما المصنف بقوله وفي الشريك القريب معهما قولان أو بالأمور المفوتة كالبيع والهبة والصدقة والعتق والوطء ويعلم هذا من كلام المصنف لأنه لما جعل ذلك مفوتا بين الأب وابنه علم أنه مفوت في حق غيرهما من باب أحرى والله أعلم. (الثاني) : فهم من قول المصنف في الأجنبي أن القريب لا تفترق الدار من غيرها في حقه سواء كان شريكا أو غير شريك ففيه إشارة إلى ترجيح القول بتساويهما كما تقدم ذلك. (الثالث) : تقدم في كلام ابن رشد الثياب يكفي في حيازتها السنة والسنتان ولم يتعرض لها المصنف بل قد يفهم من كلامه دخولها في العروض فتنبه لذلك (الرابع) : التفصيل الذي ذكرناه عن ابن رشد لا يؤخذ من كلام المصنف ولم ينقله في التوضيح وهو أتم فائدة(30/48)
فتأمله والله أعلم. (الخامس) في المدة التي يسقط بها طلب الدين قال: في المسائل الملقوطة من الكتب المبسوطة المنسوب لولد ابن فرحون الساكت عن طلب الدين ثلاثين سنة لا قول له ويصدق الغريم في دعوى الدفع ولا يكلف الغريم ببينة لا مكان موتهم أو نسيانهم للشهادة انتهى من منتخب الحكام لابن أبي زمنين وفي كتاب محمد بن ياسين في مدعي دين سلف بعد عشرين سنة أن المدعي عليه مصدق في القضاء إذ الغالب أن لا يؤخر السلف مثل هذه المدة كالبيوعات انتهى كلام المسائل الملقوطة، وقال والده ابن فرحون في تبصرته في الباب الثاني والستين في القضاء في شهادة الوثيقة والرهن على استيفاء الحق (فرع) وفي مختصر الواضحة في آخر باب الحيازة قال عبد الملك وقال لي مطرف وأصبغ إذا ادعى رجل على رجل حقا قديما وقام عليه بذكر حقه وذلك القيام بعد العشرين سنة أخذ به وعلى الآخر البراءة منه وفي مفيد الحكام أن ذكر الحق المشهود فيه لا يبطل إلا بطول الزمان كالثلاثين سنة والأربعين وكذلك الدين وإن كانت معروفة في الأصل إذا طال زمانها هكذا ومن هي له وعليه حضور فلا يقوم عليه بدينه إلا بعد هذا بطول الزمان فيقول قد قضيتك وباد شهودي بذلك فلا شيء على المدين غير اليمين قال وكذلك الوصي يقوم عليه اليتيم بعد طول الزمان وينكر قبض ماله من الوصي فإن كانت مدة يهلك في مثلها شهود الوصي فلا شيء عليه وإلا فعليه البينة بالدفع انتهى، وقال البرزلي في أثناء مسائل البيوع رأيت جوابا وأظنه للمازري في الديون فقال إذا طال الزمان على الطالب وبيده وثائق وأحكام وهو حاضر مع المطلوب ولا عذر له يمنعه من الطلب من ظلم ونحوه وسكت عن الطلب فاختلف المذهب في حد السكوت القاطع لطلب الديون الثابتة في الوثائق والأحكام هل حد ذلك عشرون سنة وهو قول مطرف أو ثلاثون سنة وهو قول مالك واتفقا جميعا على أن ذلك دلالة قاطعة لطلب الطالب وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم» معلل بوجود الأسباب المانعة من الطلب بالغيبة البعيدة وعدم القدرة على الطلب مع الحضور حتى إذا ارتفعت هذه الأسباب من الطلب كان طول المدة السكوت والحضور دلالة يقوى بها سبب المطلوب بدليل قوله صلى الله عليه وسلم «من حاز شيئا على خصمه عشر سنين فهو أحق به» فأطلق عليه الصلاة والسلام ذكر الحيازة فهو عام في كل ما يحاز من ريع ومال معين وغيره ومن اجتهد فحد في الرياع العشر سنين وحد في الدين العشرين والثلاثين رأى أن ذلك راجع(30/49)
إلى حال الطالب مع المطلوب فمن غلب على حاله كثرة المشاحنة وأنه لا يمكن أن يسكت عن خصمه عشر سنين جعلها حدا قاطعا ومن جعلها عشرين سنة أو ثلاثين أي أنها أقصى ما يمكن السكوت في بيع المتحمل فجعلها حدا قاطعا لإعذار الطالبين لأن الغالب من الحال أنه قضاء وقد قضى بتغليب الأحوال عمر بن الخطاب وقاله مالك فيمن له شيء وترك غيره يتصرف فيه ويفعل فيه ما يفعل المالك الدهر الطويل فإن ذلك مما يسقط الملك ويمنع الطالب من الطلب قاله مالك وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ وإذا كان طول المدة مع حضور الطالب وسكوته مانعا له من الطلب فالطلب ممنوع في سائر المطالب دون وثائق وأحكام وأرباع بدليل أن السكوت في ذلك يعد كالإقرار المنطوق به من الطالب للمطلوب بأنه لاحق له عليه ولا تباعة ولا طلب (قلت) هذا الجواب يقتضي أن ما بعد الثلاثين مجمع عليه وإذا أجراه على مسائل الحيازة ففيها قريب القرابة والبعيد والمتوسط والمقاطع لقريب والمواصل له فيجري عليها وفي بعضها ما يبلغ الخمسين وأكثر مع أني أحفظ لابن رشد في شرحه أنه إذا تقرر الدين وثبت لا يبطل وإن طال لعموم الحديث المتقدم واختاره التونسي إذا كان ذلك بوثيقة مكتوبة وهي في يد الطالب والطلب بسببها لأن بقاءها بيد ربها دليل على أنه لم يقبض دينه إذ العادة إذا قبض دينه أخذ عقده أو مزقه بخلاف إذا كانت الديون بغير عقود ولو وجدت بغير المطلوب وإلا ففيها قولان حكاهما ابن رشد وخرجهما على القولين في الرهن إذا وجد بيد الراهن هل هو إبراء له أم لا لجواز وقوعه وسقوطه أو التسور عليه ونحو ذلك وقياسه على باب الحيازة فيه نظر لما أصل ابن رشد أن ترجيح الحيازة إنما هو فيما جهل أصله وأما إذا ثبت أصله بكراء أو إعارة أو إعمار أو غير ذلك فلا يزال الحكم كذلك وإن طال الزمن والدين إن ثبت أصله أيضا وإن كان في هذا الأصل خلاف في كتاب الولاء من المدونة لكن مذهب ابن القاسم ما ذكره خلافا لقول الغير وعليه جرى عمل القضاة في هذا الزمان بتونس ما لم تقترن قرائن تدل على دفع الدين مع طول الزمان فيعمل عليها في البراءة والله أعلم انتهى ويشير والله أعلم بقوله وقياسه على باب الحيازة فيه نظر لما أصل ابن رشد أن ترجيح الحيازة إنما هو فيما جهل أصله إلى ما قاله في شرح المسألة الرابعة من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق ولتذكر المسألة وكلامه عليها ونصها مسألة قال يحيى وسألت ابن القاسم عن رجل أصدق امرأة عن ابنه منزلا فلما دخل ابنه(30/50)
بالمرأة أخذت المنزل إلا حقولا يسيرة تركتها في يد حميها فلم تزل في يده حتى مات بعد طول زمان ثم أرادت المرأة أخذها فمنعها ورثة الحمو وقالوا قد عاينتها زمان من دهرك وهي في يده ولا تشهدي عليه بعارية ولا كراء، ولا ندري لعلك أرضاك من حقك، أترى للمرأة في ذلك حقا؟ قال: نعم لها أن تأخذ تلك الحقول التي هي مما كان أصدقها الحمو عن ابنه ولا يضرها طول ما تركت ذلك في يد الحمو لأنها ليست بالصدقة فتلزم حيازتها وإنما الصداق ثمن من الأثمان وكذلك لو تركت كل ما أصدقها في يد الحمو لم يضرها ذلك قال ابن رشد هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا اختلاف لأن حقها تركته في يد حميها فلا يضرها ذلك طال الزمان أو قصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا يبطل حق امرئ مسلم وإن قدم» وليس هذا من وجه الحيازة التي ينتفع بها الحائز ويفرق بين القرابة والأجنبيين والأصهار فيها إذ قد عرف وجه كون الأحقال بيد الحمو فهي على ذلك محمولة حتى يعرف مصيرها إليه بوجه صحيح لأن الحائز لا ينتفع بحيازته إلا إذا جهل أصل مدخله فيها وهذا أصل الحكم بالحيازة. . . وبالله التوفيق.(30/51)
3 - النقول عن المذهب الشافعي:
يقرر المذهب الشافعي كغيره من المذاهب الأخرى أن اليد دليل الملك من حيث الجملة ما لم يعارضها ما هو أقوى منها وليس فيما أوردناه من النقول ما يدل على تحديد مدة معينة ويكون مضيها مثبتا الملكية لصاحب اليد كما هو مقرر في كتب الحنفية والمالكية وفيما يلي نقول عن الإمام الشافعي وبعض أتباعه.
أ - جاء في الأم: (1) (قال الشافعي) رحمه الله تعالى إذا كان الشيء في يد اثنين عبدا كان أو دارا أو غيره فادعى كل واحد منهما كله فهو في الظاهر بينهما نصفان ويكلف كل واحد منهما البينة على ما في يد صاحبه فإن لم يجد واحد منهما بينة أحلفنا كل واحد منهما على دعوى صاحبه فأيهما حلف برئ وأيهما نكل رددنا اليمين على المدعي فإن حلف
__________
(1) الأم 6 \ 227.(30/51)
أخذ وإن نكل لم يأخذ شيئا ودعواه النصف الذي في يد صاحبه كدعواه الكل ليس في يديه منه شيء لأن ما في يد غيره خارج من يديه ".
ب - وجاء فيها أيضا (1) : (قال الشافعي) رحمه الله تعالى: وإذا كانت الدار في يد رجلين فأقام أحدهما البينة أنها كلها له منذ سنة والآخر البينة أن له كلها منذ سنتين فيه بينهما نصفان أقبل بينة كل واحد منهما على ما في يده وأطرحها عما في يد غيره إذا شهد شهود له بخلافها (قال أبو يعقوب) يقضى بها لأقدمهما ملكا لها (قال الربيع) هي بينهما نصفان.
جـ - وجاء فيها: (2) (قال الشافعي) رحمه الله تعالى وإذا كان العبد في يدي رجل فادعاه آخر وأقام البينة أنه كان في يديه أمس فإنه لا يقبل منه البينة على هذا لأنه قد يكون في يديه ما ليس له ولو أقام البينة أن هذا العبد أخذ هذا منه أو انتزع منه العبد أو اغتصبه منه أو غلبه على العبد وأخذه منه أو شهدوا أنه أرسله في حاجته فاعترضه هذا من الطريق فذهب به أو شهدوا أنه أبق من هذا فأخذه هذا فإن هذه الشهادة جائزة ويقضى له بالعبد فإن لم تكن له بينة فعلى الذي في يديه العبد اليمين فإن حلف برئ وإن نكل عن اليمين ردت اليمين على المدعي فإن حلف أخذ ما ادعى وإن أنكل سقط دعواه وإنما حلفه على ما ادعى صاحبه (قال أبو يعقوب) رحمه الله تعالى: تقبل بينته ويترك في يديه كما كان.
د - وجاء فيها أيضا: (3) . (قال الشافعي) رحمه الله تعالى: وإذا كانت الدابة في يدي رجل فأقام البينة أنها له فأقام رجل أجنبي بينة أنها له فهي للذي هي في يديه. وسواء أقام الذي هي في يديه بينة على أنها له بميراث أو شراء أو غير ذلك من الملك أو لم
__________
(1) الأم 6 \ 232.
(2) الأم 6 \ 230.
(3) انظر الأم 6 \ 235 - 236(30/52)
يقمها. وسواء أقام الأجنبي البينة على ملك أقدم من ملك هذا أو أحدث أو معه أم لم يقمها. إنما انظر إلى الشهود حين يشهدون فأجعلها للذي هو أحق في تلك الحال.
هـ - وجاء فيها أيضا (1) : أخبرنا الربيع قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا ابن أبي يحيى عن إسحاق بن أبي فروة عن عمر بن الحكم عن جابر بن عبد الله: «أن رجلين تداعيا دابة فأقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يديه» وهذا قول كل من حفظت عنه ممن لقيت في النتاج وفيما لا يكون إلا مرة وخالفنا بعض المشرقيين فيما سوى النتاج وفيما يكون مرتين.
ووجاء فيها أيضا (2) : (قال الشافعي رحمه الله تعالى) : إذا تداعى الرجلان الشيء وهو في يد أحدهما دون الآخر فأقاما معا بينة فالبينة بينة الذي هو في يديه، إذا كانت البينة مما يقضى بمثله مثل شاهد وامرأتين أو شاهدين فأقام الآخر عشرة أو أكثر فسواء. .
ز - وجاء فيها أيضا تحت عنوان (3) : " باب الدعويين إحداهما في وقت قبل صاحبه " قال الشافعي رحمه الله تعالى: وإذا كان العبد في يد رجل فأقام الرجل البينة أنه له منذ سنتين وأقام الذي هو في يديه البينة أنه له منذ سنة فهو للذي هو في يديه والوقت الأول والوقت الآخر سواء وكذلك لو كان في أيديهما فأقاما جميعا البينة على الملك إنما أنظر إلى الحال التي يتنازعان فيها. . . ".
حـ - جاء في مختصر المزني (4) : (قال الشافعي) رحمه الله أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «البينة على المدعي (5) » (قال الشافعي) : أحسبه قال: ولا أثبته قال: واليمين على المدعى عليه. قال: وإذا
__________
(1) الأم 6 \ 237.
(2) الأم 6 \ 238.
(3) الأم 6 \ 235.
(4) انظر الأم 8 \ 314 من مختصر المزني
(5) سنن الترمذي الأحكام (1341) .(30/53)
ادعى الرجل الشيء في يدي الرجل فالظاهر أنه لمن هو في يديه مع يمينه، لأنه أقوى سببا. فإن استوى سببهما فهما فيه سواء، فإن أقام الذي ليس في يديه البينة قال لصاحب اليد: البينة التي لا تجر إلى أنفسها بشهادتها أقوى من كينونة الشيء في يديك وقد يكون في يديك مالا تملكه فهو له لفضل قوة سببه على سببك. فإن أقام الآخر بينة قيل قد استويتما في الدعوى والبينة والذي الشيء في يديه أقوى سببا فهو له لفضل قوة سببه. وهذا معتدل على أصل القياس والسنة على ما قلنا في رجلين تداعيا دابة وأقام كل واحد منهما البينة أنها دابته نتجها، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يديه ".
ط - يقول الشيرازي (1) " وإن تداعيا عينا ولأحدهما بينة وهي في يدهما أو في يد أحدهما أو في يد غيرهما حكم لمن له البينة لقوله صلى الله عليه وسلم «شاهداك أو يمينه (2) » فبدأ الحكم بالشهادة ولأن البينة حجة صريحة في إثبات الملك لا تهمة فيها واليد تحتمل الملك وغيره والذي يقويها هو اليمين وهو متهم فيها فقدمت البينة عليها وإن كان لكل واحد فيهما بينة نظرت فإن كانت العين في يد أحدهما قضى لمن له اليد من غير يمين. ومن أصحابنا من قال لا يقضى لصاحب اليد من غير يمين، لأن بينته تعارضها بينة المدعي فتسقطها، ويبقى له اليد، ولا يقضى بها من غير يمين. والمنصوص أنه يقضى له من غير يمين لأن معه بينة معها ترجيح وهو اليد. ومع الآخر بينة لا ترجيح معها. والحجتان إذا تعارضتا ومع أحدهما ترجيح قضي بالتي معها الترجيح كالخبرين إذا تعارضا دفع أحدهما قياس. وإن كانت العين في يد أحدهما فأقام الآخر بينة فقضي له وسلمت العين إليه ثم أقام صاحب اليد بينة أنها له نقض الحكم وردت العين إليه لأنا حكمنا للآخر ظنا منا أنه لا بينة له، فإذا أتى بالبينة بان لنا أنه كانت له يد وبينة فقدمت على بينة الآخر ".
ى - ويقول الشيرازي في المهذب (3) " وإن كان في يد رجل دار فادعاها رجل وأقام البينة أنها له أجرها من هي في يده وأقام الذي في يده الدار بينته أنها له قدمت بينة
__________
(1) انظر المهذب 2 \ 311.
(2) صحيح البخاري الرهن (2516) .
(3) المهذب 2 \ 313.(30/54)
الخارج الذي لا يد له. لأن الدار المستأجرة في ملك المؤجر وبيده وليس للمستأجر إلا الانتفاع، فتصير كما لو كانت في يده دارا، وادعى رجل أنها له غصبه عليها الذي هي في يده وأقام البينة فإنه يحكم بها للمغصوب منه ".
كـ - جاء في نهاية المحتاج للرملي (1) (ولو كانت) العين (بيده) تصرفا أو إمساكا (فأقام غيره بها) أي بملكها، من غير زيادة (بينة) وأقام (هو) بها (بينة) بينت سبب ملكه أم لا أو قالت: كل اشتراها أو غصبها من الآخر، (قدم) من غير يمين (صاحب اليد) ويسمى الداخل لأنه صلى الله عليه وسلم قضى بذلك، كما رواه أبو داود وغيره ولترجيح بينته وإن كانت شاهدا ويمينا على الأخرى وإن كانت شاهدين ومن ثم لو شهدت بينة المدعي بأنه اشتراه منه، أو من بائعه مثلا أو أن أحدهما غصبها قدم لبطلان اليد حينئذ. . . ".
ل - ويقول الرملي في نهاية المحتاج " أما إذا كان لأحدهما يد وشاهدان وللآخر شاهد ويمين فتقدم اليد والشاهدان (و) المذهب (أنه لو كان لصاحب متأخرة التاريخ يد قدمت) لأنهما متساويان في إثبات الملك في الحال، فيتساقطان فيه، وتبقى اليد فيه مقابلة الملك السابق وهي أقوى من الشهادة على الملك السابق بدليل أنها لا تزال بها وقيل العكس يتساويان لأن لكل جهة ترجيحا ".
م - جاء في شرح منهج الطلاب لزكريا الأنصاري (2) تحت عنوان " فصل في تعارض البينتين ".
لو (ادعى كل منهما) أي من الاثنين (شيئا وأقام بينة به وهو بيد ثالث سقطتا) لتناقض موجبهما فيحلف لكل منهما يمينا. . (أو بيدهما أو لا بيد أحد فهو لهما) إذ ليس أحدهما أولى به من الآخر " أو بيد أحدهما " ويسمى الداخل (رجحت بينته) وإن تأخر تاريخها أو كانت شاهدا أو يمينا وبينة الخارج شاهدين أو لم تبين سبب الملك من شراء أو غيره ترجيحا لبينته بيده. هذا (وإن أقامها بعد بينة الخارج) ولو قبل تعديلها بخلاف ما لو أقامها قبلها لأنها إنما تسمع بعدها لأن الأصل في جانبه اليمين فلا تعدل عنها
__________
(1) نهاية المحتاج 8 \ 340
(2) انظر فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب لزكريا الأنصاري 2 \ 232.(30/55)
ما دامت كافية (ولو أزيلت يده ببينة وأسندت بينته) الملك (إلى ما قبل إزالة يده واعتذر بغيبتها) مثلا فإنها ترجح لأن يده إنما أزيلت لعدم الحجة وقد ظهرت فينقض القضاء بخلاف ما إذا لم تسند بينته إلى ذلك أو لم يعتذر بما ذكر فلا ترجح لأنه الآن مدع خارج واشتراط الاعتذار ذكره الأصل كالروضة.
وأصلها قال البلقيني: وعندي أنه ليس بشرط والعذر إنما يطلب إذا يطلب إذا ظهر من صاحبه ما يخالفه كمسألة الرابحة. . . ويجاب بأنه إنما شرط هنا وإن لم يظهر من صاحبه ما يخالفه لتقدم الحكم بالملك لغيره فاحتيط بذلك ليسهل نقض الحكم بخلاف ما مر ".
ن - وجاء في حاشية الباجوري (1) على شرح ابن قاسم الغزي تعليقا على قول ابن قاسم (وإذا تداعيا) أي اثنان شيئا في يد أحدهما فالقول قول صاحب اليد بيمينه) أن الذي في يده له.
قال الباجوري ". . . قوله شيئا أي عينا وقوله في يد أحدهما أي ولا بينة لواحد منهما فإن كان لكل منهما بينة رجحت بينة صاحب اليد ويسمى الداخل على بينة الآخر ويسمى الخارج بشرط أن يقيم الداخل بينته بعد بينة الخارج ولو قبل تعديلها لأن الأصل في جانب الداخل اليمين ما لم يقم الخارج بينته فلا يعدل عنها ما دامت كافية فلو أقامها قبلها لم تسمع فيعيدها بعدها وترجح بينة الداخل ولو كانت شاهدا ويمينا وكانت بينة الخارج شاهدين، وإن تأخر تاريخها أو لم يتبين سبب الملك من شراء أو غيره ترجيحا لبينة بيده نعم لو قال الخارج هو ملكي اشتريته منك ولم تدفعه لي أو غصبته مني واكتريته أو استعرته فقال الداخل بل هو ملكي وأقاما بينتين بما قالاه رجحت بينة الخارج لزيادة علمها بما ذكر ولو أزيلت يد الداخل ببينة أقامها الخارج ثم أقام الداخل بينته وأسندت ملكه إلى ما قبل إزالة يده رجحت بينته وإن لم يعتذر بغيبتها مثلا على المعتمد خلافا للبلقيني وتبعه شيخ الإسلام في شرح منهجه فينقض القضاء السابق لأن يده إنما أزيلت بعدم الحجة، وقد ظهرت بخلاف ما إذا لم تسند ملكه إلى ذلك فلا ترجح لأنه الآن مدع خارج وعلم مما تقرر من أن بينة الداخل ترجح إذا أزيلت يده ببينة
__________
(1) انظر حاشية الباجوري 3 \ 584(30/56)
وأسندت بينة ملكه ما قبل إزالة يده أن دعواه تسمع ولو بغير ذكر انتقال بخلاف ما لو أزيلت يده بإقرار حقيقة أو حكما وهو اليمين المردودة فلا تسمع دعواه ثانيا بغير ذكر انتقال لأنه مؤاخذ بإقراره. . . . "
س - قال العز بن عبد السلام (فائدة) (1) اليد عبارة عن القرب والاتصال، وللقرب والاتصال مراتب بعضها أقوى من بعض في الدلالة.
أعلاها: ما اشتد اتصاله بالإنسان كثيابه التي هو لابسها وعمامته ومنطقته وخاتمه وسراويله ونعله الذي في رجله ودراهمه التي في كمه أو جيبه أو يده، فهذا الاتصال أقوى الأيدي لاحتوائه عليها ودنوه منها.
المرتبة الثانية: البساط الذي هو جالس عليه أو البغل الذي هو راكب عليه فهذا في المرتبة الثانية.
المرتبة الثالثة: الدابة التي هو سائقها أو قائدها فإن يده في ذلك أضعف من يد راكبها.
المرتبة الرابعة: الدار التي هو ساكنها ودلالتها دون دلالة الراكب والسائق والقائد لأنه غير مسئول على جميعها ويقدم أقوى اليدين على أضعفهما فلو كان اثنان في دار فتنازعا في الدار وفي ما هما لابسانه جعلت الدار بينهما بأيمانهما لاستوائهما في الاتصال وجعل القول قول كل واحد منهما في ما هو لباسه المختص به لقوة القرب والاتصال ولو اختلف الراكبان في مركوبهما حلفا وجعل بينهما لاستوائهما ولو اختلف الراكب مع القائد أو السائق قدم الراكب عليهما بيمينه. "
ع - وجاء في الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي (2) : سئل رحمه الله عن امرأة بيدها مستند شرعي مضمونه أن فلانة الفلانية اشترت من أختها فلانة الفلانية بيتا بيعا مطلقا بثمن كذا وكذا وقبضت البائعة الثمن باعترافها وحكم حاكم شافعي بالتبايع المذكور.
__________
(1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام \ 141
(2) الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي ج4 ص374 وما بعدها(30/57)
ومؤرخ التبايع والحكم بعام سنة عشرين وتسعمائة (920) والشاهد لم يكتب في المستند معرفته للبائعة ولا عرفه بها أحد. والحالة أن البائعة منكرة للبيع المذكور وأنها لم تقبض الثمن المذكور وأنها لم تكن أختا لها كما كتب في المستند. ثم إن البائعة جاءت عند حاكم شرعي مخالف للحاكم المثبت وادعت على المشترية المذكورة أنها واضعة يدها على بيتها بمقتضى أنهما جعلته تحت يدها في مبلغ اثني عشر أشرفيا هو ومستندات شرعية تشهد لها بذلك فأجابت بأنها صار إليها ذلك بالشراء الشرعي منها كما ذكر أعلاه وأنني تقابلت وإياك التبايع الصادر منك كما ذكر. فهل تسمع دعواها الآن بأنها لم تبع ولم تقبل الثمن؟ وهل حكم الحاكم الشافعي يمنعها من الدعوى بذلك؟ وهل طول المدة مع تصرفها في البيت بالهدم والبناء مسقط للطلب أيضا أم لا؟ وهل للحاكم المدعى لديه إلزام المشترية بحضور البينة ثانيا لتشهد في وجه البائعة بالمعرفة والبيع وبقبض الثمن أم لا؟
فأجاب - نفع الله تعالى بعلومه قوله: لا تسمع دعواها الآن بأنها لم تبع حيث ثبت عند الحاكم وليس للحاكم المدعى لديه إلزام المشترية بحضور البينة ثانيا لتشهد في وجه البائعة بالمعرفة لأن من لازم حكم الحاكم بصحة البيع استيفاء مسوغاته الشرعية ومنها أن الشهادة لا تكون إلا على عينها أو باسمها ونسبها ولا نظر لطول المدة المذكورة ولا لقصرها وأما دعواها أنها لم تقبض الثمن فإن كانت الشهادة عليها بطريق المعاينة لم تسمع دعواها وإن كانت بطريق الشهادة على إقرارها سمعت دعواها أنها لم تقر إلا على رسم القيالة فتحلف المشترية أنها أقبضتها الثمن فإن نكلت حلفت البائعة أنها لم تقبض واستحق الثمن. . . والله أعلم.(30/58)
4 - النقول من مذهب الحنابلة:
تمهيد: يقرر المذهب الحنبلي القول في الحكم بمرور الزمان من حيث الجملة بناء على قاعدة سد الذرائع وأنه إذا تعارض أصل وظاهر قدم الظاهر ولم يذكر الحنابلة من تحديد المدة كما ذكره الأحناف بل يردون ذلك إلى اجتهاد القاضي وقد وردنا بعض النقول عن ابن قدامة وصاحب مطالب أولي النهى وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وجملة من فتاوى أئمة الدعوة.(30/58)
قال ابن قدامة (1) : فإن كان في يد رجل دار أو عقار يتصرف فيها تصرف الملاك بالسكنى والإعارة والإجارة والعمارة والهدم والبناء من غير منازع، فقال أبو عبد الله بن حامد: يجوز أن يشهد له بملكها. وهو قول أبي حنيفة والإصطخري من أصحاب الشافعي. قال القاضي: ويحتمل أن لا يشهد إلا بما شاهده من الملك واليد والتصرف، لأن اليد ليست منحصرة في الملك قد تكون بإجارة أو إعارة أو غصب. وهذا قول بعض أصحاب الشافعي.
ووجه الأول أن اليد دليل الملك، واستمرارها من غير منازع يقويها، فجرت مجرى الاستفاضة فجاز أن يشهد بها كما لو شاهد سبب اليد من بيع أو إرث أو هبة واحتمال كونها عن غصب أو إجارة يعارضه استمرار اليد من غير منازع فلا يبقى مانعا كما لو شاهد سبب اليد، فإن احتمال كون البائع غير مالك والوارث والواهب لا يمنع الشهادة كذا ها هنا.
فإن قيل: فإذا بقى الاحتمال لم يحصل العلم ولا تجوز الشهادة إلا بما يعلم.
قلنا: الظن يسمى علما. قال الله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} (2) ولا سبيل إلى العلم اليقين ها هنا فجازت بالظن.
وجاء في مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى (3) (ومن رأى شيئا بيد إنسان يتصرف فيه مدة طويلة كتصرف مالك من نقض وبناء وإجارة وإعارة فله الشهادة بالملك) لأن تصرفه فيه على هذا الوجه بلا منازع دليل صحة الملك (كمعاينة السبب) أي سبب الملك (من بيع وإرث) ولا نظر لاحتمال كون البائع والمورث ليس مالكا (وإلا) يره يتصرف كما ذكر فإنه يشهد (باليد والتصرف) لأن ذلك لا يدل على الملك غالبا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (4) : ومن ادعى على خصمه أن بيده عقارا استغله مدة
__________
(1) المغني لابن قدامة جـ9 ص 162.
(2) سورة الممتحنة الآية 10
(3) انظر مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للشيخ مصطفى السيوطي الرجيباني 6 \ 599.
(4) الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية(30/59)
معينة وعينه وأنه استحقه فأنكر المدعى عليه، وأقام المدعي عليه بينة باستيلائه لا باستحقاقه، لزم الحاكم إثباته والشهادة به كما يلزم البينة أن تشهد به، لأنه كفرع مع أصل، وما لزم أصل الشهادة به لزم فرعه حيث يقبل، ولو لم تلزم إعانة مدع بإثبات وشهادة ونحو ذلك إلا بعد ثبوت استحقاقه لزم الدور بخلاف الحكم وهو الأمر بإعطائه ما ادعاه إن أقام بينة بأنه هو المستحق أمر بإعطائه ما ادعاه وإلا فهو كمال مجهول يصرف في المصالح.
ومن بيده عقار فادعى رجل بثبوته عند الحاكم أنه كان لجده إلى موته، ثم إلى ورثته ولم يثبت أنه مخلف عن مورثه، لا ينزع منه بذلك، لأن أصلين تعارضا وأسباب انتقاله أكثر من الإرث ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق قال ابن القيم: فصل: الطريق الثالث (1) أن يحكم باليد مع يمين صاحبها، كما إذا ادعى عليه عينا في يده، فأنكر فسأل إحلافه فإنه يحلف وتترك في يده لترجح جانب صاحب اليد. ولهذا شرعت اليمين في جهته فإن اليمين تنتزع في جنبة أقوى المتداعيتين، هذا إذا لم تكذب اليد القرائن الظاهرة، فإن كذبتها لم يلتفت إليها، وعلم أنها يد مبطلة.
وذلك كما لو رأى إنسانا يعدو وبيده عمامة، وعلى رأسه عمامة، وآخر خلفه حاسر الرأس، ممن ليس شأنه أن يمشي حاسر الرأس، فإنا نقطع أن العمامة التي بيده للآخر ولا يلتفت إلى تلك اليد.
ويجب العمل قطعا بهذه القرائن. فإن العلم المستفاد منها أقوى بكثير من الظن المستفاد من مجرد اليد، بل اليد هنا لا تفيد ظنا البتة. فكيف تقدم على ما هو مقطوع به، أو كالمقطوع به؟
وكذلك إذا رأينا رجلا يقود فرسا مسرجا ولجامه وآلة ركوبه، وليست من مراكبه في العادة، ووراءه أمير ماش، أو من ليس من عادته المشي، فإنا نقطع أن يده مبطلة.
__________
(1) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص (113) ويرجع إلى ص (88)(30/60)
وكذلك المتهم بالسرقة إذا شوهددت العملة معه وليس من أهلها كما إذا رئي معه القماش والجواهر ونحوها مما ليس من شأنه وادعى أنها ملكه وفي يده، لم يلتفت إلى ملك اليد.
وكذلك كل يد تدل القرائن الظاهرة التي توجب القطع أو تكاد: أنها يد مبطلة لا حكم لها، ولا يقضى بها.
فإذا قضينا باليد، فإنما نقضي بها إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها.
وإذا كانت اليد ترفع بالنكول، وبالشاهد الواحد مع اليمين، وباليمين المردودة. فلا ترفع بما هو أقوى من ذلك بكثير بطريق الأولى. فهذا مما لا يرتاب فيه: أنه من أحكام العدل الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، ووضعه بين عباده.
فالأيدي ثلاثة: يد يعلم أنها مبطلة ظالمة فلا يلتفت إليها.
الثانية يد يعلم أنها محقة عادلة، فلا تسمع الدعوى عليها، كمن يشاهد في يده دار يتصرف فيها بأنواع التصرف من عمارة وخراب وإجارة وإعارة مدة طويلة من غير منازع ولا مطالب، مع عدم سطوته وشوكته. فجاء من ادعى أنه غصبها منه، واستولى عليها بغير حق - وهو يشاهد في هذه المدة الطويلة ويمكنه طلب خلاصها منه، ولا يفعل ذلك - فهذا مما يعلم فيه كذب المدعي، وأن يد المدعي عليه محقة.
هذا مذهب مالك وأصحابه وأهل المدينة. وهو الصواب.
قالوا إذا رأينا رجلا حائزا لدار متصرفا فيها مدة سنين طويلة: بالهدم والبناء والإجارة والعمارة وهو ينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فبها طول هذه المدة وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع يمنعه من مطالبته: من خوف سلطان، أو نحوه من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق، وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة، ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك، مما يتسامح به القرابات والصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه، بل كان عريا عن ذلك أجمع، ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويريد أن يقيم بينة على ذلك - فدعواه غير مسموعة أصلا، فضلا عن بينته، وتبقى الدار في يد حائزها لأن كل دعوى(30/61)
ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة.
قال تعالى: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1) وأرحبت الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوى كالنقد وغيره. وكذلك في هذا الموضع. وليس ذلك خلاف العادات فإن الناس لا يسكتون على ما يجري هذا المجرى من غير عذر.
قالوا: وإذا اعتبرنا طول المدة، فقد حدها ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ بعشر سنين. وربما احتج بحديث يذكر عن سعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» وهذا لا يثبت.
وأما مالك رحمه الله: فلم يوقت في ذلك حدا، ورأى ذلك على قدر ما يرى ويجتهد فيه الإمام.
الثالثة: يد محتمل أن تكون محقة. وأن تكون مبطلة. فهذه هي التي تسمع الدعوى عليها ويحكم بها عند عدم ما هو أقوى منها. فالشارع لا يغير يدا شهد العرف والحس بكونها مبطلة. ولا يهدر يدا شهد العرف بكونها محقة.
واليد المحتملة: يحكم فيها بأقرب الأشياء إلى الصواب. وهو الأقوى فالأقوى. والله أعلم. فالشارع لا يعين مبطلا، ولا يعين على إبطال الحق، ويحكم في المتشابهات بأقرب الطرق إلى الصواب وأقواها.
__________
(1) سورة الأعراف الآية 199(30/62)
باب الدعاوى والبينات
قال الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد رحمهما الله جرى بين رجلين خصومة في عقد بيع نخل متقدم ودخل عليه عقد ثان وقام بعض الناس على بعض يتنازعون في عقود ماضية في أموال قد استولى عليها أهلها وحضروا عند آل الشيخ واتفق رأيهم أن ما أفتى به الشيخ رحمه الله وغيره من قضاة المسلمين واستغله الذي هو في يده مدة والمدعي موجود ولا أنكر وادعى فلا له طريق إلا إن تبين مقالة فيها نص صريح أو إجماع أهل العلم أو اتفق عليه قضاة المسلمين الموجودين وإلا ما يثبت له دعوى بفتيا الواحد في مثل هذه المقالة التي يقضي فيها قاض من قضاة المسلمين فلا يتعرضها الآخر إلا بإجماع القضاة أن هذه الفتيا مخالفة للشرع فإن نقضها واحد ما صح نقضه فإن تقوى أمير أو مأمور على مسلم وأكل ماله بظلم أو بيع فاسد فيأتي وأقوم له إن شاء الله تعالى.
ويذكر لنا بعض الناس الذين حضروا الشيخ رحمه الله أنه إذا عرض عليه حفيظة بخط مطوع من مطاوعة الجاهلية (1) أمضاها ولا ينكثها فإذا استدام ملك واحد في يد الآخر واستغله ثلاث سنين أو أربع سنين وصاحب الدعوى حاضر ولا ادعى في هذه المدة سد عليه الباب.
سئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد عن أخوين بينهما شركة في أرض تصرف أحدهما في الأرض بزرع وبناء وادعى أنه اشتراها من أخيه ولكن الشهود ماتوا فأجاب: الذي نفهم أن هذا على الأصل يلزم مدعي الشراء بينة فإن لم يجد بينة حلف المنكر أنه لم يبعها عليه وأنها في ملكه إلى الآن فإذا حلف فهو على نصيبه من الأرض وأما كونها في يد أحدهما ويتصرف فيها من قدر ثمان سنين فمثل هذا ما يصير بينة ولا يحكم باليد في مثل
__________
(1) أي ما قبل ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله سموا بذلك لما كانوا عليه من أعمال الجاهلية(30/63)
هذه الصورة لكونه يدعي أنه اشتراها والآخر منكر ولم يدع أنها ملكه لا حق للآخر فيها بل هو مقر بملك أخيه فيها لكنه يدعي بالشراء وهذا الذي تقرر عندنا وعند الأخ حمد بن ناصر.
سئل الشيخ عبد الرحمن بن حسن عن مواريث كانت في الأصل فصارت اليوم في يد غير أهلها يتصرفون فيها تصرف الملاك فأجاب: الذي استقر عليه فتوى شيخنا شيخ الإسلام إمام الدعوة الإسلامية أن العقار ونحوه إذا كان في يد إنسان يتصرف فيه تصرف الملاك من نحو ثلاث سنين فأكثر ليس فيه منازع في تلك المدة أن القول قوله أنه ملكه إلا أن تقوم بينة عادلة تشهد بسبب وضع اليد أنه مستعير أو مستأجر ونحو ذلك، وأما الأصل فلا يلتفت إليه مع هذا الظاهر فقدم شيخنا رحمه الله الظاهر هنا على الأصل لقوته وعدم المعارض.
وسئل أيضا الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ رحمهم الله عن بستان ادعاه اثنان أصله لجدهما من قبل الأم وليس مع أحدهما بينة بانتقال ملك مورثه عنهما فأجاب: قد أفاد ابن القيم رحمه الله تعالى في الطرق ما يؤخذ منه حكم هذه القضية فقال: وأما المرتبة الثالثة فمثالها أن يكون رجل حائزا لدار يتصرف فيها السنين الطويلة بالبناء والهدم والإجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها هذه المدة وهو مع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع من مطالبته من خوف سلطان أو ما أشبه ذلك وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة أو شركة في ميراث ونحوه ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه، ويزعم أنها له، ويريد أن يقيم بينة بذلك فدعواه غير مسموعة أصلا انتهى. فمفاد هذا الكلام أنه إذا كان بين المتنازعين قرابة أو شركة في ميراث ونحو ذلك أن الدعوى تسمع ولا يثبت حكم اليد لمن هي في يده لأجل القرابة وغيبة الشريك فتقسم على الميراث الذي هو في الأصل والله أعلم.
سئل الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ إذا ادعى رجل أن أباه اشترى هذا الملك وأحضر وثيقة وكان بيد آخر وورثه عن أبيه والوثيقة من مدة خمس سنين فأجاب: اعلم أن العلماء قرروا أنه إذا تعارض الأصل والظاهر قدم الظاهر ولم يعمل بالأصل، وهذا فيما إذا كان العقار بيد إنسان قدر خمس سنين يتصرف فيه تصرف المالك ولم يدعه صاحب(30/64)
الأصل في هذه المدة ولم يكن بينهما شركة ولا قرابة بينهما، فالذي أرى في هذه المسألة إذا كان الملك بيد أب من هو في يده أو ولده مع وجود أبي المدعي يتصرف فيه ولم يدعه الأب فدعوى ابنه اليوم ساقطة، وإن كان أبو المدعي مات من حين الشراء المذكور في الوثيقة وأحضر ابنه بينة أنه لم يعلم بالوثيقة ولم يجدها إلا في هذا الزمان عمل بها وإلا لم تقبل دعواه عدم وجودها إلا ببينة مرضية.
سئل الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين إذا ادعى إنسان عقارا فقال المدعى عليه ورثته من أبي ولم أعلم لك فيه حقا هل تقبل يمينه؟ وإذا ادعى إنسان شيئا أنه يملكه الآن وشهدت البينة أنه كان له أمس أو لأبيه قبل موته إلى أن مات هل تسمع أولا؟ فأجاب: لا يخلو إما أن يدعي على من هو بيده أنه غصبه إياه ونحو ذلك فإذا لم يكن للمدعي بينة فعلى المدعى عليه اليمين على حسب جوابه، فإن قال المدعي غصبتني حلف أني ما غصبتك هذا وإن قال المدعي أودعتك هذا حلف أنك ما أودعتني إياه ونحو ذلك فإذا حلف بأنك ما تستحق علي شيئا أو أنك لا تستحق فيما ادعيته صار جوابا صحيحا ولا يكلف سواء، والحال الثاني أن يدعي على من هو في يده بأن أباك غصبني هذا أو أنه وديعة عنده ونحو ذلك فيمين المدعى عليه على نفي العلم فيحلف في دعوى الغصب بأني ما علمت أن أبي غصب هذا منك وفي دعوى الوديعة ما علمت أنك أودعته إياه ونحو ذلك وفي سنن أبي داود «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي: ألك بينة قال لا ولكن أحلفه والله يعلم أنها أرضي اغتصبها أبوه فتهيأ الكندي لليمين ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم (1) » ولأنه لا تمكنه الإحاطة بفعل غيره بخلاف فعل نفسه فوجب أن لا يكلف اليمين على البت. وأما إذا ادعى أن هذه اليمين له الآن وشهدت البينة بأنها كانت له أمس وأنها كانت في يده أمس لم تسمع بينته لعدم تطابق البينة والدعوى قال في الإنصاف في أصح الوجهين حتى يتبين سبب يد الثاني نحو غصبه بخلاف ما لو شهدت أنها ملكه اشتراه من رب اليد فإنها تقبل ا. هـ. وأما إذا شهدت البينة أن هذه العين لهذا المدعي بهذه الصيغة كفى ذلك وسلمت إلى المدعي ولو لم تقل وهي في ملكه الآن وأما إذا ادعى أن هذه العين كانت ملكا لأبيه أو أمه أو أخيه ومات وهي في ملكه فصارت لي بالميراث فإن شهدت البينة بأن هذه العين كانت ملكا لأبيه ومات وهي في ملكه سمعت البينة بذلك وإن قالت البينة كانت ملكا لأبيه ونحوه ولم تشهد بأنها خلفه
__________
(1) صحيح مسلم الإيمان (139) ، سنن الترمذي الأحكام (1340) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3245) ، مسند أحمد بن حنبل (4/317) .(30/65)
تركة لم تسمع هذه البينة. وفي الفروع والإنصاف عن الشيخ تقي الدين أنه قال فيمن بيده عقار فادعى آخر بثبوت عند الحاكم أنه كان لجده إلى موته ثم لورثته ولم يثبت أنه مخلف عن موروثه لا ينتزع منه بذلك لأن أصلين تعارضا وأسباب انتقاله أكثر من الإرث ولم تجر العادة بسكوتهم المدة الطويلة ولو فتح هذا الباب لانتزع كثير من عقار الناس بهذا الطريق (1) .
__________
(1) الدرر السنية \ 6 \ 512 وما بعدها(30/66)
مما تقدم يتبين ما يأتي:
أولا: من الأسباب الشرعية لنقل الملكية البيع والهبة والوصية والميراث والشفعة والحيازة والتقادم عند من يقول بذلك \ انظر الإعداد ص 2.
ثانيا: دل الكتاب والسنة والإجماع على تحريم الاعتداء على أموال الناس بغير حق انظر الإعداد ص 3.
ثالثا: معنى الحيازة في اللغة الجمع والتجمع وجميع فروع هذه المادة ترجع إلى هذا الأصل وكل من ضم شيئا إلى نفسه فقد حازه حوزا. والحيازة اصطلاحا وضع اليد على الشيء والاستيلاء عليه والتصرف فيه تصرف الملاك في أملاكهم \ انظر الإعداد \ ص 4.
رابعا: محل البحث هو الشيء الذي طالت مدته بيد إنسان وليس لديه ما يثبت ملكيته سوى طول المدة فأقام شخص آخر الدعوى عليه وادعى أنه ملكه وأحضر البينة على ذلك وليس لديه في السابق ما يمنعه من إقامة الدعوى.
خامسا: ذكر أقوال الفقهاء في إثبات الملكية بالتقادم وبيان المدد وشروط ذلك مع الأدلة؟ المعتمد في هذا الباب في جميع تفاصيله من جهة اختلاف مقدار المدة على الاجتهاد السلطاني واجتهاد القضاة.
أ - يرى الإمام مالك رحمه الله تعالى ومن وافقه من أهل العلم عدم تحديد المدة بمقدار معين يكون قاعدة يطبق عليها تصرف القضاة فلا يتجاوزونها ولا ينقصون عنها شيئا.(30/66)
وهذا مبني على أن لكل مسألة ظروفها وملابساتها فيجتهد القاضي الذي ينظر في المسألة والاعتماد على اجتهاد القاضي له أصل في الشرع.
ب - يرى الحنفية ومن يوافقهم من المالكية وغيرهم تحديد المدة ومن هنا يتشعب الخلاف في مقدار هذه المدة.
1 - التقادم الذي مدته ست وثلاثون سنة وهذا عند الحنفية ومن يوافقهم وهو في:
1 - دعوى المتولي والمرازقة في الأصل والوقف وعلته - 2 - دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في العقارات الموقوفة 3 - الدعاوى المتعلقة بأصل النقود الموقوفة 4 - العقار الراجع من الطريق إذا كان موقوفا 5 - العقار الذي يرجع من طريق العقارات المملوكة. 6 - دعاوى رقبة الأراضي الأميرية التي يقيمها مأمور الأراضي.
والقول بهذه المدة كما ذكر مبني على الاجتهاد.
2 - التقادم الذي مدته خمس عشرة سنة وهذا يقول به الحنفية ومن يوافقهم وهو مبني على الأمر السلطاني فإذا أمر السلطان أن الدعوى لا تنظر بعد مضي هذه المدة وجب على القضاة الامتناع عن النظر فيها فيكون القاضي معزولا عن سماعها ويذكر ابن عابدين أن سبب النهي قطع الحيل والتزوير مع العلم أن هذا يمنع النظر ولا يسقط الحق ويحددون المسائل التي تدخل تحت هذه المدة في: 1 - دعاوى الدين، الوديعة العارية، العقار، الملك، الميراث القصاص دعوى التولية والغلة في العقارات الموقوفة والمقاطعة والمشروطة التصرف فيها بالإجارتين.
2 - الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب في العقار الملك \ انظر الإعداد \ 6، 11، 12، 34.
جـ - التقادم الذي مدته عشر سنوات وهذا عند من قال به من الحنفية ومن يوافقهم ويحددون ما لا تقبل فيه الدعوى بعد هذه المدة في دعوى الطريق الخاص والمسيل وحق الشرب التي هي الأرض الأميرية وهذا أيضا يبنونه على الأمر السلطاني فإذا أمر أنها لا تسمع الدعوى بعد هذه المدة وجب طاعته ولو أمر بسماعها بعد مضيها سمعت.(30/67)
د - مضى في الإعداد تحديد مدة التقادم عدد غير ذلك كما هو مبين في الإعداد تركنا ذكرها اختصارا.
هـ - هناك تفاصيل في الإعداد تركنا ذكرها اختصارا ويمكن الرجوع إليها لأن المقصود بالقصد الأول هو أصل الموضوع.
والشروط التي يشترطها العلماء للقول بالتقادم والحكم بمقتضاه هي:
1 - البلوغ - 2 - العقل - 3 - العلم بملكيته وبوضع اليد عليه - 4 - الحضور - 5 - أن لا يكون ممنوعا من إقامة الدعوى خوفا من ذي سلطان إذا كان الحائز هو السلطان والحائز شخصا له علاقة بالسلطان.
ز - المعتبر في مرور الزمان المانع لاستماع الدعوى هو مرور الزمن الواقع بلا عذر فقط وأما مرور الزمن الواقع بعذر شرعي من صغر وجنون وعته أو غيبة المدعي والمدعى عليه من المتقلبة فهذه المدة غير معتبرة لكن إذا زال العذر بدأت المدة.
جـ - لا اعتبار لمرور الزمن في دعاوى المحال التي يعود نفعها للعموم كالطريق العام والنهر والمرعى لأنه يوجد بين العامة قاصرون كالصغار والمجانين والمعتوهين ويوجد أيضا غائبون وحيث لا يمكن إفراز حق هؤلاء من غيرهم فلذلك لا يجرى في المحال التي يعود نفعها للعموم.
هذا ما تيسر ذكره وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/68)
قرار رقم 68
وتاريخ 21 \ 10 \ 1399 هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. . . وبعد:
ففي الدورة الرابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في مدينة الطائف في المدة من العاشر من شهر شوال سنة 1399 هـ. إلى الحادي والعشرين منه نظر المجلس في موضوع " التقادم في مسألة وضع اليد ". واطلع على البحث المعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في الموضوع بناء على ما تقرر في الدورة الثالثة عشرة. . .
واستعرض أقوال أهل العلم في مختلف المذاهب، وكان من أوضحها ما ذكره العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه (الطرق الحكمية) حين قال: فصل: الطريق الثالث أن يحكم باليد مع يمين صاحبها كما إذا ادعى عليه عينا في يده فأنكر فسأل إحلافه فإنه يحلف وتترك في يده لترجح جانب صاحب اليد ولهذا شرعت اليمين في جهته فإن اليمين تشرع في جنبة أقوى المتداعيين هذا إذا لم تكذب اليد القرائن الظاهرة فإن كذبتها لم يلتفت إليها وعلم أنها يد مبطلة وذلك كما لو رأى إنسانا يعدو وبيده عمامة وعلى رأسه عمامة وآخر خلفه حاسر الرأس ممن ليس شأنه أن يمشي حاسر الرأس فإننا نقطع أن العمامة التي بيده للآخر ولا يلتفت إلى تلك اليد ويجب العمل قطعا بهذه القرائن فإن العلم المستفاد منها أقوى بكثير من الظن المستفاد من مجرد اليد بل اليد هنا لا تفيد ظنا(30/69)
ألبتة فكيف تقدم على ما هو مقطوع به أو كالمقطوع به وكذلك إذا رأينا رجلا يقود فرسا مسرجا ولجامه وآلة ركوبه وليست من مراكبه في العادة ووراءه أمير ماش أو من ليس من عادته المشي فإننا نقطع أن يده مبطلة وكذلك المتهم بالسرقة إذا شوهدت العملة معه وليس من أهلها. كما إذا رئي معه القماش والجواهر ونحوها مما ليس من شأنه وادعى أنها ملكه وفي يده لم يلتفت إلى ملك اليد.
وكذلك كل يد تدل القرائن الظاهرة التي توجب القطع أو تكاد أنها يد مبطلة لا حكم لها، ولا يقضى بها، فإذا قضينا باليد فإنما نقضي بها إذا لم يعارضها ما هو أقوى منها وإذا كانت اليد ترفع بالنكول وبالشاهد الواحد مع اليمين وباليمين المردودة فلأن ترفع بما هو أقوى من ذلك بكثير بطريق الأولى.
فهذا مما لا يرتاب فيه أنه من أحكام العدل الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه ووضعهم بين عباده فالأيدي ثلاث. يد يعلم أنها مبطلة ظالمة فلا يلتفت إليها. الثانية: يد يعلم أنها محقة عادلة فلا تسمع الدعوى عليها كمن يشاهد في يده دار يتصرف فيها بأنواع التصرف من عمارة وخراب وإجارة وإعارة مدة طويلة من غير منازع ولا مطالب مع عدم سطوته وشوكته فجاء من ادعى أنه غصبها منه واستولى عليها بغير حق وهو يشاهده في هذه المدة الطويلة ويمكنه طلب خلاصها منه ولا يفعل ذلك فهذا مما يعلم فيه كذب المدعي وأن يد المدعى عليه محقة.
هذا مذهب مالك وأصحابه وأهل المدينة وهو الصواب. قالوا إذا رأينا رجلا حائزا لدار متصرفا فيها مدة سنين طويلة بالهدم والبناء والإجارة والعمارة وهو ينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه، وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة وهو مع ذلك لا يعارضه فيها ولا يذكر أن له فيها حقا ولا مانع يمنعه من مطالبته من خوف سلطان أو نحوه من الضرر المانع من المطالبة بالحقوق وليس بينه وبين المتصرف في الدار قرابة ولا شركة في ميراث وما أشبه ذلك مما يتسامح به القرابات والصهر بينهم في إضافة أحدهم أموال الشركة إلى نفسه بل كان عريا عن ذلك أجمع ثم جاء بعد طول هذه المدة يدعيها لنفسه ويريد أن يقيم بينة على ذلك فدعواه غير مسموعة أصلا فضلا عن بينته وتبقى الدار في يد حائزها لأن كل دعوى ينفيها العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة.(30/70)
قال تعالى {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (1) وأوجبت الشريعة الرجوع إلى العرف عند الاختلاف في الدعاوى كالنقد وغيره وكذلك في هذا الموضوع وليس ذلك خلاف العادات فإن الناس لا يسكتون على ما يجري هذا المجرى من غير عذر.
قالوا: وإذا اعتبرنا طول المدة فقد حددها ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم وأصبغ بعشر سنين، وربما احتج لهم بحديث يذكر عن سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» وهذا لا يثبت.
وأما مالك - رحمه الله - فلم يوقت في ذلك حدا ورأى ذلك على قدر ما يرى ويجتهد فيه الإمام. الثالثة: يد محتمل أن تكون محقة وأن تكون مبطلة فهذه هي التي تسمع الدعوى عليها ويحكم بها عند عدم ما هو أقوى منها فالشارع لا يغير يدا شهد العرف والحس بكونها مبطلة، ولا يهدر يدا شهدا العرف بكونها محقة.
واليد المحتملة: يحكم فيها بأقرب الأشياء إلى الصواب، وهو الأقوى فالأقوى، والله أعلم.
فالشارع لا يعين مبطلا، ولا يعين على إبطال الحق ويحكم في المتشابهات بأقرب الطرق إلى الصواب وأقواها. وما ذكره ابن القيم - رحمه الله تعالى - هو قول كثيرين من أهل العلم رحمهم الله.
وحيث إن المجلس لا يعلم نصا شرعيا خاصا في تحديد مدة تملك الشيء المعين الذي بيد إنسان وليس لديه إثبات الملكية سوى طول المدة، وادعى إنسان آخر ملكيته ولديه ما يثبت أنه كان ملكا له بوسيلة من وسائل الملك الشرعية.
ونظرا لأن هذه المسألة من المسائل التي تبنى على العرف، وعلى قاعدة سد الذرائع وأن الحكم في كل صورة من صورها يختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص والأحوال. فإن المجلس يرى عدم تحديد مدة معينة تكون أساسا يبني عليها القضاة أحكامهم بل يترك الحكم لاجتهادهم فإذا عرضت صورة من الصور لواحد منهم اجتهد
__________
(1) سورة الأعراف الآية 199(30/71)
فيها على حسب اختلاف ظروفها وملابساتها وبناها على القاعدة الشرعية التي يمكن أن تنطبق عليها.
هذا وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء(30/72)
الفتاوى
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية.(30/73)
من الفتوى رقم 4400
السؤال: قال كل من يتقيد برسالة محمد صلى الله عليه وسلم واستقبل القبلة بالصلاة ولو سجد لشيخه لم يكفر ولم يسمه مشركا حتى قال: إن محمد بن عبد الوهاب الذي تكلم في المشركين في خلودهم في النار إذا لم يتوبوا قد أخطأ وغلط وقال: إن المشركين في هذه الأمة يعذبهم ثم يخرجهم إلى الجنة: وقال: إن أمة محمد لم يخلد فيهم أحد في النار.
الجواب: كل من آمن برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسائر ما جاء به من الشريعة إذا سجد بعد ذلك لغير الله من ولي وصاحب قبر أو شيخ طريق يعتبر كافرا مرتدا عن الإسلام مشركا مع الله غيره في العبادة ولو نطق بالشهادتين وقت سجوده لإتيانه بما ينقض قوله من سجوده لغير الله لكنه قد يعذر لجهله فلا تنزل به العقوبة حتى يعلم وتقام عليه الحجة ويمهل ثلاثة أيام إعذارا إليه ليراجع نفسه عسى أن يتوب فإن أصر على سجوده لغير الله بعد البيان قتل لردته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه (1) » . أخرجه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما. فالبيان وإقامة الحجة للإعذار إليه قبل إنزال العقوبة به لا ليسمى كافرا بعد البيان فإنه يسمى كافرا بما حدث منه من سجود لغير الله أو نذره قربة أو ذبحه شاة لغير الله وقد دل الكتاب والسنة على أن من مات على الشرك لا يغفر له ويخلد في النار لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (2) وقوله {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (3) .
__________
(1) صحيح البخاري الجهاد والسير (3017) ، سنن الترمذي الحدود (1458) ، سنن النسائي تحريم الدم (4060) ، سنن أبو داود الحدود (4351) ، سنن ابن ماجه الحدود (2535) ، مسند أحمد بن حنبل (1/282) .
(2) سورة النساء الآية 48
(3) سورة التوبة الآية 17(30/74)
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/75)
من الفتوى رقم 4360
السؤال: هل من شهد أن الله هو الخالق الرازق وأن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم ولم يفعل شيئا إلا الصلاة ولو يسجد لشيخه ويذبح لغير الله فهل هو مسلم أم لا؟
الجواب: السجود لغير الله شرك والذبح لغير الله شرك أيضا فمن سجد لغير الله أو ذبح لغير الله بعد بيان حكم ذلك له فهو مشرك كافر لا يقبل منه صرفا ولا عدلا وإن صلى وصام فإن أعمال المشرك لا تقبل منه وإذا مات على الشرك فإن الله لا يغفر له قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) وقال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (2) وقال تعالى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) أما إن تاب قبل الموت توبة نصوحا فإن الله يغفر له كما قال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (4) أجمع علماء الإسلام أن هذه الآية نزلت في التائبين أما آية النساء وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (5) فهي نزلت في حق غير التائبين الذين ماتوا على كفرهم ومعاصيهم نسأل الله تعالى السلامة وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
__________
(1) سورة النساء الآية 48
(2) سورة المائدة الآية 72
(3) سورة الأنعام الآية 88
(4) سورة الزمر الآية 53
(5) سورة النساء الآية 48(30/75)
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/76)
من الفتوى رقم 9868
السؤال: هل يجوز الركوع لأحد مثل الوالدين؟
الجواب: لا يجوز، بل ذلك شرك لأن الركوع عبادة لله سبحانه كالسجود فلا يجوز فعلهما لغير الله سبحانه، وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/76)
فتوى رقم 436
السؤال: حصل نقاش بيني وبين أحد الإخوان حول عدم جواز الحلف بغير الله فكان ما دار بيننا كالتالي:
أقول أنا اعتمادا على ما درسته في صغري هو أن الحلف بغير الله شرك أصغر كما فصل في كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب حيث يقول: الشرك الأصغر هو الحلف بغير الله وقول الرجل: مالي إلا الله وأنت وأنا داخل على الله وعليك إلخ. . . ويقول هو \ يجوز الحلف بالقرآن لأنه صفة من صفات الله تعالى وقد تعددت إجابات بعض الإخوان المجتهدين مؤيدين لقوله ولحاجاتنا إلى الاستنارة برأي هيئة الإفتاء الموقرة لعلمنا الجازم بتحريم الأحاديث الصحيحة نرجو أن تفتونا مأجورين؟
الجواب: أما الحلف بغير الله وقول القائل ما شاء الله وشئت ومالي إلا الله وأنت(30/76)
ونحو ذلك فإن قام بقلبه تعظيم لمن حلف به من المخلوقات مثل تعظيم الله فهو شرك أكبر فإن كان جاهلا علم فإن أصر فهو والعالم ابتداء سواء كل منهما يكون مشركا شركا أكبر، وكذا في قوله: ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت فإن اعتقد أن هذا الشخص شريك مع الله لا يقع شيء إلا بمشيئة الله ومشيئة هذا الشخص فإن كان جاهلا علم فإن أصر فهو والعالم ابتداء سواء كل منهما مشرك شركا أكبر، وأما إذا حلف بغير الله بلسانه ولم يعتقد بقلبه تعظيم من حلف به أو ما حلف به وكذلك إذا قال: ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت فهذا إن كان جاهلا علم فإن أصر فهو والعالم ابتداء سواء كل منهما مشرك شركا أصغر وكونه شركا أصغر هذا لا يعني أن المسلم يتساهل في ذلك فإن الشرك الأصغر أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر. . قال ابن مسعود رضي الله عنه: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا (1) فاليمين الغموس من الكبائر ومع ذلك فقد جعل ابن مسعود رضي الله عنه الشرك الأصغر أكبر منها وسر المسألة أن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به هذا هو الأصل وأما قول القائل: ما شاء الله وشئت ونحو ذلك فإن الواو تقتضي التسوية بين المعطوف والمعطوف عليه أي أن المعطوف مساو للمعطوف عليه والله جل وعلا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (2) وأما الحلف بالقرآن فليس من هذا الباب لأن القرآن من كلام الله وكلامه جل وعلا صفة من صفاته، واليمين الشرعية هي اليمين بالله أو اسم من أسمائه أو صفة من صفاته فقال صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (3) » . أخرجه البخاري عن عمر وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) ذكره في مجمع الزوائد 4 \ 177 وقال: رواه الطبراني في الكبير وانظر إرواء الغليل 8 \ 191
(2) سورة الشورى الآية 11
(3) الإمام أحمد 2 \ 7 البخاري 3 \ 162 و7 \ 221 ومسلم 11 \ 105 و 106 والترمذي 4 \ 110(30/77)
فتوى رقم 508
السؤال: رجل أراد أن يشتري من تاجر سلعة فأعطاه ثلاثة أنواع منها فقال له الرجل تخبرني عن الأفضل من هذه السلع وقال التاجر بالأمانة هذا هو الأفضل وكلا الرجلين لم يقصد يمينا وإنما قصدهما ائتمان أحدهما الآخر في الإخبار بالحقيقة ويسأل هل هذا يعتبر كفرا وإلحادا؟ .
الجواب: إذا لم يكن أحدهما قصد بالأمانة الحلف بغير الله وإنما أراد بذلك ائتمان أخيه في أن يخبره بالحقيقة فلا شيء في ذلك مطلقا لكن ينبغي ألا يعبر بهذا اللفظ الذي ظاهره الحلف بالأمانة. أما إذا كان القصد بذلك الحلف بالأمانة فهو حلف بغير الله والحلف بغير الله شرك أصغر ومن أكبر الكبائر لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (1) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف بالأمانة فليس منا (2) » . وقال ابن مسعود رضي الله عنه: " لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أحلف بغيره صادقا ". وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وعلى وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) الإمام أحمد 2 \ 69 و87 و125 وأبو داود والترمذي 4 \ 110 والحاكم 1 \ 18 و52و4 \ 297 وابن حبان كما في موارد الظمآن ص286.
(2) الإمام أحمد وأبو داود 3 \ 571(30/78)
فتوى رقم 1779
السؤال: ما حكم الإسلام في الذي يستعين بالجن في معرفة المغيبات كضرب المندل؟(30/78)
وما حكم الإسلام في التنويم المغناطيسي وبه تقوى قدرة المنوم على الإيحاء بالمنوم وبالتالي السيطرة عليه وجعله يترك محرما أو يشفى من مرض عصبي أو يقوم بالعمل الذي يطلب المنوم؟
وما حكم الإسلام في قول فلان: (بحق فلان) أهو حلف أم لا أفيدونا؟ .
الجواب: أولا: علم المغيبات من اختصاص الله تعالى فلا يعلمها أحد من خلقه لا جني ولا غيره إلا ما أوحى الله به إلى من شاء من ملائكته أو رسله قال الله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} (1) وقال تعالى في شأن نبيه سليمان عليه السلام ومن سخره له من الجن {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} (2) وقال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} (3) {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (4) وثبت عن النواس بن سمعان رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة أو قال: رعدة شديدة خوفا من الله عز وجل فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل بالملائكة كلما مر بسماء قال ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل (5) » .
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال صلى الله عليه وسلم: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ووصف سفيان بكفيه فحرفها
__________
(1) سورة النمل الآية 65
(2) سورة سبأ الآية 14
(3) سورة الجن الآية 26
(4) سورة الجن الآية 27
(5) رواه البخاري تعليقا 8 \ 194 وأبو داود 5 \ 106 ورقمه 4738(30/79)
وبدد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدرك فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء (1) » وعلى هذا لا يجوز الاستعانة بالجن وغيرهم من المخلوقات في معرفة المغيبات لا بدعائهم والتزلف إليهم ولا بضرب مندل أو غيره بل ذلك شرك لأنه نوع من العبادة وقد أعلم الله عباده أن يخصوه بها فيقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله (3) » . . الحديث
ثانيا: التنويم المغناطيسي ضرب من ضروب الكهانة باستخدام جني حتى يسلطه المنوم على المنوم فيتكلم بلسانه ويكسبه قوة على بعض الأعمال بالسيطرة عليه إن صدق مع المنوم وكان طوعا له مقابل ما يتقرب به المنوم إليه ويجعل ذلك الجني المنوم طوع إرادة المنوم بما يطلبه منه من الأعمال أو الأخبار بمساعدة الجني له إن صدق ذلك الجني مع المنوم وعلى ذلك يكون استغلال التنويم المغناطيسي واتخاذه طريقا أو وسيلة للدلالة على مكانة سرقة أو ضالة أو علاج مريض أو القيام بأي عمل آخر بواسطة المنوم غير جائز بل هو شرك لما تقدم ولأنه التجاء إلى غير الله فيما هو من وراء الأسباب العادية التي جعلها سبحانه إلى المخلوقات وأباحها لهم.
ثالثا: قول الإنسان: (بحق فلان) يحتمل أن يكون قسما - حلفا - بمعنى أقسم عليك بحق فلان فالباء باء القسم ويحتمل أن يكون من باب التوسل والاستعانة بذات فلان أو بجاهه فالباء للاستعانة وعلى كلا الحالتين لا يجوز هذا القول. أما الأول فلأن القسم بالمخلوق على المخلوق لا يجوز فالإقسام به على الله تعالى أشد منعا بل حكم النبي صلى الله عليه وسلم بأن الإقسام بغير الله شرك فقال: «من حلف بغير الله فقد أشرك (4) » رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم وصححه وأما الثاني فلأن الصحابة رضي الله عنهم لم يتوسلوا بذات
__________
(1) صحيح البخاري جـ6 ص28 جـ 5 ص221 جـ8ص 94.
(2) سورة الفاتحة الآية 5
(3) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2516) ، مسند أحمد بن حنبل (1/308) .
(4) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/125) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .(30/80)
النبي صلى الله عليه وسلم ولا بجاهه لا في حياته ولا بعد مماته وهم أعلم الناس بمقامه عند الله وبجاهه عنده وأعرفهم بالشريعة وقد نزلت بهم الشدائد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته ولجؤوا إلى الله ودعوه لكشفها ولو كان التوسل بذاته أو بجاهه صلى الله عليه وسلم مشروعا لعلمهم إياه صلى الله عليه وسلم لأنه لم يترك أمرا يقرب إلى الله إلا أمر به وأرشد إليه ولعملوا به رضوان الله عليهم حرصا على العمل بما شرع لهم وخاصة وقت الشدة فعدم ثبوت الإذن فيه منه صلى الله عليه وسلم والإرشاد إليه وعدم عملهم به دليل على أنه لا يجوز والذي ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتوسلون إلى الله بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم ربه استجابة لطلبهم ذلك في حياته كما في الاستسقاء وغيره فلما مات صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه لما خرج للاستسقاء: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون (1) يريد بدعاء العباس ربه وسؤاله إياه وليس المراد التوسل بجاه العباس؛ لأن جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم منه وأعلى وهو ثابت له بعد وفاته كما كان في حياته فلو كان ذلك التوسل مرادا لتوسلوا بجاه النبي صلى الله عليه وسلم بدلا من توسلهم بالعباس لكنهم لم يفعلوا ثم إن التوسل بجاه الأنبياء وسائر الصالحين وسيلة من وسائل الشرك القريبة كما أرشد إلى ذلك الواقع والتجارب فكان ذلك ممنوعا سدا للذريعة وحماية لجناب التوحيد. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) البخاري 2 \ 16 و14 \ 209 والبيهقي في السنن 3 \ 352(30/81)
فتوى رقم 3760
السؤال: هل يجوز الحلف بغير الله؟
الجواب: لا يجوز الحلف بغير الله لقوله عليه الصلاة والسلام: «ألا إن الله ينهاكم(30/81)
أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا بالله أو ليصمت (1) » متفق عليه وفي رواية لأبي داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «لا تحلفوا بآبائكم وأمهاتكم ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون (2) » ولما رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف بغير الله فقد أشرك (3) » . وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) البخاري 7 \ 211 ومسلم 11 \ 105 و106 والترمذي 4 \ 109 و110 ومالك 2 \ 480 وأبو داود 3 \ 569 وابن ماجة 1 \ 677 والحاكم 1 \ 52
(2) أبو داود 3 \ 569 والنسائي 7 \ 5
(3) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/125) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .(30/82)
فتوى رقم 4767
السؤال: فإن معهد البريد الثانوي بالرياض قد لاحظ العبارة التالية (وعد الكشافة أعد بشرفي أن أبذل جهدي لأن أقوم بواجبي نحو الوطن والملك وأن أساعد الناس في كل حين وأن أعمل بقانون الكشافة) وذلك في كتيب الكشافة الذي يصدر عن الأمانة العامة للجنة الكشفية العربية وقد أرفقنا لسماحتكم صورة من الغلاف والمقدمة وصفحة (23) والمدونة بها العبارة المذكورة أعلاه. نأمل التلطف بالاطلاع ومن ثم التكرم بإفتائنا عن مدى صحة هذا القسم الكشافي لنتمكن من إقراره أو تعديله حسب الفتوى الشرعية؟
الجواب: أولا: يحرم القسم بغير الله من أب وزعيم وشرف وجاه ووجيه ونحو ذلك لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (1) » متفق عليه وقال: «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله (2) » رواه النسائي «من حلف بغير الله فقد أشرك (3) »
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(2) صحيح البخاري المناقب (3836) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/76) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .
(3) صحيح البخاري الأدب (6108) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1535) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/125) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .(30/82)
ثانيا: أنه لا ينبغي للمسلم أن يسوي بين الله وغيره كالوطن والملك والزعيم في أخذ العهد على نفسه بالعمل لهما. بل يقول: على عهد الله أن أبذل كل جهدي في القيام بواجبي لله وحده ثم أخدم وطني وأساعد المسلمين وأن أعمل بنظام الكشافة الذي لا يخالف شريعة الله تعالى.
ثالثا: يجب أن يكون عمل الإنسان وفق شريعة الله تعالى فلا يجوز له أن يأخذ على نفسه عهدا أن يعمل بقانون دولة أو طائفة أو فئة ما من البشر بإطلاق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/83)
فتوى رقم 4876
السؤال: هل تجوز الصلاة خلف من يحلف بغير الله ويلبس التمائم وله عقيدة في شيخ من مشائخ الصوفية؟
الجواب: الحلف بغير الله قد يكون شركا أكبر وقد يكون شركا أصغر على حسب ما يقوم بقلب الحالف وكذلك التمائم منها ما يكون به شركا أكبر ومنها ما يكون شركا أصغر والاعتقاد في شيخ من مشائخ الصوفية يختلف حكمه باختلاف الاعتقاد وأنت لم تبين حاله في السؤال ولكن ينبغي نصح هذا الإمام عما يصدر عنه مما لا يرضي الله فإن قبل النصح وإلا فيصلي خلف غيره.
والله الموفق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/83)
فتوى رقم 4950
السؤال: تقدم إلينا مواطن يزعم أن الحلف بالقرآن جائز وأنه يحلف بالمصحف ولا يبالي وقد نصحناه ولم يقبل فما رأيكم في ذلك؟
الجواب: يجوز الحلف بالله وصفاته والقرآن كلام الله الذي هو صفة من صفاته فيجوز الحلف به فإذا كان قصد الرجل المذكور الحلف بكلام الله فهذا جائز وإذا كان بورق المصحف والمداد الذي كتب به فهذا لا يجوز لأن الورق والمداد مخلوقات ولا يجوز الحلف بالمخلوق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (1) » . وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الشهادات (2679) ، صحيح مسلم الأيمان (1646) ، سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن النسائي الأيمان والنذور (3766) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3249) ، سنن ابن ماجه الكفارات (2094) ، مسند أحمد بن حنبل (2/142) ، موطأ مالك النذور والأيمان (1037) ، سنن الدارمي النذور والأيمان (2341) .(30/84)
فتوى رقم 6261
السؤال: حينما تكون هناك مخالفة بين اثنين يقوم رجال كبار السن بالصلح ثم بعد ذلك إذا أنكر أحدهم يحلف بشيخ من الصالحين ويأخذون معهم مصحفا ويذهبون عند القبر ويقوم مع الرجل بعض من أقربائه مصدقه على ما قاله بعد ذلك يظنون أنه إذا كذب هذا الرجل سيكون مصيره الهلاك رجاء الحكم الشرعي فيه عندهم عادة أخرى إذا تخاصم أهل القبيلة يقوم رجل بالمصالحة ثم بعد ذلك يجعل على أحدهم ذبيحة وعشرة جنيهات حتى يرضى الآخر وتكون بعد ذلك المصالحة.
الجواب: لا يجوز الحلف بغير الله لعموم الأدلة الصحيحة الدالة على ذلك والحلف بشيخ من الصالحين حلف بغير الله فينبغي نصح من فعل ذلك وبيان أن ذلك محرم وقد يكون شركا أكبر إذا حلف بهذا الصالح تعظيما له كما ينبغي لله جل وعلا والذهاب إلى(30/84)
أي قبر من القبور للحلف عنده بدعة ومنكر لا يجوز ومن وسائل الشرك. وأما ما يجعله الرجل من الذبيحة والجنيهات مقابل الصلح فلا نعلم به بأسا إذا تراضى عليه الطرفان. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/85)
فتوى رقم 8999
السؤال: عندنا في السودان كثير من الناس يحلفون بالمشايخ وبالأضرحة وقد يحصل هذا داخل المحاكم الشرعية حيث إنه إذا طلب القاضي من الظالم أن يحلف على المصحف حلف كاذبا دون أن يتردد. أما إذا قال له القاضي: احلف بالضريح امتنع من الحلف واعترف بظلمه ظنا منه أنه إذا حلف بالضريح أصيب بضرر لأن الضريح في نظره يضر وينفع فما الحكم في ذلك وهل يجوز للقاضي أن يحلف بالضريح أو بالشيخ؟ وقد أفتى لنا أحد العلماء بجواز الحلف بالضريح وقال: إنه يجوز لاسترداد حق المظلوم إذا دعت الضرورة لذلك فما مدى صحة هذه الفتوى؟
الجواب: يحرم الحلف بالضريح أو الشيخ ولا يجوز للقاضي أن يطلب الحلف بهما لما ثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد أشرك (1) » واليمين المشروعية إنما تكون بلفظ الجلالة أو اسم من أسمائه أو صفة من صفاته. .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .(30/85)
فتوى رقم 9688
السؤال: هل يجوز الحلف بالقرآن، وهل يجوز الحلف بغير الله؟
الجواب: يجوز الحلف بالقرآن؛ لأنه كلام الله وكلامه صفة من صفاته تعالى أما الحلف بغير الله فلا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حلف بغير الله فقد أشرك (1) » وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سنن الترمذي النذور والأيمان (1534) ، سنن أبو داود الأيمان والنذور (3251) ، مسند أحمد بن حنبل (2/69) .(30/86)
من الفتوى رقم 3942
السؤال: كيف يكون المرء قوي الإيمان مطبقا لأوامر الله خائفا من عقابه؟
الجواب: يكون ذلك بتلاوة كتاب الله ودراسته وتدبر معانيه وأحكامه وبدارسة سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة تفاصيل الشريعة منها والعمل بمقتضى ذلك والتزامه عقيدة وفعلا وقولا ومراقبة الله وإشعار القلب عظمته وتذكر اليوم الآخر وما فيه من حساب وثواب وعقاب وشدة وأهوال وبمخالطة من يعرف من الصالحين ومجانبة أهل الشر والفساد.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/86)
من الفتوى رقم 6375
السؤال: إذا دعت امرأة ذات جمال فقط دعت رجلا للحرام فأبى؟ هل يظله الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله؟
الجواب: إذا دعته امرأة ذات جمال إلى فاحشة فأبى خوفا من الله فقد فعل خيرا وله الأجر من الله فضلا وإحسانا ولو لم تكن ذات منصب. أما تقديره وبيان نوعه وكيفيته فإلى الله؛ لأنه من المغيبات التي استأثر الله بعلمها وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. (ذكر منهم) رجلا دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله (1) » . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) البخاري برقم 660و1423 و 6479 و6806 ومسلم 7 \ 120 (نووي)(30/87)
فتوى رقم 6303
السؤال: إني أشغل منصب أو وظيفة معلم أو كما نقول مدرس في التعليم الابتدائي وإني أحمد الله على ما وهبني وإني جدا مرتاح لهذه الوظيفة الشريفة ولكن الشيء الذي أنا محتار من أجله هو أني أحاول أن أوحد الله سبحانه وتعالى وأن أخافه وحده لا ثاني معه بل أرجو الله أن لا يكون هذا مني رياء إنى أوحد الله وأخافه وأبحث في الأمور التي ترضي الله لأقوم بها وعن الأمور التي تغضبه سبحانه لأبتعد عنها وهمي الوحيد في هذه الساعة هو البحث عن الأمور التي أشرك فيها بالله لأبتعد عنها كما ذكرت أنا معلم أخلص في عملي والله أعلم ولكن عندما أسمع بمجئ أحد المسئولين أعني مفتشا مكلفا بمراقبة تطبيق البرامج ومستوى الأطفال التعليمي وكل ما يتعلق بالقسم عند(30/87)
ذلك يرتابني خوف يشبه خوف المؤمن الواقف أمام ربه خوف يشبه خوف الخائف من الله يعني أشعر باصفرار يعلو محياي إخوتي ألا تروني أشرك بخوفي هذا من هذا البشر الذي لا حول له ولا قوة؟ زد على هذا بشر لا يخاف الله. إخوتي في الله انصحوني إلى الطريق السوي إن كان هذا يوقعني في الشرك بالله سبحانه وتعالى إن الحسرة لتكاد تمزق أحشائي وأزيدكم توضيحا هو أني أحاول أن أضاعف الجهود عندما أشعر بمجيء أحد المراقبين انصحوني أرشدوني إلى الطريق السوي وجزاكم الله خيرا؟ .
الجواب: الخوف من الله من أفضل مقامات الدين وأجلها وهو من أجمع أنواع العبادة التي أمر الله سبحانه بإخلاصها له قال تعالى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) ووعد سبحانه من حقق مقام الخوف منه بجنتين فقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (2) .
وأثنى على الملائكة بأنهم يخافون ربهم من فوقهم فقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (3) . وغير ذلك من الآيات في القرآن كثيرة.
وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتابه فتح المجيد أن الخوف ثلاثة أقسام:
أحدها خوف السر وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أن يصيبه بما يكره كما قال تعالى عن قوم هود عليه السلام أنهم قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (4) {مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} (5) وقال تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} (6) وهذا هو الواقع من عباد القبور ونحوها من الأوثان يخافونها ويخوفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها وأمروا بإخلاص العبادة وهذا ينافي التوحيد.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 175
(2) سورة الرحمن الآية 46
(3) سورة النحل الآية 50
(4) سورة هود الآية 54
(5) سورة هود الآية 55
(6) سورة الزمر الآية 36(30/88)
الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه خوفا من بعض الناس فهذا محرم وهو نوع من الشرك بالله المنافي لكمال التوحيد وهذا هو سبب نزول هذه الآية {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (1) {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (2) {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) .
الثالث: الخوف الطبيعي وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك فهذا لا يذم كما قال تعالى في قصة موسى عليه السلام {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} (4) الآية.
من هذا يظهر أن خوفك من المراقب من النوع الثالث (الخوف الطبيعي) فعليك بإخلاص العمل دائما سواء حضر المراقب أو لم يحضر وأن تضاعف جهودك في تعليم الطلاب ما ينفعهم وتقوي إيمانك بكثرة قراءة القرآن وتدبره والعمل به وأداء الصلاة في وقتها وغير ذلك من شرائع الإسلام نسأل الله لنا ولك الثبات والتوفيق للعمل الصالح.
والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة آل عمران الآية 173
(2) سورة آل عمران الآية 174
(3) سورة آل عمران الآية 175
(4) سورة القصص الآية 21(30/89)
من الفتوى رقم 10561
السؤال: أخاف من عذاب الله تبارك وتعالى ووعيده ولكن همتي في العمل ضعيفة جدا فعندما أقرأ في كتب علماء الأمة من السلف الصالح أجد أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعلمون في كل أبواب الخير وكانوا يبكون وينزلون أنفسهم منزلة العصاة فماذا أفعل حتى أدخل الجنة وأنجو من النار وأحشر مع الصالحين؟(30/89)
الجواب: الخوف من الله ومن وعيده وعذابه مما يحمد شرعا ومما يزيد العبد في تقوى الله فيبعثه على فعل أوامره واجتناب ما نهى عنه سبحانه وتعالى فأخلص قلبك لله واصدق في خشيتك منه لتقوى عزيمتك على فعل الطاعة والبعد عن المعصية وأكثر من قراءة القرآن مع تدبر واعتبار ليكون لك عظة ومنهجا ومن القراءة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لتتخذ لنفسك من عملهم أسوة وتسلك ما سلكوه من طرق الخير كتب الله لنا ولك التوفيق وقوة العزيمة في العقيدة والعمل الصالح. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/90)
فتوى رقم 5265
السؤال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه: إذ مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك ففعلت فإذا هو قائم فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب أو قال: مخافتك فغفر له (1) » .
الجواب: أخرج الإمام البخاري في صحيحه باب الخوف من الله \ حدثنا ابن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن ربعي عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان رجل ممن كان قبلكم يسئ الظن بعمله فقال لأهله: إذ مت فخذوني فذروني في البحر في يوم صائف ففعلوا به فجمعه الله ثم قال: ما حملك على الذي صنعت؟ قال: ما حملني عليه إلا مخافتك فغفر له (2) » حدثنا موسى حدثنا معتمر سمعت أبى حدثنا قتادة عن عقبة بن
__________
(1) صحيح البخاري أحاديث الأنبياء (3481) ، صحيح مسلم التوبة (2756) ، سنن النسائي الجنائز (2079) ، سنن ابن ماجه الزهد (4255) ، مسند أحمد بن حنبل (2/304) ، موطأ مالك الجنائز (568) .
(2) البخاري رقم 6480 (الفتح (17 \ 70) النووي)(30/90)
عبد الغافر عن أبي سعيد رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم «ذكر رجلا فيمن كان سلف أو قبلكم آتاه الله مالا وولدا يعني أعطاه قال: فلما حضر قال لبنيه: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب قال: فإنه لم يبتئر عند الله خيرا. فسرها قتادة: لم يدخر. وإن يقدم على الله يعذبه. فانظروا، فإذا مت فأحرقوني حتى صرت فحما فاسحقوني أو قال: فاسهكوني ثم إذا كان ريح عاصف فاذروني فيها فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي. ففعلوا فقال الله: كن فإذا رجل قائم ثم قال: أي عبدي ما حملك على ما فعلت؟ قال: مخافتك أو فرقا منك فما تلافاه أن رحمه الله (1) » فحدثت أبا عثمان فقال: سمعت سلمان غير أنه زاد فاذروني في البحر أو كما حدث (2) .
فهذا الرجل حمله خوفه من الله وجهله بعموم قدرة الله على أن أوصى أولاده بما ذكر فرحمه الله وغفر له. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بعد أن ذكر الحديث واحتجاج العلماء فيه: (فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم بعدما أحرق وذري وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك وهذان أصلان عظيمان (أحدهما) متعلق بالله تعالى وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير.
(والثاني) متعلق باليوم الآخر وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ويجزيه على أعماله ومع هذا فلما كان مؤمنا بالله في الجملة ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت وقد عمل عملا صالحا وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح (3) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الرقاق (6481) ، صحيح مسلم التوبة (2757) ، مسند أحمد بن حنبل (3/78) .
(2) البخاري رقم 6481 و7508 (الفتح) ومسلم 17 \ 73 (النووي)
(3) مجموع الفتاوى جـ2 ص491(30/91)
الفتوى رقم 598
السؤال: إن جماعة من طلبة العلم مر عليهم في قراءتهم في حديث «أن أعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعقل وإلا أتوكل، قال: اعقل ناقتك وتوكل على الله» ، لكن قال أناس: إن هذا الحديث ليس بثابت، أرجو الإفادة، هل هو صحيح أو لا؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وبعد: روى الترمذي في سننه من طريق أنس رضي الله عنه قال: «قال رجل: يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال صلى الله عليه وسلم: اعقلها وتوكل (1) » ثم ذكر الترمذي عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: وهذا عندي حديث منكر، ثم قال الترمذي: وهذا غريب من حديث أنس لا نعرفه إلا من هذا الوجه، قال الترمذي: وقد روي عن عمرو بن أمية الضمري عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا. وقد ذكر الحافظ الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد ومنبع الفوائد في الجزء العاشر منه تحت عنوان - باب قيدها وتوكل - الحديث الذي أشار إليه الترمذي فقال: عن عمرو بن أمية أنه قال: «يا رسول الله أرسل راحلتي وأتوكل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل قيدها وتوكل» رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما عمرو بن عبد الله بن أمية الضمري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. وذكر في الجزء العاشر أيضا تحت ترجمة - باب التوكل وقيدها وتوكل - ما يأتي:
عن عمرو بن أمية الضمري أنه قال: «يا رسول الله أرسل راحلتي وأتوكل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل قيدها وتوكل» . رواه الطبراني من طرق، ورجال أحدها رجال الصحيح غير يعقوب بن عبد الله بن عمرو بن أمية وهو ثقة.
وذكر السيوطي في حرف الهمزة من كتاب الجامع الصغير - الحديث رواه الترمذي ورمز له بعلامة الضعف.
وخلاصة القول أن في الحديث مقالا ولكن معناه صحيح لأنه قد ثبت في الكتاب والسنة الصحيحة الحث على الأخذ - بالأسباب مع التوكل على الله، فمن أخذ بالأسباب واعتمدها فقط وألغى التوكل على الله فهو مشرك، ومن توكل على الله وألغى الأسباب فهو جاهل مفرط مخطئ والمطلوب شرعا هو الجمع بينهما.
__________
(1) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2517) .(30/92)
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس
عبد الله بن منيع ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي(30/93)
من الفتوى رقم 3571
السؤال: إن لقبي عبد القوي فما حكمه في الإسلام وهل يجوز القول توكلت على الله ثم عليك أو كذلك أرجو منك يا أخي؟
الجواب: يجوز أن يقول الشخص: توكلت على الله ثم عليك فإن التوكل على الله هو تفويض الأمر إليه والاعتماد عليه فهو جل وعلا المتصرف في هذا الكون والتوكل على العبد بعد التوكل على الله جل وعلا تفويض العبد فيما يقدر عليه فالله له مشيئة والعبد له مشيئة ومشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (1) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (2) وقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} (3) {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (4) وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصل ذلك فروى النسائي وصححه عن قتيلة «أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت وتقولون: والكعبة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت (5) » وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا: ما شاء الله ثم ما شاء فلان (6) » أما التلقيب بعبد القوي وهكذا التسمي بهذا الاسم فلا بأس لأن القوي من أسماء الله عز وجل.
__________
(1) سورة التكوير الآية 28
(2) سورة التكوير الآية 29
(3) سورة الإنسان الآية 29
(4) سورة الإنسان الآية 30
(5) النسائي في المجتبى 7 \ 6 الإمام أحمد 6 \ 371و372
(6) الإمام أحمد 5 \ 384 و394 و398 و1 \ 214 و224 و 283 و 5 \ 72 والبخاري في الأدب المفرد رقم 783 وأبو داود برقم 4980(30/93)
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/94)
من الفتوى رقم 7804
السؤال: أحيانا أتخوف من المرض فما الواجب علي عمله؟
الجواب: ثق بالله وتوكل عليه واسأله العفو والعافية في الدنيا والآخرة وتزود من الأعمال الصالحة لآخرتك واجتنب أسباب الأمراض واتصل بالدكاترة في المستشفيات العامة أو العيادات الخاصة وسلهم عما بدا لك في ذلك والله المستعان وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/94)
من الفتوى رقم 9580
السؤال: أريد شرحا وافيا لهذا الحديث حتى نفهمه الفهم الصحيح «لو تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا؟ (1) »
الجواب: الحديث عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا) (2) » رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال الترمذي: حسن صحيح.
__________
(1) الإمام أحمد 1 \ 30 والترمذي برقم 2344 وابن ماجه برقم4064 والحاكم 4 \ 318 وابن حبان كما في موارد الظمآن برقم 2048
(2) الإمام أحمد 1 \ 30 والترمذي برقم 2344 وابن ماجه برقم4064 والحاكم 4 \ 318 وابن حبان كما في موارد الظمآن برقم 2048(30/94)
حقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ورفع المضار من أمور الدنيا والآخرة. ومعنى الحديث أن الناس لو حققوا التوكل على الله بقلوبهم واعتمدوا عليه اعتمادا كليا في جلب ما ينفعهم ودفع ما يضرهم وأخذوا بالأسباب المفيدة لساق إليهم أرزاقهم مع أدنى سبب كما يسوق إلى الطير أرزاقها بمجرد الغدو والرواح وهو نوع من الطلب ولكنه سعي يسير وتحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدرات بها وجرت سننه في خلقه بذلك فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة والتوكل بالقلب عليه إيمان به قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (1) فجعل التوكل مع التقوى التي هي القيام بالأسباب المأمور بها والتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض وإن كان مشوبا بنوع من التوكل فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزا ولا عجزه توكلا. بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة التوبة الآية 51(30/95)
فتوى رقم 4440
السؤال:1 - مسألة (سب الدين) هل يحكم بكفر فاعله على الفور وهل يفرق بين الدين كدين وهل هذا الفرق موجود أصلا وكون النساء والأطفال يسبون الدين؟
2 - مسألة العذر بالجهل في الاستهزاء باللحية أو النقاب أو القميص أو المسلمين ومسألة سب الدين هل فيهما عذر بالجهل أم لا؟
3 - مسألة (العذر بالجهل) في مواضيع عبادة القبور أو عبادة الطاغوت هل يعذر صاحبها بالجهل؟ فالرجاء إفادتنا بما من الله عليكم من العلم في هذه المسائل وكذا مسألة محاربة النشاط الديني هل يعذر موظفوها بالجهل أم لا؟(30/95)
4 - مسألة (إقامة الحجة على المسلم الذي يذبح لغير الله أو يدعو غير الله أو يعاون الطاغوت هل يقوم بها مسلم عادي عنده علم بهذه المسائل وهل هناك شروط أخرى لإقامة الحجة؟
الجواب: 1 - الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن أمر مطلوب شرعا قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1) .
2 - ينبغي أن يكون الداعي إلى الله عالما بما يأمر به وبما ينهى عنه فقد يكون عنده حرص على الخير ورغبة ومحبة لنفع الناس ولكن يكون عنده جهل فيحرم الحلال ويحلل الحرام ويظن أنه على هدى.
3 - سب الدين والاستهزاء بشيء من القرآن والسنة والاستهزاء بالمتمسك بهما نظرا لما تمسك به كإعفاء اللحية وتحجب المسلمة هذا كفر إذا صدر من مكلف وينبغي أن يبين له أن هذا كفر فإن أصر بعد العلم فهو كافر قال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (2) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (3) .
4 - عبادة القبور وعبادة الطاغوت شرك بالله فالمكلف الذي يصدر منه ذلك يبين له الحكم فإن قبل وإلا فهو مشرك إذا مات على شركه فهو مخلد في النار ولا يكون معذورا بعد بيان الحكم له وهكذا من يذبح لغير الله.
5 - تغيير المنكر يكون من كل شخص بحسبه ولهذا رتب الرسول صلى الله عليه وسلم تغيير المنكر ثلاث درجات فقال صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (4) » فالذين يستطيعون التغيير باليد هم الحكام ونوابهم والعلماء ينكرون باللسان ومن دونهم ينكرون بالقلب وقد يتمكن بعضهم من
__________
(1) سورة النحل الآية 125
(2) سورة التوبة الآية 65
(3) سورة التوبة الآية 66
(4) مسلم 2 \ 21 (النووي) وأبو داود برقم 1140 و4340 والترمذي 2173 والنسائي في المجتبى 8111 وابن ماجه برقم 4013(30/96)
التغيير باللسان وقد قال الله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (1) فالعبد لا ينبغي أن يكلف نفسه بما لم يكلفه الله به ومما ينبغي التنبيه له هو أن من أراد تغيير منكر بأي درجة فلا بد من النظر فيما يترتب على تغيير المنكر من حصول المصالح والمفاسد وما يترتب على تركه من المصالح والمفاسد فما ترجحت مصلحته في التغيير أو تركه أخذ به وما ترجحت مفسدته في التغيير أو تركه أخذ به وإذا تعارضت المصالح في التغيير والترك جاز تفويت أدناها لحصول أعلاها، وإذا تعارضت المفاسد في التغيير والترك جاز ارتكاب أخفها ليدفع أشدها وهكذا وإذا تساوت المصالح والمفاسد فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 286(30/97)
من الفتوى رقم 189
السؤال: ما حكم السجود على المقابر والذبح عليها؟
الجواب: السجود على المقابر والذبح وثنية جاهلية وشرك أكبر فإن كلاهما عبادة والعبادة لا تكون إلا لله وحده فمن صرفها لغير الله فهو مشرك قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) {لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) آية 162 و163 من سورة الأنعام وقال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} (3) {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (4) إلى غير هذا من الآيات الدالة على أن السجود والذبح عبادة وأن صرفها لغير الله شرك أكبر. ولاشك أن قصد الإنسان إلى المقابر للسجود عليها أو الذبح عندها إنما هو لإعظامها وإجلالها بالسجود وبالقرابين
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162
(2) سورة الأنعام الآية 163
(3) سورة الكوثر الآية 1
(4) سورة الكوثر الآية 2(30/97)
التي تذبح أو تنحر عندها، وروى مسلم في حديث طويل في باب تحريم الذبح لغير الله تعالى ولعن فاعله - عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات لعن الله من ذبح لغير الله لعن الله من لعن والديه لعن الله من آوى محدثا لعن الله من غير منار الأرض (1) » وروى أبو داود في سننه من طريق ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه قال: «نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانه فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. فقال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه ابن آدم (2) » فدل ما ذكر على لعن من ذبح لغير الله وعلى تحريم الذبح في مكان يعظم فيه غير الله من وثن أو قبر أو مكان فيه اجتماع لأهل الجاهلية اعتادوه وإن قصد بذلك وجه الله.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة
عبد الله بن سليمان بن منيع ... عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي
__________
(1) مسلم 13 \ 140 والنسائي 7 \ 232 والحاكم 4 \ 356
(2) سنن أبو داود الأيمان والنذور (3313) .(30/98)
من الفتوى رقم 4259
السؤال: هل يجوز إقامة المساجد على قبور أولياء الله الصالحين وهل يجوز الصلاة في هذه المساجد مع وجود مساجد أخرى في نفس البلد خالية من القبور؟
الجواب: لا يجوز بناء المساجد على قبور أولياء الله الصالحين ولا تجوز الصلاة في هذه المساجد لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » متفق على صحته ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (2) » خرجه
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(30/98)
مسلم في صحيحه وخرج مسلم أيضا عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه (1) » .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) الإمام أحمد 3 \ 295و332و399 ومسلم 7 \ 37 والترمذي برقم 1052 والنسائي 4 \ 86 وابن ماجه برقم 1562(30/99)
من الفتوى رقم 4335
السؤال: هل يجوز للإنسان أن يصلي في مسجد به قبر وهل يجب تقبيل أعتاب مدخل الحسين والسيدة زينب وتقبيل المقصورة والتوسل لهم بطلب المدد والعون منهم؟ وهل يجوز الرحيل من مكان لمكان آخر لإحياء مولد من الموالد؟
الجواب: أولا: إذا كان المسجد مبنيا على القبر فلا تجوز الصلاة فيه وكذلك دفن أحد في المسجد بعد بنائه ويجب نقل المقبور فيه إلى المقابر العامة إذا أمكن ذلك لعموم الأحاديث الدالة على تحريم الصلاة في المساجد التي فيها قبور.
ثانيا: يحرم تقبيل أعتاب مدخل الحسين والسيدة زينب وغيرهما والمقصورة لما فيه من الخضوع لغير الله وتعظيم الجمادات والأموات تعظيما لم يشرعه الله ولأن ذلك من وسائل الشرك بأصحاب القبور وهكذا التوسل بذاتهم أو حقهم وجاههم.
أما طلب المدد والعون منهم فهو شرك أكبر لقول الله سبحانه {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (1) وقوله عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (2) {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (3) .
__________
(1) سورة المؤمنون الآية 117
(2) سورة فاطر الآية 13
(3) سورة فاطر الآية 14(30/99)
ثالثا: لا يجوز إقامة حفل لمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره من الناس ولا شد الرحل لحضوره وسبق أن كتب سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كتابة ضافية في الموضوع لأنه بدعة لم يفعلها رسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم ولا غيرهم من العلماء في القرون المفضلة والخير كله في اتباعهم.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/100)
من الفتوى رقم 7353
السؤال: ما بال قوم يسبون بالدين ما حكمهم في الإسلام؟ وإن كانوا الدرجة الأولى من القرابة (الأب - الأخ) مثلا وما حكم الإسلام في الأضرحة الموجودة هي (ضريح إبراهيم الدسوقي - السيد البدوي - الحسين وما شبه ذلك) ؟ وما حكم المساجد التي توجد فيها هذه القبور وهل ينطبق عليها حديث الرسول عليه الصلاة والسلام فيما معناه «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) » ؟
الجواب: أولا: سب دين الإسلام ردة عظيمة عن الإسلام إذا كان الساب ممن يدعي الإسلام وعلى من اطلع ذلك أن ينكر المنكر وينصح لمن حصل منه ذلك عسى أن يقبل النصيحة ويمسك عن المنكر ويتوب إلى الله سبحانه ويتأكد ذلك بالنسبة للقريب لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان (2) » .
ثانيا: لا يجوز بناء المساجد على القبور ولا دفن الأموات فيها ولا يجوز الصلاة في
__________
(1) صحيح البخاري الجنائز (1390) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531) ، سنن النسائي المساجد (703) ، مسند أحمد بن حنبل (6/121) ، سنن الدارمي الصلاة (1403) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (49) ، سنن الترمذي الفتن (2172) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5009) ، سنن أبو داود الصلاة (1140) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) ، مسند أحمد بن حنبل (3/54) .(30/100)
هذه المساجد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك (1) » خرجه مسلم في صحيحه. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (532) .(30/101)
من الفتوى رقم 9686
السؤال: هل يجوز تكفير من يصلي في الضريح من أجل التبرك بذلك الولي إن كان وليا؟
الجواب: يحرم الصلاة في مكان به قبر فإن قصد بصلاته التقرب لذلك الولي فهذا شرك أكبر قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة الأنعام الآية 162(30/101)
من الفتوى رقم 10422
السؤال: توجد وسط مدينتنا مقبرة قديمة أزالت البلدية أنقاضها وأقامت مكانها حيا سكنيا ومباني لذوي الدخل المحدود وبقيت منها مساحة كبيرة أقام عليها أهل البر والإحسان مسجدا ليصلي فيه سكان الحي. وبعد بناء المسجد وقع خلاف بين أهل البلد حول جواز الصلاة في هذا المسجد أو عدم جوازها وانقسموا بين مؤيد ومعارض.(30/101)
ما حكم هذا المسجد وهل يجب هدمه أم الإبقاء عليه؟ هل الصلاة في هذا المسجد صحيحة أم لا؟
الجواب: الأرض التي بني عليها مسجد إذا كانت خالية من القبور صحت الصلاة فيها وإلا فيجب هدم المسجد الذي بني عليها. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/102)
من الفتوى رقم 11086
السؤال: إن مسجدنا ببلدة بايانج بمنطقة لاناودل سور قد تم إنشاؤه بعد زلزال مدمر ضرب المنطقة عام 1955 م حيث تحطمت جدرانه وأساساته - وقد قرر المسؤلون وزعماء البلدة تعميره واتفقوا على تسوية الأرض الواقعة على الجانب الشرقي من المسجد المذكور علما بأن هذه المساحة من الأرض كانت تستخدم في السابق مقبرة لدفن الموتى وعند تسوية هذه الأرض بواسطة الآليات الحديثة (البلدوزرات) فقد تم العثور على عدد كبير من عظام رفات الأموات حيث تمت إعادة دفنها ونقل بعض منها إلى الجزء الغربي من المسجد ولكن بداخل سور نفس المسجد الحالي.
1 - فهل من الجائز إقامة صلاة الجمعة والجماعة بداخل هذا المسجد؟
2 - إذا كان الجواب بالنفي، فهل من الممكن معالجة الأمر بإقامة حاجز أو حائط فاصل داخل الجانب الغربي لهذا المسجد حيث تم نقل عظام رفات الموتى كما هو الحال في المسجد النبوي بالمدينة المنورة بالسعودية؟
3 - وإذا كانت الإجابة على السؤال الأخير بالنفي فهل من الممكن معالجة هذا الأمر بإقامة طابق ثان لأداء الصلوات المفروضة مع ترك الطابق الأرضي مفتوحا للأغراض الأخرى غير الصلوات؟
4 - هل بالإمكان الاستمرار في أداء الصلوات اليومية المفروضة داخل هذا المسجد(30/102)
بينما يستمر البحث للحصول على موقع آخر مناسب لإقامة مسجد جديد؟
الجواب: إذا كان المسجد الحالي لم يعمر على أرض فيها قبور فالواجب نبش القبور التي وضعت في جهته الغربية ونقل رفاتها إلى أرض المقابر إن كانت من المسلمين فتنقل إلى قبور المسلمين وإن كانت قبور كفار نقلت إلى مقابر الكفار على أن يوضع رفات كل مسلم في حفرة واحدة يسوى ظاهرها كبقية القبور حتى لا يمتهن فإن تعذر نقل الرفات من غربي المسجد فلا مانع من فصلها بجدار يقصلها عن بقية المسجد أما إن كانت أصل أرض المسجد فيها قبور فالواجب التماس أرض أخرى سليمة يقام عليها المسجد وتبقى أرض المسجد الأولى مقبرة كأصلها وأما المسجد النبوي فلم يبن على قبور بل كانت القبور الثلاثة خارج المسجد وهي قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما أبي بكر وعمر وكانت هذه القبور في رضي الله عنها فلما وسع الوليد بن عبد الملك المسجد أدخل الحجرة في المسجد وفصلت عنه بالجدار المحيط بها من جميع الجهات.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/103)
فتوى رقم 10913
السؤال: في بلدنا مسجد جامع هناك نصلي صلاة الجمعة ولكن فيه قبور أو أمامه قبور وفعلا أن رسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وهناك حديث كما تعرفون يحذر وينهى عن ودع الجمعات وعلى هذا الحال ماذا أفعل؟ هل أترك الجمعة بسبب هذه القبور أو أصلي على هذه القبور؟ ومع هذا لا يوجد مسجد جامع في بلدنا غير ذلك؟
الجواب: لا يجوز لك أن تصلي الجمعة في المسجد الذي فيه قبور بل عليك أن تجتهد في الحصول على مسجد تقام فيه الجمعة فتصلي فيه. وعليك أن تجتهد في نقل القبور إلى المقبرة العامة فإن لم يمكن فعليك التماس من يساهم من المحسنين في شراء أرض تكون(30/103)
مسجدا ويبنى عليها مسجد تقام فيه الجمعة.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/104)
من الفتوى رقم 2909
السؤال: يقوم بعض المحسنين ببناء مساجد على نفقتهم الخاصة ويخصصون في جانب من ساحات المسجد أو من أمامه مكانا ليدفن فيه المحسن أو بعض أفراد عائلته ظنا منهم أن ذلك من وسائل القربى إلى الله ويستفتون بعض العلماء فيجيزون لهم الدفن حول المسجد أو من أمامه شريطة أن يكون هناك سور حائل بين المسجد والمقبرة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
الجواب: لا يجوز تخصيص موضع من المسجد لدفن من بنى المسجد وغيره لورود الأدلة الدالة على أنه لا يجوز بناء المساجد على القبور والأصل في ذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها «أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله (1) » وما رواه أهل السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج (2) » إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) صحيح البخاري الصلاة (434) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (528) ، سنن النسائي المساجد (704) ، مسند أحمد بن حنبل (6/51) .
(2) سنن الترمذي الصلاة (320) ، سنن النسائي الجنائز (2043) ، سنن أبو داود الجنائز (3236) ، سنن ابن ماجه ما جاء في الجنائز (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (1/337) .(30/104)
فتوى رقم 6154
السؤال: إنني أتحدث إلى أبي وأمي وبعض الناس المحيطين بي عن بعض البدع كأمثال الصلاة في المساجد التي بها قبور أو دعاء الأموات وما كان من هذا القبيل ولكن معظم هؤلاء يقولون لي: إن العلماء يصلون في هذه المساجد ويرون الناس ولا يتحدثون فهل تفهم أنت أكثر منهم؟ ولا فائدة معهم بأي شكل وإن استطعت يقولون: إنا وجدنا آباءنا على هذا فهل أنت الذي سوف يصلح الكون؟ ويعدون أن العلماء الكبار الذي يصلون في الحسين والسيدة زينب رضي الله عنهم وأرضاهم فأقول لهم: إن هؤلاء ليسوا بمصر وإن كانوا بمصر فلا يصح دعاؤهم دون الله عز وجل أو النذر لهم ولكن هيهات كأنني أتحدث إلى أحجار، ويقولون لي: يا كافر وأشياء كثيرة ولا أدري ماذا أفعل مع أبي وأمي وأنت تعلم حقهم؟ وفي كل مرة تنهرني أمي فأقول لها: إن السيد البدوي وأمثاله ناس لا يملكون شيئا من ملك الله عز وجل ولكن هيهات تقول لي: إنهم أهل الله وأشياء لا أستطيع قولها لكم من الشرك الأكبر فماذا أفعل أكرمكم الله أفيدوني أفادكم الله.
الجواب: أولا: لا يجوز بناء المساجد على القبور ولا تجوز الصلاة في المساجد التي بنيت على قبر أو قبور، ولا يجوز أن يدعو الإنسان الأموات لجلب منفعة أو دفع مضرة بل دعاؤهم والاستغاثة بهم شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام والعياذ بالله.
ثانيا: ليست الحجة في عمل العلماء وأقوالهم لأنهم يخطئون ويصيبون وكثير منهم مبتدع وإنما الحجة في كلام الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة.
ثالثا: عليك أن تستمر في دعوة والديك ومن حولكم إلى الحق وأن تثبت عليه وأن تصبر على الأذى فيه عسى أن يهدي على يديك إلى الحق والصواب الكثير ويكونوا عونا لك بعد أن كانوا أعداء مناوئين يسخرون منك ويحقرونك وترفق بالولدين وصاحبهما في الدنيا معروفا لقوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} (1) {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (2) .
__________
(1) سورة لقمان الآية 14
(2) سورة لقمان الآية 15(30/105)
نسأل الله لك التوفيق والثبات على الحق وأن يهدي الله بك والديك وغيرهما إنه على كل شيء قدير. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب رئيس اللجنة ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/106)
فتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
حكم الدعاء ببركة الصالحين وحكم الحجب والمحو
السؤال: إمام المسجد الذي نصلى فيه يقول: إنه يجوز للإنسان أن يسأل الله ببركة فلان أحد الصالحين مثلا اغفر لي يا رب ببركة فلان. وسؤالي أليس هذا نوعا من الشرك، كما أن هذا الإمام يكتب الحجب ويعطي المحو للناس كعلاج فهل نصلي خلفه وهل كلامه وفعله جائز أفيدوني أفادكم الله؟
الجواب: التوسل بجاه فلان أو ببركة فلان أو بحق فلان بدعة وليست من الشرك، فإذا قال: اللهم إني أسألك بجاه أنبيائك أو بجاه وليك فلان أو بعبدك فلان أو بحق فلان أو ببركة فلان فذلك لا يجوز وهو من البدع ومن وسائل الشرك؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة فيكون بدعة والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1) .
ولم يقل ببركة فلان أو جاه فلان، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (2) » فالتوسل يكون بأسماء الله وبصفاته وبتوحيده كما جاء في الحديث الصحيح «اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد (3) » ويكون أيضا بالأعمال الصالحة كسؤال أهل الغار لما انطبقت عليهم الصخرة ولم يستطيعوا الخروج، سألوا
__________
(1) سورة الأعراف الآية 180
(2) متفق عليه
(3) رواه أبو داود وابن ماجه(30/107)
ربهم، أحدهم سأل ببر الوالدين والثاني سأل بعفته عن الزنا والثالث سأل بأدائه الأمانة، ففرج الله عنهم فدل ذلك على أن التوسل بالأعمال الصالحة كأن يقول: اللهم إني أسألك بمحبتي لنبيك صلى الله عليه وسلم، أو باتباعي شرعك، أو بعفتي عما حرمت علي أو نحو ذلك، توسل شرعي وصحيح.
أما ما يتعلق بعمله الآخر من كتابته الحجب فهذا لا يجوز لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (1) » وقال صلى الله عليه وسلم: «من تعلق تميمة فقد أشرك (2) » والحجب وهي التمائم فلا يجوز كتب التمائم ولا تعليقها، والذي يعلقها ينكر عليه والذي يكتبها للناس ينكر عليه حتى ولو كانت من القرآن. كان عبد الله بن مسعود وجماعة غيره من السلف الصالح ينكرون ذلك سواء كانت من القرآن أو غيره، للأحاديث العامة السابقة في ذلك ولقوله صلى الله عليه وسلم «إن الرقى والتمائم والتولة شرك (3) » والمراد بالرقى الممنوعة: الرقى المجهولة، أو الرقى التي فيها شرك، أما التي تجوز فالرقى الشرعية فقط لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا (4) » ولأنه صلى الله عليه وسلم رقى ورقي.
أما التولة فهي نوع من السحر وتسمى الصرف والعطف وهي ممنوعة، والتمائم كذلك ممنوعة وهي الحجب وتسمى الجوامع الحروز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم زجر عنها، ولم يستثن منها شيئا وسماها شركا. ودعا على من تعلقها ولأن القول بجواز ما كان من القرآن أو الأدعية المباحة والأذكار الشرعية استثناء بغير حجة، ووسيلة إلى تعليق التمائم الأخرى الشركية، ومعلوم أن الأخذ بالعموم متعين ما لم يرد ما يخصصه، كما أن من المعلوم من الشريعة المطهرة وجوب سد الذرائع المفضية إلى الشرك أو إلى ما
__________
(1) فتح المجيد - رواه الإمام أحمد - وأبو يعلى
(2) رواه أحمد والحاكم بنحوه ورواته ثقات
(3) رواه أحمد - وأبوداود (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد)
(4) رواه مسلم من حديث عوف بن مالك فتح المجيد(30/108)
دونه من المعاصي ولأنها إذا علقت صارت وسيلة إلى تعلق القلوب بها والاعتماد عليها ونسيان الله سبحانه وتعالى فمن حكمة الله في هذا أنه سبحانه وتعالى نهى عنها حتى تكون القلوب معلقة به سبحانه لا بغيره، وتعليق القرآن وسيلة لتعليق غيره فلهذا وجب منع الجميع وأن لا يعلق شيء لا على المريض ولا على الصبي لا من القرآن ولا من غيره، بل يعلم الدعاء الشرعي كالتعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وقراءة آية الكرسي، وقراءة سورة الإخلاص والمعوذتين عند النوم وبعد الصلوات الخمس فهذا الإمام ينكر عليه ويعلم أن هذا لا يجوز فإن استقام وإلا وجب السعي في عزله.
أما المحو: فهو أن يكتب آيات بالزعفران في صحن نظيف أو في قرطاس ثم تغسل ويشربها المريض، وهذا فعله كثير من السلف والخلف ولا حرج فيه إذا كان القائم بذلك من المعروفين بالعلم والفضل وحسن العقيدة.(30/109)
من أفطر أياما بدون عذر في رمضان سابق
السؤال: أنا مسلم والحمد لله ولكني في سابق عمري لم أكن أصوم كل رمضان أي أفطر أياما من دون عذر وأنا الآن نادم وتائب مع العلم أنني لا أعرف عدد الأيام التي أفطرتها فماذا يلزمني الآن؟
الجواب: يلزمك أن تقضي الأيام التي أفطرتها حسب ظنك واجتهادك مع التوبة إلى الله سبحانه والندم على ما حصل منك والعزيمة على ألا تعود في ذلك.
وعليك مع ذلك إطعام مسكين عن كل يوم بعدد الأيام التي تظن أنك تركتها وذلك نصف صاع عن كل يوم وهو كيلو ونصف تقريبا تعطيه بعض الفقراء.
نسأل الله أن يمن عليك بالتوبة النصوح وأن يعفو عنا وعنك.(30/109)
لا بأس في التماس الإمام الذي يطمئن قلبك إلى قراءته
السؤال: هناك ظاهرة منتشرة بين بعض الناس وهي أنه في صلاة التراويح ينتقلون إلى مساجد بعيدة عن بيوتهم وذلك طلبا للأئمة أصحاب الأصوات الحسنة. وقال لنا بعض الناس إنكم تكرهون ذلك فهل هذا صحيح؟(30/109)
الجواب: لا نعلم في ذلك بأسا إذا كان المقصود التماس من يطمئن القلب إلى قراءته ويحصل بها الخشوع.(30/110)
من عجز عن الصيام دائما وجب عليه الإطعام
السؤال: أنا رجل طاعن في السن وأبلغ من العمر سبعين عاما وعلي ستة وعشرون يوما أفطرتها في رمضان سابق مضت عليه سنوات عديدة وذلك بسبب مرض يتعهدني في معظم أيام حياتي سؤالي: هل أقضي هذه الأيام وأفدي رغم كبر سني أم أفدي فقط بدلا من قضاء هذه الأيام؟ وما مقدار الصاع بالكيلو؟
الجواب: إذا كنت ترجو العافية فعليك القضاء لقول الله سبحانه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) أما إن كنت أخرت القضاء تساهلا منك مع وجود أوقات تستطيع فيها القضاء فإنه يلزمك القضاء وإطعام مسكين عن كل يوم مع التوبة إلى الله سبحانه من التأخير والواجب في ذلك نصف صاع عن كل يوم أخرت قضاءه إلى رمضان آخر من غير عذر ومقدار كيلو ونصف تقريبا يدفع الطعام للفقراء والمساكين ويجوز دفعه كله إلى مسكين واحد ومتى عجزت عن القضاء بسبب كبر السن أو مرض لا يرجى برؤه حسب تقرير الطبيب المختص الثقة سقط عنك القضاء ووجب عليك الإطعام وهو نصف صاع عن كل يوم من قوت البلد من تمر أو أرز. وفقنا الله وإياك لما يرضيه.
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(30/110)
صلاة المرأة في بيتها مع الإمام الذي تسمع صوته
السؤال: إذا كانت المرأة في بيتها فهل يجوز لها أن تصلي مع الإمام التراويح مع العلم أنها تسمع صوته ويفصل بين بيتها والمسجد شارع واحد؟
الجواب: إذا كانت لا ترى الإمام ولا المأمومين فالأحوط لها أن تصلي وحدها ولا تتابع الإمام.(30/110)
لا يجوز اعتماد الحساب في إثبات الأهلة
السؤال: في بعض بلاد المسلمين يعمد الناس إلى الصيام دون اعتماد على رؤية الهلال وإنما يكتفون بالتقاويم فما حكم ذلك؟
الجواب: قد «أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يصوموا لرؤية الهلال ويفطروا لرؤيته فإن غم عليهم أكملوا العدة ثلاثين (1) » متفق عليه وقال عليه الصلاة والسلام: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وخنس إبهامه في الثالثة. وقال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وأشار بأصابعه كلها (2) » يعني بذلك أن الشهر يكون تسعا وعشرين ويكون ثلاثين وثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين (3) » وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة (4) » والأحاديث في هذا الباب كثيرة وكلها تدل على وجوب العمل بالرؤية أو إكمال العدة عند عدم الرؤية كما تدل على أنه لا يجوز اعتماد الحساب في ذلك وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية إجماع أهل العلم على أنه لا يجوز الاعتماد على الحساب في إثبات الأهلة (انتهى) وهو الحق الذي ريب فيه. والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) .
(2) صحيح البخاري الصوم (1913) ، صحيح مسلم الصيام (1080) ، سنن النسائي الصيام (2141) ، سنن أبو داود الصوم (2319) ، مسند أحمد بن حنبل (2/43) ، موطأ مالك الصيام (634) .
(3) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، سنن ابن ماجه الصيام (1655) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(4) سنن النسائي الصيام (2127) ، سنن أبو داود الصوم (2326) ، مسند أحمد بن حنبل (4/314) .(30/111)
استعمال معجون الأسنان للصائم
السؤال: هل يجوز للصائم أن يستعمل معجون الأسنان وهو صائم في نهار رمضان؟
الجواب: لا حرج في ذلك مع التحفظ عن ابتلاع شيء منه، كما يشرع استعمال السواك للصائم في أول النهار وآخره، وذهب بعض أهل العلم إلى كراهة السواك بعد الزوال، وهو قول مرجوح، والصواب عدم الكراهة. لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب (1) » أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله عنها، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة (2) » متفق عليه وهذا يشمل صلاة الظهر والعصر وهما بعد الزوال والله ولي التوفيق.
__________
(1) سنن النسائي الطهارة (5) ، مسند أحمد بن حنبل (6/62) ، سنن الدارمي الطهارة (684) .
(2) صحيح البخاري الجمعة (887) ، صحيح مسلم الطهارة (252) ، سنن الترمذي الطهارة (22) ، سنن النسائي الطهارة (7) ، سنن أبو داود الطهارة (46) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (287) ، مسند أحمد بن حنبل (1/120) ، موطأ مالك الطهارة (147) ، سنن الدارمي الصلاة (1484) .(30/111)
لا بأس باستعمال ما يزيل رائحة الفم
السؤال: يوجد في الصيدليات معطر خاص للفم، وهو عبارة عن بخاخ، فهل يجوز استعماله خلال نهار رمضان لإزالة الرائحة من الفم؟
الجواب: لا نعلم بأسا في استعمال ما يزيل الرائحة الكريهة من الفم في حق الصائم وغيره إذا كان ذلك طاهرا مباحا؟(30/112)
الصيام في السفر
السؤال: نحن الآن في زمن توفرت فيه وسائل النقل المريحة من طائرات وسيارات وقطارات، والصائم بحمد الله يسافر المسافات الطويلة دون أن يحس بتعب، وخاصة إذا سافر بالطائرة. فما الأفضل له في هذه الحالة الصيام أم الفطر؟
الجواب: المسافر مخير بين الصوم والفطر، وظاهر الأدلة الشرعية أن الفطر أفضل، ولا سيما إذا شق عليه الصوم لقول النبي صلى الله علسه وسلم: «ليس من البر الصوم في السفر (1) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته (2) » ومن صام فلا حرج عليه إذا لم يشق عليه الصوم فإن شق عليه الصوم كره له ذلك والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1946) ، صحيح مسلم الصيام (1115) ، سنن النسائي الصيام (2258) ، سنن أبو داود الصوم (2407) ، مسند أحمد بن حنبل (3/329) ، سنن الدارمي الصوم (1709) .
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/108) .(30/112)
قضاء صيام من أصيب بمرض مزمن ثم شفي
السؤال: شخص أصابه مرض مزمن ونصحه الأطباء بعدم الصيام دائما، ولكنه راجع أطباء في غير بلده وشفي بإذن الله أي بعد خمس سنوات. وقد مر عليه خمسة رمضانات وهو لم يصمها فماذا يفعل بعد أن شفاه الله؟ هل يقضيها أم لا؟
الجواب: إن كان الأطباء الذين نصحوه بعدم الصوم دائما أطباء من المسلمين الموثوقين العارفين بجنس هذا المرض فليس عليه القضاء ويكفيه الإطعام وعليه أن يستقبل الصيام مسقبلا.(30/112)
تقبيل الزوجة في نهار رمضان
السؤال: إذا قبل الرجل امرأته في نهار رمضان أو داعبها. هل يفسد صومه أم لا؟
الجواب: تقبيل الرجل امرأته ومداعبته لها ومباشرته لها بغير الجماع وهو صائم كل ذلك جائز ولا حرج فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم، لكن إن خشي الوقوع فيما حرم الله عليه لكونه سريع الشهوة كره له ذلك فإن أمنى لزمه الإمساك والقضاء ولا كفارة عليه عند جمهور أهل العلم. أما المذي فلا يفسد به الصوم في أصح قولي العلماء لأن الأصل السلامة وعدم بطلان الصوم، ولأنه يشق التحرز منه والله ولي التوفيق.(30/113)
إمامة النساء
السؤال: هل يجوز للنساء أن يتخذن لهن إمامة منهن تصلي بهن في رمضان وفي غيره؟
الجواب: نعم لا بأس بذلك وقد روي عن عائشة وأم سلمة وابن عباس رضي الله عنهم ما يدل على ذلك، وإمامة النساء تقف وسطهن وتجهر بالقراءة في الصلاة الجهرية. والله ولي التوفيق.(30/113)
من أفطر جاهلا قبل غروب الشمس
السؤال: إذا كان الجو غائما وأذن المؤذن وأفطر بعض الناس بناء على أذان المؤذن واتضح بعد الإفطار أن الشمس لم تغب فما حكم الصيام والحال ما ذكر؟
الجواب: على من وقع له ذلك أن يمسك حتى تغيب الشمس وعليه القضاء عند جمهور أهل العلم ولا إثم عليه إذا كان إفطاره عن اجتهاد وتحر لغروب الشمس كما لو أصبح مفطرا في يوم الثلاثين من شعبان ثم ثبت أنه من رمضان في أثناء النهار فإنه يمسك ويقضي عند جمهور أهل العلم ولا إثم عليه لأنه حين أكل أو شرب لم يعلم أنه من رمضان فالجهل بذلك أسقط عنه الإثم أما القضاء فعليه القضاء.(30/113)
من عاد إليها الدم وهي صائمة
السؤال: إذا طهرت النفساء خلال أسبوع ثم صامت مع المسلمين في رمضان أياما معدودة ثم عاد إليها الدم هل تفطر في هذه الحالة وهل يلزمها قضاء الأيام التي صامتها والتي أفطرتها؟
الجواب: إذا طهرت النفساء في الأربعين فصامت أياما ثم عاد إليها الدم في الأربعين فإن صومها صحيح وعليها أن تدع الصلاة والصيام في الأيام التي عاد فيها الدم - لأنه نفاس - حتى تطهر أو تكمل الأربعين ومتى أكملت الأربعين وجب عليها الغسل وإن لم تر الطهر لأن الأربعين هي نهاية النفاس في أصح قولي العلماء، وعليها بعد ذلك أن تتوضأ لوقت كل صلاة حتى ينقطع عنها الدم، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك المستحاضة، ولزوجها أن يستمتع بها بعد الأربعين وإن لم تر الطهر لأن الدم والحال ما ذكر دم فساد لا يمنع الصلاة ولا الصوم، ولا يمنع الزوج من استمتاعه بزوجته. لكن إن وافق الدم بعد الأربعين عادتها في الحيض فإنها تدع الصلاة والصوم وتعتبره حيضا والله ولي التوفيق.(30/114)
الإفطار في رمضان من أجل الامتحان لا يجوز
السؤال: إذا توافق الامتحان مع رمضان فهل يجوز للطالب أن يفطر في رمضان حتى يستطيع أن يركز علما أن عمر الطالب لا يجاوز السادسة عشر؟
الجواب: لا يجوز للمكلف الإفطار في رمضان من أجل الامتحان لأن ذلك ليس من الأعذار الشرعية بل يجب عليه الصوم وجعل المذاكرة في الليل إذا شق عليه فعلها في النهار وينبغي لولاة أمر الامتحان أن يرفقوا بالطلبة وأن يجعلوا الامتحان في غير رمضان جمعا بين مصلحتين مصلحة الصيام والتفرغ للإعداد للامتحان وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه (1) » أخرجه مسلم في صحيحه فوصيتي للمسؤولين عن الامتحان أن يرفقوا بالطلبة والطالبات وألا يجعلوه في رمضان بل قبله أو بعده ونسأل الله للجميع التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم الإمارة (1828) ، مسند أحمد بن حنبل (6/258) .(30/114)
قضاء الصيام عن الميت
السؤال: هل يجوز أن يصام عن الميت إذا كان لا يصوم أيام حياته في رمضان مع أنه أخرج كفارة قبل موته؟
الجواب: يشرع لأقاربه أن يصوموا عنه إذا كان مسلما يصلي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه (1) » متفق على صحته إلا أن يكون ترك الصيام لعجزه عنه بسبب الكبر أو مرض لا يرجى برؤه فلا صيام عليه ويجزئ الإطعام الذي أخرج في حياته إذا كان أخرجه عن جميع الأيام التي أفطرها.
أما إذا كان لا يصلي فلا يقضي عنه الصيام الذي عليه لأن من ترك الصلاة عمدا كفر كفرا أكبر في أصح قولي العلماء لقول النبي: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (2) » أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه ولقوله: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله (3) » رواه الإمام أحمد والترمذي بإسناد صحيح عن معاذ بن جبل رضي الله عنه ولقوله: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (4) » خرجه الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما والأحاديث في هذا الباب كثيرة ونسأل الله لجميع المسلمين التوفيق لما يرضيه والإعانة على أداء ما أوجب الله عليهم من الصلاة وغيرها على الوجه الذي يرضيه سبحانه إنه سميع قريب.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1952) ، صحيح مسلم الصيام (1147) ، سنن أبو داود الصوم (2400) ، مسند أحمد بن حنبل (6/69) .
(2) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(3) سنن الترمذي الإيمان (2616) ، سنن ابن ماجه الفتن (3973) ، مسند أحمد بن حنبل (5/246) .
(4) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(30/115)
الصوم مع الدولة التي تقيم فيها
السؤال: إذا ثبت دخول شهر رمضان في إحدى الدول الإسلامية كالمملكة العربية السعودية وأعلن ذلك ولكنه في الدولة التي أقيم بها لم يعلن عن دخول شهر رمضان فما الحكم هل نصوم بمجرد ثبوته في المملكة أم نفطر معهم ونصوم معهم متى ما أعلنوا دخول شهر رمضان وكذلك بالنسبة لدخول شهر شوال " أي يوم العيد " ما الحكم إذا اختلف الأمر في الدولتين وجزاكم الله عنا وعن المسلمين خير الجزاء؟
الجواب: على المسلم أن يصوم مع الدولة التي هو فيها ويفطر معها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون (1) » وبالله التوفيق.
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (697) ، سنن ابن ماجه الصيام (1660) .(30/115)
إذا تبين طلوع الفجر في رمضان بالأذان وغيره وجب الصيام
السؤال: ما الحكم الشرعي للصيام فيمن سمع أذان الفجر واستمر في الأكل والشرب؟
الجواب: الواجب على المؤمن أن يمسك عن المفطرات من الأكل والشرب وغيرهما إذا تبين له طلوع الفجر وكان الصوم فريضة كرمضان وكصوم النذر والكفارات لقول الله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (1) .
فإذا سمع الأذان وعلم أنه يؤذن على الفجر وجب عليه الإمساك فإن كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر لم يجب عليه الإمساك وجاز له الأكل والشرب حتى يتبين له الفجر. فإن كان لا يعلم حال المؤذن هل أذن قبل الفجر أو بعد الفجر فإن الأولى والأحوط له أن يمسك إذا سمع الأذان ولا يضره لو شرب أو أكل شيئا حين الأذان لأنه لم يعلم بطلوع الفجر.
ومعلوم أن من كان داخل المدن التي فيها الأنوار الكهربائية لا يستطيع أن يعلم طلوع الفجر بعينه وقت طلوع الفجر ولكن عليه أن يحتاط بالعمل بالأذان والتقويمات التي تحدد طلوع الفجر بالساعة والدقيقة عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك (2) » وقوله صلى الله عليه وسلم: «من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه (3) » والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة البقرة الآية 187
(2) سنن الترمذي صفة القيامة والرقائق والورع (2518) ، سنن النسائي الأشربة (5711) ، مسند أحمد بن حنبل (1/200) ، سنن الدارمي البيوع (2532) .
(3) صحيح البخاري الإيمان (52) ، صحيح مسلم المساقاة (1599) ، سنن الترمذي البيوع (1205) ، سنن النسائي البيوع (4453) ، سنن أبو داود البيوع (3329) ، سنن ابن ماجه الفتن (3984) ، مسند أحمد بن حنبل (4/270) ، سنن الدارمي البيوع (2531) .(30/116)
من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر
السؤال: ما حكم من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر فكيف يعمل؟
الجواب: من لم يعلم بدخول شهر رمضان إلا بعد طلوع الفجر فعليه أن يمسك عن المفطرات بقية يومه لكونه يوما من رمضان لا يجوز للمقيم الصحيح أن يتناول فيه(30/116)
شيئا من المفطرات وعليه القضاء لكونه لم يبيت الصيام قبل الفجر وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام (1) » ونقله الموفق ابن قدامة رحمه الله في المغني وهو قول عامة الفقهاء والمراد بذلك صيام الفرض لما ذكرنا من الحديث الشريف أما صيام النفل فيجوز أثناء النهار إذا لم يتناول شيئا من المفطرات؛ لأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك.
ونسأل الله أن يوفق المسلمين لما يرضيه وأن يتقبل منهم صيامهم وقيامهم إنه سميع قريب وصلى الله على نبينا محمد آله وصحبه وسلم.
__________
(1) سنن الترمذي الصوم (730) ، سنن النسائي الصيام (2331) ، سنن أبو داود الصوم (2454) ، سنن ابن ماجه الصيام (1700) ، مسند أحمد بن حنبل (6/287) ، موطأ مالك الصيام (637) ، سنن الدارمي الصوم (1698) .(30/117)
من رؤي يشرب أو يأكل في نهار رمضان وجب الإنكار عليه
السؤال: يقول بعض الناس إذا رأيت مسلما يشرب أو يأكل ناسيا في نهار رمضان فلا يلزمك أن تخبره لأن الله أطعمه وسقاه كما في الحديث فهل هذا صحيح؟
الجواب: من رأى مسلما يشرب في نهار رمضان أو يأكل أو يتعاطى شيئا من المفطرات الأخرى وجب إنكاره عليه لأن إظهار ذلك في نهار الصوم منكر ولو كان صاحبه معذورا في نفس الأمر حتى لا يجترئ الناس على إظهار ما حرم الله من المفطرات في نهار الصيام بدعوى النسيان وإذا كان من أظهر ذلك صادقا في دعوى النسيان فلا قضاء عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه (1) » متفق على صحته وهكذا المسافر ليس له أن يظهر تعاطي المفطرات بين المقيمين الذين لا يعرفون حاله بل عليه أن يستتر بذلك حتى لا يتهم بتعاطيه ما حرم الله عليه وحتى لا يجرؤ غيره على ذلك وهكذا الكفار يمنعون من إظهار الأكل والشرب ونحوهما بين المسلمين وسد باب التساهل في هذا الأمر ولأنهم ممنوعون من إظهار شعائر دينهم الباطل بين المسلمين. والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1933) ، صحيح مسلم الصيام (1155) ، سنن الترمذي الصوم (721) ، سنن أبو داود الصوم (2398) ، سنن ابن ماجه الصيام (1673) ، مسند أحمد بن حنبل (2/425) ، سنن الدارمي الصوم (1726) .(30/117)
من رأى منكرا وجب عليه الإنكار
السؤال: إنني فتاة أسكن في السكن الداخلي مع الطالبات وقد هداني الله إلى الحق وأصبحت متمسكة به ولله الحمد، لكنني متضايقة جدا مما أرى حولي من المعاصي(30/117)
والمنكرات خاصة من بعض زميلاتي الطالبات كسماع الأغاني والغيبة والنميمة وقد نصحتهن كثيرا ولكن بعضهن يهزأ بي ويسخر مني ويقولون: إنني معقدة. سماحة الشيخ أرجو إفادتي ماذا أعمل جزاكم الله خيرا؟
الجواب: الواجب عليك إنكار المنكر حسب الطاقة بالكلام الطيب والرفق وحسن الأسلوب مع ذكر الآيات والأحاديث الواردة في ذلك حسب علمك، ولا تشاركيهن في الأغاني ولا في الغيبة ولا في غيرها من الأقوال والأفعال المحرمة واعتزليهن حسب الإمكان حتى يخوضوا في حديث آخر لقول الله سبحانه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (1) .
ومتى أنكرت بلسانك حسب الطاقة واعتزلت عملهن لم يضرك فعلهن ولا عيبهن لك كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُُونَ} (2) فأبان سبحانه أن المؤمن لا يضره من ضل إذا لزم الحق واستقام على الهدى وذلك بإنكار المنكر والثبات على الحق وحسن الدعوة إليه وسيجعل الله لك فرجا ومخرجا وسينفعهن الله بإرشادك إذا صبرت واحتسبت إن شاء الله وأبشري بالخير العظيم والعاقبة الحميدة ما دمت ثابتة على الحق منكرة لما خالفه كما قال الله سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (3) وقال عز وجل: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (4) وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (5) .
وفقك الله لما يرضيه ومنحك الصبر والثبات ووفق أخواتك وأهلك وزميلاتك لما يحبه ويرضاه إنه سميع قريب وهو الهادي إلى سواء السبيل.
__________
(1) سورة الأنعام الآية 68
(2) سورة المائدة الآية 105
(3) سورة القصص الآية 83
(4) سورة هود الآية 49
(5) سورة العنكبوت الآية 69(30/118)
المال المتبرع به لعمل الخير ليس فيه زكاة؟
السؤال: لدي مبلغ من المال من أهل الخير لبناء مسجد وبقي عندي أكثر من سنة فهل عليه زكاة أم لا؟
الجواب: ليس عليه زكاة مطلقا لأن أهله قد أنفقوه في سبيل الله وعليك المبادرة بالتنفيذ.(30/119)
إذا أرضعت المرأة طفلا رضاعا شرعيا صار ولدها
السؤال: هناك امرأتان الأولى عندها ولد والثانية عندها بنت والحاصل أنهم تراضعوا فمن من إخوان المتراضعين يحل للثاني؟
الجواب إذا أرضعت امرأة طفلا خمس رضعات معلومات في الحولين أو أكثر من الخمس صار الرضيع ولدا لها ولزوجها صاحب اللبن وصار جميع أولاد المرأة من زوجها صاحب اللبن ومن غيره إخوة لهذا الرضيع وصار أولاد الزوج صاحب اللبن من المرضعة وغيرها إخوة للرضيع فصار إخوتها أخوالا له وإخوة الزوج صاحب اللبن أعماما له وصار أبو المرأة جدا للرضيع وأمها جدة للرضيع وصار أبو الزوج صاحب اللبن جدا للرضيع وأمه جدة للرضيع لقول الله جل وعلا في المحرمات من سورة النساء. {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (2) » ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا رضاع إلا في الحولين (3) » ولما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم بخمس معلومات فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك (4) » . . أخرجه الترمذي بهذا اللفظ وأصله في صحيح مسلم.
__________
(1) سورة النساء الآية 23
(2) صحيح البخاري الشهادات (2645) ، صحيح مسلم الرضاع (1447) ، سنن النسائي النكاح (3306) ، سنن ابن ماجه النكاح (1938) ، مسند أحمد بن حنبل (1/275) .
(3) موطأ مالك الرضاع (1290) .
(4) صحيح مسلم الرضاع (1452) ، سنن النسائي النكاح (3307) ، سنن أبو داود النكاح (2062) ، موطأ مالك الرضاع (1293) ، سنن الدارمي النكاح (2253) .(30/119)
حكم بيع الذهب بالذهب
السؤال: ما حكم من يتاجر بالذهب أي يشتري ذهبا عندما ينخفض سعره ويبيعه(30/119)
عندما يزداد مثل أن يشتري أوقية من ذهب بثلاثين ريالا وعندما يزداد سعره يبيعها بخمسين ريالا أفيدوني عن الحكم الشرعي في ذلك وهل هو في حكم بيع النقد بالنقد؟
الجواب: لا حرج في بيع الذهب بالذهب إذا كان مثلا بمثل وزنا بوزن سواء بسواء يدا بيد سواء كان الذهب جديدا أو عتيقا أو كان أحدهما جديدا والآخر عتيقا.
كما أنه لا حرج في بيع الذهب بالفضة أو بالعملة الورقية إذا كان يدا بيد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والتمر بالتمر والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل سواء وزنا بوزن يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد (1) » خرجه مسلم في صحيحه.
ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائبا بناجز (2) » متفق على صحته.
وهذان الحديثان الصحيحان يدلان على أنه لا فرق بين شراء الذهب بالذهب للقنية أو لقصد الربح بعد تغير الأسعار إذا كان البيع والشراء على الوجه المذكور في الحديثين وبالله التوفيق.
__________
(1) صحيح مسلم المساقاة (1587) ، سنن الترمذي البيوع (1240) ، سنن النسائي كتاب البيوع (4563) ، سنن أبو داود البيوع (3349) ، سنن ابن ماجه التجارات (2254) ، مسند أحمد بن حنبل (5/314) ، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579) .
(2) صحيح البخاري البيوع (2177) ، صحيح مسلم المساقاة (1584) ، سنن الترمذي البيوع (1241) ، سنن النسائي البيوع (4570) ، مسند أحمد بن حنبل (3/4) ، موطأ مالك البيوع (1324) .(30/120)
العمل في مصانع الخمور حرام
السؤال: ما حكم المسلم الذي يبيع الخمر أو المخدرات وهل نسميه مسلما أم لا؟
وما حكم المسلم الذي يعمل في مصنع الخمر وهل يجب عليه ترك عمله إذا لم يجد سواه؟
الجواب: بيع الخمر وسائر المحرمات من المنكرات العظيمة وهكذا العمل في مصانع الخمر من المحرمات والمنكرات لقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1) ولا شك أن بيع الخمر والمخدرات والدخان من التعاون على الإثم والعدوان وهكذا العمل في مصانع الخمر
__________
(1) سورة المائدة الآية 2(30/120)
من الإعانة على الإثم والعدوان وقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (2) .
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه لعن الخمر وشاربها وساقيها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها (3) » .
وصح عنه أيضا عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إن على الله عهدا لمن مات وهو يشرب الخمر أن يسقيه من طينة الخبال قيل: يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال: عصارة أهل النار أو قال: عرق أهل النار (4) » .
أما حكمه فهو عاص وفاسق بذلك وناقص الإيمان وهو يوم القيامة تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وعفا عنه وإن شاء عاقبه إذا مات قبل التوبة عند أهل السنة والجماعة لقول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (5) .
وهذا الحكم إذا لم يستحلها أما إن استحلها فإنه يكفر بذلك ولا يغسل ولا يصلى عليه إذا مات على استحلالها عند جميع العلماء لأنه بذلك يكون مكذبا لله عز وجل ولرسوله عليه الصلاة والسلام.
وهكذا الحكم فيمن استحل الزنا أو اللواط أو الربا أو غير ذلك من المحرمات المجمع عليها كعقوق الوالدين وقطيعة الرحم وقتل النفس بغير حق أما من فعلها أو شيئا منها وهو يعلم أنها حرام ويعلم أنه عاص لله بذلك فهذا لا يكون كافرا بل هو فاسق تحت مشيئة الله سبحانه في الآخرة إذا لم يتب قبل الموت كما تقدم في حكم شارب الخمر والله ولي التوفيق.
__________
(1) سورة المائدة الآية 90
(2) سورة المائدة الآية 91
(3) سنن الترمذي البيوع (1295) ، سنن ابن ماجه الأشربة (3381) .
(4) صحيح مسلم الأشربة (2002) ، سنن النسائي الأشربة (5709) ، مسند أحمد بن حنبل (3/361) .
(5) سورة النساء الآية 48(30/121)
إذا استحالت عشرة الزوج جاز للمرأة طلب الطلاق
السؤال: ما حكم الشرع في طلب الطلاق إذا أصبحت العشرة مستحيلة وذلك للأسباب الآتية: أولا: زوجي جاهل ولا يعرف لي حقا وكان يلعنني ويلعن والدي ويسميني اليهودية والنصرانية والرافضية ولكني كنت صابرة على أخلاقه القبيحة من أجل أطفالي ولكن عندما أصبت بمرض " التهاب المفاصل " أصبحت عاجزة وغير قادرة على الصبر عليه وأصبحت أكرهه كرها شديدا حتى أنني لا أطيق التحدث معه فطلبت الطلاق منه فرفض علما بأنني من حوالي ست سنوات وأنا في بيته عند أولادي وأنا عنده كالمطلقة أو الأجنبية ولكنه يرفض الطلاق. أرجو من سماحتكم التكرم بالإجابة على سؤالي.
الجواب: إذا كان حال الزوج ما ذكرت فلا حرج في طلب الطلاق ولا حرج في المفاداة بأن تدفعي له شيئا من المال ليطلقك من أجل سوء عشرته واعتداءاته عليك بالكلام السيئ وإن رأيت الصبر عليه مع نصيحته بالأسلوب الحسن والدعاء له بالهداية من أجل أطفالك وحاجتك إلى إنفاقه عليك وعلى أطفالك فنرجو لك في ذلك الأجر وحسن العاقبة ونسأل الله له الهداية والاستقامة هذا كله إن كان يصلي ولا يسب الدين أما إن كان لا يصلي أو كان يسب الدين فهو كافر ولا يجوز لك البقاء معه ولا تمكينه من نفسك لأن سب دين الإسلام والاستهزاء به كفر وضلال وردة عن الإسلام بإجماع أهل العلم لقول الله عز وجل: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} (1) {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (2) .
ولأن ترك الصلاة كفر أكبر وإن لم يجحد وجوبها في أصح قولي العلماء لما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (3) » ولما روى الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العهد الذي بيننا وبينهم
__________
(1) سورة التوبة الآية 65
(2) سورة التوبة الآية 66
(3) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .(30/122)
الصلاة فمن تركها فقد كفر (1) » ولأدلة أخرى من الكتاب والسنة غير ما ذكرنا والله المستعان.
__________
(1) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .(30/123)
الصوم والإفطار يتبعان بلد الإقامة
السؤال: أنا من شرق آسيا، عندنا الشهر الهجري يتأخر عن المملكة العربية السعودية بيوم، ونحن الطلاب سنسافر في شهر رمضان في هذه السنة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته (1) » إلى آخر الحديث، وقد بدأنا الصوم في المملكة السعودية ثم نسافر إلى بلادنا في شهر رمضان وفي نهاية الشهر نكون قد صمنا واحد وثلاثين يوما. وسؤالي هو. ما حكم صيامنا وكم يوما نصوم؟
الجواب: إذا صمتم في السعودية أو غيرها ثم صمتم بقية الشهر في بلادكم فأفطروا بإفطارهم ولو زاد ذلك على ثلاثين يوما لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الصوم يوم تصومون والإفطار يوم تفطرون (2) » لكن إن لم تكملوا تسعة وعشرين يوما فعليكم إكمال ذلك الشهر لا ينقص عن تسع وعشرين والله ولي التوفيق.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1909) ، صحيح مسلم الصيام (1081) ، سنن الترمذي الصوم (684) ، سنن النسائي الصيام (2117) ، مسند أحمد بن حنبل (2/497) ، سنن الدارمي الصوم (1685) .
(2) سنن الترمذي الصوم (697) ، سنن أبو داود الصوم (2324) ، سنن ابن ماجه الصيام (1660) .(30/123)
تقلع بنا الطائرة قبل الغروب بساعة وتمضي الساعة
والشمس لم تغرب فهل نفطر أم ننتظر غروب الشمس؟
السؤال: ستقلع بنا الطائرة بإذن الله تعالى من الرياض في رمضان قبل أذان المغرب بساعة تقريبا وسيؤذن للمغرب ونحن في أجواء السعودية فهل نفطر وإذا رأينا الشمس ونحن في الجو وهذا هو الغالب فهل نظل على صيامنا ونفطر في بلدنا أم نفطر بمجرد الأذان في السعودية؟
الجواب: إذا أقلعت الطائرة من الرياض مثلا قبل غروب الشمس إلى جهة المغرب فإنك لا تزال صائما حتى تغرب الشمس وأنت في الجو أو تنزل في بلد قد غابت فيها الشمس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم (1) » متفق على صحته.
__________
(1) صحيح البخاري الصوم (1954) ، صحيح مسلم الصيام (1100) ، سنن الترمذي الصوم (698) ، سنن أبو داود الصوم (2351) ، مسند أحمد بن حنبل (1/28) ، سنن الدارمي الصوم (1700) .(30/123)
أعالج في المستشفى وأتناول دواء يسبب
لي الجوع الشديد هل أفطر أم أصبر؟
السؤال: أنا في السادسة عشرة من عمري وأعالج في مستشفى الملك فيصل التخصصي من حوالي خمس سنوات إلى الآن وفي شهر رمضان من العام الماضي أمر الدكتور بإعطائي علاجا كيماويا في الوريد وأنا صائم وكان العلاج قويا ومؤثرا على المعدة وعلى جميع الجسم وفي نفس اليوم الذي أخذت فيه العلاج جعت جوعا شديدا ولم يمض من الفجر إلا حوالي سبع ساعات وفي حوالي العصر تألمت منه وكدت أموت ولم أفطر حتى أذان المغرب، وفي شهر رمضان هذا العام إن شاء الله سيأمر الدكتور بإعطائي ذلك العلاج. هل أفطر في ذلك اليوم أم لا؟ وإذا لم أفطر فهل علي قضاء ذلك اليوم؟ وهل أخذ الدم من الوريد يفطر أم لا؟ وكذلك العلاج الذي ذكرت؟ أفيدوني جزاكم الله خيرا.
الجواب: المشروع للمريض الإفطار في شهر رمضان إذا كان الصوم يضره أو يشق عليه أو كان يحتاج إلى علاج في النهار بأنواع الحبوب والأشربة ونحوها مما يؤكل ويشرب لقول الله سبحان: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته (2) » وفي رواية أخرى «كما يحب أن تؤتى عزائمه» ؟
أما أخذ الدم من الوريد للتحليل أو غيره فالصحيح أنه لا يفطر الصائم لكن إذا كثر فالأولى تأجيله إلى الليل فإن فعله في النهار فالأحوط القضاء تشبيها له بالحجامة.
__________
(1) سورة البقرة الآية 185
(2) مسند أحمد بن حنبل (2/108) .(30/124)
أنا امرأة مريضة وقد أفطرت بعض أيام رمضان
ولم أستطع قضاءها ما كفارة ذلك؟
السؤال: أنا سيدة مريضة وقد أفطرت بعض أيام رمضان الماضي ولم أستطع قضاءها لمرضي فما هي كفارة ذلك؟ كذلك فإنني لن أستطيع صيام رمضان هذا العام فما هي كفارة ذلك أيضا؟(30/124)
الجواب: المريض الذي يشق عليه الصيام يشرع له الإفطار ومتى شفاه الله قضى ما عليه لقول الله سبحانه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (1) وليس عليك أيتها السائلة حرج في الإفطار في هذا الشهر ما دام المرض باقيا لأن الإفطار رخصة من الله للمريض والمسافر والله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته وليس عليك كفارة ولكن متى عافاك الله فعليك القضاء شفاك الله من كل سوء وكفر عنا وعنكم السيئات.
__________
(1) سورة البقرة الآية 185(30/125)
إذا احتلم الصائم في نهار رمضان هل يبطل صومه أم لا؟
السؤال: إذا احتلم الصائم في نهار رمضان هل يبطل صومه أم لا؟ وهل تجب عليه المبادرة بالغسل؟
الجواب: الاحتلام لا يبطل الصوم لأنه ليس باختيار الصائم وعليه أن يغتسل غسل الجنابة. إذا رأى الماء وهو المني. ولو احتلم بعد صلاة الفجر وأخر الغسل إلى وقت الظهر فلا بأس وهكذا لو جامع أهله في الليل ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر لم يكن عليه حرج في ذلك فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصبح جنبا من جماع ثم يغتسل ويصوم. . . وهكذا الحائض والنفساء لو طهرتا في الليل ولم تغتسلا إلا بعد طلوع الفجر لم يكن عليهما بأس في ذلك وصومهما صحيح ولكن لا يجوز لهما ولا للجنب تأخير الغسل أو الصلاة إلى طلوع للشمس بل يجب على الجميع البدار بالغسل قبل طلوع الشمس حتى يؤدوا الصلاة في وقتها.
وعلى الرجل أن يبادر بالغسل من الجنابة قبل صلاة الفجر حتى يتمكن من الصلاة في الجماعة والله ولي التوفيق.(30/125)
هل الاحتلام يفسد الصوم، وإذا سال الدم
من جسم الإنسان هل يفطر وهل القيء يفسد الصوم؟
السؤال: كنت صائما ونمت في المسجد وبعد ما استيقظت وجدت أني محتلم هل(30/125)
يؤثر الاحتلام في الصوم علما أنني لم أغتسل وصليت الصلاة بدون غسل، ومرة أخرى أصابني حجر في رأسي وسال الدم منه هل أفطر بسبب الدم؟ وبالنسبة للقيء هل يفسد الصوم أو لا أرجو إفادتي؟
الجواب: الاحتلام لا يفسد الصوم لأنه ليس باختيار العبد ولكن عليه غسل الجنابة إذا خرج منه مني لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ذلك أجاب بأن على المحتلم الغسل إذا وجد الماء يعني المني وكونك صليت بدون غسل هذا غلط منك ومنكر عظيم وعليك أن تعيد الصلاة مع التوبة إلى الله سبحانه، والحجر الذي أصاب رأسك حتى أسال الدم لا يبطل صومك وهذا القيء الذي خرج منك بغير اختيارك لا يبطل صومك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء (1) » رواه أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح.
__________
(1) سنن الترمذي كتاب الصوم (720) ، سنن أبو داود الصوم (2380) ، سنن ابن ماجه الصيام (1676) ، مسند أحمد بن حنبل (2/498) ، سنن الدارمي الصوم (1729) .(30/126)
ما حكم صيام النصف من شعبان
السؤال: ما حكم صيام نصف شعبان وهي الأيام (13 - 14 -15) ؟
الجواب: يستحب صيام ثلاثة أيام من كل شهر من شعبان أوغيره لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر عبد الله بن عمرو بن العاص بذلك وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أيضا أنه أوصى أبا الدرداء وأبا هريرة بذلك وإن صام هذه الثلاثة من بعض الشهور دون بعض أو صامها تارة وتركها تارة فلا بأس لأنها نافلة لا فريضة والأفضل أن يستمر عليها في كل شهر إذا تيسر له ذلك.(30/126)
قيمة زكاة الفطر؟
السؤال: كم قيمة زكاة الفطر؟
الجواب: كأن السائلة تريد زكاة الفطر من رمضان والواجب في ذلك صاع واحد من قوت البلد من أرز أو بر أو تمر، أو غيره عن الذكر والأنثى والحر والمملوك والصغير والكبير من المسلمين كما صحت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والواجب إخراجها قبل خروج الناس إلى صلاة العيد وإن أخرجت قبل العيد بيوم أو يومين فلا بأس ومقداره بالكيلو ثلاثة (كيلو) على سبيل التقريب.(30/126)
التبليغ خلف الإمام
وما فيه من المحاذير
بقلم د. عبد الله بن محمد الطريقي (1)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فقد لفت نظري ما شاهدت في الحرمين الشريفين وغيرهما من المساجد - خاصة الكبيرة - ما يفعله بعض المؤذنين من تبليغ التكبيرات والتحميد والسلام خلف الإمام، خاصة في هذا الزمن الذي توافرت فيه مكبرات الصوت وصار صوت الإمام واضحا كوضوح المبلغ أو قريب منه، حتى صار كبر المسجد وكثرة الجماعة لا يؤثر على سماع صوت الإمام بل قد يسمعه من بعد ولم يدخل في الصلاة مع الإمام كما يسمعه من قرب.
ومع أن فعل المبلغين هذا فيه تشويش على المصلين واقتطاع جزء من الصلاة يضيع بسبب الصوت المزعج مع ما يلحق ذلك من لحن في بعض التكبيرات أو التحميد، لهذا ولغيره اهتممت بهذه المشكلة وأحببت أن أقرأ ما كتبه العلماء الأفذاذ والذين حازوا
__________
(1) وردت ترجمة للباحث في العدد 14 ص259(30/127)
قصب السبق في هذا المجال، وقد وجدت منهم من أفردها بالبحث والتأليف والتصنيف كابن عابدين من الحنفية، وعبد الله أحمد الشهير بالطاهر من المالكية، مع ما هو مدون في بطون أمهات الكتب عن أحكام التبليغ خلف الإمام في كتب أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم.
ولما تصفحت هذه الكتب وقرأت ما لم أكن أعرفه من قبل عن حكم التبليغ خلف الإمام أردت أن أجمع شتات ما قرأت وأرتبه وأظهر منه بنتيجة يستفيد منها من حصل له وقفة في حكم هذه المسألة كما حصل لي خاصة أنها تتعلق بالصلاة التي هي ثاني أركان الإسلام، وبها يستقيم دين الإنسان، والمحافظة عليها مطلوبة بنص القرآن، وتضييعها مدعاة للويل والعذاب والخسران.
ومن المحافظة عليها المحافظة على أركانها وشروطها وواجباتها والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يجلب النقص ويسيء إليها حيث يقول جل شأنه: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} (1) {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} (2) . . إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (3) .
قال القرطبي (4) - رحمه الله - فالدوام خلاف المحافظة، فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وآدابها ويحفظوها من الإحباط باقتراب المأثم، فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات، والمحافظة إلى أحوالها " ا. هـ وفقنا الله جميعا للمحافظة على الصلاة وأدائها على الوجه الأكمل الموافق لما شرعه الله،
__________
(1) سورة المعارج الآية 22
(2) سورة المعارج الآية 23
(3) سورة المعارج الآية 34
(4) تفسير القرطبي 18 \ 290(30/128)
وصلى الله وسلم على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(30/129)
معنى التبليغ:
التبليغ مصدر بلغ بمعنى أوصل، يقال: بلغه السلام إذا أوصله، وبلغ الكتاب بلوغا أي وصل، فالتبليغ بمعنى الإيصال، وذلك الإبلاغ (1) .
والمراد بالتبليغ هنا: إيصال صوت الإمام للمأمومين (2) . بالتكبير والتحميد والسلام وذلك بالدخول في الصلاة والخروج منها والانتقال إلى أجزائها (3) .
والسنة في حق الإمام الجهر بالتكبير كله وكذا التسميع والسلام والقراءة الجهرية وذلك بأن يسمع من خلفه وأدناه سماع غيره (4) .
وقد دلت الأدلة على ذلك ومنها ما يأتي:
1) - ما روى سعيد بن الحارث (5) . قال: «صلى لنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود وحين سجد وحين رفع وحين قام من الركعتين وقال: هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم (7) »
__________
(1) انظر ترتيب القاموس مادة بلغ 1 \ 316، والصحاح مادة بلغ 4 \ 1316، ولسان العرب مادة بلغ 8 \ 419
(2) انظر حاشية ابن عابدين 1 \ 319، والموسوعة الفقهية الكويتية 10 \ 117
(3) انظر رسالة القول البديع مخطوط مركز الملك فيصل رقم 2169 \ 8
(4) انظر كتاب المبدع 1 \ 429 وكتاب الفروع 1 \ 410
(5) هو سعيد بن الحارث بن المعلى الأنصاري المدني.
(6) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأذان باب يكبر وهو ينهض من السجدتين 1 \ 200 وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الذكر
(7) هو أبو سعيد الخدري الأنصاري الخزرجي (6)(30/129)
ووجه الاستدلال من الحديث أن فيه التصريح بالجهر بالتكبير من أبي سعيد - رضي الله عنه - وبيان أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
2) - ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول: سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد ثم يكبر حين يهوي ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس (1) » .
ووجه الاستدلال منه أن فعله - صلى الله عليه وسلم - للتكبير ونقل الصحابة له دليل على أنه كان يجهر به.
3) ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال 2 «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون (2) » .
ووجه الاستدلال منه أن قوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا كبر فكبروا (3) » دليل على الجهر بالتكبير وإلا فكيف يكبر المأموم بعد تكبير الإمام لو كان الإمام يسر بالتكبير.
ومن الأدلة السابقة نعلم أن الجهر بالتكبير من قبل الإمام سنة وهو مطلوب لما فيه من متابعة المأمومين للإمام واقتدائهم به، ويكون الجهر بالتكبير حسب الحاجة فإن زاد الإمام بالجهر به على الحاجة زيادة كبيرة كره ذلك لما قد يسببه من تشويش على المصلين في صلاتهم (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري واللفظ له كتاب الأذان باب التكبير إذا قام من السجود 1 \ 191. وأخرجه مسلم كتاب الصلاة باب إثبات التكبير في كل خفض ورفع حديث رقم 392 جـ 1 ص293 - 294
(2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصلاة باب ائتمام المأموم بالإمام حديث رقم 86 (414) 1 \ 309
(3) صحيح البخاري الصلاة (378) ، صحيح مسلم الصلاة (411) ، سنن الترمذي الصلاة (361) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1238) .
(4) انظر كتاب الفروع 1 \ 410(30/130)
وقد قال علماء المالكية: إن الأفضل للإمام والمأموم رفع صوت الإمام بجميع التكبير وسمع الله لمن حمده ليقتدي به المأمومون من غير احتياج المسمع وهذه هي السنة التي كان عليها السلف الصالح - رضي الله عنهم (1) .
__________
(1) رسالة القول البديع ق4(30/131)
إذا كان صوت الإمام لا يبلغ المصلين:
جميع التكبيرات والتسميع والتحميد والتسليم تكون من الإمام فإن كان صوته لا يبلغ من وراءه إما لضعف في صوت الإمام أو لكثرة المصلين وبعدهم عن الإمام أو غير ذلك فينبغي التبليغ عنه من أحد المأمومين.
قال ابن قدامة في المغني: " ويستحب للإمام أن يجهر بالتكبير بحيث يسمع المأمومين ليكبروا فإنهم يجوز لهم التكبير إلا بعد تكبيره فإن لم يمكنه إسماعهم جهر بعض المأمومين ليسمعهم أو ليسمع من لا يسمع الإمام " ا. هـ (1) .
وقال النووي: " يسن للإمام الجهر بتكبيرات الصلاة كلها ويقول: سمع الله لمن حمده ليعلم المأمومون انتقاله فإن كان ضعيف الصوت لمرض وغيره فالسنة أن يجهر المؤذن أو غيره من المأمومين جهرا يسمع الناس وهذا لا خلاف فيه " ا. هـ (2) .
وقال في موضع آخر: " يستحب للإمام أن يجهر بتكبيرة الإحرام وبتكبيرات الانتقالات ليسمع المأمومين فيعلموا صحة صلاته فإن كان المسجد كبيرا لا يبلغ صوته إلى جميع أهله أو كان ضعيف الصوت لمرض ونحوه أومن أصل خلقته بلغ عنه بعض المأمومين أو جماعة منهم حسب الحاجة (3) .
__________
(1) المغني 1 \ 462
(2) المجموع 3 \ 398
(3) المجموع 3 \ 294 - 295(30/131)
والأصل في مشروعية التبليغ خلف الإمام ما يأتي:
1) عن جابر - رضي الله عنه - قال: «اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا فلما سلم قال: إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا (1) » .
وفي رواية عن جابر - رضي الله عنه - قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر خلفه فإذا كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم كبر أبو بكر ليسمعنا؟ (2) » .
2) - عن عائشة - رضي الله عنها-قالت: لما مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - مرضه الذي مات فيه أتاه بلال يؤذنه بالصلاة فقال: مروا أبا بكر فليصل قلت: إن أبا بكر رجل أسيف إن يقم مقامك يبك فلا يقدر على القراءة، قال: مروا أبا بكر فليصل فقلت مثله فقال في الثالثة أو الرابعة: إنكن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل فصلى وخرج النبي صلى الله عليه وسلم يهادى بين رجلين كأني أنظر إليه يخط برجليه الأرض فلما رآه أبو بكر ذهب يتأخر فأشار إليه أن صل فتأخر أبو بكر - رضي الله عنه - وقعد النبي - صلى الله عليه وسلم إلى جنبه وأبو بكر يسمع الناس التكبير (3) .
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصلاة باب ائتمام المأموم بالإمام حديث 84 [413] 1 \ 309
(2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصلاة باب ائتمام المأموم بالإمام حديث 82 ج - ص 309
(3) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأذان باب من أسمع الناس تكبير الإمام 1 \ 174(30/132)
3) - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال: مروا أبا بكر أن يصلي بالناس فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى ما يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر فقال: مروا أبا بكر يصلي فقلت لحفصة قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس فلو أمرت عمر قال: إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر أن يصلي بالناس فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة فقام يهادى بين رجلين ورجلاه يخطان في الأرض حتى دخل المسجد فلما سمع أبو بكر حسه ذهب أبو بكر يتأخر فأومأ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان أبو بكر يصلي قائما وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس مقتدون بصلاة أبي بكر - رضي الله عنه (1) » .
قال النووي: " قولها: وأبو بكر يسمع الناس التكبير فيه جواز رفع الصوت بالتكبير ليسمعه الناس ويتبعوه، وأنه يجوز للمقتدي اتباع صوت المكبر وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور ونقلوا فيه الإجماع وما أراه يصح الإجماع فيه فقد نقل القاضي عياض عن مذهبهم أن منهم من أبطل صلاة المقتدي ومنهم من لم يبطلها ومنهم من قال: إن أذن الإمام في الإسماع صح الاقتداء وإلا فلا، ومنهم من أبطل صلاة المسمع ومنهم من صححها ومنهم من شرط إذن الإمام ومنهم من قال: إن تكلف صوتا بطلت صلاته وصلاة من ارتبط بصلاته وكل هذا ضعيف والصحيح جواز كل ذلك وصحة صلاة المسمع والسامع ويعتبر إذن الإمام والله أعلم " ا. هـ (2) .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه واللفظ له كتاب الأذان من باب الرجل يأتم بالإمام ويأتم الناس بالمأموم 1 \ 175 وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصلاة باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر من مرض وسفر وغيرهما من يصلي بالناس حديث 95 جـ 1 ص313 - 314.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم 4 \ 144(30/133)
وهل كان أبو بكر - رضي الله عنه - إماما أو مأموما خلاف والذي دلت عليه الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام وأبو بكر - رضي الله عنه - مبلغا عنه، قال النووي: وإن كان بعض العلماء زعم أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان هو الإمام والنبي صلى الله عليه وسلم مقتدى به لكن الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الإمام (1) .
وهذه الأدلة تدل دلالة واضحة على أنه يجوز التبليغ من أحد المأمومين عند الحاجة إليه كضعف صوت الإمام أو كثرة المصلين بحيث لا يبلغهم صوت الإمام وذلك لأن متابعة الإمام أمر مطلوب شرعا ولا تحصل عند ضعف صوت الإمام بالتبليغ.
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم 4 \ 133(30/134)
حكم التبليغ لغير حاجة:
عرفنا أنه يجوز التبليغ عند الحاجة إليه أما إذا كان لغير حاجة فلا يجوز (1) لأن الأصل جهر الإمام بالتكبيرات والتسميع والتسليم والمبلغ بدلا عن الإمام ولا يصار إلى البدل إلا عند تعذر الأصل والأدلة السابقة الدالة على مشروعية التبليغ تدل على أنه فعله عند الضرورة ظاهر في رواية جابر - رضي الله عنه - في قوله: " اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، " وفي رواية عائشة - رضي الله عنها - في قولها: " لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم مرضه الذي مات فيه ".
وعلى هذا قال العلماء: إن التبليغ لغير حاجة بدعة ولا يجوز فعله لأن ذلك لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة وإنما نقل ذلك عند الحاجة إليه فقط.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: " لا يشرع الجهر بالتكبير خلف الإمام الذي هو المبلغ لغير حاجة باتفاق الأئمة فإن بلالا لم يكن يبلغ خلف النبي صلى الله عليه وسلم هو ولا غيره ولم يكن يبلغ خلف الخلفاء الراشدين لكن لما مرض النبي - صلى الله عليه وسلم صلى بالناس مرة وصوته ضعيف وكان أبو بكر يصلي إلى جنبه يسمع الناس التكبير، فاستدل العلماء
__________
(1) المعيار المعرب 1 \ 151، حاشية ابن عابدين 1 \ 320(30/134)
بذلك على أنه يشرع التكبير عند الحاجة مثل ضعف صوته، فأما بدون ذلك فاتفقوا على أنه مكروه غير مشروع " ا. هـ (1) .
وقال في موضع آخر: " أما التبليغ خلف الإمام لغير حاجة فهو بدعة غير مستحبة باتفاق الأئمة وإنما يجهر بالتكبير الإمام كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يفعلون، ولم يكن: أحد يبلغ خلف النبي صلى الله عليه وسلم لكن لما مرض النبي صلى الله عليه وسلم وضعف صوته، فكان أبو بكر - رضي الله عنه - يسمع بالتكبير " ا. هـ \ (2) .
وقال ابن عابدين في حاشيته على الدر المختار: " وفي حاشية أبي السعود: واعلم أن التبليغ عند عدم الحاجة إليه بأن بلغهم صوت الإمام مكروه، وفي السيرة الحلبية: اتفق الأئمة الأربعة على أن التبليغ حينئذ بدعة منكرة أي مكروهة، وأما عند الاحتياج إليه فمستحب " ا. هـ (3) .
وجاء في المعيار المعرب: " ولا ينبغي فعله من غير حاجة إليه، ولا إشكال حينئذ في كونه منهيا عن الإقدام عليه ابتداء ويبقى النظر إذا وقع من غير ضرورة في صحة الصلاة، فأما المأمومون إذا كانوا يسمعون صوت الإمام فلا كلام في صحة صلاتهم لأن اقتداءهم حينئذ بصلاة إمامهم، وأما المسمع فالصواب صحة صلاته لأن الفقهاء قالوا: إن الذكر إذا كان في محله من الصلاة وجهر به المصلي قاصدا للتفهيم فإنه مغتر " ا. هـ (4) .
وجاء في رسالة القول البديع ما نصه: " أما إن رفع الإمام صوته حتى بلغ جميع المأمومين فإن التسميع من غيره يكون مكروها إجماعا لا خلاف الأولى فقط لأنهم قد صرحوا في غير ما موضع من كتب المذهب وغيره بأنه يندب لغير الإمام الإسرار بالتكبير والتحميد والتسليم، ومعلوم أن ترك المندوب إذا كان أكيدا مكروه ومنه ما هنا. . (5) .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 23 \ 402 - 403
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 23 \ 403.
(3) حاشية ابن عابدين 1 \ 320
(4) المعيار المعرب 1 \ 152 وهو في فتاوى المالكية
(5) رسالة القول البديع مخطوط مركز الملك فيصل برقم 2169 \ 8 ص 5(30/135)
وقد ذكر علماء المالكية أن وجوه الاقتداء أربعة: رؤية أفعال الإمام، فإن تعذرت فسماع أقواله، فإن تعذرت فرؤية أفعال المأمومين فإن تعذرت فسماع أقوالهم.
وهذا الرابع هو التبليغ وهو آخر وجوه الاقتداء وقد ذكروا أن في حكم الصلاة به أربعة أقوال وهي: تصح ولا تصح والفرق بين أن يأذن الإمام فتصح أولا فلا تصح والفرق بين أن يكون صوت الإمام يعمهم فلا تصح أولا يعمهم فتصح (1) .
وقال البيجوري في حاشية على شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع عند قول المصنف (والتكبيرات عند الخفض) : " ويجهر بالتكبيرات إن كان إماما ليسمعه المأمومون أو مبلغا إن احتيج إليه بأن لم يبلغ صوت الإمام جميع المأمومين كذا قاله في المحشى وظاهره أن الإمام يجهر وإن لم يحتج إليه وقيد الشبراملسي كلا بالاحتياج وهو ظاهر، ويقصد أن الذكر وحده أو مع الإعلام لا الإعلام وحده لأنه يضر وكذا الإطلاق في حق العالم بخلاف العامي، ولا بد من قصد الذكر عند كل تكبيرة عند الرملي، ويكفي قصده في التكبيرة الأولى عند الخطيب أما المنفرد والمأموم غير المبلغ فيسران بالتكبيرات ويكره لهما الجهر بها ولو من المرأة ولو أمت المرأة نساء جهرت بالتكبيرات أقل من جهر الرجل بحيث لا يسمعها أجنبي كما قاله في الجواهر ". انتهى كلام البيجوري (2) .
وفي كتاب الفروع: " ويستحب جهر إمام به - أي بالتكبير - بحيث يسمع من خلفه وأدناه سماع غيره، ويكره جهر غيره به ولا يكره لحاجة ولو بإذن إمام بل يستحب به وبالتحميد لا بالتسميع " ا. هـ (3)
__________
(1) رسالة القول البديع ق2
(2) حاشية إبراهيم البيجوري على شرح قاسم الغزي على متن أبي شجاع 1 \ 176
(3) كتاب الفروع 1 \ 410(30/136)
قصد تكبيرة الإحرام من الإمام والمأموم:
ومما يذكره الفقهاء هنا قصد تكبيرة الإحرام من الإمام ومن المأموم كذلك. فعند الحنفية (1) والشافعية (2) أنه إذا كبر الإمام للافتتاح فلا بد لصحة صلاته من قصده بالتكبير الإحرام بالصلاة فإن قصد الإعلام فلا صلاة له فإن جمع بين الأمرين بأن قصد الإعلام والإحرام فهو المطلوب منه شرعا.
قال ابن عابدين: " وكذلك المبلغ إذا قصد التبليغ فقط خاليا عن قصد الإحرام فلا صلاة له ولا لمن يصلي بتبليغه في هذه الحالة لأنه اقتداء بمن لم يدخل في الصلاة فإن قصد بتكبيرة الإحرام مع التبليغ للمصلين فذلك هو المقصود منه شرعا " ا. هـ (3) .
ويعلل الحنفية ذلك بأن تكبيرة الإحرام شرط أو ركن على الخلاف في ذلك فلا بد في تحقيقها من قصد الإحرام أي الدخول في الصلاة (4) .
أما عند المالكية فيجوز اتخاذ شخص معين ليسمع الناس وتصح صلاته ولو قصد بتكبيره مجرد إسماع المأمومين فيصح أن يكون المسمع صبيا أو امرأة أو محدثا وذلك مبني على أن المسمع علامة على صلاة الإمام.
قال الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: قوله: (وجاز مسمع) ظاهره ولو قصد بتكبيره وتحميده مجرد إسماع المأمومين وهو كذلك خلافا للشافعية حيث قال: إن قصد ذلك بطلت صلاته وإن قصد الذكر فقط أو الذكر والإعلام فصلاته صحيحة وإن لم يكن له قصد فباطلة. ا. هـ (5) .
__________
(1) انظر حاشية ابن عابدين 1 \ 319
(2) انظر فتح العزيز شرح الوجيز مطبوع مع كتاب المجموع 1 \ 257
(3) حاشية ابن عابدين 1 \ 319
(4) المرجع السابق
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 \ 337(30/137)
وفى قول عند المالكية أن المسمع نائب ووكيل عن الإمام فلا يجوز له التسميع حتى يستوفي شرائط الإمام.
قال في المعيار المعرب: " قال بعض الشيوخ: واختلف الشيوخ: في المسمع هل هو نائب ووكيل عن الإمام؟ أو هو علم على صلاته؟ أو إن أذن الإمام فنيابة وإلا فعلم؟ فينبني عليه تسميع الصبي والمرأة ومن على غير وضوء وفي وجيز ابن غلاب أن حكمه حكم الإمام فلا يجوز له التسميع حتى يستوفي شرائط الإمامة، وعلى من يقول: إنه علم ومخبر لا يحتاج إلى ذلك، وبالأول كان يفتي أبو محمد الشبيبي "ا. هـ (1) .
وقال صاحب القول البديع: " وهذا مبني على أن المسمع نائب عن الإمام وهو اختيار جمع من أهل المذهب وعليه فلا يصح الاقتداء بالمسمع حتى يستوفي شروط الإمام فلا يصح تسميع هذا كما لا يصح تسميع صبي وامرأة وخنثى ومحدث وكافر وقيل: إن المسمع علامة على صلاة الإمام واختاره آخرون وعليه فيصح تسميع من ذكر " ا. هـ (2) .
أما بقية التكبيرات غير تكبيرة الإحرام كالتحميد ومن المبلغ والتسميع من الإمام وتكبيرات الانتقالات إذا قصد بذلك الإعلام فقط خاليا عن قصد الذكر فعند الحنفية كما ذكر ابن عابدين أنه لا فساد في ذلك لأنه ليس بجواب بل هو مجرد إخبار ولأنه من أعمال الصلاة كما لو استأذن على المصلي إنسان فسبح وأراد به إعلامه أنه في الصلاة أو عرض للإمام شيء فسبح المأموم لأن المقصود به إصلاح الصلاة، أو يقال: إن القياس الفساد ولكنه ترك للحديث الصحيح «من نابه شيء في صلاته فليسبح (3) »
__________
(1) المعيار بالمعرب 1 \ 153
(2) رسالة القول البديع ق 4
(3) انظر رسالة تنبيه ذوي الأفهام على أحكام التبليغ خلف الإمام لابن عابدين مطبوع ضمن رسائل ابن عابدين 1 \ 141(30/138)
المحاذير في التبليغ:
عرفنا فيما سبق أن التبليغ لغير حاجة لا يجوز بل هو بدعة كما تقدم أما إذا دعت الحاجة إليه فينبغي فعله لما فيه من المصلحة لكن بشرط أن لا يصحبه شيء من المخالفات التي تخرجه من المشروعية إلى البدعية. يقول المحقق ابن عابدين: " وإذا قد علمت مشروعية رفع الصوت بالتبليغ وأن التبليغ منصب شريف قد قام به أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين ذوي المقام المنيف فلا بد معه من اجتناب ما أحدثه جهلة المبلغين الذين استولت عليهم الشياطين من منكرات ابتدعوها ومحدثات اخترعوها لكثرة جهلهم وقلة عقلهم وعدم اعتنائهم بأحكام ربهم وبعدهم عما هو سبب قربهم وانهماكهم في تحصيل حطام الدنيا وترك التعلم الموصل إلى الدرجات العليا (1) .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وحيث جاز - أي التبليغ - ولم يبطل فيشترط أن لا يخل بشيء من واجبات الصلاة " ا. هـ (2) .
ومن المخالفات التي قد يرتكبها المبلغون ما يأتي: أولا: الجهر بتكبيرة الإحرام من المبلغ بنية الإعلام لا بنية الإحرام وهو خطأ إذ لا بد من نية الإحرام وقد تقدم أن فقهاء الحنفية يقولون: إنه إذا قصد التبليغ فقط خاليا عن قصد الإحرام فلا صلاة له ولا لمن يصلي بتبليغه في هذه الحالة لأنه اقتداء بمن لم يدخل في الصلاة (3) .
__________
(1) تنبيه ذوي الأفهام ص 142
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 23 \ 401
(3) تنبيه ذوي الأفهام ص 140(30/139)
قلت: أما بطلان صلاته فواضح لأن تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة لقوله - صلى الله عليه وسلم «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم (1) » فإذا لم يقصد الإحرام فكأنه لم يدخل في الصلاة.
وأما بطلان صلاة المأمومين ففيه نظر وهو مبني على أنه يشترط في المبلغ ما يشترط في الإمام وقد تقدم أنه أحد القولين عند المالكية.
وقال ابن الحاج (2) .
المالكي في المدخل: " وفي هذا نكتة أخرى وهي أن الإمام إذا دخل في الصلاة بتكبيرة الإحرام كبروا خلفه إذ ذاك قبل أن يدخلوا في الصلاة ليسمعوا الناس بذلك فيعلموا بتكبيرهم أن الإمام قد أحرم بالصلاة فمن أحرم من الناس حينئذ سرى الخلل إلى صلاته من هذا الوجه أيضا لما تقدم أن الاقتداء لا يجوز إلا بأربعة أشياء وهذا ليس بواحد منها " ا. هـ (3) .
وقد قال فقهاء الشافعية: يجب أن تكون النية مقارنة للتكبير لأنه أول فرض من فروض الصلاة فيجب أن تكون مقارنة له (4) .
ويقول الخرقي (5) في مختصره المشهور عند الحنابلة: " وينوي بها المكتوبة يعني بالتكبيرة ولا نعلم خلافا بين الأمة في وجوب النية للصلاة وأن الصلاة لا تنعقد إلا بها " ا. هـ (6) .
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير: رواه الشافعي وأحمد والبزار وأصحاب السنن إلا النسائي وصححه الحاكم وابن السكن من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن ابن الحنفية عن علي، قال البزار: لا نعلمه عن علي إلا من هذا الوجه وقال أبو نعيم: تفرد به ابن عقيل عن ابن الحنفية عن علي وقال العقيلي: في إسناده لين وهو أصلح من حديث جابر '' ا. هـ التلخيص الحبير مطبوع مع كتاب المجموع 3 \ 265
(2) هو أبو عبد الله محمد بن محمد العبدري الفارسي المالكي الشهير بابن الحاج مات بالقاهرة سنة 737 هـ
(3) المدخل لابن الحاج 2 \ 210
(4) المجموع شرح المهذب 3 \ 277
(5) هو أبو القاسم عمر بن حسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي مات سنة 334 ودفن بدمشق
(6) مختصر الخرقي مع كتاب المغني 1 \ 464(30/140)
ثانيا: مسابقة الإمام.
بعض المبلغين يسابق الإمام في التكبير للركوع أو الرفع منه أو السجود وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار (1) » .
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فلما قضى الصلاة أقبل علينا بوجهه فقال: «أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف فإني أراكم أمامي ومن خلفي (3) » .
قال النووي - رحمه الله - قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبقوني بالركوع ولا بالقيام ولا بالانصراف (4) » فيه تحريم هذه الأمور وما في معناها " ا. هـ (5) .
وقال رحمه الله - قال أصحابنا رحمهم الله - يجب على المأموم متابعة الإمام ويحرم عليه أن يتقدمه بشيء من الأفعال ا. هـ (6) .
ثالثا: اللحن بالتكبير والتسميع.
اللحن بالتكبير مثل أن يمد همزة لفظ الجلالة فيقول: آلله فيصير استفهاما، أو يمد باء أكبر فيزيد ألفا فيقول: أكبار فيصير جمع كبر وهو الطبل، أو يمد همزة أكبر أيضا، وتارة يحذف ألف الجلالة التي بعد اللام الثانية، وتارة يحذف هاءها ويبدل همزة أكبر بواو فيقول اللا وأكبر.
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الأذان باب إثم من رفع رأسه قبل الإمام 1 \ 170 وأخرجه مسلم في صحيحه واللفظ له كتاب الصلاة باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوها 1 \ 320 حديث رقم 114
(2) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصلاة باب تحريم سبق الإمام بركوع أو سجود ونحوها 1 \ 320 حديث رقم 112
(3) المراد بالانصراف السلام. (2)
(4) صحيح مسلم الصلاة (426) ، سنن النسائي السهو (1363) ، سنن أبو داود الصلاة (624) ، مسند أحمد بن حنبل (3/102) ، سنن الدارمي الصلاة (1317) .
(5) شرح النووي على صحيح مسلم 4 \ 150
(6) المجموع شرح المهذب 4 \ 234 وانظر روضة الطالبين 1 \ 369(30/141)
قال ابن عابدين: " وأما اللحن في التسميع فهو ما يفعله عامتهم إلا الفرد النادر منهم فيقولون: رابنا لك الحامد بزيادة ألف بعد راء ربنا وألف بعد حاء الحمد، أما الثانية فلا شك في كراهتها، وأما الأولى فلم أر من نبه عليها ولو قيل: إنها مفسدة لم يكن بعيدا لأنه الراب بتشديد الباء زوج الأم كما في الصحاح والقاموس وهو مفسد المعنى إلا أن يقال: يمكن إطلاقه عليه تعالى وإن لم يكن واردا لأنه اسم فاعل من التربية فهو بمعنى رب وعلى كل حال فجميع ما ذكرناه لا يحل فعله وما هو مفسد منه يكون ضرره متعديا إلى بقية المقتدي ممن يأخذ عنه " ا. هـ (1) .
وقال ابن الحاج في المدخل: " إنهم يغيرون وضع التكبير لأنهم يقولون آلله فيزيدون على الهمزة مدة وكذلك يصنعون في أكبر وبعضهم يزيد بعد الباء من أكبر ألفا إلى غير ذلك من صنيعهم، وإن أتى بعضهم بالتكبير كاملا فإنه لا يفعل ذلك في جميع تكبيرات الصلاة، وإذا كان ذلك كذلك فحكمه حكم المسألة المذكورة آنفا وهو البطلان، وإذا علم ذلك فيسري الخلل إلى صلاة من صلى بتبليغهم لأن من يريد أن يصلي خلف الإمام لا يجوز له أن يقتدي إلا بأحد أربعة أشياء (2) .
وقال صاحب القول البديع في معرض كلامه عن المسمع في الصلاة ما نصه:
" وكل هذا ما لم يشتغل المسمع بمراعاة الأهوية والألحان وإلا بطلت صلاته وصلاة من اشتغل باستماع ذلك اتفاقا (3) .
وقال الرافعي (4) في فتح العزيز: " ويجب على المصلي أن يحترز في لفظ التكبير عن زيادة تغير المعنى بأن يقول: آلله أكبر فينقلب الكلام استفهاما أو يقول: أكبار والأكبار جمع
__________
(1) تنبيه ذوي الأفهام 143 - 144
(2) المدخل 2 \ 210
(3) القول البديع ق 3
(4) هو أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي مات سنة 623 هـ(30/142)
كبر وهو الطبل ولو زاد واوا بين الكلمتين إما ساكنة أو متحركة فقد عطل المعنى فلا يجزئه أيضا " انتهى (1) .
وقال النووي في المجموع: " ويجب الاحتراز في التكبير عن الوقفة بين كلمتين وعن زيادة تغير المعنى فإن وقف أو قال: آلله أكبر بمد همزة الله أو بهمزتين أو قال: الله أكبار أو زاد واوا ساكنة أو متحركة بين الكلمتين لم يصح تكبيره " ا. هـ (2) .
وقال ابن قدامة في المغني: " ويبين التكبير ولا يمد في غير موضع المد فإن فعل بحيث تغير المعنى مثل أن يمد الهمزة الأولى فيقول: آلله فيجعلها استفهاما أو يمد أكبر فيزيد ألفا فيصير جمع كبر وهو الطبل لم يجز لأن المعنى يتغير به " ا. هـ (3) .
رابعا: تأخر المبلغ في أداء التكبير أو في تمطيط الحروف وإخراجها عن محالها وقد يكبر الإمام للركوع ثم يكبر المسمع خلفه ويطيل التكبير فيرفع الإمام من الركوع قبل أن ينقضي تكبير المسمع للركوع ويترتب على ذلك كثير من المحاذير التي لا يقرها الشرع ومن هذه المحاذير ما يأتي:
أ - أن المسبوق بركعة أو أكثر يأتي فيكبر للإحرام ويركع ظنا منه أن الإمام في الركوع لعلمه أن المسمع لم يرفع من الركوع فتفسد عليه صلاته.
ب - أن في هذا مخالفة للسنة لأن السنة في الصلاة أن يكون المأموم تبعا للإمام كما تقدم وفي فعل المبلغ هذا مدعاة لتأخر أفعال المأموم عن أفعال الإمام إلى حد أن يكون ركوع المأموم بعد رفع الإمام من الركوع ومثله السجود وبقية أفعال الصلاة.
جـ - اقتطاع جزء من صلاة المأمومين بسبب ما يحصل من صوت المبلغ.
خامسا: أن المبلغ قد يرفع صوته كثيرا مما يكون سببا في ذهاب الحضور والخشوع في الصلاة ويذهب السكينة والوقار ويقع به التشويش على المصلين ويحصل بسبب ذلك كثير من الأمور التي تتنافى مع حقيقة الصلاة.
__________
(1) فتح العزيز مطبوع مع المجموع 3 \ 268
(2) المجموع 3 \ 292
(3) المغني 1 \ 462(30/143)
سادسا: أن بعض المبلغين يتعذر عليه سماع الإمام في تكبيره وعلم ركوعه وسجوده فمثل هذا لا يجوز له أن يبلغ خشية أن يكون تبليغه للركوع مثلا بعد الانتهاء منه وهكذا وفي هذا تأخر لأفعال المأمومين عن أفعال الإمام وهو لا يجوز كما تقدم، ومثله إذا شك المبلغ في أفعال الإمام.
سابعا: أن بعض المبلغين يفعل التبليغ على طريقة جماعية وذلك بأن يبتدئ بعضهم بالتكبير فيقول: الله ويمد صوته ثم يبتدئ الآخر من أثناء الكلمة نفسها واصلا صوته بصوت الأول وهكذا. وفاعل هذا لم يأت بالتكبير على صيغته المشروعة وإنما أتى به مقطعا.
قال في المدخل: " وأما ما يفعلونه اليوم من كونهم يتواكلون في التكبير ويديرونه بينهم ويقطعونه ويوصلونه وذلك أن بعضهم يبتدئ التكبير فيقول: الله ويمد صوته ثم يبتدئ الآخر من أثناء الكلمة نفسها واصلا صوته بصوت صاحبه قبل انقطاعه مبالغا في رفع صوته على سبيل العمد وفاعل هذا لم يأت بالتكبير على وجهه وإذا كان ذلك كذلك فهو يشغل في الصلاة بزيادة غير مشروعة ولا لضرورة شرعية فتبطل صلاتهم والحالة هذه " ا. هـ (1) .
__________
(1) كتاب المدخل 2 \ 209(30/144)
النتيجة:
من العرض السابق لأقوال العلماء في حكم التبليغ خلف الإمام وبيان الأدلة السابقة يظهر ما يأتي:
1) - أن الأصل والأفضل أن يرفع الإمام صوته في جميع التكبيرات وقول: سمع الله لمن حمده وكذلك التسليم وهذا ما تؤيده الأدلة.
2) - إذا دعت الحاجة إلى التبليغ بسبب ضعف صوت الإمام لمرض ونحوه أو بسبب كثرة المصلين ونحوها فيشرع للمؤذن أو غيره رفع الصوت بالتكبير والتسميع والتسليم بشرط أن لا يحصل بسبب هذا الفعل محذور من المحاذير السابقة.(30/144)
3) - التبليغ خلف الإمام من غير حاجة بدعة منكرة وأمر لا يجوز فعله.
4) - قصد تكبيرة الإحرام من الإمام ومن المأموم أمر مطلوب شرعا فلا يدخل بالصلاة إلا إذا قصد بالتكبير الإحرام بالصلاة.
5) - إذا كان التبليغ لحاجة وصاحبه أمر من الأمور المنهي عنها فلا يجوز فعله لأن الأمر المشروع لا يتوصل إليه بالمحذور المنهي عنه شرعا.
6) - إذا كان التبليغ من غير حاجة وصاحبه شيء من الأمور المنهي عنها فإن الإثم يعظم والمنكر يشتد والبدعة تتضاعف.
7) - من الأمور المنهي عنها في التبليغ ما يأتي:
أ - الجهر بتكبيرة الإحرام من المبلغ بنية الإعلام لا بنية الإحرام.
ب - مسابقة الإمام في تكبيرة الإحرام أو التكبير للركوع أو الرفع منه أو السجود.
جـ - اللحن بالتكبير أو التحميد.
د - تأخر المبلغ في أداء التكبير أو التحميد.
هـ - رفع الصوت من المبلغ كثيرا مما ينتج عنه ذهاب الحضور والخشوع في الصلاة، ويذهب السكينة والوقار ويقع به التشويش على المصلين.
والتبليغ مع عدم سماع صوت الإمام في التكبيرات.
ز - التبليغ على طريقة جماعية خاصة إذا كان بعضهم يبتدئ في التكبيرات ثم يبدأ الآخر من حيث وقف الأول وهكذا. . .(30/145)
مراجع البحث
1 - بدائع الفوائد لابن القيم - ط المنيرية بمصر.
2 - ترتيب القاموس المحيط للفيروز ابادي - ترتيب الطاهر أحمد الزاوي - ط الثانية، عيسى البابي الحلبي.
3 - التلخيص الحبير، للحافظ ابن حجر العسقلاني، مطبوع مع كتاب المجموع شرح المهذب للنووي - ط المنيرية، مطبعة التضامن الأخوي.
4 - تنبيه ذوي الأفهام على أحكام التبليغ خلف الإمام، لخاتمة المحققين محمد أمين الشهير بابن عابدين، مطبوع مع رسائل ابن عابدين ط المنيرية بمصر.
5 - جواهر الإكليل شرح مختصر خليل للشيخ صالح عبد السميع الآبي الأزهري ط المعرفة للطباعة والنشر بيروت.
6 - حاشيتا قليوبي وعميرة على منهاج الطالبين - ط الرابعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت.
7 - حاشية ابن عابدين المعروفة برد المحتار لخاتمة المحققين محمد أمين الشهير بابن عابدين. ط الثانية دار إحياء التراث العربي 1407هـ - 1987 م.
8 - حاشية البيجوري على شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1343 هـ.
9 - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير. دار الفكر.
10 - روضة الطالبين لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي -ط الثانية 1405 - 1985م المكتب الإسلامي للطباعة والنشر.
11 - الصحاح تأليف إسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، ط الثانية 1402هـ 1982 م.
12 - صحيح البخاري لشيخ المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري - الناشر: محمد أوزدمير إستانبول تركيا.(30/146)
13 - صحيح مسلم لأبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري.
الناشر: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية سنة 1400هـ -1980م تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.
14 - صحيح مسلم بشرح النووي ط المصرية بالأزهر 1347 - 1929م ودار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
15 - فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني ترقيم وتصحيح محمد فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب ط السلفية ومكتبتها سنة 1380هـ.
16 - فتح العزيز شرح الوجيز وهو الشرح الكبير لأبي القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي مطبوع مع كتاب المجموع للنووي ط المنيرية ومطبعة التضامن الأخوي بمصر.
17 - الفروع لابن مفلح ومعه تصحيح الفروع للمرداوي ط الثالثة سنة 1379 - 1960 م.
18 - القول البديع في بيان أحكام التسميع للشيخ عبد الله أحمد الطاهر، مخطوط مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية رقم 2169 \ 8.
19 - لسان العرب لابن منظور الإفريقي، الناشر: دار صادر بيروت.
20 - المبدع شرح المقنع لابن مفلح، الناشر: المكتب الإسلامي 1402هـ - 1982م.
21 - مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر للشيخ عبد الله بن محمد بن سليمان المعروف بداماد أفندي، الناشر دار إحياء التراث العربي عن دار الطباعة العامرة.
22 - المجموع شرح المهذب لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي، ط المنيرية ومطبعة التضامن الأخوي.
23 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية إعداد محمد بن عبد الرحمن بن قاسم تصوير عن الطبعة الأولى 1398 هـ.
24 - مختصر الخرقي مطبوع مع كتاب المغني ط مكتبة الرياض الحديثة.
25 - المدخل لابن الحاج ط المطبعة المصرية الطبعة الأولى 1348 هـ 1929م.
26 - المعجم الوجيز، مجمع اللغة العربية ط المركز العربي للثقافة والعلوم لبنان.
27 - المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء إفريقية والأندلس والمغرب، تأليف أحمد بن يحيى الونشريسي، ط دار المغرب الإسلامي بيروت 1401 هـ - 1981م.(30/147)
28 - المغني لابن قدامة، ط مكتبة الرياض الحديثة 1401هـ - 1981م.
29 - الموسوعة الفقهية، إصدار وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية الكويت ط الأولى سنة 1407 هـ-1986 م.
30 - المهذب لأبي إسحاق الشيرازي الفيروز ابادي مطبوع مع كتاب المجموع للنووي الناشر: دار الفكر.(30/148)
دفع الدعوى
إعداد
مسفر بن حسين القحطانى (1)
تمهيد:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (3) {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (4) {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (5) {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (6) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (7) اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد:
فإن توحيد الله في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، على النهج الذي بينه رسوله - صلى الله عليه وسلم - والمتمسكون بهديه من بعده، العاضون بالنواجذ على سنته، هو ثمرة العلم الراسخ بأحكام العقيدة الإسلامية، وكذلك فإن تطبيق شريعة الله في جميع شؤون الحياة، على النهج الذي بينه علماء أصول الفقه، هو ثمرة العلم الراسخ بالشريعة الإسلامية. وكل علم شرعي لا ينتج ثمرة تتصل بتطبيق شريعة الله في أرضه، فإنه يقصر بصاحبه عن درجات العلماء الذين وصفهم الله بقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (8) .
__________
(1) وردت ترجمة للباحث في العدد 26 الصفحة (309) .
(2) سورة الفاتحة الآية 2
(3) سورة الفاتحة الآية 3
(4) سورة الفاتحة الآية 4
(5) سورة الفاتحة الآية 5
(6) سورة الفاتحة الآية 6
(7) سورة الفاتحة الآية 7
(8) سورة المجادلة الآية 11(30/149)
فلا بد - إذن - لطالب العلم الشرعي أن يقف عند كل حكم نظري يدرسه في كتب العلم، فيتأمل الثمرة العملية لذلك الحكم، فإن وجد الروابط بين الحكم النظري الرابط عكس ذلك، فإن اجتهاده في بحث ذلك الحكم مما لا يعود عليه بكبير نفع في عاجل أمره أو آجله. ولما سأل بعض السائلين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن علم نظري لا ثمرة له في واقع حياتهم، جاءهم الجواب من عند الله - مثمرا نافعا لهم في حياتهم الدينية والدنيوية، معرضا عما يطلبونه من علم لا نفع لهم فيه، فقال - جل ذكره -: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (1) وكان سؤالهم عن سبب محاق الهلال وكماله، ومخالفته لحال الشمس (2) .
وهذه قاعدة عظيمة النفع، لا بد لطالب العلم من الاهتداء بها، فلا يشغل نفسه إلا بما يكون له نفع في حياة الناس دنياهم وآخرتهم، وهكذا كان طلب العلم، في عهده صلى الله عليه وسلم، وعهد خلفائه الراشدين من بعده، فلم يكن هم طالب العلم أن يصنف المجلدات الكثيرة من الكتب، بل ما يهمه هو أن يتفهم ما يحدث للناس من وقائع ثم يجهد نفسه في استنباط الحكم الشرعي لها، وهذا بخلاف ما عليه كثير من طلاب العلم في الأزمنة المتأخرة، الذين يجهدون أنفسهم في بحث أحكام لوقائع أصبحت أحكامها معلومة في كل مذهب، معرضين عن وقائع لم تستنبط أحكامها من قبل، فحصل - بسبب ذلك - فجوة واسعة بين فقه الأحكام النظرية وفقه الأحكام العملية (التطبيقية) حتى قال ابن العربي - رحمه الله - في كتابه أحكام القرآن - معلقا على آية التحكيم في شقاق الزوجين - قال: " وهي (أي آية التحكيم) من الآيات الأصول، ولم نجد لها في بلدنا أثرا، فلا بكتاب الله - تعالى - ائتمروا، ولا بالأقيسة اجتزوا، وقد ندبت إلى ذلك، فما أجابني إلى بعث الحكمين - عند الشقاق - إلا قاض واحد، ولا إلى القضاء باليمين مع الشاهد إلا قاض آخر، فلما ولاني الله الأمر، أجريت السنة كما ينبغي " (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 189
(2) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 \ 341
(3) أحكام القرآن 1 \ 421(30/150)
وقال علاء الدين الطرابلسي، صاحب كتاب معين الحكم فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام: " وقد رأيت جواب جاهل للاعتناء بالفتيا - وقد أفتى في قناة ظهرت في دار مبيعة بالقرب من بئرها - فقال: يقال للشهود: هل يجب بذلك الرد، فإن قالوا: يجب، ردت. فليت شعري ما الذي استفتي هو فيه؟ إذا كان الشهود يسألون: هل يجب الرد أم لا؟ وهذا نهاية. . . .، وإذا فشت الجهالة في الناس ظننت حقا وحسبت سنة (1) .
قلت: وهذان المثالان يوضحان مزلة أقدام كثير من العلماء، الذين شغلوا أنفسهم بحفظ كثير من ضروب العلم النظري، ولكنهم لم يشغلوا أنفسهم بثمرة ذلك العلم فيطلبوا - أيضا - العلم بكيفية تطبيق تلك الأحكام العلمية النظرية على ما يحدث من الوقائع في حياة الناس أفرادا وجماعات؛ ولذا فقد يشار بالبنان إلى كثير من العلماء في جانب البحث والعلم النظري، ولكن تلك الدرجة تصبح أمرا موهوما عندما يمتحن في جانب البحث والعلم التطبيقي، كما في المقال الذي ذكره علاء الدين الطرابلسي.
وهذا، وإن من أهم مسائل العلم التطبيقي مسألة سير القاضي في نظر الخصومات، فإن الخصوم يدعون ويجيبون أمامه بجزئيات لم تذكر - في الغالب - بذاتها وأحكامها في كتب الفقه، والقاضي يجتهد في استنباط الوصف الشرعي للواقعة، ليبني على ذلك الوصف الحكم الشرعي بعد ثبوت الواقعة بالإقرار أو البينة.
وإذا كان اجتهاد القاضي - في البحث عن الوصف الشرعي للدعوى المعروضة أمامه - يظهر مقدرته ورسوخ علمه النظري والتطبيقي، فإن الأهم من ذلك - هو اجتهاده في تقرير الوصف الشرعي لجواب المدعى عليه - وذلك لأن سير القاضي في نظر الخصومة مترتب على ما يجيب به المدعى عليه، ومن الواقع العلمي - فإن أقل ما يجيب به المدعى عليه هو الجواب بالإقرار. والكثير أن يجيب بالإنكار، وأكثر من ذلك أن يجيب بدفع الدعوى، ومعنى ذلك أن أكثر عمل القاضي - في الواقع - ينبني على الجواب بدفع الدعوى - ولذا فإن ما نحن بصدد بحثه - لأهميته المذكورة - هو جواب المدعى عليه بدفع الدعوى، فنقول - ومن الله نستمد الهداية والسداد:
__________
(1) معين الحكام ص 130(30/151)
معنى دفع الدعوى: لم يذكر الفقهاء - رحمهم الله - تعريفا جامعا مانعا لدفع الدعوى، مكتفين بأنه نوع من أنواع الدعاوى ولا فرق بينه وبين بقية الدعاوى، إلا أنه يأتي من جهة المدعى عليه؛ ولذا سموا هذه الدعوى القادمة من جهة المدعى عليه: دعوى الدفع.
ولكن بعض الفقهاء - في العصر الحديث - قال: " دفع الدعوى هو: دعوى من قبل المدعى عليه، أو من ينتصب المدعى عليه خصما عنه، يقصد بها إبطال دعوى المدعي ".
وقال بعضهم: " هو الإتيان بدعوى من قبل المدعى عليه تدفع دعوى المدعي " وقال آخرون عن دفع الدعوى بما لا يبعد عن القولين السابقين.
ولا شك أن هذه الأقوال لم تعرف الدفع تعريفا منطقيا، فهو وإن كان جامعا لدعاوى الدفع الصحيح فإنه لا يمنع من دخول دعوى الدفع غير الصحيح، كما لو دفع المدعى عليه بقوله: إن هذه العين محل النزاع قد وصلت إلى يدي بالشراء من فلان بن فلان الغائب، فإن هذا الجواب لا يعتبر دفعا صحيحا؛ لأنه لا ينعكس على ذات الدعوى والمدعي ويأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.(30/152)
الفروق بين دفع الخصومة ودفع الدعوى:
قال أحد الباحثين: " إن المفهوم الذي ذكره الفقهاء المسلمون للدفع يشمل تحته نوعين من الدفوع:(30/152)
النوع الأول: الدفع الذي يقصد به إبطال نفس دعوى المدعي (1) ، والغرض الذي يرمي إليه بها، وهذا هو الدفع الموضوعي للدعوى، حيث يتعرض فيه لصدق المدعي وكذبه، ويترتب على قبوله وضع حد نهائي لمطالب المدعي ومنعه من التعرض ثانية للمطلوب، ومثاله: أن يدعي المدعى عليه على المدعي - في دعوى العين - أنه اشتراها منه وقبضها منه، أو وهبها له وقبضها، أو أي سبب شرعي لانتقالها إلى يده (2) .
النوع الثاني: الدفع الذي يقصد به دفع الخصومة عن المدعى عليه، بدون تعرض لصدق المدعي أو كذبه في دعواه، وهو ما يسميه الفقهاء: بدفع الخصومة، ومثاله: أن يدفع المدعى عليه بأن يده على الشيء المدعى ليست يد خصومة، كأن يدعي أنه مستأجرها أو مستعيرها أو غاصبها من فلان الحاضر أو الغائب، فإن أثبت ذلك حكم القاضي: بأن لا خصومة بين المتداعين (3) بدون تعرض للملكية، وللمدعي أن يدعي ملكية العين على الخصم في أي وقت يريد، والنوع الأول تختلف صوره باختلاف القضايا، وصوره كثيرة، لا يمكن حصرها، لأنه يتعلق بالحق المدعى به، والحقوق كثيرة، فكذلك ما يتعلق بها من الدفوع، وأما النوع الثاني: فمع أن الفقهاء لم يذكروا له إلا صورة واحدة إلا أننا نستطيع أن نتبين من خلال الشروط التي اشترطوها لصحة الدعوى صورا أخرى لهذا الدفع (4) .
وخلاصة الفرق - بعد هذا - أن دفع الدعوى: يقصد به إبطال نفس الدعوى، أما دفع الخصومة فيقصد به دفع الخصومة دون أن يتعرض لصدق المدعي أو كذبه في دعواه
__________
(1) وهو دفع الدعوى
(2) المنهاج، وشرح المحلى وحاشية قليوبي 4 \ 337
(3) مجمع الأنهر 2 \ 270، تبيين الحقائق 4 \ 313، بدائع الصنائع 6 \ 231
(4) نظرية الدعوى 2 \ 155(30/153)
حكم الدعوى: ولبيان حكم دفع الدعوى جملة اعتبارات هي: حكمه باعتبار مشروعيته، وحكمه باعتبار الأثر المترتب على صحته أو عدمها، وحكمه باعتبار الأثر المترتب على ثبوته أو عدمه.
أ - حكم دفع الدعوى باعتبار مشروعيته: لا خلاف بين الفقهاء في سماع جواب المدعى عليه بدفع صحيح، كقوله: إنه - أي المدعى عليه - اشترى العين من المدعي، أو أن المدعي وهبها، أو أي سبب شرعي لانتقالها إلى يده أو أنه قضى الدين المدعى به. وما اتفق الفقهاء على سماعه، فإنهم متفقون - بالضرورة على مشروعيته.
أما مستند اتفاق الفقهاء - رحمهم الله - على مشروعية دعوى الدفع، فلم يذكروا - رحمهم الله - مستندا نصيا لذلك، وحيث لم يذكروا نصا، فإن المصلحة المرسلة هي الأصل في مشروعية كل حكم لم يرد به نص. إلا أننا بالرجوع إلى أقضية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا نعدم نصا دالا على مشروعية دعوى الدفع ومن ذلك:
1 - ما رواه خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي، فاستتبعه إلى منزله ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشي، وأبطأ الأعرابي بالفرس، فطفق رجال يعترضون الأعرابي يساومونه الفرس، لا يشعرون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتاعه، فنادى الأعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته، فقام النبي صلى الله عليه وسلم - حين سمع نداء الأعرابي فقال: أو ليس قد ابتعته منك؟ فقال الأعرابي: لا، والله ما بعته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بلي قد ابتعته منك، فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيدا، فقال خزيمة: أنا أشهد أنك بايعته، فأقبل النبي- صلى الله عليه وسلم - فقال: بم تشهد؟ قال: بتصديقك يا رسول الله، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادة خزيمة شهادة رجلين (1) » . أخرجه أبو داود والنسائي.
__________
(1) سنن النسائي البيوع (4647) ، سنن أبو داود الأقضية (3607) .(30/154)
ووجه الدلالة - في هذا الحديث - أن الأعرابي يدعي ملكية الفرس محل النزاع، والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر ما يدعيه الأعرابي، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - دفع دعوى الأعرابي بدعوى مقابلة وهي انتقال الفرس إليه - صلى الله عليه وسلم - بطريق الشراء من الأعرابي، وقد أنكر الأعرابي دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أثبت - صلى الله عليه وسلم - صحة دفعه بشهادة خزيمة - رضي الله عنه، وهذا ما يعرف بدفع الدعوى.
2 - ما رواه معمر عن الزهري أو قتادة أو كليهما: «أن يهوديا جاء يتقاضى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قضيتك. قال اليهودي: بينتك، قال: فجاء خزيمة الأنصاري فقال: أنا أشهد أنه قد قضاك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدريك؟ قال: إني أصدقك بأعظم من ذلك - أصدقك بخبر السماء، فأجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادته بشهادة رجلين (1) » .
ووجه الدلالة: أن المدعي - في هذا الحديث هو اليهودي، والمدعى عليه هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك فلم تطلب البينة من اليهودي عملا بقاعدة: " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " وقاعدة: " بينة الخارج مقدمة على بينة الداخل "؛ وذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر دعوى اليهودي، كما لم يقر ببقاء الحق في ذمته - صلى الله عليه وسلم - ولكنه - صلى الله عليه وسلم - دفع دعوى اليهودي بدعوى أخرى ناسخة لدعوى اليهودي، وهي أداؤه - صلى الله عليه وسلم - الحق الذي في ذمته لليهودي، التي شهد بصحتها خزيمة رضي الله عنه - وهذا هو معنى دفع الدعوى في صورته المتفق عليها بين الفقهاء.
__________
(1) انظر تحقيق أقضية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحقيق الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي، وقال المحقق ذكره عبد الرزاق في مصنفه (8 - 367)(30/155)
ب - حكم دفع الدعوى باعتبار الأثر المترتب عليه: ولذلك أقسام هي:
1 - حكم دفع الدعوى باعتبار صحته: متى وجد الدفع الصحيح من المدعى عليه صار المدعى عليه مدعيا، والمدعي يصير مدعى عليه، وحينئذ يسير القاضي معه(30/155)
الخصوم كسيره في الدعوى الأصلية، فيسأل المدعي الأصلي - الذي أصبح في مركز المدعى عليه - عن جوابه على دعوى الدفع. . وهكذا كسيره في الدعوى الأصلية.
2 -حكم دفع الدعوى باعتبار عدم صحته: إذا أجاب المدعى عليه بدفع غير صحيح - بأن لم يستوف الدفع شروطه أو أحدها - فإن الجواب - حينئذ - يكون صحيحا. وعلى القاضي أن يفهم المدعى عليه بأن له أن يجيب جوابا صحيحا وإلا اعتبره ناكلا عن الجواب ويقضي عليه.
3 - حكم دفع الدعوى باعتبار ثبوته: إذا أقر المدعي بما دفع به خصمه المدعى عليه لزمه ما أقر به، واندفعت دعواه الأصلية وصرف القاضي النظر عنها، وكان للدافع الاحتجاج بالحكم الصادر بقبول دفعه أمام أي قاض يجدد المدعي دعواه عنده.
أما إذا أنكر فإن القاضي يسأل الدافع عما لديه من بينات تثبت دفعه، فإن أثبته بحجة شرعية اندفعت دعوى المدعي الأصلي. وإن عجز عن الإثبات أفهمه القاضي بأن له طلب اليمين النافية لدفعه يطلبها من المدعي الأصلي فإذا طلبها وجه القاضي اليمين الشرعية إلى المدعي الأصلي، فإن نكل عن اليمين قامت دعوى الدفع وصرف القاضي النظر عن الدعوى الأصلية لسقوطها بقيام دعوى الدفع(30/156)
4 - حكم دفع الدعوى باعتبار انتقائه: إذا عجز المدعي - دفعا - عن إثبات ما دفع به، وحلف خصمه على نفي دعوى الدفع، فإن دعوى الدفع تصبح ساقطة، أما سير القاضي حينئذ - فإنه يتجه إلى واحد من اتجاهين اثنين:
الاتجاه الأول: وذلك فيما إذا تضمن دفع الدافع إقرارا بالدعوى - كدفع دعوى الدين بالأداء أو الإيداء لذات الدين - فإن القاضي يفصل الخصومة بإلزام الدافع بما أقر به (1) .
الاتجاه الثاني: وذلك فيما إذا لم يتضمن دفع الدافع إقرارا بما يدعيه المدعي - وصورة هذا الدفع أن يجيب المدعى عليه بأن المدعي كان قد أبرأه من هذه الدعوى - فإن القاضي - حينئذ - يسير في نظر الدعوى الأصلية، كما لو لم يكن هناك دفع (2) .
قاعدة: فيما يعتبر إقرارا من الدفوع وما لا يعتبر: لم يذكر الفقهاء - رحمهم الله قاعدة تفصل بين الدفع الذي يقتضي إقرارا بالدعوى والدفع الذي لا يقتضي إقرارا بالدعوى (3) ولكن بعضهم ضرب لذلك مثالا يشبه القاعدة فقال: البراءة من دعوى المال ليس إقرارا بالمال (4) ، وهذا فرع عن القاعدة المقررة وهي " طلب الصلح والإبراء عن الدعوى لا يكون إقرارا، وطلب الصلح والإبراء عن المال يكون إقرارا (5) وذلك لأن المقصود من الإبراء من دعوى المال هو قطع النزاع، فلا يفيد ثبوت الحق، بخلاف طلب الإبراء من الحق ذاته، فإنه يفيد ثبوته (6) .
__________
(1) انظر محاضرات في المرافعات الشرعية د \ عبد العظيم شرف الدين ص85
(2) انظر محاضرات في المرافعات الشرعية د \ عبد العظيم شرف الدين ص85
(3) نظرية الدعوى 2 \ 194
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 261
(5) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص 261
(6) محاضرات في المرافعات الشرعية ص86، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4 \ 88(30/157)
أمثلة: أ - أمثلة الدفع المتضمن إقرارا:
1 - أن يدعي شخص على آخر بدين معين، فيدفع المدعى عليه قائلا: إن المدعي كان أبراني من هذا المبلغ الذي يطلبه. وبعرض هذا الدفع على المدعي أنكره، وبسؤال الدافع عما يثبت دفعه عجز عن إحضار البينة - وبإفهامه بأن له اليمين النافية لدفعه طلبها فحلف المدعي على عدم الإبراء، فإن المدعي يستحق ما ادعى به من غير تكليفه ببينة أخرى، لأن المدعى عليه قد أقر بدفعه أنه كان مدينا بالمبلغ الذي يدعيه خصمه، والأصل بقاء اشتغال ذمته إلى أن يثبت العكس، وهذا لم يثبت فيحكم للمدعي بالدين الذي يطالب به (1) .
2 - ادعى شخص أن آخر اشترى منه بمبلغ معين، فدفع المدعى عليه بأن المدعي أقاله من هذا المبلغ، وبعد النظر في دفعه عجز عن إثبات دفعه بالإقالة، وحلف المدعي على نفي دعوى الإقالة فإن دعوى المدعي تصبح ثابتة بإقرار المدعى عليه المفهوم من دفعه ويحكم بذلك على المدعى عليه بدفع المبلغ المذكور (2) .
هذا بالنسبة لدعاوى الدين، وقد يتصور حصول ذلك في دعاوى العين - أيضا كما لو:
3 - ادعى شخص على آخر بملكية عين في يد ذلك الآخر، فدفع ذو اليد بأنه اشتراها من المدعي، أو أن المدعي وهبها له أو نحو ذلك - وبعد النظر القضائي - لم يستطع إثبات دفعه، وحلف المدعي على عدم البيع أو الهبة، فإن المدعي - حينئذ يستحق العين المدعاة بسبق إقرار المدعى عليه الذي تضمنه دفعه والأصل عدم البيع حتى يثبت خلافه، ولم يثبت (3) .
__________
(1) محاضرات في المرافعات الشرعية ص85، نظرية الدعوى 2 \ 193
(2) نظرية الدعوى 2 \ 194
(3) نظرية الدعوى 2 \ 194(30/158)
ب - أمثلة الدفع الذي لا يتضمن إقرارا:
1 - أجاب المدعى عليه بقوله: إن المدعي أقر بأن ليس له حق فيما يدعيه علي(30/158)
مطلقا - وبعد النظر القضائي - عجز عن إثبات ما دفع به، وحلف المدعى عليه اليمين النافية للدفع، فإن هذا الدفع لا يتضمن إقرارا بأصل الدعوى (1) .
2 - أجاب المدعى عليه - دفعا - بقوله: إن المدعي كان قد أبرأني من الدعوى بهذا الحق أو من الخصومة به - وبعد النظر القضائي - عجز المدعى عليه عن إثبات هذا الدفع، وحلف المدعي اليمين النافية لهذا الدفع، فإن هذا الدفع لا يعتبر إقرارا بالحق المدعى به، ولا يحكم به للمدعي إلا بالإثبات منه أو بالنكول من خصمه (2) . وذلك لأن المقصود من الإبراء من دعوى المال هو قطع النزاع فلا يفيد ثبوت الحق، بخلاف طلب الإبراء من الحق ذاته، فإنه يفيد ثبوته (3) .
قلت: وما ذكره بعض الفقهاء من أن الدفع في هذين المثالين لا يتضمن إقرارا محل نظر وذلك لأنه لا فرق بين الإيداء من الدعوى أو الإيداء من المال المدعى به، حيث إن المال المدعى به ركن من أركان الدعوى وجزء من ماهيتها، وما يتوجه إلى الكل فإنه يتوجه إلى بعض الكل أيضا.
قاعدة: واجتهادنا - في تقعيد ما يتضمن إقرارا من الدفوع وما لا يتضمن هو: كل دفع يلزم منه انتساخ دعوى المدعي بأمر طارئ عليها فهو إقرار بدعوى المدعي، كالأمثلة السابقة، وما ليس كذلك فليس فيه إقرار بدعوى المدعي. ومثال هذا الدفع
__________
(1) نظرية الدعوى 2 \ 194.
(2) نظرية الدعوى 2 \ 194، محاضرات في المرافعات الشرعية ص85، 86
(3) محاضرات في المرافعات الشرعية ص86، درر الحكام شرح مجلة الأحكام 4 \ 88.(30/159)
الذي لا يتضمن إقرارا بالدعوى هو: أن يجيب المدعى عليه قائلا: إن المدعي ذكر في دعواه أن الحصان المدعى به لونه أبيض وهذا الحصان الذي في يدي كما ترونه - أسود اللون. فهذا الدفع يلزم منه تناقض المدعي في دعواه ولا يتضمن إقرارا بالدعوى كما لا يلزم منه انتساخ الدعوى - في حال ثبوته - بل اللازم كما ذكرنا - التناقض في الدعوى.(30/160)
شروط دفع الدعوى:
لما كان الفقهاء - رحمهم الله - قد اعتبروا الدفع نوعا من الدعاوى حتى إنهم حينما وضعوا تعريفهم للدعوى حرصوا على أن يدخلوا فيه دفعها، فإنه من البديهي أن يشترطوا لصحة ما اشترطوه لصحة الدعوى في مختلف عناصرها من أهلية وصفة في أطراف الدعوى ومعلومية في الحق المدعى، ومشروعية فيه، وغير ذلك من الشروط، ويضاف إليها بعض الشروط المستمدة من كون دفع الدعوى مرتبطا بدعوى سابقة عليه (1) وهي:
الشرط الأول: أن يوجه الدفع إلى دعوى صحيحة: فإن كانت الدعوى الأصلية باطلة فلا خلاف في قبوله؛ إذ ليس للدعوى الباطلة حكم، وهي تعتبر في حكم المنعدمة، والتصدي لدفعها تحصيل حاصل، وهو عبث.
__________
(1) نظرية الدعوى ص 191. ج2(30/160)
أما إذا كانت الدعوى الأصلية فاسدة، فهل يقبل دفعها من قبل المدعى عليه؟ الرأي الراجح عند الحنفية أن الدفع الصحيح للدعوى الفاسدة صحيح. فإن قيل: ما فائدة دفع الدعوى الفاسدة مع أن القاضي لا يسمعها؟ ! أجيب بأنه لو ادعاها على وجه صحيح يكون الدفع الأول كافيا (1) ومثال ذلك: لو ادعى مدع بدعوى دون تعيين المدعى به فدفع المدعى عليه هذه الدعوى الفاسدة بقوله: لقد أبرأتني من جميع الدعاوى، يقبل هذا الدفع منه، فإن أثبت المدعى عليه هذا الدفع وجب على القاضي ردها، ولا يبقى للمدعي حق في إصلاح دعواه من فسادها ودفعها مرة ثانية صحيحة (2) .
الشرط الثاني - عدم التناقض في الدفع، سواء كان التناقض مع كلام صادر عن الدافع في جواب الدعوى، أو في دفع آخر سبق أن أبداه، أم كان صادرا خارج مجلس القضاء، وهذا شرط في الدعوى -أيضا - ولكن حصول التناقض في الدفع أوسع نطاقا (3) .
الشرط الثالث: أن ينعكس الدفع على دعوى المدعي، بحيث يتعارض معها في حال ثبوته، كما في أمثلة دفع الدعوى السابق ذكرها، فإذا اختل هذا الشرط فإن الدفع لا يكون صحيحا، ومثال الدفع الفاقد لهذا الشرط: أن يدعي شخص على آخر مالا قائلا: إن هذا المال الذي في يد المدعى عليه ملك لي وأطلب تسليمي إياه، وبعد عرض الدعوى أجاب المدعى عليه بقوله: إن المدعي قد أقر بأن شخصا آخر قد أخذ
__________
(1) نظرية الدعوى 2 \ 191، البحر الرائق 7 \ 231
(2) نظرية الدعوى 2 \ 191، أصول استماع الدعوى ص83
(3) نظرية الدعوى 192(30/161)
منه المال الذي يدعيه. فإن هذا الدفع لا ينعكس على الدعوى الأصلية (1) . لأن الدعوى تقام على صاحب اليد؛ وإقرار المدعى عليه أن شخصا آخر أخذ المال لا يلزمه بشيء؛ لأنه همه استرداد ماله من اليد التي وصل إليها.
هذا ما ذكره بعض الفقهاء في شروط دفع الدعوى والملاحظ أن الشرط الأول فيه بعض نظر؛ وذلك لأن اشتراط وجود دعوى صحيحة يوجه إليها الدفع من باب تحصيل الحاصل؛ لأن القاضي لا يسأل المدعى عليه عن الدعوى إلا إذا بلغت درجة الصحة، أما قبل ذلك فإن جواب المدعى عليه بالدفع أو غيره من الأجوبة يكون لغوا لا فائدة فيه؛ لأنه لم يصادف محله. أما الشرط الثاني فإن اشتراطه لا يخص دعوى الدفع دون غيرها، بل هو شرط عام لجميع الدعاوى. أما الشرط الثالث فهو شرط خاص بالدفع، بل هو أهم شروطه.
فائدة: جملة القول - فيما نرجحه ونستنبطه -: فإن شروط دفع الدعوى تشمل شروطا عامة وشروطا خاصة. أما الشروط العامة فإنه يلزم توافرها في دعوى الدفع وفي جميع أنواع الدعاوى، وبسط البحث في هذه الشروط خارج عما نحن بصدد بحثه.
أما الشروط الخاصة فإنه يلزم توافرها في دعوى الدفع، ولا يلزم توافرها في غيرها من الدعاوى وهي كما يلي:
الشرط الأول: أن تكون دعوى الدفع جوابا قضائيا، بمعنى أن تكون دعوى الدفع جوابا صادرا من المدعى عليه، بعد أن يسأله القاضي الجواب على دعوى المدعي، ومعلوم أن القاضي لا يسأل المدعى عليه الجواب إلا بعد أن تتجاوز دعوى المدعي مرحلة البطلان والفساد إلى مرحلة الصحة. فإذا أجاب المدعى عليه بدعوى الدفع قبل أن يسأله القاضي الجواب على دعوى المدعي، فإن ذلك لا يكون دفعا صحيحا، بل
__________
(1) انظر محاضرات في المرافعات الشرعية ص94(30/162)
يكون لغوا لا أثر له، كما لو حلف المدعى عليه قبل أن يوجه القاضي اليمين إليه ومثال دعوى الدفع الفاقدة لهذا الشرط: أن يبادر المدعى عليه القاضي قائلا - قبل أن يبدأ المدعي في دعواه - أو قبل أن تصح دعواه: إن ما يدعيه المدعي غير صحيح؛ لأني قد أديت إليه الدين الذي يدعيه - فهذا القول - وإن كان دفعا للدعوى - إلا أنه لم يقع في محله الشرعي؛ فلم يكن جوابا قضائيا.
الشرط الثاني: أن تكون دعوى المدعي قضائية: بمعنى أن تكون مرفوعة أمام القضاء، فإذا لم تكن دعوى المدعي مرفوعة أمام القضاء، فإن دعوى دفعها أمام القضاء يعرف لدى الفقهاء بالدعوى المقلوبة وهي غير مسموعة (1) ، لأن المشتكي فيها يطلب فيها إجبار خصمه ليقيم دعواه، وقد اتفق الفقهاء، على أن الشخص لا يجبر على إقامة دعواه.
ومثال الدفع الفاقد لهذا الشرط أن يقول المدعى عليه: إن فلانا الغائب عن مجلس القضاء يدعي أنه أقرضني مبلغ كذا، وأنا كنت قد أديت إليه ذلك المبلغ، وأطلب إحضاره لأثبت أني أديت إليه ذلك المبلغ، أو يحلف أني ما أديت إليه.
__________
(1) الفروع لابن مفلح 6 \ 460(30/163)
الشرط الثالث: أن تتعارض دعوى الدفع مع الدعوى المدفوعة بحيث لا يمكن الجمع بينهما في حال افتراض ثبوت الدفع، فإذا لم تتعارض دعوى الدفع الصادرة من المدعى عليه مع الدعوى المدفوعة الصادرة من المدعي فإن الدفع لا يكون صحيحا.
ومثال الدفع الفاقد لهذا الشرط: أن يجيب المدعى عليه بقوله: إن هذه العين التي يطلبها المدعي ملكتها - أنا المدعى عليه - بطريق الشراء من فلان الغائب - فإن هذا الدفع لا يتعارض - على افتراض ثبوته - مع دعوى المدعي؛ لأن البائع ربما غصبها أو سرقها من المدعي ثم باعها على المدعى عليه، فأمكن بهذا الجمع بين دعوى الدفع والدعوى المدفوعة، وحينئذ فإن القاضي يلزم المدعى عليه الذي لم يصح دفعه أن يجيب بجواب شرعي صحيح وإلا اعتبره ناكلا عن الجواب وقضى عليه.
إثبات الدفع: إثبات دعوى الدفع كغيرها من الدعاوى، فيجري إثباتها بجميع وسائل(30/164)
الإثبات الشرعية من الإقرار والشهادة والقرينة في نزاع التجاحد، وبالنص والأثر والفتوى والعرف في نزاع التصادق، وقد أشكل على كثير من الفقهاء تقديم بينة الدافع الذي هو المدعى عليه - في الأصل - على بينة المدعى عليه - في الأصل - الذي دفعت دعواه ومخالفة ذلك للقاعدة المجمع عليها (1) البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " وقاعدة: "بينة الخارج مقدمة على بينة الداخل " وقاعدة: " بينة غير الحائز مقدمة على بينة الحائز " والحق: أن طلب البينة من المدعى عليه على دعوى الدفع التي أثارها ليس فيه مخالفة لقاعدة " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " وذلك لأن المدعى عليه أصبح - في دعوى الدفع - مدعيا كما أصبح المدعي مدعى عليه، وطلب البينة - حينئذ - لم يوجه إلى المدعى عليه وإنما وجه إلى المدعي، فلا مخالفة - في ذلك - للقاعدة النصية المذكورة - أما القاعدتان الأخريان فإنه لا مستند لهما من النص وفي القاعدة النصية ما يغني عنهما
__________
(1) انظر الإجماع لابن المنذر ص29 نشر دار الكتب العلمية - بيروت(30/165)
الجواب على دفع الدعوى: إذا أجاب المدعى عليه بدفع صحيح، فلا بد من عرضه على المدعي، باعتباره دعوه مكتملة الأركان والشروط وينعكس - حينئذ - موقف المتنازعين، فيصبح المدعي مدعى عليه، والمدعى عليه مدعيا، وقد يجيب المدعى عليه(30/166)
صفحة فارغة(30/167)
في دعوى الدفع - يدفع أيضا، وحينئذ تسمى هذه الأخيرة بدعوى (دفع الدفع) (1) وهكذا.
ومثال دفع الدفع: أن يدعي شخص قائلا في دعواه: إن لي في ذمة المدعى عليه الحاضر مبلغ ألف دينار وأطلب إلزامه بدفعها إلي، ويعرض الدعوى على المدعى عليه أجاب بقوله: إن المدعي أبرأني من هذا المبلغ، وبعرض هذا الدفع على المدعي المدفوعة دعواه أجاب قائلا: أنا أبرأت المدعى عليه ولكنه رد إبرائي ولم يقبله، وبعرض دفع الدفع هذا على المدعى عليه أجاب بإنكاره لرد الإبراء، وبسؤال مدعي دفع الدفع عما لديه من بينات تثبت دفع الدفع المذكور، أحضر بينته التي شهدت بصحة دعوى دفع الدفع (2) . وهكذا يكمل القاضي نظر القضية كما تقدم ذكره في نظر دعوى الدفع.
__________
(1) الأصول القضائية للشيخ علي قراعة ص 60
(2) محاضرات في المرافعات الشرعية ص90.(30/168)
تأخر الجواب بالدفع:
يجوز للدافع أن يؤخر الدفع إلى قبل صدور الحكم أما إذا صدر الحكم فلا يقبل منه الدفع وذلك لما يلي:
1 - القول بصحة الدفع بعد الحكم يقتضي المخالفة لما يفيده قوله - صلى الله عليه وسلم - «شاهداك أو يمينه (1) » . قال بعض الفقهاء: " فاليمين إذا كانت تطلب من المدعي فهي مستند للحكم صحيح، ولا يقبل المستند المخالف لها بعد فعلها؛ لأنه لا يحصل بكل واحد منها إلا مجرد الظن لا ينقض بالظن (2) .
2 - القول بصحة الدفع بعد الحكم يقتضي نقض الحكم، وهذا مخالف للقاعدة المقررة، وهي: " الدعوى متى فصلت بالوجه الشرعي مستوفية شروطها لا تنقض ولا تعاد (3) .
__________
(1) صحيح البخاري الرهن (2516) .
(2) الروضة الندية شرح الدرر البهية 2 \ 267.
(3) الأصول القضائية ص60.(30/169)
المشكلة الاقتصادية
وكيف تحل في ضوء الكتاب والسنة
إعداد
الدكتور \ حسين مطاوع الترتوري (1) أستاذ مشارك بكلية التربية
جامعة الملك سعود
مقدمة:
هذا البحث يعالج موضوعا اقتصاديا هاما: المشكلة الاقتصادية والمذهبان الرأسمالي والماركسي إنما وجدا - كما يدعي أصحابها - للتغلب على المشكلة الاقتصادية، وبالتالي تحقيق الرفاهية والسعادة للناس.
وفي هذا البحث تجد تحديدا للمشكلة الاقتصادية من وجهة نظر الرأسماليين ومن جهة نظر الماركسيين ثم من وجهة نظر الإسلام وبيان أن المذهبين الرأسمالي والماركسي جانبا الصواب في تحديد المشكلة الاقتصادية مما جعل الحلول التي وضعوها للتغلب على هذه المشكلة غير مناسبة.
أما في الإسلام فقد حددت المشكلة الاقتصادية بالدليل المبني على النص ثم بينت الوسائل والأساليب التي شرعها الإسلام وحل المشكلة الاقتصادية.
__________
(1) وردت ترجمة للباحث في العدد (20) الصفحة (233)(30/171)
وتختلف المذاهب الاقتصادية العالمية في تحديد المشكلة الاقتصادية وبالتالي في وضع الحلول السلمية لها.
فالنظام الاقتصادي الرأسمالي يرى أن المشكلة الاقتصادية تكمن في قلة الموارد الطبيعية للثروة وفي قلة عوامل الإنتاج. فالإنسان بالمفهوم الرأسمالي له حاجاته متعددة ومتجددة غير محدودة، ووسائل إشباع هذه الحاجات محدودة نسبيا سواء أكان الإنسان بما لديه من طاقة أو الأرض بما فيها من موارد، وعلى فرض استغلال الإنسان لطاقته وما في هذا الكون استغلالا كفؤا فإنه لا يستطيع تحقيق كل ما يرغب فيه. وقد عبر عن ذلك روبرت مالتس أستاذ التاريخ والاقتصاد بجامعة هاليبري بقوله: إن تكاثر السكان يجري وفق متوالية هندسية: 1 و2 و4 و8 و16 و32 وهكذا، بينما إمكانية الزيادة في الإنتاج الزراعي يجري وفق متوالية حسابية: 1 و2 و 3 و4 و5 و6 وهكذا (1) . ومن هنا تنشأ المشكلة الاقتصادية أو مشكلة الندرة. وهذه المشكلة لا بد لها من حل. والحل الأمثل لها عندهم أن يقوم التوزيع على أساس فردي وأن لا يكون للحاجة دور في التوزيع وأن يقتصر التوزيع على أساس العمل الحر. وفي ظل هذه الحرية التامة والتنافس بين الناس يحصل التقدم ويستطيع الإنسان إشباع رغباته في أوسع نطاق وبأقل تكلفة. فكل من المنتج والعامل يستغل طاقته وإمكاناته ويوجهها فيما يحقق له أعلى درجة من الربح، وبالتالي الرفاهية المنشودة من غير وضع أي قيد على صاحب المال أو العامل لأن من حق أي فرد في المجتمع أن يتصرف بماله ويستغل طاقته، ولا تتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي إلا بالقدر الذي يتطلبه حفظ النظام العام وتوطيد الأمن، وهذا يحقق للرأسماليين ما يطمحون إليه من تنمية الثروة الكلية للمجتمع وبالتالي حل المشكلة الاقتصادية كما يزعون (2) .
وفي المذهب الماركسي تكمن المشكلة الاقتصادية في عدم تطور علاقات التوزيع مع شكل الإنتاج، ومهمة علماء الاقتصاد في نظر ماركس اكتشاف قوانين التطور التي جرى التاريخ وفقا لها والتي لا دخل للإنسان فيها مما يفرض على المجتمع تغييرا في علاقات
__________
(1) أصول المذاهب الاقتصادية، لمصطفى كمال فايد ص82 - 83
(2) المصدر نفسه ص59، اقتصادنا لمحمد باقر الصدر ص352 - 354، ص667(30/172)
التوزيع. وقد ذكر ماركس في البيان الشيوعي الأول أن تاريخ الجماعات كافة ليس إلا تاريخ الصراع الطبقي (1) . وذكر في كتابه رأس المال أن طريقة التوزيع تختلف تبعا لاختلافات في طبيعة الجهاز الاجتماعي الذي يقوم بعلمية الإنتاج وتبعا لما يطابقه من مستوى التطور التاريخي الذي بلغه المنتجون (2) وهذا مثال يوضح مذهب ماركس في التوزيع، ففي المرحلة الاشتراكية يجوز للمنتج أن يملك عوامل إنتاج فردية، لذا كان توزيع الثروة في هذه المرحلة حسب قاعدة (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله) . وأما في المرحلة الشيوعية فإن الإنتاج يتطور في مفهومه ووسائله بحيث لا يجوز للمنتج أن يملك وسيلة إنتاج فردية، لذا تطور عندهم مفهوم توزيع الثروة فقالوا: (من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته) .
والنظامان الرأسمالي والماركسي لم يحسنا تحديد المشكلة الاقتصادية وبالتالي كان علاجهما لها خاطئا مما زاد المشكلة تعقيدا.
فالنظام الرأسمالي الذي يهدف كغيره من الأنظمة الاقتصادية إلى زيادة الإنتاج ووضع حل للمشكلة الاقتصادية فإنه يهتم بالثروة الكلية للمجتمع بغض النظر عما يلحق كل فرد من هذه الثروة، ومن هنا جاز في المفهوم الرأسمالي أن يستغني صاحب المصنع عن آلاف العمال وأن يحل محلهم الرجل الآلي والحاسبات الآلية إذا كان هذا الأمر يزيد في ربحه ويزيد في الثروة الكلية للمجتمع. مع أن هذا الاستغناء يلحق الأذى في كل من
__________
(1) أصول المذاهب الاقتصادية لمصطفى كمال فايد ص284
(2) رأس المال لكارل ماركس ترجمة الدكتور راشد البراوي ص41.(30/173)
استغني عنه من العمال، الأمر الذي يترتب عليه سوء في توزيع الثروة وتفاوت شديد بين دخل الأفراد. وقد قام معهد هرش بالولايات المتحدة الأمريكية بدراسة كانت نتيجتها حسب ما يتوقعون أن العالم سنة 2000 سيقسم إلى أربع مجموعات بحسب التقدم الصناعي في دول العالم وسيكون متوسط الدخل في دول المجموعة الأولى وهي الدول المتقدمة صناعيا خمسين مثلا للدخل الموجود في دول المجموعة الرابعة وهي الدولة التي فيها تصنيع جزئي (1) وقد صدرت صيحات من المفكرين الرأسماليين تنادي بضرورة إعادة توزيع الدخل لتخفيف حدة التفاوت بين دخل الأغنياء ودخل الفقراء وذلك بحسب بعض المبالغ النقدية من الدخول العالية لحساب الدخول المحدودة عن طريق الضرائب التصاعدية (2) .
وقد استغل أصحاب رؤوس الأموال في المذهب الرأسمالي الحرية استغلالا سيئا جعلهم ينظرون إلى مصالحهم الشخصية فينتجون ما شاءوا من السلع وإن كانت حاجة المجتمع لغيرها أشد ما دام الربح يتحقق لهم بشكل أكبر في إنتاجها، وأخذوا يحتكرون السلع حتى ترتفع أسعارها فيزداد ربحهم، كما أنهم تحكموا في العمال وفرضوا عليهم شروطا قاسية لقبولهم في مصانعهم مع ضعف الأجور وسوء المعاملة وسوء التغذية وسوء الرعاية الصحية.
والنظام الرأسمالي الذي يرى أن الأصل التملك الفردي وأن التوزيع العادل يجب أن يقوم على أساس فردي اضطر إلى الاعتراف بالملكية الجماعية وملكية الدولة فلجأ إلى التأميم استجابة لمطالب العمال ولتقديم الخدمات بشكل جيد وبأسعار مناسبة. ففي إنجلترا اضطرت الحكومة بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945 م إلى تأميم الصناعات المتصلة بالوقود والقوى المحركة والنقل وصناعة الحديد والصلب واستيراد وبيع القطن الخام والخدمات الطبية. وصدر قانون سنة 1946م بتأميم بنك إنجلترا وصناعة الفحم وصدر قانون سنة 1947م بتأميم النقل بالسكك الحديدية والقنوات الداخلية. وصدر قانون سنة 1948م جعل ملكية صناعة الغاز للدولة. وكانت بريطانيا قد أممت الإذاعة
__________
(1) الإسلام وتوزيع الثروات للدكتور إبراهيم محمد البرايري ص91.
(2) المصدر نفسه ص83 - 85(30/174)
قبل الحرب العالمية الثانية وأسندت جميع شئونها لهيئة عامة مسئولة عن وضع الخطط وتنفيذها لتحقيق الصالح العام. وكان نتيجة هذه التأميمات أنه بلغ حجم العمالة في الصناعات والخدمات المؤممة في إنجلترا سنة 1950م 10. 3% من مجموع العاملين.
والمذهب الماركسي جاء رد فعل لسوء الرأسمالية، ولكنه لم يحسن تشخيص الداء أيضا وبالتالي كان علاجه للمشكلة الاقتصادية علاجا خاطئا. فقد قامت الثورة الشيوعية سنة 1917م ولم تقض على سوء الرأسمالية كما كانوا يحلمون بل ازداد الوضع في الاتحاد السوفيتي سوءا. فبينما كان الإنتاج يساوي سنة 1913م، مائة بالمائة انخفض سنة 1920م إلى 13% بسبب نقص رؤوس الأموال وانخفاض إنتاجية العمال. وبعد أن وزعت الحكومة الأراضي الزراعية على الفلاحين انخفضت المساحة المزروعة من 105 مليون هكتار عام 1913 إلى 77 مليون هكتار عام 1922م.
وعلى إثر الخطة الأولى التي وضعها الماركسيون في روسيا سنة 1929 م انخفض استهلاك الفرد إلى 3 كيلو جرامات من اللحم وخمسة كيلو جرامات من السكر بينما كان استهلاك الفرد في إنجلترا في ذلك الحين 63 كيلو جراما من اللحم و45 كيلو جراما من السكر (1) وقد اضطر الاتحاد السوفيتي إلى عقد اتفاقية مع الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1972 لتزويده بالقمح لسد حاجة الاستهلاك المحلي، علما بأن مساحة الأرض في روسيا تمثل ثلاث مرات حجم الأرض في الولايات المتحدة الأمريكية (2) . . هذا عن الزراعة وسوء الإنتاج. أما بالنسبة للأجور فقد ازداد التفاوت فيها لدرجة لم يعرفها النظام الرأسمالي، فبلغت نسبة هذا التفاوت من 1 -50 (3) .
__________
(1) الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي للدكتور محمد فاروق النبهان ص97 - 100
(2) الإسلام وتوزيع الثروات للدكتور محمد البرايري ص 57 - 59
(3) الإسلام وتوزيع الثروات للدكتور محمد البرايري ص 57 - 59(30/175)
وقد أثبتت التقارير التي كان يقدمها كبار الشيوعيين فشلهم سواء في زيادة الإنتاج أو في زيادة البناء أو في القضاء على الإهمال مما جعلهم يتراجعون عن بعض مبادئهم ويعلنون أنه لا بد من اتباع الحوافز المادية لتحسين وزيادة الإنتاج. فقد جاء في تقرير قدمه خروتشوف إلى الحزب (لدينا نواح ومقاطعات اكتسبت حق عدم تنفيذ البرامج. اكتسبت إن جاز القول حق الوجود في قائمة المستهلكين لا المنتجين ويقول كوسيجن: " إن برنامج بناء المساكن في الآونة الأخيرة رغم الحاجات الماسة لم يتم تحقيقه بصورة منهجية ومنتظمة مع أن الموارد المالية والوسائل الضرورية لذلك متوفرة (1) . ويقول (ويوجد في البناء الاقتصادي نواقص تعزى إلى حالات الإهمال في برمجة وإدارة الاقتصاد " (2) . ويقول أيضا: (لكي يزداد اهتمام الشغيلة أيضا على أساس الحافز المادي بتحسين خدمة الجمهور علينا القيام على نطاق واسع بنقل هؤلاء الشغلية من الأجر المحدد إلى مكافأة العمل تبعا للربح) (3) . وقد أكد هذا المعنى بريجنيف في خطاب له بقوله: يقتضي مع التوطيد المتواصل للوعي الشيوعي أن يجمع جمعا صحيحا بين الحوافز المادية والمعنوية للعمل) (4) .
لقد اضطر كبار الماركسيين إلى التصريح بما قالوه لأن الواقع والأرقام فرضا عليهم ذلك. فقد قرر المعهد الاقتصادي الاشتراكى العالمي التابع لأكاديمية العلوم في الاتحاد السوفيتي أن معدل زيادة الدخل القومي في جميع الدول الاشتراكية كان 10% في الفترة من سنة 1951 -1955 م، 8. 8% في الفترة من سنة 1956 - 1960 م، 4. 2 % في الفترة من سنة 1961 - 1965 م. وأنه في ذلك الوقت من 4. 2 % إلى 4. 6 % في
__________
(1) المصدر نفسه ص 31
(2) المصدر نفسه ص 26
(3) المصدر نفسه ص48
(4) المصدر نفسه ص48(30/176)
الولايات المتحدة ومن 2. 7- 3. 8 في إنجلترا. ومن 5 - 5. 2% في ألمانيا الغربية (1) .
وقد تراجع الماركسيون عن أهم مبادئهم، فبعد أن ألغت المادة الأولى في حكومة لينين من الدستور الروسي الملكية الخاصة للأراضي وللمصانع سنة 1918م واعتبرتها ملكية للدولة اضطرت الحكومة أن تتراجع عن قراراها بعد ثلاث سنوات فقط فأجازت ملكية المصانع التي تستخدم أقل من عشرين عاملا وأقامت أسواقا حرة لتزويدها بحاجاتها من الخامات والموارد الأولية (2) . وقد جاء نص المادة التاسعة في الدستور السوفيتي الصادر سنة 1936م إلى جانب النظام الاقتصادي الاشتراكي الذي هو الطابع السائد في اقتصاد الاتحاد السوفياتي يسمح القانون بالمشاريع الاقتصادية الصغيرة الخاصة بالفلاحين القرويين وبالحرفيين على أن يقوموا بعملهم شخصيا أن لا يستغلوا فيه جهد الآخرين (3) .
وقد ذكرت مجلة الإكسبريس الفرنسية أن الاتحاد السوفيتي سمح لبعض المزارعين بتملك بعض المزارع الخاصة وهذه المزارع تقدر بـ 3 % من مجموع أراضي الدولة وقد تبين أن هذه المزارع تعطي أكثر من 50% من محصول البطاطا الذي تنتجه أراضي الدولة جمعاء.
إن إلغاء الملكية الخاصة واتباع سياسة خاطئة في توزيع الثروة هو السبب الرئيسي في فشل الخطة السبعية في الاتحاد السوفيتي التي انتهت سنة 1965 ولم تحقق إلا 10% مما قدر لها.
__________
(1) الإسلام وتوزيع الثروات للدكتور إبراهيم محمد البرايري ص61
(2) المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية للدكتور إبراهيم يوسف ص329
(3) انظر نصوص الدستور السوفيتي ضمن كتاب: الدستور السوفيتي دراسة تحليلية انتقادية لفؤاد محمد شبل ص448(30/177)
وما حصل في الاتحاد السوفيتي من خطأ في تحديد المشكلة الاقتصادية وبالتالي الفشل في القضاء عليها حصل في الصين مما اضطرهم سنة 1978م إلى السماح للأجانب من بريطانيين وفرنسيين ويابانيين بامتلاك 49% من أي مصنع صيني.
أما في الإسلام فالمشكلة الاقتصادية ليست كما قال الرأسماليون بأنها الندرة ولا كما قال الشيوعيون بأنها عدم تطور علاقات التوزيع مع شكل الإنتاج بل المشكلة الاقتصادية في الإسلام تكمن في الإنسان الذي يظلم نفسه ويظلم الآخرين باتباع سياسة خاطئة في توزيع الثروة لم يشرعها الله سبحانه وفي كفران الإنسان للنعمة بعدم استغلال كل ما سخره الله له في هذه الأرض وقد بين القرآن ذلك، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} (1) {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (2) {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (3) وقال تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (4) {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} (5) وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} (6) {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (7) {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} (8) {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} (9) {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} (10) {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (11) {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} (12) {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} (13) {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} (14) {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} (15) {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} (16) .
وقد توصل إلى هذا المعنى الذي قرره القرآن قبل خمسة عشر قرنا غير المسلمين وأثبتوا هذا في تقاريرهم المبنية على دراسة علمية لا على أسس فكرية. فقد جاء في تقرير لفريق البنك الدولي عن الدراسة التي قدمها نادي روما تحت عنوان: حدود النمو سنة
__________
(1) سورة إبراهيم الآية 32
(2) سورة إبراهيم الآية 33
(3) سورة إبراهيم الآية 34
(4) سورة فصلت الآية 9
(5) سورة فصلت الآية 10
(6) سورة النبأ الآية 6
(7) سورة النبأ الآية 7
(8) سورة النبأ الآية 8
(9) سورة النبأ الآية 9
(10) سورة النبأ الآية 10
(11) سورة النبأ الآية 11
(12) سورة النبأ الآية 12
(13) سورة النبأ الآية 13
(14) سورة النبأ الآية 14
(15) سورة النبأ الآية 15
(16) سورة النبأ الآية 16(30/178)
1972 م: (إن سوء توزيع موارد العالم وليس النقص المطلق فيها هو المشكلة الحقيقية التي تواجه البشرية (1) .
__________
(1) المنهج الإسلامي في التنمية الاقتصادية للدكتور يوسف إبراهيم يوسف ص397(30/179)
وفي إطار تحديد القرآن الكريم للمشكلة الاقتصادية عالجت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية هذه المشكلة علاجا شاملا متكاملا من جميع الجوانب المادية والمعنوية ومبنية خطأ تحديد المشكلة الاقتصادية بغير ما حدده الله سبحانه في كتابه ويظهر ذلك في النقاط التالية:
أولا: بين الله سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن كل ما في هذا الكون ملك لله يجب على الناس التصرف فيه في إطار المشروع وما أباحه الله. وأن الإنسان مستخلف في هذه الأرض لعمارتها وهي مذللة له.
قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} (1) .
وقال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} (2) .
وقال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (3) وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (4) وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} (5) وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها (6) » . . . .
__________
(1) سورة المائدة الآية 120
(2) سورة المائدة الآية 18
(3) سورة النور الآية 33
(4) سورة البقرة الآية 30
(5) سورة الحديد الآية 7
(6) صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2742) ، سنن الترمذي الفتن (2191) ، سنن ابن ماجه الفتن (4000) ، مسند أحمد بن حنبل (3/61) .(30/179)
وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (1) .
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (2) مع ملاحظة أن الأرض مذللة للمسلم ولغير المسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء (3) » وأما المسلم فإن حظه الوفير يكون في الآخرة.
__________
(1) سورة الملك الآية 15
(2) سورة لقمان الآية 20
(3) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء في هوان الدنيا على الله وقال: حديث صحيح غريب 4 \ 560(30/180)
ثانيا: أباح الإسلام التملك المشروع وحدد له أسبابا تلبية لغريزة حب التملك التي أودعها الله في الإنسان، وبين ما يجوز تملكه وما لا يجوز. وقد ذكر الفقهاء في كتبهم أسباب التملك المشروع. قال ابن نجيم: (أسباب التملك: المعاوضات المالية، والأمهار، والخلع، والميراث، والهبات، والصدقات، والوصايا، والوقف، والغنيمة، والاستيلاء على المباح، والإحياء، وتملك اللقطة بشرطه، ودية القتيل يملكها أولا ثم تنقل إلى الورثة، ومنها الغرة يملكها الجنين فتورث عنه. . .) (1) وقال الحصكفي: اعلم أن أسباب الملك ثلاثة: ناقل كبيع وهبة، وخلافة كإرث، وأصالة وهو الاستيلاء حقيقة بوضع اليد أو حكما بالتهيئة كنصب شبكة الصيد) (2) .
ويمكن حصر أسباب التملك المشروع التي اتفق عليها الفقهاء بما يلى:.
أ - إحراز المباح والاستيلاء عليه كالصيد وإحياء الموات والغنائم.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص346
(2) الدر المختار شرح تنوير الأبصار للحصكفي ومعه حاشية رد المحتار لابن عابدين 6 \ 463(30/180)
ب - العقود الناقلة للملكية كالبيع والهبة والوصية.
جـ - الميراث.
د - التعويض كالدية وكضمان ما يتلفه الإنسان من مال غيره.
هـ- التولد من المملوك كنتاج الحيوان وثمر الزرع.
وهذا التحديد لأسباب التملك المشروع لا بد منه حتى لا ينساق الإنسان مع غريزته في حب التملك فيملك بسبب مشروع أو غير مشروع. وقد بين الله سبحانه وتعالى في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن الإنسان مفطور على حب التملك، قال تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} (1) {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (2) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لأحب أن يكون له ثالث ولا يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب (3) » .
وبين الفقهاء ما لا يجوز تملكه وهي الأعيان التي تشمل على منفعة محرمة كالميتة ولحم الخنزير وما ذبح وذكر عليه غير اسم الله والخمر والأصنام والكلب والسنور وآلات اللهو المحرمة وآلة الحجامة، وكل مالا يوجد فيه منفعة مقصودة كالحشرات وهوام الأرض وكل ما فيه منفعة تافهة ولم يعتبرها الناس في عرفهم الصحيح محلا للملك كحبة قمح أو شمة وردة. وبشكل عام فإن كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى لا يجوز للمسلم أكل ثمنه ولا تملكه لأنه ليس محلا للملك. قال تعالى في بيان بعض المحرمات: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (4) وذكر الشوكاني في كتاب البيوع أبواب ما يجوز بيعه وما لا يجوز. ثم ذكر باب: ما جاء في بيع النجاسة وآلة المعصية وما لا نفع
__________
(1) سورة الفجر الآية 19
(2) سورة الفجر الآية 20
(3) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء لو كان لابن آدم واديان 0004 \ 569 - 570 وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(4) سورة الأنعام الآية 145(30/181)
فيه عن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (1) » . . . وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه (2) » . وعن أبي جحيفة أنه اشترى حجاما فأمر فكسرت محاجمه وقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي (3) » . . . (4)
__________
(1) نيل الأوطار للشوكاني 5 \ 160. والحديث متفق عليه كما قال الشوكاني.
(2) نيل الأوطار للشوكاني 6 \ 160 - 161. والحديث رواه أحمد وأبو داود وسكت عنه ورجاله ثقات كذا قال الشوكاني 5 \ 162
(3) صحيح البخاري اللباس (5962) ، سنن أبو داود البيوع (3483) ، مسند أحمد بن حنبل (4/308) .
(4) نيل الأوطار 5 \ 162. والحديث متفق عليه كما قال الشوكاني.(30/182)
ثالثا: أقر الإسلام الملكيتين الخاصة والعامة وجعل كل واحدة منهما أصلا فيما تصلح فيه، ولم يعالج الإسلام التفاوت بين دخل الأفراد بنزع الملكية من يد الأغنياء كما أنه لم يترك الفقراء عالة على الأغنياء بل جعل للحاكم المسلم حق التصرف في أموال الدولة ومصادر بيت المال الجديدة بما يحقق المصلحة ويعالج التفاوت الشديد بين دخل الأفراد ويظهر ذلك في النقاط التالية:
الأولى: «أن الرسول صلى الله عليه وسلم وزع فيء بني النضير على المهاجرين لحاجاتهم ولم يعط إلا رجلين من الأنصار كانا ذوي حاجة (1) » ، وقد جاء النص على ذلك في الحديث الذي رواه أبو داود:. . فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها - يعني فيء بني النضير - للمهاجرين وقسمها بينهم وقسم منها لرجلين من الأنصار وكانا ذوي حاجة لم يقسم لأحد من الأنصار غيرهما. . .
__________
(1) الحديث بهذا اللفظ رواه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفئ باب في خبرالنضير 3 \ 213 - 214. وأصل هذا الحديث في صحيح البخاري في أكثر من موضع ككتاب الخمس والمغازي والنفقات. وفي صحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير باب حكم الفيء 3 \ 1377 - 1379(30/182)
الثانية: «أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار (1) » وقد مدح الله الأنصار على قيامهم بواجبهم خير قيام قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2) واعتبر القرآن من صفات المؤمنين أنهم يطعمون الطعام للمحتاج على حبهم إياه وشهوتهم له ابتغاء وجه الله. قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (3) {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} (4) .
الثالثة: حث الرسول صلى الله عليه وسلم على إحياء الأرض الموات وجعلها ملكا لمن يحييها فقال عليه الصلاة والسلام: «من أعمر أرضا ليست لأحد فهو أحق (5) » وهذا الحديث يدل بوضوح على أن سبب ملك الأرض إعمارها وإحياؤها لا مجرد التحجير عليها ولذلك كان عمر يقول: (من عطل أرضا ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فهي له) (6) وتحجير الأرض ثلاث سنين فأكثر بدون تعميرها لا يكون إلا من الأغنياء عادة لعدم حاجتهم الماسة لإعمارها بخلاف الفقير فإنه لا ينتظر هذه الفترة، فهو يستغل الأرض من أول يوم بتعميرها حتى يستفيد من إنتاجها الذي هو في أمس الحاجة إليه.
__________
(1) ثبت هذا في صحيح البخاري في كتاب مناقب الأنصار وفي صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة باب مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين صحابته رضي الله عنهم 4 \ 1960
(2) سورة الحشر الآية 9
(3) سورة الإنسان الآية 8
(4) سورة الإنسان الآية 9
(5) رواه البخاري في كتاب الحرث والمزارعة باب من أحيا أرضا مواتا 3 \ 70 ورواه البخاري تعليقا في نفس الكتاب والباب عن عمر رضي الله عنه بلفظ (من أحيا أرضا مواتا)
(6) الخراج ليحيى بن آدم ص291، الأموال لأبي عبيد ص367.(30/183)
الرابعة: أعطى الإسلام لولي الأمر الحق في إقطاع من يرى من الرعية أرضا لا مالكا لها. وكان عمر رضي الله عنه يرى أن يؤخذ من المقطع له ما عجز عن عمارته. وتوزيعه على المسلمين المحتاجين مراعاة للمصلحة العامة ولمنع زيادة التفاوت الشديد بين دخل الأفراد، وقد فعل عمر ذلك (1) . وقد رفض عمر رضي الله عنه أن يختم على الكتاب الذي كتبه أبو بكر لعيينة بن حصن وفيه أنه أقطعه قطيعة وعلل عمر رفضه بقوله: (لا أختم. أهذا كله لك دون الناس (2) وفي رواية أخرى أن عمر رضي الله عنه بصق في الكتاب ومحاه وعندما رجع عيينة لأبي بكر ليجدد له الكتاب قال رضي الله عنه: (لا والله لا أجدد شيئا رده عمر) (3) .
الخامسة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفض قسمة أرض سواد العراق بين المقاتلين وبقي يتدارس الأمر مع الصحابة حتى وصلوا إلى إبقائها في يد أصحابها على أن يدفعوا الخراج. وكان مما قاله عمر: (لولا آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم أرض خيبر) . وفعل عمر وموافقة الصحابة له رضي الله عنهم جميعا كان في دائرة نصوص ومقاصد الشرع فقد كان رضي الله عنه حريصا على أن يبقي مصدرا ثابتا ومتجددا لمالية الدولة الإسلامية يساعد منه كل محتاج في كل زمان ومكان وقد استدل عمر رضي الله عنه لما ذهب إليه بآيات سورة الحشر {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4) {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (5) {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (6) {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (7)
__________
(1) الخراج ليحيى بن آدم ص93، الأموال لأبي عبيد ص 368
(2) الأموال لأبي عبيد ص351 - 352، الأموال لابن زنجويه 2 \ 624
(3) الأموال لأبي عبيد ص352، الأموال لابن زنجويه 2 \ 623
(4) سورة الحشر الآية 7
(5) سورة الحشر الآية 8
(6) سورة الحشر الآية 9
(7) سورة الحشر الآية 10(30/184)
قال القرطبي: (قرأ عمر رضي الله عنه هذه الآية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (1) فقال هذه لهؤلاء. ثم قرأ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} (2) فقال هذه لهؤلاء ثم قرأ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (3) حتى بلغ {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} (4) {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} (5) {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (6) ثم قال: لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير (7) نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه. وقيل: إنه دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه من ذلك وقال لهم: تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا علي. ففكر في ليلته فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت، فلما غدوا عليه قال: قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة الحشر وتلا {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (8) إلى قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} (9) فلما بلغ قوله {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (10) قال: ما هي لهؤلاء فقط وتلا قوله {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} (11) إلى قوله: {رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (12) ثم قال: ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك) (13) .
السادسة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حمى أرضا بالربذة لنعم الصدقة. وقد ثبت في صحيح البخاري أنه قال لمولاه وكان يدعى هنيا: (يا هني اضمم جناحك عن المسلمين واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مستجابة
__________
(1) سورة التوبة الآية 60
(2) سورة الأنفال الآية 41
(3) سورة الحشر الآية 7
(4) سورة الحشر الآية 8
(5) سورة الحشر الآية 9
(6) سورة الحشر الآية 10
(7) منازل حمير بأرض اليمن
(8) سورة الحشر الآية 7
(9) سورة الحشر الآية 8
(10) سورة الحشر الآية 8
(11) سورة الحشر الآية 10
(12) سورة الحشر الآية 10
(13) القرطبي 8 \ 22 ـ وانظر 8 \ 4.(30/185)
وأدخل رب الصريمة ورب الغنيمة وإياي ونعم ابن عوف ونعم ابن عفان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع وإن رب الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتني ببنيه فيقول يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين يا أمير المؤمنين. . .) .
والمتأمل في قول عمر رضي الله عنه يلاحظ أن الأرض حميت لنعم الصدقة كي يستفيد منها الفقراء دون الأغنياء، وهذا يسهم في علاج التفاوت الشديد بين دخل الفقراء ودخل الأغنياء من غير اعتداء على مال الغني.
والإسلام وإن كان منهجه علاج التفاوت الشديد بين دخل الأفراد بما لا يترتب عليه ظلم لأحد يؤكد أن الناس خلقوا متفاوتين في الكفاءة والقدرات وأن الله سبحانه بسط الرزق لمن يشاء ويقدر. قال تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} (1) وقال تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} (2) وقد بين الله سبحانه أن تفاوت الناس في الرزق لحكمة وهي ابتلاء الله الناس وعمارة البشر لهذا الكون كل ضمن طاقته وقدرته، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) وقال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (4)
__________
(1) سورة الرعد الآية 26
(2) سورة النحل الآية 71
(3) سورة الأنعام الآية 165
(4) سورة الزخرف الآية 32(30/186)
ومع أن الإسلام أقر الملكيتين الخاصة والعامة فإنه يمنع الملكية الخاصة لبعض الثروات الطبيعية التي لا دخل للناس في إيجادها من جهة وضرورية لهم بحيث تتعلق بها مصلحة الجماعة من جهة أخرى، «عن أبيض بن حمال أنه وفد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستقطعه الملح فقطع له. فلما أن ولى قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعت له؟ إنما قطعت له الماء العد. قال: فانتزعه منه (1) » . وقد ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم - بعض الثروات التي لا تملك ملكية خاصة. فقال - صلى الله عليه وسلم - «ثلاث لا يمنعن: الماء والكلأ والنار (2) » . . وذكر الشوكاني هذا الحديث وحديث: «المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار (3) » ثم قال: (واعلم أن أحاديث الباب تنتهض بمجموعها فتدل على الاشتراك في الأمور الثلاثة مطلقا ولا يخرج شيء من ذلك إلا بدليل يخصص به عمومها) (4) وقد فصل العلماء في هذه المسألة فقالوا:
- ماء الأنهار غير المستخرجة والسيول حق إجماعا.
- ماء الأنهار والعيون والقناة المحتفرة في البئر ملك لصاحبها في الراجح ويجب عليه بذل ما زاد عن حاجته منه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ (5) » .
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الأحكام ما جاء في القطائع 3 \ 644 - 665، وقال حديث أبيض حديث غريب والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلي الله عليه وسلم - وغيرهم ورواه أبو داود في كتاب الخراج والإمارة والفيء باب في إقطاع الأراضين 3 \ 236 وذكره ابن زنجويه في كتاب الأموال 2 \ 618
(2) رواه ابن ماجه في كتاب الرهون باب الناس شركاء في ثلاث 6 \ 826. وقال البوصيري: إسناد صحيح رجاله موثوقون - وانظر الأموال لأبي عبيد ص 372 - والأموال لابن زنجويه2 \ 659 - 674
(3) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، انظر نيل الأوطار 5 \ 343 - 344
(4) انظر نيل الأوطار 5 \ 345
(5) الحديث متفق عليه وهذا اللفظ لمسلم في كتاب المساقاة باب تحريم بيع فضل الماء الذي يكون في الفلاة 3 \ 1198. والمعنى كما قال الجمهور: أن يكون حول البئر كلأ ليس عنده ماء غيره ولا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلا إذا مكنوا من سقي بهائمهم من تلك البئر لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعي فيستلزم منعهم من الماء منعهم من الرعي - انظر نيل الأوطار 5 \ 343(30/187)
ويلحق بالماء والكلأ والنار والملح التي ذكرت في الأحاديث واعتبرت ملكية عامة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ما يجد في هذا الزمان من ثروات طبيعية لا دخل للناس في إيجادها وضرورية لهم بحيث تتعلق بها مصلحة الجماعة. وقد ذكر الفقهاء بعض الأعيان التي لا يجوز أن تملك ملكية خاصة.
يقول ابن قدامة: (وأما المعادن الجارية كالقار والنفط والماء فهل يملكها من ظهرت في ملكه. فيه روايتان أظهرهما لا يملكها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار (1) » رواه الخلال ولأنها ليست من أجزاء الأرض فلم يملكها بملك الأرض كالكنز. . .) (2) وقد ذهب المالكية في أحد القولين إلى أن المعادن سواء كانت جارية أو غير جارية لا تملك ملكية خاصة حتى وإن كانت في أرض مملوكة ملكية خاصة (3) .
وإذا تعارضت المصلحة الخاصة مع المصلحة العامة قدم الإسلام المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وهذا الأمر يتمشى مع عدالة التوزيع التي شرعها الإسلام في أحكامه حتى لا تكون هناك مشكلة اقتصادية.
والدليل على تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة في الإسلام:
أ - ما سبق ذكره في أن الإسلام يمنع الملكية الخاصة في بعض الثروات الطبيعية التي لا دخل للإنسان في ايجادها وتتعلق بها مصلحتهم كالماء والكلأ والنار والملح. على تفصيل في هذه المسألة كما سبق ذكره.
ب - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن التلقي وأن يبيع حاضر لباد (4) » . مع أن في ذلك مصلحة خاصة للبادي وللسمسار الذي يبيع له إذا كان ذلك بطريق الوكالة ومع ذلك قدمت مصلحة أهل الحضر عامة.
جـ - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الله بريء من المحتكر زجرا له عن الاحتكار تقديما لمصلحة المسلمين عامة على مصلحة المحتكر فقال عليه السلام: «من احتكر
__________
(1) سنن أبو داود البيوع (3477) ، مسند أحمد بن حنبل (5/364) .
(2) المغني لابن قدامة. انظر نيل الأوطار 5 \ 573
(3) المقدمات الممهدات لابن رشد 2 \ 224 - 225
(4) رواه البخاري في كتاب البيوع باب النهي عن تلقي الركبان 3 \ 28(30/188)
طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى وبرئ الله منه (1) » . . .
د - أجاز الحنفية التسعير في الأقوات إذا تعدى الأرباب عن القيمة تعديا فاحشا وتوسع أبو يوسف فأجاز التسعير في غير القوتين أيضا إذا تعدى أربابها وظلموا العامة (2) . وأجاز أشهب من المالكية التسعير أيضا بحسب ما يرى الإمام تحقيقا لمصلحة البائع والمبتاع (3) وأيد ابن تيمية وتلميذه ابن القيم التسعير إذا امتنع أرباب السلع عن بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة على القيمة المعروفة. وقالا رحمهما الله: يجب التسعير في مثل هذه الحالة وإلزام الناس في بيعهم وشرائهم بثمن المثل (4) وفي جواز التسعير بل إيجابه في بعض الحالات تحقيق لمصلحة عامة الناس على مصلحة البائع.
هـ - ذكر بعض فقهاء الأحناف جواز نزع الملكية الخاصة للمصلحة العامة فأجازوا استملاك الأرض المجاورة للمسجد لتوسعته إذا ضاق بالمصلين ودفع قيمة الأرض لأصحابها رضوا أم أبوا (5) . وقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه شراء الدور المحيطة بالكعبة، ولما أبى بعض أصحابها بيعها أخذها رضي الله عنه جبرا عنهم ووضع قيمتها بخزانة الكعبة ليأخذها أصحاب الدور وقال لهم: (إنما نزلتم على الكعبة وهذا فناؤها ولم تنزل الكعبة عليكم) (6) .
ولا يقتصر نزع الملكية الخاصة لتوسعة المسجد تحقيقا لمصلحة عامة المسلمين بل
__________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن عمر 7 \ 58 - 60، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 6 \ 400، درر الحكام شرح مجلة الأحكام لعلي حيدر 1 \ 36
(3) المنتقى شرح موطأ الإمام مالك لأبي الوليد الباجي 3 \ 18.
(4) الحسبة في الإسلام لابن تيمية ص 23 - 25، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم.
(5) المدخل الفقهي العام للزرقا 1 \ 248
(6) الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي للدكتور محمد فاروق النبهان ص219.(30/189)
يجوز نزع الملكية الخاصة لكل ما يحقق نفعا عاما للناس. يقول الأستاذ مصطفى الزرقا: (وقانون الاستملاك للنفع العام لدينا يسوغ نزع الملكية الجبري عن كل عقار تقرر السلطة الإدارية العليا وجود النفع العام في استملاكه لمصلحة من المصالح العامة كمدرسة أو مستشفى أو حديقة وذلك بقيمته التي تقدرها له لجنة خبراء) (1) .
وهذا المعنى الذي قرره العلماء بتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة عند التعارض يتوافق مع القواعد التي وردت في مجلة الأحكام العدلية في هذا الموضوع: فنص المادة 26: يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. والمادة 27: الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف. والمادة 28: إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما (2) .
__________
(1) المدخل الفقهي العام للزرقا 1 \ 248
(2) درر الحكام شرح مجلة الأحكام 1 \ 36 - 37(30/190)
رابعا: جعل الإسلام توزيع الثروة يقوم على أساسين: العمل والحاجة (1) ، فكل من يعمل عملا مباحا يملك ثمرة عمله وإن زادت عن حاجته تلبية لغريزة حب التملك وتشجيعا على العمل. وإذا لم يستطع الإنسان تأمين ضرورياته وحاجاته عن طريق العمل فإن الدولة تعينه على تأمين ضرورياته وحاجاته وذلك ضمانا لحد الكفاية لكل فرد في المجتمع الإسلامي، ويظهر ذلك في النقاط التالية:
الأولى: أوجب الله سبحانه نفقة القريب الفقير على قريبه الغني، قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (2) ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} (3) ، وقال تعالى {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} (4)
__________
(1) اقتصادنا لمحمد باقر الصدر ص348، المنهج الإسلامي في التنمية للدكتور يوسف إبراهيم يوسف ص379 - 380
(2) سورة الإسراء الآية 26
(3) سورة النحل الآية 90
(4) سورة النساء الآية 36(30/190)
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة. قال: نعم. أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى. قال فذلك لك. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرءوا إن شئتم (4) » . وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة قاطع رحم (5) » «وقال عليه الصلاة والسلام لمن سأله من أبر؟ قال أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك حق واجب ورحم موصولة (6) » فهذه الأدلة وغيرها مما ذكره العلماء يفيد وجوب النفقة لأن الله سبحانه سمى ما ينفق " حقا" وأضافه إلى الفقير بقوله: حقه وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حق واجب. ولا معنى لصلة الرحم بغير النفقة على المحتاج منهم.
وقد نص الفقهاء على أن حد هذه النفقة الكافية قال الكاساني: "وأما بيان مقدار الواجب من هذه النفقة فنفقة الأقارب مقدرة بالكفاية بلا خلاف لأنها تجب للحاجة فتقدر بقدر الحاجة وكل من وجبت عليه نفقة غيره يجب عليه له المأكل والمشرب والملبس والسكنى والرضاع إن كان رضيعا لأن وجوبها للكفاية لأن الكفاية تتعلق بهذه
__________
(1) سورة محمد آية 22 -24. والحديث رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها 4 \ 1981
(2) سورة محمد الآية 22 (1) {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}
(3) سورة محمد الآية 23 (2) {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}
(4) سورة محمد الآية 24 (3) {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
(5) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها 4 \ 1981
(6) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب في بر الوالدين 4 \ 446. ورجاله ثقات. انظر تعليق شعيب وعبد القادر الأرنؤوط على هذا الحديث في زاد المعاد 5 \ 543(30/191)
الأشياء فإن كان للمتفق عليه خادم يحتاج إلى خدمته تفرض أيضا لأن ذلك من جملة الكفاية) ودليل ما ذهب إليه الفقهاء بأن حد النفقة الكفاية: قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان عندما شكت له أن زوجها رجل شحيح فقال لها صلى الله عليه وسلم: «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وبنيك (1) » وقد أعطى الحنابلة الحق للمرأة أن تأخذ من مال زوجها ما يكفيها ويكفي ولدها واعتبروا هذا حقا ثابتا لها لا يحتاج إلى قضاء القاضي. وقوله صلى الله عليه وسلم لقبيصة: «إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال: سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا (2) » . فإن معنى " القوام من
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الأقضية باب قضية هند 3 \ 1338
(2) رواه مسلم في كتاب الزكاة باب من تحل له المسألة 2 \ 722. والحمالة: المال الذي يتحمله الإنسان أي يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البين. حتى يصيبها ثم يمسك: أي إلى أن يجد الحمالة ويؤدي ذلك الدين ثم يمسك نفسه عن السؤال. الجائحة: الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة. اجتاحت: أهلكت. قواما من عيش: سدادا من عيش: بمعنى واحد وهو ما يغني من الشيء وتسد به الحاجة. انظر تعليق محمد فؤاد عبد الباقي على صحيح مسلم 2 \ 722(30/192)
العيش " والسداد من العيش " أن يعطي الفقير ما يسد به حاجته ويخرجه من الحاجة إلى الغنى (1) .
الثانية: أوجب الله سبحانه الزكاة في مال الأغنياء واعتبرها حقا للفقراء. قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (2) والمراد بالصدقة في الآية الزكاة كما قال ابن عباس وعكرمة (3) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} (4) {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (5) . قال القرطبي: " يريد الزكاة المفروضة قاله قتادة وابن سيرين، وقال مجاهد سوى الزكاة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس صلة رحم وحمل كل. والأول أصح لأنه وصف الحق بأنه معلوم وسوى الزكاة ليس بمعلوم إنما هو على قدر الحاجة وذلك يقل ويكثر " (6) وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ عندما بعثه إلى اليمن: ". .؟ «فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم (7) » .
الثالثة: أوجب الشارع على العاقلة أن تتحمل مع قريبها ما يلحقه من التزامات مالية كدية القتل الخطأ، وقد ثبت «أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل دية الخطأ على العاقلة (8) » .
الرابعة: أمر الشارع المضيف إكرام ضيفه. فقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته. قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال:
__________
(1) الأموال لأبي عبيد ص746 - 750، المحلي لابن حزم 6 \ 452، المجموع للنووي 6 \ 203.
(2) سورة التوبة الآية 103
(3) تفسير القرطبي 8 \ 244
(4) سورة المعارج الآية 24
(5) سورة المعارج الآية 25
(6) تفسير القرطبي 18 \ 291
(7) رواه البخاري في كتاب الزكاة وجوب الزكاة 2 \ 108.
(8) ثبت هذا في صحيح البخاري كتاب الديات باب جنين المرأة وأن العقل على الوالد وعصبة الوالد لا على الولد 8 \ 46.(30/193)
يومه وليلته والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه (1) » وقال: صلى الله عليه وسلم: «إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لكم (2) » والراجح أن الضيافة غير واجبة وإنما هي من مكارم الأخلاق، قال الشوكاني (قال الخطابي: إنما كان يلزم ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم حيث لم يكن بيت مال، وأما اليوم فأرزاقهم في بيت المال لاحق في أموال المسلمين وقال ابن بطال: قال أكثرهم: إنه كان هذا في أول الإسلام حيث كانت المواساة واجبة وهو منسوخ بقوله: جائزته كما في حديث الباب (3) وقال: (قال ابن رسلان: والضيافة من مكارم الأخلاق ومحاسن الدين وليست واجبة عند عامة العلماء خلافا لليث بن سعد فإنه أوجبها ليلة واحدة. وحجة الجمهور لفظ جائزته المذكورة فإن الجائزة هي العطية والصلة التي أصلها على الندب وقلما يستعمل هذا اللفظ في الواجب) (4) .
الخامسة: توعد الله بالنار كل من يمنع الماعون. قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} (5) {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} (6) {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} (7) {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (8) والماعون كما قال ابن مسعود وابن عباس: اسم جامع لمنافع البيت كالفأس والقدر والنار وما أشبه ذلك (9) .
السادسة: حث الشارع على مبدأ التكافل بين المسلمين، ووجه الأغنياء إلى الإنفاق على الفقراء من أحب المال إليهم، قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (10)
__________
(1) متفق عليهما، انظر نيل الأوطار للشوكاني 8 \ 175-176
(2) متفق عليهما، انظر نيل الأوطار للشوكاني 8 \ 175-176.
(3) نيل الأوطار للشوكاني 8 \ 176
(4) المصدر نفسه 8 \ 177.
(5) سورة الماعون الآية 4
(6) سورة الماعون الآية 5
(7) سورة الماعون الآية 6
(8) سورة الماعون الآية 7
(9) تفسير القرطبي 20 \ 213 - 215.
(10) سورة آل عمران الآية 92(30/194)
وفي الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: «كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة نخلا وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت قام أبو طلحة فقال يا رسول الله: إن الله يقول: وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه (3) » .
وكان عليه الصلاة والسلام يؤكد على التكافل بين المسلمين كلما زادت الحاجة إلى ذلك وفي الظروف الصعبة خاصة، وكان صلى الله عليه وسلم يحث ويأمر المسلمين تارة بالتكافل فيما بينهم وتارة يذكر أقواما يتكافلون فيما بينهم في أوقات الشدة مادحا لهم. فعن أبي سعيد الخدري قال: «بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له. قال فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له قال: فذكر من أصناف المال حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل (4) » وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم (5) »
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التفسير باب لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.. 5 \ 169 - 170. ورايح أي رايح عليك نفعه. ورويت أيضا رابح
(2) سورة آل عمران الآية 92 (1) {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(3) سورة آل عمران الآية 92 (2) {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
(4) رواه مسلم في كتاب اللقطة باب استحباب المؤاساة بفضول الأموال 3 \ 1354. وقول أبي سعيد: (فجعل يصرف بصره يمينا وشمالا) أى متعرضا لشئ يدفع به حاجته
(5) رواه البخاري في كتاب الشركة باب الشركة في الطعام.3 \ 110 ورواه مسلم 4 \ 1944 - 1945(30/195)
وقد أعطى الإسلام الصلاحية لولي أمر المسلمين أن يجمع من الناس فضل أزوادهم وأن يوزعها على من بلغت بهم الحاجة مبلغا شديدا بحيث إنهم لا يملكون شيئا من الطعام، فعن سلمة رضي الله عنه قال: «خفت أزواد القوم وأملقوا فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم، فأذن لهم فلقيهم عمر فأخبروه فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم. فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: ما بقاؤهم بعد إبلهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ناد في الناس يأتون بفضل أزوادهم (1) » .
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين على التكافل فيما بينهم بالبذل والصدقة على الفقير وبين في أحاديث صحيحة أن الصدقة لا تنقص المال بل تبارك فيه، وأن الذي يبقى حقيقة للإنسان هو ما تصدق به. فقال صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله (2) » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتا في سحابة: اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله. فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته. فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال فلان، للاسم الذي سمع في السحابة. فقال له: يا عبد الله لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها؟ فقال: أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثا وأرد فيها ثلثه (3) » وعن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال " بقي كلها غير كتفها (4) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الشركة باب الشركة في الطعام.3 \ 109
(2) رواه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب باب استحباب العفو والتواضع 4 \ 2001
(3) رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق باب الصدقة في المساكين 4 \ 2288 والحديقة: القطعة من النخيل. وتطلق على الأرض ذات الشجر. وتنحى أي قصد. والحرة: أرض بها حجارة سود كثيرة. الشرجة: جمع شراج وهي مسايل الماء في الحرار. والمسحاة: المعول.
(4) رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع 4 \ 644 وقال حديث صحيح(30/196)
السابعة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتكفل عيال الميت بالنفقة ويؤدي عنه الدين. فعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين فيسأل هل ترك لدينه فضلا. فإن حدث أنه ترك وفاء صلى وإلا قال للمسلمين: صلوا على صاحبكم. فلما فتح الله عليه الفتوح قال: " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك دينا فعلي قضاؤه، ومن ترك مالا فلورثته (1) » وفي رواية أخرى «والذي نفس محمد بيده إن على الأرض من مؤمن إلا أنا أولى الناس به. فأيكم ما ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه، وأيكم ترك مالا فإلى العصبة من كان (2) » وقوله: "فأيكم ما ترك " ما هذه زائدة. والضياع أي أولادا أو عيالا ذوي ضياع يعني لا شيء لهم.
وخلاصة القول في مسألة التكافل بين المسلمين أنه يجب على الأغنياء في كل بلد أن يقوموا بفقرائهم بمقتضى حق الأخوة الإسلامية وللأدلة التي ذكرتها من الكتاب والسنة. بل يجب على أهل كل حي أن يقوموا بفقرائهم، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ". . . «وأيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله (3) » .
ولذلك «لما قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نهيت أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث فقال صلى الله عليه وسلم: إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت، فكلوا وادخروا وتصدقوا (4) » فانظر كيف نهى عليه الصلاة والسلام عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة فإن الوضع لم يكن يحتمل ادخار اللحم في الوقت الذي يوجد فيه عدد كبير من الناس الذين قدموا المدينة ولا يوجد عندهم ما يأكلون. وفي السنة التي بعدها أذن لهم عليه الصلاة والسلام بادخار لحوم الأضاحي لعدم وجود حالة ملحة تستوجب النهي عن ادخار اللحم والعلة
__________
(1) رواه البخاري في كتاب النفقات باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من ترك كلا أو ضياعا فإلي 6 \ 195
(2) رواه مسلم في كتاب الفرائض باب من ترك مالا فلورثته 3 \ 1238.
(3) جزء من حديث رواه أحمد في مسنده وقال أحمد شاكر إسناده صحيح. انظر المسند بتحقيق أحمد شاكر 7 \ 58-60
(4) جزء من حديث رواه مسلم في كتاب الأضاحي باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي 3 \ 1561. والدافة: قوم يسيرون جميعا سيرا خفيفا. ودافة الأعراب: من يرد منهم المصر والمراد هنا من ورد من ضعفاء الأعراب للمواساة(30/197)
منصوص عليها في الحديث فالنهي عن الادخار كان " من أجل " الدافة يقول ابن حزم: " وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم ولا فيء سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة برهان ذلك قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (1) وقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (2)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 26
(2) سورة النساء الآية 36(30/198)
خامسا: حث الإسلام على العمل وهذا يؤدي إلى زيادة الإنتاج وبالتالي الإسهام في حل المشكلة الاقتصادية. ويظهر ذلك في النقاط التالية:
الأولى: وردت آيات قرآنية وأحاديث نبوية تحث المسلم على العمل المشروع وتبين أنه فعل الأنبياء وأنه أفضل من الاستجداء. قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده (2) » وقال عليه الصلاة والسلام: «لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه (3) » وقال: «أفضل الصدقة ما ترك غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول (4) » . . . . .
الثانية: وردت نصوص كثيرة تبين شمول العبادة في الإسلام وأنها لا تقتصر على الشعائر والزكاة والصوم والحج، بل نعم كل نشاط إنساني يبتغي به فاعله وجه الله سبحانه ويدخل في ذلك النشاط الاقتصادي. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (5)
__________
(1) سورة الجمعة الآية 10
(2) رواهما البخاري في كتاب البيوع باب كسب الرجل وعمله بيده 3 \ 9.
(3) رواهما البخاري في كتاب البيوع باب كسب الرجل وعمله بيده 3 \ 9.
(4) رواه البخاري في كتاب النفقات باب وجوب النفقة على الأهل والعيال 6 \ 190.
(5) سورة الذاريات الآية 56(30/198)
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه (1) » .
وقد رأى الصحابة شابا مسرعا فقالوا: لو كان هذا في سبيل الله فقال عليه الصلاة والسلام: «إن كان خرج يسعى على ولدة صغارا فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان (2) » ، وقال صلى الله عليه وسلم: «إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك (3) » .
الثالثة: بين الله سبحانه وتعالى في كتابه وعلى لسان نبيه أن صلة العامل برب العمل تعلوها الأخوة الإسلامية، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (4) وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. . كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه (5) » .
ثم جاءت النصوص بتشريعات واضحة بينت حقوق كل طرف وواجباته تجاه الآخر فأمرت العامل ورب العمل بالوفاء بما اتفقا عليه من شروط صحيحة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (6) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (7) وأمرت رب العمل إعطاء العامل أجره وعدم التسويف. قال صلى الله عليه وسلم: «أعطوا
__________
(1) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم1 \ 2
(2) ذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير وقال عنه: حديث صحيح 2 \ 8 برقم 1441
(3) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب ما جاء أن الأعمال بالنية 1 \ 20.
(4) سورة الحجرات الآية 10
(5) جزء من حديث رواه مسلم في كتاب البر والصلة باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله 4 \ 1986
(6) سورة المائدة الآية 1
(7) سورة المؤمنون الآية 8(30/199)
الأجير أجره قبل أن يجف عرقه (1) » كما أمرت رب العمل بالتيسير على العامل وعدم الإثقال عليه. قال صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله (2) » وأمر الإسلام العامل أن يكون أمينا متقنا له قال صلى الله عليه وسلم: «من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة (3) » ، والمخيط الإبرة كما أمر الإسلام العامل الإتقان في العمل قال صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا (4) .
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الرهون باب أجر الأجراء. وقال في الزوائد: أصله في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة 2 \ 817. وقال العجلوني في كشف الخفا رواه ابن ماجه بإسناد جيد 1 \ 143
(2) رواه مسلم في كتاب السلام باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم 4 \ 1706
(3) رواه مسلم في كتاب الإمارة باب تحريم هدايا العمل 3 \ 1465
(4) جزء من حديث رواه مسلم في كتاب الإيمان باب قول النبي صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا 1 \ 99(30/200)
سادسا: أكدت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أن الرزق بيد الله وأنه يجب على المسلم السعي في طلب الرزق وأن أسباب الرزق لا تقتصر على الأسباب المادية ويظهر ذلك في النقاط التالية:
الأولى: أن الله سبحانه تكفل بالرزق لكل مخلوق، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (1) وقد نهى الله سبحانه الآباء عن قتل الأبناء خشية الفقر، وبين لهم أن الرزق بيد الله وقدم ذكر الأولاد على الآباء في الرزق تنبيها على أن رزق الأب يتبع رزق الولد، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} (2) فكأن الآية تقول يا من
__________
(1) سورة هود الآية 6
(2) سورة الإسراء الآية 31(30/200)
تقتل ولدك خشية الفقر إن الله تكفل برزق الولد ورزقك تبعا له. وقال سبحانه في آية أخرى {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} (1) فهذه الآية أيضا تنهى الآباء عن قتل الأبناء وإن كانوا فقراء وتبين أن الله تكفل برزق الآباء وأبنائهم.
الثانية: حتى لا يفهم أحد أن الرزق يأتي بدون سعي. أمر الإسلام بالسعي والعمل وبين أن هذا لا يتنافى مع التوكل على الله سبحانه. قال صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا (2) » .
الثالثة: ومع أن الشارع أمر المسلم باتخاذ الأسباب المادية في الكسب فإنه بين لنا أن أسباب الرزق أعم وأشمل من الأسباب المادية فهي مرتبطة بأمور أخرى: كالتقوى، والصلاح والإقلاع عن المعاصي. وسؤال الله وحده. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (3) ، وقال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} (4) وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (5) . وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (6) {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} (7) {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} (8) {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} (9) {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} (10) .
__________
(1) سورة الأنعام الآية 151
(2) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب في التوكل على الله 4 \ 573 وقال: حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(3) سورة الأعراف الآية 96
(4) سورة الأعراف الآية 58
(5) سورة النحل الآية 112
(6) سورة سبأ الآية 15
(7) سورة سبأ الآية 16
(8) سورة سبأ الآية 17
(9) سورة سبأ الآية 18
(10) سورة سبأ الآية 19(30/201)
وقد شرعت صلاة الاستسقاء عند انحباس القطر. وفيها التوجه إلى الله ودعاؤه والتضرع والتذلل له. وهذا ما ثبت في هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الاستسقاء (1) .
وقد حصلت للرسول صلى الله عليه وسلم ولصحابته رضي الله عنهم الخوارق في زيادة الرزق في بعض أوقات الشدة، وهي من معجزاته صلى الله عليه وسلم ومن كرامات الصحابة رضي الله عنهم. فعن جابر قال: «إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق. فقال. أنا نازل ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فعاد كثيبا أهيل أو أهيم فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئا ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق. فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة. ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج فقلت: طعيم لي. فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان قال: كم هو. فذكرت له قال: كثير طيب. قال: قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي فقال: قوموا فقام المهاجرون والأنصار فلما دخل على امرأته قال: ويحك جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم. قلت: هل سألك؟ قلت: نعم فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ثم يغرف حتى شبعوا وبقي بقية. قال: كلي هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة (2) » وفي رواية أخرى في البخاري
__________
(1) زاد المعاد لابن القيم 456 - 457.
(2) رواه البخاري في كتاب المغازي باب غزوة الخندق 5 \ 45 -46. والكدية: قطعة صلبة من الأرض لا يعمل فهيا المعول. عاد كثيبا: أي صار المضروب رملا سائلا. البرمة: القدر من الحجر. الأثقية: الحجر توضع عليه القدر.(30/202)
أيضا (. . . «وهم ألف فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي (1) » . وعن إياس بن سلمة عن أبيه قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا. فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم فجمعنا مزاودنا فبسطنا له نطعا فاجتمع القوم على النطع. قال: فتطاولت لأحزره كم هو؟ فحزرته كربضة العنز ونحن أربع عشرة مائة، قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعا، ثم حشونا جربنا. فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: هل من وضوء؟ قال: فجاء رجل بإداوة له فيه نطفة فأفرغها في قدح فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة أربع عشرة مائة. قال: ثم جاء بعد ذلك ثمانية فقالوا: هل من طهور؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فرغ الوضوء (2) » هذه بعض معجزاته صلى الله عليه وسلم في زيادة الطعام والماء. وقد حصل مثل ذلك لبعض الصحابة أحيانا كرامة لهم أيضا. فعن جابر رضي الله عنه قال: (غزونا جيش الخبط وأمر أبو عبيدة فجعنا جوعا شديدا فألقى البحر حوتا ميتا لم نر مثله يقال له: العنبر فأكلنا منه نصف شهر فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته. . . .) .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب اللقطة باب استحباب خلط الأزواد إذا قلت والمواساة فيها 3 \ 1354 - 1355. جهد: بفتح الجيم المشقة. المزاود: جمع مزود وهو الوعاء الذي يحمل فيه الزاد. نطعا: أي سفرة من أديم، أو بساطا. فتطاولت لأحزره: أي أظهرت طولي لأحرزه، أي لأقدره وأخمنه. كربضة العنز: أي كمبركها أو كقدرها وهي رابضة. والعنز: الأنثى من المعز إذا أتى عليها حول. جربنا: الجرب جمع جراب وهو الوعاء من الجلد يجعل فيه الزاد. بإداوة: هي المطهرة. فيها نطفة: أي قليل من الماء. ندغفقه دغفقة: أي نصبه صبا شديدا
(2) رواه مسلم في كتاب اللقطة باب استحباب خلط الأزواد إذا قلت والمواساة فيها 3 \ 1354 - 1355. جهد: بفتح الجيم المشقة. المزاود: جمع مزود وهو الوعاء الذي يحمل فيه الزاد. نطعا: أي سفرة من أديم، أو بساطا. فتطاولت لأحزره: أي أظهرت طولي لأحرزه، أي لأقدره وأخمنه. كربضة العنز: أي كمبركها أو كقدرها وهي رابضة. والعنز: الأنثى من المعز إذا أتى عليها حول. جربنا: الجرب جمع جراب وهو الوعاء من الجلد يجعل فيه الزاد. بإداوة: هي المطهرة. فيها نطفة: أي قليل من الماء. ندغفقه دغفقة: أي نصبه صبا شديدا(30/203)
وزيادة الرزق بالخوارق ليس مطردا ولا أساسا إلا أنه يبين رفض الوجهتين الرأسمالية والماركسية اللتين لا تؤمنان إلا بالماديات فقط.
وفي الصورة المقابلة للتقوى والصلاح والطاعة نجد البطر والطغيان والظلم وكفران النعمة ومنع الزكاة سببا في زوالها. وقد بين لنا الله سبحانه في أكثر من موضع في كتابه ذلك.
فحكى لنا سبحانه عن قارون وطغيانه وبطره وجبروته وكيف كانت نتيجة هذا الخلق الذميم سلب الرزق بل الخسف والعذاب. قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} (1) {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (2) {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} (3) {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (4) {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} (5) {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} (6) وحكى لنا سبحانه عن صاحب الجنتين من النخيل والأعناب لما طغى وكفر وتبطر كيف أهلك الله سبحانه جنتيه. قال تعالى {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} (7) {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} (8) {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} (9) {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا} (10) {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} (11) .
فكانت نتيجة هذا الكفر والبطر والطغيان هلاك وزوال النعمة عنه، قال تعالى:
__________
(1) سورة القصص الآية 76
(2) سورة القصص الآية 77
(3) سورة القصص الآية 78
(4) سورة القصص الآية 79
(5) سورة القصص الآية 80
(6) سورة القصص الآية 81
(7) سورة الكهف الآية 32
(8) سورة الكهف الآية 33
(9) سورة الكهف الآية 34
(10) سورة الكهف الآية 35
(11) سورة الكهف الآية 36(30/204)
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} (1) .
وحكى لنا الله سبحانه قصة أصحاب الجنة الذين أقسموا وتشاوروا فيما بينهم أن يجنوا محصول بستانهم في الليل حتى لا يعطوا الفقراء شيئا فلا يراهم أحد. قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} (2) {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (3) .
وكان نتيجة اتفاقهم على عدم إعطاء الفقراء والمساكين حقهم وقسمهم وعدم الاستثناء في القسم أن سلب الله منهم هذه النعمة بهلاكها قال تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} (4) {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} (5)
__________
(1) سورة الكهف الآية 42
(2) سورة القلم الآية 17
(3) سورة القلم الآية 18
(4) سورة القلم الآية 19
(5) سورة القلم الآية 20(30/205)
سابعا: لم يجعل الإسلام هم المسلم ملء معدته والتمتع بالطيبات في هذه الحياة فحسب، بل إن للإنسان هدفا أسمى من ذلك هو عبادة الله سبحانه والتطلع إلى ما أعده الله من نعيم له في الآخرة. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) . وقال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (2) . وقال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (3) {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} (4) . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه (5) » وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما شبع آل محمد من خبز
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) سورة القصص الآية 77
(3) سورة القصص الآية 79
(4) سورة القصص الآية 80
(5) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل 4 \ 590 وقال: حديث حسن صحيح(30/205)
شعير يومين متتالين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) » وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا وأتكفل له الجنة؟ فقال ثوبان أنا، فكان لا يسأل أحدا شيئا (2) » .
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يغرس في نفوس المسلمين القناعة مع حثهم على السعي والعمل كما بينت. فقال صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا (3) » وقال صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه (4) » .
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق 4 \ 2282 وفي الكتاب أحاديث كثيرة
(2) رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب كراهية المسألة وإسناد هذا الحديث صحيح كما قال النووي في رياض الصالحين ص 295 باب في القناعة والعفاف والاقتصاد في المعيشة
(3) رواه الترمذي في كتاب الزهد الباب الرابع والثلاثون وقال: هذا حديث حسن غريب 4 \ 574
(4) رواه مسلم في كتاب الزكاة باب في الكفاف والقناعة 2 \ 730(30/206)
ثامنا: لما كان ظلم الإنسان في التوزيع سببا رئيسيا في ظهور المشكلة الاقتصادية تجد الآيات القرآنية التي تحدثت عن التوزيع تفصل فيه وقلما تترك مجالا للاجتهاد في هذا الجانب ويظهر ذلك في:
أ - توزيع الميراث: فكل الآيات التي تحدثت عن الميراث في القرآن الكريم كانت حديثا عن توزيع الميراث وقد جاءت مبينة قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (1) {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} (2)
__________
(1) سورة النساء الآية 11
(2) سورة النساء الآية 12(30/206)
وقال تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) .
ب - توزيع الزكاة: وقد ذكر الله سبحانه في القرآن الكريم مصارف الزكاة الثمانية قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (2) ولم يبق مجال لاجتهاد مجتهد في تحديد عدد مصارف الزكاة.
جـ - توزيع الغنائم: لما اختلف الصحابة في توزيع الغنائم يوم بدر بين الله تعالى أن توزيعها لله وللرسول لا لاجتهاداتهم قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (3) . ثم بين الله في نفس سورة الأنفال مصارف الغنائم قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (4) .
د - توزيع الفيء ذكر الله سبحانه في القرآن مصارفه ولم يترك المجال للاجتهاد في تحديدها، قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (5) .
__________
(1) سورة النساء الآية 176
(2) سورة التوبة الآية 60
(3) سورة الأنفال الآية 1
(4) سورة الأنفال الآية 41
(5) سورة الحشر الآية 7(30/207)
هذا التفصيل في كثير من الآيات التي تحدثت عن التوزيع لم يلاحظ في الآيات التي تعرضت لبقية الجوانب الاقتصادية فالآيات التي تحدثت في غير جوانب التوزيع جاءت من غير تفصيل وضعت القواعد والأسس وترك المجال في بناء الفروع لاجتهاد العلماء ضمن تلك القواعد والأسس.(30/208)
تاسعا: حرم الإسلام كل صور التعامل التجاري التي يكون فيها ظلم في التوزيع حلا للمشكلة الاقتصادية. ومن هذه الصور:
أ - تحريم الربا: فقد حرم الشارع الربا تحريمها قاطعا وبين أن الذي يأكل الربا لا يقوم من قبره إلى البعث إلا كقيام المجنون، وأن مال الربا لا بركة فيه، وأن آكل الربا محارب من الله ورسوله وأنه ظالم، وأن أكل الربا من الكبائر، وأن آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه ملعونون (1) قال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (2) .
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (3) . .
وقال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (4) .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (5) فإن {لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (6) .
وقال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (7) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات قيل يا رسول الله: وما هن؟ قال
__________
(1) الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر المكي 1 \ 222 وما بعدها.
(2) سورة البقرة الآية 275
(3) سورة البقرة الآية 275
(4) سورة البقرة الآية 276
(5) سورة البقرة الآية 278
(6) سورة البقرة الآية 279
(7) سورة البقرة الآية 279(30/208)
" الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (1) » .
وعن جابر قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه وقال: هم سواء (2) » .
ب - تحريم الاحتكار: ويدخل فيه كل ما حبس مما يحتاج الناس إليه من قوت وغيره للغلاء. وقد ثبتت حرمة الاحتكار بقول النبي: «لا يحتكر إلا خاطئ (3) » .
جـ - تحريم الغش والغبن وكل ما فيه غرر كالمحاقلة وبيع الملامسة والمنابذة وبيع الثمر قبل بدو صلاحه
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان باب بيان الكبائر وأكبرها 1 \ 92
(2) رواه مسلم في كتاب المساقاة باب لعن آكل الربا ومؤكله 3 \ 1219
(3) رواه مسلم في كتاب المساقاة باب تحريم الاحتكار في الأقوات 3 \ 1228(30/209)
وبيع الطير في الهواء والبيع بغير ذكر الثمن وغيرها كثير (1) وقد ثبتت حرمة بيع كل شئ فيه غش وغبن وغرر قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2) وعن أبي هريرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها. فنالت أصابعه بللا. فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غش فليس مني (3) » وعن سعيد بن المسيب «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر (4) » .
كما حرم الإسلام كل ما يهدر ويضيع أو يعطل أموال الأمة، ويظهر ذلك فيما يلي:
أ - تحريم الإسراف والتبذير قال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} (5) وقد أمر الله سبحانه بالاعتدال في الإنفاق والاستهلاك قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (6) .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (7) .
ويحجر الشرع على كل من يضيع المال أو يضعه في غير موضعه كالمجنون والسفيه والصبي، قال تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (8) {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} (9)
__________
(1) انظر نظرية الغرر في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة للدكتور ياسين درادكه.
(2) سورة النساء الآية 29
(3) رواه مسلم في كتاب الإيمان قول النبي صلى الله عليه وسلم: '' من غشنا فليس منا '' 1 \ 99
(4) رواه مالك في الموطأ ص461
(5) سورة الإسراء الآية 27
(6) سورة الإسراء الآية 29
(7) سورة الفرقان الآية 67
(8) سورة النساء الآية 5
(9) سورة النساء الآية 6(30/210)
والإسراف هو تجاوز الحد في الاستهلاك الحلال، والتبذير هو الإنفاق في الحرام، وكل ما ينفق في الطاعة فلا يدخل في دائرة الإسراف مهما عظم أو كان الإنسان محتاجا إليه وقد «أهدت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بردة وكان صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها فلبسها. فرآها عليه رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه اكسنيها فقال: نعم، وأعطاها له (1) » وقد تأسى الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أخذ أبو بكر كل ماله معه في الهجرة لينفق منه عليه وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قبل ذلك قد أعد راحلتين له وللرسول صلى الله عليه وسلم (2) . وفي يوم من الأيام أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتصدقوا فتصدق عمر بنصف ماله وتصدق أبو بكر بكل ماله وعندما سأله عليه السلام «ماذا أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله (3) » وكان عمر رضي الله عنه قد أصاب بخيبر مالا لم يصب قط أنفس منه. فتصدق به كله رضي الله عنه (4) . وجهز عثمان رضي الله عنه جيش العسرة وتصدق عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف ثم تصدق بأربعين ألف دينار ثم حمل على خمس مائة فرس في سبيل الله (5) .
ولما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين سعد بن الربيع من الأنصار وعبد الرحمن بن عوف من
__________
(1) حياة الصحابة للكاندهلوي 2 \ 328 - 329
(2) السيرة النبوية لابن هشام 2 \ 133، حياة الصحابة للكاندهلوي 2 \ 336
(3) حياة الصحابة للكاندهلوي 2 \ 315 والحديث رواه الترمذي في كتاب المناقب باب مناقب أبي بكر وعمر 5 \ 615، وقال: هذا حديث حسن صحيح
(4) حياة الصحابة للكاندهلوي 2 \ 322، والحديث رواه مسلم في كتاب الوصية باب الوقف 3 \ 1255
(5) حياة الصحابة للكاندهلوي 2 \ 340 - 341.(30/211)
المهاجرين عرض سعد على أخيه عبد الرحمن أن يقسم ماله بينهما (1) ولم يقل أحد: إن فعل الصحابة من باب الإسراف بل ذكر في كتب المناقب على فضل هؤلاء الفاعلين، وكل هذا مما يضاعف فيه الأجر والثواب. قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (2) . وقد نقل ابن تيمية عن بعض السلف قولهم: (لو أنفقت درهما في معصية الله كنت مبذرا ولو أنفقت ملء الأرض في طاعة الله لم تكن مبذرا (3) وقال ابن تيمية رحمه الله (والإنسان ليس له أن يصرف المال إلا فيما ينفعه في دينه أو دنياه وما سوى ذلك سفه وتبذير نهى الله عنه بقوله: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (4) . وقال رحمه الله أيضا: (والسفيه الذي يستحق الحجر عليه بفعل هذا أو هذا إما أن يبذل في المباحات قدرا زائدا على المصلحة أو يبذل في المعاصي وكلاهما تبذير) (5) .
ب - تحريم كنز المال: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (6) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (7) .
وقد اختلف العلماء في المراد بالكنز في الآية وهل المال الذي أديت زكاته يسمى كنزا وقد روي عن الصحابة الرأيان والراجح أن المال الذي أديت زكاته لا يسمى كنزا. انظر تفسير القرطبي 8 \ 125 والإسلام إذ يحرم كنز المال وتعطيل ثروات الأمة فإنه يحث على استثمار المال بالطرق المشروعة ويبين لنا الله سبحانه أن كل ما يقوم به المسلم من نشاط اقتصادي
__________
(1) روى ذلك البخاري في كتاب المناقب باب إخاء النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار 4 \ 222
(2) سورة البقرة الآية 261
(3) نظرية العقد لابن تيمية ص18
(4) سورة الإسراء الآية 26
(5) نظرية العقد لابن تيمية ص19
(6) سورة التوبة الآية 34
(7) سورة التوبة الآية 35(30/212)
وغيره داخل في دائرة العبادة قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) .
وقد فرض الله سبحانه وتعالى الزكاة وهي تسهم في استثمار المال وتمنع من تعطيله وذلك من ثلاثة وجوه:
الأول: أن عدم استثمار المال وأداء زكاته كل سنة يؤدي إلى نقصانه، وهذا يدفع الإنسان إلى استثمار أمواله بأي شكل من الأشكال المباحة وقد روى مالك في الموطأ أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قال: (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة) (2) .
الثاني: جعل الإسلام من مصارف الزكاة (الغارمين) وهذا يشجع التجار على استثمار أموالهم بأنفسهم حتى إذا غرموا فإنهم يساعدون من أموال الزكاة كما يشجع أصحاب الأموال على الائتمان ودفع أموالهم لمن يتاجر لهم فيها مضاربة.
الثالث: أنه يعطي من أموال الزكاة كل عاطل عن العمل غير واجد لأدوات مهنته وهذا يشجع على العمل والاستثمار ويقضي على البطالة مما يسهم في حل المشكلة الاقتصادية. وقد نص الفقهاء: (أن من كان خياطا أو نجارا أو قصارا أو قصابا أو غيرهم من أهل الصنائع أعطي ما يشتري به الآلات التي تصلح لمثله وإن كان من أهل الضياع يعطى ما يشتري به ضيعة أو حصة في ضيعة تكفيه غلتها على الدوام) (3) .
وأباح الشارع في المقابل كل ما يعين ويشجع على استثمار المال وحث عليه فأباح لنا التجارة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (4) .
ووضع الإسلام نظاما للميراث يعتبر حافزا على العمل واستثمار الجهد والمال لأن الثروة تؤول إلى أقرب الناس للميت.
وإذا عجز الإنسان عن استثمار ماله أو كان قادرا على التجارة أو الزراعة أو أي عمل.
__________
(1) سورة الذاريات الآية 56
(2) الموطأ لمالك كتاب الزكاة باب زكاة أموال اليتامى والتجارة لهم فيها ص167
(3) المجموع للنووي 6 \ 203
(4) سورة النساء الآية 29(30/213)
ولم يجد المال فإن الإسلام شرع ضروبا من المعاملات يجد فيها الإنسان ضالته وإن فقد المال أو المقدرة على استثماره.
فشرعت المضاربة: وهي عقد شركة في الربح بمال من جانب وعمل من جانب والمضاربة جائزة عند علماء المسلمين بما فيهم الأئمة الأربعة وقد حكى ابن المنذر الإجماع على جوازها.
ويتيح عقد المضاربة الفرصة أمام صاحب المال العاجز عن استثماره من جهة وأمام القادر على العمل والاستثمار وهو لا يملك المال من جهة أخرى.
ويمتاز عقد المضاربة بعدالته فإن الربح يكون بين الشريكين حسب النسبة في المتفق عليها. أما الخسارة فإنها تكون على صاحب المال ويكون العامل قد خسر جهده في هذه الحالة، وهذه مزية من المزايا الكثيرة التي يمتاز بها عقد المضاربة عن العقود الربوية (1) .
وشرعت الإجارة لمن ملك دورا وحوانيت زائدة عن حاجته ولا يستطيع استثمارها. ويدخل في ذلك الآلات والمعدات فإنها تجوز إجارتها تيسيرا على من يحتاجها لبعض أعماله ولا يقوى على شرائها وتيسيرا على مالكها بما تدر عليه من ربح لتعويض الخسارة التي يمكن أن تلحق به مقابل ما يستهلك منها مع الاستعمال.
وقد عرف العلماء الإجارة بأنها تمليك نفع مقصود من العين بعوض (2) . وهي جائزة بالإجماع (3) .
__________
(1) أوضحت هذا بالتفصيل في بحث بعنوان: مشكلة الربا وكيف تحل في ظل تطبيق الشريعة الإسلامية
(2) بدائع الصنائع للكساني 8 \ 3807، حاشية رد المحتار لابن عابدين 6 \ 274
(3) كشاف القناع للبهوتي 3 \ 532(30/214)
وشرعت المزارعة والساقاة لمن ملك أرضا أو شجرا ولا يستطيع القيام عليه، ولمن كان صاحب خبرة في الزراعة والاعتناء بالأشجار ولا يملك الأرض.
والمزارعة عقد على الزرع ببعض الخارج بشرائطه الموضوعة له شرعا (1) .
والمساقاة: دفع أرض وشجر له ثمر مأكول لمن يغرسه أو مغروس معلوم لمن يعمل عليه بجزء مشاع معلوم من المتحصل (2) .
والمزارعة جائزة في الصحيح وقد ذهب إلى جوازها أبو يوسف ومحمد من الحنفية (3) والمالكية (4) والحنابلة (5) . وأجازها الشافعية إن كانت تبعا للمساقاة (6) والأدلة على جواز المزارعة ما ثبت بالسنة وبعمل الصحابة وعمدة هذه الأدلة كما قال العيني (7) ما رواه البخاري ومسلم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع (8) » .
ومعاملة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع دليل على جواز المساقاة أيضا.
__________
(1) حاشية رد المحتار لابن عابدين 6 \ 4
(2) كشاف القناع للبهوتي 3 \ 546
(3) بدائع الصنائع للكاساني 8 \ 5408
(4) مواهب الجليل لشرح مختصر خليل للحطاب 5 \ 176
(5) كشاف القناع للبهوتي 3 \ 542
(6) نهاية المحتاج للرملي 5 \ 245
(7) عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني 12 \ 167
(8) رواه البخاري في كتاب الحرث والمزارعة مع اليهود 3 \ 69. ورواه مسلم في كتاب المساقاة باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع 3 \ 186 واللفظ له.(30/215)
وقد أجاز المساقاة جمهور الفقهاء منهم أبو يوسف ومحمد من الحنفية (1) والمالكية (2) والشافعية (3) والحنابلة (4)
__________
(1) بدائع الصنائع للكساني 8 \ 3831. وقد سماها الحنفية: المعاملة
(2) مواهب الجليل لشرخ مختصر خليل للحطاب 5 \ 372 - 373
(3) نهاية المحتاج للرملي 5 \ 242 - 243
(4) كشاف القناع للبهوتي 3 \ 532(30/216)
عاشرا: مما سبق ذكره نلاحظ أن الشريعة الإسلامية حددت قانونا عاما لمكافأة مصادر الإنتاج يحقق عدالة التوزيع في مختلف الجوانب (1) .
أ - بالنسبة للعمل فإن عائده يكون بإحدى صورتين:
الأولى: الأجرة على العمل بحسب ما يتفق عليه العامل ورب العمل.
الثانية: أن يشترك العامل بنسبة من الأرباح مقابل ما يقدمه من جهد كما في عقد المضاربة والمزارعة والمساقاة.
والفرق بين الصورتين أن العامل يستحق أجرا ثابتا في الأولى ربح رب العمل أم خسر، أما في الثانية فالعامل يأخذ نسبة من الربح بحسب الاتفاق، وإذا خسر المشروع تتبع الخسارة رأس المال ويخسر العامل جهده ولا يستحق أجرا عليه. وفي كل االصورتين لا يتحمل العامل شيئا من الخسارة كما ترى.
ب - بالنسبة لأدوات الإنتاج كالآلات والأرض فإن عائدها يكون بإحدى صورتين:
الأولى: تأجيرها بمبلغ معين من المال لمن يحتاجها.
الثانية: دفعها لمن يعمل بها بنسبة من الربح يتفق عليها ويدخل في ذلك تأجير الأرض بذهب أو فضة أو ما يقوم مقامهما من الأوراق المالية.
جـ - بالنسبة لرأس المال - الذهب والفضة أو ما يقوم مقامهما من الأوراق النقدية. فلها أسلوب واحد في الكسب وهو أن يدفعها صاحبها لمن يتاجر فيها مضاربة بنسبة من الربح.
__________
(1) انظر اقتصادنا لمحمد باقر الصدر ص615 - 618(30/216)
ولا يجوز تأجير الذهب والفضة لأن هذا ربا، والفرق بين الذهب والفضة وبين أدوات الإنتاج كالآلات مثلا في أن أدوات الإنتاج يجوز تأخيرها بخلاف الذهب والفضة أن أدوات الإنتاج تستهلك بالاستعمال فيستحق صاحبها الأجرة عليها مقابل ما يستهلك منها بخلاف الذهب والفضة فلا يستهلك بالاستعمال.(30/217)
وختاما: فإن هذا البحث أحسب يبين الحل السليم للمشكلة الاقتصادية بعد تحديدها من وجهة النظر الإسلامية الصحيحة. وهذا الحل الذي استعرضته في هذا البحث بما فيه تكامل وتناسق وانسجام دليل يضاف إلى مئات الأدلة على صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في كل زمان ومكان وبأنها التشريع الوحيد الذي يحقق للإنسان سعادته في الدنيا والآخرة. وصدق الله القائل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (1) ، والقائل: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} (2) .
والحمد لله رب العالمين
__________
(1) سورة طه الآية 123
(2) سورة البقرة الآية 138(30/217)
مصادر ومراجع البحث
- الأصبحي، مالك بن أنس توفي سنة 179 هـ: المدونة الكبرى، (القاهرة، مطابع السعادة، سنة 1323هـ، الناشر: الحاج محمد أفندي ساسي المغربي التونسي) .
الموطأ، رواية يحيى بن يحيى الليثي، شرح وتعليق: أحمد راتب عرموش، (بيروت، دار النفائس، ط 1، سنة 1971م) .
الألباني، محمد ناصر الدين: صحيح الجامع الصغير وزيادته المسمى الفتح الكبير.
الجامع الصغير من حديث البشير النذير للسيوطي، الفتح الكبير في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير للشيخ يوسف النبهان - (دمشق، المكتب الإسلامي، ط 1، سنة1969 م) .
الباجي، أبو الوليد سليمان بن خلف: المنتقى شرح موطأ الإمام مالك، (القاهرة، مطبعة السعادة، ط1، سنة 1332هـ) .
البخاري، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة، توفي سنة 256 هـ: الجامع الصحيح المسند المختصر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، (استانبول، المكتب الإسلامي، سنة 1979 م) .
البرايري، الدكتور إبراهيم محمد: الإسلام وتوزيع الثروات، (القاهرة، بيروت، دار الشروق، د. ت) .
البهوتي، منصور بن يونس بن إدريس، توفي سنة1051 هـ: كشاف القناع عن متن الإقناع، (الرياض، مكتبة النصر الحديث، د. ت) .
الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى ابن سورة، توفي سنة 279هـ: سنن الترمذي تحقيق: أحمد شاكر، محمد فؤاد عبد الباقي، إبراهيم عطوه، (القاهرة، مطبعة مصطفى الحلبي، ط1، سنة 1956م) .
ابن تيمية: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام، توفي سنة 728هـ.(30/218)
الحسبة في الإسلام، تحقيق: سيد بن محمد أبو سعدة، (الكويت، مكتبة دار الأرقم ط1 سنة 1983م) .
نظرية العقد، تحقيق محمد حامد الفقي، (القاهرة، مطبعة السنة المحمدية: سنة 1949م) . ابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد. توفي سنة456هـ: المحلي، بتصحيح، محمد خليل الهراس، (القاهرة، مطبعة الإمام، د. ت) .
الحطاب، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي، توفي سنة 954هـ: مواهب الجليل بشرح مختصر خليل، - وبهامشه التاج والإكليل لمختصر خليل محمد بن يوسف العبدري الشهير بالمواق، توفي 897 هـ (القاهرة، مطبعة السعادة، ط1 سنة 1329هـ) .
الحصكفي، محمد علاء الدين. توفي سنة1088 هـ: الدر المختار شرح تنوير الأبصار معه حاشية رد المحتار لابن عابدين - (القاهرة، شركة مكتبة مصطفى الحلبي، ط2 سنة 1966 م) .
حيدر علي: درر الحكام شرح مجلة الأحكام، تعريب: فهمي الحسيني، (بيروت، بغداد، مكتبة النهضة، د. ت) .
ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد، توفي سنة 520 هـ: المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعية والتحصيلات المحكمات الشرعية لأمهات مسائل المشكلات، (القاهرة، مطبعة السعادة، بغداد، مطبعة المثنى، سنة 1970) .
الرملي، محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة، الشهير بالشافعي الصغير، توفي سنة 1004هـ: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، (بيروت، دار إحياء التراث العربي، د. ت) .
رول، أريك: تاريخ للفكر الاقتصادي، ترجمة: الدكتور راشد البراوي، (القاهرة دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، سنة 1968م) .
الزرقا، مصطفى أحمد: المدخل الفقهي العام، (دمشق، مطابع ألف باء الأديب ط 9 سنة 1967م) .
ابن زنجويه، حميد بن مخلد بن قتيبة الأزدي، توفي سنة 251 هـ: الأموال تحقيق الدكتور شاكر ذيب فياض، (الرياض، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات(30/219)
الإسلامية ط1، سنة 1406هـ) .
- السجستاني، أبو سليمان بن الأشعث الأزدي، توفي سنة 275 هـ: سنن أبي داود، حققه: محيي الدين عبد الحميد، (القاهرة المكتبة التجارية الكبري، ط2، سنة 1950 م)
- سلام أبو عبيد القاسم بن سلام بن مسكين بن زيد، توفي سنة 224هـ: الأموال، تحقيق: محمد خليل الهراس، (القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، دار الفكر، ط 2، سنة 1975 م) .
- الشافعي، محمد بن إدريس بن العباس القرشي المطلبي، توفي سنة 204 هـ: الأم بومباي، أبناء مولولي محمد بن غلام، د. ت) .
- الشبل، الدكتور فؤاد محمد: الدستور السوفييتي دراسة تحليلية انتقادية، القاهرة، مطبعة مصطفي الحلبي، الناشر: هاشم محمد الشريف، ط1 سنة 1948 م) .
- الشوكاني، محمد بن علي بن محمد، توفي سنة 1255هـ: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، (القاهرة، شركة مصطفي الحلبي، الطبعة الأخيرة) .
الشيباني، أحمد بن حنبل، توفي سنة 241 هـ المسند، شرحه ووضع فهارسه: أحمد شاكر، (القاهرة، دار المعارف، سنة 1368 هـ) .
الشيرازي، أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي، توفي سنة 476هـ: المهذب في فقه الإمام الشافعي، (بيروت، دار المعرفة، ط 2، سنة 1959 م) .
الصدر، محمد باقر: اقتصادنا، (بيروت، دار التعارف للمطبوعات، ط 13، سنة 1401هـ) .
عابدين، أحمد بن عبد الغني بن عمر، توفي سنة 1307هـ: حاشية رد المحتار علي الدر المختار شرح تنوير الأبصار، (القاهرة، مطبعة مصطفي الحلبي، ط2، سنة 1386 هـ) .
العالم، الدكتور سعيد، الشيوعية بعد خمسين عاما من التجربة أقوال وتصريحات لخروتشوف وكوسيجن وبريجنيف مستخرجة من تقارير رسمية، (بيروت، دار الكتاب الجديد ط1 سنة 1971م) .
العبادي، الدكتور عبد السلام داود: الملكية في الشريعة الإسلامية طبيعتها ووظيفتها(30/220)
وقيودها دراسة مقارنة (عمان، مكتبة الأقصي، ط 1 سنة 1974 م)
عبده، الدكتور عيسى الاقتصاد الإسلامي مدخل ومنهاج، (القاهرة، دار الاعتصام، د. ت) .
العسال، الدكتور أحمد محمد، والدكتور فتحي عبد الكريم: النظام الاقتصادي في الإسلام مبادئه وأهدافه، (القاهرة مكتبة وهبة، ط3 سنة 1400 هـ) .
العيني محمود بن أحمد توفي سنة 855 هـ عمدة القاري شرح صحيح البخاري، (بيروت، دار إحياء التراث العربي. د. ت) .
فايد، الدكتور مصطفي كمال: أصول المذاهب الاقتصادية بين التجاريين والتوجيه، (القاهرة، دار الفكر العربي، د. ت) .
ابن قدامة، عبد الله بن محمد بن أحمد المقدسي، توفي سنة 620 هـ: المغني، (الرياض، مكتبة الرياض الحديثة، د. ت) .
القرافي، أبو العباس أحمد بن إدريس، توفي سنة 684 هـ: الفروق، وضع فهارسه: الدكتور محمد راوس قلعه جي، مطبوع معه إدرار الشروق وتهذيب الفروق، (بيروت، دار المعرفة، د. ت) .
القرشي، يحيى بن آدم، توفي سنة 203 هـ: الخراج، صححه وشرحه ووضع فهارسه أحمد شاكر، (القاهرة، المطبعة السلفية ومكتبتها، سنة 1347 هـ) .
القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، توفي سنة 671 هـ: الجامع لأحكام القرآن، (القاهرة، دار الكتاب العربي، سنة 1387هـ) .
القزويني، أبو عبد الله محمد بن يزيد، توفي سنة 275 هـ: سنن ابن ماجه، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، سنة 1372 هـ) .
ابن القيم، أبو عبد الله محمد بن أبي بكر: زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، (بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، سنة 1399 هـ) .
الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق: محمد حامد الفقي، (القاهرة، مطبعة السنة المحمدية، سنة 1953 م) .
الكاساني، أبو بكر بن مسعود بن أحمد، توفي سنة 587 هـ: بدائع الصنائع في(30/221)
ترتيب الشرائع، (القاهرة، مطبعة العاصمة، الناشر زكريا علي يوسف، د. ت) .
الكاندهلوي، محمد يوسف: حياة الصحابة، تحقيق: نايف العباس ومحمد علي دولة، دمشق، بيروت، دار القلم، ط1 سنة 1968 م) .
ماكس، كارل: رأس المال، ترجمة، الدكتور راشد البراوي، (القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، سنة 1947 م) .
النبهاني، الدكتور محمد فاروق: الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي الإسلامي: (بيروت، مؤسسة الرسالة، ط 2 سنة 1404هـ) .
ابن نجيم، زين العابدين بن إبراهيم: الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، (بيروت، دار ومكتبة الهلال، سنة 1980 م) .
النووي، محيي الدين يحيى بن شرف بن حزام، توفي سنة 677 هـ: المجموع شرح المهذب، (القاهرة، مطبعة العاصمة، الناشر زكريا علي يوسف، د. ت) .
النيسابوري، مسلم بن الحجاج القرشي، توفي سنة 262 هـ: صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، (بيروت، دار إحياء التراث العربي ط1، سنة 1955 م) .
ابن هشام، أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري، توفي سنة 218 هـ: السيرة النبوية، تحقيق مصطفي السقا وإبراهيم الإبياري وعبد الحفيظ شلبي، (بيروت دار إحياء التراث العربي، ط1، سنة 1970 م) .
الهيتمي، أحمد بن محمد بن علي بن حجر المكي: الزواجر عن اقتراف الكبائر، (بيروت دار المعرفة، سنة 1402 هـ) .
يوسف، الدكتور يوسف إبراهيم: المنهج الإسلامي في التنمية، (القاهرة، الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، سنة 1401هـ) . . .(30/222)
الآيات والبراهين
على صدق
نبوة خاتم المرسلين
بقلم: د. ناجي محمد داود سلامة
الأستاذ المساعد بقسم الثقافة الإسلامية كلية التربية \ جامعة الملك سعود
المقدمة:
شاء الله - عز وجل - أن يختم الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم - وأن يختم الرسالات برسالته.
لذا كان من أبرز سمات هذه الرسالة أنها عامة للخلق جميعا، وصاحبها رسول للثقلين من إنس وجن. وهذا يعني أن الله تعالى أقام الحجة بهذه الرسالة على كل من سمع ويسمع بها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لذا يرى المتأمل أن هذه الرسالة قد أيدت بمؤيدات وبراهين تجعل الناظر في هذه الآيات والبراهين - كلها أو بعضها - يذعن ويقر بأن صاحب هذه الرسالة رسول من عند الله حقا وصدقا وأن دوره فيها دور النذير المبلغ عن ربه.(30/223)
ولما كانت هذه الآيات والبراهين قد فصل القول فيها بعض علمائنا السابقين - رحمهم الله تعالى - في مصنفات لهم أفردوها لهذا الشأن؛ رأيت أن أكتب بحثا أعرض فيه هذه الآيات والبراهين باختصار - غير مخل ودونما إسهاب - حتى لا تفتر همة القارئ وهو يطالع موضوعا من أهم موضوعات العقيدة الإسلامية، محيلا من أراد المزيد والتفصيل إلي أمهات الكتب التي بحثت تلك الآيات والبراهين بتوسع وإسهاب.
وإليك أهم الآيات والبراهين الدالة على صدقه - علية الصلاة والسلام:
أولا: القرآن الكريم وبعض وجوه الإعجاز فيه.
ثانيا: خلقته وخلقه وجميل سيرته - صلى الله عليه وسلم - تؤكد صدق نبوته.
ثالثا: استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم.
رابعا: المعجزات الحسية التي ظهرت علي يديه - صلى الله عليه وسلم - ونقلها أصحابه - رضي الله عنهم.
خامسا: إخباره - صلى الله عليه وسلم - بمغيبات كثيرة ثم تحققت كما أخبر.
سادسا: الكرامات الكثيرة التي ظهرت على يد بعض أصحابه - رضوان الله عليهم - وعلي يد غيرهم ممن صدق السير على نهجه وطريقه صلى الله عليه وسلم.
سابعا: بشارات الكتب السماوية به وبرسالته صلوات الله وسلامه عليه.(30/224)
أولا: القرآن الكريم وبعض وجوه الإعجاز فيه
يعتبر القرآن الكريم البرهان الأول علي صدق نبوته صلى الله عليه وسلم، حيث إنه المعجزة الباقية إلي يوم الدين. فقد تحدى النبي صلى الله عليه وسلم العرب - وهم أهل الفصاحة والبلاغة - أن يأتوا بمثله ويستعينوا بمن أرادوا، وإظهارا لعجزهم أخبرهم بأنهم لن يستطيعوا ذلك.
ثم تحداهم بعشر سور منه، ثم بسورة واحدة. وقد سبحانه هذا التحدي في كتابة الكريم حيث قال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (1)
__________
(1) سورة الإسراء الآية 88(30/224)
وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1) {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللََّهِ} (2) وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} (3) .
فلم يستطع العرب معارضة القرآن رغم هذا التحدي الذي قرع آذانهم ليل نهار بعبارات تستفز العزيمة، وتثير الحمية، وقد كانوا حريصين علي إبطال دعوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذا القرآن من عند الله، لتضمنه دينا يبطل دينهم، ولما فيه من تسفيه لعقولهم، وسخرية منهم ومما يعبدون. فكانوا في أمس الحاجة إلي الإتيان بمثل هذا القرآن كله أو بعضه ليدافعوا عن دينهم ودين آبائهم. لكنهم لم يفعلوا مع أن القرآن نزل بلغتهم، وألفاظه من ألفاظهم، وهم أهل البيان وفيهم ملوك الفصاحة وقادة البلاغة، أضف إلي ذلك أنهم كانوا أصحاب عقول ناضجة مجربة يشهد لذلك شعرهم ونثرهم.
ومع ذلك كله لم يؤثر عنهم أنهم استجابوا للتحدي وعارضوا القرآن مع أنه نزل في ثلاث وعشرين سنة وكان معهم من الوقت ما يكفي للمعارضة لو كان ذلك في إمكانهم.
لذا تراهم لما عجزوا عن المعارضة اتهموا من أتي به بالسحر وقول الشعر والجنون، وآثروا بذل المهج والأرواح والأموال في الحروب على أن يأتوا بمثل هذا القرآن كله أو بعضه مما يثبت عجزهم وعدم مقدرتهم.
وعجز العرب عن المعارضة ما هو إلا عجز للعربية في عنفوان شبابها، وريعان
__________
(1) سورة هود الآية 13
(2) سورة هود الآية 14
(3) سورة يونس الآية 38(30/225)
قوتها، فعجزهم - وهم الفصحاء البلغاء - فيه دلالة واضحة علي عجز من يأتي من بعدهم (1) .
__________
(1) انظر الباقلاني: إعجاز القرآن. 38.(30/226)
وجوه إعجاز القرآن الكريم
وما من شك أن وجوه الإعجاز في القرآن الكريم كثيرة ومتنوعة. وما من شك أيضا أن العقول لم تصل حتى الآن إلى حصر وجوه الإعجاز كلها، فكلما زاد التدبر في آيات القرآن، وتقدم الإنسان بعلومه وكان ذلك مدعاة لأن تظهر وجوه للإعجاز لم تكن معروفة من قبل، وظهور الإعجاز العلمي خير دليل على هذا إذ لم تعرف البشرية هذا الوجه من الإعجاز إلا في عصور متأخرة.
وإليك بعض وجوه الإعجاز في القرآن الكريم:
1 - فصاحته وبلاغته وقوة تأثيره.
2 - إعجاز تشريعاته.
3 - انطباق آياته على ما جاء به العلم الحديث.
4 - تضمنه أخبارا غيبية لا يعرفها إلا علام الغيوب.(30/226)
الوجه الأول: فصاحته وبلاغته وقوة تأثيره.
تعرض القرآن الكريم لموضوعات كثيرة متباينة، وعبر عنها بتعبيرات متنوعة، ومع هذا تجد تناسقا بديعا بين العبارات والألفاظ، فليس أسلوب هذه الآية بليغا والأخرى غير بليغ، وليس هذا اللفظ فصيحا والآخر غير فصيح. كما أنه ليس فيه لفظ ينبو عن السمع أو يتنافر مع ما قبله أو ما بعده. ولا تجد عبارة أرقى في مستوى بلاغتها من عبارة بل كل عبارة مطابقة لمقتضى الحال الذي وردت من أجله حتى إنك لو رمت نزع نقطة من مكانها لتستبدل بها أحسن منها لا تستطيع، فعجيب نظم القرآن وبديع(30/226)
تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين مع تعرضه لأمور كثيرة من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وأعذار وإنذار، وتبشير وتخويف، ووعد ووعيد، وأوصاف وتعليم، وأخلاق كريمة وشيم رفيعة، وسير مأثورة. فلو كان من عند البشر لوجدته مختلفا متفاوتا. ألا ترى أن كلام البليغ الكامل، والشاعر المبدع والخطيب المصقع يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور، فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو، ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين. . بل إذا تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها والمواضيع التي يطرقها بخلاف القرآن الكريم فإنه على حد واحد في حسن النظم وبديع التأليف والرصف لا تفاوت فيه.
وأما روعة هذا القرآن وهيبته وقوة تأثيره فقد اعترف بها جماعة قبل الإسلام وبعده فمنهم من أسلم لها لأول وهلة وآمن به، ومنهم من كفر:
فعن جبير بن مطعم «أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب: فلما بلغ الآية: إلى قوله. . . . قال كاد قلبي يطير (5) » ، وفي رواية: وذلك أول ما دخل الإيمان قلبي.
وعن عتبة بن ربيعة «أنه كلم النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من خلاف قومه فتلا عليه: حم فصلت. . إلى قوله: {صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (6) فأمسك عتبة بيده على في النبي صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف» . وفي رواية: «فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وعتبة مصغ ملق يديه خلف ظهره معتمدا عليهما حتى انتهى إلى السجدة فسجد صلى الله عليه وسلم وقام عتبة لا يدري بما يراجعه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قومه حتى أتوه فاعتذر لهم، وقال: لقد كلمني بكلام والله ما سمعت أذناي بمثله قط فما دريت ما أقول له» .
__________
(1) صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن (4854) ، صحيح مسلم الصلاة (463) ، سنن النسائي الافتتاح (987) ، سنن أبو داود الصلاة (811) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (832) ، مسند أحمد بن حنبل (4/83) ، موطأ مالك النداء للصلاة (172) ، سنن الدارمي الصلاة (1295) .
(2) سورة الطور الآية 1 (1) {وَالطُّورِ}
(3) سورة الطور الآية 2 (2) {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ}
(4) سورة الطور الآية 35 (3) {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}
(5) سورة الطور الآية 37 (4) {الْمُسَيْطِرُونَ}
(6) سورة فصلت الآية 13(30/227)
وقد حكي عن غير واحد (1) ممن رام معارضة القرآن أنه اعترته روعة وهيبة كف بها عن ذلك.
ومما يدلك على قوة تأثيره أيضا: أنه لا يمل سماعه، ولا تبلى جدته، فلا تزيد تلاوته إلا حلاوة، ولا ترديده إلا محبة، ولا يزال غضا طريا كأنما الساعة نزل، مع أن غيره من الكلام - ولو كان بليغا فصيحا - تمجه الآذان مع الترديد. ويزداد النفور منه إذا أعيد. وقد تأثر بجماله وروعته الوليد بن المغيرة غاية التأثر حتى وصفه بقوله " إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر ".
__________
(1) حكي ذلك عن ابن المقفع ويحيى بن حكيم بليغ الأندلس في زمانه.(30/228)
الوجه الثاني: إعجاز تشريعاته:
عرفت البشرية في عصور التاريخ المختلفة تشريعات كثيرة كان الغرض منها الأخذ بيد الناس نحو السعادة التي يصبو إليها بنو البشر.
وبالإمكان القول - دون مبالغة - إن تشريعات الإسلام المستمدة من الكتاب والسنة هي الوحيدة التي حققت السعادة لذلك المجتمع الإسلامي الذي ضم بين دفتيه أفرادا من أجناس شتى عاشوا في أصقاع متباعدة الأطراف عندما التزم ذلك المجتمع وحرص على تطبيقها وهي مازالت كفيلة بإضفاء السعادة على أفراد أي مجتمع ينشد تطبيقها والعمل على الالتزام بها.(30/228)
وإعجاز القرآن التشريعي يستطيع أي متأمل أن يدركه فهو ليس بالإعجاز اللغوي الذي لا يعرفه إلا من عرف العربية وتعلمها وتذوقها، ذلك أن هذا التشريع تناول جوانب الحياة كلها (1) .
فنظم علاقة الفرد بخالقه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بغيره من أفراد مجتمعه - الذي يضم المسلمين وغيرهم - كما نظم أيضا علاقة المجتمع المسلم بالمجتمعات الأخرى في حالتي السلم والحرب.
ثم إن المتأمل يجد أن هذه التشريعات قد امتازت بخصائص لم تتوافر في غيرها من شمول وكمال وتوازن، وعدم تعارض واضطرب، فلا تجد في القرآن الكريم حكما يناقض آخر ولا معنى يعارض معنى مع أن القرآن نزل في ثلاث وعشرين سنة وآيات الأحكام فيه كثيرة، وصدق الله إذ يقول: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (2) .
كما أن التشريعات امتازت باليسر ورفع الحرج، واتسمت أيضا بالعدل بين الناس، وساوت بينهم فنبذت التفرقة بين واحد وآخر أمام الله عز وجل {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (3) .
كما أنها عملت على حفظ الضرورات الخمس في حياة الناس فحفظت الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل. فكانت بذلك كله موافقة لفطرة الإنسان تسير معها جنبا إلى جنب فجنبت الإنسان الوقوع في الشقاء والتخبط.
ولعل من أبرز ما امتازت به هذه التشريعات صلاحيتها لكل زمان ومكان فما من حادثة تجد إلا ولها حكم شرعي يستنبطه العلماء العارفون بالكتاب والسنة.
__________
(1) خلاف، أصول الفقه: 32 - 33 وانظر: سالم المدخل إلى الثقافة الإسلامية 259
(2) سورة النساء الآية 82
(3) سورة الحجرات الآية 13(30/229)
ومما تجدر الإشارة إليه أن تشريعات الإسلام المستمدة من الكتاب والسنة قد اعترف بعظمتها رجال القانون حتى من غير المسلمين.
فقد أعلن المؤتمر الدولي المنعقد في لاهاي عام 1937 م اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع العام كما أعلن أن الشريعة الإسلامية قائمة بذاتها مستقلة عن غيرها.
وفي أسبوع الفقه الإسلامي المنعقد في باريس عام 1952م وقف نقيب المحامين الفرنسيين ليقول: " لا أدري كيف أوفق بين ما كان يصور لنا من جمود الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي وعدم صلاحيتها كأساس لتشريعات متطورة، وبين ما سمعته مما يثبت - من غير شك - فاعلية الشريعة الإسلامية من عمق وأصالة ودقة وكثرة تفريع وصلاحية لمقابلة جميع الأحداث ".
وها هي جمعية القانون الدولي العام تعتبر محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة الرائد الأول للقانون الدولي العام (1) ومعلوم أن الفقه الإسلامي - الذي اعترف بعظمته المنصفون من غير المسلمين - يستمد بشكل أساسي من الكتاب والسنة.
بقي أن نقول: إن هذا التشريع القرآني لا غرابة أبدا في كونه متميزا ومتفردا ومتفوقا على جميع التشريعات الأخرى ذلك أنه من عند خالق النفس البشرية العالم بما يصلحها ويسعدها، {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (2) .
__________
(1) انظر الزنداني: طريق الإيمان ص62 - 63 وانظر رشاد سالم: المدخل إلى الثقافة الإسلامية ص259 - 260
(2) سورة الملك الآية 14(30/230)
الوجه الثالث: انطباق آيات على ما جاء به العلم الحديث:
أنزل الله تعالى كتابه ليكون دستورا للناس ونبراسا يهتدون به، ويحكمونه فيما بينهم، وأقام الحجة به عليهم.(30/230)
وهذا الكتاب الكريم لم يكن من مقاصده تقرير حقائق علمية تتعلق بالإنسان والكون، لكنه سبحانه أثناء سوقه الأدلة على وجوده ووحدانيته، وتذكير الناس بنعمه وآلائه التي لا تحصى، ولفت الأنظار إلى قدرته الباهرة - أثناء ذلك كله - ذكر سبحانه آيات لفتت النظر إلى حقائق علمية لم تعرف إلا بعد عصر التنزيل بقرون كثيرة. فكلما كشف البحث العلمي سنة كونية أو حقيقة علمية وظهر أن آية في القرآن الكريم أشارت إلى تلك السنة أو الحقيقة قام برهان جديد على أن القرآن من عند الله.
ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض الناس لا يرون أن تفسر بعض آيات القرآن الكريم وفق ما جاء به العلم الحديث محتجين بأن آيات القرآن لها مدلولات ثابتة مستقرة لا تبدل ولا تتغير، بينما معطيات العلم قد تتغير وتتبدل من حين لآخر نتيجة البحث الدائم المستمر، فكم من نظرية علمية دافع عنها أصحابها ثم تراجعوا عنها بعد أن ظهر خطؤها وبطلانها (1) .
لكن هذا الرأي لا يسلم من النقد، إذ أن تفسير آية قرآنية بما كشف العلم الحديث من سنن كونية ما هو إلا فهم للآية بوجه من وجوه الدلالة على ضوء العلم، وليس معنى هذا إن الآية لا تفهم إلا بهذا الوجه من الوجوه، فإذا ظهر خطأ ما اكتشفه العلم ظهر خطأ فهم الآية على هذا الوجه لا خطأ الآية نفسها. وهذا ينطبق تماما على غير ما اكتشفه العلم، ألا ترى أن عالما قد يفهم حكما شرعيا من آية قرآنية ثم يعدل عن هذا الفهم إذا تبين له خطأ فهمه بظهور دليل جديد أبطل فهمه الأول (2) .
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يجب على من يتصدى لتفسير آيات القرآن الكريم وفقا لما جاء به العلم الحديث أن يتحرى حقائق العلم التي أثبت العلماء أنها حقائق لا مجال للرجوع عنها تاركا الفرضيات والنظريات التي لم تصبح حقائق بعد. كما عليه أيضا أن يتجنب النصوص القرآنية ما لا تحتمل.
__________
(1) انظر القطان: مباحث في علوم القرآن 270
(2) خلاف: أصول الفقه، ص29 -30(30/231)
ومما تجدر الإشارة (1) إليه أيضا أنه لا يمكن أبدا أن يأتي يوم يصل فيه العلم إلى حقيقة تتعارض مع آية قرآنية قطعية الدلالة لأن القرآن كلام الله والكون صنع الله وكلام الله وصنعه لا يتناقضان أبدا بل يصدق أحدهما الآخر لأن مصدرهما واحد. لذا فقد جاءت الحقائق العلمية مؤيدة لما في كتاب الله تعالى ومصدقة له.
والنصوص القرآنية التي أشارت إلى حقائق علمية كثيرة بينها العلماء في كتبهم وندواتهم ومؤتمراتهم ومحاضراتهم ونكتفي هنا بذكر أمثلة يسيرة:
1 - قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (2) .
أشارت هذه الآية الكريمة إلى ما يصيب الإنسان من ضيق وعوارض الاختناق عند صعوده إلى طبقات الجو العليا بسبب ما يصاحب هذا الصعود من قلة الضغط الجوي وقلة الأكسجين.
وهذه حقيقة لم يكن يعلم بها أحد لا من العلماء ولا من غيرهم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم إلا بعد صعود الإنسان في العصر الحديث إلى طبقات الجو العليا.
2 - قال سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (3) .
تقرر هذه الآية أن السماوات والأرض كانتا متصلتين ثم وقع الانفصال بينهما بمشيئة الله وقدرته وقد أثبت العلم الحديث ما قالت به الآية قبل أربعة عشر قرنا.
__________
(1) السائح: عقيدة وما يتصل بها ص262
(2) سورة الأنعام الآية 125
(3) سورة الأنبياء الآية 30(30/232)
أما الحقيقة الأخرى التي قررتها الآية القرآنية فهي أن الماء أصل كل شيء حي، وهذا ما أثبته العلم الحديث من أن الماء هو العنصر الأول المكون لكل خلية حية، فلا حياة ممكنة بدون وجوده.
3 - قال جل وعلا: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (1) .
وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} (2) .
وقال:. . . {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} (3) . وقال:. . . . {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} (4) .
وقال: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (5) .
وقال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (6) {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} (7) .
من خلال هذه الآيات الكريمة يتبين أن كل شيء قائم على نظام الزوجية، وأنها منتشرة في كل شيء، وهذا ما أثبته العلم الحديث فهي ليست مقصورة على الإنسان أو الحيوان بل في النباتات والجماد كذلك، وقد أخبر الله في كتابه بهذا قبل أربعة عشر قرنا (8) .
__________
(1) سورة الذاريات الآية 49
(2) سورة يس الآية 36
(3) سورة طه الآية 53
(4) سورة لقمان الآية 10
(5) سورة الرعد الآية 3
(6) سورة النجم الآية 45
(7) سورة النجم الآية 46
(8) بوكاي دراسة الكتب المقدسة ص 214 - 216، رشيد رضا: الوحي المحمدي ص 355.(30/233)
قال تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} (1) .
أثبت العلم الحديث أن شكل الأرض مستدير كروي إلا أنه غير تام الاستدارة فبعد أن تمكن العلماء قبيل ثلاثة قرون تقريبا من قياس أبعاد الأرض بدقة متناهية وجدوا أن نصف القطر الاستوائي على نصف القطر القطبي مقدار 21. 5 كيلو متر تقريبا. أي أن الأرض أنقصت من أطرافها، وهذا ما بينه القرآن الكريم من قبل (2) .
5 - قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (3) . وقال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (4) .
يقول وحيد الدين خان: وهذه الآية مطابقة لما كان يراه الإنسان في الماضي فإنه كان يشاهد عالما كبيرا قائما بذاته في الفضاء مكونا من الشمس والقمر والنجوم ولكنه لم ير أية ساريات أو أعمدة. والإنسان اليوم يجد في هذه الآية تفسيرا لمشاهدته التي تثبت أن الأجرام السماوية قائمة دون عمد في الفضاء الرحب بيد أن هناك عمدا غير مرئية تتمثل في قانون الجاذبية وهي التي تساعد كل هذه الأجرام على البقاء في أمكنتها المحددة.
وأخيرا: هذه النماذج التي ذكرناها ما هي إلا غيض من فيض وقليل من كثير، وإنها تدل على أن هذا القرآن من لدن حكيم خبير وأنه ليس محمد صلى الله عليه وسلم أي دور فيه سوى التبليغ عن ربه عز وجل.
__________
(1) سورة الأنبياء الآية 44
(2) السائح: عقيدة المسلم ص274، الاستنانبولي: إعجاز القرآن العلمي ص32
(3) سورة الرعد الآية 2
(4) سورة لقمان الآية 10(30/234)
الوجه الرابع: تضمنه أخبارا غيبية لا يعرفها إلا علام الغيوب:
أخبرنا الله تعالى في كتابه بمغيبات كثيرة كان فيها أوضح الدلالة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم فمن هذه المغيبات:(30/234)
1 - غيب مضى يتعلق بأحوال القرون السالفة والأمم البائدة كقصة آدم عليه السلام. وابتداء خلقه وما صار أمره إليه من الخروج من الجنة. . وكقصص الأنبياء مع أقوامهم، وكقصة أصحاب الكهف، وذي القرنين، ويأجوج ومأجوج. . . وغير ذلك من القصص مع أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، فكانت هذه الأخبار من أوضح الأدلة على نبوته صلى الله عليه وسلم إذ جاء بها على وجهها أمي لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ولم يكن ملازما لأهل الآثار وحملة الأخبار ولا مترددا إلى التعلم منهم، وصدق الله إذ يقول: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (1) فلا ريب إذن - والحال هذه - أن مثل هذه الأخبار لا يمكن أن تكون إلا من عند من يعلم الماضي والحاضر والمستقبل مصداقا لقوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (2) .
2 - ومنها أيضا مغيبات لم تكن واقعة حين الإخبار بها ثم وقعت وهي كثيرة جدا نكتفي بإيراد بعضها:
أ - ما وعد الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام من أنه سيظهر دينه على الأديان جميعا.
قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (3) .
وقد تحقق ذلك بانتشار الإسلام وحكمه الكثير من بقاعه المعمورة.
__________
(1) سورة العنكبوت الآية 48
(2) سورة هود الآية 49
(3) سورة الصف الآية 9(30/235)
ب - قال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (1) .
وحصل ذلك بأن دخلوا المسجد الحرام آمنين مطمئين (2) ج - قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3) .
وحصل كما أخبر سبحانه، فمكن لهم دينهم واستخلفهم في الأرض وملكهم إياها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب.
د - قال تعالى: {الم} (4) {غُلِبَتِ الرُّومُ} (5) {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (6) {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (7) {بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (8) .
تضمنت هذه الآيات الكريمة غيوبا ثلاثة:
الإخبار بنصر الروم بعد الهزيمة {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (9) وهذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.
أن النصر سيتم في بضع سنين (10) . وهذا التحديد أيضا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.
__________
(1) سورة الفتح الآية 27
(2) الباقلاني: إعجاز القرآن ص72، البيهقي: الاعتقاد ص263 والطبري: الدين والدولة ص76
(3) سورة النور الآية 55
(4) سورة الروم الآية 1
(5) سورة الروم الآية 2
(6) سورة الروم الآية 3
(7) سورة الروم الآية 4
(8) سورة الروم الآية 5
(9) سورة الروم الآية 3
(10) البضع فوق الثلاث ودون العشر(30/236)
وثالث هذه الغيوب تضمنه قوله تعالى: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} (1) {بِنَصْرِ اللَّهِ} (2) فأخبر تعالى بأنهم سيفرحون في ذلك الوقت. وهذا من الغيب؛ لأنه خبر عن بقاء المؤمنين إلى ذلك الوقت مع قلتهم وضعفهم وطمع أعدائهم بهم إذ أن هذه الآيات نزلت قبل الهجرة بمكة. ثم إن ظفر المسلمين ببدر وقع في الوقت الذي ظفر فيه الروم على الفرس وعندها فرح المؤمنون بنصر الله.
هـ - ومن الغيب أيضا: إخباره سبحانه بأن أبا لهب وزوجه في النار وكانا آنذاك حيين، وبالفعل ماتا على الكفر ولم يؤمنا - ولو نفاقا ".
ووقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (3) . فحفظ سبحانه كتابه من تحريف المحرفين ولا يزال محفوظا وسيبقى كذلك أيضا (4) .
ز - قال سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (5) فعصم سبحانه نبيه على كثرة من أراد ضره وقصد قتله (6) .
فهذه بعض المغيبات التي ذكرها الله في كتابه وكانت غيبا حين الإخبار بها ثم حصلت كما أخبر مما يدل بوضوح على أن الذي أخبر بها قبل وقوعها هو عالم الغيب والشهادة، فكانت هذه الأخبار وغيرها تحمل في طياتها براهين دامغة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله تعالى لإنزال كتابه عليه.
وبعد هذا الحديث عن كتاب اله تعالى ووجوه الإعجاز فيه، وأنه معجزة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم الباقية الخالدة على مدى الدهر والزمان أسجل - في هذا المقام - كلمة جامعة نافعة إن شاء الله للشيخ السيد سابق حول معجزة رسولنا الخالدة حيث قال:
__________
(1) سورة الروم الآية 4
(2) سورة الروم الآية 5
(3) سورة الحجر الآية 9
(4) انظر عياض الشفا 1: 173
(5) سورة المائدة الآية 67
(6) عياض الشفا: 1: 174: معترك الأقران 1: 240، الزرقاني: مناهل العرفان 2: 266 - 267(30/237)
إنه لم يعرف لكتاب من الكتب مثل ما لهذا القرآن، من سمو الموضوع وسحر البيان، وقوة التأثير، مما وجه عناية العلماء إلى الاهتمام بدراسته من حيث ألفاظه ومعانيه وعقائده، وآدابه وأحكامه، وتشريعاته. فخلفوا بهذه الدراسة ثروة ضخمة من العلم والأدب، لا تزال ولن تزال المادة الصالحة لقيام حضارة إنسانية ينعم فيها البشر بحياة أفضل وعيش أرغد {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (1) .
هذه هي المعجزة التي أيد الله بها نبيه الأمي، والتي غير بها نفوسا، وأحيا قلوبا وأنار بصائر وربى أمة، وكون دولة في سنى تعد على الأصابع.
إذا كان قلب العصا حية معجزة، فإن تغيير العقول والقلوب أبلغ في الإعجاز، وإذا كان إحياء الميت من الخوارق التي أيد الله بها بعض أنبيائه فإن إحياء أمة أمية من الجهل والرذيلة، وجعلها مصدر إشعاع وهداية، هو الخارق الذي تتضاءل في جوانبه جميع المعجزات " اهـ (2) وتمثل ببيتين من الشعر:
الله أكبر إن دين محمد ... وكتابه أقوى وأقوم قيلا
لا تذكر الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا
__________
(1) سورة الشورى الآية 52
(2) سابق العقائد الإسلامية ص220(30/238)
ثانيا: خلقته وخلقه وجميل سيرته تؤكد صدق نبوته:
مما لا شك فيه أن الله تعالى من على رسوله بأن حباه خلقه. وصورة تجعل من يراه يعرف أن وجهه صلى الله عليه وسلم لا يأتي إلا بالصدق، فقد كانت صورته صلى الله عليه وسلم محببة إلى كل من شرح الله صدره للإيمان، وقد ذكر أصحابه - رضوان الله عليهم - من أوصافه الكثير الكثير حيث تجعل من يتأملها يؤمن بأن صاحبها رسول من عند الله اجتباه وحباه وصوره فأحسن صورته. عن البراء رضي الله عنه قال: «كان رسول الله أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير (1) » .
__________
(1) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم ج 4 \ 165(30/238)
وعن أبي جحيفة رضي الله عنه «أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالبطحاء وبين يديه عنزة فجعل الناس يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم، قال: فأخذت بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب رائحة من المسك (2) » .
وعن أنس رضي الله عنه قال: «ما مسست حريرا ولا ديباجا ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم ولا شممت ريحا قط أو عرفا قط أطيب من ريح أو عرف النبي صلى الله عليه وسلم (4) » .
أما عن خلقه وجميل سيرته فحدث ولا حرج:
فقد كان أحسن الناس خلقا حتى قال ربه فيه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (5) وعن أنس رضي الله عنه قال: «والله لقد خدمته تسع سنين ما علمته قال لشيء صنعته: لم فعلت كذا وكذا؟ أو لشيء تركته: هلا فعلت كذا وكذا (6) » .
وكان كريما سخيا جوادا فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان (7) » . . .
وعن جابر بن عبد الله قال: «ما سئل رسول صلى الله عليه وسلم شيئا قط فقال: لا (8) » .
وكان أكثر الناس رحمة بالمؤمنين حتى قال الله فيه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (9) .
وكان قمة في التواضع، فكان إذا مر على الصبيان سلم عليهم.
__________
(1) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 4 \ 165، 167
(2) العنزة بفتح (النون) عصا أقصر من الرمح لها سنان. وقيل: هي الحربة الصغيرة (1)
(3) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم 4 \ 165، 167.
(4) العرف: الرائحة مطلقا، وأكثر ما يستعمل في الطيب (3)
(5) سورة القلم الآية 4
(6) مسلم كتاب الفضائل 4 \ 1805
(7) مسلم كتاب الفضائل 4 \ 1803
(8) مسلم كتاب كتاب الفضائل 4 \ 1405
(9) سورة التوبة الآية 128(30/239)
وكان يقول: «لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو كراع لقبلت (2) » وهذا تواضع منه صلى الله عليه وسلم.
وكان زاهدا قانعا باليسير فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة: «يا ابن أختي إنا كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقلت: يا خالة: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان التمر والماء (3) » . . .
وعن عمرو بن الحارث أخي جويرية بنت الحارث قال: «ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته درهما ولا دينارا ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة (4) » .
وكان كثير الحياء حتى وصفه أبو سعيد الخدري بقوله: «كان أشد حياء من العذراء في خدرها (5) » .
وكان عابدا لله تعالى مستغفرا له باستمرار حتى قال فيه المغيرة بن شعبة: «إن كان ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول: " أفلا أكون عبدا شكورا (6) » .
وقال عليه الصلاة والسلام:. . . . «وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة (7) » . وكان شجاعا مجاهدا في سبيله سبحانه فإذا حمي الوطيس في المعركة وشمرت الحرب عن ساقيها رأيت فيه مثال الشجاعة والثبات كما حدث في أحد وحنين حين قال فيه البراء: «كنا والله إذا احمر البأس نتقي به. وإن الشجاع منا للذي يحاذي به يعني النبي عليه الصلاة والسلام (8) » .
__________
(1) البخاري كتاب الهبة 3 \ 129
(2) الكراع من البقر والغنم أسفل الساق العاري من اللحم (1)
(3) البخاري كتاب الهبة 3 \ 129
(4) البخاري كتاب الوصايا 3 \ 186
(5) مسلم كتاب الفضائل 4 \ 1809
(6) البخاري كتاب التهجد 1 \ 44
(7) مسلم كتاب الذكر والدعاء 4 \ 2075
(8) مسلم كتاب الجهاد ج 3 \ ص1401(30/240)
وكان حليما صفوحا لا يغضب إلا لله تعالى حتى قالت فيه زوجته عائشة: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهم ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه. وما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل (1) » .
أما صدقه وأمانته فاعترف بها العدو والصديق، فما أثر عنه الكذب ولا الخيانة لا قبل النبوة ولا بعدها حتى لقبه قومه بالأمين.
وهذه الأخلاق الإنسانية الكاملة والسيرة العطرة هي التي جعلت بعض من تأملها يقر بأنه رسول من عند الله كما حدث مع السيدة خديجة رضي الله عنها عندما أخبرها بما حصل معه في حراء وأنه خشي على نفسه، فكان جوابها له: «كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل (3) » . . .
وهذا عينه هو الذي حدا بهرقل ملك الروم إلى الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن سأل أبا سفيان أسئلة عديدة عن هذا النبي وصفاته فكان مما سأل أبا سفيان عنه: كيف نسبه فيكم؟ وهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ وبماذا يأمركم؟ وهل يغدر؟ . . . إلى غير ذلك من الأسئلة، وبعد أن أجابه أبو سفيان رد عليه هرقل بقوله: «إني سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. . . وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. . . وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا. وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان كما ما تقول حقا، فسيملك موضع قدمي هاتين (4) » . . .
__________
(1) مسلم كتاب الفضائل 4 \ 1813
(2) البخاري كتاب بدء الوحي 1 \ 3، ومسلم كتاب الإيمان 1 \ 141
(3) (2) .، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق
(4) البخاري كتاب بدء الوحي 1 \ 5(30/241)
وهذه الأخلاق التي تحلى بها الرسول صلى الله عليه وسلم ظلت ملازمة له طوال حياته ومن أول عمره إلى آخره إذ كانت سجية من سجاياه وطبعا من طباعه لم يحمل نفسه على التكلف بها إذ المتكلف لا يمكنه الثبات على ذلك طوال عمره، وهذا ما أشار إليه سبحانه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (1) .
وخلاصة القول: إن مثل هذه الصفات الخلقية والخلقية وهذه السيرة المرضية لا يتأتى بعض منها إلا لنبي من الله عليه بنعمة الرسالة فهداه واجتباه وحباه فكيف بها مجتمعة في شخصه الكريم؟ لا شك أن اجتماعها فيه من أعظم الأدلة على نبوته صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سورة ص الآية 86(30/242)
ثالثا: استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم:
فمن ذلك دعاؤه على سراقة بن مالك واستجابة الله له في ذلك.
فعن البراء بن عازب أن أبا بكر أخبره كيف هاجر مع النبي عليه الصلاة والسلام وماذا حصل معهما أثناء ذلك فكان مما أخبره به: «أن سراقة اتبعهم فقلت (والكلام لأبي بكر) أتينا يا رسول الله فقال: لا تحزن إن الله معنا فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فارتطمت به فرسه إلى بطنها. فقال: (سراقة) إني أراكما قد دعوتما علي فادعوا لي فالله لكما أن أرد عنكما الطلب. فدعا له صلى الله عليه وسلم فنجا. فجعل لا يلقى أحدا إلا قال كفيتكم ما هنا. فلا يلقى أحدا إلا رده (2) » .
ومن ذلك ما رواه أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم الجمعة فقام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة.
__________
(1) انظر البخاري كتاب المناقب 4 - 181
(2) فارتطمت به فرسه: أي غاصت به قوائمها (1)
(3) البخاري كتاب الجمعة 1 \ 224(30/242)
فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى وقام ذلك الأعرابي - أو قال غيره - فقال: يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع بيده فقال: اللهم حوالينا ولا علينا فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وصارت المدينة مثل الجوبة وسال الوادي قناة شهرا ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدث بالجود (3) » .
ومن ذلك دعاؤه على نفر من قريش لإيذائهم إياه صلى الله عليه وسلم:
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فدعا على ستة نفر من قريش فيهم أبو جهل، وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط، فأقسم بالله لقد رأيتهم صرعى على بدر، قد غيرتهم الشمس، وكان يوما حارا (4) » .
ومن ذلك أيضا «أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله. فقال: كل بيمينك قال: (لا أستطيع) قال: لا استطعت فما رفعها إلى فيه (5) » .
وسبب دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه علمه بأنه يستطيع الأكل بيمينه لكن الكبر منعه من الاستجابة لطلب الرسول عليه الصلاة والسلام (6) .
ومن ذلك ما صح عن جرير بن عبد الله أنه قال: ". . . «ولقد شكوت إليه (يعني الرسول عليه الصلاة والسلام) أني لا أثبت على الخيل فضرب بيده في صدري وقال: اللهم ثبته. واجعله هاديا مهتديا فأصبح جرير بهذه الدعوة فارسا (7) » .
__________
(1) القزعة: القطعة من السحاب. (3)
(2) الجوبة: الفرجة المستديرة في السحاب (1)
(3) قناة: مرفوع على البدل من الوادي غير منصرف لأنه اسم لواد معين من أودية المدينة (2)
(4) رواه مسلم كتاب الجهاد والسير 3: 1420، والبخاري كتاب الوضوء 1 \ 65
(5) صحيح مسلم الأشربة (2021) ، مسند أحمد بن حنبل (4/46) ، سنن الدارمي الأطعمة (2032) .
(6) انظر صحيح مسلم كتاب الأشربة 3 \ 1599
(7) انظر صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة 4 \ 1926(30/243)
* وبفضل دعائه صلى الله عليه وسلم هدى الله أم أبي هريرة رضي الله عنه، فقد كانت تقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يدعوها ولدها إلى الإسلام ما يحزن ولدها ويبكيه، فأتى مرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا طالبا منه أن يدعو لأمه بالهداية فقال عليه الصلاة والسلام: «اللهم اهد أم أبي هريرة (1) » فخرج مستبشرا بدعوة رسول الله عليه الصلاة والسلام فما إن وصل البيت حتى أمرته أمه بعدم الدخول فعرف أنها تغتسل، فلما انتهت فتحت الباب وشهدت شهادة الحق، فعاد هذه المرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا من شدة الفرح يبشره بهداية أمه (2) .
__________
(1) صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (2491) ، مسند أحمد بن حنبل (2/320) .
(2) انظر صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة 4 \ 1938.(30/244)
رابعا: المعجزات الحسية التي ظهرت على يديه صلى الله عليه وسلم ونقلها عنه أصحابه:
إذا كان الأنبياء والرسل السابقون قد أكرمهم الله تعالى بأن جعل على أيديهم بعض المعجزات الحسية المشاهدة وكانت بمثابة دليل على صدق نبوتهم، فإن الله تعالى قد أكرم نبينا بمعجزات حسية كثيرة تفوق من سبقه من الأنبياء، ونقلت إلينا بسند لا يرقى إليه أي شك، فمعجزاته صلى الله عليه وسلم قد أفردت فيها مصنفات مستقلة لكثرتها، والمقام هنا لا يتسع إلا لذكر بعضها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر فمن ذلك:
(1) انشقاق القمر: فقد «سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين (1) » .
وعن ابن مسعود قال: «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقتين فستر الجبل فلقة، وكانت فلقة فوق الجبل، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد (2) » .
وقد سجل الله تعالى هذه الآية العجيبة في كتابه الكريم فقال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} (3) {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} (4) .
__________
(1) أخرجه مسلم كتاب صفات المنافقين وأحكامهم باب انشقاق القمر 4 \ 2159.
(2) أخرجه مسلم كتاب صفات المنافقين باب انشقاق القمر 4 \ 2159.
(3) سورة القمر الآية 1
(4) سورة القمر الآية 2(30/244)
(2) تكثير الماء ونبعه من بين أصابعه الشريفة
وقد حصل هذا أكثر من مرة وفي أماكن متعددة، وانتفع خلق كثير بهذا الماء.
عن أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بإناء من ماء فأتي بقدح رحراح فيه شيء من ماء فوضع أصابعه فيه، قال أنس: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من أصابعه فحزرت من توضأ منه ما بين السبعين إلى الثمانين (1) » .
وعنه رضي الله عنه أنه قال: «كان نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالزوراء فدعا بقدح فيه ماء. فوضع كفه فيه. فجعل ينبع من بين أصابعه فتوضأ جميع أصحابه. فقيل له: كم كانوا يا أبا حمزة؟ قال: كانوا زهاء الثلاثمائة (3) » .
وحصل مثل هذا في الحديبية، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «عطش الناس يوم الحديبية والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوة فتوضأ فجهش الناس نحوه. فقال: ما لكم؟ قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك. فوضع يده في الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا. فقيل لجابر: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا. كنا خمس عشرة مائة (6) » .
وهذا تكرر أيضا في غزوة تبوك، حيث «كانت عين تبوك قليلة الماء جدا وغرف بعض الصحابة من العين قليلا من الماء حتى جمعوه في شيء، فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها. قال معاذ راوي الحديث: فجرت العين بماء منهمر حتى استقى الناس (7) » .
__________
(1) البخاري كتاب الوضوء 1 \ 58، ومسلم كتاب الفضائل 4 \ 1783.
(2) انظر مسلم كتاب الفضائل باب في معجزات النبي عليه الصلاة والسلام 4 \ 1783، 2279، والبخاري كتاب أحاديث الأنبياء باب علامات النبوة في الإسلام 4 \ 169.
(3) الزوراء مكان بالمدينة عند السوق والمسجد كما جاء في نص هذه الرواية. (2)
(4) انظر البخاري باب علامات النبوة في الإسلام 4 \ 170.
(5) الركوة: إناء صغير من جلد يشرب فيه. (4)
(6) الجهش: أن يفرغ الإنسان إلى غيره. (5)
(7) مسلم كتاب الفضائل ج4 \ 1784.(30/245)
(3) تكثيره الطعام: وقد حصل هذا أكثر من مرة فقد أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الجوع الشديد في غزوة الخندق، وعرف جابر رضي الله عنه ذلك في وجه الرسول صلى الله عليه وسلم فعمد إلى بيته وطحن صاعا من شعير وذبح بهيمة له وجعل اللحم في البرمة (1) ، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وأشار عليه أن يأتي بنفر من أصحابه معه ليأكلوا. قال جابر: فصاح النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع سؤرا فحي هلا بكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، فأخرجت (3) من برمتكم ولا تنزلوها. وهم ألف فأقسم بالله لقد أكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتا لتغط كما هي وإن عجيننا ليخبز كما هو» .
ونظير هذا قد حصل مرة أخرى حيث «جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه بيت أبي طلحة، وكان أبو طلحة قد عرف الجوع في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل أم سليم عما عندها في البيت فأخبرته أن فيه بعض أقراص من شعير، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه الناس أمر أم سليم أن تأتي بالخبز ففت وعصرت أم سليم عكة فأدمته فقال صلى الله عليه وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، فعمت البركة وأكل القوم كلهم حتى شبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلا (6) » .
__________
(1) البرمة: القدر من الحجر والجمع برم مثل غرفة وغرف.
(2) أخرجه البخاري باب غزوة الخندق 5: 46.
(3) (2) له عجينا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك. ثم قال: ادع خابزة فلتخبز معك واقدحي اقدحي: أي اغرفي.
(4) انظر البخاري كتاب المناقب 4 \ 171.
(5) عكة: بضم العين إناء من جلد يجعل فيه السمن والعسل. (4)
(6) أي جعلته إداما للمفتوت. (5)(30/246)
(4) حنين الجذع على فراقه صلى الله عليه وسلم:
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة فقيل له: يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا؟ قال: إن شئتم، فجعلوا له منبرا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر فصاحت النخلة صياح الصبي ثم نزل صلى الله عليه وسلم فضمه إليه يئن أنين الصبي الذي يسكن. قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها (3) » .
(5) ومنها انقياد الشجر له وطاعته إياه:
فعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: «سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلنا واديا أفيح فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته. فاتبعته بأداوة من ماء. فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها. فقال: انقادي علي بإذن الله فانقادت معه كالبعير المخشوش (6) مما بينهما، لأم بينهما (يعني جمعهما) فقال: التئما علي بإذن الله فالتأمتا» . . . وبعد أن انتهى من قضاء حاجته يقول جابر: فإذا أنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقبلا وإذا الشجرتان قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساق (7) .
__________
(1) انظر البخاري كتاب المناقب 4 \ 173.
(2) وفي رواية أخرى: جذع. (1)
(3) وفي رواية: سمعنا صوتا كصوت العشار، والعشار الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر. (2)
(4) صحيح مسلم الزهد والرقائق (3014) .
(5) واديا أفيح: أى واسعا. (4)
(6) (5) الذي يصانع قائده حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها فقال: انقادي علي بإذن الله فانقادت معه كذلك حتى إذا كان بالمنصف بالمنصف: أي نصف المسافة.
(7) انظر صحيح مسلم كتاب الزهد والرقائق 4: 2306.(30/247)
فهذه نماذج من أمثلة كثيرة كلها تشهد بنبوته صلى الله عليه وسلم ومن أراد المزيد فعلية مراجعة الكتب التي اختصت بهذا الشأن وهي كثيرة جدا.(30/248)
خامسا: إخباره صلى الله عليه وسلم بمغيبات كثيرة ثم تحققت كما أخبر
كما أن القرآن الكريم اشتمل على بعض المغيبات الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم - كما سبق أن أشرنا من قبل - فإنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر بمغيبات كثيرة فيها الدلالة الواضحة على أنه رسول من عند الله لا ينطق عن الهوى، وهذه المغيبات التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم صحابته الكرام نقلت إلينا بأسانيد صحيحة ثابتة لا يرقى إليها أي شك أو شبهة، ونكتفي بإيراد بعضها.
1 - إخباره صلى الله عليه وسلم بأن عمار بن ياسر «ستقتله الفئة الباغية (1) » .
2 - إخباره صلى الله عليه وسلم بأن أول أهله لحوقا به ابنته فاطمة (2) رضي الله عنها وكان الأمر كما أخبر.
3 - ومن ذلك إخباره بأن الحسن بن علي سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من أمته (3) وحصل ذلك بأن تنازل الحسن لمعاوية - رضي الله عنهما - عن الحكم وتم الصلح.
4 - ومن ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بموت النجاشي ونعيه إياه في اليوم الذي مات فيه (4) رغم المسافة الشاسعة بينه صلى الله عليه وسلم وبين الحبشة.
__________
(1) انظر صحيح البخاري كتاب الصلاة 1: 115.
(2) انظر صحيح البخاري كتاب المناقب 4 \ 183.
(3) انظر صحيح البخاري كتاب فضائل أصحاب النبي 4 \ 216.
(4) انظر صحيح مسلم كتاب الجنائز 2 \ 656.(30/248)
5 - إخباره صلى الله عليه وسلم بأن الخليفتين عمر وعثمان سيستشهدان (1) وتحقق ما قال.
6 - ومن ذلك إخباره بأن الله تعالى سيفتح للمسلمين جزيرة العرب وبلاد فارس وبلاد الروم (2) .
7 - ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم بين مكان مصرع بعض الكفار في غزوة بدر قبل بدء القتال، فما تعدى أحد مكانه الذي عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) .
8 - ومن ذلك إخباره عن سبب هبوب ريح شديدة، وكان قادما من سفر فأخبر عن السبب قبيل أن يصل المدينة فقال: «بعثت هذه الريح لموت منافق (4) » فكان السبب كما قال.
9 - ومن ذلك: نعيه زيدا وجعفرا وابن رواحة قبل أن يأتيه خبرهم (5) مع البعد الشاسع بين المدينة ومؤتة إذ بينه وبينهم مسيرة شهر في ذلك الزمان.
10 - ومن ذلك: إخباره - عند وصوله تبوك - أن ريحا شديدة ستهب وأمر ألا يقوم أحد من مكانه وأن من له بعير فليشد عقاله. وحصل ما قال (6) .
11 - ومن ذلك: تبشيره بعض أصحابه بالجنة، وما علم أن واحدا من هؤلاء المبشرين ارتد عن دينه أو عمل عملا ينافي هذا التبشير.
12 - ومن ذلك أيضا: إخباره بأن النبوة قد انتهت، وأنه لا نبي بعده، وأن شجرة النبوة قد انقطعت بمبعثه. وقد مضى على إعلان ختم النبوة أكثر من أربعة عشر قرنا، ولم يأت نبي ينقض قوله صلى الله عليه وسلم اللهم إلا بعض من ادعاها كذبا وزورا، وقد حذر هو نفسه صلى الله عليه وسلم منهم، وقال سبحانه مبينا ختم النبوة: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (7) .
__________
(1) انظر الترمذي كتاب المناقب 5 \ 624.
(2) انظر صحيح مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة 4 \ 2225، والبخاري كتاب المناقب 4 \ 125.
(3) انظر صحيح مسلم كتاب الجنة وصفة نعيمها 4 \ 2202 - 2203.
(4) انظر صحيح مسلم صفات المنافقين 4 \ 2146.
(5) انظر صحيح البخاري كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم 4 \ 318.
(6) انظر صحيح مسلم كتاب الفضائل 4: 1785.
(7) سورة الأحزاب الآية 40(30/249)
وقال صلى الله عليه وسلم مؤكدا هذه الحقيقة: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة! فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين (1) » .
وقال صلى الله عليه وسلم محذرا من أدعياء النبوة: «لا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين. كلهم يزعم أنه رسول الله (2) » .
هذه بعض المغيبات التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها كما أخبر فأنى لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يخبر بالغيب ثم يأتي الواقع ليصدق خبره لو لم يكن رسولا نبيا مؤيدا بوحي الله عز وجل؟ ولولا ثقته بأنه رسول الله حقا ما أقدم على الإخبار بأمور مغيبة وهو يعلم تمام العلم أن هذا الغيب الذي أخبر به لو لم يقع لكفر به وبرسالته أقرب المقربين إليه.
__________
(1) انظر صحيح مسلم كتاب الفضائل 4 \ 1791.
(2) انظر صحيح مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة 4 \ 2240.(30/250)
سادسا: الكرامات الكثيرة التي ظهرت على يد أصحابه وغيرهم ممن صدق السير على نهجه وطريقه صلى الله عليه وسلم:
* فمن ذلك البركة التي عمت طعام أبي بكر فقد انطلق - رضي الله تعالى عنه - بثلاثة من أهل الصفة الفقراء إلى بيته، فكان هو وأهله وضيوفه لا يأخذون من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، فشبعوا جميعا وصار الطعام أكثر مما كان عليه قبل أن يؤكل (1) .
* ومن ذلك أيضا ما كان من أمر عمر - رضي الله عنه - أثناء خطبته فقد بعث رضي الله عنه جيشا (2) وأمر عليهم رجلا يدعى سارية - فبينما عمر يخطب، فجعل
__________
(1) انظر صحيح مسلم كتاب الأشربة 3 \ 1627 - 1628.
(2) أرسل هذا الجيش إلى فارس.(30/250)
يصيح: يا ساري الجبل. فقدم رسول من الجيش فقال: يا أمير المؤمنين لقينا عدونا فهزمونا، فإذا بصائح يصيح: يا ساري الجبل. فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزمهم الله تعالى.
ومن كرامات أصحابه أيضا: النور الذي أضاء لأسيد بن حضير، وعباد بن بشر فقد خرجا في ليلة مظلمة من عند النبي صلى الله عليه وسلم وإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا فتفرق النور معهما (1) وأضاء لكل واحد منهما حتى أتى كل واحد أهله (2) .
ومن ذلك إجابة بعض دعاء بعض أصحابه. فقد خاصمت أروى سعيد بن زيد في بعض داره فقال: دعوها وإياها. . . ثم دعا قائلا: اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها، واجعل قبرها في دارها. فعميت وكانت تقول: أصابتني دعوى سعيد. وبينما هي تمشي مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها (3) .
ومن ذلك ما كان من أمر سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأسد. قال سفينة: ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها فركبت لوحا من ألواحها فطرحني اللوح في أجمة فيها أسد فأقبل إلي يريدني. فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فطأطأ رأسه وأقبل إلي فدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة ووضعني على الطريق وهمهم فظننت أنه يودعني فكان ذلك آخر عهدي به (4) .
فهذه بعض كرامات أصحابه تشهد بنبوته صلى الله عليه وسلم، فإن أتباع المبطلين - الذين يدعون النبوة مجرد ادعاء وهم في الحقيقة غير ذلك - لا تكون لهم الكرامات ولا تنخرق لهم العادات، فإن انخراق العادات لبعض من صدق السير على منهجه صلى الله عليه وسلم من أصحابه
__________
(1) انظر البخاري كتاب مناقب الأنصار 4 \ 228، وكتاب الصلاة1 \ 119
(2) انظر البخاري كتاب مناقب الأنصار 4 \ 228، وكتاب الصلاة1 \ 119
(3) انظر صحيح مسلم كتاب المساقاة 3 \ 1230
(4) أخرجه الحاكم في المستدرك 3 \ 606، وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.(30/251)
ومن جاء بعدهم من أمة الإسلام ليعتبر من أقوى الأدلة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم وما ذكرناه من هذه الكرامات ما هو إلا غيض من فيض إذ المقام لا يتسع لذكر أكثر من ذلك.(30/252)
سابعا: بشارات الكتب السابقة به صلى الله عليه وسلم:
أثناء الحديث عن بشارات الكتب السابقة بمحمد صلى الله عليه وسلم لا بد من الإشارة إلى بعض الأدلة التي تفيد أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد بشر به في كتب أهل الكتاب. فمن هذه الأدلة:
1 - إشارة القرآن الكريم إلى ما جاء في كتبهم من البشارة عليه الصلاة والسلام.
فقد أخبر سبحانه في مواضع من كتابه - الذي ثبت بالدليل أنه من عند الله تعالى - أن الأنبياء السابقين بشروا بمجيئه صلى الله عليه وسلم ذاكرين لأممهم اسمه وصفاته، وصفات أصحابه، كما أخبرنا أن أهل الكتاب يعلمون ذلك حق العلم، وأخبرنا أيضا أنه سبحانه قد أخذ الميثاق من الأنبياء جميعا على الإيمان به.
قال تعالى حاكيا بشارة عيسى عليه الصلاة والسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (1) .
وقال سبحانه مبينا صفاته وصفات أصحابه كما وردت في كتبهم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (2) -.
وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (3) .
__________
(1) سورة الصف الآية 6
(2) سورة الأعراف الآية 157
(3) سورة الفتح الآية 29(30/252)
وأكد سبحانه معرفة أهل الكتاب به معرفة لا يشوبها شبهة أو شك بقوله: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (1) .
ومما تجدر الإشارة إليه أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان أرجح الناس عقلا باعتراف أعدائه وأصدقائه وكان يعلن على الملأ أنه مذكور في كتبهم، وبأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. فلو لم يكن رسولا نبيا وعنده من الأدلة الدامغة على وجود اسمه وصفته. . في كتبهم لما أخبر بذلك - مرة بعد مرة موافقيه ومخالفيه وأولياءه وأعداءه فإن هذا لا يفعله إلا من هو أقل الناس عقلا فكيف ومحمد صلى الله عليه وسلم أعقل الناس بشهادة العدو والصديق؟ (2) .
2 - إيمان بعض علماء أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فقد آمن به عبد الله بن سلام (3) رضي الله عنه الذي اعترف له اليهود أنفسهم بفضله ومكانته وعلمه.
وآمن أيضا برسالته النجاشي الذي كان على علم كبير بدين النصرانية.
كما أن ورقة بن نوفل تمنى أن يكون حيا حين إخراج قريش محمد صلى الله عليه وسلم لينصره النصر المؤزر، وبشره بأنه نبي هذه الأمة بعد ما قص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رآه في حراء. ومعلوم أن ورقة بن نوفل كان قد تنصر في الجاهلية وهو على علم جم بديانة أهل الكتاب (4) .
__________
(1) سورة البقرة الآية 146
(2) انظر ابن تيمية: الجواب الصحيح 3: 292، الملكاوي: بشرية المسيح ونبوة محمد (تحت الطبع) ص 519
(3) انظر قصة إسلام عبد الله بن سلام في البخاري كتاب أحاديث الأنبياء 4 \ 102
(4) وانظر قصة ورقة في البخاري كتاب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 1 \ 3(30/253)
وهؤلاء جميعا كانوا يعلمون أن نبيا سيأتي في آخر الزمان من ولد إسماعيل لورود ذلك في كتبهم فما إن أظهر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نظروا في أوصافه وتأملوها فعلموا أن تلك الأوصاف الواردة في كتبهم تمام الانطباق عليه صلى الله عليه وسلم.
3 - عدم تحذير الأنبياء السابقين منه.
لا شك أن الأنبياء السابقين حذروا أممهم من الفتن حتى يأخذوا حذرهم فلا يقعوا فيها. ومعلوم أن ظهوره صلى الله عليه وسلم وإبطاله جميع الشرائع السابقة عند أهل الكتاب، وتصحيح تصوراتهم الاعتقادية، وقتالهم، واتهامهم بالتحريف لكتبهم وتكفيره لهم، ومحاربته لطواغيت الأرض وكسر شوكتهم ونشر دينه في ممالكهم ليعد أكبر حدث في العالم، فلو لم يكن رسولا نبيا فلو لم يحذر منه أنبياء بني إسرائيل أممهم كما حذروا من الفتن الأخرى كفتنة الدجال مع أن مكث الدجال في الأرض يكون لفترة قصيرة، ودين محمد صلى الله عليه وسلم لا يزال قائما منذ أربعة عشر قرنا.
ولو كان في كتبهم أدنى تحذير منه، أو ذكر له بالذم لكان ذلك من أعظم ما يحتجون به عليه في حياته وعلى أمته بعد مماته. ولما لم يقل أحد إن في كتبهم التحذير منه أو الذم له - مع أن فيها التنبيه والتحذير على أقل من ذلك بكثير - علم أنه رسول صادق.
4 - النصوص الموجودة في كتبهم تبشر به صلى الله عليه وسلم.
من المعلوم أن كتب أهل الكتاب قد لحقها التغيير والتبديل ومع هذا نجد البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم حيث جاء فيها ذكر أوصافه، وجميل سيرته، وبلده، وصفة أصحابه، وصلاح أمته وأنه من ولد إسماعيل. . إلى غير ذلك مما جاء في كتبهم الموجودة بين أيديهم الآن.(30/254)
وقد استخرج علماء المسلمين تلك البشارات الواردة في كتب العهدين القديم والجديد وتناولها بالتحليل والمناقشة وبينوا بما لا يدع مجالا للشك أنها لا تنطبق إلا على محمد صلى الله عليه وسلم.
ومما تجدر الإشارة إليه أن كتب أهل الكتاب لو سلمت من التحريف والضياع (1) لظهرت هذه البشارات جلية واضحة لكل قارئ لكتب العهدين من علماء وغيرهم.
وأخيرا بعد هذا العرض لدلائل النبوة يتضح - دون أدنى شك - أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد حاز من الآيات والبراهين الدالة على صدق نبوته ما لم يحزه غيره من الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين.
وهذا ما دفع بعض العلماء المنصفين إلى الاعتراف برسالته صلى الله عليه وسلم.
انتهى بحمد الله وتوفيقه
__________
(1) وقد اعترفوا بذلك (أي بضياع جزء منها) . انظر الهندي: إظهار الحق 280 وما بعدها(30/255)
انتشار ترجمات معاني القرآن الكريم في مشرق العالم ومغربه
بقلم: السيد أحمد أبو الفضل عوض الله
لقد كان ظهور الإسلام حدثا عالميا أوجد حركة إنسانية كبرى، ترتبت عليها نتائج ضخمة لم تقف عند الحدود الجغرافية للبلاد التي شهدت بوادره الأولى، بل لقد تجاوزت هذه الحدود إلى ما وراءها. واستمرت تفاعلاتها الفكرية تنتقل من بلد إلى آخر، ومن زمن إلى زمن، حتى فرضت نفسها على تطور الحضارة العالمية، وأصبحت(30/257)
إحدى الظواهر الأساسية لتطلع الإنسان إلى حياة أفضل، وبذلك لم يجد أهل العلم من رجال الفكر على تباين لغاتهم ومذاهبهم بدا من العودة إلى الكتاب الذي ضم بين دفتيه شعائر هذا الدين وأركانه، للاطلاع عليه ودراسته وتدبره وتمحيصه. ومن ثم أصبحت ترجمة معاني القرآن، هذا الكتاب الخالد الذي لا يشبع منه العلماء ولا يبلى من كثرة الترداد، هكذا أصبحت ترجمة معاني القرآن الكريم هدفا لمحاولات جادة قام بها العلماء في مشرق العالم ومغربه، ولا تزال هذه المحاولات قائمة حتى الآن، وكلها تسعى إلى ترجمة النص العربي لمعاني القرآن الكريم ونقله إلى لغات العالم الحية بقدر الإمكان.
ولسنا هنا بصدد تحليل هذه الترجمات ومناقشتها في قربها أو بعدها عن الغرض الذي تسامت إليه، وإنما نريد أن نعطي القارئ عرضا تاريخيا لهذا الموضوع الخطير، ونضع بين يدي المهتمين بالدراسات القرآنية تعريفا بهؤلاء الأشخاص الذين ندبوا أنفسهم للتصدي لهذا العمل الجليل. ولا نزاع أن الترجمة الحرفية للقرآن الكريم ستبقى الضالة المنشودة، كما أنها ستبقى الغاية التي لن تدرك؛ لأن ترجمة الوحي الإلهي الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين ليست بالأمر الهين، وفي ذلك يقول المستشرق الألماني " فيشر ": " لا يداخل الذين تعمقوا في أسرار العربية شك في أنه لا يوجد بين تراجم القرآن، سواء أكانت كاملة أم قاصرة على بعض آيات منه - ترجمة تفي بالمطالب اللغوية الدقيقة ".(30/258)
القرآن الكريم في أوروبا:
إن التواتر الدائم الذي كانت تتميز به العلاقات بين الإسلام والنصرانية لا سيما في أثناء الحروب الصليبية وبعدها، كان يقف حجر عثرة يحول دون اطلاع الأوربيين على القرآن الكريم، سواء بغلته العربية الأصيلة أو مترجما إلى إحدى اللغات الأوربية السائدة.
وعندما أقدم العالم الإيطالي " باكانين " على طبع القرآن الكريم في مدينة البندقية سنة 1530 ميلادية، بادر البابا بولس الثالث [1534 - 1537 م] إلى إصدار الأمر المشدد بإتلاف كافة النسخ المطبوعة في الحالة. غير أن البابا الكسندر السابع [1555 -(30/258)
1567] عاد فألغى أمر الباب السابق وسمح بطبع القرآن الكريم لمن شاء كما سمح بترجمته والقيام بدراسته.(30/259)
أول ترجمة للقرآن الكريم في أوربا.
إن أول ترجمة للقرآن الكريم في أوربا كانت بإشارة من بطرس المحترم abbot GLUG ny petrus venerabilis رئيس دير كلوني المتوفى سنة 1157 ميلادية فبعد قيامه برحلة إلى إسبانيا بين سنتي 1141 - 1143 م وبمساعدة ريمون الطليطلي كما هو مظنون، ألف لجنة رأسها روبرت الراتيني (إنجليزي) Robert of Ratina الذي كان يشغل منصب رئيس الشمامسة بمدينة بمبلونا يساعده راهب ألماني يدعى هرمان Hermann ورجل آخر اسمه بطرس الطيطلي ويرجح أن هذا الأخير هو المترجم الحقيقي لمعاني القرآن الكريم إذ كان يتقن العربية اتقانا تاما.
وتمت هذه الترجمة حوالي سنة 1143 م، وأرسلت بعد إنجازها إلى رئيس دير كلوني العام برندوس الذي وضعها تحت تصرف رجال الكنيسة ليستفيدوا منها في استكمال دراساتهم اللاهوتية أو القيام بأعمال التبشير وكان ظهور هذه الترجمة بعد الحملة الصليبية بأربع سنوات.
وقد ذكر هذه الترجمة المفهرس الألماني شتور في الصفحة (421: 427) من الفهرس الذي وضعه بعنوان " المكتبة العربية " وكذلك أشار إليها مفهرس ألماني آخر هو " بيفان مولر " في الصفحة (213) والجدير بالذكر أن هذه الترجمة بالذات هي التي طبعها تيودور بيبلنياندر Theodor Bibilander: في بازل سنة 1543 ونقلت بعد ذلك إلى الإيطالية والألمانية والهولندية.
وقد ظهرت فيما بعد طبعات أخرى لترجمة بيبلياندر وذلك سنة 1550م م سسنة 1721م في مدينة ليبزج EBZIG كما طبع في هذه المدينة أيضا ترجمة لاتينية لمعاني القرآن الكريم مع أصله العربي سنة 1768 قام بها جوستاس فريد ريكوس فورياب justas وثمة اعتقاد بأن الكتاب الذي نشره العالم الإيطالي " أندريا(30/259)
اريفايانيه سنة 1547م بعنوان: " قرآن محمد L، alcorno de Macometto " لم يكن في الواقع سوى الترجمة الإيطالية من الأصل اللاتيني الذي وضعه كما ذكرنا من قبل روبرت الراتيني، وهذه الترجمة بالذات هي التي نقلت فيما بعد إلى الألمانية وطبعت سنة 1616م، وإلى الهولندية سنة 1647م وطبعت في هامبورج.
ولقد ترجمت معاني القرآن الكريم مرة أخرى إلى اللاتينة على يد الأب بولس لويس مراكشي owis Marracciوذلك سنة 1698م وقد تضمنت هذه الترجمة الأصل العربي والترجمة اللاتينية والألفاظ المصححة.
ومن الطريف أن رجال الدين النصارى في أوربا حاربوا القرآن الكريم، عن طريق إطلاق الشائعات بأن من يطبعه أو يحاول طبعه فإنه يلاقي الموت الزؤام قبل أن يحل أجله الطبيعي.(30/260)
القرآن الكريم في ألمانيا:
على أنه على الرغم من حرب الأعصاب التي شنتها الكنيسة على أتباعها، لكي تصرفهم عن الاهتمام بطبع القرآن الكريم، فإنه ما إن حل القرن السابع عشر للميلاد حتى ظهر هذا الكتاب المقدس في ألمانيا نفسها على يد المستشرق " هيابل " الذي نقله إلى الألمانية عن الترجمة الإيطالية للنسخة الأصلية التي وضعت في الأساس باللغة اللاتينية (1) .
__________
(1) 4 - تحت راية القرآن: للشيخ عبد القادر الأعظمي - نشرة الرسالة الصادرة في بون سنة 1963 م ص 2.(30/260)
محاولات ألمانية لتعميم طبع القرآن الكريم في ألمانيا.
ولقد جرت في ذلك الزمن عدة محاولات جادة لتعميم طبع القرآن الكريم في ألمانيا، يقول المؤرخ الألماني المعروف " ولهلم ايرنست تينتزل من مدينة جونا " في أحد أعداد مجلته الشهرية " مكالمات شهرية يا أصدقاء " الصادرسنة 1662م: " علمنا من البروفسور يوهان أندرياس دانتز، أستاذ اللغات الشرقية أنه مزمع على طبع القرآن باللغة العربية. . وقد ذكر " فون أوست " بفايفر من لوبيك بألمانيا عن طبعات القرآن وذلك في مقدمة كتابه " علوم الدين في اليهودية والإسلام " الذي ظهر سنة 1687م، في هذا الوقت الذي يسعى فيه كثيرون من الذين يدرسون اللغات الشرقية وعلومها للحصول(30/260)
على نسخ مطبوعة للقرآن، تقرر طباعة مجموعة جديدة للقرآن. . . ولكن هذا الحلم لم يتحقق آنذاك لصعوبات وقفت في وجه كل من الرجلين ا. هـ " (1) .
__________
(1) 5 - تحت راية القرآن: للشيخ عبد القادر الأعظمي - نشرة الرسالة الصادرة في بون سنة 1963 م ص 2.(30/261)
أول طبعة للقرآن الكريم في ألمانيا:
كانت أول طبعة لترجمة معاني القرآن الكريم في ألمانيا باللاتينية، ثم تلتها ترجمات أخرى إحداها لسكويجر (schweigger) وكانت عن الإيطالية طبعت في نورنبرج سنة 1616م، وفي سنة 1693 م، سنحت الفرصة للناشر هينكلمان في ألمانيا فتم له طبع القرآن الكريم سفر 1694م. وتقع هذه الطبعة في 560 صفحة بحجم 17. 5 X 21. 5 سم، ولقد لقي هينكلمان الاحترام من الجميع، وفي مقدمة هذه الطبعة التي بلغ عدد صفحاتها 80 صفحة ضمن هينكلمان آراءه الشخصية في الآداب والعلوم الشرقية بالعربية، وفي نهاية هذه المقدمة أبدى أسفه لقلة ما يعرفه الأوربيون بصورة عامة عن العرب واللغة العربية. ولا تزال نسختان من طبعة هينكلمان للقرآن الكريم موجودتين في ألمانيا إحداهما في المكتبة العامة بمدينة هامبورج والأخرى بمكتبة جامعتها.(30/261)
طبعات قديمة للقرآن الكريم في ألمانيا:
ثم توالت طبعات القرآن الكريم في ألمانيا، ومن ذلك طبعة لفردريك مجرلين (Fredrick Megrerlin) التي صدرت في فرانكفورت سنة 1772م وطبعة ترجمة سيل (Sale) الإنجليزية التي نقلها إلى الألمانية ثيو أرنولد (Theo Arnold) التي طبعت في لمجو (Lemgo) سنة 1746 م. على أن أحسن الترجمات الألمانية هي التي قام بها بويسون (Beyson) سنة 1773 م، وهي التي نقحها فيما بعد وهل (G. Wahl) سنة 1828م، وهناك طبعة أولمان ((Uilmannسنة 1953م والتي أعيد طبعها عدة مرات.(30/261)
عرض سريع للترجمات الأوربية والشرقية لمعاني القرآن الكريم:
الفرنسية ترجم معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية أندرو راير (Andreo Du Ryer) الذي كان يعمل قنصلا عاما لفرنسا في مصر، وكانت له معرفة طيبة باللغتين التركية(30/261)
والعربية، وطبعت ترجمة عام 1647م وفي سنة 1783 طبعت ترجمة سفاري Savaryثم تلا ذلك ترجمة كازيميرسكي KASIMIRSKIالتي طبعت مرتين سنة1840 م، 1841م ثم طبعة ثالثة سنة 1875م.
وفي سنة 1852 طبعت ترجمة يونية.
السويدية: في سنة 1874م تولى تورنبرج (G. G. Tomberg) ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة السويدية.
الأسبانية: في القرن الثالث عشر الميلادي طلب الفونس العاشر أن تترجم معاني سورة الإسراء إلى اللغة الإسبانية، فقام بهذا العمل طبيبه الخاص الدون إبراهيم، وقد نقلت هذه الترجمة إلى الفرنسية بواسطة بونا فنتورا دي سيف Bonna Ventura A save.
الهولندية: وأول ترجمة هولندية نقلت عن ترجمة سكويجر (Schweigger) طبعت في هامبورج سنة1641م، ثم ترجمة جلاماكر (J. H. Glasemaker) الذي اعتمد فيها على ترجمة راير الفرنسية وقد طبعت في ليدن (Leyden) سنة 1658م ثم طبعت هذه الترجمة مرتين إحداهما في سنة 1698 م وأخرى سنة 1734م.
وفي سنة 1806 م قام بترجمة معاني القرآن الكريم الدكتور كيزر (Keyser) الذي كان يتولى تدريس الشريعة الإسلامية بجامعة دلفت (Deleft) وطبعت هذه الترجمة باللغة الهولندية في مدينة هارلم.
الروسية: وفي سنة 1776م. ظهرت ترجمة روسية لمعاني القرآن الكريم في مدينة بتراجراد (لينينجراد اليوم) .
الإيطالية: وفي سنة 1547م قام أندر أريفابين (Ander Arivaben) بنقل ترجمة بيبلياندر اللاتينية إلى الإيطالية. ومن الترجمات الإيطالية ترجمة أكيلو فاراكسي ((Aquilio Fracassiأحد أساتذة الفنون الملكية بميلانو سنة 1914م، وقدم لها بمقدمة عن التراجم الإيطالية القديمة مع ملخص للسور وشرح أسمائها.
الإنجليزية: كانت أول ترجمة لمعاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية هي التي قام بها الكسندر روس (Alexander Ross) التي نقلها عن ترجمة راير الفرنسية ثم ترجمة الدكتور سيل (Sale) وهذا الأخير نقلها عن العربية مباشرة سنة 1734 م؛ وقد طبعت(30/262)
هذه الترجمة عدة مرات مع مقدمة مسهبة تحت عنوان " مقالة في الإسلام " وقد وضع المترجم على هامش ترجمته بعض التفاسير عن البيضاوي (1) وكذلك ترجم معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية القسيس رودويل (Rodwell) وهو إنجليزي وجعل ترجمته وفقا لترتيب نزول الآيات تاريخيا، وقد طبعت هذه الترجمة على الحجر على هامش القرآن الكريم سنة 1833م.
وقد حاول ريتشارد برتن مع آخرين ترجمة معاني القرآن الكريم بالسجع الشعري ونشرت أجزاء من هذه الترجمة في مجلة أدنبرج سنة 1866م.
بلغة الاسبرانتو العالمية: وقد قام بهذه الترجمة خالد شلدريك (Khalid Sheldrake) وظهر بعضها في مجلة إسلاميك ريفيوا وفيما يلي سورة الفاتحة بهذه اللغة.
AL FATHA PRO LA SURA NOMO de dio la indugema and IMALSEVSRA Laudo esto al dio la majstro de la mondoj Plena de kompato Rego en la Tago de lajogo Al vi Servu ni Kaj al vi ni prgu Konduleo nin en la gusta vojo Ne de Tiujj Kiu Koleras Kontrau via vola Ne de tiujj eraras Amin
__________
(1) 8 - نقلت هذه المعلومات عن القس صموئيل زويمر من مقاله المذكور من قبل.(30/263)
الترجمات الشرقية لمعاني القرآن الكريم.
الفارسية: إن هذه اللغة هي أول ما ترجمت إليه معاني القرآن الكريم من اللغات، وقد ذكر الفقيه الكبير شمس الأئمة السرخسي في كتابه المبسوط (ص73) أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله روى أن الفرس كتبوا إلى مواطنهم سلمان رضي الله عنه أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية. فكانوا يقرأون ذلك في الصلاة حتى لانت ألسنتهم العربية، وبذلك تكون هذه الترجمة أقدم ما عرف على الإطلاق من ترجمات معاني القرآن الكريم.
وذكر الجاحظ في " البيان والتبيين " أن موسى بن سيار الأسواري المتوفى سنة 255 هجرية كان يدرس تفسير القرآن الكريم بالفارسية. ووصل إلينا ترجمة معاني القرآن(30/263)
الكريم على أيدي علماء ما وراء النهر سنة 345هجرية للملك منصور بن نوح الساماني وأضافوا إلى الترجمات تفسير الطبري المتوفى سنة 310 هجرية.
وفي العصور الحديثة ظهرت نسخة فارسية وعربية وجزءان طبع كل منهما سنة 1831م وأشار برونيه (BRUNET) إلى ترجمة فارسية أخرى في أصفهان، وقد طبعت خصيصا للشاه رافع الدين ترجمة فارسية وعلى هامشها تفسير باللغتين الفرنسية والأوردية (لغة الهند) وباكستان.
السريانية: وأول ما ترجم القرآن الكريم من غير المسلمين هم السريان؛ فقد عثر على كتاب جدل، فيه ترجمة لمعاني آيات القرآن بالسريانية، وهو مخطوط على رق، لا تزال محفوظة في مكتبة منشستر بإنجلترا، ويقول الأستاذ مانكانا: إن " هذه الترجمة هي من وضع بارصليبي المعاصر للحجاج بن يوسف، أي في الثلث الثالث من القرن الأول للهجرة ".
العبرية: ذكرت دائرة المعارف اليهودية أنه توجد بعض ترجمات لمعاني القرآن الكريم باللغة العبرية وأن بعض أجزاء من هذه الترجمات توجد في المكتبة البودلية (BODELLIAN (بأكسفورد بإنجلترا تحت رقم 1221. وفي فهرست تلك المكتبة، عنوان لكتاب عبراني يشتمل في آن واحد على التوراة والترجوم والقرآن الكريم.
وقد ترجم معاني القرآن الكريم من اللاتينية إلى العبرانية يعقوب بن إسرائيل حاخام زنتى سنة1634م، ثم ترجمه هرمان ريكندوف (HERMANN REEKENDORF) وطبع في ليبزج سنة 1857م.
الأوردية (الهندية) أقدم الترجمات الأوردية قام بها الشيخ عبد القادر بن الشاه ولي الله، طبعت في دلهي سنة 1790م، وظهرت في طبعات مختلفة مع الأصل العربي، وترجم معاني القرآن الكريم إلى الأوردية كذلك الدكتور عماد الدين أمرتسار (AMRITSAR) : وقد طبعت ترجمته في " الله أباد " وهي أول طبعة بحروف أوردية أفرنجية. وهناك طبعة 1315 هـ اسمها: (القرآن الكريم) وفيها الأصل العربي وترجمته بالفارسية والأوردية.(30/264)
البنجالية (الهند) : في سنة 1908م بدأ القس (وليم جلود ساك) ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغة بنجالي في الهند.
الجاوية: ترجمت معاني القرآن الكريم إلى لغة مالي بجاوة مع تفسير البيضاوي، وظهرت ترجمته باللغة الجاوية سنة 1913م لرجل كان يسمي نفسه خادم سلطان تركيا.
التركية: كان السلطان عبد الحميد الثاني يمنع منعا باتا ترجمة معاني القرآن إلى اللغة التركية، وبعد إعلان الدستور سنة 1908م بدأ بعض الكتاب الأتراك في ترجمته إلى اللغة التركية وسط مقاومة بعض المتمسكين من المحافظين على القديم، وأول ترجمة من هذا النوع ظهرت لإبراهيم حلمي، كما ظهرت كذلك ترجمة أخرى في المجلة التركية (إسلام مجموعة س) لمحررها سليم ثابت بقلم رجل كان يوقع اسمه: خ. ن.
ولا بد من الملاحظة بأن هذه الترجمات الشرقية لم تكن في الواقع ترجمة بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة بل هي عبارة عن تفسير لآيات القرآن الكريم ومن هذا القبيل ما وضع كل من فرجنيل (M. F Fargenal) وبوفات (M. BOUVAT) من شرح للقرآن الكريم باللغة الصينية في مجلة ريفودي موند مسلمان ((Reveue de Monde Musulman (جزء 4 ص540) .(30/265)
قائمة باللغة التي ترجمت إليها معاني القرآن وعدد كل منها
عددها
1 - أرغونية 1
2 - أسوجية 6
3 - أفريقانية (لهجة من الونديزية بالحرف العربي)
4 - ألبانية 2
5 - الخميادو (إسبانية بالحرف العربي) 35
6 - ألمانية 42
7 - إنجليزية 57
8 - أوكرانية 1
9 - ايسبرانتو 1
10 - برتغالية 4
11 - بلغارية 2
12 - بشنافية (يوغسلافية بالحرف العرب)
13 - بولونية لاتيني بالعربي 7
14 - بوهيمية من تشيكوسلافاكية 3
15 - تركية - باللاتيني بالإيفور القديم 3 قطعات بالعربي (في فهرست د. يشاء) 60 تقريبا
16 - دانماركية 3
17 - روسية 11
18 - رومانية 1
19 - إيطالية 11
20 - فرنسية 33
21 - فنلندية 1
22 - لاتينية 42
23 - مجرية (هنجارية)
24 - نوريجية 1
25 - ولنديزية 7
26 - أسبانية (باللاتيني) 18
27 - اليونانية 3(30/266)
بعد هذا العرض التاريخي لترجمات معاني القرآن الكريم في اللغات المختلفة. فإني أهيب بعلماء المسلمين في أنحاء العالم العربي والإسلامي كافة وبخاصة في المملكة العربية السعودية إلى جمع ترجمات معاني القرآن الكريم من مظانها ودراستها ومراجعتها وتمحيصها بالاستعانة بنخبة مصطفاة من المترجمين المسلمين النابهين في اللغتين العربية واللغات المترجم إليها، وذلك لتدارك ما قد يكون قد وقع سهوا أو لعدم قدرة المترجم وتمكنه من النقل عن العربية من أخطاء طباعية أو نتيجة لعدم قدرة المترجم على فهم أسرار اللغة العربية وسبر أغوارها التي قد تخفى أحيانا على أهلها والناطقين بها. وهذه دعوة أرجو أن تجد سبيلها إلى أسماع قادة المسلمين والمحافظين على كتابها الأعظم والله من وراء القصد.
السيد أحمد أبو الفضل عوض الله(30/267)
قرارات وتوصيات المؤتمر الإسلامي العالمي لمناقشة الأوضاع الحاضرة في الخليج
المنعقد بمكة المكرمة في الفترة من 21 - 23 \ 2 \ 1411هـ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فنظرا للأحداث الجلى التي نزلت بمنطقة الخليج من اجتياح القوات العراقية للكويت وتهديدها المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى وما تبعه من الاستعانة بالقوات العربية والإسلامية والأجنبية لمساندة قواتها.
فقد دعت رابطة العالم الإسلامي إلى مؤتمر إسلامي عالمي ضم علماء المسلمين ومفكريهم من أنحاء العالم حيث انعقد في الفترة من 21 - 23 صفر 1411 هـ - الموافق 10 - 12 سبتمبر 1990م.
وقد تداول أعضاء المؤتمر في الأحداث الخطيرة انطلاقا من واجبهم الديني ومسئوليتهم الإنسانية والتاريخية.
وحرصا على استمرار وازدهار أواصر الأخوة والقربى والجوار.
وإدراكا للأخطار والتحديات التي تهدد الأمة في حاضرها ومستقبلها في كيانها المعنوي والمادي.
وبعد مداولات استغرقت ثلاثة أيام واتسمت بروح الأخوة الإسلامية والصراحة والموضوعية.(30/269)
أصدر المؤتمر القرارات والتوصيات التالية:
أولا: لما كانت نصوص القرآن والسنة قد قضت بأن كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. فإن المؤتمر يقرر إدانة العدوان العراقي على الكويت وانتهاب الأموال والممتلكات وتدمير المؤسسات واستباحة الحرمات وإدانة حشد القوات العسكرية على حدود المملكة العربية السعودية تهديدا لأمنها وأمن دول الخليج.
ثانيا: يطالب المؤتمر النظام العراقي بسحب قواته من أرض الكويت فورا ودون شرط ويسحب القوات التي حشدها على حدود المملكة العربية السعودية وعودتها إلى داخل أراضي العراق وإنهاء كافة آثار الاحتلال العراقي من إتلاف وسرقات.
ثالثا: يطالب المؤتمر بعودة الشرعية الكويتية إلى تسلم مقاليد الحكم في بلادها.
رابعا: لما كانت قواعد الشريعة الإسلامية تلتزم بالوفاء بالعهود والمواثيق للمسلمين وغيرهم وتحمي الرسل والسفراء والمقيمين في البلاد الإسلامية من غير المسلمين في أنفسهم وأموالهم ووفقا لما قررته القوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية، فإن المؤتمر يطالب النظام العراقي بالالتزام بهذه المواثيق واحترامها.
خامسا: فيما يتعلق بالاستعانة بالقوات الأجنبية فإن المؤتمر بعد الاطلاع على بحوث العلماء يقرر أن ما حدث من استعانة المملكة بقوات أجنبية لمساندة قواتها في الدفاع عن النفس إنما اقتضته الضرورة الشرعية والشريعة الإسلامية تجيز ذلك بشروط الضرورة المقررة شرعا.
ومتى زالت أسباب وجود هذه القوات من انسحاب العراق من الكويت وعدم تهديد المملكة ودول الخليج فإنه على هذه القوات مغادرة المنطقة.
ويناشد المؤتمر الدول الإسلامية تكوين قوة إسلامية دائمة تحت إشراف منظمة المؤتمر الإسلامي عند حدوث النزاعات بينها.
سادسا: يرى المؤتمر أنه يتعين على المسلمين تجديد التوبة والرجوع إلى الله تعالى وتصحيح المسار في جميع شئون الحياة وفقا للكتاب والسنة كما يتعين عليهم تكوين الشباب إيمانيا وعسكريا حتى يواجهوا الأخطار المحدقة بالأمة للدفاع عن بيضة الإسلام.(30/270)
كما يقرر المؤتمر أن إعداد القوة اللازمة لحفظ أمن المسلمين في مجتمعاتهم والدفاع عنهم ضد الأخطار قد أصبح فرضا متعينا على المسلمين. سابعا: يناشد المؤتمر الحكومات والهيئات الإسلامية السعي لمنع وقوع الحرب وتحقيق الأمن والسلام في المنطقة.
ثامنا: يناشد المؤتمر الحكومات والهيئات والشعوب الإسلامية بذل الجهود لتحقيق وحدة المسلمين بإقامة سوق إسلامية وتكامل اقتصادي فيما بينها ومعاهدة دفاع مشترك.
تاسعا: يناشد المؤتمر الحكومات الإسلامية بتطبيق الشريعة الإسلامية في كل مناحي الحياة القضائية والسياسية والاقتصادية وغيرها مع العناية بإقامة الشورى في حياة المسلمين وتطهير المجتمعات الإسلامية من آفة الربا وتنقية وسائل الإعلام مما يخالف تعاليم الإسلام.
عاشرا: يستمر هذا المؤتمر في حالة انعقاد دائمة وتكون له لجنة لمتابعة أعماله والتنسيق مع الهيئات والمنظمات الإسلامية في معالجة الموقف وتكوين وفود للدول والشعوب والهيئات الإسلامية لبيان حقيقة ما جرى وخطورته على مستقبل المسلمين وضرورة الإسهام في معالجة المشكلة.
كما يدعو المؤتمر العلماء والمفكرين والمشاركين فيه إلى الإسهام في معالجة القضية من خلال مجال عملهم والهيئات العاملين فيها كل حسب اختصاصه.
حادي عشر: يدعو المؤتمر الهيئات الإسلامية إلى إقامة مؤتمرات وندوات لتوعية المسلمين في الموضوعات التي عالجها المؤتمر مستفيدة من الأبحاث والدراسات التي قدمت فيه.
ثاني عشر: يؤكد المؤتمر على ضرورة مشاركة المنظمات الإسلامية الإغاثية وفي مقدمتها هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية والهلال الأحمر الدولي في إغاثة منكوبي كارثة الخليج في كافة الدول ذات العلاقة.
ثالث عشر: يؤكد المؤتمر على أن هذه الفتنة المفجعة يجب ألا تشغل المسلمين عن قضاياهم الأساسية والمصيرية وفي مقدمتها قضية المسجد الأقصى والقدس وفلسطين وقضايا المجاهدين الأفعان وقضية كشمير وقضايا الأقليات المسلمة(30/271)
المضطهدة في العالم.
رابع عشر: يقدم المؤتمر بمناسبة انتهاء أعماله الشكر للحكومات والهيئات والشعوب الإسلامية التي وقفت مع الشعب الكويتي في محنته وشجبت العدوان العراقي الغاشم وأيدت المملكة العربية السعودية فيما اتخذته من إجراءات. . . ويخص بالذكر حكومة خادم الحرمين الشريفين والشعب السعودي وحكومات الشعوب الإسلامية الأخرى على وقوفها مع الشعب الكويتي المسلم والرعاية التي أحيط بها. كما يشكر المؤتمر الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي على دعوتها لحضور هذا المؤتمر والترتيبات الممتازة التي وضعتها مما ساعد على إنجاز أعماله في الوقت المحدد له.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
صدر في مكة المكرمة
بتاريخ 23 صفر 1411هـ(30/272)
وثيقة مكة المكرمة
الصادرة عن المؤتمر الإسلامي العالمي
لمناقشة الأوضاع الحاضرة في الخليج
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وعليه نتوكل ومنه نستمد العون والتوفيق.
في يوم الإثنين الموافق 21 صفر 1411 هـ إلى يوم الأربعاء 23 صفر 1411 هـ انعقد بمكة المكرمة المؤتمر الإسلامي العالمي لمناقشة الأوضاع الحاضرة في الخليج وحضره ممثلون لعلماء المسلمين وقادة الرأي في الأمة والعاملين في حقل الدعوى ومندوبي المنظمات والجمعيات الإسلامية من أنحاء العالم، لتدارس احتلال العراق للكويت وضم أراضيه بالقوة وتهديده لأمن الخليج وتعريضه لمصالح الأمة الإسلامية للخطر وما ترتب على ذلك من آثار خطيرة، وبيان حكم الإسلام في هذا الحديث وما نتج عنه من آثار أليمة أضرت بسمعة الأمة الإسلامية وعرضت حقائق الإسلام وقيمه للتشويه. . . والتوصية بالمخرج من المحنة في ضوء هدي الإسلام وأحكام شريعته حتى يتحقق البيان الذي أوجبه الله على العلماء.
إن تطبيق شريعة الله والتزام منهجه في كافة مجالات الحياة وعرض ما يقع للمسلمين من قضايا ومشكلات على كتاب الله وسنة نبيه والنزول على حكم الشرع واجب هذه الأمة.
ذلك أن إعلان الإيمان بالله والإقرار بأن شرعه هو الحق وأن حكمه هو العدل، لا يستقيم مع عدم النزول على حكمه بمقتضى قول الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1)
__________
(1) سورة النساء الآية 65(30/273)
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (1) .
وما اكتنف المسلمين من وهن وفرقة وتظالم وتدابر إلا بعد أن ضعفت صلتهم بهذا النهج واتبع كثير منهم أهواءهم. قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (2) وقال تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} (3) .
وعليه فقد قرر المؤتمرون بالإجماع إعلان الوثيقة التالية شهادة بالحق ورعاية للأمانة ونهوضا بالمسؤولية وبلاغا إلى الأجيال:
إن مقاصد الشريعة القطعية ومبادئها الكلية وأدلتها الجزئية توجب الحفاظ على الأنفس والأعراض والأموال والذود عنها وتعد الموت من أجل كل ذلك شهادة.
قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} (4) وقال عليه الصلاة والسلام: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليك (5) » . . إلخ. وقال عليه الصلاة والسلام: «من قتل دون ماله فهو شهيد (6) » .
وفي نور هذا الهدى الرباني المبين يعلن المؤتمر:
إن عدوان النظام العراقي على الكويت إهدار صريح وانتهاك سافر لهذه الحقوق والمقاصد التي حفظها الإسلام وهو منكر عظيم وفساد كبير وسنة سيئة يشهد على ذلك أهل العلم والعقل.
ومن ثم فلا يزول هذا المنكر ولا يرتفع هذا الفساد إلا بانسحاب الجيش العراقي الكامل من الكويت وإبطال كافة الآثار المترتبة على هذا المنكر وذلك الفساد.
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 36
(2) سورة طه الآية 124
(3) سورة البقرة الآية 120
(4) سورة الإسراء الآية 33
(5) صحيح مسلم كتاب الحج (1218) ، سنن أبو داود كتاب المناسك (1905) ، سنن ابن ماجه المناسك (3074) ، مسند أحمد بن حنبل (3/371) ، سنن الدارمي كتاب المناسك (1850) .
(6) صحيح البخاري المظالم والغصب (2480) ، صحيح مسلم الإيمان (141) ، سنن الترمذي الديات (1419) ، سنن النسائي تحريم الدم (4087) ، سنن أبو داود السنة (4771) ، مسند أحمد بن حنبل (2/206) .(30/274)
ومما ترتب على هذا العدوان وجود قوات أجنبية في الخليج إذ اضطرت المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي إلى طلب قوات إسلامية وأجنبية لمساندة قواتها الدفاعية في مواجهة عدوان وشيك من القوات العراقية المحتشدة على حدود المملكة العربية السعودية.
ولقد تقرر عند أولي العلم أن شريعة الإسلام تتسع لهذا الإجراء وتستوعب هذه الضرورة ومن هنا فإن ثمة تلازما بين احتلال الكويت والتهديد العراقي للمملكة العربية السعودية ودول الخليج ووجود القوات الأجنبية فإذا زالت هذه الأسباب انتفت الضرورة لوجود هذه القوات كما أكد أولو الأمر في المملكة العربية السعودية على ذلك.
ولا يرى المؤتمر مسوغا لإقحام الحرمين الشريفين في هذا الخصام السياسي والإعلامي فليس في الأرض المقدسة وجود أجنبي ولا يجوز أن يقحما في الصراعات والشعارات والخلافات والمزايدات السياسية فالنأي بهما عن هذه الصراعات والمزايدات مظهران من مظاهر تعظيمهما واحترامهما {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (1) .
والمؤتمر مدرك حرص المملكة الدائم على إبقاء الحرمين الشريفين بعيدين عن الصراع السياسي والمذهبي كما يقدر الجهود الدائبة المخلصة التي تبذلها المملكة في خدمة الحرمين الشريفين والحفاظ على طهارتهما وقدسيتهما.
كما يشيد المؤتمرون بتطبيق المملكة العربية السعودية للشريعة الإسلامية ودعمها للمسلمين في شتى بقاع الأرض وحرصها على تضامنهم. والمؤتمر يدرك أن من مخططات الأعداء الثابتة والمتجددة إيقاد نيران الفتن والحروب في العالم الإسلامي وكأنه المستثنى وحده من فرص الهدوء والاستقرار التي يتمتع بها غيره في ظل الوفاق الدولي الجديد.
وتعتبر أزمة الخليج الراهنة حلقة في هذا المخطط الذي لا يريد لأمتنا خيرا ولا نهضة ولا تقدما. ومن المحزن أن يجد هذا المخطط من ينفذه من أبناء الأمة العربية والإسلامية.
__________
(1) سورة الحج الآية 32(30/275)
إن أزمة الخليج قد صدعت العلاقة الأخوية بين الشعوب الإسلامية وفرقت كلمة المسلمين خاصتهم وعامتهم وحرمتهم من الإحساس بالأمن على أنفسهم وأموالهم وديارهم وأعراضهم وصرفت الجهود والهمم عن قضايا الإسلام والمسلمين كقضية الجهاد الأفعاني والانتفاضة الفلسطينية وهجرة اليهود السوفييت إلى فلسطين المحتلة وسائر القضايا الإسلامية.
إن غزو العراق للكويت مع منافاته للإسلام قد أتاح الفرصة لأعداء الإسلام لتشويه صورة الإسلام والمسلمين أمام الرأي العام العالمي حيث حرصت أكثر وكالات الأنباء العالمية على إظهار الإسلام وأهله بصورة دموية لا تحفظ العهود والمواثيق ولا ترعى حق الجوار ولا ترحم صغيرا ولا تعرف حق كبير.
وتدبر المؤتمر أسباب الضعف والتخلف والخذلان والفرقة والاضطراب في الأمة فوجد أن من أخطرها وأبرزها ما يلي:
أولا: الاستبداد الذي أتاح لفرد واحد أن يقرر اجتياح بلد عربي مستقل ويتصرف في مقدراته ويعبث في مصائر الأمة ويعبث في أهم قضاياها الأمنية والسياسية والاستراتيجية.
ثانيا: تمزيق الأمة بالشعارات العرقية والقومية والعلمانية والطائفية.
ثالثا: ضعف البناء الذاتي في التربية والتعليم والصناعة المدنية والعسكرية وترك الاستعداد للجهاد.
رابعا: الحملات الإعلامية المعادية والغزو الثقافي والفكري وضعف إعلام المسلمين عن التصدي لها.
خامسا: القصور الظاهر في سلوك الأمة وفشو مظاهر العصيان والمخالفات كالتعامل بالربا وصور الفسوق في البيت والشارع.
سادسا: الغفلة عن مخططات الأعداء وتدبيرهم ومكرهم. وعلاجا لهذه الأوضاع يؤكد المؤتمر وجوب العودة إلى الله تعالى عودة صادقة والالتزام بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إذ هما ركيزتا العمل المخلص والجاد في سبيل إحياء الأخوة الإسلامية وبناء الأجيال(30/276)
على أسس سليمة والعزم البصير على ترسيخ النهضة الإسلامية الشاملة.
ودعوة العلماء إلى القيام بواجب البيان لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} (1) . . ودعوتهم إلى جمع كلمتهم والتشاور فيما بينهم ليصدروا عن موقف واحد فتتحد الأمة من ورائهم ونحذرهم من الوقوع تحت الضغوط ترهيبا وترغيبا فإن الله يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) .
وندعو حكام المسلمين وقادتهم إلى تحكيم شرع الله فيما بينهم فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3) .
وندعوهم على إلزام أجهزة الإعلام والتعليم بحمل رسالة الإسلام وتمثلها، وإلى أن تكون أدوات صالحة لتهيئة أجواء الاستقامة النفسية والفكرية والخلقية والسلوكية {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4) .
وندعو إلى تطبيق مبدأ الشورى الذي يغني الأمة عن التطلع إلى مفاهيم الديمقراطية الغربية والذي يعصم الأمة من الاستبداد الذي يجعل مصائر الأمة ضحية للأهواء الفردية.
وندعو إلى الوحدة الإسلامية وفق مقوماتها العقيدية والفكرية والتربوية والثقافية والسياسية والاقتصادية والأمنية والدفاعية {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (5) .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 187
(2) سورة البقرة الآية 174
(3) سورة النساء الآية 65
(4) سورة الحج الآية 41
(5) سورة الأنبياء الآية 92(30/277)
إن هذه الوحدة الإسلامية المفروضة والمطلوبة هي - بعد عون الله - سبيل المسلمين إلى حياة كريمة قوية في ظل الكيانات الكبيرة التي يعاد بناؤها في العالم في مناخ الوفاق الدولي فوق كوكبنا الأرض.
وندعو إلى بناء القوة العسكرية الإسلامية بسرعة وعزم وإلى الاستعداد بمفاهيمه الشرعية الصحيحة وهي إعلاء كلمة الله ودفع الظلم والذود عن المقدسات والقتال دون النفس والأهل والمال.
إن بناء القوة العسكرية الإسلامية الجهادية هي الضمان الحقيقي والدائم - بعد توفيق الله - لعزة المسلمين واستقلالهم وسيادتهم ومكانتهم المرموقة بين الأمم.
وندعو كافة الدول العربية والإسلامية ودول العالم إلى الالتزام بالعهود والمواثيق والأعراف الدولية التي تمنع الاعتداء والتدخل في الشئون الداخلية للدول وتحض على إفشاء السلام في المنطقة وفي العالم وعلى التعاون وحسن الجوار وحل الخلافات بالطرق السلمية وعدم فرض الإرادة الخارجية عليها.
وندعو الدول الإسلامية كافة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وفقا للشريعة الإسلامية - لا وفقا للمفاهيم الطبقية ونوازع الأحقاد والضغائن - وتبعا لمنهج هذه الأمة في احترام الحقوق، وتحريم الاعتداء والاستيلاء عليها بالقوة. ويجب كذلك إشاعة روح التعاون بين الدول الإسلامية والتكافل بين شعوبها، ورفض كل شكل من أشكال الاغتصاب للحقوق والممتلكات دون مبرر، وإحياء روح المحبة والألفة بين أبناء هذه الأمة واستنكار كل قول وعمل وسلوك يسعى إلى إثارة الفتنة والحساسيات بين الشعوب العربية والإسلامية والدعوة إلى مواجهة هذه النزاعات والتصرفات. بالمزيد من الوعي والإدراك لما تؤدي إليه من انقسامات خطيرة من شأنها أن تدمر الروابط العميقة بين هذه الشعوب وتقضي على أسباب قوتها وتماسكها وتفتح أوسع الأبواب لكيد الأعداء.
وندعو شعوب الأمة الإسلامية في مختلف أنحاء الأرض إلى ممارسة أقصى درجات الوعي واليقظة والحذر تجاه المحاولات الرامية إلى استغلال عواطفها الدينية الجياشة وحساسيتها المفرطة نحو مقدساتها العظيمة في الخلافات السياسية، والبرامج الدعائية التي لا تعرف تقوى عز وجل ولا تلتزم مراقبته في بواعثها وأهدافها.(30/278)
وندعو إلى حياة إسلامية صحيحة في سائر مناحي حياة المسلمين فالإسلام ليس شعارا موسميا يرفع بغتة لهذا الغرض أو ذاك، إنما الإسلام منهج يطبق في شعب الحياة جميعا مهما اتسع نطاقها وتنوعت مواقعها.
والمقياس الصحيح للولاء للإسلام، هو التخلي الكامل عن حياة الجاهلية بعصبيتها وحزبيتها إذ لا تصح دعوى من يدعي الإسلام وهو لا يزال متلبسا ومتشبثا بالأصل العلماني واللاديني للحياة والحكم، ويأتي بعد التخلي عن العلمانية تطبيق شرائع الإسلام وشعائره في صميم المجتمع والدولة ذلك أنه لا يمكن موضوعيا وعمليا أن يطبق الإسلام أو يصدق في الأخذ به نظام علماني اتخذ العلمانية منهجا في الحياة ولم يزل كذلك.
كما ندعو إلى استتباب السلام في المنطقة وكافة دول العالم والحرص على عدم اللجوء إلى الحروب كوسيلة لإنهاء الخلافات.
ونسأل الله عز وجل أن يلهم هذه الأمة رشدها وأن يبصرها بمواضع الضعف فيها وأن يريها الحق حقا ويرزقها اتباعه ويريها الباطل باطلا ويرزقها اجتنابه. .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(30/279)
صفحة فارغة(30/280)
بيان هيئة كبار العلماء
بتأييد ما أصدره المؤتمر الإسلامي العالمي
من قرارات وتوصيات ووثيقة مكة المكرمة حول الأوضاع في الخليج
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيد الأولين والآخرين وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد فإن هيئة كبار العلماء قد اطلعوا في دورتهم السادسة والثلاثين المنعقدة في مدينة الطائف ابتداء من يوم 26 \ 2 \ 1411هـ. وانتهاء يوم 6 \ 3 \ 1411هـ. على ما أصدره المؤتمر الإسلامي العالمي الذي دعت إليه رابطة العالم الإسلامي وعقد في مكة المكرمة من يوم 21 \ 2 \ 1411هـ. حتى نهاية يوم 23 \ 2 \ 1411 هـ. لدراسة الوضع الناتج عن أزمة الخليج إثر اعتداء حكومة العراق على الكويت واجتياحها لها وما تمخض عن ذلك من تشريد وقتل وانتهاب أموال وانتهاك الحرمات وتخريب وترويع وتفريق لأفراد الأسرة الواحدة مما لا يقره عقل ولا دين ولا يرضاه ضمير ولا خلق وقد اشترك في هذا المؤتمر عدد كبير من علماء الإسلام وقادة الفكر الإسلامي ورجالات الدعوة الإسلامية من مفتين ومديري جامعات ومدرسي علوم الشريعة وغيرهم من عامة البقاع التي يوجد فيها المسلمون وتوصل المؤتمر إلى قرارات هامة وتوصيات هادفة ونصائح جليلة تضمنت حث الأمة الإسلامية على الأخذ بأسباب القوة المعنوية والمادية وتجنب مسببات النكسات ووجوب التعاون على البر والتقوى والتناهي عن الإثم والعدوان وضرورة الرجوع إلى الله في كل الأمور. كما أصدر المؤتمر وثيقة مكة المكرمة التي تضمنت التنديد الشديد بعدوان العراق على الكويت والمطالبة بسرعة سحب القوات المعتدية وإعادة أهل البلاد إلى بلادهم والدعوة إلى وقوف الأمة الإسلامية بوجه العدوان والتحذير من مغبة التساهل في ذلك كما تضمنت تأييد حكومة خادم الحرمين الشريفين في إجراءاتها(30/281)
التي قطعت أطماع المعتدين وأوقفت زحفهم بما استقدمته من قوات إسلامية وغيرها أرهب تجمعها القوات الظالمة وقيادتها المجرمة فأسقط بأيديهم وراحوا ينددون بتلك القوات التي هم سبب وجودها الوحيد وذلك بعدوانهم الآثم الغاشم. وأن مجلس هيئة كبار العلماء ليؤيد تلك التوصيات والتي تمخض عنها المؤتمر وما أصدره في تلك الوثيقة وهو بذلك يؤكد ما سبق له أن أصدره من تأييد لخطوات حكومة هذه البلاد لتوفير أسباب الأمن وإرهاب الأعداء والقضاء على مآربهم الخبيثة ومقاصدهم السيئة بما وفره ولاة الأمر من قوات متعددة الجنسيات ليدفع الله بها عن البلاد قال الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} (1) كما يؤيد ما تلا ذلك من إجراءات تستلزم حفظ الأمن وتوفير أسباب الاستقرار والعيش بسلام في ظل القيم والأخلاق الإسلامية، والمجلس إذ يؤكد تأييد ذلك كله يدعو إلى وجوب الأخذ بالأسباب النافعة وضرورة الالتجاء إلى الله والفزع إليه سبحانه وطلب النصر منه جل وعلا والأخذ بالأسباب الداعية لنصره ودفاعه عن عباده بأن نخلص له العمل وننبذ كل ما يكرهه الله ورسوله ونتسمك بتقواه ليكون معنا على أعدائنا لأن دفاعه ونصره ومعيته وتوفيقه لا تتوافر إلا بتقواه والبعد عن محرماته والقيام بواجب النصح له ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فقد قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} (2) وقال جل من قائل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (3) وقال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (4) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (5) وقال حاضا على الاستعداد بالقوة: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (6) والأدلة على وجوب الأخذ بكافة العدد المعنوية والمادية كثيرة جدا ولا يصح الأخذ بجانب وترك جانب آخر
__________
(1) سورة البقرة الآية 251
(2) سورة الحج الآية 38
(3) سورة النحل الآية 128
(4) سورة آل عمران الآية 126
(5) سورة محمد الآية 7
(6) سورة الأنفال الآية 60(30/282)
بل يتعين هذا وهذا ولا يتحقق نصر يرضى الله عنه إلا بالأخذ بالجانبين معا والمجلس يهيب بكافة الأمة من أفراد وجماعات قادة ومقودين أن يعلموا أن رحمة الله التي منها نصره وحفظه لعباده تستدعي صدق التوجه إليه والرجوع عن كل ما لا تقره الشريعة المطهرة ويأباه الخلق الإسلامي الكريم وأن يعلموا أن إحسان الصلة بالله أمر مطلوب في الرخاء وهو في الشدة أشد لزوما وأعظم وجوبا مع النية الصادقة والعزيمة القوية على الاستمرار في لزوم أسباب مرضاة الله والتخلي عن أسباب مساخطة سدد الله الخطى ووقى من العثرات وحقق بمنه ولطفه الأمن ويسر أسبابه وخذل الباطل وأهله وقضى بحوله وقوته على مطامع المجرمين ورد كيد الحاقدين في نحورهم وأصلح شأن أمة الإسلام ويسر أسباب اجتماعية وتآلفها على منهج إسلامي نقي والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. . .(30/283)
من قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي
التابع لرابطة العالم الإسلامي
قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي
في الحكم الشرعي في تحديد النسل
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وبعد:
فقد نظر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثالثة المنعقد في مكة المكرمة في الفترة من23 إلى 30 ربيع الآخر سنة 1400 هـ في موضوع تحديد النسل أو ما يسمى تضليلا (تنظيم النسل) .
وبعد المناقشة وتبادل الآراء في ذلك قرر المجلس بالإجماع ما يلي:
نظرا إلى أن الشريعة الإسلامية تحض على تكثير نسل المسلمين وانتشاره، وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة من الله بها على عباده، وقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودلت على أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الله تعالى لعباده، ونظرا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين لتقليل عددهم بصفة عامة، وللأمة العربية المسلمة والشعوب المستضعفة بصفة خاصة، حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعباد أهلها والتمتع بثروات البلاد الإسلامية، وحيث إن في الأخذ بذلك ضربا من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى، وإضعافا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها.(30/285)
لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر بالإجماع أنه لا يجوز تحديد النسل مطلقا، ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق؛ لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، أو كان ذلك لأسباب أخرى غير معتبرة شرعا، أما تعاطي أسباب منع الحمل أو تأخيره في حالات فردية لضرر محقق ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الجنين فإنه لا مانع من ذلك شرعا، وهكذا إذا كان تأخيره لأسباب أخرى شرعية أو صحية يقرها طبيب مسلم ثقة، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرر المحقق على أمه إذا كان يخشى على حياتها منه بتقرير من يوثق به من الأطباء المسلمين.
أما الدعوة إلى تحديد النسل أو منع الحمل بصفة عامة فلا تجوز شرعا للأسباب المتقدم ذكرها. وأشد من ذلك في الإثم والمنع إلزام الشعوب بذلك وفرضه عليها في الوقت الذي تنفق فيه الأموال الضخمة على سباق التسلح العالمي للسيطرة والتدمير بدلا من إنفاقه في التنمية الاقتصادية والتعمير وحاجات الشعوب. .
[توقيع] ... . ... [توقيع]
رئيس مجلس المجمع الفقهي ... . ... نائب رئيس
عبد الله بن حميد ... . ... محمد علي الحركان
. ... الأعضاء ... .
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
عبد العزيز بن عبد الله بن باز ... محمد محمود الصواف ... صالح بن عثيمين
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
سالم عبد الودود ... حسنين محمد مخلوف ... مصطفى الزرقاء
[توقيع] ... [توقيع] ... [تخلف عن الحضور]
مبروك العوادي ... د \ محمد رشيد قباني ... محمد بن عبد الله السبيل
[توقيع] ... [توقيع] ... [حضر جزءا من الدورة وسافر]
محمد الشاذلي النيفر ... أبو بكر جومي ... أبو الحسن علي الحسني الندوي
[توقيع] ... [توقيع] ... [تخلف عن الحضور]
د. محمود رشيدي ... عبد القدوس الهاشمي ... اللواء محمود شيت خطاب(30/286)
من قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي
قرار رقم (1) بشأن تنظيم النسل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1409 هـ \ 10 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع (تنظيم النسل) واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبناء على أن من مقاصد الزواج في الشريعة الإسلامية الإنجاب والحفاظ على النوع الإنساني وأنه لا يجوز إهدار هذا المقصد، لأن إهداره يتنافى مع نصوص الشريعة وتوجيهاتها الداعية إلى تكثير النسل والحفاظ عليه والعناية به باعتبار حفظ النسل أحد الكليات الخمس التي جاءت الشرائع برعايتها قرر ما يلي:
أولا: لا يجوز إصدار قانون عام يحد من حرية الزوجين في الإنجاب.
ثانيا: يحرم استئصال القدرة على الإنجاب في الرجل أو المرأة، وهو ما يعرف ب (الإعقام) أو (التعقيم) ، ما لم تدع إلى ذلك الضرورة بمعاييرها الشرعية. ثالثا: يجوز التحكم المؤقت في الإنجاب بقصد المباعدة بين فترات الحمل، أو إيقافه لمدة معينة من الزمان إذا دعت إليه حاجة معتبرة شرعا بحسب تقدير الزوجين عن تشاور بينهما وتراض، بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر، وأن تكون الوسيلة مشروعة، وأن لا يكون فيها عدوان على حمل قائم، والله أعلم.(30/287)
من قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي
التابع لرابطة العالم الإسلامي
القرار الثالث
حكم تزوج الكافر للمسلمة وتزوج المسلم للكافرة
إن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي المنعقد في مكة المكرمة في الفترة من 7 إلى 17 شهر ربيع الآخر سنة 1401 هـ وفي دورته الرابعة بعد أن اطلع على اعتراض الجمعيات الإسلامية في سنغافورة وهي:
أ - جمعية البعثات الإسلامية في سنغافورة.
ب - بيراينز.
جـ- المحمدية.
د - بيرتاس.
هـ - بيرتابيس.
على ما جاء في ميثاق حقوق المرأة من السماح للمسلم والمسلمة بالتزوج ممن ليس على الدين الإسلامي وما دار في ذلك، فإن المجلس يقرر بالإجماع ما يلي:
أولا: إن تزوج الكافر للمسلمة حرام لا يجوز باتفاق أهل العلم ولا شك في ذلك لما تقتضيه نصوص الشريعة. قال تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} (1) وقال تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} (2) والتكرير في قوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} (3)
بالتأكيد والمبالغة بالحرمة وقطع العلاقة بين المؤمنة والمشرك، وقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} (4) أمر أن يعطى الزوج الكافر ما أنفق على زوجته إذا أسلمت فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية، فإذا كانت المرأة المشركة تحت الزوج الكافر تحرم عليه
__________
(1) سورة البقرة الآية 221
(2) سورة الممتحنة الآية 10
(3) سورة الممتحنة الآية 10
(4) سورة الممتحنة الآية 10(30/288)
بإسلامها ولا تحل له بعد ذلك فكيف يقال بإباحة ابتداء عقد نكاح الكافر على المسلمة، بل أباح الله نكاح المرأة المشركة بعدما تسلم وهي تحت رجل كافر لعدم إباحتها له بإسلامها فحينئذ يجوز للمسلم تزوجها بعد انقضاء عدتها كما نص عليه قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1) .
ثانيا: وكذلك المسلم لا يحل له نكاح مشركة لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (2) ، ولقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} (3) ، وقد طلق عمر رضي الله عنه امرأتين له كانتا مشركتين لما نزلت هذه الآية، وحكى ابن قدامة الحنبلي أنه لا خلاف في تحريم نساء الكفار غير أهل الكتاب على المسلم، أما النساء المحصنات من أهل الكتاب فيجوز للمسلم أن ينكحهن لم يختلف العلماء في ذلك إلا أن الإمامية قالوا بالتحريم. والأولى للمسلم عدم تزوجه من الكتابية مع وجود الحرة المسلمة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: يكره تزوجهن مع وجود الحرائر المسلمات. قال في الاختيارات وقاله القاضي وأكثر العلماء لقول عمر رضي الله عنه للذين تزوجوا من نساء أهل الكتاب: طلقوهن فطلقوهن إلا حذيفة امتنع عن طلاقها ثم طلقها بعد. لأن المسلم متى تزوج كتابية ربما مال إليها قلبه ففتنته وربما كان بينهما ولد فيميل إليها والله أعلم.
__________
(1) سورة الممتحنة الآية 10
(2) سورة البقرة الآية 221
(3) سورة الممتحنة الآية 10(30/289)
[توقيع] ... . ... [توقيع]
رئيس مجلس المجمع الفقهي ... . ... نائب رئيس
عبد الله بن حميد ... . ... محمد علي الحركان
[غائب] ... [غائب] ... [توقيع]
محمد محمود الصواف ... مصطفى الزرقاء ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
مبروك العوادي ... محمد بن عبد الله السبيل ... صالح بن عثيمين
[توقيع] ... [توقيع] ... [توقيع]
محمد رشدي ... عبد القدوس الهاشمي ... محمد الشاذلي النيفر
[توقيع] ... [توقيع] ... [غائب عن التوقيع]
حسنين محمد مخلوف ... أبو بكر محمود جومي ... أبو الحسن علي الحسني الندوي
[غائب] ... [غائب] ... [توقيع]
محمد سالم عدود ... محمود شيت خطاب ... محمد رشيدي قباني(30/290)
قرار هيئة كبار العلماء رقم 42 وتاريخ
13 \ 4 \ 1396هـ بشأن منع الحمل وتحديد النسل
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر ربيع الآخر عام 1396 هـ بحث المجلس موضوع منع الحمل وتحديد النسل، وتنظيمه بناء على ما تقرر في الدورة السابعة للمجلس المنعقدة في النصف الأول من شهر شعبان عام 1395هـ من إدراج موضوعها في جدول أعمال الدورة الثامنة، وقد اطلع المجلس على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وبعد تداول الرأي والمناقشة بين الأعضاء والاستماع إلى وجهات النظر قرر المجلس ما يلي:
نظرا إلى أن الشريعة الإسلامية ترغب في انتشار النسل وتكثيره وتعتبر النسل نعمة كبرى ومنة عظيمة من الله بها على عباده فقد تضافرت بذلك النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مما أوردته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بحثها المعد للهيئة والمقدم لها، ونظرا إلى أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للفطرة الإنسانية التي فطر الله الخلق عليها وللشريعة الإسلامية التي ارتضاها الرب تعالى لعباده، ونظرا إلى أن دعاة القول بتحديد النسل أو منع الحمل فئة تهدف بدعوتها إلى الكيد للمسلمين بصفة عامة وللأمة العربية المسلمة بصفة خاصة حتى تكون لهم القدرة على استعمار البلاد واستعمار أهلها، وحيث إن في الأخذ بذلك ضربا من أعمال الجاهلية وسوء ظن بالله تعالى وإضعافا للكيان الإسلامي المتكون من كثرة اللبنات البشرية وترابطها، لذلك كله فإن المجلس يقرر بأنه لا يجوز تحديد النسل مطلقا ولا يجوز منع الحمل إذا كان القصد من ذلك خشية الإملاق لأن الله تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، أما إذا كان منع الحمل لضرورة محققة(30/291)
ككون المرأة لا تلد ولادة عادية وتضطر معها إلى إجراء عملية جراحية لإخراج الولد أو كان تأخيره لفترة ما لمصلحة يراها الزوجان فإنه لا مانع حينئذ من منع الحمل أو تأخيره عملا بما جاء في الأحاديث الصحيحة وما روي عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم من جواز العزل وتمشيا مع ما صرح به بعض الفقهاء من جواز شرب الدواء لإلقاء النطفة قبل الأربعين، بل قد يتعين منع الحمل في حالة ثبوت الضرورة المحققة، وقد توقف فضيلة الشيخ عبد الله بن غديان في حكم الاستثناء، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء(30/292)
وصية موجهة للمرابطين
في الحدود ضد اعتداء دولة العراق
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
أيها المرابطون على الحدود. أوصيكم ونفسي بتقوى الله. والإكثار من ذكره. والصبر والمصابرة والصدق في اللقاء عند أي عدوان من دولة العراق كما أوصيكم بالاتفاق وعدم التنازع. والاستقامة على طاعة الله ورسوله. والثبات في مواطن اللقاء عملا بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) كما أوصيكم بالإخلاص لله ودعائه. والضراعة إليه بطلب النصر والتوكل عليه سبحانه وعدم الرياء والعجب فهو سبحانه هو الناصر. وهو الذي بيده أزمة الأمور كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (3) وقال عز وجل في سورة الأنفال يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ} (4) {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (5) وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (6) وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (7) .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 45
(2) سورة الأنفال الآية 46
(3) سورة محمد الآية 7
(4) سورة الأنفال الآية 9
(5) سورة الأنفال الآية 10
(6) سورة البقرة الآية 186
(7) سورة غافر الآية 60(30/293)
كما أوصيكم بالصدق عند اللقاء وعدم الفرار من الزحف لقول الله عز وجل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (1) {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (2) .
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات (3) » وذكر منها صلى الله عليه وسلم «التولي يوم الزحف (4) » . وقد وعد الله أولياءه المجاهدين في سبيله بإحدى الحسنيين إما النصر وإما الشهادة. كما قال عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} (5) .
وأوصيكم أيضا أيها المسلمون المرابطون بالمحافظة على الصلوات الخمس والعناية بها فإنها عمود الإسلام وأعظم الفرائض بعد الشهادتين قال الله عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (6) وأثنى على المحافظين عليها في كتابه الكريم: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (7) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (8) ثم ذكر صفات عظيمة ختمها بقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (9) {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (10) {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (11) وهي من أعظم ما يعين على جهاد الأعداء ومصابرتهم كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (12) .
كما أوصيكم بحسن الظن بالله وأنه سبحانه الصادق في وعده. وقد وعد سبحانه أنه ينصر من نصر دينه ووعد أنه مع المتقين فقال عز وجل: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (13) وقال سبحانه في سورة البقرة:
__________
(1) سورة الأنفال الآية 15
(2) سورة الأنفال الآية 16
(3) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .
(4) صحيح البخاري الوصايا (2767) ، صحيح مسلم الإيمان (89) ، سنن النسائي الوصايا (3671) ، سنن أبو داود الوصايا (2874) .
(5) سورة التوبة الآية 52
(6) سورة البقرة الآية 238
(7) سورة المؤمنون الآية 1
(8) سورة المؤمنون الآية 2
(9) سورة المؤمنون الآية 9
(10) سورة المؤمنون الآية 10
(11) سورة المؤمنون الآية 11
(12) سورة البقرة الآية 153
(13) سورة محمد الآية 7(30/294)
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (1) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: يقول الله عز وجل: «أنا عند ظن عبدي وأنا معه إذا دعاني (2) » .
وأوصيكم جميعا بالتناصح بينكم والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه كما قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) . وقال سبحانه: {وَالْعَصْرِ} (4) {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (5) {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6) وقال النبي صلى الله عليه وسلم «الدين النصيحة الدين النصيحة الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (7) » . والله المسئول أن يمنحكم التوفيق وأن يعينكم على كل ما فيه رضاه وأن ينصر بكم الحق وحزبه ويخذل بكم الباطل وأهله وأن يجعل دائرة السوء على الظالمين المعتدين وأن يحسن العاقبة لعباده المؤمنين إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرئيس العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
والرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة
والإرشاد في المملكة العربية السعودية
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
__________
(1) سورة البقرة الآية 194
(2) صحيح البخاري التوحيد (7405) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675) ، سنن الترمذي الزهد (2388) ، سنن ابن ماجه الأدب (3822) ، مسند أحمد بن حنبل (2/480) .
(3) سورة المائدة الآية 2
(4) سورة العصر الآية 1
(5) سورة العصر الآية 2
(6) سورة العصر الآية 3
(7) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .(30/295)
حكم قيادة المرأة للسيارة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد.
فقد كثرت الأسئلة عن حكم قيادة المرأة للسيارة، والجواب:
لا شك أن ذلك لا يجوز لأن قيادتها للسيارة تؤدي إلى مفاسد كثيرة وعواقب وخيمة منها الخلوة المحرمة بالمرأة، ومنها السفور، ومنها الإختلاط بالرجال بدون حذر، ومنها ارتكاب المحظور الذي من أجله حرمت هذه الأمور والشرع المطهر منع الوسائل المؤدية إلي المحرم واعتبرها محرمة. وقد أمر الله جل وعلا نساء النبي ونساء المؤمنين بالاستقرار في البيوت والحجاب، وتجنب إظهار الزينة لغير محارمهن لما يؤدي إليه ذلك كله من الإباحية التي تقضي على المجتمع. قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (1) الآية، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} (2) وقال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) .
__________
(1) سورة الأحزاب الآية 33
(2) سورة الأحزاب الآية 59
(3) سورة النور الآية 31(30/297)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما (1) » فالشرع المطهر منع جميع الأسباب المؤدية إلي الرذيلة بما في ذلك رمي المحصنات الغافلات بالفاحشة وجعل عقوبته من أشد العقوبات صيانة للمجتمع من نشر أسباب الرذيلة. وقيادة المرأة من الأسباب المؤدية إلي ذلك وهذا لا يخفى ولكن الجهل بالأحكام الشرعية وبالعواقب السيئة التي يفضي إليها التساهل بالوسائل المفضية إلي المنكرات مع ما يبتلى به الكثير من مرضى القلوب ومحبة الإباحية والتمتع بالنظر إلي الأجنبيات كل هذا يسبب الخوض في هذا الأمر وأشباهه بغير علم وبغير مبالاة بما وراء ذلك من الأخطار، وقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) .
وقال سبحانه: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (3) {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (4) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء (5) » وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني؛ فقلت: يارسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير فهل بعده من شر؟ قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهتدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت يارسول الله صفهم لنا؟ قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم إمام ولا جماعة؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (6) » متفق عليه.
__________
(1) سنن الترمذي الرضاع (1171) .
(2) سورة الأعراف الآية 33
(3) سورة البقرة الآية 168
(4) سورة البقرة الآية 169
(5) صحيح البخاري النكاح (5096) ، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2741) ، سنن الترمذي الأدب (2780) ، سنن ابن ماجه الفتن (3998) ، مسند أحمد بن حنبل (5/210) .
(6) صحيح البخاري المناقب (3606) ، صحيح مسلم الإمارة (1847) ، سنن أبو داود الفتن والملاحم (4244) ، سنن ابن ماجه الفتن (3979) ، مسند أحمد بن حنبل (5/387) .(30/298)
وأني أدعو كل مسلم أن يتقي الله في قوله وفي عمله وأن يحذر الفتن والداعين إليها وأن يبتعد عن كل ما يسخط الله جل وعلا أو يفضي إلي ذلك وأن يحذر أن يكون من هؤلاء الدعاة الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف. وقانا الله شر الفتن وأهلها وحفظ لهذه الأمة دينها وكفاها شر دعاة السوء ووفق كتاب صحفنا وسائر المسلمين لما فيه رضاه وصلاح أمر المسلمين ونجاتهم في الدنيا والآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(30/299)
كشاف مجلة البحوث الإسلامية من العدد السادس عشر إلي الثلاثين 1406-1411هـ
إعداد أمين سليمان سيدو (1)
مقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. . . أما بعد:
فإن " البحوث الإسلامية " مجلة علمية محكمة ذات توجه فكري إسلامي بحت تصدر عن هيئة إسلامية تهتم بقضايا الإسلام والمسلمين،. وتسعى مخلصة لنشر الدعوة الإسلامية، وتطبيق شريعة الله في مشارق الأرض ومغاربها. فهي لسان حال الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وتتنوع موضوعات المجلة ومباحثها ما بين الفقه وأصوله، والعقيدة وأحكامها، والقرآن وعلومه. . إلخ (2) .
ولأن عملية تكشيف الدوريات باتت ضرورة للوصول إلى الموضوعات المنشورة على صفحات تلك الدوريات، وأن التكشيف شكل من أشكال التحليل الموضوعي، وأداة
__________
(1) وردت ترجمة للباحث في العدد الخامس عشر سنة 1406 هـ صفحة 288.
(2) انظر كشاف الموضوعات.(30/301)
استرجاعية، فإن مجلة البحوث الإسلامية نهجت في إصدار كشافها كل (15) عددا، فقد صدر كشاف الأعداد من 1- 15 ضمن العدد الخامس عشر عام 1406 هـ. أما هذا الكشاف فإنه يغطي الأعداد من 16-30. ونظم على النحو التالي:
تدوين البيانات الببليوجرافية على بطاقات معدة في الأساس لفهرسة أوعية المعلومات، وشملت البيانات: اسم الكاتب، عنوان المقال، رقم العدد، الشهر، السنة، عدد الصفحات.
استعنت بالقوائم التالية في اختيار رؤوس الموضوعات:
أ - قائمة رؤوس الموضوعات العربية لإبراهيم أحمد الخازندار.
ب - قائمة رؤوس الموضوعات العربية الكبرى لشعبان عبد العزيز خليفة، ومحمد عوض العايدي.
ج - رؤوس الموضوعات العربية لجامعة الملك سعود.
واستحدثت رؤوس موضوعات جديدة بما يتفق مع موضوعات المجلة، ولم يكن التزامي ثابتا بالقوائم الثلاث.
تم اختصار مفردة صفحة إلى (ص) ، و (ص ص) تعنى من صفحة كذا إلى صفحة كذا. مثل ص ص 24-59 أي أن المادة تبدأ من صفحة 24 إلى عند صفحة 59.
رتبت رؤوس الموضوعات المستخدمة في هذا الكشاف هجائيا.
المدخل الرئيسي لكل مادة يبدأ باسم الشهرة أو العائلة للكاتب. مثل: الشويعر، محمد بن سعد بدلا من: محمد بن سعد الشويعر، وتم ترتيبها هجائيا تحت رؤوس الموضوعات المستخدمة.
حذف الألقاب الدينية والعلمية والاجتماعية في الترتيب.
كلمتا (ابن) و (أبو) يدخلان في الترتيب.
أعطيت أرقاما مسلسلة من 1-173 للمواد كي يسهل الرجوع إليها من كشاف الموضوعات، وكشاف الأعلام، وكشاف الهيئات والمؤسسات.(30/302)
والأرقام التي تلي مواد هذه الكشافات الثلاثة، تحيل المستفيد إلى مواد الكشاف الأساسي. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ابن تيمية 1 - السلفي، محمد لقمان.
" شيخ الإسلام ابن تيمية حامل راية الكتاب والسنة " ع24 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1409 هـ) ص ص 203 -234.
2 - الفوزان، صالح بن فوزان.
" رد أوهام أبي زهرة في حق شيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله " ع24 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1409 هـ) ص ص 122-149.
3 - الفوزان، صالح بن فوزان.
" من أعلام المجددين: شيخ الإسلام ابن تيمية " ع 18 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1407 هـ) ص ص 239 - 263.
أبو موسى الأشعري
4 - خطاب، محمود شيت.
" أبو موسى الأشعري الصحابي السفير القائد " ع 28 (رجب - شوال 1410 هـ ص ص 125 - 212.
اتخاذ القرارات
5 - هيئة كبار العلماء.
" قرار هيئة كبار العلماء رقم 2 وتاريخ 13 \ 8 \ 1392 هـ في مسألة اعتبار اختلاف مطالع الأهلة من عدمه " ع29 رجب - شوال 1410هـ، ص ص 321-323.(30/303)
6 - هيئة كبار العلماء.
" قرار هيئة كبار العلماء رقم 42 وتاريخ 13 \ 4 \ 1396هـ بشأن منع الحمل وتحديد النسل " ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة - 1411 هـ) ص ص 291 - 292.
7 - " من قرارات مجلس المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي " ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411 هـ ص ص 285- 290.
8 - المجمع الفقهي الإسلامي.
" من قرارات المجمع الفقهي " ع 28 (رجب - شوال - 1410 هـ) ص ص 319 -320.
الإجازة " فقه - معاملات "
9 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" الحكورات " ع 16 (رجب - شوال 1406 هـ ص ص 11 - 102.
أحكام التصوير 10- ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" الجواب المفيد في حكم التصوير " ع 17 (ذي القعدة - صفر 1406 - 1407 هـ) ص ص 362-374.
الأحكام الشرعية
11 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" حكم استحالة النجس إلى طاهر " ع 17 (ذي القعدة - صفر 1406- 1407 هـ) ص ص 15-41.
12 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" حكم دخول الكافر المساجد والاستعانة به في عمارتها " ع 21 (ربيع الأول -(30/304)
جمادى الآخرة 1408 هـ) ص ص 20 - 38.
أحمد بن حنبل
13 - الصويان، أحمد بن عبد الرحمن.
" الإمام أحمد بن حنبل الشيباني ومسنده " ع 25 (رجب - شوال 1409 هـ) ص ص 221 - 302.
14 - الفوزان، صالح بن فوزان. " من أعلام المجددين: الإمام أحمد رحمه الله، نشأته - علمه وفضله - محنته وصبره - آثاره " ع 17 (ذي القعدة - صفر 1406 - 1407 هـ) ص ص 129 - 142.
الأخلاق الإسلامية
15 - الطنوبي، صلاح أحمد.
" الاستقامة والإحسان من مكارم الأخلاق في الإسلام " ع 22 (رجب - شوال 1408 هـ) ص ص 285 - 296.
الأدعية والأوراد
16 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" عدم جواز وصف الميت بأنه مغفور له أو مرحوم " ع 25 (رجب - شوال 1409 هـ) ص 330.
17 - البهلال، فريح بن صالح.
" مشروعية قول: (لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير) بعد صلاة الفجر والمغرب " ع 23 (ذو القعدة 1408 هـ - صفر 1409 هـ) ص ص 345 - 348.(30/305)
الإرساليات التبشيرية
18 - أحمد، مهدي رزق الله.
" أساليب المنصرين للوصول إلى أهدافهم في المجتمعات الإسلامية المعاصرة " ع 22 (رجب - شوال 1408 هـ) ص ص 297 - 327.
الإسلام
- ضميرية، عثمان بن جمعة.
" إن الدين عند الله الإسلام " ع 16 (رجب - شوال 1406 هـ) ص ص 298 - 337.
الإسلام والاقتصاد
- الترتوري، حسين مطاوع. " المشكلة الاقتصادية وكيف تحل في ضوء الكتاب والسنة " ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411هـ) ص ص 171-222.
الإسلام والبنوك
- ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" رد سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز على مقالة الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر حول موقف الشريعة الإسلامية من المصارف " ع 18 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1407 هـ) ص ص 121 - 135.
- دنيا، شوقي أحمد.
" بل الفائدة المصرفية من ربا النسيئة: رد بحث الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر حول موقف الشريعة الإسلامية من المصارف " ع 18 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1407 هـ) ص ص 163 - 209.(30/306)
23 - الصالح، محمد بن أحمد. " دراسة لمقال الدكتور إبراهيم بن عبد الله الناصر موقف الشريعة الإسلامية من المصارف " ع 18 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1407 هـ) ص ص 137 - 162.
24 - الحصين، صالح بن عبد الرحمن.
" رد الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين على الدكتور إبراهيم الناصر حول بحثه " موقف الشريعة الإسلامية من المصارف " ع 23 (ذو القعدة 1408 - صفر 1409 هـ) ص 121 - 136.
الإسلام والديانات الأخرى
25 - الشويعر، محمد بن سعد.
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى} (1) ع 23 (ذو القعدة 1408 هـ صفر 1409 هـ) ص ص 201-224.
26 - ضميرية، عثمان بن جمعة.
" الإسلام وعلاقته بالديانات الأخرى " ع 21 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1408 هـ) ص ص 311-352.
الإسلام والعلم
27 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" أهمية العلم في محاربة الأفكار الهدامة " ع 26 (ذو القعدة 1409 - صفر 1410 هـ) ص ص 7-25.
28 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" فضل العلم وشرف أهله " ع 27 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1410هـ) ص ص 7-16.
__________
(1) سورة البقرة الآية 120(30/307)
الإسلام والمجتمع
29 - الفوزان، صالح بن فوزان. " تحقيق الإسلام لأمن المجتمع " ع 21 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1408هـ) ص ص 97-114.
30 - المجدوب، محمد.
" نحو مجتمع أفضل " ع 29 (ذو القعدة 1410 هـ - صفر 1411 هـ) ص ص 315 - 329.
الإسلام والمخدرات
31 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" نظرة الشريعة الإسلامية إلي المخدرات " ع 23 (ذو القعدة 1408 - صفر 1409 هـ) ص ص 11-82.
الأقليات الإسلامية
32 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" الاقليات الإسلامية: ظروفها وآمالها وآلامها " ع 16 (رجب - شوال 1406 هـ) ص ص 338 - 346.
الإيمان
33 - الشويعر، محمد بن سعد.
" أثر الإيمان في إشاعة الاطمئنان " ع 17 (ذي القعدة - صفر 1406 - 1407 هـ) ص ص 156 - 194.(30/308)
البدع في الإسلام
34 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" وجوب لزوم السنة والحذر من البدع " ع 22 (رجب - شوال 1408 هـ) ص ص 7-16.
35 - السحيمي، صالح بن سعد.
" البدع وأثرها في انحراف التصور الإسلامي " ع 16 (رجب - شوال 1406 هـ) ص ص 139-169.
36 - المنيع، عبد الله بن سليمان.
" البدعة وأثرها في الانحراف في الاعتقاد " ع 24 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1409 هـ) ص ص 103-121.
البدعة
الفوزان، صالح بن فوزان.
" تعريف البدعة: أنواعها وأحكامها " ع 23 (ذو القعدة 1408 - صفر 1409 هـ) ص ص 349-367.
البعث
المجدوب، محمد.
" قضية البعث في ضوء الوحي والعقل " ع 16 0 رجب - شوال 1406هـ) ص ص 275-296.
البهائية
المجمع الفقهي الإسلامي.
" حكم البهائية والانتماء إليها " ع 27 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1410هـ) ص ص 343-345.(30/309)
التأمين
الزرقاء، مصطفي.
" مخالفة الأستاذ الدكتور مصطفي الزرقاء " ع 26 (ذو القعدة - صفر 1409 - 1410 هـ) 344-346.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" التأمين " ع 19 (رجب - شوال 1407 هـ) ص ص 17 - 133.
ع 20 (ذو القعدة - صفر 1407 - 1408 هـ) ص ص 13 - 144.
المجمع الفقهي الإسلامي.
" التأمين بشتى صوره وأشكاله " ع 26 (ذو القعدة 1409 هـ - صفر 1410 هـ) ص ص 334 - 343.
تحقيق النصوص
ابن تيمية.
" فتيا حكم القيام والانحناء والألقاب. . " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن الفريان، ع 20 (ذو القعدة - صفر 1407 - 1408 هـ) ص ص 287- 302.
ابن رجب، الحافظ عبد الرحمن.
" رسالة (مختصر) ، فيما روي عن أهل المعرفة والحقائق في معاملة السارق " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن الفريان، ع 16 (رجب - شوال 1406 هـ) ص ص 261-274.
ابن رجب، الحافظ عبد الرحمن.
" كتاب تسلية نفوس النساء والرجال عند فقد الأطفال " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن الفريان، ع 23 (ذو القعدة 1408 - صفر 1409 هـ) ص ص 159- 180.
ابن داود، محمد بن أحمد.
" مخطوطة التمييز في معرفة أقسام الألفات في كتاب الله العزيز " تحقيق(30/310)
علي حسين البواب ع 18 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1407 هـ) ص ص 265-288.
ابن عبد الوهاب، حسن بن حسين بن محمد.
" فصل الجواب عن استحقاق المتأخر فضل الصحاب " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن الفريان، ع 28 (رجب - شوال 1410 هـ) ص ص 213 - 238.
ابن عبد الوهاب، سليمان بن عبد الله بن محمد.
" فتيا في حكم السفر إلي بلاد الشرك " تحقيق الوليد بن عبد الرحمن الفريان، ع 25 (رجب - شوال 1409 هـ) ص ص 201-220.
ابن عبد الوهاب، محمد.
". . تفسير سورة الفلق " تحقيق فهد بن عبد الرحمن الرومي، ع 27 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1410 هـ) 253-286.
ابن عبيد الله، أبو الطيب عبد المنعم. " ما انفرد به القراء الثمانية من الياءات والنونات والتاءات والباءات " تحقيق علي حسين البواب، ع 26 (ذو القعدة 1409 هـ - صفر 1410 هـ) ص ص 255- 275.
ابن قدامة، عبد الله بن أحمد.
" البرهان في بيان القرآن " تحقيق سعود بن عبد الله الفنيسان، ع 19 (رجب - شوال 1407هـ) ص ص 189-284.
التميمي، سليمان بن أبي القاسم.
" ما وقع في القرآن من الظاء " ع 21 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1408هـ) ص ص 195-211.
الطريفي، ناصر بن عقيل.
" تحقيق رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري " ع 17 (ذو القعدة - صفر 1406 - 1407 هـ) ص ص 195-254.
المعتق، عواد بن عبد الله.
" الجواب الفاصل بتمييز الحق من الباطل " ع 29 (ذى القعدة 1410 - صفر(30/311)
1410 هـ) ص ص 279-314.
التربية الإسلامية
55 - كشميري، محمد عثمان.
" مناهجنا والتربية الإسلامية " ع 17 (ذي القعدة - صفر 1406-1407هـ) ص ص 315-333.
النمر، كمال كامل.
" أحوال التربية الإسلامية في أمريكا " ع 22 (رجب - شوال 1408هـ) ص ص 239- 283.
التصوف
57 - الفوزان، صالح بن فوزان.
" حقيقة التصوف وموقف الصوفية من أصول العبادة " ع 22 (رجب - شوال 1408 هـ) ص ص 143-167.
تعدد الزوجات
58 - الطريفي، ناصر بن عقيل.
" تعدد الزوجات وأهميته للمجتمع المسلم " ع 25 (رجب - شوال 1409 هـ) ص ص 177-199.
التعليم - أفريقيا
59 - عويس، عبد الحليم.
" مشكلات التعليم في أفريقيا غير العربية " ع 27 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1410هـ) ص ص 223-252.(30/312)
التكافل الاجتماعي
60 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" مشروع التكافل الاجتماعي " ع 17 (ذو القعدة - صفر 1406-1407هـ) ص ص 42-47.
التوبة (الإسلام)
61 - العبودي، عبد الله بن حمد.
" أقوال العلماء في حكم من تاب من الكسب الحرام كالربا وأنواع المكاسب المحرمة الأخرى " ع 16 (رجب - شوال 1406 هـ) ص ص 209- 260.
التوحيد
62 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" أنواع التوحيد الذي بعث الله به الرسل عليهم الصلاة والسلام. . " ع 19 (رجب - شوال 1407 هـ) ص ص 7-16.
63 - عفيفي، محمد عبد الله.
" الأسس المنهجية لموقف أهل السنة من قضية الصفات وضوابطها " ع 24 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1409هـ) ص ص 150- 202.
64 - الفوزان، صالح بن فوزان.
" بيان التوحيد والتحذير من الشرك " ع 20 (ذو القعدة _ صفر 1407 - 1408 هـ) ص ص 191- 205.
65 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" وجوب عبادة الله وحدة وبيان أسباب النصر على أعداء الله " ع 18 (ربيع الأول - جمادى الثاني 1407) ص ص 7-12.(30/313)
جعفر بن أبي طالب
66 - خطاب، محمود شيث.
" جعفر بن أبي طالب أول سفير في الإسلام " ع 27 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1410 هـ) ص ص 191 -221.
الجهاد في الإسلام
67 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" الجهاد في الأفغان جهاد إسلامي يجب علي المسلمين دعمه ومساندته " ع 17 (ذي القعدة - صفر 1406-1407 هـ) ص ص 354-358.
الحج
68 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" من أهداف الحج توحيد كلمة المسلمين على الحق " ع29 (ذو القعدة 1410 هـ - صفر 1411 هـ) ص ص 7 - 17.
الحديث - أحكام 69 - " فتح المعين بتصحيح حديث عقد التسبيح باليمين " ع 21 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1408 هـ) ص ص 212 - 236.
الحديث - الصحيحين
70 - الزاهدي، حافظ ثناء الله.
" أحاديث الصحيحين بين الظن واليقين " ع 18 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1407 هـ) ص ص 289-327.(30/314)
الحديث. علم
71 - السلفي، محمد لقمان.
" نشأة علم نقد الحديث " ع 16 (رجب - شوال 1406هـ) ص ص 193-208.
الحرمين الشريفين
72 - زغروت محمد إبراهيم.
" رؤية فكرية وتاريخية لرعاية الحرمين الشريفين " ع 24 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1409 هـ) ص ص 308-351.
الحسبة
73 - صالح، محمد عثمان.
" الاحتساب: الحاجة إليه، ومنزلته في الأديان السابقة، وتفضيل أمة الإسلام به ع 17 (ذي القعدة - صفر 1406-1407هـ) ص ص 302-314.
74 - صالح، محمد عثمان.
" حكمة مشروعية الاحتساب وحكمه، ووظيفته وأنواعه ودرجاته وطرقه " ع 23 (ذو القعدة 1408 - صفر 1409 هـ) ص ص 265-279.
الحضارة الإسلامية
75 - عويس، عبد الحليم.
" الظاهرة الحضارية في القرآن والسنة " ع 21 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1408 هـ) ص ص 159-194.
حوادث المرور
76 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" حوادث السيارات وبيان ما يترتب عليها بالنسبة لحق الله وحق عباده " ع 26(30/315)
(ذو القعدة 1409 - صفر 1410هـ) ص ص 27 - 77.
الخضر
77 - البرقاوى، يوسف عبد الرحمن.
" من هو الخضر صاحب موسى عليه الصلاة والسلام " ع 23 (ذو القعدة 1408 - صفر 1409 هـ) ص ص 281 - 309.
الخلفاء الراشدون
78 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" مسائل في أهل الكتاب، ومن هم الخلفاء الراشدون " ع 21 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1408 هـ) ص ص 81-95.
79 - مطر، أحمد فهيم.
" عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدون " ع 23 (ذو القعدة 1408 - صفر1409 هـ) ص ص 311-344.
الخلوة (فقه الإسلامي)
80 - الطريفي، عبد الله بن عبد المحسن.
" الخلوة وما يترتب عليها من أحكام فقهية " ع 28 (رجب - شوال 1410هـ) ص ص 239 - 284.
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب
81 - السلمان، محمد بن عبد الله.
" حقيقة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأثرها في العالم الإسلامي " ع 21 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1408 هـ) ص ص 155 - 158.(30/316)
دفع الخصومة
82 - القحطاني، مسفر بن حسين.
" مسألة دفع الخصومة " ع 26 (ذو القعدة 1409 - صفر 1410 هـ) ص ص 309 - 329.
الربا
83 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" التحذير من التعامل بالربا وبيان سوء عاقبته " ع 20 (ذو القعدة - صفر 1407 - 1408 هـ) ص ص 303-304.
الرشوة
84 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" التحذير من دفع الرشوة " ع 19 (رجب - شوال 1407 هـ) ص ص 319-323.
الرهن " فقه - معاملات "
85 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" الرهن " ع 24 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1409 هـ) ص ص 14-56.
الزكاة
86 - المنيع، عبد الله بن سليمان.
" مصرف المؤلفة قلوبهم " ع 29 (ذو القعدة 1410هـ - صفر 1411 هـ) ص ص 111 - 124.(30/317)
الزنا
87 - آل الشيخ، عبد الله بن إسحاق.
" مبحث وجيز عن أضرار فاحشة الزنا " ع 23 (ذو القعدة 1408 صفر 1409 هـ) ص ص136 -157.
الزواج (الشريعة الإسلامية)
88 - الصياصنة، مصطفي عيد.
" أسس اختيار الزوجة " ع 24 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1409 هـ) ص ص 235 - 289.
السرقة (فقه - جنايات)
89 - العبودي، عبد الله بن حمد.
" الحكمة من قطع يد السارق " ع 25 (رجب - شوال 1409 هـ) ص ص 303 - 329) .
السنة
90 - الترتوري، حسين مطاوع.
" مباحث السنة عند الأصوليين " ع 20 (ذو القعدة - صفر 1407 - 1408 هـ) ص ص 233 - 286.
91 - سعد، الطبلاوي محمود.
" الدفاع عن السنة النبوية وطرق الاستدلال " ع 28 (رجب - شوال 1410هـ) ص ص 285- 317.(30/318)
السيرة النبوية
92 - كنون، عبد الله.
" نفي تقول سخيف علي الجناب المحمدي الشريف " ع 20 (ذو القعدة - صفر 1407هـ) ص ص 207 - 218.
الشباب
93 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" واجب الشباب " ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411هـ) ص ص 7-17.
94 - الشويعر، محمد بن سعد.
" الشباب والتيارات المعاصرة " ع 26 (ذو القعدة 1409هـ - صفر 1410 هـ) ص ص 215-254.
الشريعة الإسلامية
95 - السدلان، صالح بن غانم.
" حتمية تطبيق شرع الله في الأرض " ع 29 (ذي القعدة 1410 هـ - صفر 1411 هـ) ص ص 169 - 206.
الشفعة (فقه - معاملات)
96 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" الشفعة " ع 18 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1407 هـ) ص ص 13 - 69) .
الشهادة (البينة)
97 - الزبن، عبد الله بن محمد.(30/319)
" حكم الشهادة والحكمة من مشروعيتها وأركانها " ع 25 (رجب - شوال 1409 هـ) ص ص 129 - 149.
98 - الزبن، عبد الله بن محمد.
" معنى الشهادة في اللغة وفي اصطلاح الفقهاء " ع 20 (ذو القعدة - صفر 1407 - 1408 هـ) ص ص 219 - 232.
الشهادة (أركان الإسلام)
99 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" بيان معنى لا إله إلا الله " ع 25 (رجب - شوال 1409 هـ) ص ص 91 - 113.
100 - الجبرين، عبد الله بن عبد الرحمن.
" حول الشهادتين: معناهما وما تستلزمه كل منهما " ع 17 (ذو القعدة - صفر 1406 - 1407 هـ) ص ص 81 - 128.
شهادة الزور
101 - القصير، عبد الله بن صالح.
" شهادة الزور وخطرها " ع 17 (ذو القعدة - صفر 1406 - 1407 هـ) ص ص 255 - 272.
الشيكات
102 - ابن منيع، عبد الله بن سليمان.
" بحث في تحديد صيغة القبض وهل قبض الشيكات يعتبر قبضا؟ ع 26 (ذو القعدة 1409 هـ صفر 1410 هـ) ص ص 141 - 181.(30/320)
الصفات والذات
103 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" تعقيب وتوضيح. . " ع 25 (رجب - شوال 1409 هـ) ص ص 331 - 336.
الصلاة
104 - الحريري، منذر
" علمتني الصلاة " ع 24 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1409 هـ) ص ص 352 - 375.
صلاة التراويح
105 - الرحيلي، رويعي راجح.
" بحث فيما نسبه الشيخ منصور البهوتي في الروض المربع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلاة التراويح في رمضان وتخريجه ومناقشة أهل العلم في ذلك " ع 26 (ذو القعدة 1409 هـ - صفر 1410 هـ) ص ص 277 - 307.
صلاة الجماعة
106 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" وجوب أداء الصلاة في الجماعة " ع 18 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1407 هـ) ص ص 337 - 341.
107 - الطريقي، عبد الله بن محمد.
" التبليغ خلف الإمام وما فيه من المحاذير " ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411 هـ) ص ص 127 - 148.
صلاة الجمعة
108 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.(30/321)
" فتوى. . في حكم صلاة الجمعة في القرى " ع 16 (رجب - شوال 1406 هـ) ص ص 352 - 354.
الصوم
109 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" الصوم والإفطار لرؤية الهلال " ع 22 (رجب - شوال 1408 هـ) ص ص 332 - 335.
110 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" كيفية الإمساك والإفطار في رمضان وضبط أوقات الصلاة في بعض البلدان " ع 25 (رجب - شوال 1409 هـ) ص ص 11 - 34.
عبد الرزاق الصنعاني
111 - الصويان، أحمد بن عبد الرحمن.
" عبد الرزاق بن همام الصنعاني 126 هـ 211هـ " ع 17 (ذو القعدة - صفر 1406 - 1407 هـ) ص ص 273 - 300.
عبد العزيز بن باز (مقابلات)
112 - " لقاء مجلة التكبير الباكستانية مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز " ع 18 " ربيع الأول - جمادى الآخرة 1407 هـ) ص ص 329 - 335.
113 - " مقابلة مع سماحة الرئيس العام أجرتها صحيفة الراية السودانية " ع 20 (ذو القعدة - صفر 1407 - 1408 هـ) ص ص 305 -315.
عبد الله الأندلسي
114 - البستوي، عبد القيوم محمد.
" عبد الله الترجمان الأندلسي: حياته وأعماله " ع 23 ذو القعدة 1408 - صفر 1409 هـ) ص ص 369 - 388.(30/322)
العز بن عبد السلام
115 - الوهيبي، عبد الله بن إبراهيم.
" العز " بن عبد السلام مفسرا " ع 21 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1408 هـ) ص ص 276 - 310.
العقوبات (فقه - جنايات وحدود)
116 - الأنصاري، إسماعيل بن محمد.
" التدابير الزجرية والوقائية في التشريع الإسلامي وتطبيقها " ع 23 (ذو القعدة 1408 - صفر 1409 هـ) ص ص 181 - 200.
العقود (فقه - معاملات)
117 - المنيع، عبد الله بن سليمان.
" موقف الشريعة من ربط الحقوق والالتزامات المؤجلة " ع 22 (رجب - شوال 1408 هـ) ص ص 119 - 141.
عمرو بن حزم الأنصاري
118 - خطاب، محمود شيت.
" عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجي: الصحابي السفير " ع 24 (ربيع الأول - جمادى الآخر1409 هـ) ص ص 290 - 307.
الغزو الفكري
119 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" كيف نحارب العزو الثقافي الغربي والشرقي " ع 17 ذو القعدة - صفر 1406 - 1407 هـ) ص ص 7 - 12.(30/323)
الفتاوى الشرعية
120 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" حكم إخراج الأرز في زكاة الفطر " ع 17 (ذو القعدة - صفر 1406 - 1407 هـ) ص ص 79 - 80.
121 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله. من فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ع 18 (ربيع الأول - جمادي الآخرة 1407 هـ) ص ص 117 -119.
ع 19 (رجب - شوال 1407 هـ) 169 - 170.
ع 20 (ذو القعدة - صفر 1407 هـ - 1408هـ) ص ص 185 - 190.
ع 22 (رجب - شوال 1408هـ) ص ص 109 - 117.
ع 23 (ذو القعدة 1408 - صفر 1409 هـ) ص ص 107 -119.
ع24 (ربيع الأول - جمادى الآخرة هـ) ص ص 95 - 102.
ع 25 (رجب - شوال 1409 هـ) ص ص 79 - 90.
ع 26 (ذو القعدة 1409 - صفر 1410 هـ) ص ص 129 - 140.
ع 28 (رجب - شوال 1410 هـ) ص ص 107 - 123.
ع 29 (ذو القعدة 1410 هـ - صفر 1411 هـ) ص 99 - 110.
ع 30 - (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411 هـ) ص ص 107 - 126.
122 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" حكم قيادة المرأة للسيارة " ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411 هـ) ص ص 297 - 300.
123 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" عدم جواز وصف الميت بأنه مغفور له أو مرحوم " ع 25 (رجب - شوال 1409 هـ) ص 330.
124 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" الفتاوى " ع 16 (رجب - شوال 1406 هـ ص ص 103 - 137.
ع 17 - (ذو القعدة - صفر 1406 - 1407 هـ) ص ص 50 - 78.
ع 18 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1407 هـ) ص ص 71 - 116.(30/324)
ع 19 (رجب - شوال 1407 هـ) ص ص 135 - 168.
ع 20 (ذو القعدة - صفر 1407 - 1408 هـ) ص ص 145 - 183.
ع 21 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1408 هـ) ص ص 39 - 80.
ع 22 (رجب - شوال 1408 هـ) ص ص 60 - 108.
ع 23 (ذو القعدة 1408 - صفر 1409 هـ) ص ص 83 - 105.
ع 24 - (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1409 هـ) ص ص 57 - 94.
ع 25 (رجب - شوال 1409 هـ) ص ص 35 - 78.
ع 26 (ذو القعدة 1409 - صفر 1410 هـ) ص ص 79 - 128.
ع 27 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1410 هـ) ص ص 33 - 82.
ع 28 (رجب - شوال 1410 هـ ص ص 51 - 105.
ع 29 (ذو القعدة 1410 - صفر 1411 هـ) ص ص 67 - 98.
ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411 هـ) ص ص 73 - 106.
125 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" نقل الدم أو عضو أو جزء من إنسان إلى آخر " ع 22 (رجب - شوال 1408 هـ) ص 7 - 57.
الفتنة الخمينية
126 - " بيان هيئة كبار العلماء حول أعمال الشغب التي قام بها بعض الحجاج الإيرانيين في موسم حج عام 1407 هـ " ع 20 (ذو القعدة - صفر 1407 هـ - 1408 هـ) ص ص 317 - 320.
الفقه الإسلامي - أصول - المباحث الأصولية الشرعية
127 - السلمي، عياضة بن نامي.
" حكم العمل بالعام قبل البحث عن المخصص " ع 25 (رجب - شوال 1409 هـ) ص ص 151 - 176.(30/325)
القاديانية (فرقة)
128 - المجمع الفقهي الإسلامي.
" حكم القاديانية والانتماء إليها " ع 26 (ذو القعدة 1409 - صفر 1410 هـ) ص ص 331 - 333.
القتل في الإسلام
129 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" قتل الغيلة " ع 28 (رجب - شوال 1410 هـ) ص ص 23 - 50.
القرآن - أحكام
130 - خرابشة، عبد الرؤوف مفضي.
" مناهج العلماء في إثبات الأحكام بخبر الواحد زيادة على ما ثبت منها بالقرآن " ع 27 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1410 هـ) ص ص 287 - 340.
القرآن - إعجاز
131 - الترتوري، حسين مطاوع.
" الإعجاز البياني للقرآن الكريم: أركانه ومظاهره " ع 23 (ذو القعدة 1408 - صفر 1409 هـ) ص ص 225 - 263.
القرآن - ألفاظ ومعاني
132 - القرعاوي، سليمان بن صالح.
" الوجوه والنظائر في القرآن الكريم " ع 27 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1410 هـ) ص ص 165 - 190.(30/326)
القرآن - ترجمة
133 - عوض الله، السيد أحمد أبو الفضل.
" انتشار ترجمات معاني القرآن الكريم في مشرق العالم ومغربه " ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411 هـ) ص ص 257 - 268.
القرآن - الناسخ والمنسوخ
134 - الشبانة، عبد الله بن حمد.
" النسخ في القرآن الكريم " ع 29 (ذو القعدة 1410 هـ - صفر 1411 هـ) ص ص 207 - 278.
القضاء في الإسلام
135 - الدريب، سعود بن سعد ".
القضاء والحكم بشريعة الإسلام بين توحيد المشرع ومتابعة المبلغ " ع 19 (رجب - شوال 1407 هـ) ص ص 171 - 187.
136 - القحطاني، مسفر بن حسين.
"دفع الدعوى " ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411 هـ) ص ص 149 - 169.
الكتب. نقد وتعريف
137 - الفوزان، صالح بن فوزان.
" نظرات وتعقيبات على ما في كتاب السلفية لمحمد سعيد رمضان من الهفوات " ع 26 (ذوالقعدة 1409 - صفر 1410 هـ) ص ص 183 - 214.(30/327)
الكهنة
138 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" حكم إتيان الكهان ونحوهم وسؤالهم وتصديقهم، ع 20 " ذو القعدة - صفر 1407 - 1408 هـ) ص ص 7 - 11.
الماشية
139 - ابن حميد، عبد الله بن محمد.
" وجهة رأي بشأن المواشي السائبة على جوانب الطرق العامة " ع 27 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1410 هـ) ص ص 28 - 32) .
140 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
" المواشي السائبة على الطرق العامة " ع 27 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1410 هـ) ص ص 17 - 27.
محمد بن إبراهيم
141 - المنيع، عبد الله بن سليمان.
" من أفذاذنا العلماء الشيخ محمد بن إبراهيم " ع 18 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1407 هـ) ص ص 211 - 238.
محمد بن عبد الوهاب
142 - الفوزان، صالح بن فوزان.
" من أعلام المجددين الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب: حياته، دعوته، ثمرات دعوته " ع 16 (رجب - شوال 1406 هـ) ص ص 171 - 192.(30/328)
المرأة في الإسلام
143 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" أثر المرأة في حياتكم سؤال من مجلة الجيل. . " ع 17 (ذي القعدة - صفر 1406 - 1407 هـ) ص ص 359 - 361.
144 - الصالح، محمد بن أحمد.
" مجال عمل المرأة في الإسلام " ع 17 (ذي القعدة - صفر 1406 - 1407 هـ) ص ص 143 - 155.
المعونة الاقتصادية
145 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" نداء لجميع المسلمين وغيرهم للوقوف في صف حكومة السودان وشعبها بالدعم والمواساة بسبب الكارثة التي نزلت بهم " ع 25 رجب - شوال 1405) ص ص 346 - 351.
146 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" نداء وتذكير لمساعدة المجاهدين الأفغان والمجاهدين في فلسطين " ع 29 (رجب - شوال 1410 هـ) ص ص 324 - 328.
المكتبات
147 - زغروت محمد إبراهيم.
" مكتبة الأمويين الإسلامية في قرطبة وتأثيرها الفكري في شعوب غرب أوربا " ع 17 " ذي القعدة - صفر 1406 - 1407 هـ) ص ص 335 - 353.
الملكية (فقه - معاملات)
148 - اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
" التقادم في مسألة وضع اليد " ع 29 (ذو القعدة 1410 هـ - صفر 1411هـ)(30/329)
ص ص 19 - 65.
ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411 هـ) ص ص 19 - 72.
مؤتمر مكة
149 - " بيان هيئة كبار العلماء بتأييد ما أصدره المؤتمر الإسلامي العالمي من قرارات وتوصيات ووثيقة مكة المكرمة حول الأوضاع في الخليج " ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411 هـ) ص ص 281 - 284.
150 - " قرارات وتوصيات المؤتمر الإسلامي العالمي لمناقشة الأوضاع الحاضرة في الخليج المنعقد بمكة المكرمة في الفترة من 21 -23 \ 2 \ 1411 هـ " ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411 هـ) ص ص 269 - 272.
151 - " وثيقة مكة المكرمة الصادرة عن المؤتمر الإسلامي العالمي لمناقشة الأوضاع الحاضرة في الخليج " ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411 هـ) ص ص 273 - 280.
نبوة محمد
152 - سلامة " ناجي محمد داود.
" الآيات والبراهين على صدق نبوة خاتم المرسلين " ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411 هـ) ص ص 223 - 256.
النظم الإسلامية
153 - الترتوري، حسين مطاوع.
" مصادر النظم الإسلامية " ع 27 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1410 هـ) ص ص 119 - 164.
النفقة (أحوال شخصية)
154 - الطريقي، عبد الله بن عبد المحسن.(30/330)
" نفقة المرأة الواجبة على نفسها في الفقه الإسلامي " ع 19 (رجب - شوال 1407 هـ) ص 285 - 317.
155 - الطريقي، عبد الله بن عبد المحسن.
" النفقة الواجبة على المرأة لحق الغير " ع 22 (رجب - شوال 1408) ص ص 169 - 238.
الهلال
156 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" متى ثبتت رؤية الهلال ثبوتا شرعيا وجب العمل بها " ع 24 (ربيع الأول - - جمادى الآخرة 1409 هـ) ص ص 376 - 381.
157 - اللحيدان، صالح بن محمد.
" الأحكام المتعلقة بالهلال " ع 27 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1410 هـ) ص ص 91 - 118.
الوجودية
158 - المجمع الفقهي الإسلامي.
" حول الوجودية " ع 27 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1410 هـ) ص ص341 - 342.
الوحدة الإسلامية
159 - الغامدي، أحمد بن سعد.
" الوحدة الإسلامية: أسسها ووسائل تحقيقها " ع 21 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1408 هـ) ص ص 237 - 275.(30/331)
الوعظ والإرشاد
160 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" بيان بطلان ما يعتقده بعض الناس " ع 29 (ذو القعدة 1410 هـ - صفر 1411 هـ) ص ص 345 - 348.
161 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" التحذير من إيداع الأموال في البنوك أو غيرها لغرض الحصول على الربا " ع 23 (ذو القعدة 1408 - صفر 1409 هـ) ص ص 397 - 398.
162 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" التحذير من السفر إلى بلاد الكفار وخطره على العقيدة والأخلاق " ع 16 (رجب - شوال 1406 هـ) ص ص 7 - 10.
163 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" التنبيه على نشرات في عقوبة تارك الصلاة " ع 22 (رجب - شوال 1408 هـ) ص ص 329 - 332.
164 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" نصح وإرشاد " ع 24 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1409 هـ) ص ص 7 - 13.
165 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" نصيحة عامة لأئمة المسلمين وعامتهم " ع 25 (رجب - شوال 1409هـ) ص ص 7 - 10.
167 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" النهي عن عضل البنات " ع 23 (ذو القعدة 1408 هـ - صفر 1409 هـ) ص ص 395 - 396.
168 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.(30/332)
" وجوب الاعتصام بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والتحذير مما يخالفهما " ع 21 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1408 هـ) ص ص 7 - 19.
169 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " ع 28 (رجب -شوال 1410 هـ) ص ص 7 - 21.
170 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" وجوب شكر النعم والحذر من صرفها في غير مصارفها " ع 23 (ذو القعدة 1408هـ - صفر 1409 هـ) ص ص 7 - 9.
171 - ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله.
" وصية موجهة للمرابطين في الحدود ضد اعتداء دولة العراق " ع 30 (ربيع الأول - جمادى الآخرة 1411 هـ) ص ص 293 - 296.
172 - الفوزان، صالح بن فوزان.
الولاء والبراء في الإسلام " ع 25 (رجب - شوال 1409 هـ) ص ص 115 - 128.
الوقاية من الجريمة في الإسلام
173 - الشويعر، محمد بن سعد.
" الوقاية من الجريمة في التشريع الإسلامي " ع 29 (ذو القعدة - صفر 1410 هـ - 1411 هـ) ص ص 125 - 168.(30/333)
كشاف بالموضوعات
ابن تيمية 1 - 3
أبو موسى الأشعري 4
اتخاذ القرارات 5 - 8
الإجارة (فقه - معاملات)
أحكام التصوير 10
الأحكام الشرعية 11 - 12
أحمد بن حنبل 13 - 14
الأخلاق الإسلامية 15
الأدعية والأوراد 16- 17
الإرساليات التبشيرية 18
الإسلام 19
الإسلام والاقتصاد 20
الإسلام والبنوك 21 - 24
الإسلام والديانات الأخرى 25 -26
الإسلام والعلم 27 - 28
الإسلام والمجتمع 29 - 30
الإسلام والمخدرات 31
الأقليات الإسلامية 32
الإيمان 33
البدع في الإسلام 34 - 36
البدعة 37
البعث 38
البهائية 39(30/334)
التأمين 40 - 42
تحقيق النصوص 43 - 54
التربية الإسلامية 55 - 56
التصوف 57
تعدد الزوجات 58
التعليم - أفريقيا 59
التكافل الاجتماعي 60
التوبة (الإسلام) 61
التوحيد 62 - 65
جعفر بن أبي طالب 66
الجهاد في الإسلام 67
الحج 68
الحديث - أحكام 69
الحديث - الصحيحين 70
الحديث - علم 71
الحرمين الشريفين 72
الحسبة 73 - 74
الحضارة الإسلامية 75
حوادث المرور 76
الخضر 77
الخلفاء الراشدون 78 - 79
الخلوة (فقه إسلامي) 80
دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب 81
دفع الخصومة 82
الربا 83
الرشوة 84(30/335)
الرهن (فقه - معاملات) 85
الزكاة 86
الزنا 87
الزواج (الشريعة الإسلامية) 88
السرقة (فقه - جنايات) 89
السنة 90 - 91
السيرة النبوية 92
الشباب 93 - 94
الشريعة الإسلامية 95
الشفعة (فقه معاملات) 96
الشهادة (البينة) 97 - 98
الشهادة (أركان الإسلام) 99 - 100
شهادة الزور 101
الشيكات 102
الصفات والذات 103
الصلاة 104
صلاة التراويح 105
صلاة الجماعة 106 - 107
صلاة الجمعة 108
الصوم 109 - 110
عبد الرزاق الصنعاني 111
عبد العزيز بن باز (مقابلات) 112 - 113
عبد الله الأندلسي 114
العز بن عبد السلام 115
العقوبات (فقه - جنايات وحدود) 116
العقود (فقه - معاملات) 117(30/336)
عمرو بن حزم الأنصاري 118
الغزو الفكري 119
الفتاوى الشرعية 120 - 125
الفتنة الخمينية 126
الفقه الإسلامي، أصول - المباحث الأصولية الشرعية 127
القاديانية (فرق) 128
القتل في الإسلام 129
القرآن أحكام 130
القرآن - إعجاز 131
القرآن - ألفاظ ومعاني 132
القرآن ترجمة 133
القرآن - الناسخ والمنسوخ 134
القضاء في الإسلام 135 - 136
الكتب - نقد وتعريف 137
الكهنة 138
الماشية 139 - 140
محمد بن إبراهيم 141
محمد بن عبد الوهاب 142
المرأة في الإسلام 143 - 144
المعونة الاقتصادية 145-146
المكتبات 147
الملكية (فقه - معاملات) 148
مؤتمر مكة 149 - 151
نبوة محمد 152
النظم الإسلامية 153(30/337)
النفقة (أحوال شخصية) 154 - 155
الهلال 156 - 157
الوجودية 158
الوحدة الإسلامية 159
الوعظ والإرشاد 160 - 172
الوقاية من الجريمة في الإسلام 173
كشاف بالأعلام
آل الشيخ، عبد الله بن إسحاق 87 ابن باز، عبد العزيز بن عبد الله 10، 16، 21، 27، 28، 32، 33، 34، 62، 65، 67، 68، 78، 83، 84، 93، 99، 103، 106، 108، 109، 112، 113، 119، 120، 121، 122، 123، 138، 143، 145، 146، 156، 160، 161، 162، 163، 164، 165، 166، 167، 168، 169، 170، 171.
ابن تيمية 1، 2، 3، 43.
ابن حميد، عبد الله بن محمد 139
ابن حنبل، أحمد 13، 14.
ابن داود، محمد بن أحمد 46
ابن رجب، الحافظ عبد الرحمن 44، 45
ابن عبد الوهاب، سليمان بن عبد الله 48
ابن عبد الوهاب، محمد 2، 49، 81، 142
ابن عبيد الله، أبو الطيب عبد المنعم 50(30/338)
ابن قدامة، عبد الله بن أحمد 51
أبو زهرة 2
أحمد، مهدي رزق الله 18
الأشعري، أبو موسى 4، 53
الأندلسي، عبيد الله الترجمان 114
الأنصاري، إسماعيل بن محمد 116
الأنصاري، عمرو بن حزم 118
البرقاوي، يوسف عبد الرحمن 77
البستوي، عبد القيوم محمد 114
البهلال، فريح بن صالح 17، 69
البواب، علي حسين 50
البوطي، محمد سعيد رمضان 137
الترتوري، حسين مطاوع 20، 90، 131، 153
التميمي، سليمان بن أبي القاسم 52
الجبرين، عبد الله بن عبد الرحمن 100
الحريري، منذر 104
الحصين، صالح بن عبد الرحمن 24
خرابشة، عبد الرؤوف مفضي 130
خطاب، محمود شيت 4، 66، 118
الدريب، سعود بن سعد 135
دنيا، شوقي أحمد 22
الرحيلي، رويعي راجح 105
الرومي، فهد بن عبد الرحمن 49
الزاهدي، حافظ ثناء الله 70
الزبن، عبد الله بن محمد 97 -98
الزرقاء، مصطفى 40(30/339)
زغروت، محمد إبراهيم 72، 147
السحيمي، صالح بن سعد 35
سعد، الطبلاوي محمود 91
سلامة، ناجي محمد داود 152
السلفي، محمد لقمان 1، 71
السلمان، محمد بن عبد الله 81
السدلان، صالح بن غانم 95
السلمي، عياضة بن نامي 127
الشبانة، عبد الله بن حمد 134
الشويعر، محمد بن سعد 25، 33، 94، 173
الصالح، محمد بن أحمد 23، 144
صالح، محمد عثمان 73، 74
الصنعاني، عبد الرزاق بن همام 111
الصويان، أحمد بن عبد الرحمن 13، 111
الصياصنة، مصطفى عيد 87
ضميرية، عثمان بن جمعة 19، 26
الطريفي، ناصر بن عقيل 53، 58
الطريقي، عبد الله بن عبد المحسن 80، 154، 155
الطريقي، عبد الله بن محمد 106
الطنوبي، صلاح أحمد 15
العبودي، عبد الله بن حمد 61، 98
عفيفي، محمد عبد الله 63
عوض الله، السيد أحمد أبو الفضل 133
عويس، عبد الحليم 59، 75
الغامدي، أحمد بن سعد 159
الفريان، الوليد بن عبد الرحمن 43، 44، 45، 47، 48(30/340)
الفوزان، صالح بن فوزان 2، 3، 14، 29، 37، 57، 64، 137، 142، 171
الفنيسان، سعود بن عبد الله 51
القحطاني، مسفر بن حسين 82، 136
القرعاوي، سليمان بن صالح 132
القصير، عبد الله بن صالح 101
كشميري، محمد عثمان 55
كنون، عبد الله 92
اللحيدان، صالح بن محمد 157
المجذوب، محمد 30، 38
مطر، أحمد فهيم 79
المعتق، عواد بن عبد الله 54
المنيع، عبد الله بن سليمان 36، 86، 102، 117، 141
الناصر، إبراهيم بن عبد الله 22، 23، 24
النمر، كمال كامل 56
الوهيبي، عبد الله بن إبراهيم 115
كشاف بالهيئات والمؤسسات رابطة العالم الإسلامي 7
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 9، 11، 12، 31، 76، 85، 96، 110، 124، 125، 129، 140، 148
المجمع الفقهي الإسلامي 7، 8، 39، 42، 128، 158
هيئة كبار العلماء 5، 6، 126، 149.(30/341)
صفحة فارغة(30/342)
قرارات
المجلس التنفيذي للمؤتمر الإسلامي الشعبي
مكة المكرمة 23-25 \ 6 \ 1411 هـ
إعلان مكة المكرمة إلي الأمة الإسلامية
الحمد لله الذي هدى عباده المؤمنين إلي اتقاء الفتن بالتضامن على دفعها حذرا من أن تصيب الجميع بسبب أناس ظلموا فلم يردعوا، إذ قال جل شأنه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) الأنفال آية 25
والصلاة والسلام على من ودع أمته - في آخر سني حياته - بقوله: «ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض (2) » سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
فإن علماء المسلمين مأمورون بتوضيح الحقائق وبذل الرأي الرشيد للأمة في كل حين، لا سيما إذا وقعت الفتن، وكثر الهرج.
ولا شك أن الأمة اليوم تواجه فتنا يأخذ بعضها برقاب بعض، فهي - لذلك - في أشد الحاجة إلي التوجيه المهتدى، والرأي السديد.
ونهوضا بأمانة العلم، وشعورا بالمسئولية تجاه هذه المرحلة البالغة الحرج والأسى والمشحونة بنذر ومخاطر مروعة على حاضر الأمة ومستقبلها، وتأكيدا لما قرره المؤتمر الإسلامي في مكة المكرمة في شهر صفر عام 1411هـ، تنادي جمع غيور كريم من
__________
(1) سورة الأنفال الآية 25
(2) صحيح البخاري العلم (121) ، صحيح مسلم الإيمان (65) ، سنن النسائي تحريم الدم (4131) ، سنن ابن ماجه الفتن (3942) ، مسند أحمد بن حنبل (4/358) ، سنن الدارمي المناسك (1921) .(30/343)
علماء الإسلام ودعاته إلى لقاء عاجل في مكة المكرمة.
وفي الفترة من 23 - 25 جمادى الآخرة 1411 هـ الموافق 9 - 11 يناير 1991 م انعقد اجتماع العلماء والدعاة بفضل الله وتوفيقه.
وفي جو يتخلله الإحساس بالخطر، وتسوده روح المسئولية وتظله الرغبة الصادقة في النصح.
وبعد تشاور عميق، وتبادل بصير للرأي على مدى ثلاثة أيام، أصدر اجتماع العلماء والدعاة في مكة المكرمة، البيان التالي:
إعلان مكة المكرمة إلى الأمة الإسلامية
تجتاز الأمة الإسلامية اليوم مرحلة من أشق مراحل حياتها، ومن أشدها كربا وبلاء على المسلمين في دينهم ودنياهم، وأمنهم الخاص والعام، وحياتهم الذاتية، ووجودهم الدولي.
وإنما كان العدوان العراقي على الكويت هو مصدر هذا البلاء وسببه. . فمنذ أن وقع العدوان، والأمة الإسلامية تعيش حزنا عميقا وفتنة عامة لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته، فإذا قيل: انقضت تمادت.
وعلى الرغم من مرور ما يقرب من نصف عام على الغزو العراقي للكويت، فإن النظام العراقي لم يصغ إلى صوت الحق، ولم يستجب لنداءات الأخوة والجوار والرشد والمصلحة، وهي نداءات جد كثيرة، ومتوالية، ومتعددة المستويات.
ومهما تمادى الظالم في ظلمه، فإن العلماء لا يجوز أن يملوا من التذكير والجهر بالحق، ودحض الباطل: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} (1) الزخرف \ 5.
ومن الحقائق المقررة: إن طول الزمن لا يمنح الباطل أحقية، ولا الظلم شرعية.
__________
(1) سورة الزخرف الآية 5(30/344)
وقد لاحظ المجتمعون أن النظام العراقي مرد على استغلال الإسلام، وتبرير مظالمه به، افتراء عليه.
وهذه خطيئة لا تطيق ضمائر العلماء والدعاة السكوت عليها إذ هي خطيئة تصور الإسلام على أنه دين يمالئ الظالمين، ويقر الظلم في حين أن دفع الظلم في الأرض هو أحد المقاصد الكبرى للإسلام.
ومن الوقائع العلمية التي تدل على هذا الاستغلال الخبيث للإسلام، المؤتمر الذي ينظمه النظام العراقي في هذه الأيام في بغداد وتحت شعار إسلامي. . . فليس بخاف على ذي وعي وضمير ذلك التناقض القائم بين الإسلام والفكر المادي الذي هو قوام النظام العراقي.
ولا يحل لأحد احتكار الإسلام أو منع الناس من الانعطاف نحوه بيد أن هناك فرقا واضحا وكبيرا بين الاتجاه الصادق نحو الإسلام وبين استغلال الإسلام، فدليل الأول هو الاستجابة لله ولرسوله في كل شيء. أما الثاني فلا يتطلب أكثر من رفع الشعار الإسلامي ابتغاء تحقيق أهداف لا علاقة لها بالإسلام.
فإذا كانت القيادة العراقية مخلصة في الأخذ بالإسلام وصادقة في التجاوب مع المؤتمرات الإسلامية الشعبية التي تعقدها، فإنه يتعين عليها أن تحترم تلك المؤتمرات وأن توفي لها بما وعدتها به من قبل.
منذ ثماني سنوات خاطب الرئيس العراقي صدام حسين المؤتمر الإسلامي الشعبي الأول الذي انعقد في بغداد فقال:
" إن الإيمان بمبادئ الحق والعدل والشعور بالمسئولية أمام المسلمين يفرضان علينا جميعا تلمس الحقيقة وصولا إلى الحل الموضوعي والمبدئي العادل من أجل السلام وإقامة علاقات طبيعية على أساس من مبادئ حسن الجوار ومبادئ الإسلام والمواثيق والأعراف الدولية. أقول مسبقا بأننا نوافق على كل قرار تتخذونه في هذا المؤتمر ومن الآن نعطي الموافقة من أعلى سلطة في الدولة مع الاعتذار لشعب العراق ولفقهاء القانون الدولي والعاملين في السياسة والقوانين، إذ ربما ينتقدون صدام حسين ويقولون: كيف يجوز لرئيس دولة أن يعطي قرارا مسبقا بالموافقة على أمر لم يقرأه ولم يره ولم يعرفه. فأقول تعليقا(30/345)
على هذا: أن هذه الصفوة الخيرة التي جاءت من كل بطاح الأرض من المسلمين إذا ما اجتمعوا على رأي فهو الرأي الصواب، وحتى لو كان لنا رأي آخر فلا نعتقد بأن رأينا هو أصوب من رأي هذه الجماعة " انتهى.
ولقد أصدر ذلك المؤتمر عددا من القرارات وجاء في القرار الثاني منها: " تحريم استعمال العنف واللجوء إلى القوة العسكرية في فض أي نزاع كان بين الدول الإسلامية ووجوب اللجوء إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم " انتهى.
ومما يدل على أن الإسلام يستغل ولا يلتزم من قبل النظام العراقي أن هذه العهود والقرارات التي تعهد النظام العراقي بإنفاذها انتهكت كلها بلا استثناء.
فالنظام العراقي باحتلاله للكويت وتهديده لدول الخليج انتهك مبادئ الحق والعدل وحسن الجوار، وانتهك المبادئ والمواثيق التي تحرم استعمال العنف واللجوء إلى القوة العسكرية في فض النزاع بين الدول الإسلامية، فقد استعمل العنف وانتهك حق الجار. . ولا يزال النظام العراقي يوغل في استغلال الإسلام حتى صار هذا الاستغلال استهزاء بالإسلام، واستخفافا بعقول أهله، وإلا فأين الإسلام في ظل النظام العراقي؟ . . أين الإسلام في القضاء والمحاكم، والتربية والتعليم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والثقافة والإعلام وأين الدعوة الإسلامية ألم يكبت النظام العراقي صوتها، ويطارد دعاتها ويسجنهم ويقتلهم حتى أصبح التخفي بأمر الدعوة هو الظاهرة الغالبة تحت وطأة النظام العراقي.
وهذا كله دليل على أن هذا النظام يستغل الإسلام ولا يلتزمه.
والمجتمعون اليوم في مكة المكرمة يبدون عجبهم واستغرابهم واستنكارهم لموقف بعض المنتسبين إلى العلم والدعوة الذين يؤازرون النظام العراقي ويحضرون مؤتمراته بعد أن ظهر لهم أنه يتخذ الإسلام مطية فحسب.
ألا يتذكر هؤلاء المؤازرون للنظام العراقي ما فعل صدام حسين بإخواننا الأكراد من قتل وتشريد وإبادة؟
ألا يتذكرون ما فعله الرئيس صدام حسين برجال الدعوة الإسلامية داخل العراق قتلا وسجنا وتشريدا ولا تزال سجون العراق مملوءة بالدعاة والعلماء؟!(30/346)
ألا يتذكرون أنه يحكم العراق بدستور اشتراكي علماني؟
إننا نخوفهم من الوقوف بين يدي الله. . . ونذكرهم بقوله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (1) {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} (2) {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} (3) الفرقان 27 - 29.
إن لإحسان الظن شروطا من أهمها: ألا يصدر عن المرء سلوك ينفي حسن الظن وقد صدر عن القيادة العراقية سلوك عدواني تمثل في احتلال دولة عربية مسلمة وتشريد أهلها وتخريب مؤسساتها رغم المعاهدات الإقليمية والعربية والدولية التي تربطه بجيرانه.
وتبين للعلماء المجتمعين في مكة المكرمة بصورة أشد وضوحا - مع مرور الوقت ورصد النتائج - أنه ليس مصيبا من يتصور أن الكارثة التي أنزلها النظام العراقي بالأمة تنحصر في الكويت والمملكة العربية السعودية وسائر دول الخليج.
إن عواقب العدوان العراقي ومضاعفاته وآثاره تتعدى هذا النطاق لتمتد إلى الوطن العربي كله والعالم الإسلامي جميعا والإنسانية كافة.
فقد تعثرت اجتماعات جامعة الدول العربية بعد أن أحدث فيها الغزو العراقي للكويت انقساما حادا وفرقة عاتية.
وتأخر مؤتمر القمة الدوري لمنظمة المؤتمر الإسلامي عن موعده.
وتفشى القلق النفسي، واضطرب الأمن، وتكاثرت الخسائر الاقتصادية واعتل سوق النفط والمال وتضاعفت مآسي العالم الإسلامي بسبب ذلك، وتناقص نشاط الدعوة إلى الله والأعمال الخيرية وتدفقت الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة بمعدلات أكبر وأسرع وصرف الوعي - بقوة الأزمة التي فجرها النظام العراقي - عن الانتقاضة المباركة في الأرض المحتلة واشتد ظلم اليهود للفلسطينيين.
إن المجتمعين وهم يرصدون هذه الآثار المفزعة السيئة لينصحون كل مسلم بأن يجعل منها دليلا على الحكم بفساد سلوك النظام العراقي.
إننا نهدف من إعلاننا هذا إلى إنقاذ الأمة من حرب مدمرة تهلك الحرث والنسل إذا
__________
(1) سورة الفرقان الآية 27
(2) سورة الفرقان الآية 28
(3) سورة الفرقان الآية 29(30/347)
اندلعت إلا ما شاء الله. وإن إرادة اتقاء الحرب تتطلب مواجهة صريحة وشجاعة مع التعنت العراقي الذي هو السبب الأساسي لهذه الحرب الخطيرة.
وكل حريص على إنقاذ هذه الأمة من هذه الحرب يجب عليه أن يجاهد في سبيل إزالة دواعيها وهو: رفض النظام العراقي سحب جيوشه الغازية من الكويت.
إن علماء الإسلام المجتمعين في مكة المكرمة يشعرون بخطورة الموقف، ويدركون الأهوال المروعة للكارثة إذا وقع زلزال الحرب وتفجر بركانها، ويدركون أن الأمة مقبلة على مستقبل عظيم الخطر ما لم تأخذ حذرها، وترفع درجة يقظتها وتأطر صدام حسين على الحق أطرا بعزله نفسيا وبمحاضرته فكريا وإعلاميا وبصك أذنيه - أبدا - بالكلمة الشجاعة وهي: اخرج يا صدام حسين من الكويت.
اخرج الآن وليس غدا. . . اخرج ولا تكن كأشقى ثمود الذي جر على قومه بعمله شر ما يجره رجل على قومه.
اخرج وكف عن دعوى تحرير فلسطين فليس يدافع عن فلسطين من يتذرع بمنطق مستعمريها في الاحتلال والاستعمار والدعاوى التاريخية.
اخرج وإلا فإن أجيال الأمة الحاضرة والآتية تحملك - أنت وأعوانك - مسئولية كل قطرة دم تراق، وتبعة كل بيت يهدم، وجريرة خراب العراق وغير العراق.
وفي ضوء هذا المفهوم يتبدى الخطأ الجسيم في موقف الذين يسايرون النظام العراقي ولا ينصحونه، فهذه المسايرة تغريه بالإصرار على الموقف المتعنت، وهذا الموقف هو البوابة الواسعة إلى جحيم الحرب.
ولقاء مكة اليوم إذ يجلي هذه الحقائق والوقائع ويضعها بين يدي العالم الإسلامي فإنه يختم إعلانه إلى الأمة الإسلامية بالتأكيد على ما يلي:
1 - ينبغي أن تتحد كلمة العلماء والدعاة في قضية مواجهة العدوان العراقي وإدانته، فمن خصائص المؤمنين والدعاة إلى الله أنهم يقفون صفا واحدا لردع البغي {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} (1) الشورة \ 39
2 - دعوة الذين ناصروا النظام العراقي في ظلمه وبغيه أن يراجعوا أنفسهم ويتقوا الله في عملهم ويدركوا أن عملهم هذا محادة لله ولرسوله وتبرير لتمزق الأمة
__________
(1) سورة الشورى الآية 39(30/348)
واختلافها، وإن عليهم أن يعودوا للصف الإسلامي وينضموا إلى جماعة المسلمين في الوقوف في وجه صدام حسين وردعه عن الظلم والبغي {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (1) هود \ 113. إن الوقوف مع هذا النظام الظلوم دعم للظلم، وتشجيع على الاستمرار في الاعتداء على الكويت، واضطهاد أهلها، وتخريب مؤسساتها، وإتلاف بيئتها، وهو كذلك إغراء بالتعنت المفضي إلى الحرب.
والإغراء بالجريمة مشاركة فيها، فالمؤيدون للقيادة العراقية يتحملون - من ثم - تبعة كبيرة من تبعات نشوب الحرب، وما يتبع ذلك من خسائر في الأنفس والثمرات.
3 - وعلماء المسلمين وهم ينادون بإنقاذ الأمة من حرب ضروس يدركون أن سبيل الإنقاذ الوحيد هو استجابة القيادة العراقية والتزامها الفوري والواضح لنداءات علماء الإسلام ودعاته وقرارات مؤتمر القمة العربي ووزراء خارجية الدول الإسلامية ومجلس الأمن الداعية إلى انسحاب القوات العراقية من الكويت انسحابا كليا غير جزئي وناجزا من غير تسويف. كما يدركون أن إصرار القيادة العراقية على احتلال الكويت هو الذي سيفجر حربا وخيمة العواقب تصرفنا عن مواجهة قضايانا الكبرى، وخاصة قضية فلسطين.
4 - إن اجتماع العلماء، إذ يلحظ شذوذ القيادة العراقية وانحرافها عن مبادئ الأمة الإسلامية ومصالحها الحيوية، فإنه يعرف ما للشعب العراقي من أصالة عربية وإسلامية، ومن دور رائد في خدمة الإسلام وحضارته عبر تاريخ طويل حافل بالعطاء العلمي والدفاع عن حصون الأمة، كما يدرك المجتمعون أن هذا الشعب مغلوب على أمره. وأن النظام العراقي قد مارس القسوة والبطش على هذا الشعب قبل أن يمارسها ضد غيره.
ومن هنا، فإن نداء العلماء بضرورة إنقاذ الأمة من مهالك الحرب، إنما تقف وراءه دوافع الحفاظ والحرص على أمن الشعب العراقي وسلامته، كما تقف وراءه دوافع حماية الأمة من قوارع ماحقة يدق طبولها النظام العراقي. والعلماء إذ
__________
(1) سورة هود الآية 113(30/349)
يحرصون علي مصالح الشعب العراقي، فإنهم يدعونه إلي إعلان سخطه على قيادته الظالمة، والتبرؤ منها.
(5) يتوجه علماء الإسلام المجتمعون في مكة المكرمة بنداء مخلص وأمين إلي الجيش العراقي يناشدونه فيه أن يعصي أوامر قيادته الضالة وألا يستجيب لخوض معركة يحارب فيها إخوانه المسلمين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما الطاعة في المعروف (1) » . .
وليعلم الجيش العراقي أن من يقتل منهم في هذه الحرب فهو خاسر متوعد بالنار، لما في الصحيح «أن رجلا جاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يارسول الله أرأيت لو جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: فقاتله، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار (2) » .
(6) إن اجتماع علماء الإسلام لا يني في التنويه بقضية الإسلام الكبرى وهي القضية الفلسطينية، ولا يفتأ يدعو إلى السعي الجاد في سبيل نصرتها ودعمها حتى يتحرر القدس الشريف ويقيم الشعب الفلسطينى دولته على أرضه في ظل تعاليم الإسلام وقيمه، وانه لينأى بها عن المتاجرة والمزايدة كما يفعل النظام العراقي وغيره من المتاجرين والمزايدين بالشعارات والقضايا المصيرية.
(7) ينبغي أن تتسلح الأمة بالحذر التام من الحملات الإعلامية التي ينظمها النظام العراقي للتأثير الخبيث على الوعي الإسلامي، فقد استخدم هذا النظام (الخداع الدعائي) في صناعة الشعارات وترويجها ومن ذلك: دعوته للجهاد ضد القوات الأجنبية، ودعواه في تحرير فلسطين، وفريته في إنقاذ الأماكن المقدسة.
وهذا كله خداع وإفك مفترى.
فالنظام العراقي يحمل رأيه جاهلية عمية، والجهاد لا يحل تحت هذه الراية، إذ الميتة تحتها إنما هي ميتة جاهلية، وليس مسلما صادق الإيمان رشيد العقل من يعيش مسلما ليموت جاهليا.
والنظام العراقي هو السبب المباشر في مجيء القوات الأجنبية باحتلاله للكويت
__________
(1) صحيح البخاري الأحكام (7145) ، صحيح مسلم الإمارة (1840) ، سنن النسائي البيعة (4205) ، سنن أبو داود الجهاد (2625) ، مسند أحمد بن حنبل (1/82) .
(2) صحيح مسلم الإيمان (140) .(30/350)
وتهديده لأمن المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج.
ومن حق المعتدى عليهم، والمهددين بالعدوان أن يباشروا الأسباب التي تدفع عنهم العدوان.
والنظام العراقي آخر من يتحدث عن تحرير فلسطين لأن هذا التحرير يتطلب إيمانا صادقا بالله ووحدة قوية تنتظم الأمة كلها، وتوجيها رشيدا للطاقات والإمكانات وخروجا من الكويت وردا للمظالم.
وقد استدبر هذا النظام ذلك كله، فقد لبث دهرا يقوض دعائم الإيمان بالله في النفوس من خلال فكره المادي، ونزعته الإلحادية، ومناهضته قيم الإيمان في التربية والحياة العامة. . وها هو بعدوانه وظلمه يمزق وحدة الأمة ويهدر طاقاتها.
والمسلمون جميعا يعلمون أن الأماكن المقدسة آمنة مصونة وفي أيد أمينة تعرف مكانتها وشرفها وتفديها بخير ما تفدى به الأمور العظيمة.
ولذا يجب الإنتباه إلى التلاعب الدعائي الذي يصدر عن النظام العراقي فمهما تزين صوت الباطل فإنه لا يخرج عن دائرة البطلان {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (1) المنافقون \ 4.
(8) يدعو العلماء حكومات العالم الإسلامي وشعوبه وأقلياته وجالياته وجماعاته إلي الاعتبار العميق بما حدث وجعل هذا الاعتبار سببا إلى العودة الصادقة إلى الله تعالى وإلى التمسك الجاد والبصير بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (2) {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (3) {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (4) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5) {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (6) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (7) الأنفال \ 24 -29.
__________
(1) سورة المنافقون الآية 4
(2) سورة الأنفال الآية 24
(3) سورة الأنفال الآية 25
(4) سورة الأنفال الآية 26
(5) سورة الأنفال الآية 27
(6) سورة الأنفال الآية 28
(7) سورة الأنفال الآية 29(30/351)
(9) يتوجه اجتماع العلماء في مكة المكرمة بالشكر الجم والتقدير العميق للمملكة العربية السعودية بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز لتمكين العلماء والدعاة من التشاور والتحاور فوق أرضها بل في أقدس بقعة في أرضها وفي العالم كله وهي مكة المكرمة، كما يشكرها على موقفها المبدئي والثابت والحازم تجاه العدوان وعلى احتضانها النبيل للشعب الكويتي في محنته المباغتة.
(10) كما يتوجهون بالشكر إلي جميع الدول والهيئات والشعوب الذين وقفوا مع الحق في وجه الباطل وأدانوا غزو العراق للكويت وتهديده لأمن المملكة ووقفوا مع المملكة العربية السعودية في الدفاع عن أمنها ومقدساتها سواء أكان ذلك عن طريق اتخاذ القرارات والمواقف في المحافل الدولية والمؤتمرات أم عن طريق إرسال القوات المساندة لقوات المملكة العربية السعودية لمنع صدام حسين من الاستمرار في عدوانه وبغيه، فإن ذلك من أوجب الواجبات دفعا للظلم وحماية للأنفس والأعراض والأموال تنفيذا لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1) الأنفال \ 60.
نسأل الله أن يجنب أمتنا كل فتنة وشر وأن يوفق قادتها للاحتكام إلى شرعه. وأن يخذل الظالمين، ويجعل كيدهم في نحورهم ويجعل دائرة السوء عليهم إنه سميع قريب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. . .
__________
(1) سورة الأنفال الآية 60(30/352)
حديث شريف
عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله، قال: وإن كان قضيبا من أراك»
(رواه مسلم)(30/353)
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (1)
" آية 59 سورة النساء "
__________
(1) سورة النساء الآية 59(31/1)
المشرف العام
سماحة الشيخ
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
لجنة الإشراف
الدكتور
عبد العزيز بن محمد العبد المنعم
الدكتور
عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين
الشيخ
أحمد بن عبد الرزاق الدويش
الدكتور
محمد بن سعد الشويعر(31/2)
مجلة البحوث الإسلامية
مجلة دورية تصدر عن الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
رئيس التحرير
د. محمد بن سعد الشويعر
مجلة فصلية تعني بالبحوث الإسلامية
تصدر كل أربعة أشهر مؤقتا(31/3)
المحتويات
الافتتاحية:
إلى حجاج بيت الله الحرام سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
موضوع العدد:
تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 17
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 67
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 109
البحوث:
تعليق على التفريق بين الفائدة البنكية والربا الشيخ / صالح بن عبد الرحمن الحصين 123
من منافع الحج وآدابه الدكتور / صالح بن فوزان الفوزان 141
الدعوة إلى الله.. مكانتها وكيفيتها وثمراتها الدكتور / صالح بن فوزان الفوزان 151
مخطوطة "حجة التحذير في المنع من لبس الحرير" تحقيق الشيخ: الوليد بن عبد الرحمن الفريان 167(31/4)
الفقيه المفتي زيد بن ثابت رضي الله عه مفتي الصحابة بقلم / د. محمد رواس قلعه جي 193
ابن الجوزي ومنهجه في التفسير بقلم: أحمد فهيم مطر 229
تأويل الصفات في كتب غريب الحديث الشيخ / بدر الزمان محمد شفيع النيبالي 259
من افتراءات المستشرقين على أساليب المحدثين في العناية بمتون الأحاديث بقلم / د. عزية علي طه 279
الشهادة بالحق في مهرجان الجهاد 353
من قرارات المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي
القرار الثالث حول أوقات الصلوات والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية الدرجات 369
القرار السادس حول العملة الورقية 373
قرار هيئة كبار العلماء رقم (10) بشأن الأوراق النقدية 376
بيان خطأ من جعل جدة ميقاتا لحجاج الجو والبحر لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 383(31/5)
صفحة فارغة(31/6)
الافتتاحية
إلى حجاج بيت الله الحرام
سماحة الشيخ \ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
بسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. .
أما بعد. . فإلى حجاج بيت الله الحرام أقدم هذه الوصايا عملا بقول الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم (2) » .
الأولى: الوصية بتقوى الله تعالى في جميع الأحوال، والتقوى هي جماع الخير وهي وصية الله سبحانه ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (3) وقال سبحانه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} (4) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي في خطبه كثيرا بتقوى الله، وحقيقة التقوى أداء ما افترض الله على العبد وترك ما حرم الله عليه عن إخلاص لله، ومحبة له، ورغبة في ثوابه، وحذر من عقابه، على الوجه الذي شرعه الله لعباده على لسان رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو أحد علماء
__________
(1) سورة المائدة الآية 2
(2) صحيح مسلم الإيمان (55) ، سنن النسائي البيعة (4197) ، سنن أبو داود الأدب (4944) ، مسند أحمد بن حنبل (4/102) .
(3) سورة النساء الآية 1
(4) سورة النساء الآية 131(31/7)
أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ورضي عنهم: " تقوى الله حق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر ". وقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - رحمه الله: " ليست تقوى الله بصيام النهار ولا قيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله أداء ما افترض الله، وترك ما حرمه الله، فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير ". وقال: طلق بن حبيب التابعي الجليل رحمه الله: " تقوى الله سبحانه: هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله ". وهذا كلام جيد، ومعناه أن الواجب على المسلم أن يتفقه في دين الله، وأن يتعلم ما لا يسعه جهله حتى يعمل بطاعة الله على بصيرة ويدع محارم الله على بصيرة، وهذا هو تحقيق العمل بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإن الشهادة الأولى: تقتضي الإيمان بالله وحده وتخصيصه بالعبادة دون كل ما سواه، وإخلاص جميع الأعمال لوجهه الكريم رجاء رحمته وخشية عقابه.
والشهادة الثانية: تقتضي الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله إلى جميع الجن والإنس وتصديق أخباره واتباع شريعته والحذر مما خالفها، وهاتان الشهادتان هما أصل الدين، وأساس الملة، كما قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (1) وقال سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (2) وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (3) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
__________
(1) سورة آل عمران الآية 18
(2) سورة البقرة الآية 163
(3) سورة الأعراف الآية 158(31/8)
الثانية: أوصي جميع الحجاج وكل مسلم يطلع على هذه الكلمة، بالمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها والعناية بها وتعظيم شأنها والطمأنينة فيها؛ لأنها الركن الأعظم بعد الشهادتين ولأنها عمود الإسلام، ولأنها أول شيء يحاسب عنه المسلم من عمله يوم القيامة، ولأن من تركها فقد كفر، قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (1) وقال عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) وقال جل شأنه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (3) {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (4) إلى أن قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (5) {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (6) {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (7) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة (8) » أخرجه مسلم في صحيحه. وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر (9) » . خرجه أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح، وخرج الإمام أحمد بإسناد حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من حافظ على الصلاة كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف (10) » . قال بعض أهل العلم في شرح هذا الحديث: وإنما حشر من ضيع الصلاة مع هؤلاء الكفرة؛ لأنه إما أن يضيعها تشاغلا بالرئاسة والملك والزعامة فيكون شبيها بفرعون، وإما أن يضيعها من أجل الوزارة والوظيفة، فيكون شبيها بهامان وزير فرعون، وإما أن يضيعها تشاغلا بالشهوات وحب المال والتكبر على الفقراء فيكون شبيها بقارون الذي خسف الله به وبداره الأرض، وإما أن يضيعها تشاغلا بالتجارة
__________
(1) سورة النور الآية 56
(2) سورة البقرة الآية 238
(3) سورة المؤمنون الآية 1
(4) سورة المؤمنون الآية 2
(5) سورة المؤمنون الآية 9
(6) سورة المؤمنون الآية 10
(7) سورة المؤمنون الآية 11
(8) صحيح مسلم الإيمان (82) ، سنن الترمذي الإيمان (2620) ، سنن أبو داود السنة (4678) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) ، مسند أحمد بن حنبل (3/389) ، سنن الدارمي الصلاة (1233) .
(9) سنن الترمذي الإيمان (2621) ، سنن النسائي الصلاة (463) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) ، مسند أحمد بن حنبل (5/346) .
(10) مسند أحمد بن حنبل (2/169) ، سنن الدارمي الرقاق (2721) .(31/9)
والمعاملات الدنيوية فيكون شبيها بأبي بن خلف تاجر كفار مكة. فنسأل الله العافية من مشابهة أعدائه.
ومن أهم أركان الصلاة التي يجب على المسلم رعايتها والعناية بها الطمأنينة في ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها، وكثير من الناس يصلي صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها.
ولا شك أن الطمأنينة من أهم أركان الصلاة فمن لم يطمئن في صلاته فهي باطلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع استوى في ركوعه، وأمكن يديه من ركبتيه، وهصر ظهره وجعل رأسه حياله، ولم يرفع رأسه حتى يعود كل فقار إلى مكانه، وإذا رفع رأسه من الركوع اعتدل حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، وإذا سجد اطمأن في سجوده حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، وإذا جلس بين السجدتين اعتدل حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، لما رأى صلى الله عليه وسلم بعض الناس لا يطمئن في صلاته أمره بالإعادة، وقال له: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها (1) » . أخرجه الشيخان في الصحيحين.
فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الواجب على المسلم أن يعظم هذه الصلاة ويعتني بها ويطمئن فيها حتى يؤديها على الوجه الذي شرعه الله ورسوله، وينبغي أن تكون الصلاة للمؤمن راحة قلب ونعيم روح وقرة عين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جعلت قرة عيني في الصلاة (2) » . ومن أهم واجبات الصلاة في حق الرجال أداؤها في الجماعة في مساجد الله لأن ذلك من أعظم شعائر الإسلام، وقد أمر الله بذلك ورسوله صلى الله عليه وسلم كما قال عز وجل:
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (3) وقال سبحانه في صلاة
__________
(1) صحيح البخاري الاستئذان (6251) ، صحيح مسلم الصلاة (397) ، سنن الترمذي الصلاة (303) ، سنن النسائي الافتتاح (884) ، سنن أبو داود الصلاة (856) ، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1060) ، مسند أحمد بن حنبل (2/437) .
(2) سنن النسائي عشرة النساء (3939) ، مسند أحمد بن حنبل (3/285) .
(3) سورة البقرة الآية 43(31/10)
الخوف: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (1) الآية. فأوجب الله سبحانه على المسلمين أداء الصلاة في الجماعة في حال الخوف، فيكون وجوبها عليها في حال الأمن أشد وآكد، وتدل الآية المذكورة على وجوب الإعداد للعدو والحذر من مكائده حتى في حال الصلاة كما قال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (2) الآية، فالإسلام دين العزة والكرامة والقوة والحذر والجهاد الصادق، كما أنه دين الرحمة والإحسان والأخلاق الكريمة والصفات الحميدة، ولما جمع سلفنا الصالح بين هذه الأمور مكن الله له في الأرض ورفع شأنهم، وملكهم رقاب أعدائهم، وجعل لهم السيادة والقيادة فلما غير من بعدهم غير عليهم كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (3) وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار (4) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلا من عذر (5) » . وعن أبي هريرة رضي الله عنه «أن رجلا أعمى قال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يلازمني إلى المسجد، فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب (6) » . خرجه مسلم في صحيحه.
أما النساء فصلاتهن في بيوتهن خير لهن كما جاءت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ذاك إلا لأنهن عورة وفتنة، ولكن لا يمنعن من المساجد إذا طلبن ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله (7) » . وقد دلت الآيات
__________
(1) سورة النساء الآية 102
(2) سورة الأنفال الآية 60
(3) سورة الرعد الآية 11
(4) صحيح البخاري الأذان (644) ، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (651) ، سنن الترمذي الصلاة (217) ، سنن النسائي الإمامة (848) ، سنن أبو داود الصلاة (548) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (791) ، مسند أحمد بن حنبل (2/537) ، موطأ مالك النداء للصلاة (292) ، سنن الدارمي الصلاة (1212) .
(5) سنن أبو داود الصلاة (551) ، سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (793) .
(6) صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (653) ، سنن النسائي الإمامة (850) .
(7) صحيح البخاري الجمعة (900) ، صحيح مسلم الصلاة (442) ، سنن الترمذي الجمعة (570) ، سنن النسائي المساجد (706) ، سنن أبو داود الصلاة (568) ، سنن ابن ماجه المقدمة (16) ، مسند أحمد بن حنبل (2/16) ، سنن الدارمي المقدمة (442) .(31/11)
والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه يجب عليهن التستر والتحجب من الرجال وترك إظهار الزينة، والحذر من التعطر حين خروجهم، لأن ذلك يسبب الفتنة بهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات (1) » ومعنى تفلات: أي لا رائحة لهن تفتن الناس، وقال صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء (2) » . وقالت عائشة رضي الله عنها: لو علم النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء اليوم لمنعهن من الخروج. فالواجب على النساء أن يتقين الله، وأن يحذرن أسباب الفتنة من الزينة والطيب وإبراز بعض المحاسن كالوجه واليدين والقدمين حين اجتماعهن بالرجال، وخروجهم إلى الأسواق وهكذا في وقت الطواف والسعي، وأشد من ذلك وأعظم في المنكر كشفهن الرءوس ولبس الثياب القصيرة التي تقصر عن الذراع والساق لأن ذلك من أعظم أسباب الفتنة بهن، ولهذا قال عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (3) . والتبرج إظهار بعض محاسنهن.
قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (4) الآية. والجلباب هو الثوب الذي تغطي به المرأة رأسها ووجهها وصدرها وسائر بدنها. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (5) الآية.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: «نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال بأيديهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها الناس (6) » .
__________
(1) سنن أبو داود الصلاة (565) ، مسند أحمد بن حنبل (2/438) ، سنن الدارمي الصلاة (1279) .
(2) صحيح مسلم الصلاة (444) ، سنن النسائي الزينة (5128) ، سنن أبو داود الترجل (4175) ، مسند أحمد بن حنبل (2/304) .
(3) سورة الأحزاب الآية 33
(4) سورة الأحزاب الآية 59
(5) سورة الأحزاب الآية 53
(6) صحيح مسلم اللباس والزينة (2128) ، مسند أحمد بن حنبل (2/440) ، موطأ مالك الجامع (1694) .(31/12)
خرجه مسلم في صحيحه. ومعنى كاسيات عاريات فسر بأنهن كاسيات من نعم الله عاريات في الحقيقة. ولا ريب أن هذا الحديث الصحيح يوجب على النساء العناية بالتستر والتحجب والحذر من أسباب غضب الله وعقابه والله المستعان.(31/13)
الوصية الثالثة: أوصي جميع الحجاج وكل مسلم بإخراج زكاة ماله إذا كان لديه مال تجب الزكاة فيه، لأن الزكاة من أعظم فرائض الدين وهي الركن الثالث من أركان الإسلام، فالله سبحانه وتعالى شرعها طهرة للمسلم، وزكاة له ولماله وإحسانا للفقراء وغيرهم من أصناف أهل الزكاة.
كما قال عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} (1) .
هي من شكر الله على نعمة المال والشاكر موعود بالأجر والزيادة كما قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (2) . وقال عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (3) . وقد توعد الله من لم يؤد الزكاة بالعذاب الأليم كما توعده سبحانه بأنه يعذبه بماله يوم القيامة. قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (4) {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (5) .
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية الكريمة أن كل مال لا يؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. فالواجب على كل مسلم له مال تجب فيه الزكاة أن يتقي الله ويبادر بإخراج زكاته في وقتها في أهلها
__________
(1) سورة التوبة الآية 103
(2) سورة إبراهيم الآية 7
(3) سورة البقرة الآية 152
(4) سورة التوبة الآية 34
(5) سورة التوبة الآية 35(31/13)
المستحقين لها طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وحذرا من غضب الله وعقابه والله سبحانه وعد المنفقين بالخلف والأجر الكبير قال سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (1) قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (2)
__________
(1) سورة سبأ الآية 39
(2) سورة الحديد الآية 7(31/14)
الوصية الرابعة: صيام رمضان: هو من أعظم الفرائض على جميع المكلفين من الرجال والنساء، وهو الركن الرابع من أركان الإسلام قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} (2) . ثم فسر هذه الأيام المعدودات بعد ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (3) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت (4) » . فهذا الحديث الصحيح يدل على جميع الوصايا المتقدمة، وهي الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم، وأنها كلها من أركان الإسلام التي لا يقوم بناؤه إلا عليها، فالواجب على كل مسلم ومسلمة تعظيم هذه الأركان والمحافظة عليها والحذر من كل ما يبطلها أو ينقص أجرها، والله سبحانه إنما خلق الثقلين ليعبدوه سبحانه، وأرسل الرسل وأنزل الكتب من أجل ذلك، وعبادته هي طاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم عن إخلاص لله سبحانه محبة له وإيمان به وبرسله، ورغبة في ثواب الله وحذر من عقابه، وبذلك يفوز العبد بالسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، وإنما أصيب المسلمون في هذه العصور الأخيرة بالذل والتفرق وتسليط الأعداء بسبب تفريطهم في أمر الله وعدم تعاونهم على البر والتقوى. كما قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (5) . فنسأل
__________
(1) سورة البقرة الآية 183
(2) سورة البقرة الآية 184
(3) سورة البقرة الآية 185
(4) صحيح البخاري الإيمان (8) ، صحيح مسلم كتاب الإيمان (16) ، سنن الترمذي الإيمان (2609) ، سنن النسائي الإيمان وشرائعه (5001) ، مسند أحمد بن حنبل (2/26) .
(5) سورة الشورى الآية 30(31/14)
الله أن يجمعهم على الحق ويوفقهم للتوبة النصوح، وأن يهديهم للعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويوفق حكامهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها، وإلزام شعوبهم بما أوجب الله، ومنعهم عن محارم الله، حتى يمكن لهم في الأرض كما مكن لأسلافهم، ويعينهم على عدوهم إنه سميع قريب.(31/15)
الوصية الخامسة: حج بيت الله الحرام وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، كما تقدم في الحديث الصحيح، وهو فرض على كل مسلم ومسلمة يستطيع السبيل إليه في العمر مرة واحدة كما قال الله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة (2) » . وقال عليه الصلاة والسلام: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (3) » . فالواجب على حجاج بيت الله الحرام أن يصونوا حجهم عما حرم الله عليهم من الرفث والفسوق، وأن يستقيموا على طاعة الله ويتعاونوا على البر والتقوى حتى يكون حجهم مبرورا وسعيهم مشكورا، والحج المبرور هو الذي سلم من الرفث والفسوق والجدال بغير حق. كما قال الله سبحان: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (4) . ويدل على ذلك أيضا قوله: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه (5) » . والرفث هو الجماع في حال الإحرام، ويدخل فيه النطق بالفحش ورديء الكلام، والفسوق يشمل المعاصي كلها، فنسأل الله أن يوفق حجاج بيت الله الحرام للاستقامة على دينهم وحفظ حجهم مما يبطله أو ينقص أجره، وأن يمن علينا وعليهم بالفقه في دينه والتواصي بحقه والصبر عليه، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان. .!
__________
(1) سورة آل عمران الآية 97
(2) صحيح البخاري الحج (1773) ، صحيح مسلم الحج (1349) ، سنن الترمذي الحج (933) ، سنن النسائي مناسك الحج (2629) ، سنن ابن ماجه المناسك (2888) ، مسند أحمد بن حنبل (2/246) ، موطأ مالك الحج (776) ، سنن الدارمي المناسك (1795) .
(3) صحيح البخاري الحج (1521) ، صحيح مسلم الحج (1350) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889) ، مسند أحمد بن حنبل (2/248) ، سنن الدارمي المناسك (1796) .
(4) سورة البقرة الآية 197
(5) صحيح البخاري الحج (1521) ، صحيح مسلم الحج (1350) ، سنن النسائي مناسك الحج (2627) ، سنن ابن ماجه المناسك (2889) ، مسند أحمد بن حنبل (2/248) ، سنن الدارمي المناسك (1796) .(31/15)
صفحة فارغة(31/16)
تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به
إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فبناء على ما نقله سماحة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عن جلالة الملك فيصل - رحمه الله - بموجب خطاب سماحته رقم 11471 \ 1 \ ط وتاريخ 29 \ 6 \ 1392 هـ الموجه إلى فضيلة الأمين العام لهيئة كبار العلماء، وبناء على القرار رقم 5 وتاريخ 13 \ 8 \ 1392 هـ الصادر عن الهيئة. . أعدت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بحثا في تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات وإلزام القضاة بالحكم به، وضمنته الكلام على ما يأتي على الترتيب:
1 - تمهيد:
أ - الفرق بين المجتهد المطلق، ومجتهد المذهب، ومجتهد الفتوى، والمقلد المحض.
ب - حكم تولية كل منهم القضاء.
جـ - أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا.(31/17)
2 - الدواعي التي دعت إلى تأليف كتاب بعبارة سهلة يقتصر فيه على القول الراجح من أقوال الفقهاء على هيئة مواد، وإلزام القضاة العمل بما فيه.
3 - بدء هذه الفكرة ووجودها قديما وحديثا.
4 - أقوال فقهاء الإسلام قديما وحديثا في إلزام ولاة الأمور القضاة أن يحكموا بمذهب معين أو رأي معين فيما يرفع إليهم من الخصومات مع الأدلة.
5 - الآثار التي تترتب على البقاء مع الأصل، والتي تترتب على العدول عنه للدواعي الطارئة لما يظن أنه المصلحة.
6 - هل يمكن إيجاد حل لهذه المشكلة القائمة سوى إلزام القضاة أن يحكموا بما يراد تدوينه من الأقوال الراجحة، أو يتعين إلزامهم بذلك طريقا لعلاج الموقف وحل المشكلة.
7 - مدى تصرف إمام المسلمين في الإلزام مع أمثلة في مجال إلزامه توضح ذلك.
والله الموفق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه.
الأول: التمهيد وفيه ثلاثة أمور:
أ - الفرق بين المجتهد المطلق، ومجتهد المذهب، ومجتهد الفتوى، والمقلد المحض.
ب - حكم تولية كل منهم القضاء.
جـ - أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا.
1) الفرق بين المجتهد المطلق، ومجتهد المذهب، ومجتهد الفتوى، والمقلد المحض.
1 - قال (1) ابن عابدين نقلا عن ابن كمال باشا، الفقهاء على سبع طبقات:
__________
(1) مجموعة رسائل ابن عابدين - رسالة رسم المغني 11 \ 12.(31/18)
الأولى: طبقة المجتهدين في الشرع كالأئمة الأربعة ومن سلك مسلكهم في تأسيس قواعد الأصول واستنباط أحكام الفروع عن الأدلة الأربعة من غير تقليد لأحد، لا في الفروع ولا في الأصول.
الثانية: طبقات المجتهدين في المذهب كأبي يوسف ومحمد، وسائر أصحاب أبي حنيفة القادرين على استخراج الأحكام عن الأدلة المذكورة على حسب القواعد التي قررها أستاذهم، فإنهم وإن خالفوه في بعض أحكام الفروع لكنهم يقلدونه في قواعد الأصول.
الثالثة: طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب، كالخصاف وأبي جعفر الطحاوي - إلى أن قال - فإنهم لا يقدرون على مخالفة الإمام لا في الأصول ولا في الفروع، لكنهم يستنبطون الأحكام من المسائل التي لا نص فيها عنه على حسب أصول قررها ومقتضى قواعد بسطها.
الرابعة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين كالرازي وأضرابه فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلا، لكنهم لإحاطتهم بالأصول وضبطهم المأخذ يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين، وحكم محتمل لأمرين منقول عن صاحب المذهب وعن أحد من أصحابه المجتهدين برأيهم ونظرهم في الأصول، والمقاييس على أمثاله ونظائره من الفروع، وما وقع في بعض المواضع من الهداية من قوله كذا في تخريج الكرخي وتخريج الرازي من هذا القبيل.
الخامسة: طبقة أصحاب التخريج من المقلدين كأبي الحسن القدوري وصاحب الهداية وأمثالهما، وشأنهم تفضيل بعض الروايات على بعض آخر بقولهم هذا أولى وهذا أصح رواية، وهذا أوضح وهذا أوفق للقياس وهذا أرفق للناس.(31/19)
السادسة: طبقة المقلدين القادرين على التمييز بين الأقوال، والقوي والضعيف، وظاهر الرواية وظاهر المذهب، والرواية النادرة كأصحاب المتون المعتبرة كصاحب الكنز، وصاحب المختار، وصاحب الوقاية وصاحب المجمع وشأنهم ألا ينقلوا في كتبهم الأقوال المردودة والروايات الضعيفة.
السابعة: طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر، ولا يفرقون بين الغث والسمين ولا يميزون الشمال من اليمين، بل يجمعون ما يجدون كحاطب ليل فالويل لمن قلدهم كل الويل.
2) قال (1) الآمدي: أما الاجتهاد فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة. . ثم قال: وأما في اصطلاح الأصوليين فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحسن من النفس العجز عن المزيد عليه - وبعد أن شرح التعريف قال - وأما المجتهد فهو من اتصف بصفة الاجتهاد - وبعد أن ذكر الشرط الأول من شرطي المجتهد المطلق قال - الشرط الثاني أن يكون عالما عارفا بمدارك الأحكام الشرعية وأقسامها وطرق إثباتها، ووجوه دلالاتها على مدلولاتها، واختلاف مراتبها المعتبرة فيها على ما بيناه، وأن يعرف جهات ترجيحها عند تعارضها، وكيفية استثمار الأحكام منها، قادرا على تحريرها وتقريرها، والانفصال من الاعتراضات الواردة عليها - إلى أن قال - هذا كله يشترط في حق المجتهد المطلق المتصدي للحكم والفتوى في جميع مسائل الفقه، وأما الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه أن يكون عارفا بما يتعلق بتلك المسألة وما لا بد منه فيها، ولا يضره جهله في ذلك بما لا تعلق له به مما يتعلق بباقي المسائل الفقهية. كما أن المجتهد المطلق قد يكون مجتهدا
__________
(1) الأحكام للآمدي 4 \ 162.(31/20)
في المسائل المستكثرة بالغا رتبة الاجتهاد فيها، وإن كان جاهلا ببعض المسائل الخارجة عنها، فإنه ليس من شرط المفتي أي يكون عالما بجميع أحكام المسائل ومداركها؛ فإن ذلك مما لا يدخل تحت وسع البشر.
3) قال (1) محمد الأمين الجكني الشنقيطي ما حاصلة: المجتهد المطلق الناظر في الأدلة الشرعية من غير التزام مذهب إمام معين مذهبه سواء كالأئمة الأربعة، أما مجتهد المذهب فهو مجتهد أصوله أصول إمام مذهبه، سواء كانت منصوصة للإمام المقلد أم مستنبطة من كلامه، فكثيرا ما يستخرج أهل المذهب الأصول، أي القواعد، وفاقية أو خلافية من كلام إمامهم، وشرطه المحقق له أن يكون له قدرة على استنباط الأحكام من نصوص ذلك الإمام الملتزم هو له، كأن يقيس ما سكت عنه على ما نص عليه لوجود معنى ما نص عليه فيه، سواء نص إمامه على ذلك المعنى أو استنبطه هو من كلامه، أو كان يستخرج حكم المسكوت عنه من عموم ذلك، أو قاعدة ذكرها، وأما مجتهد الفتيا فهو المتبحر في مذهب إمامه المتمكن من أن يرجح قولا على قول آخر لم ينص ذلك الإمام على ترجيح واحد منهما، والمجتهد في المذهب أعلى رتبة من مجتهد الفتوى، والمقلد هو القائم بحفظ المذهب وفهمه في الواضح والمشكل، العارف بعامه وخاصه ومطلقه ومقيده، المستوفي لحفظ ما فيه من الروايات والأقوال وعلم خاصها وعامها ومطلقها ومقيدها. قال: نحو هذا نقله الخطاب، وقال: العلم بذلك متعذر، والظاهر أنه يكفي في ذلك غلبة الظن بأن وجد المسألة في التوضيح، وفي ابن عبد السلام انتهى كلامه، وهذا له أن يفتي في حدود ما نقل مستوفى، وفيما لا يجده منقولا إن وجد في المنقول معناه، بحيث يدرك بغير كبير فكر أنه لا فرق، وكذا ما يعلم اندراجه تحت قاعدة من مذهبه، وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى به، ولا بد أيضا من شدة الفهم وكونه ذا حظ كبير من الفقه.
__________
(1) مراقي السعود وشرحها، طبعة المدني.(31/21)
4) قال (1) شيخ الإسلام نقلا عن ابن الصلاح، وذلك بعد أن ذكر كلاما في المجتهد المطلق يتفق مع ما ذكره الآمدي، قال: وللمفتي المنتسب أحوال أربع:
أحدها: ألا يكون مقلدا لإمامه لا في المذهب ولا في دليله، وإنما انتسب إليه لسلوك طريقه في الاجتهاد. . إلخ، وفتوى المنتسبين في هذه الحال في حكم فتوى المجتهد المستقل المطلق يعمل ويعتبر بها في الإجماع والخلاف.
الحال الثانية: أن يكون مجتهدا مقيدا في مذهب إمامه، يستقل بتقرير مذهبه بالدليل غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده، ولا بد أن يكون عالما بأصول الفقه، لكنه قد أخل ببعض الأدوات كالحديث واللغة، فإذا استدل بدليل إمامه لا يبحث عن معارض له، ولا يستوفي النظر في شروطه، وقد اتخذ أصول إمامه أصولا يستنبط منها كما يفعل المجتهد المستقل بنصوص الشارع والعامل بفتيا هذا مقلد لإمامه. قال: والذي رأيته من كلام الأئمة يشعر بأن فرض الكفاية لا يتأدى بمثل هذا قال: وأقول يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى ولا يتأدى به إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى؛ لأنه قائم مقام المطلق والتفريغ، على جواز تقليد الميت وهو الصحيح، وقد يوجد منه الاستقلال في مسألة خاصة أو باب خاص، ويجوز له أن يفتي فيما لم يجده من أحكام الوقائع منصوصا لإمامه بما يخرجه على مذهبه، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل وإليه مفزع المفتين من مدد مديدة، وهو في مذهب إمامه بمنزلة المجتهد في الشريعة، وهو أقدر والمستفتى فيما يفتيه من تخريجه مقلد لإمامه لا له، قطع به أبو المعالي قال: وأنا أقول ينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه أبو إسحاق الشيرازي (في أن ما يخرجه أصحاب الشافعي على مذهبيه هل يجوز أن ينسب إليه أم لا؟)
__________
(1) المسودة 546، ويرجع أيضا إلى المجموع شرح المهذب 1 \ 70 وما بعدها.(31/22)
والذي اختاره أبو إسحاق أنه لا ينسب إليه، قال: وتخريجه تارة من نص معين، وتارة تخريجه على وفق أصوله بأن يجد دليلا من جنس ما يحتج به إمامه، والأولى إذا وجد نص بخلافه يسمى ما خرجه قولا مخرجا، وإن وقع الثاني في مسألة قد قال فيها بعض الأصحاب غير ذلك يسمى وجها، وشرط التخريج أن لا يجد بين المسألتين فارقا، وإن لم يعلم العلة الجامعة كالأمة مع العبد في السراية، ومهما أمكن الفرق بين المسألتين لم يجز له على الأصح التخريج، ولزمه تقرير النصين على ظاهرهما، وكثيرا ما يختلفون في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق.
الحال الثالثة: أن يكون حافظا للمذهب عارفا بأدلته لكنه قصر عن درجة المجتهدين في المذهب؛ لقصور في حفظه أو تصرفه أو معرفته بأصول الفقه، وهي مرتبة المصنفين إلى أواخر المائة الخامسة، قصروا عن الأولين في تمهيد المذهب، وأما في الفتوى فبسطوا بسط أولئك وقاسوا على المنقول والسطور غير مقتصرين على القياس الجلي وإلغاء الفارق.
الحال الرابعة: أن يحفظ المذهب ويفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها، غير أنه مقتصر في تقرير أدلته، فهذا يعتمد نقله وفتواه في نصوص الإمام وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه، وما لم يجده منقولا فإن وجد في المنقول ما يعلم أنه مثله من غير فصل يمكن كالأمة بالنسبة للعبد في سراية العتق، أو علم اندراجه تحت ضابط منقول ممهد في المذهب جاز له إلحاقه والفتوى به، وإلا فلا، قال: ويندر عدم ذلك، كما قال أبو المعالي بعد أن تقع واقعة لم ينص على حكمها في المذهب، ولا هو في معنى شيء من المنصوص عليه فيه من غير فرق، ولا هي مندرجة تحت شيء من ضوابطه، ولا بد في هذا أن يكون فقيه النفس يصور المسائل على وجهها، وينقل أحكامها بعد استتمام تصويرها جليها وخفيها، قال: ولا تجوز الفتوى لغير هؤلاء الأصناف الخمسة، كما قطع به أبو المعالي في الأصولي الماهر المتصرف في الفقه أنه يجب عليه الاستفتاء. انتهى.(31/23)
5 - قال (1) علي بن سليمان المرداوي ما ملخصه: المجتهد ينقسم إلى أربعة أقسام:
مجتهد مطلق، ومجتهد في مذهب إمامه أو في مذهب إمام غيره، ومجتهد في نوع من العلم، ومجتهد في مسألة أو مسائل.
القسم الأول: المجتهد المطلق، وهو الذي اجتمعت فيه شروط الاجتهاد التي ذكرها المصنف في آخر كتاب القضاء على ما تقدم هناك، إذا استقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية العامة والخاصة، وأحكام الحوادث منها ولا يتقيد بمذهب أحد، وقيل: يشترط أن يعرف أكثر الفقه. . وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات والآثار وأصول الفقه والعربية وغير ذلك. وقيل: المفتي من تمكن من معرفة أحكام الوقائع على يسر من غير تعلم آخر.
القسم الثاني: مجتهد في مذهب إمامه أو إمام غيره وأحواله أربعة:
الحالة الأولى: أن يكون غير مقلد لإمامه في الحكم والدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتوى، ودعا إلى مذهبه وقرأ كثيرا منه على أهله فوجده صوابا، وأولى من غيره وأشد موافقة فيه وفي طريقه. . . وفتوى المجتهد المذكور كفتوى المجتهد المطلق في العمل بها والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.
الحالة الثانية: أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه مستقلا بتقريره بالدليل، ومضى في الكلام إلى أن قال: والحاصل أن المجتهد في مذهب إمامه هو الذي يتمكن من التفريع على أقواله كما يتمكن المجتهد المطلق من التفريع على كل ما انعقد عليه الإجماع ودل عليه الكتاب والسنة والاستنباط، فهذه صفة المجتهدين أرباب الأوجه والتخاريج والطرق.
الحالة الثالثة: ألا يبلغ به رتبة أئمة المذهب أصحاب الوجوه والطرق، غير أنه فقيه النفس حافظ لمذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريره
__________
(1) الإنصاف 12 \ 258 وما بعدها.(31/24)
ونصرته يصور ويحرر ويمهد ويقوي ويزيف ويرجح، لكنه قصر عن درجة أولئك، إما لكونه لم يبلغ، في حفظ المذهب مبلغهم، وإما لكونه غير متبحر في أصول الفقه ونحوه، على أنه لا يخلو مثله في ضمن ما يحفظه من الفقه ويعرفه من أدلته عن طرف من قواعد أصول الفقه ونحوه. وإما لكونه مقصرا في غير ذلك من العلوم التي هي أدوات الاجتهاد الحاصل لأصحاب الوجوه والطرق.
وهذه صفة كثير من المتأخرين الذين رتبوا المذاهب وحرروها وصنفوا فيها تصانيف، بها يشتغل الناس اليوم غالبا، ولم يلحقوا من يخرج الوجوه ويمهد الطرق في المذاهب.
وأما فتاويهم فقد كانوا يستنبطون فيها استنباط أولئك أو نحوه، ويقيسون غير المنقول على المنقول والمسطور. . ولا تبلغ فتاويهم فتاوى أصحاب الوجوه. وربما تطرق بعضهم إلى تخريج قول، واستنباط وجه، أو احتمال، وفتاويهم مقبولة.
الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه مسطورات مذهبه، من منصوصات إمامه، وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم. . . ثم إن هذا الفقيه لا يكون إلا فقيه النفس. . . ويكفي استحضاره أكثر المذاهب مع قدرته على مطالعة بقيته.
القسم الثالث: المجتهد في نوع العلم، فمن عرف القياس وشروطه فله أن يفتي في مسائل منه قياسية لا تتعلق بالحديث، ومن عرف الفرائض فله أن يفتي فيها وإن جهل أحاديث النكاح وغيره وعليه الأصحاب.
القسم الرابع: المجتهد في مسائل أو مسألة وليس له الفتوى في غيرها.
6 - قال ابن القيم (1) المفتون الذين نصبوا أنفسهم للفتوى - أربعة
__________
(1) إعلام الموقعين 4 \ 184.(31/25)
أقسام - أحدهم العالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة فهو المجتهد في أحكام النوازل يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت. . . إلخ.
النوع الثاني: مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله ومآخذه وأصوله عارف بها متمكن من التخريج عليها وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه من غير أن يكون مقلدا لإمامه في الحكم ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا ودعا إلى مذهبه ورتبه وقرره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معا. . . إلخ.
النوع الثالث: من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه مقرر له بالدليل، متقن لفتاويه عالم بها لكنه لا يتعدى أقواله وفتاويه ولا يخالفها، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره البتة. . . إلخ.
النوع الرابع: طائفة تفقهت في مذاهب من انتسبت إليه وحفظت فتاويه وفروعه، فأقرت على نفسها بالتقليد المحض من جميع الوجوه. . . إلخ.
ففتاوى القسم الأول من جنس توقيعات الملوك وعلمائهم، وفتاوى النوع الثاني من جنس توقيعات نوابهم وخلفائهم، وفتاوى النوع الثالث، والرابع من جنس توقيعات خلفاء نوابهم، ومن عداهم فمتشبع بما لم يعطه متشبه بالعلماء محاك للفضلاء.(31/26)
ب: حكم تولية كل منهم القضاء
أما حكم تولية كل منهم القضاء فمختلف تبعا لاختلاف أحوالهم:
أ - المذهب الحنفي:
1 - قال (1) علي بن خليل الطرابلسي في الكلام على الركن الأول في شروط
__________
(1) معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام 13.(31/26)
القضاء. قال: وإذا أراد الإمام تولية أحد اجتهد لنفسه وللمسلمين، ومضى إلى أن قال: وأهل القضاء من كان عالما بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي لقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ حين بعثه قاضيا إلى اليمن: «بم تقضي يا معاذ (1) » الحديث. ولأن القاضي مأمور بالقضاء بالحق إذا كان عالما بالكتاب والسنة واجتهاد الرأي؛ لأن الحوادث ممدودة والنصوص معدودة، فلا يجد القاضي في كل حادثة نصا يفصل به الخصومة، فيحتاج إلى استنباط المعنى من المنصوص عليه، وإنما يمكنه ذلك إذا كان عالما بالاجتهاد، ومضى إلى أن قال: ولا ينبغي أن يكون صاحب حديث لا فقه عنده أو صاحب فقه لا حديث عنده، عالما بالفقه والآثار، وبوجه الفقه الذي يؤخذ منه الحكم. قال عمر بن عبد العزيز: من راقب الله تعالى فكانت عقوبته أخوف في نفسه من الناس وهبه الله السلامة.
2 - قال (2) الكاساني في الكلام على من يصلح للقضاء بعد أن ذكر جملة من الشروط: وأما العلم بالحلال والحرام وسائر الأحكام فهل هو شرط جواز التقليد؟ عندنا ليس بشرط الجواز بل شرط الندب والاستحباب، وعند أصحاب الحديث كونه عالما بالحلال والحرام وسائر الأحكام مع بلوغ درجة الاجتهاد في ذلك شرط جواز التقليد، كما قالوا في الإمام الأعظم، وعندنا هذا ليس بشرط الجواز في الإمام الأعظم؛ لأنه يمكنه أن يقضي بعلم غيره بالرجوع إلى فتوى غيره من العلماء فكذا القاضي، لكن مع هذا لا ينبغي أن يقلد الجاهل بالأحكام؛ لأن الجاهل بنفسه ما يفسد أكثر مما يصلح، بل يقضي بالباطل من حيث لا يشعر به - وبعد سياقه الحديث " القضاة ثلاثة " قال: إلا أنه لو قلد جاز عندنا؛ لأنه يقدر على القضاء بالحق بعلم غيره بالاستفتاء من الفقهاء، فكان تقليده جائزا في نفسه فاسد المعنى في غيره، والفاسد لمعنى في غيره
__________
(1) سنن الترمذي الأحكام (1327) ، سنن أبو داود الأقضية (3592) ، مسند أحمد بن حنبل (5/242) ، سنن الدارمي المقدمة (168) .
(2) بدائع الصنائع 7 \ 3.(31/27)
يصلح للحكم عندنا مثل الجائز حتى ينفذ قضاياه التي لم يجاوز فيها حد الشرع، وهو كالبيع الفاسد، إنه مثل الجائز عندنا في حق الحكم كذا هذا. انتهى.
3 - قال (1) عثمان بن علي الزيلعي على قول صاحب الكنز: والاجتهاد شرط الأولوية، قال: لأنه أقدر على الحكم بالحق، واختلفوا في حد الاجتهاد. قيل: أن يعلم بمعانيه، والسنة بطرقها، والمراد: يعلمها علم ما يتعلق به الأحكام منه، ومعرفة الإجماع والقياس ليمكنه استخراج الأحكام الشرعية، واستنباطها من أدلتها بطريقها.
ولا يشترط معرفة الفروع التي استخرجها المجتهدون بآرائهم، وقال بعضهم: يشترط مع هذا أن يكون عارفا بالفروع المبنية على اجتهاد السلف كأبي حنيفة والشافعي وغيرهما من المجتهدين، وقال بعضهم: من حفظ المبسوط ومذهب المتقدمين فهو من أهل الاجتهاد والأشبه أن يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه يعرف معاني الآثار، وصاحب فقه له معرفة بالحديث كيلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه. وقيل: لا بد مع هذا من أن يكون صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس لأن كثيرا من الأحكام مبني عليها. انتهى.
__________
(1) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 4 \ 176.(31/28)
ب - المذهب المالكي:
1 - يشترط (1) في القاضي أن يكون مجتهدا فلا تنعقد إلا له إن وجد وإلا فمقلد، ويجب عليه العمل بالمشهور في مذهب إمامه، واعلم أنه أراد بالمجتهد المطلق، وأما غير المطلق فهو داخل في المقلد، وهو قسمان: مجتهد مذهب وهو الذي يقدر على إقامة الأدلة، ومجتهد الفتوى وهو الذي يقدر على الترجيح، وما ذكره من أن تولية المقلد مع جود المجتهد باطل قول، والقول الآخر: أنها صحيحة، وعليه طائفة أيضا كالمازري وغيره.
__________
(1) حاشية علي الصعيدي في باب الأقضية على أبي الحسن على الرسالة لابن أبي زيد 2 \ 278 وما بعدها.(31/28)
وعليه العمل في زمن مالك وغيره ممن قبله وممن بعده من المجتهدين، فكان ينبغي الاقتصار عليه.
2 - يشترط (1) في صحة تعيين القاضي أن يكون مجتهدا مطلقا إن وجد، وإلا فمجتهد مذهب أو فتوى، وهو الذي يضبط المسائل المنقولة ويقوى على استخراج ما ليس فيه نص بقياس على المنقول في مذهب إمامه، وباعتبار قاعدة كلية، وقيل: الاجتهاد المطلق شرط كمال التولية وتقديم الأمثل وهو مجتهد المذهب على المقلد المحض ليس بشرط صحة في التولية على الأصح، بل قال بعضهم يصح تولية غير العالم حيث شاور العلماء.
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي علي خليل 4 \ 129 ويرجع أيضا إلى 1 \ 17 \ 18 من تبصرة الحاكم لابن فرحون.(31/29)
جـ - المذهب الشافعي:
قال الماوردي: ولا يجوز أن يقلد القضاء إلا من تكاملت فيه شروطه التي يصح معها تقليده وينفذ بها حكمه وهي سبعة - إلى أن قال: والشرط السابع: أن يكون عالما بالأحكام الشرعية وعلمه يشتمل على أصولها والارتياض بفروعها. ثم فصل الكلام بما ينطبق على المجتهد المطلق، ثم قال بعد ذلك: فإذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة في أحكام الشريعة صار بها من أهل الاجتهاد في الدين، وجاز له أن يفتي ويقضي، وجاز له أن يستفتى ويستقضى، وإن أخل بها أو بشيء منها خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد، فلم يجز أن يفتي ولا أن يقضي، فإن قلد القضاء فحكم بالصواب أو الخطأ كان تقليده باطلا، وحكمه وإن وافق الصواب مردود وتوجه الحرج فيما قضى به عليه وعلى من قلده الحكم والقضاء، وجوز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد ليستفتى في أحكامه وقضاياه والذي عليه جمهور الفقهاء أن ولايته باطلة وأحكامه مردودة، ولأن التقليد في فروع الشريعة ضرورة فلم يتحقق إلا في ملتزم الحق دون ملزمه، ثم قال: ويجوز لمن اعتقد(31/29)
مذهب الشافعي أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه، ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه، فإذا كان شافعيا لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل عليه وأخذ به، وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره، فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة ومنع الحنفي أن يحكم بمذهب الشافعي، إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضاء والأحكام، وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة وأرضى للخصوم، وهذا وإن كانت السياسة تقتضيه فأحكام الشرع لا توجبه؛ لأن التقليد فيها محظور والاجتهاد فيها مستحق، وإذا نفذ قضاؤه وتجدد مثله من بعد أعاد الاجتهاد فيه وقضى بما أداه اجتهاده إليه، وإن خالف ما تقدم من حكمه فإن عمر رضي الله تعالى عنه قضى في المشتركة بالتشريك في عام، وترك التشريك في غيره، فقيل له: ما هكذا حكمت في العام الماضي فقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي.
2 - وبعد (1) أن ذكر الرملي أن الاجتهاد شرط في تولية القضاء قال بعد ذلك: فلا يتولى جاهل بالأحكام الشرعية ولا مقلد، وهو من حفظ مذهب إمامه لكنه غير عارف بغوامضه، وقاصر عن تقرير أدلته؛ لأنه لا يصلح للفتوى، فالقضاء أولى- ومضى إلى أن قال: واجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه، إما مقلد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه، وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع فإنه مع المجتهد كالمجتهد في نصوص الشرع، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه، كما لا يجوز له الاجتهاد مع النص " فإن تعذر جمع هذه الشروط " أو لم يتعذر كما
__________
(1) نهاية المحتاج 8 \ 240.(31/30)
هو ظاهر مما يأتي فذكر التعذر تصوير لا غير " فولى السلطان أو من له شوكة ". . . " فاسقا أو مقلدا " " ولو جاهلا " نفذ قضاؤه الموافق لمذهبه المعتد به، وإن زاد فسقه " للضرورة " لئلا تتعطل مصالح الناس. . .
ويجب عليه رعاية الأمثل فالأمثل رعاية لمصلحة المسلمين، وما ذكر في المقلد محله إن كان ثم مجتهد وإلا نفذت تولية المقلد ولو من غير ذي الشوكة. . . ومعلوم أنه يشترط في غير الأهل معرفة طرف من الأحكام. . . ويلزم قاضي الضرورة بيان مستنده في سائر أحكامه، كما أفتى بذلك الوالد رحمه الله، ولا يقبل قوله: حكمت بكذا من غير بيان مستنده فيه، وكأنه لضعف ولايته. انتهى المقصود.(31/31)
د - المذهب الحنبلي:
1 - قال (1) في المنتهى وشرحه: فيجب على الإمام أن ينصب بكل إقليم قاضيا إلى أن قال: وعلى الإمام أن يختار لذلك أفضل من يجده علما وورعا؛ لأن الإمام ينظر للمسلمين فوجب عليه تحري الأصلح لهم.
2 - وقال (2) أيضا وله أن يولي قاضيا من غير مذهبه.
3 - وقال (3) أيضا بعد ذكره لشروط الاجتهاد فمن عرف أكثر ذلك فقد صلح للفتيا والقضاء، لتمكنه من الاستنباط والترجيح بين الأقوال، قال في آداب المفتي: ولا يفسر جهله بذلك لشبهة أو إشكال لكن يكفيه معرفة وجوه دلالة الأدلة، وكيفية أخذ الأحكام من لفظها ومعناها، وزاد ابن عقيل في التذكرة: ويعرف وجوه الاستدلال واستصحاب الحال والقدرة على إبطال شبه المخالف وإقامة الدليل على مذهبه.
4 - وقال (4) أبو يعلى: فأما ولاية القضاء فلا يجوز تقليد القضاء إلا لمن كملت فيه سبع شرائط - ومضى إلى أن قال - فإذا عرف ذلك صار
__________
(1) المنتهى وشرحه 3 \ 459 ويرجع أيضا إلى الإنصاف 12 \ 155.
(2) المنتهى وشرحه 3 \ 463.
(3) المنتهى وشرحه 3 \ 467.
(4) الأحكام السلطانية 45، 46.(31/31)
من أهل الاجتهاد، ويجوز له أن يفتي ويقضي، ومن لم يعرف ذلك لم يعرف من أهل الاجتهاد ولم يجز له أن يفتي ولا أن يقضي، فإن قلد القضاء كان حكمه باطلا وإن وافق الصواب لعدم الشرط.
5 - قال (1) الخرقي " رحمه الله ": ولا يولى قاض حتى يكون بالغا عاقلا مسلما حرا عادلا عالما فقيها ورعا.
6 - قال (2) ابن قدامة - رحمه الله: الشرط الثالث أن يكون من أهل الاجتهاد، وبهذا قال مالك والشافعي وبعض الحنفية، وقال بعضهم: يجوز أن يكون عاميا فيحكم بالتقليد؛ لأن الغرض منه فصل الخصائم، فإذا أحكمه ذلك بالتقليد جاز كما يحكم بقول المقومين.
ولنا قول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (3) ولم يقل بالتقليد، وقال: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (4) وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (5) وروى بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القضاة ثلاثة، اثنان في النار وواحد في الجنة، رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل جار في الحكم فهو في النار (6) » رواه ابن ماجه. والعامي يقضي على جهل.
ولأن الحكم آكد من الفتيا لأنه فتيا وإلزام، ثم المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا فالحكم أولى. . . ويخالف قول المقومين؛ لأن ذلك لا يمكن الحاكم معرفته بنفسه بخلاف الحكم.
وبعد أن شرح الاجتهاد قال: وقد نص أحمد على اشتراط ذلك للفتيا والحكم في معناه. فإن قيل: هذه شروط لا تجتمع فكيف يجوز
__________
(1) المغني والشرح 11 \ 380.
(2) المغني والشرح 11 \ 382، وما بعدها.
(3) سورة المائدة الآية 49
(4) سورة النساء الآية 105
(5) سورة النساء الآية 59
(6) سنن أبو داود الأقضية (3573) ، سنن ابن ماجه الأحكام (2315) .(31/32)
اشتراطها؟ . قلنا ليس من شرطه أن يكون محيطا بهذه العلوم إحاطة تجمع أقصاها، وإنما يحتاج إلى أن يعرف من ذلك ما يتعلق بالأحكام من الكتاب والسنة ولسان العرب، ولا أن يحيط بجميع الأخبار الواردة في هذا. فقد كان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب خليفتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيراه وخير الناس بعده في حال إمامتهما يسألان عن الحكم فلا يعرفان ما فيه من السنة يسألان الناس فيخبران، فسئل أبو بكر عن ميراث الجدة، فقال: ما لك في كتاب الله شيء، ولا أعلم لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس، ثم قام فقال انشد الله من يعلم قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجدة؟ فقام المغيرة بن شعبة فقال أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس. وسأل عمر عن أملاص المرأة، فأخبره المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة، ولا يشترط معرفة المسائل التي فرعها المجتهدون في كتبهم، فإن هذه فروع فرعها الفقهاء بعد حيازة الاجتهاد فلا تكون شرطا له وهو سابق عليها.
وليس من شرط الاجتهاد في مسألة أن يكون مجتهدا في كل المسائل. . . ثم قال: وإنما المعتبر أصول هذه الأمور، وهو مجموع مدون في فروع الفقه وأصوله، فمن عرف ذلك ورزق فهمه كان مجتهدا، له الفتيا وولاية الحكم إذا وليه. انتهى.
7 - يشترط (1) فيمن يولى القضاء أن يكون مجتهدا مطلقا إن تيسر، وإلا جاز تولية مجتهد مذهب للحاجة، فإن لم يتيسر جاز تولية المقلد للحاجة وإلا تعطلت أحكام الناس. اهـ.
8 - جاء في الكشاف (2) في أثناء الكلام على شروط القاضي " مجتهدا "
__________
(1) الإنصاف 11 \ 177، 178.
(2) كشاف القناع عن متن الإقناع 6 \ 237.(31/33)
إجماعا ذكره ابن حزم، ولأنهم أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا لمفت تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا بقوله؛ لأن فاقد الاجتهاد إنما يحكم بالتقليد والقاضي مأمور بالحكم بما أنزل الله (1) . ولا المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا فالحاكم أولى " ولو " كان اجتهاده " في مذهب إمامه " " إذا لم يوجد غيره " " لضرورة " لكن في الإفصاح أن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة، وأن الحق لا يخرج عنهم ثم ذكر أن الصحيح في هذه المسألة أن قول من قال: إنه لا يجوز تولية غير مجتهد، فإنه إنما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار ما استقرت عليه هذه المذاهب.
وقال الموفق في خطبة المغني: النسبة إلى إمام في الفروع كالأئمة الأربعة ليست بمذمومة، فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حجة قاطعة " واختار في الإفصاح والرعاية أو مقلدا ".
قال في الإنصاف: " وعليه عمل الناس من مدة طويلة وإلا تعطلت أحكام الناس وكذا المفتي ".
قال ابن يسار ما أعيب على من يحفظ خمس مسائل لأحمد يفتي بها، وظاهر نقل عبد الله مفت غير مجتهد، ذكره القاضي وحمله الشيخ تقي الدين على الحاجة " فيراعي كل منهما ألفاظ إمامه، ويراعي من أقواله " متأخرا ويقلد كبار مذهب في ذلك ويحكم به ولو اعتقد خلافه لأنه مقلدا " ولا يخرج عن الظاهر عنه.
9 - وقال (2) . شيخ الإسلام ابن تيمية: وسئل بعض العلماء إذا لم يوجد من يولى القضاء إلا عالم فاسق أو جاهل دين فأيهما يقدم؟
فقال: إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر لغلبة الفساد قدم الدين، وإن كانت الحاجة إلى العلم أكثر لخفاء الحكومات قدم العالم.
__________
(1) قوله '' ولا المفتي '' وفي المغني '' ثم المفتي ''.
(2) مجموع الفتاوى 28 \ 259.(31/34)
وأكثر العلماء يقدمون ذا الدين، فإن الأئمة متفقون على أنه لا بد في المتولي من أن يكون عدلا أهلا للشهادة، واختلفوا في اشتراط العلم: هل يجب أن يكون مجتهدا أو يجوز أن يكون مقلدا، أو الواجب تولية الأمثل فالأمثل كيفما يتيسر؟ على ثلاثة أقوال. . . إلخ.
10 - وقال (1) أيضا: وكذلك ما يشترط في القضاة والولاة من الشروط يجب فعله بحسب الإمكان. . . كل ذلك واجب مع القدرة، فأما مع العجز فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. وجاء (2) . معنى ذلك عن ابن القيم رحمه الله.
__________
(1) مجموع الفتاوى 28 \ 388 ويرجع أيضا إلى السياسة الشرعية 66.
(2) إعلام الموقعين 1 \ 114 وما بعدها، طبعة المدني.(31/35)
جـ - أقوال فقهاء الإسلام فيما يحكم به كل منهم إذا تولى القضاء مجتهدا كان أم مقلدا
أ - المذهب الحنفي:
1 - قال (1) . ابن عابدين: لو قضى في المجتهد فيه مخالفا لرأيه فيه ناسيا نفذ عنده، وفي العامد روايتان، وعندهما لا ينفذ في الوجهين، واختلف الترجيح. قال في الفتح والوجه الأول أن يفتي بقولهما؛ لأن التارك لمذهبه عمدا لا يفعله إلا لهوى باطل، وأما الناسي فلأن المقلد ما قلده إلا فيما حكا بمذهبه لا بمذهب غيره هذا كله في القاضي المجتهد، أما القاضي المقلد فإنما ولاه ليحكم بمذهب أبي حنيفة، فلا يملك المخالفة فيكون معزولا بالنسبة إلى ذلك الحكم.
2 - وقال أيضا تحت مطلب قضاء القاضي بغير مذهبه ما نصه. وحاصل هذه المسألة أنه يشترط لصحة القضاء أن يكون موافقا لرأيه أي لمذهبه مجتهدا كان أو مقلدا فلو قضى بخلافه لا ينفذ لكن في البدائع إذا كان
__________
(1) حاشية ابن عابدين 4 \ 498.(31/35)
مجتهدا ينبغي أن يصح ويحمل على أنه اجتهد فأداه اجتهاده إلى مذهب الغير. انتهى.
3 - وقال (1) . أيضا تحت مطلب الحكم بما خالف الكتاب والسنة والإجماع، قلت: لكن قد علمت أن عدم النفاذ في متروك التسمية بني على أنه لم يختلف فيه السلف، وأنه لا اعتبار بوجود الخلاف بعدهم، وحينئذ فلا يفيد احتمال الآية أوجها من الإعراب، نعم على ما يأتي من تصحيح اعتبار اختلاف ما بعدها يقوي ما في هذا البحث ويؤيده ما في الخلاصة من أن القضاء بحل متروك التسمية عمدا جائز عندهما لا عند أبي يوسف، وكذا ما في الفتح عند المنتقى من أن العبرة في كون المحل مجتهدا فيه اشتباه الدليل لا حقيقة الخلاف.
4 - " ويأخذ " (2) . القاضي كالمفتي " بقول أبي حنيفة على الإطلاق، ثم بقول أبي يوسف، ثم بقول محمد، ثم بقول زفر، والحسن بن زياد " وهو الأصح " منية وسراجية وعبارة النهر، ثم بقول الحسن فتنبه وصحح في الحاوي اعتبار قوة المدرك والأول اضبط. نهر " ولا يخير إلا إذا كان مجتهدا، بل المقلد متى خالف معتمد مذهبه لا ينفذ حكمه وينقض هو المختار للفتوى كما بسطه المصنف في فتاويه وغيره. . . وفي القسهتاني وغيره.
اعلم أن كل موضع قالوا الرأي فيه للقاضي فالمراد قاضي له ملكة الاجتهاد. انتهى، وفي الخلاصة وإنما ينفذ القضاء في المجتهد فيه إذا علم أنه مجتهد فيه وإلا فلا.
5 - قال ابن عابدين على قول صاحب الدر " والأول اضبط " قال: لأن ما في الحاوي خاص فيمن له اطلاع على الكتاب والسنة وصار له ملكة النظر
__________
(1) حاشية ابن عابدين 5 \ 400.
(2) تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار، عليه حاشية ابن عابدين 5 \ 360، 361.(31/36)
في الأدلة واستنباط الأحكام منها ذلك هو المجتهد المطلق أو المقيد بخلاف الأول فإنه يمكن لمن هو دون ذلك.
وقال أيضا على قول صاحب تنوير الأبصار " ولا يخير إلا إذا كان مجتهدا " أي لا يجوز له مخالفة الترتيب المذكور إلا إذا كان له ملكة يقتدر بها على الاطلاع على قوة المدرك، وبهذا رجع القول الأول إلى ما في الحاوي من العبرة في المفتي المجتهد لقوة المدرك، نعم فيه زيادة تفصيل سكت عنها الحاوي، فقد اتفق القولان على أن الأصح هو أن المجتهد في المذهب من المشايخ الذين هم أصحاب الترجيح لا يلزمه الأخذ بقول الإمام على الإطلاق، بل عليه النظر في الدليل وترجيح ما رجح عنده دليله، ونحن نتبع ما رجحوه واعتمدوه كما لو افتوا في حياتهم. . . إنه إن لم يكن مجتهدا فعليه تقليدهم واتباع رأيهم فإذا قضى بخلافه لا ينفذ حكمه.
6 - قال (1) الكاساني: فأما إذا لم يكن من أهل الاجتهاد فإن عرف أقاويل أصحابنا وحفظها على الاختلاف والاتفاق عمل بقول من يعتقد قوله حقا على التقليد، وإن لم يحفظ أقاويلهم عمل بفتوى أهل الفقه في بلده من أصحابنا، وإن لم يكن في البلد إلا فقيه واحد، فمن أصحابنا من قال له أن يأخذ بقوله، ونرجو ألا يكون عليه شيء لأنه إذا لم يكن من أهل الاجتهاد بنفسه وليس هناك سواه من أهل الفقه مست الضرورة إلى الأخذ بقوله، قال الله تبارك وتعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2) ولو قضى بمذهب خصمه وهو يعلم ذلك فلا ينفذ قضائه، لأنه قضى بما هو باطل عنده في اعتقاده فلا ينفذ كما لو كان مجتهدا، فترك رأي نفسه وقضى برأي مجتهد يرى رأيه باطلا؛ فإنه لا ينفذ قضاؤه
__________
(1) بدائع الصنائع 7 \ 5.
(2) سورة النحل الآية 43(31/37)
لأنه قضى بما هو باطل في اجتهاده، كذا هنا ولو نسي القاضي مذهبه فقضى بشيء على ظن أنه مذهب نفسه، ثم تبين أنه مذهب خصمه، ذكر في شرح الطحاوي أن له أن يبطله ولم يذكر الخلاف؛ لأنه إذا لم يكن مجتهدا تبين أنه قضى بما لا يعتقده حقا، فتبين أنه وقع باطلا كما لو قضى وهو يعلم أن ذلك مذهب خصمه.
7 - قال (1) علي بن خليل الطرابلسي في معرض بحثه " الركن الثاني من أركان القضاء، والمقضي به واجتهاد القاضي في القضاء " قال ما نصه: ثم لا بد من معرفة فصلين أحدهما إذا اتفق أصحابنا في شيء، قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد - رحمهم الله - لا ينبغي للقاضي أن يخالفهم برأيه؛ لأن الحق لا يعدوهم فإن أبا يوسف كان صاحب حديث حتى روي أنه قال: احفظ عشرين ألف حديث من المنسوخ فإذا كان يحفظ من المنسوخ هذا القدر فما ظنك بالناسخ، وكان صاحب فقه ومعنى أيضا، ومحمد صاحب قريحة يعرف أحوال الناس وعاداتهم وصاحب فقه ومعنى، ولهذا قل رجوعه في المسائل، وكان مقدما في معرفة اللغة، وله معرفة في الأحاديث أيضا.
وأبو حنيفة رحمه الله كان مقدما في ذلك كله، إلا أنه قلت روايته لمذهب خاص له في باب الحديث، وهو أنه إنما تحل رواية الحديث عنده إذا كان يحفظ الحديث من حين سمع إلى أن يروى. ثم ذكر بعد ذلك طريقة الأخذ فيما إذا اختلف بعضهم عن بعض.
8 - وقال (2) أيضا في معرض بحثه نقض القاضي أحكام نفسه قال ما نصه
__________
(1) مفيد الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام 29، طبعة بولاق.
(2) معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام 33، طبعة بولاق.(31/38)
وذكر القاضي أبو بكر الرازي الخلاف فيما إذا قضى بخلاف مذهبه، وقد نسيه فأما متى يحكم بخلاف مذهبه حال ذكر مذهبه لا يجوز حكمه بالإجماع. . أما إذا لم يكن للقاضي رأي وقت القضاء فقضى برأي غيره، ثم ظهر للقاضي رأي بخلاف ما قضى هل ينقض قضاؤه؟ قال محمد: ينقض قضاؤه؛ لأن رأيه في حق وجوب القضاء عليه بمنزلة النص؛ لأنه يوجب القضاء عليه كالنص، ولو قضى برأيه ثم تبين نص بخلافه ينقض قضاؤه، فكذلك هذا، وقال أبو يوسف لا ينقض.(31/39)
ب - المذهب المالكي:
1 - ويجب (1) على كل من الخليفة والقاضي إذا لم يكن مجتهدا مطلقا أن يحكم بالراجح من مذهب إمامه أو أصحاب إمامه، لا بمذهب غيره ولا بالضعيف من مذهبه، وكذا المفتي، فإن حكم بالضعيف نقض حكمه إلا إذا لم يشتهر ضعفه، وكان الحاكم به من أهل الترجيح وترجح عنده ذلك الحكم فلا ينقض، وإن حكم بغير مذهب إمامه لم ينفذ حكمه، لكن القول بأنه يلزمه الحكم بمذهب إمامه ليس متفقا عليه، حتى قيل ليس مقلده رسولا أرسل إليه، بل حكوا خلافا إذا اشترط السلطان عليه ألا يحكم إلا بمذهب إمامه، فقيل: لا يلزمه الشرط، وقيل: بل ذلك يفسد التولية، وقيل: يمضي الشرط للمصلحة.
2 - وسئل (2) القرافي هل يجب على الحاكم ألا يحكم إلا بالراجح عنده كما يجب على المجتهد ألا يفتي إلا بالراجح عنده، أو له أن يحكم بأحد القولين وإن لم يكن راجحا عنده؟ فأجاب قائلا: إن الحاكم إن كان مجتهدا فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده وإن كان مقلدا جاز له
__________
(1) الشرح الكبير والدسوقي على مختصر خليل 4 \ 130.
(2) الأحكام 79 و 1 \ 52 - 56 تبصرة الحكام و 1 \ 58 \ 59 من فتح العلي المالك على مذهب الإمام مالك.(31/39)
أن يفتي بالمشهور من مذهبه، وأن يحكم به وإن لم يكن - راجحا عنده مقلدا في رجحان القول المحكوم به إمامه الذي يقلده، كما يقلده في الفتيا، وأما اتباع الهوى في الحكم أو الفتيا فحرام إجماعا. . . إلخ.
3 - جاء في الشرح الكبير والدسوقي ما ملخصه: ونقض القاضي ما تبين له خطؤه من أحكامه أو أحكام غيره، وبين السبب فهذا إما مطلقا أو مجتهد مذهب، وذلك فيما إذا خالف نصا قاطعا أو جليا كتاب أو سنة أو خالف إجماعا، وله أمثلة كثيرة منها ما لو خرج عن رأيه إذا كان مجتهدا وادعى أنه أخطأ فينقضه فقط. وأما لو ثبت ببينة أنه أخطاء أو بقرينة؛ فإنه ينقضه هو وغيره، أو خرج المقلد عن رأي إمامه خطأ وادعى أنه أخطأ وصار ما حكم به قول عام، وقد كان قاصدا الحكم بقول غيره، وكان مفوضا في الحكم بأي قول قوي من أقوال علماء مذهبه فينقضه فقط.
وأما إن صادف حكمه قول غير عالم لم يقصد الحكم بقول عالم معين، أو قصد الحكم بقول عالم فحكم بغيره فينقض حكمه هو وغيره، وإن تجدد المماثل فالاجتهاد فيها مطلوب إن كان الحاكم مجتهدا، وإن كان مقلدا فلا يتعدى حكمه الأول أيضا إلى المماثل، بل يحكم بمثل ما حكم به أولا لحكمه بقول إمامه دائما إلا أن يكون من أهل الترجيح في المذهب فله مخالفة الأول، إن ترجح عنده مقابله.(31/40)
جـ - المذهب الشافعي:
1 - قال (1) النووي وجلال الدين المحلي: " ويحكم باجتهاده إن كان مجتهدا أو اجتهاد مقلده " بفتح اللام " إن كان مقلدا " بكسرها حيث ينفذ قضاء المقلد.
__________
(1) المحلى على المنهاج 4 \ 297.(31/40)
2 - وقال (1) قليوبي على قول النووي: " أو اجتهاد مقلده " أي المعتمد عند مقلده إن لم يكن هو متبحرا، وإلا فباعتماده ولا يجوز له الحكم بغير مذهبه.
3 - وقال (2) الرملي على قول النووي " مجتهد " قال: فلا يتولى جاهل بالأحكام الشرعية ولا مقلد - ومضى إلى أن قال: بعد بيان صفة المجتهد المطلق، اجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق، الذي يفتي في جميع أبواب الفقه، أما مقلد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه، وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع، فإنه مع المجتهد كالمجتهد في نصوص الشرع، ومن ثم لم يكن له العدول عن نص إمامه. كما لا يجوز له الاجتهاد مع النص.
4 - قال (3) الإمام فخر الدين في كتابه ملخص البحر: لا يجوز لمفت على مذهب إمام أن يعتمد إلا على كتاب موثوق بصحته في ذلك المذهب، وأما المقلد فلا يجوز له الحكم بغير مذهب مقلده، إذا ألزمناه اتباعه. ذكره الغزالي واقتصر عليه في الروضة وغيرها، وقال ابن الصلاح: لا يجوز لأحد في هذا الزمان أن يحكم بغير مذهبه؛ فإن فعل نقض لفقد الاجتهاد. وكذا في أدب القضاء للغزي كلام ابن الصلاح ومرادهم بالمقلد من حفظ مذهب إمام ونصوصه لكن عاجز عن تقويم - وفي نسخة تقديم - أدلته غير عارف بغوامضه. اهـ بواسطة المنقور.
__________
(1) قليوبي على المنهاج 4 \ 298.
(2) نهاية المحتاج على المنهاج 8 \ 240 ويرجع أيضا إلى ص 242.
(3) مجموع المنقور 2 \ 152.(31/41)
د - المذهب الحنبلي:
سبقت نقول عن ابن قدامة - رحمه الله - وغيره من الحنابلة على هذه المسألة في أثناء الكلام على حكم التولية للمجتهد ومن ذكر معه، وفيما يلي نقول أخرى.(31/41)
1 - وعلى المقلد (1) أن يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها، ويقلد كبار مذهبه في ذلك ويحكم به، ولو اعتقد خلافه لأنه مقلد، ومخالفة المقلد في فتواه نص إمامه كمخالفة المفتي نص الشارع.
وقال الشيخ تقي الدين: يحرم الحكم والفتيا بالهوى إجماعا، ويقول: أو وجه من غير نظر في الترجيح إجماعا، يجب أن يعمل بموجب اعتقاده فيما له أو عليه إجماعا.
2 - فوائد (2) ملخصها: لو أداه اجتهاده إلى حكم لم يجز له تقليد غيره إجماعا، وإن لم يجتهد لم يجز له أن يقلد غيره أيضا مطلقا على الصحيح من المذهب. قال ابن مفلح في أصوله: قاله أحمد وأكثر الصحابة. وعنه يجوز مع ضيق الوقت، وقيل: يجوز تقليد من هو أعلم منه وفي هذه المسألة للعلماء عدة أقوال غير ذلك، وليس لمن انتسب إلى مذهب إمام في مسألة ذات قولين أو وجهين أن يتخير فيعمل أو يفتي بأيهما شاء، بل إن علم بتاريخ القولين عمل بالمتأخر منهما. إذا وجد من ليس أهلا للتخريج بالدليل اختلافا بين أئمة المذهب في الأصح من القولين أو الوجهين، فينبغي أن يرجع في الترجيح إلى صفاتهم الموجبة لزيادة الثقة بآرائهم. الناظر المجرد يكون حاكيا لا مفتيا.
إن كان الفقيه مجتهدا أو عرف صحة الدليل كتب الجواب عن نفسه، وإن كان ممن لا يعرف الدليل قال: مذهب أحمد كذا، ومذهب الشافعي كذا، فيكون مخبرا لا مفتيا.
قال الشيخ تقي الدين - رحمه الله - في الأخذ برخص المذهب وعزائمه طاعة غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه وهو خلاف الإجماع، وقال أيضا إن خالفه لقوة الدليل وزيادة علم أو تقوى فقد
__________
(1) الإنصاف 11 \ 179.
(2) الإنصاف 11 \ 184 وما بعدها.(31/42)
أحسن ولا يقدح في عدالته بلا نزاع، وقال أيضا: بل يجب في هذه الحال وأنه نص الإمام أحمد - رحمه الله - وهو ظاهر كلام ابن هبيرة.
3 - ومن حاشية ابن قندس قوله (1) : " فعلى هذا يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها ويقلد كبار مذهبه في ذلك " ظاهره وجوب مراعاة ألفاظ إمامه ووجوب الحكم بمذهب إمامه، وعدم الخروج عن الظاهر عنه، وهذا كله يدل على أنه لا يصح حكمه بغير ذلك لمخالفته الواجب عليه - إلى أن قال: وظاهر ما ذكره المصنف هنا وجوب العمل بقول إمامه والمنع من تقليد غيره، وظاهره ترجيح القول من منع تقليد غيره، وهذا هو اللائق لقضاة الزمان ضبطا للأحكام ومنعا من الحكم بالتشهي، فإن كثيرا من القضاة لا يخرجون من مذهب إمام بدليل شرعي، بل لرغبة في الدنيا وكثرة الطمع، فإذا ألزم بمذهب إمامه كان أضبط وأسلم، وإنما يحصل ذلك إذا نقض حكمه بغير مذهب إمامه، وإلا فمتى أبقيناه حصل مراد قضاة السوء ولم تنحسم مادة السوء، ويرشح ذلك بأن يقال هذه مسألة خلافية، فبعضهم ألزم بذلك وبعضهم لم يلزمه، والإمام إذا ولاه الحكم على مذهب إمامه دون غيره فهو حكم من الإمام بإلزامه بذلك فيرتفع الخلاف - إلى أن قال: وظاهره أن المقلد يجب عليه العمل بقول من يقلده، وهو إمامه، وأن لا يخرج عن قوله إلى أن قال: قال بعض أصحابنا: مخالفة المفتي إمامه الذي قلده كمخالفة المفتي نص الشارع. إلى أن قال: قال النووي في الروضة: فرع إذا استقضي مقلدا للضرورة فحكم بغير مذهب مقلده، قال الغزالي: إن قلنا لا يجوز للمقلد تقليد من شاء بل عليه اتباع مقلده نقض حكمه، وإن قلنا له تقليد من شاء لا ينقض - ثم قال: الذي تقرر أن مذهبنا إن الحاكم لا يجوز له الحكم بغير مذهبه بخلاف الشافعية، فيجوز أن يحكم بغير مذهب إمامه، قاله شيخنا.
__________
(1) مجموع المنقور 2 \ 188.(31/43)
4 - قال. شيخ الإسلام: وأولو الأمر صنفان " الأمراء والعلماء وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس، فعلى كل منهم أن يتحرى بما يقوله ويفعله طاعة الله ورسوله، واتباع كتاب الله، ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب، وإن لم يمكن لضيق الوقت وعجز الطالب أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك، فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه، هذا أقوى الأقوال، وقد قيل: ليس التقليد بكل حال، وقيل: له التقليد بكل حال، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد.(31/44)
الخلاصة
يتلخص من النقول المتقدمة ما يأتي:
أولا: إن المجتهد المطلق هو من لديه قدرة على استنباط الأحكام من أدلتها بناء على أصول ارتضاها لنفسه وليس تابعا فيها لغيره، فكان بذلك أهلا للإفتاء والقضاء، وكان رأيه معتدا به في الوفاق والخلاف، وإذا ولاه إمام المسلمين أو نائبه القضاء وجب عليه أن يحكم بما وصل إليه باجتهاده فيما رفع إليه من القضايا، ونفذ فيه حكمه وارتفع به الخلاف في القضايا الاجتهادية التي حكم فيها.
ثانيا: المجتهد المنتسب هو من انتمى إلى مجتهد مستقل لسلوكه طريقه في الاجتهاد من غير أن يكون مقلدا له في قوله أو في دليله، وحكمه حكم المجتهد المطلق في أهليته للقضاء والحكم في القضايا باجتهاده. . . إلى آخر ما تقدم في المجتهد المطلق.
ثالثا: المقلد المتعلم هو المتبحر في مذهب إمامه، المتمكن من تقرير أدلته(31/44)
على ما عرف عن إمامه أو عن أصحابه العارف بمطلق الآراء في المذهب ومقيدها وعامها وخاصها وغامضها وواضحها، لكنه لم يبلغ درجة التخريج أو الترجيح وهذا يجوز أن يولى القضاء للضرورة، وعليه أن يحكم بالراجح في مذهب إمامه الذي انتسب إليه وعرف تفاصيل مذهبه، فإن فعل ذلك نفذ حكمه، وإن حكم بالضعيف في مذهب إمامه أو حكم بغير مذهب إمامه لم ينفذ حكمه لبطلانه، فإنه يعتقد صحة مذهب إمامه، وتقديم الراجح في مذهبه، فإذا حكم بخلاف ذلك كان حاكما بغير ما يعتقد فكان حكمه باطلا، وعليه أن يبين مستنده في جميع أحكامه، وقيل: لا يجور توليته القضاء، فإن قلده الإمام القضاء كانت توليته القضاء باطلة، وكان حكمه باطلا، وإن وافق الراجح في مذهب إمامه، وكانت التبعة في ذلك عليه لقبوله ما ليس أهلا له وعلى من ولاه لتوليته إياه، وذهب الماوردي وجماعته إلى جواز حكم المقلد بغير مذهب إمامه، وجمع بينهما الأذرعي بحمل كل من القولين على حال من أحوال المقلد.
رابعا: مجتهد المذهب وهو من له قدرة على استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية بناء على أصول الإمام الذي انتسب إليه، أو استنباطها من قواعد إمامه منصوصة أو مستنبطة من كلامه، أو استنباطها بالقياس على منصوصة لشبه معتبر بينهما، أو لعدم وجود فارق مؤثر، وله قدرة أيضا على الترجيح بين الروايات والأقوال والوجوه. وهذا بأنواعه له شبه بالمجتهد المطلق من ناحية قدرته على استنباط الأحكام في الجملة، وله شبه بالمقلد من ناحية وقوفه عند أصول إمامه والتزامه لطريقته في التخريج والترجيح، ولذا اختلف في حكم توليته القضاء، فمن غلب جهة شبهه بالمجتهد المطلق أجاز توليته القضاء، ولو مع وجود المجتهد المطلق فتصح ولايته ويقضي بما ترجح لديه من الآراء، وحكمه نافذ ورافع للخلاف فيما حكم فيه من القضايا، ومن غلب فيه جهة شبهه بالمقلد وسماه مقلدا وإن كان تقليده غير محض، لم يصحح ولايته إلا عند عدم وجود مجتهد مطلق، والمعتمد الأول عند كثير من الفقهاء ولكن ينبغي تولية الأمثل فالأمثل.
خامسا: مجتهد الفتوى وهو من لديه قدرة على الترجيح بين الأقوال أو(31/45)
الروايات والوجوه المروية عن الإمام أو أصحابه ولا قوة له على التخريج على أقوالهم المعتبرة في المذهب، إلا ما كان قياسا مع عدم الفارق المؤثر، وما وضح اندراجه في قواعد المذهب وأصوله وما كان تفضيلا لقول مجمل ذي وجهين، وحكم محتمل لأمرين منقول عن إمام المذهب أو أحد أصحابه المجتهدين، فإنه يقوى على مثل ذلك. وهذا القسم وإن كانت في المرتبة دون من قبله من مجتهدي المذهب إلا أنه ملحق به في توليته القضاء وما يحكم به ونفاذ حكمه ورفعه للخلاف في القضية التي حكم فيها.(31/46)
الثاني: الدواعي إلى تدوين الراجح من أقوال الفقهاء وإلزام القضاة الحكم به
لما كان علماء الصحابة والتابعين وتابعي التابعين من ذوي البصيرة وكمال الفقه في الشريعة والأمانة في الدين، وكانوا أبعد الناس عن اتباع الهوى ومواطن الريبة، ولم تكن شقة الخلاف بينهم واسعة، ولا التباين في الآراء كثيرا فاشيا وثق الناس بفتواهم، واطمأنت نفوسهم إلى قضائهم، ورضوا بحكمهم فيما شجر بينهم من نزاع في المعاملات، وبذلك انحلت مشاكلهم، ولم تداخلهم الريب والظنون، ولم يفكر أحد من العلماء أو الحكام، في تدوين أحكام تختار ليلزم القضاة بالحكم بها في قضايا النزاع والفصل على ضوئها في الخصومات.
ولما ضعفت القريحة، وقصر النظر، وبعدت شقة الخلاف بين العلماء، وكثرت آراؤهم، وتباينت فتاواهم وأحكامهم في القضايا، وجدت الريبة في الأحكام، والشك في العلماء طريقا إلى القلوب وتسلطت الظنون على النفوس، ولهذا وغيره فكر بعض من يعنيهم الأمر في تدوين أحكام مختارة من آراء الفقهاء في المعاملات، يرجع إليها القضاة في أحكامهما ويلزم الحكم بمقتضاها منعا للاضطراب في الأحكام، وإزالة للأوهام والشكوك من نفوس المتحاكمين إلى المحاكم الشرعية، وقضاء على الظنون الكاذبة في الشريعة الإسلامية وفي علمائها، وتبرئة لها مما وصمت به زورا وبهتانا من أنها غير صالحة للفصل بها في(31/46)
الخصومات وحل مشاكل الناس، وحماية للأمة وحكومتها من العدول عن التحاكم إلى المحاكم الشرعية إلى التحاكم للقوانين الوضعية.
وفيما يلي نقل في بيان الدواعي إلى تدوين أحكام فقهية وإلزام القضاة أن يحكموا بها.
قال محمد سلام مدكور في بيان منشأ الضرورة إلى ذلك ودواعيه (1) : الذي نراه أن منشأ ذلك إنما كان راجعا في عصورهم لشيء من الاضطراب في التطبيق القضائي؛ لعدم معرفة الحكم الواجب التطبيق مع تعدد الأحكام في المسألة الواحدة نتيجة اختلاف آراء المجتهدين، وذلك جدير أن يبلبل أفكار الناس، وألا يسير بهم في جادة مستقيمة ومشرع واضح للجميع، ولقد كان من آثار ذلك الاضطراب في الماضي واختلاف القضاة المجتهدين في أحكام المسألة الواحدة في البلد الواحد أن يضل الناس في شئون حياتهم، رغم تحريهم الهداية والرشاد، ولكن عدم معرفة الحكم الواجب التطبيق بينهم على سبيل التعيين في المسألة الاجتهادية جعلهم قاطبة عرضة للخطأ في نظر القضاء.
ولعل هذا هو السر في أن كثيرا من الأصوليين والعلماء أقفلوا باب الاجتهاد سدا لذريعة الفوضى والاضطراب والحكم بالهوى المقنع بالاجتهاد ووجهة النظر، وكانوا محقين إذ ذاك حتى يغلق باب الشرور ويكون القاضي في أحكامه ملزما بأحكام مذهبه فلا يحيد عنه، وملزما للناس بها حتى يعرفوها. ويقدر كل إنسان في تصرفاته حكم تصرفه أمام القضاء بحيث يستطيع أن يفهم إن كان في تصرفه خروج على حكم القضاء أم لا، وقد ترتب على هذا بحث الفقهاء في تقييد القاضي بمذهب معين بل بالرأي الراجح من المذهب، كما بحثوا أمر تقييد السلطان لقضائه بالمذهب الذي ينبغي أن يستمد منه القاضي أحكامه، وقد كان هذا الاتجاه نواة وأساسا للتفكير في وضع الأحكام الشرعية في مواد
__________
(1) انظر المدخل للفقه الإسلامي ص 380 وما بعده.(31/47)
قانونية محدودة واضحة ما أمكن لا يلتبس الناس غالبا في شيء من أمرها. إلى أن قال: أما القضاة فوظيفتهم هي تطبيق الأحكام الشرعية وتنفيذها بسلطان القضاء، ولا شك في أن الأحكام الواجبة التطبيق إذا كانت محدودة مبينة معروفة للقاضي وللمتقاضي كان ذلك أدعى إلى تحقيق العدالة والتيسير على الناس، وأكفل لتحقيق المساواة بينهم، وطمأنة نفوسهم بالنسبة للقضاء، فلم يكن بد من وضع الأحكام الشرعية القضائية في صيغ قانونية تتولاها طائفة من فقهاء الأمة من أهل الرأي والاجتهاد، وقد بينا عند الكلام عن الاجتهاد أن العصر لا يخلو منهم ثم تصبح قانونا واجب الاتباع والتنفيذ، ولا ضير في ذلك ما دامت هذه الأحكام مستمدة من الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه وآرائه، ومسايرة لمصالح الناس، ولا ضير في أن تعتبر هذه القوانين كالنصوص القطعية من ناحية عدم مخالفة القاضي لها وإلزامه باتباعها، فليس هناك مجال إذا لاجتهاد القاضي معها إلا في حدود ضيقة وهي عند وجود إبهام في انطباقها على بعض النوازل والأحداث، ومع هذا فإن العدل إذا كان مصدره هو النصوص التشريعية وما أجمع عليه من أحكام فإن القاضي عند التطبيق فيما يحتاج إلى اجتهاد يعتبر أيضا مصدرا من مصادر العدالة. اهـ.
مما تقدم يتبين أن الدواعي إلى تدوين القول الراجح وإلزام القضاة به هي:
1 - وقوع أحكام اجتهادية متناقضة في قضايا متماثلة، أدت إلى اتهام القضاة باتباع الهوى فيما يقضون، أو برميهم بالقصور في علمهم أو تطبيقهم لما عرفوا من الأحكام الشرعية على ما رفع إليهم من القضايا الجزئية المتنازع فيها.
2 - عدم وجود كتاب سهل العبارة في المعاملات يتعرف منه الناس أحكام المعاملات؛ ليراعوا تطبيقها ويوفقوا بينها وبين أعمالهم عند الإقدام حتى لا يقعوا فيما يعرضهم للحكم عليهم وإدانتهم إذا حصل النزاع ورفعت القضية للقضاء، وإضافة إلى ذلك يكون هذا الكتاب عونا للقضاة على أداء مهمتهم وأدعى إلى وحدة الأحكام وتناسقها بدلا من تضاربها.(31/48)
3 - تهرب بعض الناس من رفع قضاياه للمحاكم الشرعية بالمملكة إلى رفعها لمحاكم في دول أجنبية نتيجة لما تقدم ذكره، والخوف من أن يتزايد ذلك حتى ينتهي - عياذا بالله - إلى استبدال قوانين وضعية بالأحكام الشرعية.
لذا فكر بعض المسلمين في إلزام القضاة أن يحكموا بأقوال في المعاملات تختار لهم وتدون في كتاب مع أدلتها، أو إلزامهم أن يحكموا بالراجح والمعتمد من مذهب معين إعانة للقضاة على التمكن من معرفة ما يحكمون به في القضايا، وتقريبا بين معارفهم في الأحكام ومنعا للتناقض فيها، ولتبلبل أفكار الأمة وإبعادا للتهمة عنهم، وقضاء على ما يزعم بعض الناس من اتباع بعض القضاة للهوى، وتمكينا للجمهور من أن يوفقوا بين أعمالهم وبين ما دون ليكون مرجعا للقضاة في الأحكام فيكونوا بذلك على بصيرة فيما يقدمون عليه من أعمال قد يكون فيها خصومة.
وستأتي مناقشة هذه الدواعي عند مناقشة الأدلة.(31/49)
الثالث: بدء هذه الفكرة ووجودها قديما وحديثا:
أ - محاولة (1) ابن المقفع في القرن الهجري الثاني في بدء العهد العباسي، كتب ابن المقفع إلى أبي جعفر المنصور رسالة جاء فيها: ومما ينظر فيه أمير المؤمنين من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار والنواحي اختلاف هذه الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمرا عظيما في الدماء والفروج والأموال. ومضى إلى أن قال: فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه الأقضية والسير المختلفة فترفع إليه في كتاب، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم من سنة وقياس، ثم نظر في ذلك أمير المؤمنين وأمضى في كل قضية رأيه الذي يلهمه الله ويعزم عليه عزما، وينهى عن القضاء بخلافه، وكتب ذلك كتابا جامعا، لرجونا أن يجعل الله هذه الأحكام
__________
(1) رسالة الصحابة من المجموعة الكاملة 206 - 208.(31/49)
المختلطة الصواب بالخطأ حكما واحد صوابا، لرجونا أن يكون اجتماع السير قرينة لإجماع الأمر برأي أمير المؤمنين وعلى لسانه، ثم يكون ذلك من إمام آخر الدهر إن شاء الله. انتهى.
قال (1) محمد سلام مدكور تعليقا على ذلك: غير أن هذا الاقتراح لم يجد له رواجا في ذلك الحين لإباء الفقهاء أن يتحملوا تبعة إجبار الناس على تقليدهم، وهم الذين يحذرون تلاميذهم التعصب لآرائهم، كما أنهم تورعوا وخافوا أن يكون في اجتهادهم خطأ، وليس هذا تقنينا وضعيا وإنما هم بصدد شريعة سماوية.
ب - محاولة الخليفتين أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد مع الإمام مالك بن أنس.
1 - لما حج أبو جعفر المنصور سنة 148 هـ اجتمع بالإمام مالك، ودار بينهما بحث هذا الموضوع ونحن نسوق ذلك:
قال (2) عيسى بن مسعود الزواوي في أثناء الكلام الذي دار بين الإمام مالك وبين أبي جعفر المنصور، قال مالك ثم قال لي: قد أردت أن أجعل هذا العلم علما واحدا أكتب به إلى أمراء الأجناد وإلى القضاة فيعملون به، فمن خالف ضربت عنقه. فقلت: يا أمير المؤمنين أو غير ذلك إن النبي صلى الله عليه وسلم كان في هذه الأمة فكان يبعث السرايا، وكان يخرج فلم يفتح من البلاد كثيرا حتى قبضه الله عز وجل، ثم قام أبو بكر رضي الله عنه فلم يفتح من البلاد كثيرا، ثم قام عمر رضي الله عنه ففتحت البلاد على يديه فلم يجد بدا أن يبعث أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم معلمين، فلم يزل يؤخذ عنهم كابرا عن كابر إلى يومنا هذا فإن ذهبت تولهم عما يعرفون إلى ما لا يعرفون رأوا ذلك كفرا، فأقر أهل كل بلد على ما فيها من العلم وخذ هذا العلم لنفسك، فقال لي: ما أبعدت هذا القول اكتب
__________
(1) المدخل للفقه الإسلامي 107.
(2) مناقب الإمام مالك وهو فقيه المدونة 1 \ 25، 26.(31/50)
هذا العلم لمحمد.
وقال (1) الزواوي أيضا نقلا عن الشافعي: بعث أبو جعفر المنصور إلى مالك لما قدم المدينة فقال له: إن الناس قد اختلفوا في العراق فضع للناس كتابا تجمعهم عليه، فوضع الموطأ، وقال الزواوي أيضا: " وقال غيره " - أي الشافعي - إن أبا جعفر لما قال لمالك ضع كتابا في العلم نجمع الناس عليه، قال له مع ذلك: اجتنب فيه شواذ ابن عباس وشذوذ أبي عمر ورخص ابن مسعود، فقال له مالك: ما ينبغي لك يا أمير المؤمنين أن تحمل الناس على قول رجل واحد يخطئ ويصيب، وإنما الحق من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تفرقت أصحابه في البلدان، وقلد أهل كل بلد من صار إليهم فأقر أهل كل بلد على ما عندهم. وقال الزواوي تعليقا على ذلك: فانظر إنصاف مالك رضي الله عنه وصحة دينه، وحسن نظره للمسلمين، ونصيحته لأمير المؤمنين، ولو كان غيره من الأغبياء المقلدين والعتاة المتعصبين، والحسدة المتدينين لظن أن الحق فيما هو عليه، ومقصور على من ينسب إليه، وأجاب أمير المؤمنين إلى ما أراد، وأثار بذلك الفتنة وأدخل الفساد.
2 - وفي سنة 163 هـ وقد ذهب أبو جعفر المنصور للحج مرة أخرى فأعاد عرض فكرته الأولى على الإمام مالك فاقتنع مالك - رحمه الله - ووافقه أبو جعفر - رحمه الله - يبين ذلك ما نقله جلال الدين السيوطي قال: وقال ابن سعد في الطبقات أخبرنا الواقدي قال: سمعت مالك بن أنس يقول: لما حج أبو جعفر المنصور دعاني فدخلت عليه فحادثته، فسألني فأجبته فقال: إني عزمت أن آمر بكتابك هذا الذي وضعته - يعني الموطأ - فينسخ منه نسخ ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدونه إلى غيره ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث فإني رأيت أهل العلم رواة
__________
(1) تزيين الممالك بمناقب مالك مع المدونة 1 \ 46.(31/51)
أهل المدينة وعلمهم. فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث ورددوا روايات، وأخذ كل قوم مما سبق إليهم وعملوا به ودانوا به من اختلاف الناس وغيرهم وأن ردهم عما اعتقدوا شديد، فندع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم. فقال: لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرت به.
3 - وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عبد الحكم قال: سمعت مالك بن أنس يقول: شاورني هارون الرشيد في أن يعلق الموطأ في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه. . . إلخ، فقلت: يا أمير المؤمنين أما تعليق الموطأ في الكعبة فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع فافترقوا في البلدان وكل عند نفسه مصيب. . إلخ، فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله.
وأخرج الخطيب في رواة مالك عن إسماعيل بن أبي المجالد قال: قال هارون الرشيد لمالك: يا أبا عبد الله نكتب هذه الكتب ونفرقها في آفاق الإسلام، فنحمل هذه الأمة على ما فيها، فقال: يا أمير المؤمنين رضي الله عنك، إن اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة كل يتبع ما صح عنده، وكل على هدى وكل يريد الله والدار الآخرة.
جـ - محاولة (1) محمد عالمكير: قال محمد سلام مدكور، وفي القرن الحادي عشر الهجري ألف السلطان محمد عالمكير أحد ملوك الهند لجنة من مشاهير علماء الهند برئاسة الشيخ نظام؛ لتضع كتابا جامعا لظاهر الروايات التي اتفق عليها في المذهب الحنفي، فجمعوا ذلك في كتاب معروف بالفتاوي الهندية، ومع هذا فلم يكن هذا الجمع شبه الرسمي ملزما للمفتين والقضاة، كما أن الجمع والتدوين والتبويب لم يكن على نمط التقنين، وإنما هي فروع فقهية واقعية ومفترضة تذكر فيها الآراء.
ثم يتبع ذلك بالقول الذي تختاره اللجنة للفتوى.
__________
(1) المدخل للفقه الإسلامي 108.(31/52)
د - بدء تنفيذ الفكرة: ظهور مجلة الأحكام العدلية وقانون المعاملات وغير ذلك.
قال (1) الأستاذ مصطفى الزرقا: ولما بدئ بتأسيس المحاكم النظامية في الدولة العثمانية وأصبح يعود إليها اختصاص النظر في أنواع من الدعاوى، وكانت قبل ذلك ترجع إلى المحاكم الشرعية، ودعت الحاجة إلى تيسير مراجعة الأحكام الفقهية على الحكام غير الشرعيين، وتعريفهم بالأقوال القوية المعمول بها من الضعفية المتروكة دون أن يغوصوا على ذلك في كتب الفقه المعمول بها، صدرت إرادة سنية سلطانية بتأليف لجنة لوضع مجموعة من الأحكام الشرعية التي هي أكبر من غيرها دورانا في الحوادث. فوضعت اللجنة في سنة 1286 للهجرة هذه المجموعة منتقاة من قسم المعاملات من فقه المذهب الحنفي الذي عليه عمل الدولة. وقد أخذت بعض الأقوال المرجوحة في المذهب للمصلحة الزمنية التي اقتضتها. . وقد صدرت الإرادة السنية السلطانية في شعبان سنة 1293 هـ بلزوم العمل بها وتطبيق أحكامها في محاكم الدولة.
2 - وقال (2) أيضا تحت فقرة (82) بدء تنفيذ الفكرة في تقنين الأحوال الشخصية قال: ثم بدئ رسميا بتنفيذ هذه الفكرة. فكرة الاستفادة من مختلف المذاهب الفقهية عن طريق التقنين في أحكام الأحوال الشخصية أواخر العهد العثماني، إذ وضعت الحكومة العثمانية قانون حقوق العائلة في سنة 1333 رومية، وأخذت فيه من المذهب المالكي حكم التفريق الإجباري القضائي بين الزوجين عن طريق التحكم المنصوص عليه في القرآن عند اختلافهما، وتوسعت فيه.
__________
(1) المدخل 1 \ 197 وما بعدها.
(2) المدخل 1 \ 207 وما بعدها.(31/53)
3 - وقال (1) . أيضا في سنة 1929 م خطت الحكومة المصرية خطوة واسعة في الأخذ من مختلف الاجتهادات مما وراء المذاهب الأربعة، فأصدرت قانونا تحت رقم 25 ألغت فيه تعليق الطلاق بالشرط في معظم حالاته، كما اعتبرت تطليق الثلاث أو الثنتين بلفظ واحد طلقة واحدة عملا برأي ابن تيمية ومستنده الشرعي، وذلك بإقرار مشيخة الأزهر. انتهى المقصود.
4 - وقال (2) محمد سلام مدكور تحت عنوان " مصر وتقنين الفقه الإسلامي والنهوض بدراسته " قال: لم تختلف مصر عن غيرها في النهضة الفقهية ومحاولة تقنين الأحكام الفقهية التي تهم الناس في معاملاتهم وأحوالهم الشخصية، وإخراجها في مواد حتى يسهل الرجوع إليها، وحتى تنصرف الأذهان عن التطلع إلى الغرب، ورفض الخديوي إسماعيل الأخذ بقانون مجلة الأحكام العدلية حبا في الاستقلال وتخلصا من التبعية للدولة العثمانية، واتجه إلى قانون نابليون بحجة أن كتب الفقه الإسلامي بوضعها لا يمكن التقنين منها فأحدث ذلك ضجة في الرأي العام، وظهر رأي بإمكان التقنين من الفقه الإسلامي، وقام الفقيه القدير قدري باشا بعمل مجموعة من القوانين أخذها من المذهب الحنفي مسترشدا في عمله بمجلة الأحكام العدلية.
5 - وقال (3) أيضا تحت عنوان " القوانين المصرية المختارة من الفقه الإسلامي " عملت الحكومة على تأليف لجنة من كبار الفقهاء والمشرعين لوضع قوانين تؤخذ من الفقه الإسلامي من غير تقيد بمذهب معين، مع مراعاة روح العصر. فألفت لجنة من كبار علماء المذاهب الأربعة برئاسة وزير الحقانية في ذاك العهد لوضع قانون الأحوال الشخصية
__________
(1) المدخل الفقهي العام 1 \ 208
(2) المدخل للفقه الإسلامي 110
(3) المدخل للفقه الإسلامي 111 وما بعدها.(31/54)
فوضعت اللجنة مشروع قانون للزواج والطلاق وما يتعلق بهما طبع سنة (1916 م) ثم أعيد طبعه بعد تنقيح فيه سنة (1917 م) ومع هذا فقد كان المعارضة في إخراجه قوية من بعض رجال الدين ومن تأثروا بهم، لذا لم يخرج هذا المشروع إلى التنفيذ ولم يصدر به القانون، وإنما اكتفى ولاة الأمر بمعالجة بعض الأمور التي وضح عدم مطابقة المذهب الحنفي فيها لمصالح الناس فصدر القانون رقم 25 سنة (1920 م) والقانون رقم 56 سنة (1923 م) بوضع حد أدنى لسن الزواج والقانون 25 سنة (1929 م) وكل هذه القوانين نظمت بعض مسائل الأحوال الشخصية المتعلقة بالزواج وبالنفقة والعدة والطلاق والنسب والمهر والحضانة والمفقود وما إلى ذلك، وإن كان القانون الأول 25 سنة (1920 م) أخذ من المذاهب الأربعة فإن القانونين الآخرين الصادرين في سنة (1923 م) وسنة (1929 م) لم يتقيدا بالمذاهب الأربعة فقد أخذ القانون 56 لسنة 1923 برأي آخر للإمام أبي حنيفة. وبفتوى عبد الله بن شبرمة، وعثمان البتي، وأبي بكر الأصم، وأما القانون 25 سنة (1929 م) فقد جاء في مذكرته التفسيرية بأنه موافق لآراء بعض المسلمين ولو من غير أهل المذاهب الأربعة، وأنه ليس هناك مانع شرعي من الأخذ بقول غيرهم خصوصا إذا ترتب عليه نفع عام. . وفي سنة (1931) صدر القانون (78) بتنظيم المحاكم الشرعية وقد احتوى على بعض القوانين غير مقيد فيها بمذهب معين، ثم خطت مصر خطوة جديدة نحو التخلص من التقيد المذهبي. ففي 9 ديسمبر سنة (1936 م) وافق مجلس الوزراء على مذكرة لوزارة العدل اقترحت فيها تشكيل لجنة بها تقوم بوضع مشروع قانون لمسائل الأحوال الشخصية وما يتفرع عنها، والأوقاف والمواريث والوصية وغيرها، ولا تتقيد بمذهب دون آخر بل تأخذ من آراء الفقهاء ما هو أكثر ملاءمة لمصالح الناس وللتطور الاجتماعي، ولها أن تبدأ بما ترى أن الشكوى منه أعم والحاجة إليه أمس وقد بدأت بالنظر في مشروع قانون المواريث لأن التغيير فيه ضئيل(31/55)
فخرج في سنة 1913 م برقم 77 شاملا لجميع أحكام الإرث حتى ما كان مأخوذا من أحكام قطعية، كالخاصة بأصحاب الفروض والعصبات، وهذه لم يكن للجنة فيها إلا الصياغة فقط، أما الحكم نفسه فلم تتعرض له ولم تكن تملك أن تتعرض له، ومن أهم القواعد التي جاء بها القانون مغايرا ما كان عليه العمل توريث الأخوة والأخوات مع الجد الصحيح بعد أن كان حاجبا لهم، وكذلك الرد على أي الزوجين بما بقي بعد فرضه إذا لم يوجد للمتوفى أي قريب يرثه فهو أولى بما بقي من العاصب السببي.
كما اعتبر القانون التسبب في القتل مانعا من الإرث دون القتل الخطأ وما جرى مجراه، بعكس ما كان عليه العمل إلى غير ذلك مما يدرس تفصيلا في موضعه.
ثم في سنة 1946 م صدر القانون رقم 48 معدلا لبعض أحكام الوقف، وقد أخذ هذا القانون في الغالب أحكامه من أقوال الفقهاء في سائر المذاهب، متوخيا ما يحقق مصلحة الناس، ولا يعرقل نظمهم الاقتصادية، ومن أهم قواعد هذا القانون أنه قرب أحكام الوقف من أحكام الميراث، وعلى كل فقد ألغى الوقف الأهلي كله بالقانون 180 لسنة 1952.
ثم صدر القانون (71) في سنة 1946 م أيضا بأحكام الوصية دون تقيد بمذهب معين ولا حتى بالمذاهب الأربعة، ومن أهم قواعده القول بالوصية الجبرية، وهي أن يكون للأحفاد الذين حجبوا عن الميراث من جدهم أو جدتهم حق واجب في التركة، هو نصيب أصلهم لو كان حيا، بحيث لا يزيد على ثلث التركة، وألا يكون أوصى لهم جدهم أو جدتهم بشيء، وقد أخذ هذا الحكم من فقهاء التابعين ومن فقه الأباضية، كما أجاز القانون الوصية للوارث في حدود ثلث التركة دون توقف على إجازة باقي الورثة. . انتهى المقصود.(31/56)
6 - قال صبحي محمصاني بعد أن بسط الكلام على مراحل التدوين ملخصا ذلك قال (1) : إن التدوين بمراحل خمس:
أولا: مرحلة التبني للمذهب الرسمي وكانت مرحلة صعبة لم ينجح فيها ابن المقفع ولا أبو جعفر المنصور، ولكن نجحت فيها الدولة العثمانية وغيرها من الدول العربية على غرارها.
المرحلة الثانية: كانت مرحلة جمعت المؤلفات لا على شكل قانون رسمي، بل في شكل كتاب شبه رسمي يسهل المطالعة وفهم الأمور على الطالبين من قضاة وعلماء وتلامذة، وهذا قد ذكرت له أمثلة وهي ملتقى الأبحر، والفتاوى الهندية، وسيدي خليل، ومدونات قدري باشا.
ثم المرحلة الثالثة دون المذهب الرسمي في مدونات رسمية إلزامية كمجلة الأحكام العدلية العثمانية التي أخذت عن المذهب الحنفي وحده.
ثم مرحلة رابعة اتبعت طريقة أخرى وهي أن يؤخذ مذهب واحد كأصل الاقتباس من المذاهب الأخرى في بعض المسائل، مثاله ما جرى في قانون حقوق العائلة العثمانية، ومجلة الجنايات والأحكام العرفية التونسية القديمة، ومجلة الالتزامات والعقود التونسية وما جرى في مدونات الأحوال الشخصية في البلاد العربية التي أشرنا إليها، وقد ذكرنا أن بعضها أيضا قد ابتعد عما جرى في الشريعة كما فعلت العراق في مسائل المواريث التي نوهنا بها أي في هذه المحاضرة.
وأخيرا في المرحلة الخامسة اقتبست بعض القوانين عن المدونات الغربية فكان هذا الاقتباس أحيانا موفقا بحيث لم يخالف روح التشريع الإسلامي، وأحيانا كان مخالفا لما جاء في هذا التشريع. . انتهى.
وسيأتي ما في هذه النقول من المناقشة عند المناقشة لأدلة الأقوال في إلزام القضاة الحكم بالراجح.
__________
(1) مقدمة في إحياء علوم الشريعة: المحاضرة السادسة مراحل التدوين الفقهي 140.(31/57)
قرار هيئة كبار العلماء رقم (8) تدوين الراجح من أقوال الفقهاء لإلزام القضاة العمل به
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين محمد صلى الله عليه وسلم، وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان السالكين لمنهجهم القويم.
وبعد: فبناء على أمر جلالة الملك - وفقه الله - بالنظر من قبل هيئة كبار العلماء في أمر جواز تدوير الراجح من أول الفقهاء لإلزام القضاة العمل به، وقبل الدخول في صلب البحث وتقرير ما هو الحق الذي تشهد له قواعد الشريعة وعليه عمل السلف رحمهم الله نقول:
أولا: إنه مما لا شك فيه لدى كل عارف أن إمام المسلمين - وفقه الله - وثبته على الحق ونصره به لم يكن له من هدف في هذا الأمر سوى الخير والحرص على جلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها، ولما بلغه - حفظه الله - أن فيما يصدر من بعض القضاة ما يلفت النظر ويدعو إلى البحث من صدور أحكام قد يظن بعض الناس أنها متناقضة، مع أن قضاياها متماثلة وهي في الحقيقة ليست كذلك مما قد يدعو إلى اتهام القضاة باتباع الهوى، أو رميهم بالقصور في تطبيق أحكام الشريعة على ما يرفع لهم من القضايا، وأن ذلك ربما كان(31/58)
من أجل عدم وجود كتاب على قول واحد يحكم به القضاة، ويتعرف الناس منه أحكام المعاملات ليوفقوا بينها وبين أعمالهم عند الإقدام على عمل ما، حتى لا يقعوا فيما يعرضهم للحكم عليهم عند حدوث ترافع قضائي، وأنه قد يدعو إلى تهرب بعض الناس من رفع قضاياهم للمحاكم الشرعية في المملكة والذهاب بها لمحاكم في دول أجنبية من أجل هذا، وحرصا من جلالة الملك - وفقه الله - على صيانة الشريعة وبقاء الحكم بها بين الناس أمر - حفظه الله - بعرض موضوع التدوين المشار إليه لإلزام القضاة الحكم به على هيئة كبار العلماء ليبينوا حكم الشريعة في جواز ذلك أو عدمه.
ثانيا: يحسن أن نذكر شيئا مما من الله به على هذه البلاد من باب التحدث بنعمة الله التي غمرنا بها فنقول: إنه غير خاف على أحد من أهل المعرفة ما كانت عليه بلادنا قبل تأسيس هذه الدولة المباركة من الفوضى، والاضطراب، واللصوصية المغرقة، والخوف المتافقم، والفرقة المتمكنة، حتى هيأ الله سليل بيت المجد والسؤدد الملك عبد العزيز - رحمه الله - فقام بلم شعثها وجمع شملها المتفرق، وبناء كيانها على أساس من منهج السلف الصالح الذي ورثه عن آبائه الكرام حماة الدعوة السلفية وبناة حصونها في هذه البلاد، وهي الدعوة التي دعا إليها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - فضرب الأمن في ربوع الجزيرة أطنابه بعد أن كان مفقودا، وانتشر العدل بين الناس، وآمنوا على أنفسهم وأموالهم، واتصلوا بالعالم الخارجي اتصالا واسعا، وعرفت حال البلاد عند سائر الدول، وتعامل أهلها مع أولئك منذ مدة طويلة والبلاد في تقدم مستمر، ولله الحمد لم يضرها بقاؤها في منهاج القضاء على ما كان عليه السلف الصالح - رحمهم الله - وفهم نظامها القضائي لدى سائر أمم الأرض المتحضرة، واشتهر الأمن فيها حتى صار مضرب المثل ومثار العجب عند كل منصف، رغم اتساع رقعة البلاد وعدم تعلم غالبية أهلها، وما ذاك إلا بفضل الله سبحانه، ثم بفضل تمسك هذه الدولة بشريعة الإسلام وسيرها على محجة سلف الأمة الذين نشروا الإسلام وساسوا العباد بالعدل وحكموا فيهم الشرع،(31/59)
وفوضوا إلى قضاتهم الحكم بما فهموه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما استنبطه العلماء منهما فصلحت بذلك أحوالهم، واستقامت أمورهم ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. وقد اشتهرت وقد اشتهرت نزاهة القضاء في بلادنا ولله الحمد، وعدالته وبساطته، ومسايرته للفطرة وتمشيه مع مقتضى المصلحة الحقة، حتى صار معلوما عند الموافق والمخالف، ولا يسعنا إزاء هذه النعمة العظيمة التي من الله علينا بالتمسك بها حين تخلى عنها الأكثرون إلا أن نشكره جل وعلا ونسأله أن يثبتنا على ما نحن عليه من الحق ويرزقنا الإعانة والتوفيق.
ثالثا: نظرت الهيئة في الموضوع فرأت أن دواعي الإصلاح قائمة، وأنه لا بد من إيجاد حل للمشكلة وإصلاح لما تخشى عواقبه، غير أن الهيئة بأكثريتها ترى أنه لا يجوز تدوين الأحكام على الوجه المقترح لإلزام القضاة الحكم به؛ لأنه ليس طريقا للإصلاح ولا يحل المشكلة ولا يقضي على الخلاف في الأحكام، أو على ظنون بعض الناس في القضاة ما دام هناك محكوم عليه؛ لأن اتهام القاضي في حكمه لم يسلم منه أحد حتى خير الخلق صلى الله عليه وسلم، فقد قال له بعض الناس: اعدل فإنك لم تعدل، وفي رواية: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله. ومع ذلك فإن التدوين المراد يفضي إلى ما لا تحمد عاقبته وذلك لأمور:
1 - إن إلزام القضاة أن يحكموا بما اختير لهم مما يسمى بالقول الراجح عند من اختاره يقتضي أن يحكم القاضي بخلاف ما يعتقد، ولو في بعض المسائل، وهذا غير جائز ومخالف لما جرى عليه العمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ومن بعدهم من السلف الصالح، ويسبب التحول عن سبيلهم، ولقد سبق أن وجدت هذه الفكرة في خلافة بني العباس وعرضها أبو جعفر المنصور على الإمام مالك - رضي الله عنه - فردها وبين فسادها، فهي فكرة مرفوضة لدى السلف، ولا خير في شيء اعتبر في عهد السلف من المحدثات.
2 - إن إلزام القضاة أن يحكموا بما يدعى أنه القول الراجح فيه حجر عليهم، وفصل لهم في قضائهم عن الكتاب والسنة، وعن التراث الفقهي(31/60)
الإسلامي، وتعطيل لهذه الثروة التي هي خير تراث ورثناه عن السلف الصالح، وفي ذلك أيضا مخالفة صريحة لما دل عليه كتاب الله تعالى من وجوب الرجوع فيما اختلف فيه من الأحكام إلى الكتاب والسنة، وإن عدم الرد إليهما عند الاختلاف ينافي الإيمان بالله تعالى قال سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (1) .
3 - إن الإلزام بما يدون يفضي إلى نفس النتيجة التي وصل إليها من سبقنا إلى هذه التجربة من الدول الإسلامية المتأخرة، فقد جربوا هذا التقنين وألزموا القضاة العمل به فلم يأتهم بخير، ولم يرفع اختلاف القضاة في الأحكام، وإنما أدى بهم إلى الحكم بالقوانين الوضعية فيما عدا الأحوال الشخصية، وبعض العقوبات - فسدا لذريعة الفساد، ومحافظة على البقاء في التحاكم على شريعة الله، وإبقاء على إظهار شعار أمتنا الإسلامية يجب علينا أن نفكر في طريق آخر للإصلاح سليم من العواقب الوخيمة.
4 - إن إيجاد كتاب يشمل على قول واحد هو الراجح في نظر من اختاره يكون موحد الأرقام مسلسل المواد لا يمكن أن يقضي على الخلاف، ويوجد الاتفاق في الأحكام في كل القضايا لاختلاف القضاة في مداركهم وفي فهم المواد العلمية، ومدي انطباقها على القضايا التي ترفع لهم، ولاختلاف ظروف القضايا وما يحيط بها من أمارات ويحف بها من أحوال، فقد اختلف الناس في مدلول بعض النصوص الشرعية من الكتاب والسنة مع وضوحها وجلائها وعلم مصدرها الذي ليس علمه كعلم من يختار القول الراجح المراد.
5 - المحاكم المدنية في الدول التي تحكم بالقوانين الوضعية دونت قوانينها على هيئة مواد موحدة مسلسلة الأرقام، ومع ذلك اختلفت أحكام قضاتها، ووقع في بعضها التناقص والخطأ، واستؤنف بعض الأحكام فنقض في محاكم الاستئناف فلم يكن ذلك التنظيم والإلزام به مانعا من الخطأ
__________
(1) سورة النساء الآية 59(31/61)
والتناقض، واتهام القضاة، ونقض الأحكام ما دام القضاة متفاوتين في الأفكار والأفهام، وبعد النظر والقدرة على تطبيق الأحكام على القضايا والوقائع.
6 - لا يصلح للتخلص من الآثار السيئة التي ترتبت على إلزام القضاة بما يدون لهم إعطاؤهم حق الرفع فيما يخالف فيه اعتقادهم ما دون إلى مرجعهم؛ فإن ذلك يدعو إلى التواكل وتدافع القضايا والتهرب من المسئولية وتعويق المعاملات، وتكدسها، وفتح باب الاحتيال للتخلص من بعض القضايا لأمر ما، ولا يعدم من أراد ذلك أن يجد في وجهة نظر المخالفين لما دون ما يسند رأيه لأن الرجحان أمر نسبي مختلف فيه ولكل قول وجهته.
7 - الواقع يشهد بأن معرفة الخصوم لما يرجع إليه القاضي تفصيلا ليس بضروري، ولا شرط لقبول حكم القاضي ولا نفاذه، لا من جهة الشرع ولا من جهة القانون، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يحكمون بين الناس في الخصومات، ولم يكن الفقه مدونا، وكثير من المتخاصمين لا يحفظ القرآن كله ولا كثيرا من السنة، وإنما يعرفون إجمالا أن القاضي سيحكم فيما يرفع إليه من القضايا مما فهمه من الكتاب والسنة. . كما أن الدول التي تحكم بقوانين وضعية لا يعرف السواد الأعظم فيها ما يرجع إليه القضاة من القوانين، ولذلك يقيمون المحامين ليرافعوا عنهم في قضاياهم، فلم يكن تدوين الأحكام على النهج المقترح ليوفق المتحاكمون أعمالهم معها ضروريا، ومع ذلك فالأحكام الشرعية مدونة ومن أرادها أمكنه الوصول إليها ومعرفتها، ومع معرفته لها فإنه لا يأمن أن يخالفه القاضي في فهمها وتطبيقها على قضيته، سواء في ذلك من يرجع في تحاكمه إلى الشرع ومن يرجع إلى القانون الوضعي، لأن الأحكام لو دونت لا يكون فيها ذكر جميع الجزيئات من القضايا وإنما يجتهد كل قاض في تطبيق النص على القضية التي ترفع إليه.(31/62)
فيما سبق ذكره وغيره مما لم يذكر من الآثار السيئة التي تنشأ عن إلزام القضاة الحكم بما يختار لهم يجب التماس طريق آخر لعلاج الوضع وحل المشكلة وهو ما يلي:
1 - إعداد القضاة والعناية بهم وتأهيلهم علميا وتدريبهم عمليا على أعمال القضاء، ولو بدورات دراسية وتدريبية لمن يحتاج لذلك ممن على رأس العمل.
2 - تقليل المحاكم وتركيزها في المدن وعواصم المناطق، ويكتفى بتعيين متعلمين في القرى ليقوموا بشئون المساجد وعقود الأنكحة والوعظ والإرشاد وكتابة الوثائق وتلقي استخلافات القضاة ونحو ذلك، ويساعد على هذا سهولة المواصلات اليوم ووجود مرافق في المدن يستريح فيها الغريب ويرتفق بها ولو أقام أياما، ويسهل ذلك على القضاة في المدن الاجتماع لدراسة القضايا وهضمها، ويمنع من الترافع في الأمور التافهة البسيطة، ويدعو إلى الصلح بين الناس وهو أنفع من التمادي في الخصومات حتى البت في القضايا.
3 - حسن اختيار القضاة بمراعاة ما تحلوا به من قوة في العلم ورجاحة في العقل مع حلم وأناة وبعد نظر وصدق وأمانة وابتعاد عن مظان الريبة، إلى غير ذلك من الصفات التي ينبغي أن تتوفر في القاضي، وسيساعد على سهولة الاختيار الاقتصار على تركيز المحاكم في المدن كما أشرنا إليه سابقا.
4 - تأليف لجنة من العلماء لبحث المسائل القضائية الهامة التي ربما يشتبه الحكم فيها على بعض القضاة فتبين بالأدلة وجه الحكم فيها وتوضح تطبيقها بأمثلة، خاصة القضايا التي حدثت في عصرنا، وليس هذا لإلزام القضاة بما انتهى إليه البحث، بل ليكون عونا لهم في القيام بمهمتهم(31/63)